تمَّ تنزيل هذا الكتاب من موقع الورَّاق – جزاهم اللَّه خيراً
أَدَبُ الكُتَّاب
أبو بكر محمد بن يحيى الصُّولي
من مشاهير كتب الأدب في القرن الرابع الهجري. ألفه الصولي زمن الراضي بالله، كما يفهم مما كتبه في باب ما يتكاتب به الناس اليوم. قال في مقدمته: (وجزّأته ثلاثة أجزاء، في أول كل جزء منها ذكر ما فيه من الأبواب... وهذا الكتاب هو المستحق أن يسمى (أدب الكتاب) على الإيجاب، لا على الاستعارة، وعلى التحصيل، لا على التمثيل، فإني رأيت من صنف هذا مثل هذا الكتاب، ونسبه هذه النسبة (يريد الصولي هنا التعريض بكتاب ابن قتيبة) ولم يحصل له منه إلا تسميته دون تجسيمه، وتعميته دون إيضاحه وتقريبه من المعنى الذي ألبسه إياه، ونسبه إليه...إلخ) ثم أشار إلى أنه أسقط أكثر الأسانيد من الكتاب تسهيلاً على الطلاب. فجعل الجزء الأول منه فيما قيل في الخط والقلم، والجزء الثاني فيما قيل في المداد والقرطاس وأدوات الكتابة وآدابها، وما يلزمها من الصناعات، وجعل الثالث فيما جاء في الإبل والخيل، وأحكام الأموال والخراج الجزية، والرقيق، والأطعمة، ومكاتبة الإخوان، وختمه بفصول في اللغة والنحو. وعدد صفحات الأجزاء الثلاثة (259) صفحة. طبع لأول مرة سنة 1341ه 1923م بالمطبعة السلفية بمصر على نفقة المكتبة العربية ببغداد بعناية محمد بهجت الأثري، ونظر فيه محمود شكري الآلوسي، باعتماد نسخة الخزانة الآلوسية العامرة ببغداد، ولعلها الوحيدة في العالم. وكان قد اقتناها صاحب التفسير، يوم 13/شوال/1254ه. قال الأثري: (وقاسيت ما قاسيت لسقم خطه، واختلال كلمه، ورداءة وضعه، حتى إن رائيه ليقول فيه: ما هذا خط أنس ولا جان، فهو (ولا أطيل) أشبه شيء بنسج العنكبوت، أو بآثار أرجل البط في الوحل، ولولا حرصي على آثار السلف، وعشقي لنفائس الكتب، وشغفي بنوادرها، لما أقدمت على نسخه، بل ولا أجريت قلماً في نقله)
الجزء الأول
فضل الكتابة
قال الله تعالى - وهو أول ما أنزل من القرآن: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم". فجعل تبارك اسمه أول ما أنزل من القرآن ذكر التفضيل على عباده بخلقه لهم، وما ندبهم له بذلك، من البقاء الدائم والنعيم المتصل، لمن آمن به ووحده وصدق بنبيه صلى الله عليه وسلم. ثم أتبع ذلك بذكر الأنعام عليهم بما علمهم من الكتاب الذي به قوام أمر دينهم ودنياهم، واستقامة معائشهم وحفظها. ولولا أن من لا يحسن الكتابة يجد ممن يحسنها معونة وإبانة عنه، لما استقام له أمر، ولا تم له عزم، ولحل محل الصور الممثلة، والبهائم المهملة. ومعنى قوله الذي علم بالقلم: الذي علم الكتابة بالقلم.
وقال عز وجل: "ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون" فأقسم في القرآن بما خلق من ذلك أعني القرآن وما يكتب به من حبر ومداد وما يكتب فيه من سفر وقرطاس وأشباههما. على أن نون ههنا، عند بعضهم، السمكة التي تحمل الأرضين. وقال بعضهم: يريد الحرف. وكذلك عند هؤلاء يس وطس وكل ما في القرآن من ذلك. وإنما هو افتتاح السور بهذه الأحرف التي السور منها غير خارجة عنها. يقول عز وجل هذا القرآن بهذه الحرف العربية، ليس فيها لسان أعجمي ولا حرف من حروف العجم ليبطل بهذا ما زعمه الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم يتعلم القرآن من يهود ونصارى يقرأون بالعبراني وغير ذلك من الألسن. ألا تراه جل وعلا كيف بين ذلك فقال: "ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين".
وسأل رجل أحمد بن يحيى ثعلب، وأنا حاضر، عن قسم الله عز وجل بالأشياء التي خلقها مثل قوله تعالى: "والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" فوقع القسم على الآية الأخيرة. فقال أحمد بن يحيى: رأيت الرؤساء من العلماء يقولون معناه: وخلقي الذي لا يقدر أحد أن يخلق مثله لقد كان كذا وكذا.
وقال جل وعلا: "وإن عليكم لحافظين، كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون" وقال: "بأيدي سفرة كرام بررة". فالسفرة الكتبة، الواحد سافر والجمع سفرة، مثل كافر وكفرة. ومعنى سافر كاتب يكتب في الأسفار، واحدها سفر، وهي الصحف وسفر إذا كتب من سفر فهو سافر. وكان المأمون وجد على بعض كتابه في شيء، فكتب إليه:
ونحن الكاتبون وقد أسأنا * فهبنا للكرام الكاتبينا
فعفا عنه. وبالكتابة جمع القرآن، وحفظت الألسن والآثار، ووكدت العهود، وأثبتت الحقوق، وسيقت التواريخ، وبقيت الصكوك، وأمن الإنسان النسيان، وقيدت الشهادات، وأنزل الله في ذلك آية الدين وهي أطول آية في القرآن.
وقد سمعت بعض من حرم فضيلة الكتابة يقول: لو كانت الكتابة فضيلة، لكانت في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو لا يدري أن في ذلك فضلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقصاً لغيره، لأن الكفار إدعوا عليه أنه يحسن الكتابة، وأنه يتعلم ما يأتي به في القرآن من أهل الكتاب، وكتبه فهو يقرأه، ويأتي بتفسير شيء منه، ويشرحه بلسانه، وهو صلى الله عليه وسلم ما قرأ ولا كتب قط، ولا هيأ الله له طلب ذلك، ولا عرف بتعلمه لما أراده جل وعز من الاختصاص بالرسالة، وإيضاح الحجة، على من زعم أنه يكتب. ألا ترى إلى حكاية الله عز وجل لقول الكفار: "اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً"، ما كذبهم عز وجل وجعل من أفضل صفاته عليه الصلاة والسلام قوله: "النبي الأمي"، فقال: "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي". وقال: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي".
وليس هذا الكتاب والفوائد فيه معمولاً لتابع دون متبوع، ولا خامل دون نبيه، ولا محروم دون محظوظ. ولا ينبغي لمن رفعته حال، وساعده جد، وهو يؤنس من نفسه تقصيراً في الأدب، وتخلقاً عن صناعة الكتابة، أن يغتر بحظه، وإقبال الأيام عليه في وقت، فإنها دول منقلبة وأحوال متصرفة، وليتلاف ما ضيع، ويستدرك ما فرط، ولا يتكل على كفاءته، مشتغلاً بلذته، ومريحاً قلبه وجسمه، مستعيراً في كل وقت عليهم، ومتكلاً على كفاءتهم، ينام ويسهرهم، ويفرغ ويشغلهم.
فإن هذا الفعل إنما يحسن بالرؤساء إذا أشرفوا على العلم، واستفلوا بالصناعة، وعرفوا ما يحتاجون إليه من أمر الكتبة وحفظوه. فعند ذلك تشرف عندهم أنفسهم، ويحسن بمن عندهم استقامتهم، حتى تحملوا عنه ما هو أعلم به منهم، ولا يكونوا أسراء في أيديهم، ولا مضطرين إلى ما عندهم. وقد قال بعض الحكماء: "كل شيء يمكن أن يستعار إلا اللسان" وقال: من خدم السلطان بلا علم واستقلال، وتجربة وكمال، كان بمنزلة راكب فيل صعب، وسابح في بحر قد جف". ومع ذلك فإن الأتباع إذا أحسوا من الرؤساء بتفويض إليهم، على قلة علم منهم، واضطرار إلى كفاءتهم، ولم يحس الأتباع منهم حسن مجازاة على جميل إفادتهم، سوء مكافأة على قبيح أفعالهم، حتى يستوي عندهم محسنهم، ومسيئهم وخائنهم وأمنهم، وكافئهم وعاجزهم؛ انتقل الأمين عن مر الوفاء إلى حلاوة الخيانة، وازداد الخائن بصيرة فآثر الإضرار، وقصر الكافي عن إتعاب النفس وكد الانتصاح؛ فقد يرى الأمين صنيعة فيخون، ويرى الخائن جرماً فيعف، فيضطرب عند ذلك الحبل، وينشر الأمر، وتنعكس مساوئ قوم محاسن آخرين.
قال أبو بكر: وإنما ذكرت هذا الفصل، لأرغب أهل هذه الصناعة الشريفة، في الإقبال عليها، وإنفاق بعض العمر في طلبها، فإنها من أجل ما كد فيه الفكر، وقطعت به الأيام. وقد استعمل اللفظة التي حكيتها - أعني إنفاق بعض العمر - شاعر من الأزد فقال:
هزئت عميرة إذ رأت ظهري انحنى * وذؤابي علت بماء خضاب
لا تهزئي مني عمير فإنني * أنفقت فيكم شرتي وشبابي
وفيه غناء في طريق الثقيل الثاني. وليس يجب لمن صفر من هذه العلوم أن يدع التعلم آيساً من الاستفادة، مولياً عن الاستزادة. فربما كان الإنسان مهيأ الذهن لحمل العلم، قريب الخاطر، متقد الذكاء، فيضيع نفسه فإهمالها ويميت خواطره بترك استعمالها، فيكون كما قال علي بن الجهم:
والنار في أحجارها مخبوءة * ليست ترى إن لم يثرها إلا زند
وإنما أخذه من قول الأول:
أنا النار في أحجارها مستكنة * متى ما يهيجها قادح تتوقد
ومثل قوله:
أنفقت فيكم شرتي وشبابي
ما أنشدناه ابن ذكوان القاسم بن إسماعيل قال: أنشدنا أبو مجلي السعدي لحضرمي بن عامر يعاتب عوف بن عبد الله في أبيات:
تجود أسباب المودة بيننا * حديثاً وأسباب المودة تخلق
لعلك يوماً أن يسؤك أنني * قريب ودوني من حصى الأرض مخفق
وتنظر في أسرار كفيك هل ترى * لها خلفاً مما يفيد وينفق
هذا مثل يضرب للنادم قال الأعشى:
فانظر إلى كف وأسرارها * هل أنت إن أوعدتني ضائري
ومنه قول الله عز وجل: "فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قريش أهل الله وهم الكتبة الحسبة". وروي عن كعب الأحبار، أنه قال: "إنا لنجد قريشاً في الكتاب الكتبة الحسبة ملح الأرض". وروي في تفسير قوله تعالى: "ويعلمهم الكتاب والحكمة" قال: يعني القرآن لا الخط قال الشاعر:
إن الكتابة رأس كل صناعة * وبها تتم جوامع الأعمال
ما روي في أول من كتب الكتاب بالعربي
قد ذكرت أن اختصر جميع ما أذكره، وألقي أسانيده ليقرب على طالبه ومستفيده، إلا ما لا بد منه، من ذكر نسبته وإسناده، وإنما أجري إلى ما ذكرته.
روي عن كعب الأحبار، أنه قال: "أول من كتب الكتاب العبري والسرياني وسائر الكتب آدم صلى الله عليه وسلم، قبل موته بثلثمائة سنة، كتبها في طين ثم طبخه، فلما غرق الله جل وعز الأرض، أيام نوح، بقي ذلك فأصاب كل منهم كتابهم. وبقي الكتاب العربي إلى أن خص الله به إسماعيل فأصابها وتعلمها".
وروي عن ابن عباس "أن أول من وضع الكتابة العربية إسماعيل على لفظه ومنطقه، فعلمه موصولاً حتى فرق بينه ولده".
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعروة بن الزبير أنهما قالا: "أول من وضع الكتاب العربي قوم من الأوائل، نزلوا في عدنان بن أد بن أدد، أسماؤهم أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص قرشت، فوضعوا الكتاب العربي على أسمائهم ووجدوا حروفاً ليست من أسمائهم وهي الثاء والخاء والذال والظاء والضاد والطاء والغين قسموا بالروادف". وقد روي أنهم كانوا ملوك مدين، وأن رئيسهم كلمن وأنهم هلكوا يوم الظلة مع قوم شعيب عليه السلام فقالت أخت كلمن ترثيه:
كلمون هد ركني * هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه آل * حتف ناراً وسط ظله
كونت ناراً فأضخت * دار قومي مضمحله
وقيل: إن هؤلاء أخذوا كتاب إسماعيل عليه السلام، فعملوا منه كتاباً يتعلم منه، لأن الأحاديث عنهم أنهم استعربوا وضعوا الكتاب العربي والله أعلم.
وروي عن ابن جعدة "أن أول من كتب العربية مرامر بن مرة. وأسلم بن الدرة، اجتمعا حتى وضعا مقطعه وموصله، وهما من أهل الأنبار". قال: وسئل المهاجرون من أين تعلموا الكتاب فقالوا: من أهل الحيرة. فسئل أهل الحيرة من أين تعلموا، فقالوا: من أهل الأنبار.
وقد أعرب الناس أبا جاد وسعفصاً، فقال معاذ الهراء يخاطب رجلاً عاب النحو والعربية:
عالجتها أمرد حتى إذا * شبت ولم تعرف أبا جادها
سميت من يعلمها جاهلاً * يصدرها من بعد إيرادها
وقال آخر:
وخطوا لي أبا جاد وقالوا * تعلم سعفصاً وقريشات
حدثنا الحسين بن مرثد، قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: أخبرنا يونس، قال: سمعت أبا عمرو يقول: العرب كلها أولاد إسماعيل فأصهر إليهم، والعربية التي روى محمد بن علي بن الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليهم، أن أول من تكلم بالعربية إسماعيل عليه السلام فإنما يعني اللسان الفصيح الذي نزل به القرآن وعربية حمير وبقايا جرهم، غير هذه ليست بفصيحة.
أصل كتاب بسم الله الرحمن الرحيم وابتداؤه
قال الصولي: سألت أبا خليفة بن حباب الجمحي عن ابتداء الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم، فقال: سأل ابن عائشة عبيد الله بن محمد بن حفص عن ذلك، فقال: حدثني أبي أن قريشاً كانت تكتب في جاهليتها "باسمك اللهم"، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، ثم نزلت سورة هود وفيها "بسم الله مجراها ومرساها" فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكتب في صدر كتبه: "بسم الله"، ثم نزلت في سورة بني إسرائيل "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى"، فكتب: "بسم الله الرحمن"، ثم نزلت في سورة النمل: "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم". فجعل ذلك في صدر الكتب إلى الساعة. وكتب "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول كل سورة من القرآن، إلا في أول سورة التوبة، فإنه يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: لم يكتب بين الأنفال بسم الله الرحمن الرحيم والأنفال من أول ما أنزل الله في المدينة، وبراءة من آخره، إلا أنها تشبهها، وقصتها كقصتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما تلا الآيات فيقول: "هذه مكانها في سورة كذا، فاجعلها تليها". وهذا بفضل من الله عز وجل عليهم.
كيف يفتتحون كلامهم ليبارك لهم فيما يحاولون ويؤجروا عليه
والمعنى: اقرأ يا محمد بسم الله وقل بسم الله، ثم حذفت قل ليعلم المخاطب أن معناه الأمر.
والباء صلة فعل محذوف حذف لعلم القارئ به وهو: أبدأ بسم الله وأقرأ بسم الله، لأن جبريل كان إذا نزل بالوحي قال: "اقرأ يا محمد، قال: وما أقرأ? قال: اقرأ بسم الله". والمعنى في الابتداء بها، في غير القرآن، بدأت بسم الله. ثم كثر ذلك وعلم حتى أسقطوا بدأت. وقال سيبويه: معنى الباء الإلصاق تقول: كتبت بالقلم، فالمعنى أن الكتابة ملصقة بالقلم. وهي مكسورة أبداً لأنه لا معنى لها إلا الخفض، فوجب أن يكون لفظها مكسوراً.
والله تبارك اسمه، اسم خاص للمعبود جل وعلا، لا يسمى به سواه. قال الله تعالى: "هل تعلم له سمياً". قال المفسرون: لا يعلم من تسمى الله إلا الله عز وجل، ولا يعرف لهذا الإسم اشتقاق من فعل. ولا أحب ذكر ما قاله النحويون فيه لأنه يكلف لا يضر تركه.
وأسماء الله عز وجل، بعد هذا، صفات: فالرحمن الرحيم ذو الرحمة، ولا يقال رحمن إلا لله تعالى. ويقال: فلان رحيم لأن رحمن في وزنه فعلان، من أسماء المبالغة في الرحمة وغيرها، والله تعالى نهاية في الرحمة وليس شيء كذلك، فلهذا لم يسم به غير الله.
والرحمة من الله تجاوز عن ذنب، وإحسان عن حسنة، وإيصال الخير إلى عباده. والرحمة من العباد إشفاق ورقة، تحدث فيهم.
وليس في الأفعال ما يبنى عليه ثلاثة أسماء مثل رحم فهو راحم، ورحيم ورحمان إلا سلم وسليم وسليمان، وندم فهو نادم ونديم وندمان، ولا يقال من الندمان: نادم إنما يقال: نادمته.
والألف في بسم الله وصل لأن غيره تصغيره سمي. وحكى أبو زيد أن العرب تقول: هذا اسم وهذا سم وسم وأنشد: بسم الذي في كل سورة سمه ويروى سمه، وإنما ضموا السين وكسروها، لأنه سموت وسميت بمعنى ارتفعت وعلوت، فمن قال: سم فكسر فمن سميت ومن قال سم فهو من سموت. ومعنى قولك: أسميت لفلان فلاناً، وإنما هو رفعت له صفته وما يعرفه به حتى عرفه. والاسم مأخوذ من السمو وهو الارتفاع، وأصله سمو والجميع أسماء مثل حنوا وأحناء وقنو وأقناء.
ومن قال الاسم مأخوذ من السمة، كأنك إذا قلت: أسميته لفلان، كان المعنى وسمته له بشيء عرفه به، حذفت منه فاء الفعل ودخلته ألف الوصل ألا ترى أن عدة وزنة أصلهما وعدة ووزنة، فإذا صغرتهما رجعت الواو، فقلت: وعيدة ووزينة.
وكذلك تصغير صلة وصيلة، فلو كان اسم من سمة لكان تصغيره وسيمة، ولكن تصغيره سمي، فبطل أن يكون من السمة، فكان يجب أن يكون وسم وسمة، ووزن وزنة، كما قالوا صل صلة، ولكن وقعت الواو، ولذلك كان يجب أن يقال وزن يوزن، مثل عدل يعدل، فوقعت الواو بين ياء وكسرة، فحذفت فقيل وزن يزن، وإنما كرهت العرب أن تتكلم بضمة بعد كسرة، وكسرة بعد ضمة في الواو والياء، لأنه يصعب في اللفظ قليلاً. وإنما يتكلمون بما خف على ألسنتهم، ولذلك صحت لهم الأسماء في الثلاثي كله، إلا في صنفين.
والثلاثي قولهم فعيل وقد سموا على فعل، فقالوا: عضد وسموا فعل فقالوا: عنب، وسموا بفعل فقالوا: إبل، وسموا بفعل فقالوا: طنب، وسموا بفعل فقالوا: حرد، ولم يسموا بفعل ولا بفعل كراهة لثقل ذلك ليس في أسمائهم دئل ولا شيء على وزنه، ولا مثل دول ولا شيء على وزنه.
حذف الألف من بسم الله وما ذكر من حذف السين
أجمع القراء وكتاب المصاحف على حذف الألف من بسم الله الرحمن الرحيم في فواتح السور والكتب وعلى كتبهم إياها في قول: "فسبح باسم ربك العظيم"، لأنها وقعت موقعاً معروفاً لا يجهل القارئ معناه وكثرت فاستحق طرحها. إذ كان من شأن العرب التخفيف إذا عرف المعنى ولم يكثر ككثرته مع الله عز وجل، فحملهم كثرة الاستعمال ومعرفة المعنى لأنه يقال بدأت بسم الله فحذفت بدأت ثم حذفت الألف في الخط.
وحذف قوم السين وذلك مكروه لأن حروف الزيادة والنقصان الألف والواو والياء فحذفت الألف وليست السين كذلك.
روي أن كاتب عمرو بن العاص، كتب إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه "بم الله" باءً وميماً وحذف السين. فأمر عمر بضربه فضرب، فقيل: في أي شيء ضرب? فقيل: في سين. فضربت مثلاً. ويصير إذا حذفت السين كأنه "بم الله" وبم ولم يستفهم بهما.
وألف اسم لا يحذف إذا أضيفت إلى غير الله، ولا تحذف في غير الله من الصفات مثل اللام في قولك: "لاسم الله حلاوة في القلوب" و "ليس اسم كاسم الله" لا بد من إثباتها.
وأجاز الكسائي طرح الألف في قولهم: باسم الخالق وباسم الرحمن، وغيره يأبى ذلك، ولا يجيزه إلا في بسم الله وحده. وعلى هذا العمل وهو الصواب.
وكتبوا: الرحمن، بغير ألف لكثرة الاستعمال وإن المعنى لا يخل.
رسوم الكتاب في كتابتهم بسم الله الرحمن الرحيم
يختار الكاتب أن يبدأ بكتاب بسم الله الرحمن الرحيم، من حاشية القرطاس، ثم يكتبون الدعاء من تحته مساوياً، ويستقبحون أن يخرج الكلام عن بسم الله الرحمن الرحيم، فاضلاً بقليل، ولا يكتبوها وسطاً، ويكون الدعاء فاضلاً، وإنما يفعل ذلك بالتراجم.
ومن الكتاب من يرى أن يجعله وسطاً، في أسفل الكتاب، بعد انقضاء الدعاء الثاني والتاريخ، إذا احتاج إلى تبيين نسخة كتاب متقدم، أو حساب، ليفرق بين منزلته من صدر الكتاب وبين عجزه. وقد ذهب إليه قوم.
ولا يفسح ما بين بسم الله الرحمن الرحيم وبين السطر الذي يتلوه من الدعاء ولكن يفسح ما بين الدعاء، إذا استتم، وبين سائر المخاطبة. ولا يتجاوز بالدعاء ثلاثة أسطر، ولا يستتم السطر الثالث، على المشهور من مذاهب أجلاء الكتاب.
"أما بعد" وما جاء فيها
قال الصولي: حدثنا زياد بن الخليل التستر، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، عن محمد بن عبد العزيز، عن عمر، عن أبيه، عن أبي سلمة، قال: "أول من قال أما بعد كعب بن لؤي. وكان أول من سمى الجمعة وكانت تسمى العروبة".
ويروى أن أول من قال: أما بعد، داود النبي عليه السلام وأن ذلك فصل الخطاب، الذي قال الله عز وجل: "وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب".
حدثنا زياد بن الخليل قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحراني، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، عن أبي الزناد، عن أبيه، عن بلال بن أبي بردة، عن أمه، عن جده أبي موسى، أنه قال ذلك.
وقال الشعبي: فصل الخطاب الذي أعطيه داود عليه السلام: أما بعد. فمعنى فصل الخطاب، على هذا، أنه إنما يكون بعد حمد الله، أو بعد الدعاء، أو بعد قولهم: من فلان إلى فلان، فينفصل بها بين الخطاب المتقدم وبين الخطاب الذي يجيء بعد. ولا تقع إلا ما ذكرناه. ألا ترى قول سابق البربري لعمر بن عبد العزيز:
باسم الذي أنزلت من عنده السور * الحمد لله أما بعد يا عمر
فإن رضيت بما تأتي وما تذر * فكن على حذر قد ينفع الحذر
والمعنى في أنها لا تقع مبتدأة، أن المراد بها أما بعد هذا الكلام، يعني الذي تقدم فإن الخبر كذا وكذا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى بني أسد: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بني أسد. سلام عليكم، فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو. أما بعد فلا تقرين مياه طي ولا أرضهم فإنه لا يحل لكم".
فإذا كتب كاتب: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد كان كذا وكذا، فمعناه: أما بعد قولنا بسم الله، فقد كان كذا وكذا وأنه قد كان. فإنها لا تقع إلا بعد ما ذكرناه.
ولابد من مجيء الفاء بعد أما لأن أما لا عمل لها إلا اقتضاء الفاء واكتسابها، فإن الفاء تصل بعض الكلام ببعض، وصلاً لا انفصال بينه ولا مهلة فيه. ولما كانت أما فاصلة، أتيت بالفاء لترد الكلام على أوله. وليست تدل الفاء على تأخير متقدم، ولا تقديم مؤخر، ولا يستوي معناهما فيها ولا معها.
ومما أجمع أهل اللغة، على أن حالفاً لو قال: والله لآتين الكوفة والبصرة، فبدأ بالكوفة في لفظه، ثم أتى البصرة قبل الكوفة ثم أتى الكوفة، إنه غير حانث لأن الواو عندهم أتم حروف النسق، وإنها للإشراك تدخل الآخر فيما أدخلت فيه الأول لا فرق.
وأجمعوا على أنه إذا قال: لآتين الكوفة فالبصرة أنه إن لم يأت الكوفة التي بدأ بها في لفظه، ثم يخرج منها إلى البصرة مسرعاً مزعجاً، غير متلبث إلا لفكر في خروجه، أو إصلاح لطريقه، أنه فائت، لأن الفاء حرف إزعاج وإسراع. فإذا قال: لآتين الكوفة ثم البصرة، بدأ بالكوفة وأقام ما شاء بعد، لا ينقص عزمه في إتيانها، ولا تتغير نيته إلى وقت قصده إياها، لأن ثم عندهم حرف إمهال وتنفيس.
والذي عليه أكثر الفقهاء، في فصل الخطاب، أنه فصل الحكم والقضاء. وقال الضحاك بن مزاحم: فصل الخطاب العلم بالقضاء. وروي عن شريح والحسن البصري، أنهما قالا: فصل الخطاب الشهود والأيمان، ذهب إلى أنه يجب بهما الحكم وتنفصل الأشياء.
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا سفيان، عن الأسود، عن قيس، عن ثعلبة، عن عباد، عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب حين كسفت الشمس فقال: "أما بعد".
تصدير الكتب وما يقع فيها
فقد استعمل الناس قريباً من ترتيب الدعاء، وتكثيره وتقليله، أشياء كلفوا أنفسهم فيها، مؤونة المخاضة فيها والتحفظ فيها منها. وقد كان المتقدمون يسمحون في ذلك، ولا يتشاحون عليه إلى الرسوم في الكتب عن الأئمة فإنها على الأمثلة التي كانت تجري عليها الكتب، وتصدر بها في أيام النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً،لم تغير عما كانت تصدر به عن النبي صلى الله عليه وسلم: يبدأ باسمه ويختم الكتاب باسم كاتبه. وكذلك هي عن الأئمة بإمرة المؤمنين والإمامة، والتصدير في أول الكتاب، والدعاء في آخره للإمام وولي العهد والوزير واحد. إلا أنهم قالوا: سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وكذلك لولي العهد في التصدير والدعاء الأخير. ولم يقولوا للوزير وبركاته ليفرقوا بين المحلين. وقد كتب بعضهم في عجز الكتاب إلى الوزير وبركاته. فأما في التصدير فلا وذلك للفرق بين المحلين.
وكان التصدير ينتهي إلى قوله: "فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. إلى أن أفضت الخلافة إلى الرشيد، فأمر أن يزاد فيه وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم". فكتب بذلك إلى هذا الوقت. فكانت هذه من أفضل مناقب الرشيد.
وكان الرشيد، قال ليحيى بن خالد: قد عزمت على أن يكون في كتبي من عبد الله هارون الإمام أمير المؤمنين عبد محمد رسول الله. فقال له يحيى: قد عرف الله نيتك في هذا يا أمير المؤمنين، وحان لك أجره، والتعبد إنما هو لله وحده لا لغيره. قال: فاكتب: "من هارون مولى محمد". فقال: إن المولى عند العرب ربما كان ابن العم وجزى الله أمير المؤمنين خيراً وهداه إليه.
وقد يزيد في الكتب، ذكر الصفات، التي اختص الله تعالى بها كالمنصور والمهدي والهادي والرشيد. والعجب أن قوماً يسمونها ألقاباً والألقاب مكروهة وإنما هي نعوت وصفات.
وجعلوا مثل ذلك لولاة العهود، وخوطب بها الخلفاء، قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، يخاطب المعتضد بالله، في قصيدة ذكر فيها ابنه علياً المكتفي بالله.
المكتفي بالله صاحب عهدنا * فاجعله نحلته من الأسماء
فلما ولي المكتفي بالله الخلافة قال: قد سماني عبد الله باسم لا أريد غيره.
ولم يكن يدعى للخلفاء على المنابر بالنعوت، فيقال: اللهم أصلح عبدك وخليفتك عبد الله المنصور أمير المؤمنين ولا المهدي. وكان أول من دعي له بذلك محمد الأمين أمير المؤمنين، وجرى على ذلك إلى اليوم.
ولا يكاتب بالتصدير الإمام ولا ولي عهده ولا وزيره. فأما الإمام فيكتب بالتصدير إلى كل من خاطبهن من عامل حرب وخراج وقضاء، في الكتب المدونة المنعوتة، بالعهود والعقود وجباية الفيء، والحمول والنفقات والإقطاعات والإمارات والفتوح، وما جرى هذا المجرى، ويبدأ بنفسه. ولا يخاطب الإمام أحداً من هذه الطبقات بدعاء له في التصدير إلا ولي عهده، فإنه يدعي له بعد التصدير بالحفظ والحياطة.
مقال الخط
قال يحيى بن خالد البرمكي: "الخط صورة روحها البيان، ويدها السرعة، وقدمها التسوية، وجوارحها معرفة الفصول".
وقال أبو دلف: "القلم صائغ الكلام، مفرغ ما يجمعه العلم".
وقال اقليدس: "الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جسمانية. أخذه النظام"، فقال: "الخط أصل في الروح وإن ظهر بآلة الجسد".
ومن فضل حسن الخط، أن يدعوا الناظر إليه إلى أن يقراه وإن اشتمل على لفظ مرذول ومعنى مجهول.
وربما اشتمل الخط القبيح، على بلاغة وبيان، وفوائد مستظرفة، فيرغب الناظر عن الفائدة التي هو محتاج إليها لوحشة الخط وقبحه.
حدثنا أحمد بن إسماعيل، قال: كان مشايخ الكتاب وزهاد العمال يختارون أن يكون ما يرفعونه عن جماعاتهم، إلى دواوين السلطان بخط غير جيد، ومداد غير حالك، في صحف مظلمة، ليثقل على من يرد عليه من المتصفحين فيعدل عنها إلى غيرها مما لا يتعبه.
وزعم صاحب المنطق أن الأشياء مجودة في أربعة مواضع:
في الأشياء ذوات المعاني في أنفسها، وفي العقول، والقول، والخط. وإن الحظ دليل على ما في النفوس، وما في دليل على ما في الأشياء ذوات المعاني، وما في الأشياء ذوات المعاني مدلول عليه. وإن اثنين من هذه الأربعة طبيعيان، وهما الأشياء ذوات المعاني وما في النفوس لا يتغيران. واثنان وضعيان، يتغيران بتغير اللغات والبلدان، وهما القول والخط. ومثال ذلك أن الذي في الجسمين، من التدوير والتربيع، موجود فيهما إذا نظر إليهما ناظر، انطبعت صورتهما في نفسهما، فصارا موجودين في موضعين، وإذا أراد أن يخبر غيره عما وجده، احتاج إلى التعبير عما في نفسه باللفظ، فيكون اللفظ دالاً على ما في النفس، وإن كان المخبر حاضراً شافهه، وإن كان غائباً أداه إليه بالخط.
واللفظ والخط من هذا الوجه ضروريان، لابد منهما في العبارة. ولو شاء قائل أن يفضل الخط على اللفظ، في هذه الحال، من قول صاحب المنطق، لقال: فالخط أتم من اللفظ فائدة، لأنه قد بلغ مبلغ المنطق، إذ كنا قد نناجي الحاضر بهما جميعاً، فنفهمه بكل واحد منهما، مثل ما نفهمه بالآخر، ولا نستطيع إفهام الغائب إلا بالخط، فللخط فائدتان من هذه الجهة، وليس للفظ إلا فائدة واحدة.
فإن قال معترض: فكيف يتهيأ أن يفهم الأعمى والأمي الخط? قيل له: ذلك من نقصان آلة، لا من نقصان آلتهما، الخط، وإنما قولنا على تمام الآلة وأصل البنية الصحيحة، والعمى عرض دخل على الطبيعة وليس بأصل فيها، والأمي ممكن أن يتعلم الخط، فالنقيصة فيه عن علمه من ميله. وقد رأينا الشديد الصمم لا يفهم إلا بالخط.
ومن أحسن ما فضل به كلام المخاطب على الخط قول جالينوس "الكتاب كلام ميت، يتناوله قارئه كيف شاء، وكلام المخاطب حي، يمكن صاحبه أن يبصره حتى يبلغ به غرضه".
ومن الأعجوبة في الخطوط كثرة اختلافها والأصول واحدة كاختلاف شخوص الناس مع اجتماعهم في الصنعة، حتى إن خط الإنسان يصير كحليته ونعته في الدلالة عليه، واللزوم له والإضافة إليه، حتى يقضي به الكاتب له وعليه.
وقد عجبت من بعض الكتاب قال: ادعى رجل من إلحاق الأنساب بالآثار والأشباه، فقال له القائف: أعجب والله من هذا ما يبلغنا من تمييزهم الخطوط وإلحاق كل خط بصاحبه أو ما ترى العازم على خيانة أو دفع حق، بغير خطه حتى إذا جحد لم ينسب عليه.
وحدثني الحسين بن يحيى الكاتب، قال: ادعى رجل على رجل مالاً، وأن معه به رقعة بخطه، فجحد الرجل الخط، وجعل يكتب بين يدي الناس فيحكمون أن الخط ليس خطه. ثم تراضيا بسليمان بن وهب، وما يحكم به في ذلك، فأحضر الخط والرجل، فقال: اكتب فأملي عليه كتاباً طويلاً، ردد فيه مثل الحروف التي في رقعته، فتبين سليمان أن الخط خطه، وأنه صنع في كتاب الرقعة، ولم يكتب على طبعه، بحروف دلته على ذلك، فحكم عليه سليمان، فاعترف الرجل بالخط، وأدى المال وعجب من ذلك. فقيل لسليمان: كيف وقفت على ذلك? فقال: إنه يصنع في الرقعة كلها إلا في أحرف قذفتها سجيته، ولم يحترس منها طبعه. ثم أنشد سليمان:
ولما أبت عيناي أن تطعم الكرى * وأن يمنعا ذر الدموع السواكب
تثاءبت كي أبغي لدمعي علة * وكم مع لوعاتي بقاء التثاؤب
ومن مليح التعلل في الدم ما حدثنا به محمد بن دينار قال: حدثنا مهدي البهدلي، قال: قال يسار لأبي العتاهية: يا عتبي أنا والله أستحسن اعتذارك في دمعك حيث تقول:
كم من صديق لي أسا * رقه البكاء من الحياء
فإذا تأمل لامني * فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي * فطرفت عيني بالرداء
فقال أبو العتاهية: والله يا أبا معاذ ما لذت في هذا إلا بمعناك، ولا اجتنيته إلا من غرسك في قولك: فقالوا: لم بكيت فقلت: كلا * وهل يبكي من الطرب الجليد
ولكني أصاب سواء عيني * عويد بدا له طرف حديد
فقالوا:
ما لدمعها سواد * أكلتا مقلتيك أصاب عود
والتشبيه يقع كثيراً بالخط الجيد الحسن، أما الخط الرديء فحكايته صعبة ممتنعة.
وحدثني يحيى بن البحتري قال: حدثنا أبي عن ابن الترجمان - وكان الواثق أنفذه إلى ملك الروم بهدايا - قال: وافقت لهم عيداً فرأيتهم قد علقوا على باب بيعتهم كتباً بالعربية منشورة، فسألت عنها، فقيل: هذه كتب المأمون بخط أحمد بن أبي خالد الأحول استحسنوا صوره وتقديره فجعلوا هكذا. فحدثت أنا بهذا الحديث، أبا عبيد الله محمد بن داود بن الجراح، فقال لي: هذا حق قد كتب سليمان بن وهب كتاباً إلى ملك الروم، في أيام المعتمد، فقال: ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل! وما أحسدهم على شيء حسدي إياهم عليه. والطاغية لا يقرأ الخط العربي، وإنما راقه باعتداله وهندسته وحسن موقعه ومراتبه.
ووصف أحمد بن إسماعيل خطاً حسناً فقال: "لو كان نباتاً لكان زهراً. ولو كان معدناً لكان تبراً. أو مذاقاً لكان حلواً. أو شراباً لكان صفواً". وقالوا: "القلم قسيم الحكمة".
وقال أفلاطون: "الخط عقال العقل". وقال أرسطاطاليس: "القلم العلة الفاعلة. والمداد العلة الهيولانية. والخط العلة الصورية. والبلاغة العلة النامية". وقال بعض الملوك اليونانية "أمر الدين والدنيا تحت شيئين: قلم وسيف، والسيف تحت القلم".
ما قيل في حسن الخط من المنظوم
فمن مليح ما قيل في ذلك، قول أبي تمام للحسن بن وهب، وقد قرأ كتاباً له فاستحسن خطه ولفظه من كلمه:
لقد جلى كتابك كل بث * جو وأصاب شاكلة الرمي
فضضت ختامه فتبلجت لي * غرائبه عن الخبر الجلي
وكان أغض في عيني وأندى * على كبدي من الزهر الجني
وأحسن موقعاً عندي ومني * من البشرى أتت بعد النعي
وضمن صدره ما لم تضمن * صدور الغانيات من الحلي
فكائن فيه من معنى بديع * وكائن فيه من لفظ بهي
وكم أنجزت من بر جليل * به ووعدت من وعد سني
كتبت به بلا لفظ كريه * على أذن ولا خط قمي
فأطلق من عقال في الأماني * ومن عقل القوافي والمطي
وأهدي بعض الكتاب غلاماً كاتباً، إلى رئيس له، وكتب إليه بصفة الخط وغيره - وسمعت من يحكي أن فاعل ذلك عيسى بن فرخانشاه بإبراهيم بن العباسي الصولي، وكان عيسى يكتب له ولا أدري كيف صحته، لأني لم أعتد بما لم أسمعه من أفواه الرجال:
اقبل هدية شاكر * تجزيه بالنزر الجليلا
بدراً يضيء إذا نظرت إلي * ه لم يألف أفولا
إني بعثت به وكن * ت بحسن موقعه كفيلا
لما رأيت بخطه * حسناً يصيد به العقولا
كمنمنم الموشي قد * سحب القيان به الذيولا
أو كالرياض بكى الحيا * فيها فاوسعها همولا
وتراه للمعنى اللطيف * إذا أشرت به قبولا
لا مستعيداً منك إذ * تملي عليه ولا ملولا
عرف المبادئ والوصول * من الحكاية والفصولا
وصنوف ترنيب الدعاء * وإن يقصر أو يطيلا
والهمز والممدود والم * قصور والمثل المقولا
والفعل والأسماء وال * مصروف منها والثقيلا
فاستكفه وأضمر له * أن لا تريد به البديلا
يحمل بفضل لسانه * وبيانه عنك الثقيلا
وأنشد أحمد بن إسماعيل نطاحة لنفسه:
أضحكت قرطاسك عن جنة * أشجارها من حكم مثمره
مسودة سطحاً ومبيضة * أيضاً كمثل الليلة المقمره
ولي من قصيدة مدحت بها الوزير أبا القاسم عبد الله بن محمد بن عبيد الله بن يحيى:
ينظم دراً في قراطيسه * أفدي أبا العباس من ناظم
يطلع أنواراً بها غضة * بوابل من نقشه واسم
بنفسجاً أو مشبهاً لونه * في أرض نسرين له فاحم
كالدر في اللفظ وكالوش * ي في الرقم أجادته يد الراقم
فقال أحمد بن إسماعيل:
وإذا نمنمت بناتك خطاً * معرباً عن إصابة وسداد
عجب الناس من بياض معان * تجتنى من سواد ذاك المداد
حدثنا محمد بن إبراهيم الأنصاري أبو الحسن، قال: وصف أحمد بن صالح جارية كاتبة فقال: "كأن خطها أشكال صورتها. وكأن مدادها سواد شعرها. وكأن قرطاسها أديم وجهها. وكأن قلمها بعض أناملها. وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها سيف لحاظها. وكان مقطها قلب عاشقها". وأنشدنا عبد الله بن المعتز لنفسه يصف خطاً:
فدونكه موشى نمنمته * وحاكته الأنامل أي حوك
بشكل يؤمن الإشكال فيه * كأن سطوره أغصان شوك
ومثل هذا لأحمد بن إسماعيل نطاحة:
مستودع قرطاسه حكما * كالروض ميز بينه زهره
وكأن أحرف خطه شجر * والشكل في أضعافها ثمره
أنشد محمد بن يزيد المبرد، قال: استعار محمد بن عبد الملك الزيات من الحسن بن وهب دفتراً فيه شعر أبي يعقوب الخريمي، وكان معجباً به، فوجه الحسن به إليه، وكان بخط حسن، ثم وجه الحسن يطلبه منه، فوجه إليه محمد بالنسخة التي كانت عنده واحتبس نسخة الحسن وكتب إليه:
إني نظرت ولا صواب لناظر * فيما يهيم به إذا لم ينظر
فإذا كتابك قد تخير خطه * وإذا كتابي ليس بالمتخير
وإذا وسوم في كتابك لم تدع * شكاً لمعتسف ولا لمفكر
تنبيك عن رفع الكلام وخفضه * والنصب فيه لحاله والمصدر
وإذا كتاب أخيك من ذا كله * خلو فبئس لبائع أو مشتري
فاقبل كتاب أخيك غير منافس * فيه وخل له كتابك واعذر
واعلم بأنك لا تزال مؤخراً * في العلم عند الناس ما لم تكسر
إني أرى حبس السماع على الذي * شاركته فيه وكسر الدفتر
واستهدى أحمد بن إسماعيل دفتراً فيه حدود الفراء، فأهداه إلى مستهديه وكتب على ظهره:
خذه فقد سوغت فيه مشبهاً * بالروض أو بالبرد في تفويفه
نظمت كما نظم السحاب سطوره * وتأنق الفراء في تأليفه
وشكلته ونقطته فأمنت من * تصحيفه ونجوت من تحريفه
بستان خط غير أن ثماره * لا تجتنى إلا بشكل حروفه
وللخط صفات وتركيبات وأسماء مختلفات، تحد وتصنف ما يقال ذلك في النغم واللحون. فمنه الرياشي المحقق والخفيف المطلق، وهو الذي يتعلق بعضه ببعض، ومنه منثور ومجموع.
وسئل بعض الكتاب عن الخط متى يستحق أن يوصف بالجودة، فقال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشبه راءه نونه، وأشرق قرطاسه، وأظلمت أنقاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون تصوره، وإلى العقول ثمره، وقدرت فصوله واندمجت وصوله، وتناسب رقيقه وجليله، وخرج عن نمط الوراقين، وبعد عن تصنع المحدرين، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية، كان حينئذ كما قلت في وصف خط:
إذا ما تحلل قرطاسه * وساومه القلم الأرقش
تضمن من خطه حلة * كنقش الدنانير بل أنقش
حروف تعيد لعين الكليل * نشاطاً ويقرأها الأخفش
وقال آخر:
أتاني كتابك يا سيدي * فآنس نفساً به مبهجه
وكان بما ساق من فرحة * وسكن من لوعة مزعجه
أبر وأمتع من ريطة * على كل مائدة مدرجه
قد ذكرت في هذا الكتاب ما استحسن من خط الجواري: وقد كره أهل النبل من الناس وذوو الرأي منهم أن يعلم النساء الخط، وجاء فيه النهي عن ابن عباس، أنه قال: "لا تسكنوا النساء العلالي ولا تعلموهن الكتابة".
وقال حمزة بن أبي سلامة الكوفي:
جاء خط كأنه شعرات * وسط خط ولم يصله عذار
أو كنقش الحناء في كف عذرا * ء أباحتك لمحه الأستار
يا كتاباً يكاد يضحك من جو * هره في نظامه الطومار
وقال علي بن الجهم:
يا رقعة جاءتك مثنية * فكأنها خد على خد
نبذ سواد في عذار كما * ذر فتيت المسك في الورد
ساهمة الأسطر مصروفة * من ملح الهزل إلى الجد
يا كاتباً أسلمني عبثه * إليه حسبي منه ما عندي
وقال أبو نواس:
زجرت كتابكم لما أتاني * بمر سوانح الطير الجواري
نظرت إليه مجزوماً بزبر * وفي ظهر ومختوماً بقار
فعفت الظهر أحور قرطقياً * تركب صداغه سين العذار
وكان الشدو ذا زبر مصيب * وكان الختم من رق العقار
فكيف ترونني وترون زجري * ألست من الفلاسفة الكبار
ما قيل في قبح الخط
قال الصولي أنشدني أحمد بن محمد بن إسحاق، قال: أنشدني علي بن محمد العلوي لنفسه:
أشكو إلى الله خطاً لا يبلغني * خط البليغ ولا خط المرجينا
إذا هممت بأمر لي أزخرفه * سدت سماجته عني التحاسينا
وقالوا: "رداءة الخط زمانة الأديب". ونظر عبد الله بن طاهر إلى خط بعض كتابه فلم يرضه، فقال: "نحوا هذا عن مرتبة الديوان فإنه عليل الخط، ولا يؤمن أن يعدي غيره". وقالوا: "رداءة الخط إحدى الزمانتين، كما أن حسنه إحدى البلاغتين".
حدثني طلحة بن عبد الله، قال: اعتذر رجل إلى محمد بن عبد الله بن طاهر من شيء بلغه عنه، فرأى خطه قبيحاً فوقع في رقعته: "أردنا قبول عذرك، فاقتطعنا عنه ما قابلنا من قبح خطك. ولو كنت صادقاً في اعتذارك لساعدتك حركة يدك. أو ما علمت أن حسن الخط يناضل عن صاحبه بوضوح الحجة. ويمكن له درك البغية".
وكان أبو هفان عبد الله بن أحمد المهزمي من أقبح الناس خطاً، وكان يبتدئ الخط من رأس الورقة ويعوج سطوره حتى يبقى آخر سطر في الورقة كلمة واحدة فرثاه يحيى بن علي فقال في مرثيه:
مع خط كأنه أرجل البط * أو الحط في ذوي الفتيان
أنشدني العنزي الحسن بن علي في قبح الخط، وكان والله قبيح الخط والوجه، حسن العلم والعقل:
جزعت من قبح خطي * وفيه وضعي وحطي
رجعت من بعد حذقي * إلى تعلم حطي
?الوصاة بإصلاح الخط وآلته: قال بعض الرؤساء من الكتاب: "ارخوا ذوائب خطوطكم"، يريد بذلك الحروف المخطوطة، كالياء والنون والعين والحاء المنفصلات وما أشبههن.
قال الصولي: حدثني أبو الحسين محمد بن أحمد النيسابوري، قال: سمعت الحسين بن يحيى بن نصر الجرجاني يقول: قال إبراهيم بن العباس الصولي لغلام كان يكتب بين يديه: "ليكن قلمك صلباً بين الدقة والغلظ، ولا تبره عند عقدة، ولا تجعلن في أنبوبه أنبوبة، ولا تكتبن بقلم ملتو، ولا ذي شق غير مستو، واختر من الأقلام ما يضرب إلى السمرة. وأحد سكينك، ولا تستعملها لغير قلمك. وتعهده بالإصلاح يصلح. وليكن مقطك صلباً ليمضي الخط مستوياً لا مستطيلاً، وابر قلمك بين التحريف والاستواء. وإذا كتبت الدقيق فأمل قلمك إلى إقامة الحروف لإشباع الخط، وإذا جللت فإلى التحريف. واعلم أن تبطين القلم شؤم، وتحريفه حرف، وهما دمار الخط. واعلم أن وزن الخط مثل وزن القراءة، فأجود الخط أبينه، كما أن أحمد القراءة أبينها".
وقال بعض الكتاب: "الحذق بالخط أن يقدر الكاتب بقلمه أجزاء حروفه وكلمه، وخاصة في طول الحرف لا في عرضه، ويفرق بين الحرف والحرف على قياس ما مضى من شرطه في قرب مساحته وبعد سياقته. ولا يقطع الكلمة بحرف يفرده في غير سطره. ويسوي إصلاح خطوطه كتابته ولا يغيره فيحليه بما ليس من زينته، ولا يمنعه حقاً فيخلف حليته، ويفسد قسمته.
ويستقبح أن يقع في الخط نوعان مختلفان، ويقوم في النفس من ذلك ما يقوم فيها من الشعر إذا اختلفت أعاريضه، وخلط فصيحه بمولده. وأحلى الخطوط المحقق اللطيف، المستدير الحروف، المفتوح الصادات والطاآت، المختلس التاآت والحاآت. ولا يحسن أن يجمع في الحرف مشقتان، ولا بين يائين معروقتين". قال الصولي: والمشتق مكروه، وخاصة في الكتاب إلى الرئيس، لأنهم يتأولون ذلك ضرباً من الاستخفاف بقدر المكاتب. كذلك قال إبراهيم بن العباس الصولي، وهو إمام من أئمة الكتاب يقتدى به فيها: وربما طغى القلم فوصل منفصلاً، وفصل متصلاً.
وقد يمشق الكاتب في حالين متضادين في أشد ما يكون نشاطاً، لشوق يده إلى الخط، وبعد عهدها به، وتفلتها إليه، فتنازعه يده إلى ذلك، وتغلبه إلى الإسراع، فتجري على غلوائها، وتمضي على درتها، ولا تتمهل لرفع حرف ولا خفض آخر.
وتستروح أيضاً في حال التعب والكلال إلى المشتق، لما يلحق الأنامل من مشقة التعطف والتلوي على القلم، بتقريب بعض الحروف من بعض، وعطف شيء على شيء. فإذا كانت الكلمة على أربعة أحرف جعلت المشقة واسطة بين حرفين أولين وحرفين آخرين، مثل مقيد ومخلب، وعنها وفيها. فإن كانت ثلاثة أحرف أوسطها ميم، كانت المشقة بين الميم والحرف. ولا يجوز أن يمشق بين حرفين أحدهما ميم.
وإذا اتصلت باء وتاء ونون في كلمة، فكان على عدد أشكال السين والشين رفعت الوسطى، مثل بينك وبيتك. ولو لم تفعل ذلك، وسويت بين الثلاث، لجاءت الكلمة كأنها شك أو سك، ويحتمل الإثنين السين والشين. وأن يمشقا ولا يحققا في كل المواضع؛ إلا في: بسم الله الرحمن الرحيم، لمعان أولها التعظيم لاسم الله تبارك وتعالى، والثاني ليتبين تحقيقك لذلك وتحسينك له، ولأن بسم الله الرحمن الرحيم أول ما يبتدئ الكاتب به وهو وافر النشاط، غير حسير اليد، ولا جافي القلم؛ فليس له عذر في ترك التحقيق حينئذ ولا له حاجة إلى التروح.
وكذلك يكره مشقهما منفصلتين، مثل الناس والباس، لا يكون معهما في هذه القسمة حرف يعضدهما.
وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "شر الكتابة المشق، وشر القراءة الهذرمة". وأكثر سروات الكتاب يكرهون شق الكاف، وقد شقها بعضهم إذا كانت أول الحرف ومبتدأ السطر، ويستقبح شقها إذا كانت في آخر الكلمة منفصل أو متصلة، وذلك في مثل مالك وتارك.
ويستقبح أن ينقطع دعاء فيقع أوله في آخر السطر وبعضه في أول السطر الآخر، وكذلك الكنية والمضاف وغير ذلك، وما عمل بعضه في بعض، وما جعل اسماً واحداً وهو اثنان في الأصل، وذلك مثل أعزه الله في الدعاء، وعبد الله في الأسماء، وغلام زيد في الإضافة، وتأبط شراً في العامل بعضه في بعض، وخمسة عشر فيما جعل الإسمان اسماً واحداً، ومعدي كرب وحضرموت وأيادي سبأ ويد الدهر ويد المسند وهو الدهر أيضاً، وشذر مذر وقالي قلا، ومثل هذا كثير، وما ذكرناه منه يدل على سائره.
ما قيل في النقط والشكل والخط الدقيق
كره الكتاب الشكل والإعجام، إلا في المواضع الملتبسة من كتب العظماء إلى دونهم، فإذا كانت الكتب ممن دونهم إليهم ترك ذلك في الملبس وغيرهم، إجلالاً لهم عن أن يتوهم عنهم الشك وسوء الفهم، وتنزيهاً لعلومهم وعلو معرفتهم عن تقييد الحروف، ولولا أن الذي جددناه من ذلك في كتاب الرئيس إلى تابعه يجري مجرى الزيادة في الإيضاح له، ونفي الارتياب عنه، وإيجاب الحجة عليه فيما يؤمر به وينهى عنه، لكان الأحسن أن لا يستعمل في الحالتين معاً.
وقد رأى قوم أن تكون كتبهم إلى سلطانهم بأكبر الخطوط وأجلها، واختاروا الشكل والإعجام فيها.
وحكوا عن بعض الخلفاء، أنه تأذى من إخلاء الكتب من ذلك في المؤامرات وغيرها. وقال الذين اختاروا ذلك لا نعرضهم للشكوك، ولا نكلفهم إعمال الفكر في المشكل، وأنه يجب أن نوضح لهم الشكوك ونضبط الحروف، بما يسبق معه المعاني إلى قلوبهم في أول وهلة.
ونسبوا الأصل في هذا إلى المأمون، وهذا ما لا يجمع المميزون عليه، ولا يلتفتون إلى ما يتأول فيه، لأن الأمر لو كان على ما يختاره من يشكل وينقط، لما وقع من الكتاب تصحيف، في كثير مما قرأوه في مجالس الخلفاء، حتى أحصيت عليهم غلطات سقطوا بها في عصرهم، وبقي عارها عليهم، كالذي صحف من "حامرطي" جاضرطي، والذي صحف بين يدي المأمون "البريدي" فقال الثريدي، فأمر المأمون أن يطعم، وقال: أبو العباس جائع - يعني وزيره ابن أبي خالد - فغذوه. ثم قرأ فلان الحمصي فقال: الخبيصي، فقال المأمون: ما في طعام أبي العباس خبيص فأطعموه.
وقرأ كاتب عبيد الله بن زياد كتاب عبيد الله بن أبي بكرة أنه وجد بعض الخوارج في شرب فقال عبيد الله: وكيف لي بأن أكون ممن يشرب هو ونظراؤه إنما هو في سرب أي سرداب. وكتب رجل من أغبياء الكتاب إلى صاعد بن مخلد كتاباً فصير العين غيناً ونقطعها من فوق ونقط الخاء من مخلد من أسفل فصيرها جيماً. فقرأ كتابه صاعد بن مخلد فلم يفطن لذلك، ووقع فيه فخرج إلى الديوان فرآه الناس فقال فيه بعض الشعراء:
رأيت الوزير كثير الشكوك * بعيد الإفاقة من غفلته
فما عرف الجد من والد * ولا اسم ابنه الفذ من كنيته
رأيت الكتابة قد عطلت * ورسم البلاغة في دولته
وأغفل كاتب سليمان بن عبد الملك الإعجام في كتاب كتبه إلى عامله بالمدينة يأمره بإحصاء المخنثين فقال له: احص من قبلك من المخنثين. فقرأه اخض، فخصى منهم جماعة حتى خصى الدلال، فقال: الآن والله أشبهنا النساء، هذا والله الختان الأكبر.
وأخرج كتاب عبيد الله بن سليمان على عامل مالاً، فتظلم منهم، فوقع عبيد الله "هذا هذا" فقدر الرافع لبعد ذهنه أنه وقع هذا هذا أي حجة ثابتة كما تقول: أنت أنت، وأنا أنا، فأخرج التوقيع إليهم فقال: قد قبل حجتي، فلم يعرفوا ذلك، وجاءوا بالتوقيع إلى صاحب الديوان، فرده إلى عبيد الله بن سليمان واستأمره فيه، فما زاد عبيد الله على أنه شدد الذال، ووقع تحته: الله المستعان، كأنه نسب صاحب التوقيع إلى الهذيان. ومثل هذا كثير جداً وإنما جئنا بطرف منه.
حدثني يعقوب بن بيان قال: حدثني علي بن الحسين قال: لما أخرج بغا إلى منبج وقلدها، كان معه كاتب فقراً عليه يوماً كتاب عامل بسمساط وأن فلاناً سقط عن برذونه، يريد عن برذونه، فقال له بغا: وما برذونه ويحك? فقال: جبل بين سمساط والروم وهو الحد بينهما، فلم يدر من أي شيء يتعجب! من تصحيفه أم من احتجاجه بما احتج به. وكتب بعض الكتاب إلى رجل كتاباً فدقق خطه فيه فكتب الرجل إليه: ما كاتبتني وإنما عوذتني! شبه كتابه بالتعويذ. وكتبت إلى بعض إخواني كتاباً بقلم دقيق، فأنكر ذلك فكتبت إليه:
أنكر الخط إذ رآه ضئيلاً * قال: هلا كتبت خطاً جليلا
قلت لا تسبقن باللوم عذري * بخل الخط إذا رآني بخيلا
وكذا الجسم إذ رأى علة الأل * حاظ من مقلتيك صار عليلا
وقال آخر في نحوه:
يقول وقد كتبت دقيق خط * إليه لم تجنبت الجليلا
فقلت له: عشقت فصار خطي * دقيقاً مثل صاحبه ضئيلا
ومن مليح ما قيل في النقط والإعجام قول عبد الله بن المعتز:
غلالة خده ورد جني * ونون الصدغ معجمة بخال
وقال أبو نواس يصف صغر أثافي قدر الرقاشي:
رأيت قدور الناس سوداً من الصلى * وقدر الرقاشيين بيضاء كالبدر
يبينها للمعتفي بفنائها * ثلاث كنقط الثاء من قلم الحبر
وما رأيت النقط والإعجام وقعاً أصح من مكان أوقعهما عصابة الجرجاني يهجو الحسن بن رجاء فإنه قال:
خوان الأمير معمى المكان * له شبح ليس بالمستبان
يرى بالتوهم لا بالمجس * وبالخبر الفذ لا بالعيان
دعا بالخوان على لؤمه * لكيما يقال دعا بالخوان
فأما غضائره الواردات * فأسماه ليست لها من معان
ونقط منها عراق عراق * كم تعجم الصحف بالزعفران
وتقول: قرمطت الخط أقرمطه قرمطة إذا قاربت بين حروفه. وحكى التنوخي: قرمط خطوه إذا قارب بينه.
ومن مليح ما قيل في النقط والشكل قول أبي نواس:
يا كاتباً كتب الغداة يسبني * من ذا يطيق براعة الكتاب
لم ترض بالإعجام حين كتبته * حتى شكلت عليه بالإعراب
أخشيت سوء الفهم حين فعلته * أم لم تثق بي في قرأة كتاب
لو كنت قطعت الحروف فهمتها * من غير وصلكهن بالأنساب
وأردت إفهامي فقد أفهمتني * وصدقت فيما قلت غير محاب
وقال التنوخي: يقال: "كتاب نزل الخط" إذا كانت الكتابة كثيرة فيه. ويقال: "رجل ذو نزل" حبر كثير. ""وطعام له نزل" أي ريع كثير. والعامة تقول: نزل وذلك خطأ قال لبيد:
ولن تعدموا في الحرب ليثاً مجربا * وذا نزل عند العطية نازلا
ذا نزل ذا عطاء.
ونحو قول أبي نواس، قول العباس بن الأحنف:
فإذا الذي كتب الكتاب يسبني * قصداً فبالغ في الكتاب وأعجما
فإذا أردت هديت من إعجامه * إني أراك حسبت أن لا أفهما
وتقول: شكلت الكتاب أشكله شكلاً. وشكلت الطائر شكولاً وشكلت الدابة شكالاً. وشكلت المرأة شكلاً. وأشكل الأمر إشكالاً التبس. والقوم أشكال أي أشباه.
الحروف التي شبهت الشعراء بها
أنشدنا القاسم بن إسماعيل، قال: أنشدنا محمد بن إسماعيل لأبي النجم العجلي الراجز، وكان له صديق، يقال له زياد يسقيه الشراب، فينصرف أبو النجم من عنده ثملاً:
أقبلت من عند زياد كالخرف * تخط رجلاي بخط مختلف
كأنما قد كتبنا لام ألف
وقد عيب أبو النجم بهذا، فقيل: لولا أنه يكتب ما عرف صورة لام ألف كما عيب ذو الرمة في وصف ناقته:
كأنما عينها فيها وقد ضمرت * وضمها السير في بعض الأضاميم
يريد كأن عينها دارة ميم لتدويرها، والأضاة الغدير، يقال أضاة وأضا مثل قطاة وقطا وأضأة وآضاء مثل أكمة وآكام. فقيل: لولا أنه يكتب ما عرف الميم.
وحدثنا الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، عن الهيثم بن عدي، قال: قرأ حماد الراوية على ذي الرمة شعره قال: نراه قد ترك في الخط لاماً، فقال له ذو الرمة: اكتب لاماً فقال له حماد: وإنك لتكتب! قال: اكتم علي فإنه كان يأتي باديتنا خطاط، فعلمنا الحروف تخطيطاً في الرمال، في الليالي المقمرة، فاستحسنتها، فثبتت في قلبي، ولم تخطها يدي. ومن مليح ما قيل في التشبيه بلام ألف قول بكر بن النطاح:
يا من إذا درس الإنجيل ظل له * قلب التقي عن القرآن منصرفا
إني رأيتك في نومي تعانقني * كما يعانق لام الكاتب الألفا
فقيل: قلب لحال القافية، لأن المعنى كما تعانق ألف الكاتب اللام لأن الألف تعطف على اللام. والذي عندي أنه صواب لأن كل شيء عانق شيئاً، فإن ذلك الشيء أيضاً قد عانقه. وقال آخر في التشبيه بالهاء:
تنزو إذا مسها قرع المزاج كما * تنزو الجنادب أوقات الظهيرات
وتكتسي لؤلؤات في تقلبها * من الحباب شبيهات بهاءات
وفي مثله يقول أبو نواس:
ثم شجت، فأدارت * فوقها طوقاً فدارا
كاقتران الدر بالد * ر صغاراً وكبارا
خلته في جنبات ال * كاس واوات صغارا
وقال عبد السلام بن رغبان الحمصي:
فاصرف بصرفك وجه الماء يومك ذا * حتى ترى نائماً منهم ومنصرفا
فقام مختلفاً كالبدر مطلعاً * والظبي ملتفتاً والغصن منعطفا
كأن قافاً أديرت فوق وجنته * واختط كاتبها من فوقها ألفا
وقال عبد الله بن المعتز:
وكأن السقاة بين الندامى * ألفات بين السطور قيام
وقال أبو مقاتل الديلمي واسمه صالح:
شهدت لها لام الطراز بأنها * كتبت وكانت قبل عند مهندس
فإذا أدارت قاف صدغ خلتها * أخذت قوام الشكل من إقليدس
وقال أحمد بن إسماعيل:
وسال عذاره من تحت صدغ * فصارت لام ذاك الصدغ عينا
وقال بعض الأعراب يصف طوق القمرية:
كأن بنحرها والجيد منها * إذا راقت عيون الناظرينا
مداداً لاقه قلم لطيف * فصاغ به لطوق النحر نونا
وقال أبو نواس يصف ريش الصقر:
واجتاب من طرازه تفويفاً * وشياً ترى بسيطه مكفوفا
مثل استراق الكاتب الحروفا
وقال أيضاً يصف منسراً:
في هامة علياء تهدي منسرا * كعطفة الجيم بكف أعسرا
يقول من فيها بعقل فكرا * لو زادها عيناً إلى فاء ورا
فاتصلت بالجيم فصارت جعفراً
وقال غيره:
له من عيون الوحش عين مريضة * ومن خضرة الريحان خضرة شارب
كأن غلاماً ماهراً خط خطه * فجاء كنصف الصاد من خط كاتب
وقال غيره:
صدغ على خدك أبكاني * ورد لي همي وأحزاني
كأنما قومه صائغ * وخطه كاتب ديوان
وقال آخر:
وقد بدا صدغه من فوق وجنته * كمشقة عطفت من نقطة الراء
وقال محمد بن عبد الملك الزيات: ماذا تواري ثيابي من أخي دنف كأنما الجسم منه بقة الألف
وقال الثرواني الكوفي:
أما ومطال ذي خلف * به أمسيت ذا شغف
وحرمة من خضعت له * بلا ميل ولا لطف
خضوع فتى لمالكه * بذل الرق معترف
لقد أصبحت ذا كلف * بخال غير ذي كلف
كأن معاقد الزنا * ر قد عقدت على ألف
ولي من آخر قصيدة إلى بعض الرؤساء أساله حاجة:
سبقتما في حلاب المجد بينكما * فرط التجارب ميمون لميمون
فأتبع النون عيناً في المقال ولا * تؤخر الميم عن عين وعن نون
وقال عبد الصمد بن المعذل لعلي بن عيسى بن جعفر وقد شرب دواء:
وقد أهديت ريحاناً ظريفاً * به حاجيت مستمعي مقالي
وريحان النبات يعيش يوماً * وليس يموت ريحان المقال
ولم تك مؤثراً ريحان شم * على ريحان أسماع الرجال
وقال هشام بن عبد الملك لأعرابي: أنظر كم على هذا الميل من عدد الأميال? وكان الأعرابي لا يحسن أن يقرأ، فمضى ونظر ثم عاد فقال: رأيت كرأس المحجن، متصلاً بحلقة صغيرة، تتبعه ثلاثة كأطباء الكلبة، تفضي إلى هنة كأنها رأس قطاة بلا منقار. ففهم بصفته أنها خمسة.
وقال أبو نواس يشبه نحوله بقلة حروف لا:
يا عاقد القلب مني * هلاً تذكرت حلا
تركت جسمي عليلاً * من العليل أقلا
يكاد لا يتجزا * أقل في اللفظ من لا
وقال الصولي وأنشدني ابن الخراساني:
مستهتر بالصدود موصوف * مؤلف للحاظ مألوف
كأنه في اعتداله ألف * ليس لها في الكتاب تحريف
وقال أبو الهندي، وهو أشعث اليربوعي، يخاطب خمارة كانت تبيعه الخمر، فإذا أعطته كوزاً خطت عليه خطاً، فرآها تزيد عليه فقال:
إذا ما بعتني كوزاً بخط * فخطي ما بدا لك أن تخطي
وزيدي ثم زيدي ثم زيدي * على وغلظي بالله شرطي
وصبي في أبيريق صغير * كأن الأذن منه رجع خطي
وقال يهجو ابن حجام:
يا ابن من يكتب في الأ * رقاب من غير دواة
لم يكن يكتب فيها * غير خط الألفات
ما جاء في وصف القلم من الكلام المنثور
قد ذكرنا من فضل القلم، في أول الكتاب، ما يغني عن إعادته.
وقال أحمد بن يوسف: "القلم لسان البصر يناجيه بما استتر عن الأسماع، إذا نسخ حلله، وأودعها حكمه".
وقال ابن المقفع: القلم بريد القلب" وقال أبو دلف: "القلم صائغ الكلام ويفرغ ما يجمعه العلم".
وقال الجاحظ: "الدواة منهل، والقلم ماتح، والكتاب عطن".
وقال سهل بن هارون: "القلم أنف الضمير، إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره".
وقال عمرو بن مسعدة: "الأقلام مطايا الفطن".
وقال المأمون: "لله در القلم، كيف يحوك وشي المملكة".
وقال جالينوس: "القلم طبيب المنطق" فوصفه من جهة صناعته.
وقال أحمد بن عبد الله: "القلم راقد في الأفئدة. مستيقظ في الأفواه".
وقيل: "عقول الرجال تحت أقلامها".
وقال آخر: "القلم أصم يسمع النجوى. وأخرس يفصح بالدعوى. وجاهل يعلم الفحوى".
وقال أحمد بن يوسف: "عبرات الأقلام في خدود كتبتها أحسن من عبرات الغواني في صحون خدودها.
وقال العتابي: "الأقلام مطايا الأذهان".
وقال عبد الحميد: "القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر لؤلؤه الحكمة".
وقيل: "بري القلم تروى القلوب الظمئة".
وقال ابن المقفع: "القلم بريد القلب يخبر بالخبر، وينظر بلا نظر".
وقال ابن أبي دؤاد: "القلم سفير العقل، ورسوله الأنبل، ولسانه الأطول وترجمانه الأفضل".
وقال ابن أبي دؤاد: "القلم الدنيا والآخرة".
وقال آخر: "بنوء القلم تصوب الحكمة".
وقال ابن ميثم: "من جلالة شأن القلم أنه لم يكتب لله تعالى كتاب قط إلا به".
وحدثني الحسين بن عمر ويعقوب بن بيان، قالا: حدثنا علي بن الحسين بن عبد الأعلى، قال: كتب عبد الله بن طاهر إلى إسحاق بن إبراهيم، من خراسان إلى بغداد أن يوجه إليه بأقلام قصبية، كتاباً نسخته.
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإنا على طول الممارسة لهذه الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوشي، فحلت محل الأنساب، وجرت مجرى الألقاب. وجدنا الأقلام القصبية أسرع في الكواغد وأمر في الجلود. كما أن البحرية منها أسلس في القراطيس، وألين في المعاطف، ولكل عن تمريقها والتعلق بما ينبو من شظاياها ونحن في بلاد قليلة القصب رديء ما يوجد منها، فأحببت أن تتقدم في اختيار أقلام قصبية، وتتنوق في انتقائها قبلك، وطلبها من مظانها، ومرامها من شطوط الأنهار، وأرجاء الكروم. وأن تتيمم باختيارك منها الشديدة المحبس، الصلبة المغص، النقية الجلود، الغليظة الشحوم، المكتنزة الجوانب، الضيقة الأجواف، الرزينة الوزن فإنها أبقى على الكتاب، وأبعد من الحفاء. وأن تقصد بانتقائك الدقاق القضبان، اللطاف المنظر، المقومات الأود، الملمس العقد، "فلا يكون فيه التواء عوج ولا أمت. وضم الصافية القشور، الخفيفة الأتن، الحسنة الاستدارة"، الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القوام، يكاد أسفلها يهتز من أعلاها، لاستواء رؤوسها بأصولها، المستحكمة يبساً، القائمة على سوقها، قد تشربت الماء في لحائها، وانتهت في النضج منتهاها، لم تعجل عن تمام مصلحتها، وإبان ينعها، ولم تؤخر إلى الأوقات المخوفة عاهاتها من خصر الشتاء، وعفن الأنداء. فإذا استجمعت عندك أمرت بقطعها ذراعاً ذراعاً قطعاً دقيقاً تتحرز معه من أن تتشعث رؤوسها وتنشق أطرافها. ثم عبأت منها حزماً فيما يصونها من الأوعية، وعليتها الخيوط الوثيقة، ووجهتها مع من يحتاط في حراستها وحفظها وإيصالها، إذ كان مثلها يتوانى فيه لقلة خطرها. واكتب معه بعدتها وأصنافها، وأجناسها وصفاتها، على الاستقصاء؛ من غير تأخير ولا توان ولا إبطاء، إن شاء الله.
فأجابه إسحاق - ووجه إليه بالأنابيب - وليس بالجواب مما سمعته، إنما وجدته في كتاب: أتاني كتاب الأمير بما أمر به، ولخصه من البعثة إليه، بما شاكل نعته، وضاهى صفته، من أجناس الأقلام. فتيممت بغيته قاصداً لها، واستنهجت معالم سؤاله آخذاً بها، فأنفذت منها حزماً نشأت بليف السقيا، وحسن التعهد والبقيا. لم تعجل بأخداجها، ولا بودرت قبل إنضاحها. فهي مستوية الأنابيب معتدلتها، متفقة الكعوب مقومتها. لا يرى فيها أمت زور، ولا وسم صعر. وقد رجوت أن يجدها الأمير عند إرادته، وحسب بغيته. إن شاء الله.
حدثنا أحمد بن إسماعيل قال: أهدى مهد أقلاماً وكتب: أنه لما كانت الكتابة قوام الخلافة، وزينة الرياسة، وعمود المملكة، وأعظم الأمور الجليلة غايةً؛ أحببت أن أتحفك من آلتها بما يخفف عليك محمله، وتقل مع ذلك قيمته، ويكثر نفعه، ويصغر خطره. فبعثت إليك أقلاماً من القصب النابت في الأعذاء، المغذوة بماء السماء. كاللآلي المكنونة في الصدف، والأحجار المحجوبة بالسدف. تنبو عن تأثير الأسنان، ولا يثنيها غمز البنان. قد كستها طبائعها جوهراً كالوشي الخطير، وفرند الديباج المنير. فهي كما قال الكميت:
وبيض رقاق صفاح المتون * تسمع للبيض فيها صريرا
مهندة من عتاد الملوك * يكاد سناهن يغشي البصيرا
وكقداح النبل في ثقل أوزانها، وقضب الخيرزان في اعتدالها، ووشيج الخطي في أطرادها، كأنما خرطت في شهر لاستدارتها. تمر في القرطاس كالبرق اللامح، وتجري في الصحف كالماء السائح. أحسن من العقبان، في رقاب القيان.
وقيل: المختار من بري القلم أن تطيل السنين وتسمنهما، وتحرف القطة وتيمنها، وتفرق بين السطور، وتجمع بين الحروف منها. ولا تقط مبلولاً حتى يجف لئلا يتشظى.
حدثنا الحسين بن يحيى، قال: انكسر قلم لبعض الكتاب فرثاه بأبيات فقال:
ما عيب طولاً ولم يعب قصراً * عري من دقة ومن عظم
كان إذا ما تضايقت سبل ال * لفظ كفاني مخارج الكلم
لا حصر القول عند خطبته * وليس في قوله بمتهم
وجاء يوماً عبد الله بن المعتز في المسجد الجامع إلى أبي العباس أحمد بن يحيى ليسلم عليه، فقام له وأجلسه مكانه، فداس ابن المعتز قلماً فكسره فلما جلس قال لمن حوله:
لكفي وتر عند رجلي لأنها * أثارت قتيلاً ما لأعظمه جبر
فعجب الناس من سرعة بديهته!.
أهدى رجل إلى إبراهيم بن المدبر قلماً وكتب إليه: قد وجهت إليك - أعزك الله - بمفاتح العلوم باد جمالها، تام كمالها، فهي كما قال الشاعر:
ليس فيها ما يقال له * كملت لو أن ذا كملا
كل جزء من محاسنها * كائن من حسن مثلا
حدثنا أبو العباس الربعي، قال: حدثنا الطلحي، قال: حدثنا أبو العباس الربعي، قال: حدثنا الطلحي، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم قال دخل إلى الرشيد أعرابي فأنشده ارجوزة - واسماعيل بن صبيح يكتب بين يديه كتاباً، وكان أحسن الناس خطاً، وأسرعهم يداً - فقال الرشيد للأعرابي: "صف هذا"، فقال: "ما رأيت أطيش من قلمه. ولا أثبت من حلمه". ثم قال:
رقيق حواشي الحلم حين تثوره * يديك الهوينا والأمور تطير
له قلما بؤسى ونعمى كلاهما * سحابته في الحالتين ذرور
يناجيك عما في ضميرك لحظه * ويفتح باب النجح وهو عسير
فقال الرشيد "قد وجب لك يا أعرابي عليه حق هو يقضيك إياه، وحق علينا فيه نحن به. ادفعوا إليه دية الحر"، فقال له: "على عبدك دية العبد".
ومن مليح ما في القلم ما أنشدناه محمد بن زياد الزيادي، لعمر بن إبراهيم بن حبيب العدوي يرثي قلماً له سرق:
يا عين جودي بواكف سجم * جودي بدمع مشبع بدم
لا تطعمني عقدة وكيف وقد * أسيت حرى لفجعة القلم
جودي على الناطق البليغ إذا اس * تنطق من غير منطق وفم
لا حصر القول عند خطبته * وليس في حكمه بمتهم
حلت عرى الحزم منه جانحة * ضمت بها عربها إلى العجم
أصفر في حمرة كأن على * جلدته بردة كلون دم
إذ أنها والقرطاس لاح له * مج عليه حنادس الظلم
ما عيب طولاً ولم يعب قصراً * عري من دقة ومن عظم
إن قدح العائبون فيه بأن * صم فأكرم به أخا صمم
كان إذا ما تضايقت سبل ال * لفظ كفاني مخارج الكلم
حسبك منه لسان مطلع آل * ناظر في ظاهر ومكتتم
ينبيك إن لجلج الغبي بما * أضمر من خبر عالم فهم
فاذهب حميداُ كما قد فقدت وما * فقدت منا مناعت الكرم
حدثني يعقوب بن بيان الكاتب قال: قال بعض الكتاب: "القلم الرديء كالولد العاق".
وقالوا: "القلم أحد اللسانين، والعلم أحد الأبوين، والتثبت أحد العفوين، والمطل أحد المنعين وقلة العيال أحد اليسارين، والقناعة أحد الرزقين، والوعيد أحد الضربين، والإصلاح أحد الكسبين، والرواية أحد الهاجيين، والهجر أحد الفراقين، واليأس أحد النجحين، والمزاح أحد السبابين".
وقال: "القلم لسان اليد".
وفاخر صاحب سيف صاحب قلم، فقال صاحب القلم: "أنا أقتل بلا غرر، وأنت تقتل على خطر". فقال صاحب السيف: "القلم خادم السيف، فإن بلغ مراده وإلا فإلى السيف معاده. أما سمعت قول أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب * في حده الحد بين الجد واللعب
وقال آخر: "مساق أمر الدنيا بسين وقاف فيقال سق" يريد السيف والقلم.
حدثني وكيع قال: حدثني جعفر بن كوال قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: "لسان الإنسان قلم ملكه الموكل به ومداده، وقرطاسه جلده، يملي عليه كتاباً إلى ربه. فلينظر الإنسان قبل فوت النظر ماذا يملي".
ذكر ما قيل في القلم من الشعر
قال أبو تمام:
لك القلم الأعلى الذي بشباته * تصاب من الأمر الكلى والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه * وأري الجنى اشتارته أيد عواسل
له ريقه طل ولكن وقعها * بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقته وهو راكب * وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت * عليه شعاب الفكر وهي حوافل
إذا استغزر الذهن الذكي وأقبلت * أعاليه في القرطاس وهي سوافل
وقد رفدته الخنصران وسددت * ثلاث نواحيه الأنامل
رأيت جليلاً شأنه وهو مرهف * ضنى وسميناً خطبه وهو ناحل
وقال أحمد بن إسماعيل: أحسن قدود القلم، أن لا يجاوز به الشبر بأكثر من خلقته، وأن تبعد منه الأنامل الثلاث، ويؤخذ من أوسطه لأنها إذا أدنيت منها لم تؤمن أن يماس القرطاس بها فتسوده.
وقد مدح الشاعر بعض الكتاب بنحو من وصفه هذا فقال:
شريف الصناعة محمودها * تساعده الكف والمقول
يقيم من الخط أشكاله * ويأخذ أقلامه من عل
وقال غيره يصفه بمقدار الشبر:
له ترجمان يطرب اللفظ أخرس * على حذو شبر أو يزيد على الشبر
له منخر في غير وجه ويهتدى * بمر جناحين استعيرا من الفكر
إذا خر يوماً ساجداً عند وحيه * تضعضع أصحاب المثقفة السمر
يدمر أقواماً وينعش معشراً * ويصدر آراء الملوك وما يدري
قال أبو بكر: ولي من قصيدة في بعض الرؤوساء أذكر هذا المعنى:
يتفادى أعداؤه من خطيب * بيديه يروض عقلاً وفكرا
ناحل الجسم ليس يعرف من كا * ن نعيماً وليس يعرف ضرا
ناطق في الورى بلفظ سواه * مذهب اللون قد تطرف جرا
قلم يجلب السواد ويجري * مع جري المداد نفعاً وضرا
ضامر الكشح مخطف الجيد م * ذ حذف شابوره وقدر شبرا
ويد ما تزال تنتشر وشياً * في قراطيسه وتنثر درا
وقال الفضفاضي:
في كفه أخرس ذو منطق * بقافه واللام والميم
شبر إذا قيس ولكنه * في فعله مثل الأقاليم
محرف الرأس ومسوده * كإبرة الروس من الريم
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: قلت قول عدي بن الرقاع العاملي، في صفة طرف قرن الرشا، وهو ولد الظبي، وتشبيهه بالقلم قال عدي:
تزجي أغن كأن إبرة روقه * قلم أصاب من الدواة مدادها
ويروى أن جريراً قال - وكان حاضراً - لعدي وهو ينشد هذه القصيدة، لما أنشد صدر البيت: "تزجي أغن كأن إبرة روقه". رحمته وقلت هلك فلما قال: "قلم أصاب من الدواة مدادها" حالت الرحمة حسداً. وأخذ البيت الثاني من هذه الثلاثة أبيات ابن الرومي فقال يهجو ويصف هن امرأة:
يملأ السبعة الأقاليم طراً * وهو في إصبعين من إقليم
ولحمدان الدمشقي من أبيات:
أهدت له الحية الرقشاء جلدتها * لما استعارت لساناً منه مقدودا
وله في نحو هذا البيت:
الأيم نفثته وشق لسانه * وله إذا لم تجره اطراقه
فكأنه النضناض إلا أنه * من حيث يجري سمه ترياقه
وقال غيره من أبيات:
ولأقلامهم زئير مهيب * يزدري عنده زئير الأسود
أرغبتهم عن القنا قصبات * مغنيات عن كل جيش مقود
والقراطيس خافقات بأيد * يهم كمرهوب خافقات البنود
وكتبت إلى أبي علي محمد بن علي في أيام ابن الفرات الأولى بقصيدة منها:
مشف على الرأي نظار عواقبه * إذا تشابه وجه الرأي واجتجبا
في كفه صارم لانت مضاربه * يسوسنا رغباً إن شاء أو رهبا
السيف والرمح حدام له أبداً * لا يبلغان له جداً ولا لعباً
يرمي فيرضيهما عن كل مجترم * ويعصيان على ذي النصح إن غضبا
تجري دماء الأعادي بين أسطره * ولا يحس له صوت إذا ضربا
فما رأينا مداداً قبل ذاك دماً * ولا رأينا حساماً قبل ذا قصبا
وقد شككنا فما ندري لشربته * أنظم الدر في القرطاس أن كتبا
وقال آخر في سفر طويل:
وعاشق تحت رواق الدجى * أغرى به الحيرة فقدان
أعرب عن مكنون إضماره * أحوى لطيف الكشح خمصان
يتيح غدراً لثرى جادها * من باكر الوسمي هتان
يحوك وشياً نقش ديباجه * بلاغة تسدى وبرهان
وفيه للناظر أعجوبة * يكسو عراة وهو عريان
كأنما الدنيا بأقطارها * له إذا ما أجبت ميعان
تجري به خمس مطايا له * مختلفات القصد أقران
كأنها من ضم تركيبها * من خالص الفضة قضبان
له لسان مرهف خده * من ريقة الكرسف ريان
في دقة المعنى إذا أغرقت * القول في التدقيق أذهان
كأنما يفتر عنه إذا * ما افتر للمنطق ثعبان
ترى بسيط الفكر في نظمه * شخصاً له حد وجثمان
كالحلي إلا أنه أحرف * بيض المعاني وهي سودان
كأنما يسحب في إثرها * ذيلاً من الحكمة سحبان
لولاه ما قام منار الهدى * ولا سما بالملك ديوان
وقال أبو يزيد عتاب بن ورقاء:
لك القلم الذي لم يجري إلا * أبان لك العدو من الولي
إذا استرعفته ألقى سواداً * على القرطاس أبهر من حلي
فيا طوبى لمن أدلى إليه * بإحسان وويل للمسي
شباة سنانه في الحرب أمضى * وأنفذ من شباة السمهري
فقال:سلاح مثلك وهو يعزى * سلاح الفارس البطل الكمي
وأنشدني عون:
وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق * له ذملان في بطون المهارق
إذا استمطرته الكف جاد سحابه * بلا صوت إرعاد ولا صوت بارق
كان اللآلي والزبرجد نظمه * ونور الأقاحي في بطون الحدائق
كان عليه من دجى الليل حلة * إذا ما استهلت مزنة للصواعق
إذا ما امتطى غر القوافي رأيتها * مجللة تمضي أمام السوابق
وأنشدني عون للفضفاضي:
لك القلم الذي لم يجر يوماً * لغاية منطق فكبا لعي
ومبتسم من القرطاس يأسو * ويخرج وهو ذو بال رخي
فما المقدار أمضى من شباه * ولا الصمصام سيف المذحجي
قال أبو بكر: ولي من قصيدة، مدحت بها ابن الفرات، في وزارته الأولى:
في يديه محكم في ذوي اللب * وما فيه إن تبينت لب
شهد السيف أنه السيف حقاً * ناقص القدر زائد الحد عضب
وسيوف العداة انفذ جداً * حين تعدى بدرة الموت حرب
من رأى مثل ما وصفت حساماً * نافذ ضربه وما منه ضرب
كل يوم له ولم يلق كيداً * من دماء العصاة ولع وخضب
قال أبو بكر: ولي من قصيدة طويلة مدحت بها بعض الرؤساء:
في يدك الأعلى محلى به * تواصل الضرب مع الطعن
إن نبه السيف لأمر له * جاء إليه مرعد المتن
ينظر ما يهوى بلا ناظر * ويسمع السر بلا أذن
يذري دموع العاشق المبتلى * يطعن من يهواه في الطعن
فيضحك الملك بكاء له * لم يك من غم ولا حزن
ترى لديه فصحاء الورى * إذا امتطى القرطاس كاللكن
سيف على الأعداء لكنه * لم يغتمضه ظلم الجفن
وأنشدني أحمد بن محمد بن إسحاق:
ما ضر من أضنى بهجرانه * قلب كئيب القلب حرانه
لو فرج الكربة عن مدنف * تشقه لوعة أحزانه
برقعة ينظمها كفه * نظم لآليه ومرجانه
بمرهف الأحشاء ذي حلة * موشية ترفع من شانه
لعابه عيش وموت إذا * جاد به تفليج أسنانه
إذا امتطاه بشبيهاته * كشف أسراراً بإعلانه
يركض في ميدان قرطاسه * ركض جواد وسط ميدانه
حدثنا أحمد بن أبي الموج البازي قال: أنشدني الحسين بن عبد الله العبدي الهمداني لنفسه:
حين نادى حاديهم بانطلاق * وجرى بالفراق طير الفراق
ورأى العاشقون أن لا معين * هو أجدى من عبرة واحتراق
ظلت أشكو صبابتي وإنني * متحل بحيلة العشاق
ناحل جسمه كأن يد البي * ن سقته منه بكأس دهاق
أخرس في لسانه للعطايا * والمنايا عتاد ريق مراق
فإذا مجه أتى بلعاب ال * ليل حلو الخطاب مر المذاق
وشبيهاته ثلاث حوته * هن منه مفاتح الأرزاق
يمتطيهن ثم يرتجل القول * لفصل الخطاب في الآفاق
فتراه بمصر يحكم ما شا * ء وبالصين وهو خلف العراق
وله في صفة القلم أبيات من قصيدة في بعض الرؤساء:
له القلم الأعلى الذي سار عدله * وتدبيره ما بين بر إلى بحر
يشابه حد السيف رقة حده * وينسب لوناً في المثقفة السمر
ويبلغ ما لم يبلغا في عدوه * إذا رد من طي الدواة إلى النشر
تصرفه منه ثلاث أصابع * وكف براها الله للنفع والضر
إذا ما حوته وامتطى بطن مهرق * تسطر نوراً فوق أرض من الدر
إذا أظلم الدهر الخؤون بصرفه * أبان له إحسانه وضح الفجر
قال أبو بكر: وكنت أنشدت العباس بن الحسن قصيدة استحسنها الناس، ووصفوا بيتاً فيها عنده أخذه ذكرويه:
المستبيح سن القرامط راية * لما استباحوا حرمة الإسلام
أجرى المداد بكيدهم فكأنما * أجرى دمائهم على الأقلام
حدثني محمد بن أحمد الأنصاري، قال: دخل عيسى بن فرخانشاه على جارية وهي تكتب خطاً حسناً فقال:
سريعة جري الخط تنظم لؤلؤاً * وينثر دراً لفظها المترشف
وزادت لدنيا حظوة ثم أقبلت * وفي إصبعيها أسمر اللون مرهف
أصم سميع ساكن متحرك * ينال جسيمات المدى وهو أعجف
وقال بعض الوراقين يصف قلمه ويمدحه ويذكر استغناءه:
يا مجيري من سطوة الأمراء * وعميدي في نوبة اللأواء
والذي صان حر ديباجة الوج * ه عن الأسخياء والبخلاء
والذي لا أزال أنعت في الشعر وأطريه غاية الإطراء
وسفيري بما أريد من الأم * ر إلى إخوتي من الأدباء
والذي لا يزال يخبر في المهرق عن سالف الأنباء
وإذا ما ابتعثته استن كالثا * قب يفري دجنة الظلماء
وقال عبد الله بن المعتز في القاسم بن عبيد الله:
قلم ما أراه أو فلك يج * ري بما شاء قاسم ويدور
راكع ساجد يقلب قرطا * ساً كما قلب البساط شكور
وفيه يقول:
عليم بأعقاب الأمور كأنه * لمختلفات الظن يسمع أو برى
إذا أخذ القرطاس خلت يمينه * يفتح نوراً أو ينظم جوهرا
وقال ابن الرومي فأحسن:
لعمرك ما السيف سيف الكمي * بأخوف من قلم الكاتب
له شاهد إن تأملته * ظهرت على سره الغائب
أراه المنية من جاني * ه فمن مثله رهبة الراهب
ألم تر في صدره كالسنان * وفي الردف كالمرهف القاضب
وقال أبو أسامة الكاتب كاتب عياض:
وأعجف مشتق الشباة مقلم * موشي القرى طاوي الحشا أسود الفم
تبين خفي السر آثاره لنا * ويعرب عن غير الضمير المكتم
يؤدي صحيح القول عنه مخاطباً * به العين دون السمع لا بالتكلم
إذا استغزرته الكف فاضت سجاله * من الفكر فيض الرايح المتغيم
وقال صالح بن عبد الملك بن صالح يخاطب كاتب أبيه:
أجريت فوق صدور كتبك دامغاً * يبكيه ضحك الفكر والأوهام
ميتاً تشافهه القلوب بعلمها * يبدي ضمائرها بغير كلام
مستعجماً فإذا اللواحظ ترجمت * عنه أتى بفصاحة الأعجام
تجري سناكب بغير حوافر * فيديرنا ورداً بغير لجام
قال: ودخل محمد بن ذؤيب العماني الراجز على الرشيد، فأنشده أرجوزة يصف فيها فرساً شبه أذنيه فيها بقلم محرف:
كأن أذنيه إذا تشوفا * قادمة أو قلماً محرفا
فقال له الرشيد: دع كأن، وقل: "تخال أذنيه إذا تشوفا" حتى يستوي الإعراب.
ما قيل في القلم وبريه
حدثنا أحمد بن إسماعيل بن الخصيب قال: من كلام مسلم بن الوليد الأنصاري، في صفة بري القلم قوله: "حرف قطة قلمك قليلاً ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليرد ما استودعته إلى مقصده، وشق في رأسه شقاً غير عاد ليحتبس الاستمداد عليه، ورفع من شعبتيه ليجمعا حواشي تصويره. فإذا فعلت ذلك استمد القلم برشفه بمقدار ما احتملت ظبته فحينئذ يظهر به ما سداه العقل، وألحمه اللسان، وبلته اللهوات، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، وقبلته القلوب".
ويقال: بريت القلم أبريه برياً فأنا بار له والقلم مبري. وكذلك بريت القدح والمغزل وهو أخذك منهما حتى يتقوما على إرادتك قليلاً قليلاً، لأنك إن لم تفعل ذلك برفق قطعته.
وقال عبد الله بن مصعب:
قد طالما قد بروا بالجود أعظمنا * بري الصناع قداح النبع بالسفن
وقلما يلبث شيء على البري إذا لم يك صلباً قوياً في جنسه، فلذلك يستجاد للقلم القصب. ألا ترى إلى قول كثير:
ولن يلبث الواشون أن يصدعوا العصا * إذا لم يكن صلباً على البري عودها
ويقال لجميع ما يسقط من قلم وسهم ومغزل إذ بري البراية.
وقال أوس بن حجر يصف صانعاً لقوس يبريها بمبراته:
على فخذيه من براية عودها * شبيه سفى البهمى إذا ما يفتلا
ويقال لما بين العقدتين من القصب أنبوب، والجمع أنابيب.
وكان بعض الكتاب يجيد الخط ولا يجيد برى القلم، فيبرى له. وبعضهم يرى أن في ذلك مهنة يترفع عنها. وقال بعض الكتاب:
لم ترني قط بارياً قلماً * في بريه كل مهنة وضعه
ما كل من يحمل الحسام لكي * يردي به سنه ولا طبعه
وقد عيب بعض الكتاب بأنه لا يجيد بري القلم فقيل فيه:
دخيل في الكتابة ليس منها * فما يدري دبيراً من قبيل
إذا ما رام للأنبوب برياً * تنكب عاجزاً قصد السبيل
فكائن ثم من قطع رحيب * لأصبعه ومن قلم قتيل
وكأن اشتقاق القلم من التقليم، وهو القطع ومنه تقليم حافر الدابة ومنه قلمت ظفري. وكل شيء تبري به شيئاً وتقطعه فهو مبراة والجمع مبار، والمبراة السكين الذي يبرى به القوس ثم جعلوا ما يقطع مبراة.وقال امرؤ القيس يصف قرن ثور:
فكر إليه بمبراته * كما خل ظهر اللسان المجر
المجر الفاعل، وأصل الإجرار أن يشق طرف السان لسان الفصيل حتى لا يرضع أمه، وخله جعل فيه خلالاً. وذكر امرؤ القيس أن الثور طعن كلب الصيد ففعل به هكذا. وكان الوجه أن يقول: فكر إليه بمبراته فخله كما خل، فاستغنى عن قوله "فخله" لعلم المخاطب بما يريد.
والبراية ما سقط من القلم إذا بريته والليطة ما كان من قشر الأنبوب والجمع ألياط مثل عنب وأعناب وليط وألياط مثل جمل وأجمال. والشظية ما تشظى من الأنبوب والجمع شظايا وشظي القلم يشظى شظاً إذا صارت مع أحد سنيه شظية عنه. وأصل التشظي في اللغة "التفرق والتشقق" وشظي الفرس تفرق عصبه وتشقق. وقالوا: شظية وشظايا مثل بلية وبلايا وشظاة مثل نواة ونوى لا يكتب إلا بالألف لأنه يقال ثلاث شظايا وشظوات. وحفى القلم يحفى وحفاء وحفاية وكذلك في غيره.
ومن وصف الكتاب
حدثني القاسم بن إسماعيل قال: رأى ابن شبل البرجمي إبراهيم بن العباس وهو يكتب فقال:
ينظم اللؤلؤ المنثور منطقه * وينظم الدر بالأقلام في الكتب
حدثنا الحسن بن علي الكاتب قال: حدثني سليمان بن وهب قال: رآني أبو تمام وأنا أكتب كتاباً فقال: "يا أبا أيوب كلامك ذوب شعري". وأنشدني محمد بن الفضل بن الأسود:
إذا شئت يوماً أن ترى بهم الوغى * بلا هز طي ولا سل قاضب
فحرك عنان الطرف نحو معاشر * وجوههم في الملتقى كالكواكب
يهزون صفر الحطيات كأنها * أنامل ربات الحدور الكواعب
إذا أرعفوها زينت برعافها * قراطيس تحكى واضحات الترائب
وشبيه بالبيت الثالث قول القصافي يصف جارية كاتبة:
أفدي البنان وحسن الخط من علم * إذا تقمص بالحناء فالكتم
كأنما قابل القرطاس من يدها * شبها ثلاثة أقلام على قلم
حدثنا الحسين بن علي البامطاني لسليمان بن وهب قال، وكان قلمه يصر من شدة اعتماده عليه:
إذا ما حددنا وانتضينا قواطعا * أصم الذكي السمع منها صريرها
تظل المنايا والعطايا شوارعاً * تدور بما شئنا وتمضي أمورها
يساقط في القرطاس مها بدائعاً * كمثل الآلي نظمها ونثيرها
يقود أبيات البنان بفطنة * تكشف عن وجه البلاغة نورها
إذا ما الخطوب الدهم أرخت ستورها * تجلت بنا عما تسر ستورها
وأنشدنا يعقوب بن بيان:
لك حزم يلقى الخطوب بعزم * مستفل بكل أمر جليل
ولسان في الحفل غير كليل * بالغ في جوامع وفضول
ويد لم تزل من العز والسل * طان بين التوقيع والتقبيل
الجزء الثاني
ما قيل في الدواة
أنشدنا أحمد بن محمد بن إسحاق، قال: أنشدني أبو هفان:
آلة المجلس الظريف إذا ما * كنت فيه الدواة والأقلام
يتهادى فيه البلاغة والآ * داب منثورها معاً والنظام
قال أبو بكر: أما المشهور مما قيل فيها فشعر بعض الكتاب، وقد أهدى دواة محلاة بذهب، وهي من الأبنوس:
قد بعثنا إليك أم المنايا * والعطايا نجية الأحساب
تتزيا بصفرة وكذا الزنج تزيا عجباً بصفر الثياب
ريقها ريق نحلة مع صاب * حين يجري لعابها في الكتاب
في حشاها لغير حرب حراب * هن أمضى من مرهفات الحراب
وقال غيره:
وما أم أولاد ولما تلدهم * عقام إذا ما استنجدت لم تكلم
وأولادها خرس ويأتيك عنهم * أحاديث من أيام طسم وجرهم
إذا استعجلوا في حالة أرقلت بهم * أثافي من لحم كريم ومن دم
وشكا بعض الكتاب أن دواته بلا مداد، فقال لبعض أخوانه يطلب منه مدداً:
أنا أشكو إليك أن دواتي * وهي عوني في حاجتي وعتادي
عطلت من مدادها واستعاضت * يقق اللون من حلوك السواد
لم تزل من بنات حام فصارت * من بني يافث بغير ولاد
أنت للحادثات عدة صدق * خلق أن تمدها بمداد
وأنشدنا علي بن الصباح:
دواة حديد زين الله خلقها * بكف فتى حلو الكتابة حاذق
تدير العطايا والمنايا حرابها * إذا طعنت في شاكلات المهارق
ولأحمد بن إسماعيل في وصف الدواة، إلا أن وصف القلم يتقدمها في أبياته:
في كفة مثل سنان الصعده * أرقش بز الأفعوان جلده
يلتهم الجيش اللهام وحده * كأنه متشح ببرده
لو صادم الطرد المنيف هده * أو صافح السيف الحسام قده
يأوي إلى طير له معده * يمزج فيه صبر بشهده
ترضعه من مقلة مسوده * يمدها جار كثيف العده
كأنه الليل إذا استمده * مقلتها مكحولة بنده
قوله: "كأنه الليل إذا استمده"ن يشبه قول ابن الرومي يصف حبر أبي حفص الوراق:
كأنه ألوان دهم الخيل * حبر أبي حفص لعاب الليل
يسيل للإخوان أي سيل * بغير ميزان وغير كيل
وعلى ذكر الخبر فإنا نذكر قول بعض الوراقين:
ولجة بحر أجم العباب * بادي تياره يزخر
تثور إذا جاش من قعرها * بذورتها حمم تفطر
فأكرم ببحر له لجة * جواهرها حكم تنثر
وقال بعضهم: إنما سمي الحبر حبراً لأنه تحبر به الأخبار. أنشدني الحمدوني لنفسه:
ثنتان من أدوات العلم قد ثنتا * عنان شأوي عما رمت من وهممي
أما الدواة فأودى حملها جسدي * وقلم المال مني حرفة القلم
وحبرت في صحف الحرف محبرة * تذود عني سوام المال والنعم
ونحوه، وليس هو، مما قصدناه في كتاب الكتاب، ولكنه اعترض فجئت بما أحفظ فيه لغير الحمدوني: جمعت حروف الحرف في الحبر كلها ولول شقائي ما عرفت المحابرا
وقد زاد بي الإخفاق في كل موطن * لحملي في كمي إليه الدفاترا
وسطر في أثناء قلبي تعللا * طلابي لما أن عرفت المساطر
وفي مثله:
لما أخذت حروف الخط حرفني * عن كل حظ وجاءت حرفة الأدب
أقوت منازل مالي حين أوطنها * منحيا سفط الآداب والكتب
وقال آخر:
أدمى البكا جفني والمآقي * وظلت ذا هم وذا احترق
ما أن أرى في الأرض والآفاق * أدنى ولا أشقى من الوراق
إذا أتى في القمص الأخلاق * رايته مطنزة العشاق
يفرح بالأقلام والأوراق * كفرحة الجندي بالأرزاق
قال أبو بكر: حدثني أحمد بن محمد الأنصاري، قال: قيل لوراق: ما تشتهي? قال: قلماً مشاقاً، وحبراً براقاً، وجلوداً رقاقاً.
وقال بعض المحدثين في محبرة:
ولقد غدوت إلى المحدث آنفاً * فإذا بحضرته ظباء رتع
وإذا ظباء الأنس يكتب كل ما * يملى وتحفظ ما يقال وتسمع
يتجاذبون الحبر من ملمومة * بيضاء تحملها علائق أربع
من خالص البلور غير لونها * فكأنها سبج يلوح ويلمع
إن نكسوها لم تمل ومليكها * فيما حوته عاجلاً لا يطمع
ومتى أمالوها ارشف رضابها * أداه فوها وهي لا تتمنع
فكأنها قلب رصين سره * أبداً ويكتم كل ما يستودع
يمتاحها ماضي الشباة مذلق * يجري بميدان الطروس فيسرع
رجلاه رأس عندها لكنه * تلقاه برجفاة ساعة يطلع
فكأنه والحبر خضب رأسه * شيخ لوصل خريدة يتصنع
لم لا ألاحظه بعين جلالة * وبه إلى الله الصحائف ترفع
وقد قال بعض الكتاب: حكم الدواة أن تكون متوسطة في قدرها، نصفا في قدها، لا باللطيفة جداً فتقصر أقلامها، ولا بالكبيرة فيثقل حملها. لأن الكاتب - ولو كان وزيراً مائة غلام مرسومون بحمل دواته - مضطر في بعض الأوقات إلى حملها ووضعها ورفعها بين يدي رئيسه، حيث لا يحسن أن يتولى ذلك منها غيره، ولا يتحملها عنه سواه. وأن يكون عليها من الحلية أخف ما يتهيأ أن يتحلى الدوي به من وثاقة ولطف صنعة، ليأمن أن تنكسر أو تنفصم منها عروة في مجلس رياسة أو مقام محنة. وأن تكون الحلية ساذجة، لا حفر ولا ثبات فتحمل القذى والدنس، ولا نقش عليها ولا صورة لأن ذلك من زي أهل التوضع، لا سيما في آلة يستعان بها مثل هذه الصناعة الجليلة المستولية على تدبير المملكة، وإن أحرقت الفضة حتى يكون سوادها أكثر من بياضها، فإن ذلك أحسن وأبلغ في السرو وأشبه بقدر من لا يتكثر بالذهب والفضة.
وقد حكى عن المأمون أنه رأى على أسنان دابة له فضة فنهى عن استعمالها وقال: إنما يتكثر بالذهب والفضة من قلا عنده.
وكذلك قال المنصور للمهدي وقد رأى تحته سرجاً لجامه مفضض: أترى الناس لا يعلمون أنك من وراء كل شيء تريده فأنزل هذا اللجام.
حدثنا أحمد بن يزيد المهبلي قال حدثني أبو هفان قال سألت وراقاً عن حاله فقال "عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس سواداً من الحبر، وحظى أحقر من شق القلم، وبدني أضعف من قصبة، وطعامي أمر من العفص، وسوء الحال ألزم لي من الصبغ". فقلت له: عبرت عن بلاء ببلاء.
وقال آخر:
ترى الرشا والحبل أنبوبة * يقلب ماء اسوداً من قليب
روض الندى ينبت زهر اللهى * وهذه تنب زهر القلوب
وسئل وراق عن حاله فقال:
إذا كنت بالليل لا أكتب * وطول النهار أنا ألعب
فطوراً يبطلني مأكل * وطوراً يبطلني مشرب
فإن دام هذا على ما أرى * فبيتي أول ما يخرب
ولا يستحسن أن يكثر عدد الأقلام في الدواة، فأحسن ذلك أن تكون أربعة إلى ما دون ذلك. وقد قيل فيه:
لا أحب الدواة تحشى يراعا * تلك عندي من الدوي معيبة
قلم واحد وجودة خط * فإذا شئت فاستزد أنبوبه
هذه قعدة الشجاع عليها * سيره دائباً وتلك جنيبه
ويقال: دواة ودويات لأدنى العدد وفي الكثير دوي. وقال أحمد بن ثور يصف ناقته:
كأن توشي أقرانها * إذا ما نشحن مخط الدوي
نشحن: عرقن. وجمع الدوى دوي. وأراد بمخط الدوي مخط أقلام الدوى، فاستجار ذلك لأن المعنى لا يشتبه كقوله عز وجل: "واسأل القرية" يريد أهل القرية.
وأنشد الفراء:
لمن الدار كخط بالدوى * أقفر المعروف منها وانمحى
ويقال: حليت الدواة أحليها تحلية وحلية حسنة وجمع الحلى الحلي مثل ثدى وثدي. وقالوا: حليت الرجل إذا أخذت علامات من جسده، أحليه تحلية، وهذه حلية الرجل وجمعها حلى وحلى بضم الحاء وكسرها قد قرئ "من حليهم عجلاً" و "من حليهم". ودواة ودوى مثل نواة ونوى، ودواة ودوى مثل فتاة وفتى، ودواة ودويات مثل حصاة وحصيات، ويقال دواة ودوايا وهي رديئة، قال الشاعر:
إذا نحن وجهنا إليكم صحيفة * ألقنا الدوايا بالدموع السواجم
إلاقة الدواة
يقال ألقت الدواة أليقها إلاقة، إذا أدرت كرسفها حتى تسود، وألاقوا بينهم كلاماً أي أداروه بشرعة، ومنه القراءة: "إذ تلقونه بألسنتكم"، أي تديرونه بسرعة، وقال بعض المفسرين: تلقونه تسرعون منه إلى ما لا تعلمون. وقال ابن الرقيات: جاءت به عيسى من الشام تلق
أي تسرع وقراها يحيى بن يعمر. وحقيقة ألاق الدواة في اللغة إنما هو أدار المداد فيها حتى لصق وعلق، ومنه قولهم لا يليق هذا بهذا أي لا يلصق به ولا يعلق.
قال أبو بكر: حدثنا محمد بن القاسم، قال: حدثنا الأصمعي قال: قدمت على الرشيد في بعض قدماتي فقلت: "ما ألاقتني الأرض حتى رأيت أمير المؤمنين"، فلما خرج قال: ما معنى ألاقتني قلت: ما ألصقتني بها ولا قبلتني.
والصواب المختار أن يقول ألقت الدواة فأنا مليق لها وهي ملاقة.
وحكي عن ابن دريد: ألقت الدواة ولقت من لاق يليق فهو لائق وذاك مليقة من هذا والمصدر لاق ليقا وليوقا. وما لاقت المرأة عند زوجها أي ما لصقت بقلبه. ولاقت الدواة صارت هي نفسها مليقة. وفلان ما يليق شيئاً أي ما يثبت في يده شيء. وأنشدنا محمد بن الفرج أبو جعفر المعري قال: أنشدنا محمد بن أحمد الطوال عن أبي الحسن الكسائي في لاق الدواة ليقاً:
لو يكتب الكتاب عرفك فرغوا * ليق الدوى وانفذوا الأقراما
الكرسف وما قيل فيه
قال أبو بكر: الكرسف القطن خاصة دون غيره، ثم صاروا يسمون كل شيء وقع موقعه في الدواة من صوف وخرقة كرسفاً قال طرفة:
وجاءت بصراد كأن صقيعه * خلال البيوت والمنازل كرسف
وكرسفت الدواة جعلت لها كرسفاً والجمع كراسف. قال وهب الهمداني:
سحاب حكى القرطاس لون صبيره * وعاد به جو العواصف أكلفا
إذا كتبت فيه يد البرق أسطراً * يلبس وجه الأرض بالثلج كرسفا
ما قيل في المداد
قال بعض الكتاب: ليكن الكرسف في نهاية ما يكون من السواد، ولتكن الليقة التي نهاية اللين والنعمة، والأجود أن تكون مستديرة، فإن كان كذلك أجزأ الكاتب أن يسمها روق القلم، ولا يلحقه كلفة ولا إبطاء في الاستمداد. وإن حفر الموضع الواقع على الليقة من الغطاء وغشي بأرق ما يكون من الفضة، حتى إذا أطبقت الدواة تجافى ذلك الموضع عن الليقة، فلم ينله شيء من سوادها، كان ادعى إلى النظافة والسلامة وأكثر الدري لا تسلم منها ما لم تكن على ما وصفنا.
ويعنى بتعهد الليقة والكرسف بالملح والكافور، وإن غيرت في كل يومين أو ثلاثة كان آمن لتغيرها وربما أغفل ذلك فاستكرهت الرائحة وظهر من نتنها ما يخجل له. وتهيا ذلك على بعض الكتاب حتى ظن رئيسه أنه أبخر فشكا ذلك إلى نديم له فقال النديم: ما عرفت ذلك منه، ولكن لعلة أغفل ذلك من أمر دواته وتفقدها. فقال الرئيس: عذره في بخره أبسط عندي منه في نتن دواته، لأنه في ذلك مضطر وهو في هذا مختار. ثم نبهه نديمه على ذلك فلم يجر عليه بعد. وقال بعض الشعراء في هذا المعنى يهجو كاتباً:
دخيل في الكتابة ليس منها * له فكر تعد ولا بديه
تشاكل أمره خلقاً وخلقاً * فظاهره لباطنه شبيه
كأن دواته من ريقه فيه * تلاق فنشرها أبداً كريه
وقال أحمد بن إسماعيل حذراً من هذا:
كأنما النقس إذا استمده * غالية مذوقة بنده
قال وأنشدنا أحمد بن إسماعيل للحسن بن وهب:
مداد مثل خافية الغراب * وقرطاس كرقراق السراب
وأقلام كمرهفة الحراب * وألفاظ كأيام الشباب
وأحمد بن إسماعيل الذي يقول:
وإذا نمنمت بنانك خطاً * معرباً عن إصابة وسداد
عجب الناس من بياض معان * يجتنى من سواد ذاك المداد
والمداد كل شيء يمد به هذا أصله قال الأخطل:
رأت بارقات بالأكف كأنها * مصابيح سرج أوقدت بمداد
يريد بدهن أمدت به كثر الأستعمال لما تمد به الدواة فقلب كل شيء غيره فإذا قيل: مداد، لك يعرف شيء غيره وقال بعض الكتاب يمدح المداد:
من كان يعجبه في صحن عارضه * مسك يطيب منه الريح والنسما
فإن مسكي مداد فوق أنملتي * إذا الأصابع مني مست القلما
وقال آخر:
وما روض الربيع وقد زهاه * ندى الأسحار يأرج بالغداة
بأعبق أو بأطيب من نسيم * تؤديه الألاقة من دواة
وقالوا: "المداد خضاب الرجال". وقال آخر:
إنما الزعفران عطر العذارى * ومداد الدواة عطر الرجال
حدثني يعقوب بن بيان قال: كتب إبراهيم بن العباس يوماً كتاباً فأراد محو حرف منه، فلم يجد سبيلاً فمحاه بكمه، فقيل له في ذلك، فقال: المال فرع والقلم أصل، فهو أحق بالصون منه، وإنما بلغنا هذه الحال واعتقدنا الأموال بهذا القلم والمداد ثم قال:
إذا ما الفكر أظهر حسن لفظ * وأداه الضمير إلي العيان
رأيت حلى البنان منورات * تضاحك بينها صور المعاني
ويقال: مددت الدواة جعلت فيها مداداً وكل شيء زدت فيه فإنك تقول: مددته أمده مداً. قال الله تعالى: "والبحر يمده من بعده سبعة أبحر". وإذا أمرت قلت: مد الدواة بكسر الدال. ومد الدواة تتبع الضمة الضمة وإمداد الدواة. ولا يقال أمددت إلا ما كان على جهة الإعانة كقولك: أمددته بمال ورجال، ومنه قوله عز وجل: "أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين". ومنه: "أمددناكم بأموال وبنين". أي أعناكم وقربناكم. ويقال مداد ونقس بالسين وكسر النون، والكثير أنقاس.
وقال حميد بن ثور:
لمن الديار بجانب الحمس * كمخط ذي الحاجات بالنفس
وأنشدنا محمد بن موسى الرازي لحمد بن مهران:
لا تجزعن من المداد ولطخه * إن المداد خلوق ثوب الكاتب
وأبهج بذلك إنه لك زينة * هبة من الله الجواد الواهب
لولا المداد ويسرنا بدليله * ما صح في مال حساب الحاسب
ولما تبينت الأمور لطالب * ولكان شاهدنا شبيه الغائب
الحبر واشتقاقه
قال أبو بكر: ذكرنا أشعاراً قيلت في الحبر في باب الدواة لاتصالها بها، كاتصال التوريق بالكتابة والوراقين بالكتاب، وبالحبر تكتب المصاحف والسجلات وما يراد بقاؤه. وإنما سمي الحبر حبراً لتحسينه الخط من قولهم حبرت الشيء تحبيراً وحبرته حبراً زينته وحسنته. والاسم الحبر كقولك طحنته طحناً. في الحديث "يخرج من النار رجل حسن الحبر والسبر" وقال ابن أحمر:
لبسنا حبره حتى اقتضينا * بأعمال وآجال قضينا
وقيل: الحبر مأخوذ من الحبار وهو أثر الشيء كأنه أثر الكتابة وقال:
ولم يقلب أرضها البيطار * ولا لحبليه بها حبار
أي أثر. وقال آخر:
لقد أشمتت بي أهل فيد وغادرت * بجسمي حبراً بنت مصان باديا
أي أثراً. ويقال محبرة ومحبرة وهما أفصح ما قيل فيها. وحبر فلان كتابه: حسنه، وكذلك نمنمه ونمقه ورشقه. قال مرقش:
الدار قفر والرسوم كما * رقش في ظهر الأديم قلم
ويقال: رقش كذبه أي حسنه حتى يقبل قال رؤبة:
عازل قد أولعت بالترقيش * إلي سراً فاطرقي وميشي
وسموا طفيلاً الغنوي محبراً لتحسينه شعره. وقيل: سمي بذلك لقوله يصف برداً:
سماوته أسمال برد محبر * وسائره من أتحمي معصب
القرطاس وما يكتب فيه
تسمي العرب ما يكتب فيه القرطاس، وجمعه قراطيس، ومهرقاً وجمعه مهارق، وصحيفة وجمعها صحائف، وسفراً والجميع أسفار، قال الله عز وجل: "يمحل أسفاراً"، وقد نزل القرآن بجميعها إلا المهرق. قال الله تعالى: "تجعلونه قراطيس"، وقال تعالى: "ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس"، وقال تعالى: "إن هذا لفي الصحف الأولى". والعرب تشبه المنزل، إذا خلا ودرجت عليه الريح وصار أرضاً، بالمهرق. قال الأعشى:
سلا دار ليلى هل تبين فتنطق * وأنى ترد القول بيضاء سملق
وأنى ترد القول دار كأنها * لطول بلاها والتقادم مهرق
وشبه أبو نؤاس الناقة البيضاء بالقرطاس فقال:
واحتازها لون جرى في جلدها * يقق كقرطاس الوليد هجان
قيل: خص قرطاس الوليد لأنه معه كالرسم لم يكتب فيه بعد، والهجان أيضاً الكرام من الإبل وغيرها وما أعلم أحداً استوفى في وصف القرطاس إلا جعفر بن حمدان المصري الكاتب فإنه قال:
في يديه من القراطيس كالمز * نة جادت بواكف مدرار
كالملاء الرحيض كالبيض بيض الهند كالبيض كالمياه الجواري
كالسراب الرقراق في عنفوان الصيف نصف النهار في أيار
ما تبالي أجلت عينك فيه * حين يطوي أم في حضور العذاري
يسبح الخط فيه عفواً فما يك * بو بوعث فيه ولا بحبار
حدثني أبو تذكوان القاسم بن إسماعيل قال: سمعت عمك أحمد بن عبد الله بن العباس، المعروف بطماس، يقول - وكان حسن البلاغة: القرطاس أمره ما لم تكحله مل الدواة.
ومن مليح الأخبار التي ذكر فيها القرطاس ما حدثني به أحمد بن محمد الأنصاري، قال حدثنا أبو العيناء عن الجماز قال: أراد أبو نؤاس أن يكتب إلى إخوانه له، فلم يجد شيئاً يكتب فيه فحلق رأس غلامه، وكتب عليه ما أراد، وفي آخرها كتب: وإذا قرأتم الخطاب فخرقوا القرطاس قال: فردوه بلا جلدة رأس. ورأى جرير رجلاً أسود عليه ثياب جد فقال:
كأنه لما بدا للناس * أير حمار لف في قرطاس
وقال أبو نؤاس:
لم يقو عندي على تخريق قرطاسي * إلا فتى قلبه من صخرة قاسي
إن القراطيس من قلبي بمنزلة * تكون كالسمع والعينين في الراس
لو لا القراطيس مات العاشقون معاً * هذا بغم وهذا كم بوسواس
فأما الكراريس فواحدها كراسة، قال الأصمعي: كرست الكتب والورق جعلت شيئاً منه إلى شي وأكرس الغنم اجتماع بعرها وبولها في مواضعها حتى يتطارق بعضه إلى بعض، قال العجاج: يا صاح هل تعرف رسماً مكرساً
قال أبو عبيد: اكرس البعر عليه فهو مكرس، ويروى مكرساً كأنه أكرس فهو مكرس وأصله ما ذكرت لك. وتكارس ورق الشجر تحته وقع بعضه فوق بعض.
ويقال دفتر ودفتر. وما سمع شيء في اشتاقه إلا أنه عربي فصيح. قال جندل بن المثنى الطهوري:
هل لا بحجر يا ربيع تبصر * قد قضي الدين وجف الدفتر
ويروى الدفتر. وأنشدني الحسين بن يحيى:
هل تذكرين إذا الرسائل بيننا * تأتيك في الشجر الذي لم يغرس
إذ سر نفسي في يديك ومثله * لك في يدي من الفصيح الأخرس
وقال ابن الأحنف:
صحائف عندي للعتاب طويتها * ستنشر يوماً والعتاب طويل
عتاب لعمري لا بنان يخطه * وليس يؤديه إليك رسول
آخر:
جاء الرسول بقرطاس فهيج لي * شوقاً وأحببت منه كل قرطاس
فيه معاتبة منها تذكرني * عهد الوصال كأني غافل ناس
وقال: أتاني كتاب منمليكي بخطه * فما أعظم النعمى وما أصغر الشكرا
فظلت تناجيني بما في ضميره * أنامل قد صاغت بأقلامها سحرا
قال وكتب إلى فوز كتاباً أغضبها:
كتبت وليته شلت يمينه * ولم أكتب إليك بما كتبت
كتبت وقد شربت الكأس صرفاً * فلا كان الشراب ولا شربت
وقال ابن الأحنف أيضاً:
أهدت إلى صحيفة مختومة * نفسي الفداء لخط ذاك الكاتب
ففكتها فقرأت ما قد حبرت * فإذا مقالة مستزيد عاتب
حدثني أبو عبد الله الأسباطي قال: كان رجل من الكتاب يهودي مغنية ويكاتبها، فكانت تخرق كتبه وتأمره بتخريق كتبها، فكتب إليها: إني أحتفظ بكتبك وتتهاونين بكتبي فتخرقينها فكتبت إليه:
يا ذا الذي لام في تخريق قرطاس * كم مر مثلك في الدنيا على راسي
الحزم تخريقه إن كنت ذا نظر * وإنما الحزم سوء الظن بالناس
إذا أتاك وقد أدى أمانته * فاجعل كرامته دفناً بأرماس
وشق قرطاس من تهوى وكن حذراً * يا رب ذي ضيعة من حفظ قرطاس
فكتب إليها: الصواب رأيك وخرق رقاعها.
قط القلم
يقال: قططت القلم أقطه قطاً. والقط والقد متقاربان، لأن القط أكثر ما يستعمل فيما وقع السيف في عرضه، والقد لما وقع في طوله. ومنه قولهم: كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، إذا علا بسيفه شيئاً قده، وإذا اعترضه قطه. وقد يحمل هذا على هذا. وقال عمرو بن معد يكرب:
فكم قط سيفي من قونس * غداة التقينا ومن مفرق
ومط حاجبيه ومد بمعنى. وإنما جاز ذلك في قد وقط ومد ومط لأن نخرج الطاء والدال من مكان واحد من أصول الثنايا وطرف السان، كما يقال: طين لازب ولازم، لأن مخرج الباء والميم من الشفة من مكان واحد.
المقط
هو المقط بكسر الميم فأما المقط فالموضع الذي يقط من رأس القلم. وأحسن المقاط وأمكنها المربع كهيئة فص النرد زائداً عليه في الطول والعرض ساذج الطرفين، فإذا كان على هذا الشكل رحب مطاه، ووطؤ قراه، وكان أملأ لليد، وأمكن للقط. وفيه يقول بعض الكتاب:
الحمد لله شكراً * يعلو الورى وأحط
وغادرتني مداها * منها كأني مقط
لم يبق مني إلا * صبر جميل فقط
وقال بعض الكتاب:
فإن تكن الخطوب فرين مني * أديماً لم يكن قدماً يغط
فإن كرائم الأقلام تحفى * فيصلح من تشعثها المقط
وقال بعض الكتاب: إذا قططت ولم تسمع لقطتك صوتاً كصوت نبض القسي، ووقعة كوقعة عضب المشرفي، فأعد فإن قلمك بعده حف. وأكثر ما يقع ذلك والقلم رطب بمداده، وإنما القطة تصلح مع جفافه. وأنشدني بعض أصحابنا لنفسه في المقط من أبيات خاطب بها بعض الكتاب أولها:
يا ذا الكتابة قد بعثت بمرضع * سوداء قد خرطت من الإظلام
بل ناسبت لون الخطوب وضمنت * كشفاً لها بحضانة الأقلام
معها مقط قد تحلى بينها * شبه الصدود بدا لحلف غرام
يحكي سويداء القلوب إذا رمت * فيها لواحظ شادن بسهام
أعربت في وصفي له إذ قصرت * من قبل عنه خواطر الأوهام
وانضاف محراك إليه كأنها * احذوه قد الصارم الصمصام
المرفع
قال بعض الكتاب: المرفع ضرب من الكبر، وفضيلة في الآلة، وترفه مفرط لا يليق بذوي التقدم في العمل، والصبر عليه، والتجرد له. وما يسرع إليه إلا كل ذي نخوة ورياسة محدثة. وهو أحسن في مجالس الخلوات منه في الجماعات. فأما مجالس الرياسة والجد في الأعمال فلا موقع له فيها. قال أحمد بن إسماعيل: قلما رأيت سيداً رئيساً يجعل بين دواته وبين الأرض مرفعاً في مجالس رياسته. وإذا عجز الكاتب عن الاستمداد من الدواة على الأرض، فيغنم رفعها إلى يده بهذه الآلة وتقريب متناولها، فهو عما سوى ذلك من تمشية الأعمال وتنفيذ الأمور أعجز. وقد هجي بعض الكتاب بذلك فقيل:
إني بليت بجاهل متغافل * متكلف في فعله متصنع
حاز الكتابة حين فضض مرفعاً * وجرت أنامله بخط مسرع
متتايه في الحفل يبغي عزة * فيدل في مرأى هناك ومسمع
فكلامه دون المدى متواضع * ودواته للطرف فوق المرفع
حدثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال: دخلت أنا وأبو علي بن المرزبان على يحيى بن مناوة الكاتب، وبين يديه مرفع قد قارب صدره عليه دواته، فقلت لابن المرزبان: أما ترى هذا المرفع? فقال: هذا مرفع وصاحبه رقيع لا رفيع.
وقيل لبعض الرؤساء - وقد جعل دواته على مرفع: ما كل الأجلاء تفعل هذا. فقال: من جلس على فرش تعليه قليلاً بعدت عليه مسافة الاستمداد، فأما من كان على حصير أو سماط فلا عذر له فيه. وقد وصف بعضهم مرفعاً مفضضاً واحتج له فقال:
قرب البعد مركب لدواة * ملجم من حليه بلجام
فضة تستضيء في أبنوس * مثل ضوء الإصباح في الإصباح في الإظلام
كخوان الطعام سهل للأك * قال: منه ما كان صعب المرام
محراك الدواة
كذا تسمية الكتاب. وللعيدان التي تحرك بها العرب الأشياء أسماء: فالعود الذي تحرك به النار مسعر ومسعار، ومحرث ومحراث، ومنه قيل: "مسعر حرب" أي يسعرها بوقدها.
ويقال لما يجدح به الأشربة مجدح ومجدح مخاض، ويقال له أيضاً مخوض.
ويقال أيضاً للميل الذي يحرك به الجراحات محراك، ومحراف، ومسبار أي يسبر به قدر الجراحة أي تختبر به، وربما سموا المبضع بذلك. وقد روى القطامي يصف جراحة:
إذا الطبيب بمحراكيه حولها * زادت على النقر أو تحريكها ضخماً
ويروى بمحرافيه. وقد ذكر المحراك بعض الشعراء من الكتاب فقال:
بدر من الديوان لم يحترم * ضياءه بالنقص أفلاكه
صير جسمي قلماً هجره * يردي دم العشاق سفاكه
وقلب الهجر هواه كما * يقلب الكرسف محراكه
الكتب في اللغة
قولهم: كتبت الشيء، يريدون ضممت بعضه إلى بعض. ويقال: كتبت الشيء كتباً وكتابة. ويقال: اكتب بغلتك أي ضم حياها بحلقة حتى لا يطأها الفزاري لأن فزارة تعير بذلك. قال الفرزدق في الناقة:
لا تأمنن فزارياً خلوت به * على قلوصك واكتبها بأسيار
وقيل: المعنى قارب بين شدها حتى لا يسرقها الفزاري، وهذا أشبه، لأن الفرزدق أيضاً يهجو ابن هبيرة الفزاري بسرقة فزارة قال يخاطب هشاماً:
أأطعمت العراق ورافديه * فزارياً أحذ يد القميص
يقول: قد رق فقطع فكمه خفيف قصير.
وقيل: كتيبة الجيش لاجتماعها، وتكتبت تجمعت. والكتب الخرز الواحدة كتبة بضم خرزة إلى خرزة، وقال ذو الرمة يصف المزادة التي يستقى فيها الماء:
وفراء غرفية أثأى خوارزها * مشلشل ضيعته بينها الكتب
يريد أن هذه الخرز لما اتسعت ضيعت الماء، وفراء واسعة، وغرفية دبغت بالغرف وهو شجر، والخوارز نساء، وأثأى أفسد والثأي الفساد، والمشلشل الذي يتصل قطره وهو مرفوع على شيء تقدم في البيت الأول وكاتب والجمع كتاب وكتبة وكاتبون. والموضع الذي يتعلم فيه الكتاب كتاب ومكتب.
ويقال أيضاً أكتب فهو مكتب. واكتبت الرجل ما أراد أكتبه اكتاباً جمعته له وأمليته عليه. ويقال زبرت الكتاب إذا كتبته ازبره زبراً. وقال رجل من حمير: أنا أعرف بزبرتي أي كتابتي. وسميت الكتيبة لاجتماعها، وتكتب القوم تجمعوا. وقال عبيد بن الأبرص:
أنبءت أن بني جذيلة أوعبوا * سفراء من سلم لنا وتكتبوا
أي تجمعوا.
وقال التوجي: الموضع الذي يعلم فيه الكتاب مكتب ومكتب مثل مطلع ومطلع، وكاتبت الرجل إذا خابرته الخط مكاتبة وكتاباً مثل نادمته منادمة ونداماً. وكاتبته فكتبته مثل غالبته فغلبته وخايرته مخايرة وخياراً فخرته. وقال المازني: يقال اكتب الرجل إذا صار كاتباً حاذقاً.
قيل: أجاد إذا صار له فرس جواد. وألبن إذا صار ذا لبن. وأتيت فلاناً فأكتبته وأحسبته إذا وجدته كاتباً حاسباً. كما تقول أتيته فأبخلته أي وجدته بخيلاً. وأتيت بلد كذا فأمطرته أي وجدته مطيراً. وقال الحرمازي: سمعت أعرابياً يقول: ظلمني هؤلاء الكتب مثل صائم وصوم وقائل وقول. ومثله في المعتل غاز وغزى، قال العجاج: حتى إذا ما حان قطب الصوم
وزبرت الكتاب كتبته وزبرته قرأته. ووحيت الكتاب أحيه وحياً كتبته، وكتاب موحى ومكتوب بمعنى، فوحيت كتبت، وأوحيت أعلمت وأشرت، وقد قيل في هذا وحيت وأوحيت، فأما في الكتاب فوحيت قال الشاعر:
ما هيج الشوق من الأطلال * أضحت قفاراً لوحي الواحي
وإذا أردت أن تكتب من هذا قلت يا واحي حه، أثبت الهاء إذ كانت العرب لا تتكلم بحرف واحد. ويا واحيان حيا ويا واحون حوا. وإذا أمرت من أوحيت قلت يا موحى ويا موحيان أوحيا ويا موحون أوحوا.
السكين
قال بعض الكتاب:السكين مسن الأقلام يسنها إذا كلت، ويلصقها إذا بت، ويطلقها إذا وقفت، ويلمها إذا تشعثت. وأحسنها ما عرض صدره، وأرهف خصره، ولم يفضل عن القبضة نصابه. والسكين تذكر وربما تؤنث قال أبو ذؤيب.
يرى ناصحاً فيما بدا فإذا خلا * فذلك سكين على الخلق حاذق
أي قاطع. ومنه حذق الصبي قطع عنه التعليم. وفي تأنيثها، يقول بعض بني ثعلب:
فانحى للسنام غداة قر * بسكين موثقة النصاب
وفيها يقول أحمد بن إسماعيل:
إني إذا ماضي اليراع بلدا * وحار في ميدانه وعردا
لمصلح من حده ما أفسدا * بمدية كريمة من المدى
كادت تفل الصارم المهندا * تهدي إلى الأقلام حيناً وردى
كأنما يوقع منها بعدى * وهي بما تفعل تولينا يدا
لأنها تقيم منها الأودا * حين ترى الآكل منها مبردا
يفوف القرطاس تفوف الردى * بلحمة من البيان وسدى
وقال بعض الأحداث من الكتاب:
يا منتهى الفضل حليف الندى * وابن البهاليل الأكاريم
جد لي بسكينك ذاك الذي * لام لام ألف قاف لام ألف ميم
قال أبو بكر: والسكين يذكر ويؤنث والغالب عليه التذكير. ونصابها أصلها ونصاب كل شيء أصله. وأنصبت السكين جعلت له نصاباً. وأقربته جعلت له قراباً وهو الغلاف. وغلفته جعلت له غلافاً. وسكين مقرب ومقربة لمن أنث. ومغلف لمن ذكر ومغلفة. وجمع نصاب نصب. وجمع غلاف غلف، وجمع قراب قرب. وأنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب لأبي محكان:
يا ربة القوم قومي غير صاغرة * ضمي إليك ثياب القوم والقربا
قال: إنما خص القرب وهي الغلف يريد السيوف يقول: "خذي سيوفهم، واعلميهم أنهم في دار عز وأمان وطمأنينة لا يخافون"، لأن العرب إذا نزلت منزلاً لم تضع سلاحها حتى تأمن.
وأشعرت السكين جعلت لها شعيرة، وهي الحاجز بين آخر الحديدة وأول النصاب. وسيلان الحديدة مركب فيها. واقبضت السكين جعلت له مقبضاً. وسكين مقبض. وقد حكي قربت السكين والسيف فهو مقروب أيضاً. وأنشدوا:
إن يسألوا الحق يعط الحق سائله * والدرع مطوية والسيف مقروب
ويقال هذا حد السكين وشفرته وظبته وغرته وغراره وذبابه. فظبته طرفه والجميع ظبات. وشفرته حده من أوله إلى آخره. وغراره وشفرته واحد. وذباب كل شيء حده. وأكثر ما يوصف به السيف من الحد يجوز في السكين وأحددت السكين أحده إحداداً وحد السكين نفسه صار حاداً وأحد فهو محد وإذا أمرت قلت أحد سكينك وسكين حديد أي قاطع قال حسان:
بكل صقيل له ميعة * حديد الغرار حسام خذم
وكل السكين يكل كلاً وكلولاً وكلة. وكذلك البصر. وصدأ يصدأ صدى إذا توسخ. وكذلك طبع يطبع طبعاً.
الإنشاء
أنشأ الكاتب الكتاب ابتدأ عمله على غير مثال يحتذيه قال الله تعالى: "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة". وتقول العرب: أنشأ يفعل كذا، وأنشأ يقول كذا إذا ابتدأ. وأنشأ الله الخلق. ينشئهم إنشاءاً إذا ابتدأ خلقهم. وأنشأت أنا الشيء أنشئه إنشاء. وقال عز وجل: "وأن عليه النشأة الأخرى". وإذا أمرت قلت: أنشئ الكتاب، بإثبات الياء في الكلام والخط لأن هذه الياء هي همزة فذهبت للأمر منها الحركة.
حدثنا أحمد بن إسماعيل قال: كان بعض النساخ قد صار منشئاً لبلاغة ظهرت منه، فقال فيه المنشي الذي كان ينسخ رسائله:
أيها المنشي الذي * كان بالأمس ناسخاً
نسخ تلك الرسائل ال * متعبات المشائخا
ترك الناسخ المم * ثل في العلم راسخاً
رغم أنف اصاره * لذوي العلم شامخا
السطور
أصل السطر في اللغة الأثر المستطيل على استواء وجمعه أسطار وأسطر وسطار وسطور. وكل مقدم على استواء غير خارج شيء منه عن نظيره يمنة ويسرة فهو مسطر من سطر يسطر تسطيراً. وقال المسيب بن علس:
ترى للسيوع بحيزومها * ندوباً وللدف منها سطارا
والكاتب مسطر وساطر. ويقال للذي يصلح بها الورق سطوره في دفاتره حتى لا تعوج سطوره "مسطرة"، وقد سطر إذا كتب خاصة إذا لم يذكر شيئاً، علم أنه للكتابة لكثرة الاستعمال وقد يقال: سطر نخله إذا غرسه على استواء. قال رؤبة: إني وآيات سطرن سطرا.
وقال الله جلت عظمته: "والطور وكتاب مسطور". أي مكتتب قد سطر وتقول: كل شيء عمله مستطر عندي أي مكتتب. وقال الله عز وجل: "وكل صغير وكبير مستطر". وقالوا: أسطور وأساطير، وقالوا: سطر وسطر مثل سقف وسقف. وأنشدنا ثعلب للشماخ:
أتعرف رسماً دارساً قد تغيرا * بذروة أقوى بعد ليلى وأقفرا
حكى خط عبرانية بيمينه * بتيماء حبر ثم عرض أسطرا
عرض أخفى سطوره كما تقول عرض بكذا إذا لم يصرح به وإن لم يكن كذا فسد معنى الشعر.
المقابلة بالكتاب ونسخه
يقال: قابلت الكتاب بالكتاب أقابله مقابلة وقبالاً، المعنى جعلت ما في واحد من الكتابين مثل "ما" في الآخر مشبهاً له من جهة ما كتب فيه، لا من كل جهة، لأن القدود تختلف وكذلك الألوان الذي يكتب فيه. وتقابل الموضعان إذا كان أحدهما حيال الآخر وقبالته، وكأنه في الحقيقة أقبل كل واحد منهما على صاحبه وشابهه في التقابل. وأقبلت المرهم الجرح ألصقته به قال ابن أحمر:
شربت الشكاعى والتددت ألدة * وأقبلت أفواه العروق المكاويا
يريد: جعلت المكاوي حيال العروق مقابلة لها ملصقة بها فقال الأعشى:
وأقبلها الشمس في دنها * وصلى على دنها وارتسم
ويروى: وارتشم. قال الأصمعي: أصلها استقبل بها. وتقول العرب أقبل نعلك أي اجعل لها قبالاً وهو الشراك لأنه يقابل النعل قال أبو نواس:
ما على وجه به قا * بلتني اليوم مهابه
وعارضت الكتاب بالكتاب إنما هو عرضت ذا على ذا وذا على هذا حتى استويا. وعارضت داري ببستانه سويت بينهما في القيمة وأخذت هذا بهذا. وعارضته في قوله: أتيت بمثل ما قال. والنسخ على معنيين أحدهما أن تنسخ الشيء لما تقدمه، فتذهب به فيحل مكانه ومنه قول الله عز وجل: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها". وفي كل الآيات خير، والمعنى نأت بخير منها لكم وأخف عليكم. ومنه قولهم: نسخت الشمس الظل حلت مكانه. والمعنى الآخر أن ينسخ الشيء الشيء فيجيء بمثله غير مخالف له يقول: نسخت كتابك لم أغادر منه حرفاً، وفي القرآن: "إنا نستنسخ ما كنتم تعملون". ويروى أن أو من عمل الكتب نسخاً زياد.
الخطأ في الكتاب
تقول أخطأت في الكتاب تخطئ خطءً وخطأً وخطاءً. وقرأ أبو حعفر: "إنه كان خطأ كبيراً"، مفتوحة الطاء والخاء غير ممدودة. وقرأ أكثر القراء "إنه كان خطءاً"، من خطيء يخطأ خطء، مثل أثم يأثم أثماً، وأخطأت خطأ مفتوحة الخاء والطاء ممدودة.
والخطأ في اللغة ضد الصواب، وتقول: لا تخطئ يا هذا - إذا أمرته - بالهمز ساكنة وإنما أسقطت للجزم حركة الهمزة كما تقول: إقرأ يا هذا. فإذا أمرت الإنسان أن يقري الضيف قلت له: أقر ضيفك فحذف لأنه غير مهموز من قراه يقريه قرىً يا هذا. وتقول وهمت في الكتاب أوهم وهماً إذا سهوت فيه فكتبت شيئاً مكان شيء. وأوهمت فيه أسقطت منه شيئاً فلم تكتبه. قال أبو عبيدة يصف إنساناً بالبلادة: ما فهم ولو فهم لوهم.
المشق في الكتاب
يقال: مشق في الكتاب يمشق مشقاً، إذا أسرع الكتابة، والمشق في اللغة تأثير الشيء بسرعة قال ذو الرمة:
فكر يمشق طعناً في جواشنها * كأنه الأجر في الإقبال يحتسب
وكثر ذلك في كلامهم حتى صار كل مستلب شيئاً قد مشقه قال الأخطل:
والخيل نمشق عنهم أسلابهم * في كل معترك وكل مغار
وتقول: ترك ثوبه مشقاً ومزقاً إذا خرقه، وتقول: مشقت الإبل الكلأ إذا أكلت منه بسرعة.
الزلف
يقال: زلف في قرابة يزلف فيها زلفاً إذا تجاوز من شيء إلى شيء. وهو في حق اللغة القرب مما تريد كأنه يقرب بذلك من القراع ما يريد قال العجاج:
طي الليالي زلفاً فزلفاً * سماوة الهلال حتى احقوقفا
زلفاً فزلفاً بعد قرب، حتى عاد الهلال محقوقفا، وقال الله عز وجل: "وزلفاً من الليل" جمع زلفة، مثل غرفة وغرف والزلفة القرية كأنه يريد وقتاً بعد وقت من الليل يقرب هذا من هذا.
وقال أبو عمرو الشيباني: المزالف ما قرب من المنازل من الأمصار مثل القادسية من الكوفة، والمحدثة من البصرة وله عندنا زلفة أي قربة قال عز وجل: "وإن له عندنا لزلفى". قال المفسرون: قربة. وقال تعالى: "وأزلفنا ثم الآخرين".
فض الكتاب
يقال: فضضت الكتاب أفضه فضاً إذا نحيت عنه طينه وسحاته. وأصل الفض في اللغة التفرقة، كأنه فرق بين الكتاب وبين طينه وسحاته.
وقال تعالى: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا". قال المفسرون: كلهم حتى تفرقوا.
وحضرتني نادرة عند ذكر "حتى ينفضوا" ليست من الكتاب، حدثني يموت حدثني يموت بن المدرع قال: كان بالشام معلم رقيع طينه مشهور بشتم الصبيان، فقال: اقعدوا حتى تسمعوا، فإن كنت معذوراً وإلا فلوموا، قال: فقعدنا قرأ عليه صبي منهم: هم الذين يقولون لا تنفقوا إلا من عند رسول الله. فقال: كذبت يا ماص سلحه، أتلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة لا تجب عليه، وهو لا يملك مالاً? قال: فضحك. ثم قرأ آخر: عليها ملائكة غلاظ شداد يعصون الله ما أمرهم ولا يفعلون ما يؤمرون. فقال: يا ابن الفاعلة هؤلاء أكراد شهاد زور ليسوا ملائكة. قال: فضحك وضحكنا وقلنا ما نلومك بعد هذا. ومن الأول: لا يفضض الله فاك، أي لا يفرق الله ثناياك وأراد بالفم الأسنان. وانفض القوم تفرقوا.
ويقال: فضضت ختام البكر افتضضتها قال الفرزدق.
فبتن بجانبي مصرعات * وبت أفض أغلاق الختام
السحاة
تقول: سحوت الكتاب اسحوه سحواً وسحيته أسحاه سحياً. والواو أكثر، وسحيت بالتشديد اسحي تسحية ومعنى سحيت قشرت. وسحاة القرطاس والجمع سحاء ممدود. وحكى بعض أهل اللغة أنه يقال: سحاة وسحاية ويقال: سحوت اللحم عن العظم إذا قشرته. وقال الأصمعي: الساحية من المطر التي تقشر وجه الأرض.
وقال أعشى همدان:
جرت به ذيلها غراء ساحية * في يوم نحس من الجوزاء منخرق
والمسحاة مشتقة من ذلك لأنها تسحو وجه الأرض. وإذا قال: سحيت الكتاب فإنما يريد جعلت عليه سحاة مثل عظاة وسحاية مثل عظاية. وما أحسن سحيتك للكتاب! أي أخذك سحايته.
وإذا أمرت من سحوت قلت: اسح يا هذا ومن سحا سح يا رجل ومن سحيت سح وكتاب مسحي ومسحو. وإذا أخلق الكتاب فصار كالسحايا قيل: قد أسحى الكتاب فهو مسح. وكذلك إذا كان أخذ السحاية منه سهلاً. وإذا وضعت السحاية على الكتاب فقد سحيته وسحوته. وخزمته خزماً وكتاب مخزوم. والسحاية من هذا خزامة وجمعها خزائم والخزم الشد في كل شيء.
تتريب الكتاب وتطيينه
يقال: تربت الكتاب تتريباً، ولا تقل: أتربت، فإذا أمرت قلت: ترب كتابك، ولا تقل أترب، اللهم إلا أن تقول: إن كتابه كثير التراب، فتقول: أترب بكتابك كما تقول: برد بطعامك، فإذا تعجبت من برده قلت: أبرد طعامك.
وقد جاء في التراب لغات قالوا: تيرب وتوراب وقال اللحياني: تورب أيضاً وتراب وترب وأتربة وتربان وتربان ويقال هذه ترباء طيبة وتربة وترب.
ويقال طينت الكتاب أطينه تطييناً، إذا جعلت عليه طين الخاتم. وتقول: طنت الكتاب أطينه طيناً، مثل زنته أزينه زيناً، ولا يقال: أطنت. فإذا أمرت قلت: طين كتابك وإن شئت قلت: طن كتابك من طنت أطين وما أحسن طينتك للكتاب! من هذا وكتاب مطين مثل قولهم: زت العجين فهو مزيت إذا ألقيت فيه زيتاً قال الشاعر:
ولم يقفلوا نحو العراق ببره * ولا حنطة الشام المزيت خميرها
المحو في الكتاب
يقال: محوت الكتاب أمحوه محواً بالواو، فإذا أمرت من هذا قلت: أمح. وحكي محيت أمحى محياً. ومن أمثالهم "ما أنت إلا ممحياً وكتباً". فإذا أمرت من هذا قلت: امح والواو أفصح وبها نزل القرآن: "يمحو الله ما يشاء ويثبت". والمحو في اللغة تعفيه الأثر حتى لا يرى.
حدثنا محمد بن الحسن البلعي، قال: حدثنا أبو حاتم قال: قيل للأصمعي: لم سمت العرب الشمال محوة? قال: لأنها تمحو السحاب ولا يرى شخصه. واستدعى أبو نؤاس أن يكثر المكاتب له المحو في كتابه فقال:
أكثري المحو في الكتاب ومحي * ه بريق اللسان لا بالبنان
وأمري كلما مررت يسطر * فيه محو لطعته بلساني
فأرى ذاك قبلة من بعيد * أسعدتني وما برحت مكاني
وقال أبو نؤاس:
يا ذا الذي قبلته فمحاه * أخشيت أن تقرا حروف هجاه
ظبي يرى التقبيل فيه مؤثرا * فتراه منه كيف يمسح فاه
ويظنه لكتابه في لوحه * يبقى بقاءً دائما فمحاه
عرض الكتاب
يقال: عرضت الكتاب أعرضه عرضاً، إذا أمررته على طرفك بعد فراغك منه، لئلا يقع خطأ، وكذلك عرضت الجند. ولا تقل أعرضت الجند لأن الإعراض انصرافك بوجهك عن الشيء، وحقه في اللغة أنك وليته عرض وجهك قال عمرو بن كلثوم:
وأعرضت اليمامة واشمخرت * كأسياف بأيدي مصلتينا
ويقول: صرنا إلى موضع رأينا منه عرضها أي جانبها فكأنها هي أريناه. وقد عرضت ما قلت على قلبي. وهذا خلاف العرض على العين، إنما يريد أفكرت فيما قلت. وعرض الرجل على ماله فهو عارض وعرض على فلان فهو معروض عليه.
وقال ابن الأحنف:
كأن خروجي من عندكم قدراً * وحادثاً من حوادث الزمن
من قبل أن أعرض الفراق على * صبري وأن أستعد للحزن
أنشد هذين البيتين محمد بن يزيد المبرد وقال: عمك إبراهيم بن العباس أحزم رأياً من خاله العباس بن الأحنف حين قال:
وناجيت نفسي بالفراق أروضها * فقالت: رويداً لا أعزك من صبري
فقلت لها:
فالبين والهجر راحت * فقالت: أمني بالفراق وبالهجر
فقلت له: إنه أخذهما أيضاً ابن الأحنف: عرضت على قلبي السلو فقال لي: من الآن فتش لا أعزك من صبر
إذا صد من أهوى رجوت وصاله * وفرقته جمر أحر من الجمر
وأما قوله عز وجل: "وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً"، فإنه يقول عز وجل: أظهرناها لهم وأبرزناها، هكذا قال المفسرون. وعرضت المتاع على المشتري أبرزته له. وعرضت الحوض على الناقة إذا امتحنت عطشها. وقد قلبوا فقالوا: عرضت الناقة على الحوض كما قالوا:
كانت عقوبة ما فعلت كما * كان الزناء عقوبة الرجم
فأما معارضة الكتاب فعرض واحد على الآخر حتى يستويا.
اللحن في الكتاب
قال: حدثنا أبو بكر قال: حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثنا محمد بن عباد عن أبيه، قال: لحن أيوب في حرف فقال أستغفر الله.
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري وقد قرأ في كتابه لحنا: قنع كاتبك سوطا.
حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب، قال: كان ابن قادم مع إسحاق بن إبراهيم المصعبي فكتب كاتبه ميمون بن إبراهيم إلى المأمون كتاباً فيه: "وهذا المال مالاً يجب على فلان"، فخط المأمون على "مالاً" ووقع بخطه في حاشية الكتاب: أتكاتبني بلحن يا إسحاق?! فاشتد ذلك عليه.
قال: فحدثني ابن قادم، قال: أتاني ميمون فقال: الله الله في احتل لي. فحضرت فسألني إسحاق عن الحرف فقلت: الوجه وهذا المال مال، ومالاً يجوز على تأول، لأخلص الكاتب. فقال إسحاق لكاتبه: قد عفوت عنك فدعني من يجوز والزم صحيح الإعراب. قال: ثم أكب ميمون علي يقرأ النحو حتى فهم منه شيئاً كثيراً.
حدثني أبو عبد الرحمن الألوسي العباس بن عبد الرحيم قال: سمعت عبد الله بن قتيبة يقول كتب إلي رجل من سر من رأى: قد قرأت كتابك المترجم بكتاب الكتاب وقد أعبت عليك فيه حرفاً. فكتبت إليه: وصل كتابك وفهمته وقد عبت عليك قولك وأعبت عليك والسلام.
قال أبو بكر: هذا شيء يتسع فيكثر فجئت منه بطرف لأنه وحده يكون كتاباً كبيراً لو ذكرته.
وقالوا: "اللحن في الكتاب، أقبح منه في الخطاب".
وأكثر العلماء يلحن في كلامه لئلا ينسب إلى الثقل والبغض، فأما في الكتاب وإنشاد الشعر فإن ذلك قبيح غير جائز.
يقال: لحن يلحن لحناً فهو لاحن إذا أمال الصواب عن جهة إلى جهة أخرى. وأما قوله عز وجل: "ولتعرفنهم في لحن القول"، فإن الكلبي يقول في لحنه في مداره. قال: وحقيقته في اللغة إمالة الشيء من جهته، إما لخطأ أو عمد، ليؤرى عن إرادته. قال القتال الكلابي:
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا * ووحيت وحياً ليس بالمرتاب
وحكى الجاحظ في كتاب البيان والتبيين أنه يستحسن من الجارية اللحن وتكره الفصاحة. قال ولذلك قال مالك بن أسماء الفزاري:
منطق رائع وتلحن أحيا * ناً وأحلى الحديث ما كان لحنا
فذهب بهذا إلى لحن الخطأ، وهو قبيح من مثله وخطأ فاحش عليه أن يتأول هذا، ثم لم يرض حتى احتج له. والذي أراد مالك أنها فطنة تأتي بالشيء تريد غيره وتميل ظاهره عن باطنه. وقد قيل للجاحظ: غير هذا في كتابك فإنه قبيح، فقال: افعل، ولكن كيف لي بما سارت به الركبان.
ويقال من هذا: فلان ألحن بحجته من فلان، أبي ألحن بإمالة الباطل إلى الحق بفصاحته وعلمه. ويصدق ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من صاحبه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار".
قال أبو بكر: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدثني الجاحظ عن أبي عبيدة قال: رآني أبي وأنا أكتب كتاباً فقال: "يا بني اجعل فيه لحناً ليزول عنه حرفة الصواب".
يقال: لحن الرجل يلحن لحناً إذا أخطأ بتسكين الحاء ولحن يلحن لحناً إذا أمال الشيء إلى الجهة التي يريدها. ويجعلون هذا مكان هذا، إلا أن الاختيار في الثاني فتح الحاء. قال ابن أم صاحب فحرك الحاء:
غمست عنهم وما ظني مخافتهم * وسوف يعرفهم ذو اللب واللحن
غمست عميت. حدثنا أبو العيناء قال: قدم أبو علاء المنقري. من الأهواز فقال لي: يا أبا عبد الله ما أكبر دباءها وما أبخل أهلها! قلت: وما أكثر اللحن فيها! قال: كثير جداً. وكان فصيحاً على لحنه.
حدثنا جبلة بن محمد الكوفي، قال: حدثني أبي قال: عاد بن أبي ليلى بعض أشراف الكوفة، وكان له أخ لحان، فجعل يقول: "يا أخي افتح عيناك حرك شفتاك كلم أبي عيسى". فقال له ابن أبي الحي: "أظن علة أخيك استماع لحنك".
قال الصولي: وحدثنا أبو العيناء قال: قال رجل لأبي شيبة القاضي: علي كفارة يمين فبأي شيء أكفر. بدقيقا بسويقا. فقال الرجل: ما لحنت أطيب من لحنك. وقال له بن مصقلة: لو كان لحنك من الذنوب لكان من الكبائر.
وقال أبو بكر وأنشدني عون بن محمد:
لقد كان في عينك يا حفص شاغل * وأنف كمثل العود عما تتبع
تتبع لحناً من كلام مرقش * وأنفك كمثل إيطاء وأنت المرقع
حدثنا الباجي قال: كتب ابن الرومي كتاباً بخطه فلحن فيه إلى أبي الحسن محمد بت أبي سلالة وقد كان احتبس عن ابن الرومي فكتب إليه ابن الرومي وقد علم بذلك:
ألا أيها الموسوم باسم وكنية * وجدناهما اشتقا من الحمد والحسن
أتبخل بالقرطاس والخط عن أخ * وكفاك أندى بالعطاء من المزن
أيغلق عني علمه بكتابه * أخ لي وقلبي عنده علق الرهن
عطفناك فاعطف إن كل ابن حرة * أخو مكسر صلب وذو معطف لين
وإن سقطاتي في كتابي تتابعت * فلا تلحني فيما جنيت على ذهني
حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد قال: حدثني الأصمعي قال: دخلت على مالك بن أنس بالمدينة، فما هبت عالماً قط هيبتي له، فتكلم فلجن فقال: مطرنا البارحة مطراً وأي مطراً، فخف في عيني فقلت له: يا أبا عبد الله قد بلغت من العلم هذا المبلغ فلو أصلحت من لسانك! فقال لي: فكيف لو رأيت ربيعة بن عبد الرحمن?! قلنا له: كيف أصبحت? فقال: بخيراً بخيراً.
وما أحسن ما قال بعض الزهاد: "أعربنا في كلامنا فما لحن، ولحنا في كلامنا فما أعرب".
التوقيع والإيجاز
يقال: وقعت في الشيء أوقع توقيعاً وكتاب موقع فيه ورجل موقع فإذا أمرت قلت: وقع فيه. وحقه في اللغة التأثير القليل الخفيف، يقال: دف هذه الناقة موقع إذا أثرت فيه حبال الأحمال - والدف الجنب - تأثيراً خفيفاً.
وحكى العتبي أن أعرابية قالت لخل لها: حديثك ترويع وزيارتك توقيع.
وقال جعفر بن يحيى لكتابه "إن استطعتم أن تكون كتبكم كالتوقيعات فافعلوا". يريد بذلك حضهم على الإيجاز والاختصار.
وحدثني أحمد بن إسماعيل قال: حدثني أحمد بن محمد بن إسماعيل بن صبيح قال: كان أبو سلمة يوقع في الكتب: "آمنت بالله وحده". فخرجت لأبي اللفائف الكوفي صلة بكتاب من السفاح فجاء يناشد أبا سلمة وقد تأخر تعليمه فيه: قل للوزير: أراه الإله في الحق رشده
الباذل النصح طوعاً * لآل أحمد جهده
أطلت حبس كتابي * وحمله ثم رده
يا واحد الناس وقع * آمنت بالله وحده
يقال أوجز في كلامه وكتابه وفعاله يوجز إيجازاً إذا أسرع وخفف. وموت وجيز وحي سريع. ورجل موجز إذا كان يفعل ذلك. ووجز الكلام بنفسه يجز وجزأ. قال رؤبة: ها وجز معروفك بالرماق
التعليم في الكتاب
يقال: علمت في الكتاب أعلم تعليماً إذا وقعت فيه خطاً تعرفه به ويعرفه غيرك. ولا تقل أعلمت فيه. ولا أعلمت عليه. ولا تعلمت فيه. ومن العرب من يقول: أعلم كذا وتعلم كذا بمعنى. وقال:
تعلم أن سر الناس حي * تنادي في شعارهم يسار
فتعلم بمعنى إعلم.
الإملاء
يقال: أمليت الكتاب وأمللت. وقد نزل القرآن باللغتين جميعاً قال الله عز وجل: "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه". وقال جل وعلا: "فليملل وليه بالعدل". وقال الهذلي: وإني كما قال: تملي الكتا * ب في الرق أو خطه الكاتب
وأصله في اللغة من الإطالة. ومنه الملوان الليل والنهار. ومنه: "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين". وإنما أخرهم الله ليتوبوا فلما كان تأخيرهم سبب إثمهم وآلته آل أمرهم بسبب التأخير والإملاء إلى الإثم. وكما قال عز وجل: "فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً". وهم لم يلتقطوه لذلك ولكن لما آل أمره إلى أن كان لهم عدواً نسب الالتقاط إلى المآل.
وأنشد التنوخي:
وكان لنا قيدان قد أمليا لنا * وفي الدهر والأيام للمرء زاجر
طي الكتاب ودرجه
يقال طوى الكتاب يطويه طياً وطية واحدة وطواه طية فقال ذو الرمة:
من دمنة نسفت الصبا كدرا * كما تنشر بعد الطية الكتب
ومضى لطيته إذا سافر. وقالوا: الطية البعد، وهو عند بعضهم من طي المنازل.
وقد قيل: إن طيئاً سمي بطيه للمنازل، وهذا خطأ عند أكثرهم، يقولون: فمن أين جاءت هذه الهمزة? وأصله من الطي. والمحققون في اللغة يقولون: كان كثير القرى وطي المنزل فسمي بهذا.
فعلى هذا طي الكتاب سرعة إدراجه. وكذلك أدرج الكتاب معناه أسرع طيه فدرجه إدراجاً. وقال أبو عبيدة: مدرجة الطريق التي يسرع الناس فيها. وناقة دروج سريعة. ورجع فلان على أدراجه إذا رجع في الطريق الذي جاء فيه. وسالت أبا تذكوان عن هذه اللفظة فقال: حقيقتها أن الكتاب إذا أدرج فهو على مطاو، فإذا نشر رجعت تلك المطاوي إلى ما كانت عليه. وقال ابن حذاق في أدرج:
وغسلوني وما غسلت من تفل * وأدرجوني كأني طي مخراق
والمشق في اللغة تأثير الشيء بسرعة. قال ذو الرمة:
فكر يمشق طعناً في جواشنها * كأنه الأجر في الإقبال يحتسب
وكثر ذلك في كلامهم حتى صار كل مستلب شيئاً قد مشقه. قال الأخطل:
والخيل تمشق عنهم أسلابهم * في كل معترك وكل مغار
وقالوا: درج يدرج درجاً بمعنى أدرج وليست بالجيدة وكله من الإسراع، ومنه درج الرجل إذا مات ولا نسل له.
يقال: طمست الكتاب أطمسه طمساً إذا عميت خطه حتى لا يقرأ. وقيل: طمس وطمس بمعنى واحد، كما قيل جبذ وجذب. وطمس الله بصره إذا أذهب نوره وأخفاه. قال القطامي:
وليلة قد بت ما أناملها * في بلدة طامسة أعلامها
وقوله عز وجل: "من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها". قال المفسرون: نجعلها كأقفائها منبتاً للشعر مثل وجوه القردة، وقد نجعل وجوههم إلى ظهورهم مكان القفا. وطمست الأثر محوته، عن أبي زيد والأصمعي. وطلس الكتاب وطلسه أيضاً محاه. والطلسة السواد. وبعض أهل اللغة يقولون: هو لون يقارب السواد. وأكثر ما يوصف بالطلسة الذئب، يقولون: ذئب أطلس. والرياح الطوامس التي تذهب بمعالم المنازل تطمسها. ويقال: درس ما في الكتاب يدرس، إذا خفي شيء بعد شيء، حتى يذهب أثره، ومنه درس البعير إذا جرب كأنه يلي بعض جربه بعضاً. وثوب درس أي مخلق لأنه يخلق حالاً بعد حال وشيء في أثر شيء. واختاروا في تعفي الأثر وفي الجرب درس دروساً وفي الثلاثة درس درساً.
درس الكتاب وسرده
درس الكتاب والقرآن يدرسه درساً إذا قرأه قراءة متصلة يعضها ببعض أو في أثر بعض. وقرأ ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو عمروا وأهل المدينة: "وليقولوا درست"، قال المفسرون: يقولوا تعلمت ذلك من اليهود ودرسته معهم. وقرئ دارست، يريد دارستهم ذلك. وقرأ الحسن درست أي أخلقت، يقولون: هذا الذي تأتي به قد جاء غيرك بمثله وهذا من الدروس لا من الدرس. وقال التوجي: درس الشيء إذا أكثر قراءته وتردد فيه ومنه طريق مدروس تدرسه الناس كثيراً.
وكذلك سرد الكتاب يسرده سرداً شبيه بقوله درسه درساً، ودرع مسرودة بعضها يتلو بعضاً حتى تتم. قال أبو ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع
يعني درعين منسوجتين وقضاهما عملهما. وقال المفسرون في قوله عز وجل: "وقدر في السرد" أي في نسج الحلق ونظمه. وقال مسرودة مسمورة بالحلق.
الخاتم وسببه وما قيل فيه
حدثنا إبراهيم بن عبد الله اللجي قال: حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن المغيرة بن زياد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب فلبسه ثلاثة أيام ففشت خواتيم الذهب في أصحابه، فرمى به واتخذ خاتماً من ورق نقش عليه: "محمد رسول الله" فكان في يده صلى الله عليه وسلم حتى مات. وفي يد أبي بكر حتى مات وفي يد عمر حتى مات، وفي يد عثمان ست سنين، فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار ليختم به فأتى قليباً لعثمان رحمه الله فسقط الخاتم في القليب فالتمسوه فلم يجدوه، فاتخذ خاتماً من ورق ونقش عليه "محمد رسول الله".
ولم يتخذ صلى الله عليه وسلم الخاتم حتى احتاج إلى مكاتبة الملوك، منصرفة من الحديبية سنة ست فقيل له: إن الملوك لا تقبل الكتاب إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة ونقش عليه: "محمد رسول الله" محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.
وحدثنا محمد بن أبي قريش، قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملك الروم "فكتب ملك الروم" لا نقبل كتاباً إلا مختوماً فاتخذ خاتماً ونقش عليه محمد رسول الله محمد سطر وسول سطر والله سطر.
ويقال: ختمت الكتاب بغير ألف، ولا يقال: اختمت، فإذا أمرت قلت اختم كتابك وهو الخاتم والخاتم والخاتام والخيتام وجمعه خياتيم. وختم فهو خاتم مثل ضرب فهو ضارب. ويجمع خاتم خواتم وخواتيم. وختمت الكتاب ختماً وختاماً ويجمعونه ختم.
وختمت الكتاب وطبعته بمعنى قطعته بآخر العمل فيه. ومنه "الأعمال بخواتيمها" أي بأواخرها التي ينقطع العمل بها. وفلان خاتم القوم وخاتمتهم أي آخرهم.
وقيل: الختم الحظر وقد حكي عن أعرابي أنه قال: ختمت على العيون أن تراها، يريد امرأة، المعنى حظرت. "وختامه مسك" قال المفسرون: مقطعه يوجد معه رائحة المسك. واختم أمرك بكذا أي اقطعه به. ويروى عن ابن عباس أنه قال: كل كتاب غير مختوم فهو أقلف.
وقال عمر بن الخطاب رحمه الله يوصي بالختم: "طينه خبر من طنه". وفسروا قول الله عز وجل: "إني ألقي إلي كتاب كريم"، أي مختوم.
والذي عليه الكتاب الحذاق أن الرئيس والنظير يختم رقاعه وتوقيعاته إن شاء وأن من دونهم لا يختم، وإن ختم وهو دون الرئيس والنظير، لزمه إثبات اسمه على جانب كتابه الأيسر تضاؤلاً وتواضعاً. وكتب بعض الكتاب إلى رئيس له: أنت - أيدك الله - تختم رقاعك لأنها مطايا بر، ولا أختم رقاعي نها حوامل شكر.
وأحسن ما ختم به الرؤساء كتبهم ما عليه اسم الرئيس واسم أبيه.
وقال بعض الكتاب: الوزارة الختم والخاتم، لأن سائر الأعمال يباشرها بعض الكفاة إلا الختم فإنه لابد أن ينتهي الكتب إلى الوزير وتعرض عليه فيختمها بخاتم الملك.
وقال إبراهيم بن العباس الصولي: الكتب موات ما لم يوقع فيها توقيع الختم وتختم، فإذا فعل ذلك بها عاشت. وقال عمر بن مسعدة: الخط صور الكتب ترد إليها أرواحها.
وكان محمد بن عبد الملك الزيات، إذا أراد أن يختم الكتب دعا بدرج فيه الخاتم، فإذا جيء به وهو خاتم الملك، قام قائماً فأخذه إجلالاً له ثم جلس فأخرجه وختم به ورده إلى الدرج وختم عليه.
وكانت بعض الكتاب في أن الختم والتوقيع إلى الرؤساء:
حتام لا أنفك حارس سلبه * أدعى فأسمع مذعناً وأطيع
يتداول الناس الرياسة بينهم * وأروم حظهم فلا أستطيع
وأكلف العبء الثقيل وإنما * يبلى به الأتباع لا المتبوع
وعليهم الأثقال يحتملونها * وعلى الرئيس الختم والتوقيع
فقال آخر: يا أيها الملك المنفذ أمره شرقاً وغرباً
امنن بختم صحيفتي * ما دام هذا الطين رطبا
واعلم بأن جفافه * مما يعيد السهل صعبا
وقال آخر:
قل للخليفة إن الله سربله * سربال ملك به تمضي الخواتيم
وقال آخر في الخواتم:
أناس أبو العاصي أبوهم توارثوا * خلافة مهدي وخير الخواتم
وقال آخر في الخاتام:
لو كان عندي مائتا درهام * لجاز في أرضهم خاتامي
وفال أعرابي:
يا مي ذات المعجر المنشق * أخذت خاتامي بغير حق
وحدثني عمرو بن تركي القاضي قال: حدثنا القحذمي قال: كان على خاتم البريد للأسرة صورة ذباب، يريدون بذلك أن لا يحجب كما أن الذباب لا يمكن أحداً أن يحجبه.
قال: وكانت الخواتم في خزائن الملوك لا تدفعها إلى الوزراء، فأطرد الأمر على ذلك حتى ملك بنو أمية، وأفرد معاوية ديوان الخاتم، وولاه عبيد بن أوس الغساني وسلم الخاتم إليه، وكان على فصه "لكل عمل ثواب". وكان سبب ذلك أنه كتب لعمرو بن الزبير إلى بعض عماله بمائة ألف درهم ففرق عمرو الهاء وجعلها ياء وأخذ مائتي ألف درهم، فلما مرت بمعاوية ذكر أنه لم يصله إلا بمائة الف درهم، فأحضر العامل الكتاب فوقف معاوية على الأمر فاتخذ ديوان الخاتم.
العنوان
يقال عنوان الكتاب وعنونته وهي اللغة الفصيحة. وبعضهم يقول: علونت فيقلب النون لاماً لقرب مخرجهما من الفم، لأنهما يخرجان من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. وقد قيل: العلوان فعوال من العلانية لأنك أعلنت به أمر الكتاب وممن هو وإلى من هو. وسمعت أحمد بن يحيى يقول: أعلن أمرنا علوناً وعلناً.
والعنوان العلامة كأنك علمته حتى عرف بذكر من كتبه ومن كتب إليه. قال حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عنه:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
وقال المأمون لرجل رآه في موكبه فلم يعرفه، وكان جسيماً: ما هذه الجسامة? قال: "عنوان نعمة الله ونعمتك يا أمير المؤمنين".
ويروى أن معاوية قال لبعض العرب مثل ذلك، فأجيب بهذا الجواب.
وأول من كتب "من عبد الله فلان أمير المؤمنين". كان يقال لأبي بكر رضي الله عنه وهو أول من سمي "أمير المؤمنين". كان يقال لأبي بكر رضي الله عنه "خليفة رسول الله"، ثم قيل لعمر: "خليفة رسول الله"، فدخل المغيرة بن شعبة على عمر فقال: "السلام عليك يا أمير المؤمنين"، قال عمر: وما هذه? قال: ألسنا المؤمنين وأنت أميرنا? فكان أخف من الأول فجروا عليه.
وكانوا يكتبون في العنوان "بسم الله الرحمن الرحيم" مثل ذكر من كاتب ثم ترك.
قالوا: والأحسن في عنوان الكتاب إلي الرئيس، أن يعظم الخط ويفخمه، إذا ذكرت كنيته أو نسبته إلى شيء، وأن تلطف الخط في اسمك واسم أبيك وتجمعه. وقال المحققون من الكتبة: إن في ذلك إخلالاً للمكتوب له وفي مخالفته غض منه وتطاول عليه. وإن كانت آخر الكلمة ياء مثلاً، كأبي علي وأبي عيسى وأبي يحيى وأبي يعلى، غرقت الياء إلى قدام، ولم تردها إلى خلف، فقد حكي في ذلك شيء مليح.
حدثني أبو المرزيان قال: قال لي محمد بن يزيد الأموي الشاعر: استحسنت من عيسى بن فرخانشاه شيئاً، رأى كاتباً له قد كتب اسمه عيسى، فرد الياء إلى خلف عيسى، فقال: قولوا لهذا الكاتب لا تعد لمثل هذا، فإن أيسر ما فيه أن الياء إذا كانت إلى قدام كان ذلك فألا للإقبال، وفي ردها فأل لللإدبار، وقالوا: مع هذا فهو أبهى للخط وأفسح للشكل.
ويعنون إلى الأمير بالإسم والتأمير، بغير دعاء ولا كنية اكتفاء بجلالة التأمير، والإسم مع التأمير أجل من الكنية لأنه أشبه بمكاتبة الخلفاء لأنهم يقولون في التصدير للإمام "لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين"، ولا يأتون بكنية فكذلك شبهوا هذا به، فكان الإسم مع التأمير أجل من الكنية. ثم يكتبون في التصدير للإمام "لعبد الله فلان الإمام أمير المؤمنين". ولولي العهد للأمير أبي فلان فلان بن فلان، كناه الإمام أو لم يكنه فرقوأ بينه وبين الإمام.
وقد يذكر الإمام في سكة الضرب باسمه، ويذكرون ولي العهد يكنيته كما ذكرت لك. وقولهم لأبي فلان حقيقتها إلى أبي فلان، والأصل من فلان إلى فلان، فلما قدم ذكر المكتوب إليه أقاموا اللام مقام إلىن وقد قال الله عز وجل: "بأن ربك أوحى لها" أي أوحى إليها. وحروف الخفض ينقل بعضها من بعض قال الله عز وجل: "ولأصلبنكم في جذوع النخل" أي على جذوع النخل.
وقال الشاعر:
إذا رضيت علي بنو قشير * لعمر الله أعجبني رضاها
وهذا كثير جداً. وقال بعض الكتاب: اللام لمخاطبة الجليل، وإلى لمخاطبة الأدنى فالأجل يكتب من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، والنظراء ومن دون يكتبون لأبي فلان من فلان.
وقد عنون أحمد بن يوسف كتابه بشعر، فكتب إلى طاهر بن الحسين:
للأمير المهذب * المكنى بطيب
ذي اليمنين طاهر بن الحسين بن مصعب
وكتب عقال بن شيبة إلى المسيب بن زهير الصبي:
للأمير المسيب بن زهير * من عقال بن شبة بن عقال
وكتب آخر إلى نصر بن حمزة الخزاعي:
لأبي القاسم بن حمزة نصر * من فتى قائم بحمد وشكر
وكتب إليه ابن الحباب:
لأبي الفضل شبة الغسان * المرجى لدفع ريب الزمان
من أخ لم يزل يجد له الوص * ل على حين جفوة الإخوان
وعنون أبو نواس كتاباً له:
هذا كتاب بدمع عيني * أملاه قلبي على لساني
إلى حبيب كنيت عنه * أجل ذكر اسمه لساني
حدثنا اليزيدي قال: كتب أحمد بن إسماعيل إلى عرام، وهو بالكوفة مع مولاه كتاباً عنوانه:
دموع العين مذروفه * ونفس الصب مشغوفه
من المشوق إلى البدر ال * ذي يطلع بالكوفه
وحدثني أحمد بن محمد الأسدي، قال: كتب رجل إلى المهدي كتاباً عنوانه "عبده فلان"، فقال: لا أعلمن أحداً نسب نفسه إلى عبودة في كتاب أو عنوان، فإنه ملق كاذب وليس يقبله إلا غبي أو متكبر.
وحدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: رأى طاهر بن الحسين رقعة، كتبها ابنه عبد الله بن طاهر إلى المأمون، عليها "عبده" فقال: يا بني سميتك عبد الله وكذلك أنت، فلا تشركن في الملك أحداً، فإنه جعلك بإنعامه حراً لا مولى لك سواه.
وقال إبراهيم بن الحسن بن سهل يرثي أخاه:
قد كنت عنوان كرام مضوا * فمت فاختلت أصول الكرام
وحدثنا أبو ذكوان عن التنوخي، قال: يقال: عنوان الكتاب وعينانه وعلوانه. والعنوان الأثر الذي يعرف به الشيء. وتقول العرب: ما عنوان بعيرك? أي ما أثره الذي يعرف به. وتقول علونت الكتاب أعلونه علونة وعلواناً، فإذا أمرت قلت: علون يا معلون، وعنونته عنونة وعنواناً، فإذا أمرت قلت: عنون يا وعنون. ومن قال: عنيت الكتاب قال: عنن. ومن قال: عنيت الكتاب أبدل مكان إحدى النونان ياء، فقال: عنِّ يا معنى مثل غنِّ يا مغني.
قال أبو بكر: حدثنا أحمد حدثنا أحمد بن يحيى قال: كتب رجل إلى الزبير بن بكار يستجفيه فكتب إليه الزبير:
ما غير الدهر وداً كنت تعرفه * ولا تبدلت بعد الذكر نسيانا
ولا حمدت وفاء من أخي ثقة * إلا جعلتك فوق الحمد عنوانا
المقادير التي يكتب فيها من القراطيس
قال أبو بكر: سمعت أحمد بن إسماعيل بن الخصيب الكاتب يقول: الأئمة يوقعون في السجلات، ويكتب الإمام في الثلثين من الطومار إلى ملوك الملك وإلى عماله، ويكتب عماله إليه في مثل ذلك، ويكاتبه وزيره في النصف في أمور العامة الديوانية.
فأما الخاص الذي يكتبه بخطه، أو يكتب بين يديه بإملائه، ففي خمسين، ويكاتبونه في مثل ذلك في الخاص والعام، إلا من كان منهم في أدنى الطبقات، فإنه لا يكاتب إلا في النصف في الحالتين جميعاً.
وتتكاتب الأكفاء في الأثلاث والأرباع وتتحمل المودة بينهم كل شيء حملته من التسمح في ذلك، والأسداس للتوقيعات.
وقال بعض الكتاب:
أنت لما ابتدأت تكتب في الأن * صاف خفنا من قلة الإنصاف
وعلمنا بأن مثلك لا يج * مع بين الإنصاف والأنصاف
وقال آخر وكتب إليه في سدس:
تكاتبني بالسدس جهلاً بقدره * لئن كان في التعريف يكتب بالأمس
إذا ما التعاويذي فارق رسمه * فليس بمأمون التغير والنكس
ولولا حنين هاجه مثل سائق * إلى الخط في التعويذ لم يعن بالسدس
إذا صح حس المرء صح قياسه * وليس يصح العقل من فاسد الحس
واحتج آخر في أن كتب في ظهر فقال:
كتبت إليك في ظهر لعلمي * ومعرفتي بحبك للظهور
فقلبه ابن الرومي فقال:
عشقك الغلمان ما أم * كنك النسوان أفن
إنما يكتب في الظه * ر إذا أعوز بطن
وقد كره الناس الظهور، وأمر بترك استعمالها في النسخ وإنشائها، فكيف في المكاتبة. وقيل هي تفسد النيات، وتذيع الأسرار بما في باطنها، وتشعث الخطوط، وتغض من سمو الدولة، وتحقر من قدر المعنى أكثر مما بقدر منها من الارتفاق والقيمة بينها وبين النقي. وأكثر ما يكون إنصاف كتب مقطوعة، وإذا كانت كذلك كانت جنونا، ولهذا قال أبو تمام:
عذل شبيه بالجنون كأنما * قرأت به الورهاء سطر كتاب
واعتذر آخر من كتابته في الظهر فقال:
إن كتابي لك في الظهر * يخبر أني ظاهر الفقر
فاعذر بنفسي أنت من سيد * فالعذر أولى بالفتى الحر
واعلم وإن كنت الذي علمه * يفوق علم البدو والحضر
إن الغنى يصلح دين الفتى * والفقر سواق إلى الكفر
الدعاء في المكاتبة وترتيبه والزيادة والنقص فيه
قال أبو بكر: اختار مشائخ الكتاب، أن تكون كتب الوزراء النافذة عن الخلفاء بغير تاء المخاطب، ولا نون الجمع، فيقول عنه: "فعلت كذا أو فعلنا كذا" بل يقول في كتبه عنه وتوقيعاته "فعل أمير المؤمنين كذا فامتثل ما أمر به أمير المؤمنين" وقد ذكرنا في التكاتب ما يغني عن إعادته.
ويكاتب الوزير الناس على مقاديرهم ورتبهم في السيف والقلم ومنازلهم، فدعاؤه لأمراء الأقاليم الكثيرة، المجموع لهم حربها وخراجها وسائر أعمالها كدعاء النظير إذا نقص قليلاً في صدور كتبه ويختمها بمثل ذلكن ولا بأس عندهم إن ذكر فيها تفدية. فأما دعاؤهم له فاختاروا أن يكون بغير التصدير وبالوزارة على حسب قوة أمرهم وتعززهم ومواقعهم من حسن رأي إمامهم. ومنهم من يدعو بالتوزير راغباً وراهباً.
وكان عبيد الله بن سليمان نقص خمارويه بن طولون في دعائه، فرد عليه مثله. فأجابه عبيد الله بتمام الدعاء وأحال بالذنب على كاتبه.
وكان القاسم بن عبيد الله - لما استوزر مكان أبيه - يكاتب الأمير بعد بالتأمير والدعاء التام، فيكاتبه بعد بالتوزير ويتمم الدعاء له.
ومن الوزراء من يدعو لبعض هؤلاء: "أطال الله بقاءك"، أو "أدام عزك"، ومنهم: "أدام الله عزك وأطال بقاءك". فأما من دون هؤلاء فيكاتبهم: "أعزك الله وأمد في عمرك". وإلى من دون هؤلاء: "مد الله في عمرك وأكرمك وأبقاك" وإلى من دون هؤلاء: "وأبقاك الله وحفظك".
قال: وأول من كتب: "عافانا الله وإياك من السوء" معاوية.
وكتب عبد الحميد إلى صديق له: "جعلت فداك من السوء كله".
وحدثني أبو القاسم إسماعيل المحاملي قال: حدثنا أبو العيناء قال: كتبت إلى صديق لي: "جعلت فداك من السوء كله"، فلقيني بعد ذلك فقال لي: أنا أستفيد منك أبداً لا عدمت ذلك، وقد كتبت إلي: "جعلت فداك من السوء كله".فلقيني بعد ذلك فقال لي: أنا أستفيد منك أبداً لا عدمت ذلك، وقد كتبت إلي: "جعلت فداك من السوء كله"، أعزك الله ما السوء كله? قال: فعجبت وضحكت وقلت: نلتقي بعد هذا وتقع الفوائد.
ولا يتسمى الوزير ولا يتكنى على عنوان كتابه إلى أمثال هؤلاء، ولكن يجعل العلوان:" لأبي فلان" في أحد سطريه، وفي السطر الآخر:"فلان بن فلان".
وقال طاهر بن الحسين - وهو يحارب الأمين، وكان أبو عيسى بن الرشيد معه - لكتابه: اكتبوا إلى أبي عيسى كتاباً تتقربون به إليه وتتباعدون، ولا تطعموه ولا تؤيسوه. فقلوا: إن رأى الأمير أن يعلمنا كيف ذلك ويحد لنا. فقال اكتبوه: بسم الله الرحمن الرحيم.
حفظك الله وأبقاك وأمتع بك، وعزيز علي أن أكتب إلى صغير منكم أو كبير بغير التأمير، وقد بلغني عنك ممالأة للمخلوع! فإن كان ذلك منك ميلاً على أمير المؤمنين فقليل ما أكاتبك به كثيرا، وإن كنت كما قال الله: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" فالسلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته.
وقال بعض الكتاب: ما أدري ما معنى المصارفة في تقديم إطالة البقاء في "أطال الله بقاك وأعزك"، وتأخيره في "أعزك الله وأطال بقاك" الأفضل التقديم والتأخير في أنفسهم، وإلا فالعطف بالواو، وهي تجيء للاشتراك فيدخل الثاني من الدعاء في معنى الأول، وقد قدم الله عز وجل، لما كان العطف بالواو مؤخراً على مقدم، فقال: "واسجدي واركعي مع الراكعين"، وقال: "يا معشر الجن والإنس:..
وعلى أن المؤخر قد قدم، وأخر المقدم بغير الواو من حروف العطف، قال الله عز وجل: "اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون"، قالوا: وإذا تولى لم يعرف شيئاً والمعنى مقدم ومؤخر كأنه فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. وقال عز وجل: "من بعد وصية يوصى بها أو دين" والدين قبل الوصية، وهذا كثير في الشعر واللغة، قال: فلم تستن الكتاب بذلك، وصارت التقدمة لحرف على حرف تزول، إذ قدم الثاني من اللفظ على الأول.
وقال بعضهم: لا أعرف الصرف بين "أطال الله بقاك" وبين "مد الله في عمرك" إلا ما رتبوه واستعملوه ورسموه. ومن يصارف في القليل من هذا ويشح عليه أكثر.
وكان أحمد بن ثوابة أشد الناس في هذا، كتب إليه ابن أبي خالد رقعة يؤانسه فيها ذكر أولادهما فقال: "ولو كانوا بني وبنيك". فقال: يقدم ذكر بنيه على بني لا كاتبته أبداً.
واجتنبوا أن يقولوا للوزير في الدعاء "جعلني الله فداءك" من أجل أن الشيء إنما يفدى بمثله أو بأجل منه، وليسوا كذلك. وفي هذا الذي ذهبوا إليه خبر مليح اعترضني حدثنا به أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: كتب إلي بعض إخواني من البصرة وقد تأخير عنه كتاباً أوجز فيه وملح: أطال اله بقاك كما أطال جفاك، وجعلني فداك إن كان في فداؤك، وقال:
كتبت ولو قدرت هوى وشوقاً * إليك لكنت سطراً في الكتاب
قال محمد بن يحيى الصولي: والبيت لأبي تمام.
وكتب آخر إلى أحمد وإبراهيم ابني المدبر، وقد نالتهما محنة وردفتهما نعمة: بسم الله الرحمن الرحيم:
لو قبلت عنكما، أو دانيت قدركما، لقلت: جعلني الله فداءً لكما. ولكني لا أجزي عنكما، ولا أقتل بكما. وقد بلغني المحنة التي لو مات إنسان بها لكنته، ثم اتصلت بي النعمة التي لو طال إنسان فرحاً بها لكنته. وتحت هذه:
وليس بتزويق اللسان وصوغه * ولكنه قد خالط اللحم والدما
حدثنا بذلك إبراهيم بن المدبر، وهذا رأي لم يكن القدماء يرونه، بل كانوا يخاطبون الخلفاء بالتفدية فضلاً عن الوزراء.
وحدثني محمد بن يزيد المبرد قال: سأل المأمون أبا محمد يحيى بن المبارك عن شيء فقال له: "لا، وجعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين"، فقال: لله درك ما وضعت واواً قط موضعاً أحسن من موضعها في لفظك. ووصله وجمله.
قال: وهذا لفضل أدب المأمون، علم أن الفدية من أخلص الدعاء، والطف التوسل، وأن غاية موجود الإنسان، وأنفس ذخائره نفسه، جلت أم قلت. وقد قرئ في الكتاب خير الأولين والآخرين، وأجلهم قدراً، وأعظمهم خطراً، محمد صلى الله عليه وسلم قال له بن ثابت في جوابه لأبي سفيان بن حرب:
هجوت محمداً فأجبت عنه * وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بند * فشركما لخيركما الفداء
فإن أبى ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وفاء
وقد اختار الكتاب أن يسقطوه من مكاتبة القضاة هذا الدعاء، وذهبوا إلى انه ليس من أبواب حقيقة الجد. وقال قمامة كاتب عبد الملك بن صالح: يجب أن يوفر التأييد على أصحاب السيوف دون القضاة، لأنهم أولى بأن يدعى لهم بالقوة. قال له عمرو بم مسعدة: القضاء إلى التأييد في أحكامهم أحرج، لأنها في الدماء تمضي وفي الفروج والأموال.
وكتب ابن ثوابة إلى عبيد الله بن سليمان يعتذر إليه من تركه مكاتبته بالنقدية: "الله يعلم - وكفى به عليما - لقد أردت مكاتبتك بالتفدية فرأيت هيباً أن أفديك بنفس لابد لها من الفناء، ولا سبيل لها إلى البقاء. ومن أظهر لك شيئاً يضمر خلافه فقد غش وألام، إذ كانت الضرورة توجبه، وتحقق أنه ملق لا يتحقق، وعطاء لا يتحصل؛ وإن كان عند قوم نهاية من نهايات التعظيم، ودليلاً من دلالات الاجتهاد وطريقاً من طرق التقرب".
وكتب ابن القرية إلى بعض أصحابه، وذكر نفسه فقال: "وجعلها فداءك طيبة لك بذلك".
وما أحسن كتاباً كتبه أحمد إسماعيل إلى بعض الكتاب، وقد نال رتبة فنقص إخوانه في الدعاء: "الكبر أعزك الله معرض يستوي فيه النبيه ذكراً، والخامل قدراً. ليس أمامه حجاب يمنعه، ولا حاجز يحظره. والناس اشد تحفظاً على الرئيس المحظوظ، وأكثر اجتلاء لأفعاله، وتتبعاً لمعائبه، وتصفحاً لأخلاقه، وتنفيراً عن خصاله؛ منهم عن خامل لا يعبأ به، وساقط لا يكترث به. فيسير عيب الجليل يقدح فيه، وصغير الذنب يكبر منه، وقليل الذم يسرع إليه. والحال التي جددها الله لك، وإن كنت أراها دون حقك، وناقصة عن همتك، وأرضاً عند سمائك؛ حال الحاسد عليها كثير، وآمال المنافسين إليها تسير.
والمودة تقتضي النصيحة، والمقة تدعو إلى صدق المشورة. وليس يحرس النعمة ويحوطها، ويحسم الأطماع ويصرفها، ويستجيب القلوب النافرة ويطلقها؛ إلا ترك ما أراك تستعمله في ترتيب المكاتبة، وتمييز المخاطبة، والمحاضة في الفاظ الدعاء، والبخل بيسير الثناء. وتطبيق إخوانك فليس من حقك أن تحطهم حال رفعتك، وأن تنقصهم دولة زادتك. كما ليس من حقك عليهم أن يغالطوك فيمسكوا عن خطابك، ويتحاموا عن عتابك".
تحرير الكتاب
قال أبو بكر تحرير الكتاب خلوصه كأنه خلص من النسخ التي حرر عليها: وصفا عن كدرها. وقال الله تعالى: "إني نذرت لك ما في بطني محرراً"، قال المفسرون: جميعاً خالصاً لبيت المقدس لا تشغله بغير خدمته، وحررت الغلام جعلته حراً بين الحرية والحرار.
قال الشاعر:
فما رد تزويج عليه شهادة * ولا رد من بعد الحرار عتيق
قد صار الغلام حراً خلص من العبودية. ورجل حر خالص من العبودية. ورجل حر خالص من العيوب. وطين حر خالص من الحمأة والرمل.
وسأل أعرابي فقال: "أما تتفضل على حر كريم الحرورية، أو مولى كريم المولوية، أو عبد كريم العبودية".
وقال بعض الكتاب: ليس الكتاب كل وقت على غير نسخة، ويحرر بصواب، وكل أوان، لأنه ليس أحد أولى بالأناة والروية وتوقي الاغترار، من كاتب يعرض عقله وينشر بلاغته، فينبغي له أن يعمل النسخ ويخمرها، ويقبل عفو القريحة ولا يستكرهها، ويعمل على أن جميع الناس له أعداء علماء بكتابه متفرغون له، منتقدون عليه.
وقال آخر: إن الابتداء بنظم الكلام ونثره فتنة تروق، وحدة تعجب. فإذا سكتت القريحة، وعدل التأمل، وصفت النفس، فليعد النظر، وليكن فرحه بإحسانه مساوياً لغمه بإساءتهن فقد قال الخوارج لعبد الله بن وهب الراسبي: نبايعك الساعة فقد رأينا ذاك. فقال: "دعوا الرأي يبلغ أناه، ولا خير في الرأي الفطير". وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: ما عندك في كذا? فقال: أريد أن أصقل عقلي بنومة القائلة، ثم أروح فأقول بعد تأملي بما عندي. وقال الشاعر:
إن الحديث يقف القوم خلوته * حتى يعبره بالسبق مضمار
فعند ذلك تستعلي بلاغته * أو يستمر به عي وإكثار
وكان قلم ابن المقفع يقف كثيراً فقيل له في ذلك فقال: "عن الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لتحيره".
والكتاب يتصفح أكثر من الخطاب لأن الكاتب والمخاطب مشافه مضطر، ومن يرد عليه كتابك ليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت، وإنما ينظر أصبت أم أخطأت، أو أحسنت أم أسأت? فإبطائك غير قادح في إصابتك، كما أن إسراعك غير معيب على غلطك.
ووصف بعض الكتاب النسخ فقال: ينبغي أن يصحبها الفكر إلى استقرارها، ثم تحرر على ثقة تصحبها، وتتأمل بعد التحرير من أولها إلى آخرها. فقد كتب للمأمون مصحف اجتمع عليه عليه، فكتب: بسم الله الرحيم وأغفل الرحمن فإن العين لم تعتبر ذلك حتى فطن هو.
وقال محمد بن عبد الملك للحسن بن وهب: حرر هذه النسخة وبكر بها فتصبح بها. فقال له محمد: قد كانت النسخة تامة فلم تصبحت. فقال: حتى تصفحت.
وحدثني أحمد بن إسماعيل قال: كان بعض الأغبياء ينظر في نسخة بعد نفوذ الكتاب فقيل له:
مستلب اللب معنى الشباب * عذبه الهجر أشد العذاب
يؤمل الصبر وأنى له * به وقد مكن منه التصاب
كناظر في نسخة يبتغي * صلاحها بعد نفوذ الكتاب
قال بعض الكتاب: كانوا يسمون المحرر الإمام لأنه يأتي من الخط بما يؤتم. به قال: ومن هذا كتب الصبي أمامه إنما هو ما يأتم به ويتعلم عليه.
من زيد في دعاء المكاتبة له فشكر
قال الصولي حدثنا محمد بن زياد أبو عبد الله الزيادي قال: كان العتبي محمد بن عبيد الله صديقاً لعمرو بن عثمان القيني فكتب إليه العتبي كتاباً فزاده في الدعاء فكتب إليه عمرو:
يا ابن الذوائب من قريش والذرى * وسليل سادة ساكني البطحاء
حاشا لمثلك أن يراني قائلاً * بكرامة تزري لديه برائي
لم ترض إذ كنيتني وبدأت بي * حتى دعوت الله لي ببقائي
ولو اقتصرت على التي هي قيمتي * فيما بتت قضية الحكماء
لكتبت لي عمرو بن عثمان ولم * تتبعه في العنوان حرف دعاء
فاترك جعلت فداك إكرامي بماأخشى به عند الورى استغباني
فالعين تصغر أن تقدمها على * أولاد حرب السادة الكبراء
حلوا من العز المنيع نيافة * يحمون غيرهم ذرى العلياء
حدثني أحمد بن يحيى الأسدي قال: كتب إلي الحسين بن سعد فنقصني في الدعاء في الدعاء، فكتبت إليه: قد علمت أعزك الله أن السبب في العداوة بين محمد بن عبد الملك الزيات وإبراهيم بن العباس الصولي، أنه لما ولي وزارة المعتضد، نقص إبراهيم عما يستحقه من الدعاء، فلم تحتمل ذلك نفسه ورياسته وموضعه من الصناعة والدولة، فعاتبه في ذلك فلم يعتبه، فألهب له نار هجاء لا يطفيها الدهر، وعلامة ذلك قوله في كلام منثور قد ذكره ولي هذا الأمر، فما ظن أن الرياسة تنجذب إليه، ولا أن العز يتحصل له بحط إخوانه عن منزلتهم، ونقصهم عن مرتبتهم، فبخسني في المكتابة، وأساءني في المعاملة، في كلام له طويل، ثم نظم ذلك في شعر فقال:
من رأى في الأنام مثل أخ لي * كان عوني على الزمان وخلي
رفعته حال فحاول حطي * وأبى أن يعز إلا بذلي
وكان الخطاب في أول الأمر، ثم أنحى عليه بالهجاء.
فافتقد - أعزك الله - إنصاف إخوانك وتجنب ظلمهم يصف لك غدير ودهم.
وحدثنا محمد بن العباس الشلمغاني، قال: لما ولي ابن بشر المرثدي كتابة الموفق بالله نقص أحمد بن علي المازراني في الدعاء حين كاتبه فكتب إليه:
كلما رمت أن أخلف من كا * ن أمامي خلفت عمن ورائي
انقصت الدعاء لي منك لما * زادك الله رفعة في دعائي
فلئن تم ما أراه وأصبح * ت: وزيراً لتطعمني جزائي
قال: فاعتذر إليه وزاده في الدعاء.
وكان هذا في كلام منثور لمن كان قبل المازراني: وكنت آمل لك الرفعة، ولم أدر أنها تكسيني الضعة، وأرجو لك الثروة ولم أدر أنها تؤديني إلى الإضافة، فكان المنى طرد العنى، والدعاء سبب الثراء.
وكتب أبو حفص عمر بن أيوب إلى أبي الحسين أحمد بن محمد بن المدبر يعاتبه في أن دعا له "مد الله في عمرك":
يا جواداً بالثنا * وبخيلاً بالعطا
إن "مد الله في عمرك" من كتب الجفا
ليس يستعمل هذا الصدر بين الأصفيا
فتفضل يا فتى الناس بتفخيم الدعا
وكتب أحمد بن إسماعيل إلى صديق له نقصه في دعائه ولحن في كتابه:
وما أنا والكتاب إلى صديق * أدين من الوفاء بغير دينه
أعظمه ويحقرني وأدعو * له باللفظ يدعو لي بدونه
وينقصني ولم أنقصه حقاً * ويخشن لفظه من بعد لينه
فقام كتابه بالرد عني * لكثرة ما تضمن من لحونه
وقال أيضاً لآخر فعلبه مثل فعله:
رأيت الرياسة مقرونةً * بلبس التكبر والنخوه
إذا ما تقمصها معجب * تتايه في الجهل والخلوه
ويقعد عن حق إخوانه * وكلهم مسرع نحوه
قالوا: وكما أن النقص عن الرتبة مذموم فكذلك طلب الزيادة مكروه، لأن من طالب من الدعاء بما فوق محله، تعرض لحطيطته من استحقاق. وإسقاط الترتيب جحد للحقوق، وإلحاق للجليل بالدقيق. قال: وأنشدني علي بن محمد بن نصر لنفسه في رجل نقصه في الدعاء:
لساني بالثناء عليك رطب * وبالمكروه إن أحببت عضب
أتنقصني الدعاء وذلك شيء * على مثلي من الأحرار صعب
فإن عاودته فأجبت عنه * فما لك إن أسأت إلي ذنب
وكتب عبد الصمد بن المعدل إلى صديق له كتاباً فيه: "وأمتع بك" فكتب إليه عبد الصمد، وقد روي هذا لغيره:
أحلت عما عهدت من أدبك * أم نلت ملكاً فتهت في كتبك
أم هل ترى أن في مكاتبتي ال * إخواني نقصاً عليك في حسبك
إن جعا كتاب ذي أدب * يكون في صدره: وأمتع بك
أتعبت كفيك في مكاتبتي * حسبك مما يزيد في تعبك
ويروى هذا الجواب عن هذا:
كيف يحول الإخاء يا أملي * وكل خير أنال في سببك
إن كان ذنباً جناه ذو ثقة * فعد بفضل عليه من أدبك
فاعف فدتك النفوس عن رجل * يعيش حتى الممات في كنفك
وقد يزيد الرئيس تابعه في الدعاء إذا كان مغيظاً عليه لشيء ضره أو خالفه فيه، فيجري ذلك مجرى الاستهزاء به وليس ذلك مما ذكرناه أولاً.
وكتب بعض الكتاب إلى بعض الأخلاء من إخوانه، وقد زاده في الدعاء: "علي - أعزك الله - الإعظام والهيبة في هذه الحال، إلى ما لا لم أزل عليه قبلها من الإخلاص والطاعة، وعليك أن لا يمنعك النظر إلي بعين المودة، من الأخذ مني لنفسك بحق الرياسة، ومن أطاعك لها رجاء أو هيبة فإني أطيعك لها وداً ومحبة".
ما يتكاتب به الناس اليوم
يكتب الإمام إلى ولي عهد المسلمين: "من عبد الله أبي فلان الإمام الراضي بالله أمير المؤمنين إلى فلان ابن فلان. سلام عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمد وآله"، ثم يكتب بما يراد، ثم يقال: "فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، وكتب فلان ابن فلان باسم الوزير وباسم أبيه يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا".
ويكتب عن ولي العهد مثل ذلك، إلا أنه يجعل مكان أمير المؤمنين ولي عهد المسلمين.
وكذلك كتب الإمام الديواني إلى الوزير.
وأما مكاتبة الوزراء، أمراء الناحية الأجلاء، المساوين والمقارنين، فهي: "أطال الله بقاءك، وأدام عزك وكرامتك، وأتم نعمته عليك، وإحسانه إليك وعندك". وربما زيدت لفظة ونقصت لفظة ودون هذا قليلاً "أطال الله بقاءك وأعزك أكرمك وأتم نعمته عليك وإحسانه إليك".
وأول من كتب: "أطل الله بقاء أمير المؤمنين وأدام عزه" سليمان بن وهب، وكان: "وأعزه". ودون هذا: "أدام الله عزك وأطال بقاءك وأدام كرامتك وأتم نعمته عليك وأدامها لك". ودون هذا: "كرمك اله وأبقاك وأتم نعمته عليك وأدامها لك". ودون ذلك هذا الدعاء بإسقاط: "وأدامها"، ودون ذلك: "حفظك الله وأبقاء وأمتع بك"، ودونها: "عافان الله وإياك من السوء برحمته". فأما مكاتبات الناس إلى الإمام أو إلى ولي العهد أو إلى الوزير، فيكتب: "لعبد الله فلان بن فلان، إلى كذا أمير المؤمنين، سلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فإني أحمد إلى أمير المؤمنين الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم"، ويكون ذلك في سطرين وبعض آخر، ثم يقال: "أما بعد أطال الله بقاء أمير المؤمنين، وأدام عزه وتأييده وكرامته، وسعادته وحراسته، وأتم نعمته عليه، زاد في إحسانه إليه، بفضله عنده وجميل بلائه لديه، وجزيل قسمه له"، ويكون في سطرين. ثم يقال بعد ذلك: "فقد كان كذا"، لأن جواب" أما بعد" بالفاء فقد كان كذا وكذا.
فإذا أتى على جميع المعاني المحتاج إلى المكاتبة فيها، فبلغ إلى الدعاء قال: "أتم الله على أمير المؤمنين نعمه وهناه كرامته، وألبسه عفوه وعافيته، وأمنه وسلامته، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. وكتب فلان ابن فلان يوم كذا في شهر كذا".
وإلى ولي العهد والوزير مثل ذلك، إلا أن الفرق بين الإمام وبينهما أن يكتب إلى الإمام مع السلام "وبركاته" وفي آخر الكتابة مثل ذلك، ويحذف "وبركاته" إلى هذين في التصدير ويثبت في آخر الكتاب، وقد ذكرت لك فيما تقدم.
ويكاتب الوزير أيضاً الإمام لغير تصدير، إذا لم تكن الكتب منشأة من الدواوين. ويكاتب الوزير في الحوائج لغير تصدير، وإذا كوتب أمير أو قاض: "أطال الله بقاء الأمير أو القاضي"، لم يقل: أما بعد ولا سلام على أحدهما.
ومكاتبة النظراء تحتمل كل شيء على حسب المودة.
قراءة الكتاب بعد كتبه وما جاء في ذلك.
قال محمد بن يحيى الصولي: حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن عتاب قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز الجروي قال: حدثنا عبد الله بن يحيى، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبيه، عن جده، قال: "كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يملي علي، فإذا فرغت قال: اقرأه، فأقرؤه فإن كان فيه سقط أقامه".
وقال بعض الكتاب:
المح كتابك حين تكتبه * واحرسه من وهم ومن سقط
واعرضه مرتاباً لصحته * ما أنت معصوم من الغلط
وروي عن الأوزاعي أنه قال: العجم نور الكتاب، وإذا لم يعرض الكتاب، فمثله مثل رجل دخل الخلاء فلم يستنج.
ما جاء في رد جواب الكتاب والحض على التكاتب
قال الصولي: حدثنا أبو القاسم محول المستملي، قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا حكام، قال: حدثنا عتبة عن العباس بن دريح عن الشعبي عن ابن عباس قال: أرى رد الجواب - جواب الكتاب - كرد السلام.
أنشدني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لنفسه:
حق التنائي بين أهل الهوى * تكاتب يسخن عين النوى
وفي التداني لا انقضى عمره * تزاور يشفي غليل الجوى
ونحوه لغيره:
إذا الإخوان فاتهم التلاقي * فلا صلة بأحسن من كتاب
إذا جاء الكتاب إلى صديق * فحق واجب رد الجواب
ومن مليح ما قيل في التكاتب:
هل تذكرين إلى التجاوز بيننا * ثمر على الشجر الذي لم يغرس
إذ سر قلبي في يديك ومثله * لك في يدي من الفصيح الأخرس
ومن مليح ما قيل في استبطاء الجواب، أبيات كتبت بها في صدر قصيدة لي سيدنا أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وهو إذ ذاك أمير:
ليس يأتي من الأمير كتاب * ابتداء ولا يرد جواب
فإذا ما شكوت ذاك وعاتب * ت: أتاني على العتاب عتاب
وأطاف الملام بي في الذي قل * ت: ولم يأتني له إعتاب
ولسان الذي يغيب كتاب * ناطق عنه حين عز الخطاب
فإذا أبطأ الجواب عليه * فهو كالناطق الذي لا يجاب
وكمن رده وقد عرفوا منه حضوراً تجهم وعتاب
عذت بالأعذار إن كان ذنب * دية الذنب عذرة ومتاب
ولما خرج يحيى بن عمر من المدينة إلى الكوفة فأقام بها كتب إليه أخوه احمد بن عمرك أيا سيداً قد رماني البعا * د منه بأمر فظيع عجاب
فلما تمادى رماني الفرا * ق وطالت بنا مدة الاغتراب
أقمت الكتاب مقام اللسا * ن مني فاسمع لقول الكتاب
كأني أناجيك إن جاءني * ورود البشير برد الجواب
ويقال: أجاب عن الكتاب يجيب إجابة، وقالوا: جابة، وفي المثل: "أساء سمعاً فأساء جابة"، ثم استعمل في غير المثل، فقال الشاعر:
أصم الصدى لم يدر ما جابة الرقى * ولم يمس في ضحك الندى يتبلبل
وقالوا: أحببته جيبة. وليست بجودة مما تقدم.
حدثنا أشعث الضبي قال: كتب رجل إلى صديق له يستبطئ جوابه: "كتبت فما أجبت، وواصلت فما واترت، وأضبرت فما وحدت". قال: فكتب إليه صاحبه كتاباً عنونه فلما فتحه إذا فيه:
الجفاء القبيح أحسن عندي * من بغيض الخطاب للإخوان
قال الصولي: قوله: واصلت كتبي: جعلت واحداً في أثر الآخر، لا زمان بينهما ولا تمكث. فما واترت: أي كتبت كتاباً بعد كتاب. وأكثر الكتاب يساوون بين واصلت الكتب وواترتها، وذلك جائز على القريب، فأما اللغة فإنها توجب أن المواصلة لا انقطاع بينها، وأن المواترة لابد من انقطاع قليل بينها.
قال الأصمعي: يقال: ما في سيره ولا وتيره أي ما فيه توقف. وأنشد لامرئ القيس:
نجاء مجد ليس فيه وتيرة * وتذنبها عنه باسحم مذود
وأنشد لكعب بن زهير يصف بعر الناقة:
وسمر ظماء واترتهن بعدما * مضت هجعة من آخر الليل ذبل
وقال: قلت لزيد بن كثوة: ما السمر الظماء? فقال: البعرات، جعلني الله فداءك، ظمئت لعطشها وذبلت. قال: واترتهن تجيء الواحدة، ثم يكون انقطاع ما، ثم تجيء الأخرى، واضبرت وضبرت كتبت إضبارة كتب وجمعها أضابير. وكذلك إضمامة وجمعها أضاميم مثل أضبارة وجمعها أضابير. وقالت امرأة من قيس: وقالت امرأة قيس:
ليس بنا فقر إلى التشكي * إضمامة كحمر إلا بك
أي لنا إبل مجتمعة أو خيل. وقال ابن الأحنف:
كتاب أتاني على نأيها * يخبر عن بعض أنبائها
فنفسي الفداء لهذا الكتا * ب إن كان خط بإملائها
وقال: يا من جعلت فداه * ومن براني هواه
وكم قد كتبت كتاباً * يبكي له من قراه
أنا الفداء لمن خط * ه ومن أملاه
الشمس أحسن شيء * رأيته حاشاه
وقال أيضاً:
أيا من لا يجيب إذا كتبنا * ولا هو يبتدينا بالكتاب
أما في حق حرمتنا لديكم * وحق إخائنا رد الجوابوقال الأحنف:
ما لي أهان ولا تجاب صحائفي? * وإلى متى أقصى لديك وأحجب?
ما كان ضرك إذ كرهت إجابتي * بيديك أن تستوصفي من يكتب
وقال أيضاً:
أعياني الشادن الربيب * أكتب أدعو فلا يجيب
من أين أبغي دواء ما بي * وإنما دائي الطبيب
آخر:
كتبت إلى ظلوم فلم تجبني * وقالت: ما له عندي جواب
فلما صرفت فكري أتاني * وقد غفل الوشاة لها كتاب
وفيه الوصل يشرق جانباه * وقد رق التأول والخطاب
كتبت إليك والرقباء حولي * إذا ما مر طير واسترابوا
قوله: وقد رق التأويل والخطاب من قول امرئ القيس:
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا * ورضت فذلت صعبة أي إذلال
وأنشدني علي بن الصباح:
يا ذا الذي ضن عني * برقعة ومداد
ضايقتني في بياض * تزينه بسواد
وقد أخذت سواد * ي ناظري وفؤادي
ومن مليح ما قيل في تأخير الكتاب:
يا جامعاً شيم السيادة والذي * ورث النجابة منجباً عن منجب
أشكو إليك لهيب نار في الحشا * تصبي بريح الشوق إن لم تجنب
ماذا عليك وأنت بحر في الندى * لوجدت من ماء المداد بمذنب
تجلو القذى بسواد سطر لائح * في وجهه غرر الكلام المذهب
أصبحت تبخل بالكتاب فخفت أن * تلقي الدواة يد وإن لم تكتب
حتى كأن الحوض جونة حنة * منها وظهر الدرج ظهر العقرب
أرضى لخلك أن يرى مستعتباً * من جفوة ويراك غير المعتب
ما كنت أخشى أن تضن بكاغد * عني وقد يقع الذي لم أحسب
لا تحسبن كتبي فكاغد أرضكم * عين الرخيص وأنت عين المسهب
وحدثنا علي بن الصباح قال: حدثنا أبو محكم قال: كان عبد الرحمن بن مسلم الباهلي باراً بزياد بن عبد الرحمن القشيري صديقاً له، ثم غاب فلم يكتب إليه، ولم يجبه عن كتاب فقال زياد:
إخاؤك محض للصديق إذا دنا * وعاينت ممزوج إذا لم تعاين
دنونا فاحمدنا الدنو وربتنا * ببينك والتجريب عند التباين
فلم يأتنا منك الكتاب تقرباً * وطاح جواب واصل للقرائن
فأجابه عبد الرحمن بن مسلم:
ما ذاك من نخوة ولا صلف * ولا لضيق في القول والعطن
نحن بلوناك في الأمور فما * تعرف من سيء ولا حسن
وقد قرناك بالوفاء فما * تقرن إلا اعترضت بالقرن
من تعاطي الكتابة وادعاها وهو لا يحسنها
قال أبو بكر من مشهور ما قيل في ذلك:
حمار في الكتابة يدعيها * كدعوى آل حرب من زياد
فدع عنك الكتابة لست منها * ولو غرقت ثوبك في المداد
ولي من أبيات في بعض الكتاب:
إن كانت الكتبة بالشوم * ورقتي الأخطار واللوم
فصغر الحلقة حتى ترى * وأنت معلوم كمعدوم
فأنت لا شك على ما أرى * اكتب من في العرب والروم
الدهر ذو ظلم ولكنه * منك تشكي حال مظلوم
يأنف أن تحيا ولكنه * تحت قضاء فيك محتوم
حدثني عبيد الله بن عبد الله قال: حدثني فضل البريدي قال: كان ولد محمد بن نصر بن بسام يقرؤون علي الشعر، وكذلك أولاد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، وكانوا أدباء، وكان محمد بن نصر وعبد الله منفردين من الأدب، فجلسا يوماً في مجلس فيه أولادهما، ومدت ستارة لم يسمع الناس بأحذق في الغناء ممن خلفها، وفي المجلس ما يكون مثله في مجالس الخلفاء وأزيد، فغنت صاحبة الستارة شعراً لجرير:
ألا حي الديار بسعد إني * أحب لحب فاطمة الديارا
فقال عبد الله لمحمد ابن نصر: لو لا جهل الأعراب ما معنى السعد هاهنا. فقال محمد: لا تغفل فإنه يقوي معدهم ويصلح أسنانهم. قال: فقال لي علي بن محمد: يا أستاذ واصفع أيما شئت منهما واجعله أبي.
وقال ابن بازان الأصبهاني يهجو رجلاً من كتاب أصبهان وقد مات ختن له:
كاتب يبكي على ختنه * دمعه جار على ذقنه
يعلم القرطاس في يديه * أنه قد شذ عن وطنه
ليس يدري في كتابته * ما قبيح الأمر من حسنه
قال الصولي أنشدنا هذا الشعر لعبد الصمد بن المعدل.
دعاء المكاتبات وأصوله وما حمد منه وذم
قد كره قوم من أهل العلم: "أطال الله بقاءك". وروى عن حماد بن زيد أنه قال: أحدثها الزنادقة. وقال الأصمعي: هي من دعاء الزنادقة. وقيل: أصل يبطل هذا ويطلق التكاتب بها إذا كان الناس كلهم الآن عليها.
حدثنا إسحاق بن إبراهيم البزار، ومحمد بن سعيد الأصم قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي خبيبة، عن معاذ بن رفاعة بن نافع قال: شهدت نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم علي وطلحة وعمر وعثمان والزبير وسعد رضي الله عنهم يذكرون الموؤدة فقال عمر: أنتم أصحاب رسول الله تختلفون في هذا، فكيف بم بعدكم? هم أشد اختلافاً. فقال علي: إنها لا تكون موؤدة حتى يأتي عليها الحالات السبع. فقال عمر: صدقت أطال الله بقاءك.
قال ابن لهيعة: المعنى لا تكون موؤدة حتى تكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً، ثم يظهر مستهلاً، إذا دفنت فقد وئدت، لأن من الناس من قال: إن المرأة إذا أحست بحمل فتداوت لتسقطه فأسقطته فقد وأدته. فأخبر أن ذلك لا يكون موؤدة، حتى يأتي عليها الحالات السبع.
وقد ذكر الله عز وجل: الموؤدة فقال: "وإذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت".
وكانت العرب إذا ولد لأحدهم ابنة، دفنها حية. فيقال: وأدها يئدها وأداً.فدى صعصعة ابن ناجية المجاشعي خلقاً من البنات، بإبل دفعها إلى آبائهن لأنهم كانوا يفعلون ذلك للضر والفقر فقال الفرزدق يفخر بهذا:
وجدي الذي منع الوائدا * ت فأحيا الوئيد ولم يوأد
حدثنا علي بن الصباح قال: حدثنا أبو مسلم السعدي قال: حدثني ابن علية، عن سوار بن عبد الله العنبيري، عن الحسن قال: دخل الزبير على النبي صلى الله عليه وسلم وهو عليل فقال: ما الذي بعدك جعلني الله فداؤك? فقال: "يا زبير أما تركت إعرابيتك بعد?" كأنه كره قوله: جعلني الله فداؤك. والفداء يمد ويقصر.
وقد روى رافع ب جريج أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: "يكون قوم من أمتي يكفرون بالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى". قال: قلت: جعلت فداك يا رسول الله وكيف ذاك? قال: "يقرون ببعض القرآن ويكفرون ببعضه". في حديث طويل، حدثنا إبراهيم بن عبد الله النميري. قال: حدثنا حجاج بن نصير قال: حدثنا حماد بن إبراهيم الكرماني، عن عطية، عن عطاء بن رافع، عن عمرو بن شعيب، قال: كنت عند سعيد بن المسيب فقال: سمعت رافع بن جريج يقول. وذكر حديثاً طويلاً.
حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: حدثنا عبد الله بن شيث قال: كتب إلي بعض إخواني من البصرة إلى المدينة كتاباً صدره: "أطال الله بقاك كما أطال جفاك، وجعلني فداءك إن كان في فداؤك" وتحت ذلك:
كتبت ولو قدرت هوى وشوقاً * إليك لكنت سطراً في الكتاب
قال: وكانت الكتب قديماً يقال فيها: "وأتم نعمته عليك" فلما قال ابن الرقاع العاملي:
صلى الإله على امرئ ودعته * وأتم نعمته عليه وزادها
وزاد الكتاب على ذلك: "وزاد في إحسانه إليك".
وحدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: سمعت ابن الأعرابي يقول تقول العرب: "وهبني الله فداءك" بمعنى جعلني فداءك، فأما "وقدمني قبلك"، فإن أبا تذكوان القاسم بن إسماعيل حدثني قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول: ما أظن قول الكتاب: "وقدمني قبلك" إلا مأخوذاً من قول الأغر بن كابس العبدي في أخيه الصقر:
أخي أنت في دين وقربى كلاهما * أسر بأن تبقى سليماً وأفخر
إذا ما أتى يوم يفرق بيننا * نموت فكن أنت الذي تتأخر
قال: فقيل لإبراهيم: إن هذا يروى لحاتم. فقال: "وما على من لا يدري شيئاً في نسبته إلى غير قائله". وهذا وأشباهه كثير. وقد ذكرته مستوفى في كتابي كتاب "اللقاء والتسليم"، الذي كتبت به إلى القاضي عمر بن محمد بن يوسف.
ومن قديم ما قيل في "قدمت قبلك": قول حنظلة بن عرادة، أنشدناه المغيرة بن محمد المهلبي، عن أبي محلم له يخاطب قومه:
أسعد بن زيد أنطقتني رماحكم * وكنت مجرا ضحكة للمواشر
فهذا أوان الصبر قد مت قبلكم * فموتوا حفاظاً بالسيوف البواتر
اللغة في دعاء المكاتبة
التأييد في اللغة التقوية. والأيد القوة، قال الله عز وجل: "بنيناها بأيد" أي بقوة. فإذا قال: وأيدك، فكأنه قال: قواك. فإذا قالوا: وتأييده وكلاءته، فإنما قولون وحفظه. وفلان يكلأ القوم يحفظهم، فهو كالئ لهم. فإذا قالوا: وزاد في إحسانه وآلائه لديك. فإن الآلاء النعم، واحدها إلى وألى مثل عنب وأعناب. قال الله عز وجل: "فبأي آلاء ربكما تكذبان" أي فبأي نعمه لما عدد في سورة الرحمن نعمه على عباده، أتبع كل نعمة بذلك توبيخاً لمن كفر به، وجحد نعمه. فإذا قالوا: "وأدام عزك" فإن العز ضد الذل وأصله المنعة، وعز الشيء إذا امتنع وهو من قولهم: أرض عزاز إذا كانت صلبة وقولهم "من عز بز" أي من غلب سلب، لأنه يقال بزه كذا أي أخذه منه.
قال الصولي: ودخلت يوماً على بعض الوزراء، وهو يقرأ كتاباً، من عامل له، فمر فيه على "قد علم الله نصحي واجتهادي وإيالتي" فقال ما معنى إيالتي? قلت يريد حسن قيامي. حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: سمعت العرب تقول: آل ايلة فلان يؤولها أو لا وإيالة إذا كان حسن القيام عليها.
فأما قولهم: وجميل بلائه لديك، فإني سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وقد سئل عن بيت زهير:
رأى الله بالإحسان ما فعلا بكم * فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فقال المعنى رأى الله إحسانهما فصنع إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده لأنه يبتلي بالخير والشر والصحة والسقم. قال محمد بن يحيى الصولي: وقال أبو عبيدة: فاختبرهما بخير ما يختبر به لا بشره، لأن الابتلاء عنده الاختبار، ومنه "لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين"، أي ولنختبرهم، وقد علم ذلك عز وجل كيف يكون، ولكنه يريد أن يقع منهم فعل له يقع عليه الجزاء والعقاب، لأنه لا يعذب على علمه ماذا فعلوا، فقد علم كيف كان، وعلمه عز وجل سواء فيما يكون وفيما كان إلا أنه لا يوجب الجزاء للعباد، وعليهم على ما يعلم منهم من إحسان وإساءة إلا بعد وقوع الفعل من العباد.
وسئل محمد بن يزيد النحوي عن قول العجاج في الثور:
وفي الحجوز وفتى الولي * ونية حيث انتوى منوي
فقال: يريد الدعاء له كأنه يكون بمكان فيه وسمي ثم يأتي الولي. ونية يريد وجهة يفتقدها الثور حيث انتوى توجيه منوى، أراد حين ذهب فأي مصرف فاعلاً إلى مفعول فيريد رزق تبناً بهذا المطر حيث توجه إما دعاء له وإما إخبار عنه وعن حاله، فكان هذا عندي مما تفرد بالقول فيه حتى أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب بعد ذلك للأعشى أعشى شيبان:
يا عمرو اقصد نواك الله بالرشد * وأقر السلام على الإبقاء والقصد
وبك عيشاً تولى بعد جدته * طابت أصائله في ذلك البلد
فقيل له: ما معنى نواك الله? فقال: رعاك الله الرشد حين انتويت وحين نويت، فصح ذلك عندي، وعلمت أنه من كلام العرب.
ومن ملح ما قيل في "مت قبلك" ما حدثنا به المبرد قال: كنت عند أبي العباس بن ثوابة، فوردت عليه رقعة البحتري وفيها:
اسلم أبا العباس واب * ق ولا أزال الله ظلك
وكن الذي يحيا لنا * أبداً ونحن نموت قبلك
لي حاجة أرجو لها * إحسانك الأوفى وفضلك
والمجد مشترط علي * ك قضاءها والشرط أملك
فلئن كفيت مهمها * فلمثلها أعددت مثلك
فكتب إليه: قد قضاها الله، ولو أفنيت المال، وهدمت الحال.
التاريخ وما قيل في معناه
تاريخ كل شيء غايته ووقته الذي ينتهي إليه، ومنه فلان تاريخ قومه في الجود أي الذي انتهى إليه ذلك.
وسئل بعض أهل اللغة ما معنى ذلك فقال: معنى التأخير. وقال آخر هو إثبات الشيء. ويقال: ورخت الكتاب توريخاً لغة تميم، وأرخته تأريخاً لغة قيس. وتاريخ وتاريخان وتواريخ. وأرخ كتابك هذا وورخه.
ولكل نبوة ومملكة تاريخ: فأما العرب فكانوا يؤرخون بالنجوم قديماً؛ وهو أصل، ومنه صار الكتاب يقولون: نجمت على فلان كذا حتى يؤديه في نجوم. وأنجمة جمع نجوم. والعرب تخص بالنجم الثريا، يقولون إذا طلع النجم يريدون الثريا ومنه قولهم:
طلع النجم غديه * فابتغى الراعي كسيه
والنجم بعد هذا سائر النجوم يدل الواحد على جميعها، كما يقال: أهلك الناس الدينار والدرهم يراد الجنس. وعلى هذا قرأ أبو عمرو بن العلاء: "وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار"، والنجم ما نجم من النبات، ومن الرأي ما ظهر وهو غير هذا.
وكانت العرب تؤرخ بكل عام يكون فيه أمر مشهود متعارف، فأرخوا بعام الفيل، وفبه ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في السنة الثامنة والثلاثين من ملك كسرى أنو شروان.
وأرخت العرب بعام الخنان لأنهم تماوتوا فيه، وعظم عندهم أمره فقال النابغة الجعدي:
فمن يك سائلاً عني فإني * من الشبان أيام الخنان
مضت مائة لعام ولدت فيه * وعشر بعد ذاك وحجتان
وأرخت قريش بموت هشام بن المغيرة المخزومي لجلالته فيهم، ولذلك قال شاعرهم:
وأصبح بطن مكة مقشعراً * كأن الأرض ليس بها هشام
وروي عن الزهري والشعبي، أن بني إسماعيل أرخوا من نار إبراهيم عليه السلام إلى بنائه البيت، حين بناه مع إسماعيل، وأن بني إسماعيل أرخوا من بنيان البيت إلى تفرق معد. ثم كانوا يؤرخون بشيء شيء إلى موت كعب بن لؤي. ثم أرخوا بعام الفيل إلى أن أرخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان سبب ذلك أن أبا موسى كتب إليه: إنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب ليس لها تاريخ، فلا ندري على أيها نعمل. وروي أيضاً أنه قرأ صكاً محله شعبان. فقال: أي الشعابين الماضي أم الآتي? فكان سبب التأريخ من الهجرة، بعد أن قالوا: نؤرخ بعام الفيل، وقالوا: من المبعث، ثم أجمع الرأي على الهجرة. وقالوا ما يكون أول التاريخ? فقال بعضهم: شهر رمضان، وقال بعضهم: رجب فإنه شهر حرام والعرب تعظمه، ثم أجمعوا على المحرم، فقالوا: شهر حرام وهو منصرف الناس من الحج. وكان آخر الأشهر الحرم فصيروه أولاً لأنها عندهم ثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والفرد رجب، فكانت الأربعة تقع في سنتين، فلما صار المحرم أولاً وقعت في سنة.
قال الصولي وسألت أبا ذكوان عن أرخت وورخت. فقال: مثله أكدت الأمر تأكيداً، ووكدته توكيداً لغة تميم، وبها نزل القرآن: "ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها". وأما التاريخ بلغة قيس فهو الذي يستعمله الناس، وأما التواريخ لغة تميم فما استعمله كاتب قط، وإن كانت العرب تتكلم به.
وغلبت العرب الليالي على الأيام في التاريخ، لأن ليلة الشهر سبقت يومه ولم يلدها وولدتهن ولأن الأهلة لليالي دون الأيام، وفيها دخول الشهر، وما ذكرهما الله عز وجل إلا قدم الليالي قال الله تعالى: "سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما". وقال: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل". وقال جل اسمه: "سيروا فيها وأياماً آمنين".
والعرب تستعمل الليل في الأشياء التي يشاركها فيها النهار دون النهار، لاستثقالهم الليل فيقولون: أدركني الليل بموضع كذا لهيبته. وقال النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقالوا: صمنا عشراً من شهر رمضان، وإنما الصوم للأيام، ولكنهم أجازوه إذ كان الليل أول شهر رمضان. وأنشد أبو عبيدة:
فصامت ثلاثاً من مخافة ربها * ولو مكثت خمساً هناك لصلت
وأما الشهور فإنها كلها مذكرة، إلا جمادى الأولى وجمادى الآخرة. ويكتبون من شهر كذا إلا في ثلاثة أشهر، يكتبون في شهر رمضان لقول الله عز وجل: "إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن".ويقولون: في شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر، لأن الربيع وقت من السنة، فخالوا إذا قالوا: من ربيع ولم يذكروا الشهر أن يظن أنه من الوقت. قال الراعي:
شهري ربيع ما تذوق لبونهم * إلا حموضاً وخمةً وذويلاً
كل ما انكسر واسود من النبت فهو ذويل. فإذا رأوا الهلال أول ليلة كتبوا "وكتب ليلة الجمعة غرة كذا ومستهل شهر كذا ومهل شهر كذا"، لأنهم يقولون: استهل الهلال، وأهل الهلال، ولا يقولون: هل ولا أهل ولا استهل، ومن قال ذلك فقد أخطأ.
والاستهلال الصوت والصياح، ومنه استهلال الصبي صياحه وبكاؤه إذا ولد. فلما كانوا يكبرون عند رؤية القمر كل أول ليلة من الشهر وفي أول سائر الشهور لقربهم بمضي الخارج من وقت الحج، وسرورهم بالموسم، نسبوا الرؤية إلى فعلهم فقالوا: استهل وأهل، وسموا القمر هلالاً لهذا المعنى.
وأهل مكة يجتمعون ويوقدون النار ويلعب ولدانهم وعبيدهم عندها كل أول ليلة، من سائر الشهور، إلى وقتنا هذا لفرحهم بقرب وقت الحج.
ويكتبون ليلة الإهلال لغرة كذا ولا يكتبون لليلة خلت، ولا لليلة مضت إلا من الغد لأن الليلة قد مضت. وإن كتبوا يوم الجمعة قالوا: أول يوم شهر كذا، ولا يكتبون مستهل ولا مهل لأن الهلال إنما يرى بالليل. ويكتبون في اليوم الثاني لليلتين مضتا، فإذا جاز ذلك، كتبوا لثلاث خلون وأربع مضين، وكتبوا لثمان خلون فيحذفون الياء ويثبتون الألف في الخط.
فإذا أضافوا الليالي أثبتوا الياء للإضافة، لأنه لا يكون تنوين مع إضافة وإنما سقط الياء للتنوين، فيسقطون الألف عند ذلك في الخط، فيكتبون لثمان ليال، ومنهم من يثبتها. وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
وإنما أنثوا إلى قولهم: لعشر خلون، لتقدم الليالي على الأيام كما ذكرت، فإذا جاوز العشر قالوا: لإحدى عشرة ليلة خلت ومضت ولاثنتي عشرة ليلة. وإنما قالوا: ههنا خلت ومضت لأن الترجمة بليلة فوحدوا الفعل لذلك. ويكتبون: لخمس عشرة ليلة خلت، وإن شاؤوا كتبوا: للنصف من شهر كذا، ولا يكتبون لخمس عشرة ليلة بقيت، كرهوا ذلك لأنه شبيه الاستثناء، ولا يكون إلا أقل مما استثني منه، ولكن يكتبون بعد النصف بيوم: لأرع عشرة ليلة بقيت. وقد كره أهل الورع ذلك، لأنهم لا يدرون كم بقي لنقصان الشهر وتمامه فيكتبون: لإحدى وعشرين ليل خلت، والكتاب على غير هذا. فإذا كان آخر ليلة من الشهر كتبوا: سلخ كذا لأنهم يقولون: انسلخ الشهر انسلاخاً، وسلخت أشهر كذا سلخاً وسلوخاً. ولو كتب كاتب في ربيع الأول ولم يقل في شهر، أو في رمضان ولم يقل في شهر، جاز وليس بالمختار. قال الشاعر:
جارية في رمضان الماضي * تقطع الحديث بالإيماض
ولا يدخلون في شهر من الشهور الألف واللام إلا في المحرم لأنه أول السنة فعرفوه لذلك كأنهم قالوا: هذا الذي يكون أبداً أول السنة. ولا يكتبون: لليلة بقيت وأنت فيها كما لم يكتبوا: لليلة خلت وأنت فيها.
والعرب تسمي أول ليلة من الشهر ليلة البراء لتبرء القمر من الشمس، ويسمونها النحيرة، لأن الهلال نحرها، أبي رؤي في نحرها وأولها. قال ابن أحمر:
ثم استمر عليها واكف همع * في ليلة نحرت شعبان أو رجبا
نحرت شعبان كان في نحره وصدره لأنها أوله كما نحرها الهلال إذا رؤي في أولها، ونحيرة فعيلة من نحرت مثل قتلت فهي قتيلة.
قال بعض الكتاب: التاريخ عمود اليقين، ونافي الشك، وبه تعرف الحقوق وتحفظ العهود.
قال: ولا يقع التاريخ في شيء من الكتب السلطانية من رئيس أو مرؤس إلا في أعجاز الكتب. وقد يؤرخ النظير والتابع ما خلص من الكتب في صدورها.
وقيل: الكتاب بغير تاريخ نكرة بلا معرفة، وغفل بغير سمة. قال بعض الشعراء في تاريخ وفاة:
وكان يؤرخ علم القرو * ن فها هو ذا اليوم قد أرخا
فأما الذي يروي للمستوغر بن ربيعة فهو قوله - وهو عجيب من العمر في مثل زمانه:
ولقد سئمت من الحياة وطولها * وازددت من عدد السنين سنينا
مائة أتت من بعدها مائتان لي * وازددت من عدد الشهور مئينا
هل ما بقي إلا كما قد فاتنا * يوم يكر وليلة تحذونا
ويقال: سبت وسبتان وأسبت وسبوت وأسبات وأسابت وأسابيت. وأحد وأحد وأحدان وأحاد وآحاد وأحدات. واثنين واثنايان وأثان وأثانين. وثلاثاء وثلاثاوان وثلاثوات. وأربعاء وأربعاوان وأربعاوات. وخميس وخميسان وأخمسة وخميسات. وجمعة وجمعتان وجمع وجمعات.
ومحرم ومحرمان ومحرمات ومحاريم ومحارم، وصفر وصفران وصفرات وصفارى وأصفار وصفارين، وربيع وربيعان وربيعات وأرابيع، وتقول: شهر ربيع وشهرا ربيع وأشهر ربيع، وجمادى وجماديان وجماديات، ورجب ورجبان ورجبات وأرجبة وأرجاب وأرجب وأراجيب ورجائب ورجابي. وشعبان وشعبانان وشعبانات وشعابين. ورمضان ورمضانان ورمضانات وأرمضة وأرامضة وأراميض ورماضى ورماضين، وشوال وشوالان وشوالات وشواويل، وذو القعدة وذوا القعدة وذوات القعدة وذوو القعدة، وذو الحجة مثله.
وتقول: أكريت الدار مشاهرة ومسانهة ومياومة ومناهرة وملايلة ومساوعة من الساعات.
قال أبو بكر محمد بن يحيى: حدثني محمد بن سهل الأحوال ابن أبي يوسف قال: سمعت ابن إسرائيل يذكر قلة مدة الوزراء فقال: كان هذا الأمر مزامنة، ثم صار معاومة، ثم صار مشاهرة، ثم صار مياومة، ثم صار مسا وتلجلج ثم قال: مساعات، وأخطأ أراد مساوعة فلم يفهم.
الترجمة في المكاتبة
أصل هذه اللفظة فارسية، وكذلك الترجمان، وقد تكلمت بها العرب بعد ذلك وعربتها. وإنما ذكرتها ههنا لأني أحب أن لا يصفر كتابي هذا من شيء يحتاجه الكاتب. فأنا الآن أعمل منها باباً أقربه جهدي على من يريد معرفته ليعلم كيف وجه الترجمة، فيعمل منها بعد هذا ما أراد.
وهي شبيهة بالمعمى وهو ما يكنى من الشعر كأن يسمي الألف فاختة، والباء صقراً، والتاء عصفوراً ثم يردد الحروف على هذا وترجمت له الأمر أوضحته له.
فحروب الله تعالى ب ت ث تسعة وعشرون حرفاً أولها الألف، وهي همزة لأنه لا يبتدأ إلا بمتحرك والألف ساكنة لا تتحرك.
وقال أحمد بن يحيى: من أجل ذلك قالوا بعد أن أتوا بالألف واللام ليعملوا أن هذه هي الألف الحقيقية، وهي التي تقع في آخر حتى ومتى وفي حياة وزكاة. فالحروف مع هذه تسعة وعشرون، ومنازل القمر في كل شهر ثمانية وعشرون منزلاً، ثم يستتر ثم يستهل، فجعلت القمر تماماً ليكمل تسعة وعشرين منزلاً بإزاء كل حرف منزل.
حدثني عون بن محمد الكندي قال: حدثنا العباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه، عن جده، عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قرأ: "والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم". فقال: هي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كل ليلة منزلة منها وهي: الشرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد سعود، وسعد الأخبية، والفرغ المقدم، والفرغ المؤخر، وبطن الحوت، والقمر. فأتممتها بالقمر، حتى ساوت الحروف.
فإذا أردت أن تكتب "أنا" كتبت: "الشرطان، سعد الأخبية، الشرطان". فإذا أردت أن تتبعها بإليك،كتبت: "الشرطان، سعد بلع، القمر، سعد الذابح". فقس على هذا جميع ما يرد عليك إن شاء الله.
الديوان
قال الصولي: هو اسم فارسي تكلمت به العرب فقالوا: ديوان ولم يقولوا: ديوان بفتح الدال، كما قالوا: ديباج ولم يقولوا ديباج.
قال الصولي: حدثنا أبو العيناء قال: حدثني الأصمعي قال: كنا عند أبي عمرو ومعنا خلف الأحمر، فقال له رجل أسمعت من يقول ديوان بفتح الدال? فقال أبو عمرو: ولو جاز هذا لقالوا في جمعه: دياوين. فقال خلف: قد سمعت بعض حمير ينشد:
عديني أن أزورك أم عمرو * دياوين تشقق بالمداد
فقال أبو عمرو لخلف: إن حمير لم يفدها هواء نجد. قال أبو العيناء: فسئل الأصمعي عن معنى البيت فقال: يعني أنه في بعث قد كتب اسمه فهو يخشى أن يحل به فيسقط.
قال محمد بن يحيى الصولي: والمعنى في أنه لو كان الواحد ديوان، لجمعوا دياوبن، إن الياء تكون صحيحة أصلية، مثل ريحان ورياحين، فإذا قالوا:ديوان كان الياء زائدة، فإذا جمعوا انفتحت الدال فقالوا: دواوين، وهذا الصواب لأنهم يقولون: دون هذا فالواو أصلية كما قالوا: ميزان والأصل موزان، لأنه من الوزن، فالواو أصلية، فمن أجل استثقالهم الكسرة مع الواو، قالوا: ميزان قلبوا الواو ياء فلما جمعوا قالوا: دواوين ردوا الواو لانفتاح الدال. قال الشاعر:
يا زين كتاب الدواوين * وفيلسوف الخرد العين
يا فتنة سيقت إلى فتية * عزاب كتاب مساكين
وكان سبب تدوين الدواوين، أن أبا بكر رحمه الله، لما تولى الأمر جاءه مال من البحرين، بعد أن وعد كل من له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة به، فأعطى جابر بن عبد الله عدة كانت له. وجاء مال البحرين فقسمه، فأخذ الرجل عشرة دراهم والمرأة كذلك والعبد كذلك. جاء في العام الثاني أكثر من ذلك، فأصابهم عشرون درهماً لكل واحد منهم، فتكلمت الأنصار في ذلك فقالوا: نصرنا وآوينا فلنا فضلنا، فلم تساوي بيننا وبين من ليس له شيء مما لنا? فقال أبو بكر: صدقتم ذاك لكم، فإن كنتم عملتموه لله فدعوا هذا وإن كنتم فعلتموه لغيره زدتكم، فقالوا: عملناه لله وانصرفوا.
حدثنا الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عدي عن عوانة قال: جاء مال من البحرين إلى أبي بكر رضي الله عنه، فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار وقالوا: فضلنا، فقال لهم أبو بكر: صدقتم إن أردتم أن أفضلكم فقد صار ما عملتم للدنيا، وإن شئتم كان ذلك لله والدين! فقالوا: والله ما عملناه إلا لله وانصرفوا. فرقي أبو بكر المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: "والله يا معشر الأنصار، لو شئتم أن تقولوا: إنا آويناكم وشاركناكم في أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإن لكم من الفضل ما لا نحصيه عدداً وإن طال به الأمد، فنحن وأنتم كما قال الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت * بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا، ولو كانت أمنا * تلاقي الذي يلقون منا لملت
هم أسكنونا في ظلال بيتهم * ظلال بيوت أدفأت وأكنت"
ثم توفي أبو بكر رضي الله عنه، وقام عمر بعده، فأتى أبو هريرة بمال من البحرين، وكان مبلغه ثمانمائة ألف درهم، وفي أخرى خمسمائة ألف درهم فخطب الناس فقال: "إنه قد جاءكم مال، فإن شئتم كلته لكم كيلاً، وإن شئتم عددنا لكم عدداً"، فقال له الفيرزان - وروي أن غيره قال له - إن العجم تدون ديواناً لهم يكتبون فيه الأسماء وما لواحد واحد. فأمر باتخاذ الديوان.
وقد روي أن عمر بعث بعثاً فقال له الفيرزان: إن تخلف من هذا البعث أحد كيف تصنع به وكيف يعلم عاملك بخبره? قال: فما ترى? فأشار بالديوان فعمله، وجعل المال في بيت مال، وجعل الأرزاق مشاهرة، وكل ذلك برأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتماع منهم فكان هذا أوله. ثم كثر المال عليه، فقالوا: بمن تبدأ? قال: أشيروا علي. فقالوا: أبدأ في الكتاب والقبض بنفسك. فقال: بل بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب عائشة في اثني عشر ألفاً في كل سنة، وكتب سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف، لكل واحدة وكتب بعد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في خمسة آلاف، ومن شهد بدراً من بن هاشم، ومن مواليهم، ثم كتب عثمان بن عفان في خمسة آلاف، ومن شهد بدراً من بني أمية ومواليهم على سواء.
ثم قال: قد بدأت بآل الرسول صلى الله عليه وسلم وبأقاربه فيمن ترون أن نبدأ بعدهم? فقالوا: بنفسك. قال: بل بآل أبي بكر فكتب طلحة في خمسة آلاف وبلالاً في مثلها. ثم قال للناس: بمن أبدأ? قالوا بنفسك. قال: صدقتم فكتب لنفسه، ولمن شهد بدراً، من بطون قريش، خمسة آلاف خمسة آلاف. ثم كتب لمن شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف أربعة آلاف. فقالوا: قصرت بنا عن إخواننا المهاجرين. فقال عمر: لا أجعل الذين قال الله: "للفقراء والمهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون" كمن كانت الهجرة في داره، فرضوا. ثم كتب لمن شهد أحداً بثلاثة آلاف لكل واحد منهم. ثم فرض لمن شهد فتح مكة في ألفين ألفين. وأنشد الطالقاني:
يا قمر الديوان يا * من صرت فيه علماً
كأنما في كبدي * أنت تجر القلما
وقال مجنون بني عامر يذكر أن للرقباء دواوين عليه:
إني أرى عائدات الحب تقتلني * وكان في بدئها ما كان يكفيني
في كل منزلة ديوان معرفة * لم تبق باقية ذكر الدواوين
تحويل الديوان من الفارسي إلى العربي
قال أبو بكر: حدثنا القاضي عمرو بن تركي قال: حدثنا القحذمي قال: كان بالبصرة والكوفة ديوانان لإعطاء الجند والمقاتلة والذرية بكتاب بالعربية، وديوان بالفارسية. وبالشام ديوان بالعربية لمثل ذلك، وديوان بالرومية. فحول ديوان العراق إلى العربية أبو الوليد صالح بن عبد الرحمن البصري، وهو مولى بني مرة بن عبيد من بني سعيد بن زيد مناة بن تميم وكان من سبي سجستان. وكان صالح يكتب لزادان فروخ على الدواوين أيام الحجاج، وكان أول من جمع له الغزاة أن زياداً قال: فاستكتب عليها زادان فروخ الأعور، فبقي إلى هذا الوقت قال: فلما رأى الحجاج ذكاء صالح قربه، فقال لزادان فروخ: إن الأمير يقدمني عليك، وأنت سببي منه، وما أحب ذلك، فلم يزل يؤخره عنه والحجاج يطلبه، فقال له زادان فروخ: لابد للحجاج مني لأنه لا يجد من يقوم بحساب ديوانه غيري، فقال له صالح: إنه إن أمرني بنقل الحساب إلى العربي فعلت، قال: فانقل شيئاً منه بين يدي ففعل، فقال زادان فروخ: لكتابه الفرس التمسوا مكسباً غير هذا.
قال وقدم الحجاج صالحاً فقلب صالح الديوان إلى العربي وكان كتاب العراقين كلهم غلمانه وتلاميذه. وكان ديوان الشام إلى سرجون بن منصور، وكان رومياً نصرانياً، كتب لمعاوية ولمن بعده إلى عبد الملك بن مروان، ثم رأى عبد الملك منه توانياً، فقال عبد الملك لسليمان بن سعد مولى لحسين - وكان على مكاتبات عبد الملك والرسائل: ما أحتمل سحب سرجون، أفما عندك حيلة في أمره? فقال: بلى أنقل الحساب إلى العربية من الرومية، فقال: افعل. فحوله، فولاه عبد الملك جميع دواوين الشام وصرف سرجون فلم يزل سليمان بن سعد على ذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز رحمه الله. ثم إن عمر بن عبد العزيز وجد عليه فعزله، واستكتب مكانه صالح بن كثير الصداي من أهل طبرية.
قال الصولي: حدثنا علي بن الصباح يقول: سمعت الحسن بن رجاء يقول: ناظر فارسي عربياً بين يدي يحيى بن خالد البرمكي فقال الفارسي: "ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا في أعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم وما فيها على ما سمينا، ما غيرتموه كالإسفيداج والسكباج والدوغباج، وأمثاله كثيرة وكالسكنجبين والخلنجبين والجلاب، وأمثالها كثيرة وكالروزنامج والاسكدار والفراونك، وإن كان رومياً ومثله كثير، فسكت عنه العربي. فقال له يحيى بن خالد: قل له: "اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة بعد ألف سنة كانت قبلها لا نحتاج إليكم ولا إلى شيء كان لكم".
قال: وما سمعته العرب فاحتاجت إلى استعماله في نظم أو نثر، فقد أعربته فصار عربياً بتكلمها به وإعرابها إياه. ألا ترى إلى امرئ القيس لما خرج يريد ملك الروم فرأى الفراونك، وفعله وإنه مقطوع الذنب كيف وصفه وعربه فقال في قصيدته التي أولها: سما لك شوق بعد ما كان أقصرا
فقال فيها:
إذا قلت روحنا أرن فرانق * على جلعد واهي الأباجل أبترا
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه * وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
قال أبو بكر: واعترضني خبر لطيف في الفرانق ليس من الكتاب فذكرته: حدثني عون بن محمد الكندي، قال: كان ابن شاهك عدواً لأحمد بن أبي أمية، وكان فيه تأنيث فولاه إسحاق بن إبراهيم عملاً، فقال ابن أبي أمية يخاطب إسحاق ويذكر ابنه بابن شاهك، وجعل الذي رماه به كالفرانق، وما معه كالخريطة فقال له:
"قل"للأمير أدام الله نعمته * قولاً له عند أهل الرأي تحصيل
إن ابن شاهك قد وليته عملاً * أضحى وحقك عنه وهو مشغول
بسكة أحدثت ليست بشارعة * تفضي إلى عرصة في جوفها ميل
يرى فرانقها في الركض مندفعاً * ينوي خريطته والبغل مشكول
وهذا نحو قول أعرابي يصف صاحباً له، تزوج فلم يفق ليله فأنشد:
فبات يسري ليله ولم ينم * ولم يجاوز سيره قيس قدم
وأنشد هارون بن عبد الله لدعبل، يهجو الحسن بن وهب، لما ولي البريد بنحو قول ابن أبي أمية:
ألا أبلغ أمير المؤمنين محمداً * رسالة ناء عن جانبيه شاحط
بأن ابن وهب حين يشحج شاحج * يمر على القرطاس أقلام غالط
أحب بغال البرد حباً مداخلاً * دعاه إلى غشيانها في المرابط
ولولا أمير المؤمنين لأصبحت * أيور بغال البرد حشو الخرائط
وقد هجا عبد الرحمن بن عائشة ميمون بن إبراهيم صاحب البريد بنحو معنى ابن أبي أمية فقال:
ألا قولا لميمون مقالاً * يدبره الحكيم بحسن عقله
أما ينهاك شيبك عن كتاب * شغلت بخرجة عنا ودخله
يجيء به الفرانق مستعداً * بغير يد فيأخذه برجله
الجزء الثالث
وجوه الأموال التي تحمل إلى بي المال وأصنافها ولمن تجب
الأموال ثلاثة
الفيء ووجوهه خمسة: منها ما أفاء الله على المسلمين، مما يجدونه في المدينة التي تفتح، بعد سكون الحرب، وانتقال الدار من اسم الكفر إلى الإسلام، فذلك فيء وليس بغنيمة، كالذي فعل عمر رضي الله عنه في كنز الفخيرجان، وقد أتى به السائب، وقد ولاه قسمة الغنائم بنهاوند، لما فتحها الله على المسلمين، جمع السائب الغنائم فقسمها، ثم جاء من دله على الكنز، فاستخرجه، وكان سفطين من جوهر فأتى بهما عمر رحمه الله، فأمره أن يبيعهما ويقسم ثمنهما بين الذرية، ولم يأمره أن يخمسه، فتبين أنه جعله فيئاً ولم يجعله غنيمة.
والوجه الثاني: الجزية جزية رؤوس أهل الذمة.
والوجه الثالث: ما يؤخذ من نصارى تغلب وهو الزكاة مضاعفة.
والوجه الرابع: ما يؤخذ من تجارات أهل الذمة التي يختلفون فيها.
والوجه الخامس: ما يؤخذ من تجارات المشركين الذين يدخلون بلاد الإسلام بعهد. يؤخذ من تجارات أهل الذمة نصف العشر، ومن تجارات المشركين العشر.
والمال الثاني: الخمس ووجوهه أربعة فأولها الركاز، وهو دفن الجاهلية والكفار القدماء، إذا وجده إنسان أدى إلى السلطان خمسه وكانت له أربعة أخماسه.
والثاني: المعدن وهو الموضع الذي يوجد فيه الذهب والفضة والرصاص والنحاس والحديد، وقد اختلف فيه، فقال أهل العراق: فيه الخمس كالركاز، وقال أهل الحجاز فيه الزكاة معجلة.
والثالث: ما استخرج من البحر من العنبر واللؤلؤ، وقد اختلف فيه، فقال أهل العراق: لا شيء فيه وهو بمنزلة المسك. وروي عن عمر رضي الله عنه أن يعلى بن منبه كتب إليه، وهو على اليمن، أن رجلاً وجد عنبرة على ساحل البحر، فكتب إليه عمر أنها سيبة من سيب الله، فيها وفي كل ما أخرج البحر، من حليه الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنه: ذاك رأيي.
والرابع: كل ما غنمه المسلمون من مال المشركين فيه الخمس.
والمال الثالث: الصدقة وهي في العين من كل عشرين ديناراً نصف دينار، وفي الورق من كل مائتي درهم وهو ربع العشر، والحلي ما كان منه جوهراً، فلا شيء فيه، وما كان ذهباً أو فضة ففيه ربع العشر، وكذلك كل ما يركب لا زكاة فيه.
والمماليك لا زكاة فيهم إلا زكاة الفطر. فإن كانوا للتجارة، كانت فيهم الزكاة، ولم يكن فيهم زكاة الفطر، وزكاة هذا كله أن يقوم ويؤخذ ربع عشر قيمته.
وفي الإبل، إذا بلغت خمساً، شاة، وإذا بلغت عشراً شاتان، وإذا بلغت خمس عشرة ثلاث شياه، وإذا بلغت عشرين ففيها أربع، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بني مخاض، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإذا زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى مائة وعشرين، ثم يكون في كل أربعين ابنة لبون، وفي خمسين حقة.
وبعض الفقهاء يقول: تستأنف الفريضة بعد المائة والعشرين كما كانت في الابتداء لكل خمس شاة.
وفي الغنم، في كل أربعين شاة، ثم ليس فيها شيء، حتى تزيد على عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة ثم يكون في كل مائة شاة، ولا يؤخذ من الزيادة شيء حتى تكمل مائة ويحول عليها الحول وهي على هذا التمام.
وفي البقر وجواميسها في ثلاثين بقرة تبيع أو تبيعة، وهو جذع أو جذعة، وفي كل أربعين مسنة، وليس فيما بين الثلاثين إلى الأربعين شيء، وفي كل سبعين تبيع أو تبيعان، وليس فيما بين الأربعين والستين شيء، وحسابها بعد في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة، ولا زكاة في شيء مما ذكرنا حتى تكون سائمة، والسائمة الراعية التي ترعى في كلأ المسلمين، الذين هم فيه سواء، فأما من لم يجد شيئاً من ذلك يعلفه ويمونه من ماله، فلا زكاة فيه وإن كثر.
وقال أهل الحجاز: لا زكاة في خيل ولا رقيق، إلا زكاة الفطر التي تلزم الأحرار، ولا في شيء من دواب الوحش، ولا زكاة في لؤلؤ ولا ياقوت ولا مرجان ولا لباس ولا في شيء من العروض، إلا زكاة التجارة، فهي على ما سميت لك فقس على ذلك.
وصدقة الأرض العشر مما يخرج الله منها، إذا بلغت خمسة أوسق. والوسق ستون صاعاً، والصاع خمسة أرطال وثلث بالرطل البغدادي في قول أهل الحجاز. وهو في قول أهل الكوفة خمسة أرطال بهذا الرطل، إذا كانت الأرض تشرب سيحاً أو ماء السماء، وإن كانت تشرب بدولاب وما أشبهه ففيه نصف العشر.
والفيء للمقاتلة والذرية وذوي الغناء عن الإسلام.
والخمس لمن قال الله عز وجل: "واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى"، يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو المطلب ابن عبد مناف خاصة من سائر بني عبد مناف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك لهم، فكلمه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف في أن يجعلهم في أسهم القربى مثل إخوتهم بني المطلب بن عبد مناف إذ كانوا في القربى مثلهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أفعل إن بني المطلب ما فارقونا في جاهلية ولا إسلام وكانوا معنا كذا" وشبك بين أصابعه. وإنما رعى لهم النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم، لما أدخلت قريش بني هاشم شعباً وقالوا: لا نكلمهم ولا نبايعهم، فدخل بنو عبد المطلب معهم وقالوا: لا نفارق إخواننا. واليتامى ليتامى سائر الناس ليس فيهم يتامى بني هاشم ولا يتامى بني المطلب.
والمساكين مساكين الناس عامة ليس فيهم مساكين بني هاشم ولا مساكين بني المطلب. وقد قال قوم: اليتامى والمساكين يتامى هؤلاء ومساكينهم. وابن السبيل الضيف الفقير.
واختلف الناس في الله وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال قوم: المعنى في قول الله عز وجل: "فإن لله خمسه" مفتاح كلام، كما يقال: هذا لله ولك وقد أعتقك الله وأعتقتك.
والخمس مقسوم على خمسة كما قال الله عز وجل: وقال قوم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أتي بالغنيمة، ضرب فما وقع فيها من شيء جعله للكعبة وهو سهم الله. هذا قول مالك. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم: فسهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذي القربى سهم، ولليتامى والمساكين وابن السبيل سهم سهم.
وقال ابن عباس: كان الخمس يقسم على أربعة: فربع للنبي صلى الله عليه وسلم ولذي القربى، فما كان لله وللرسول، فهو لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذوا من الخمس شيئاً، والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل.
وقال قوم: كان خمس الله وخمس رسوله صلى الله عليه وسلم واحداً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي بعضه ويصرف الباقي فيما أسماه الله له، وفيما يراه صلاحاً للمسلمين، والعدل قسمته والحق ما فعله عليه الصلاة والسلام.
وقد اختلف في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم ذي القربى بعد وفاته، فقال قوم: سهم ذي القربى لقرابة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال قوم: لقرابة الخليفة. وقال قوم: ما يكون سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده، ثم اجتمع رأيهم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والغزو، وفي سبيل الله ومصلحة المسلمين، فكانا يصرفان في ذلك أيام أبي بكر ومن بعده من الأئمة رضي الله عنهم.
والصدقات للأصناف التي ذكرها الله عز وجل فقال: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم".
فالفقراء في اللغة هم الذين لهم قوت مجهودة أن يكفيهم لا فضل لهم ولا عندهم. واحتجوا في ذلك بقول الراعي:
أما الفقير الذي كانت حلوبته * وفق العيال فلم يترك له سبد
فقالوا: والمسكين الذي لا قوت له وقول الله عز وجل: "أما السفينة فكانت لمساكين"، يوجب خلاف ما حده أهل اللغة في المسكين.
واختلف الناس في سهم المؤلفة قلوبهم، فقال قوم: قد انقطع اليوم سهم بقوة الإسلام وأهله فسهمهم يرجع على الباقين. وقال قوم: بل للإمام أن يتألف من يراه هذا السهم له.
وأما سهم العاملين في الفريضة فأمرهم إلى الإمام يفرض لهم ما أراد.
وفي الرقاب قيل: هو أن يشترى العبد فيعتق. وقال بعضهم، وهو الشافعي: لا يشترى من الصدقة عبد فيعتق، ولكن يعان المكاتب منها.
و "الغارمين": وهم قوم أدانوا ديناً في غير معصية.
وفي سبيل الله: في الغزو. وقال بعضهم: في سبيل الله في الذين يقاتلون عليها أهلها، إذا منعوها حتى يؤدوها.
وابن السبيل: المسافر الذي تنقطع به نفقته يعطى منها ما يبلغه إلى بلده من الصدقة.
اللغة في أسنان الإبل وتعريفها
يقال لولد الناقة، ساعة تضعه أمه: "سليل" و "حوار" قبل أن يعلم أهو ذكر أو أنثى. فإن كان ذكراً فهو "سقب" وإن كان أنثى فهو "حابل". فلا يزال حواراً حتى يفصل عن أمه، فيقال له: "فصيل".
فإذا كان في الوقت الذي يحمل عليه فيه، وهو عند تمام سنة ودخول الثانية، فهو "ابن مخاض"، يجوز في الصدقة لأن أمه قد تمخضت بحمل بعده، فلا يزال ابن مخاض حتى تدخل السنة الثالثة، فيصير "ابن لبون" لأن أمه قد صار لها لبن من غيره، فلا يزال ابن لبون، والأنثى ابنة لبون حتى تدخل السنة الرابعة فهو حينئذ "حق" والأنثى حقة.
فإذا كان في السنة الخامسة فهو "جذع" والأنثى "جذعة" والجذوعة وقت من الزمن ليست بسن. فإذا تمت ودخلت السنة السادسة فهو "ثني" والأنثى "ثنية". فإذا ألقى رباعيته في السنة السابعة فهو "رباع" والأنثى "رباعية". فإذا ألقى السن الذي بعد الرباعية وذلك في السنة الثامنة فهو "سديس" و "سدس"، الذكر والأنثى سواء. وهو في كل هذا "بكر" والأنثى "قلوص".
فإذا فطر نابه، أي انشق للخروج وذلك في السنة التاسعة، فهو "بازل"، والأنثى بازل و "بازلة" يقالان جميعاً، وهو عند ذلك "جمل" و "ناقة" للأنثى. وليس بعد ذلك سن إنما يقال: "مخلف عام" و "مخلف عامين" وما زاد. فإذا كبر وعظم نابه فهو "عود" والأنثى "عودة" ويسميان بأسماء كثيرة في الكبر.
أسنان الغنم
يقال لولد الشاة، حين تضعه أمه، من الضأن كان أو من المعز، ذكراً كان أو أنثى: "سخلة" و "بهمة". فإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها، فما كان من أولاد المعز فهو "جفر" والأنثى "جفرة". فإذا قوي فهو "عريض" ثم "عتود" والذكر في هذا كله "جدي" والأنثى "عناق" وإن كان من أولاد الضأن فالذكر "حمل" و "خروف"، والأنثى "رخل" و "خروفة"، وتكون في السنة الثانية "جذعا" والأنثى "جذعة". قال الأصمعي: يكون جذعاً من يأتي عليه ثمانية أشهر وتسعة ونحو ذلك. وفي السنة الثالثة "ثني" والأنثى "ثنية"، وفي السنة الرابعة "رباع" والأنثى "رباعية"، وفي الخامسة هو "سدس" و "سديس"، وفي السنة السادسة هو "صالغ" و "سالغ" و "صالغة" بالسين والصاد، ويقال لما كان ذكراً من المعز عند الإجذاع "تيس" والأنثى "عنز".
أسنان البقر
يالق لولد اليقرة حين تضعه أمه "عجل" ثم "تبيع" وهو الجذع، وبعضهم يقول: هو تبيع إلى ثمانية أشهر وتسعة، ثم "جذع" إذا تمت له سنة، ثم في الثانية هو "ثني" والأنثى "ثنية"، وفي السنة الثالثة "رباع" والأنثى "رباعية"، وفي الرابعة "سدس" و "سديس"، الذكر والأنثى فيه سواء، وفي السنة الخامسة "ضالع" والأنثى "ضالعة". ومنهم من يجعله في السنة الثانية جذعاً، وفي الثالثة ثنياً، وفي الربعة رباعياً، وفي الخامسة سديساً وسدساً، وفي السادسة ضالعاً مثل الغنم.
أسنان الخيل
وإنما ذكرتها ها هنا لأن الكاتب لا يستغني عن علمائها، يقال لولد الفرس، حين تضعه أمه "مهر" والأنثى "مهرة"، ويقال له: "خروف" فإذا فصل عن أمه فهو "فصيل". فإذا استتم نبات رواضعه فهو "فلو" يقال: فليت وأفليت، فإذا أتى عليه حول فهو "حولى"، فإذا استتم حولين فهو "جذع"، فإذا أسقطت ثنيتاه وخرج مكانهما، وذلك في العام الثالث فهو "ثني"، وفي الرابع هو "رباع" وذلك إذا سقطت رباعيتاه، وخرج مكانهما، فإذا سقط قارحاه وخرج مكانهما فهو "قارح"، وليس بعد القارح سن، ولكن يقال: "قارح عام" و "قارح عامين" إلى ثمانية أعوام، ثميقال له: "مذل" والجميع "مذال".
ومن ألوان الخيل: أدهم وأخضر وأحوى وكميت وأشقر. والفرق بين الكميت والأشقر أن يسود عرفه وذنبه فيكون كميتاً وإلا فهو أشقر. وأصفر وأشهب وأبلق وأبرش وملمع وهو أيضاً بلقة. وكذلك المدنر والأشيم والمولع، كل هذه شيات اللون يخالف لون الفرس يتشكل فيه، فيسمى مدنراً إذا كان فيه دارات؛ وإذا كان فيه لونان متساويان فهو أبلق، وقس على هذا. وفرس لطيم، إذا أصابت غرته عينيه أو أحدهما أو خديه أو أحدهما، فإذا ابيضت أشفاره فهو مغرب فإذا لم تصب العينين والخدين واتسعت في جبهته فهي شادخة، وإذا دنت في جبهته وقصبة أنفه فهي شمراخ، فإذا عرضت في الجبهة فهي سائلة.
والقرحة كل بياض كان في جبهته ثم انقطع قبل الأنف؛ والرثم كل بياض أصاب الجحفلة العليا قل أو كثر فهي رثمة.
واللمظة كل بياض في الجحفلة السفلى. والفرس المظ وأرثم. فإذا شاب الناصية بياض فهو أسعف، فإذا خلصت بياضاً فهو أصبغ، فإذا انحدر البياض إلى منبت الناصية فهو المعمم.
والتحجيل بياض يكون في قوائمه، أو في ثلاث أو اثنتين قل أو كثر. يقال: محجل أربع، فإذا كان البياض في ثلاث، قيل: هو محجل ثلاث مطلق يد أو رجل، والتحجيل مأخوذ من الحجل وهو الخلخال كأنه صار البياض موضعه، فإذا كان البياض برجليه قيل: محجل الرجلين، فإذا كان برجل واحدة قيل: أرجل، ويتشاءم به، لأن الحسين صلوات الله عليه قتل وهو على فرس أرجل. فإذا كان البياض في اليد اليمنى والرجل اليسرى مخالفاً فهو مكسور، وإذا كان في اليد اليمنى والرجل اليمنى فهو مطلق الأيامن ممسك الأياسر، وإذا كان بوجهه وضح وبإحدى يديه فهو اعصم، فإذا كان أبيض البطن، ولم يتصل ببياض التحجيل فهو أصبغ، وإذا صار في عرض الذنب بياض فهو أشعل، فإذا كان في أصل ذنبه فهو أصبغ، وإذا صار في عرض الذنب بياض فهو أشعل، فإذا كان في أصل ذنبه فهو أصبغ، فإذا بلغ البطن فهو أنبط فإذا ظهر من البطن فهو أبلق.
أحكام الأرضين
قال الصولي في الأرض ثلاثة أحكام: فأرض عشر غنمها المسلمون، فخمسها للإمام وتجعل أربعة أخماسها بين الذين افتتحوها ويبقى خمسها لمن سمى الله، فهي أرض عشر. وكل أرض استحياها إنسان، وقد كانت مواتاً قبل ذلك، فاستنبط لها ماء أو استخرج عيوناً فهي أرض عشر، إلا أن يكون الماء الذي أجراه إليها من ماء الخراج فتكون أرض خراج. فهذه الأرضون كلها لأهلها ملك إيمانهم لا شيء عليهم فيها غير العشر إن كانت تشرب سيحاً أو من ماء السماء، وإن كانت تشرب بالدالية وأشباه ذلك مما يعتمل فيه، ففيها نصف العشر.
وأرض افتتحت صلحاً على خراج معلوم، فأهلها على ما صولحوا عليه إلا أن يلزمهم غيره، والأرض ملك لهم.
وأرض افتتحت عنوة، ففيها اختلاف؛ زعم بعضهم أن سبيلها سبيل الغنيمة تخمس وتقسم، فيكون أربعة أخماسها خططاً بين الذين افتتحوها خاصة، والخمس الباقي لمن سمى الله تعالى، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبير. وقال بعضهم: حكمها والنظر فيها إلى الإمام، فإن رأى أن يجعلها فيئاً، فلا يخمسها ولا يقسمها، ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة ما بقوا كما فعل عمر بالسواد؛ فإنه لما افتتح المسلمون السواد قالوا: أقسمه بيننا، فقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين? وأخاف أن تفاسدوا بينكم في المياه، فأقر أهل السواد في أرضهم وضرب على رؤوسهم الجزية، وعلى أرضهم الطبق، وهو الخراج، ومعنى الطبق والخراج واحد.
القطائع
قال أبو بكر: يروى عن طاوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم" يعني أنها تقطع للناس.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقطع جماعة من المهاجرين والأنصار من أموال بني النضير وكانت صفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة. فكان فيمن سمي ممن أعطى أبو بكر رضي الله عنه أعطاه بئر حجر؛ وعمر رضي الله عنه أعطاه بئر جرم، وعبد الرحمن بن عوف سؤالة، وأقطع صهيباً الصراطة، وأقطع الزبير وأبا سلمة بن عبد الأسد البريلة، وأقطع أبا دجانة وسهل بن حنيف مالاً يقال له حرسة، وأقطع رجلاً من الأنصار أرضاً، فكان يخرج إليها فيرجع فيقال: نزل بعدك من القرآن كذا أو قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا. فقال: يا رسول الله إن هذه أرض تشغلني، فاقبلها مني فلا حاجة لي فيها فقبلها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: أقطعينها فأقطعه إياها، وأقطع الزبير أيضاً بخيبر أرضاً فيها شجر ونخل، وقصرها، وكتب له بذلك كتاباً، وأقطع عتبة بن فرقد موضع داره بمكة مما يلي المروة.
ولما أسلم تميم الداري قال: يا رسول الله إن الله يظهرك على الأرض كلها فهب لي قريتين من بيت لحم، قال: "هي لك"، وكتب له بها كتاباً فلما ظهر عمر رضي الله عنه على الشام جاءه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: "أنا شاهد ذلك فإعطاه إياها". وبيت لحم هذه من القرية التي ولد فيها عيسى عليه السلام.
واستقطعه أبيض بن جمال المازني الملح الذي بمأرب، فأقطعه إياه، فلما ولى قال رجل: إنما أقطعته الماء العد، فرده ولم يمضه له كأنه عليه الصلاة والسلام، لما قال له: الماء العد، رأى أنه شيء بين الناس جميعاً. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقطع حق مؤمن ولا معاهد. فبهذا جرت السنة في الإقطاعات.
وأقطع أبو بكر الزبير الجرف أيضاً مواتاً، وأقطع طلحة أرضاً، وكتب له كتاباً وأشهد له ناساً فيهم عمر، فأتى طلحة عمر بالكتاب ليختمه فقال: هذا كله لك دون الناس! لا أختم هذا. فرجع طلحة مغضباً إلى أبي بكر، فقال: أنت الخليفة أم عمر? فقال عمر ولكنه أبى وأبطل الإقطاع.
وأقطع أبو بكر لعيينة بن حصن الفزاري قطيعة، وكتب له بها كتاباً، فأتى عيينة عمر فأعطاه الكتاب، فبصق فيه ومحاه وسأل عيينة أبا بكر أن يجدد له الكتاب فقال: لا أجد شيئاً رده عمر.
وأقطع عمر بن الخطاب الزبير العقيق أجمع.
وخرج رجل من أعل البصرة، يقال له نافع إلى عمر فقال: إن قبلنا أرضاً بالبصرة وليست من أرض الخراج ولا بأحد من المسلمين، فإن رأيت أن تقطعينها أتخذ فيها قضاء لخيلي، فكتب له أبي موسى: إن نافعاً سألني أرضاً على شاطئ دجلة، فإن لم تكن أرض جزية ولا خراج ولا أرضاً يجري إليها ماء جزية فأعطه إياها.
وأقطع عثمان خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزبير، وسعداً، وابن مسعود، وأسامة بن زيد، وخباباً، من صوافي كسرى ومما جلا عنه أهله. ثم أقطع الخلفاء بعد ذلك.
حدثنا فهد بن إبراهيم الساجي، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن نافع قال: قدم المهدي البصرة، وقاضيه عليها عبيد الله بن الحسن العنبري، فقال له: انظر بيني وبين أهل المرعات نهر من أنهار البصرة، فجلس لهم وحضر المهدي وحضر من يناظره، فقال عبيد الله: ما تقول يا أمير المؤمنين? فقال: المسلمين كافة وفي مصالحهم إذا إقطاع من إمام فلا سبيل لأحد عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قال: "من أحيا أرضاً مواتاً فهي له" وهذه موات. فقال: فوثب المهدي ووثب الناس حتى ألصق خده بالتراب عند ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: قد سمعت وأطعت. ثم عاد فقال: نفي أن يكون مواتاً والماء محيط بها من جوانبها، فإن أقاموا البينة على هذا سلمت لهم. فلم يأتوا ببينة. وأحب عبيد الله أن يتحدث الناس بأنه حكم على المهدي بحكم، فخلط حكماً بسؤال فضج المهدي ووثب، وتفرقوا. فعزله المهدي وقال: والله ما أردت إلا أن يقول الناس حكم على المهدي وإلا علمت أن الحق معي!.
وبلاد المسلمين عامر وموات، فالعامر لأهله والموات شيئان: شيء ملكه الناس فأحيوه ثم خرب ومات، فهذا الموات لأهله لا يملكه عليهم أحد، إلا بإذنهم وهو كالعامر. والموات الثاني ما لم يملكه أحد قط، فهذا الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضاً مواتاً فهي له"، والإحياء أن يأتي إلى موضع لا ينازعه فيه أحد ولا لأحد فيه أثر فيحوزه ويسوق إليه بكلفة ومشقة أو يبني فيه بناء.
والعروق أربعة: عرقان ظاهران وهما البناء والغرس، وعرقان باطنان كالبئر والنهر.
وقيل: من أقطع معدناً ملكه ملك الأرض وقيل: لا يملكه ملك الأرض إلا إن عمل فيه وإلا دفع إلى من يعمل فيه.
جزية رؤوس أهل الذمة
قال أبو بكر بن يحيى الصولي: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرة من مكة، والناس أخلاط مسلمون ويهود ومشركون ومنافقون. فوادع يهود المدينة كلهم، على أن يكفوا عنه ويكف عنهم. فلما غزا تبوك، أمره الله بوضع الجزية، فصالح أهل أيلة، وأدرح، ووادي القرى، وتيماء، ووضع عليهم الجزية، وقدم المدينة فوضع الجزية على من بالمدينة ومكة وخبير واليمن ونجران، من أهل الذمة، ووضع الجزية على رقابهم: على الرجل ديناراً ونحوه، وليس في ذلك النساء ولا الصبيان، وفي تجاراتهم نصف العشر، فلما فعل ذلك بهم صارت لهم ذمة وعهد وجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يمنعهم ممن ظلمهم، ويقاتل عنهم،ولم يكن لهم، وهم موادعون، أن يمنعهم ويقاتل عنهم وإن ظهر عليهم عدوهم.
وقال قوم: أول من أدى الجزية أهل نجران. وقبل صلى الله عليه وسلم من المجوس الجزية.
حدثنا محمد بن يونس الكديمي وإبراهيم بن عبد الله اللجي، واللفظ للكديمي، قلا: حدثنا أبو عاصم قال: رأيت جعفر بن محمد رضي الله عنه بمكة، فقلت: يا ابن رسول الله حدثني قال: أفي هذا الموضع? فقلت: إن رأيت ولو حديثاً، فقال: سمعت أبي يقول: قال عمر بن الخطاب: لست أدري ما أصنع بالمجوس! فقام إليه عبد الرحمن بن عوف، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسئل عنهم فقال: "استنوا بهم سنة أهل الكتاب". فقلت: يا ابن رسول الله زدني فضرب بغلته وسار.
وكانت الجزية أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، على كل حالم ديناراً، وليس على النساء ولا الصبيان شيء. ثم ضرب عمر على أهل الشام - وبعضهم يقول على أهل الذهب - على الرجل أربعة دنانير وحنطة وزبيباً. ثم زالت الحنطة والزبيب. وضرب على أهل السواد ديناراً، والصرف اثني عشر درهماً بدينار على الطبقة السفلى، وعلى الوسطى دينارين أربعة وعشرين درهماً، وعلى العليا أربعة دنانير بثمانية وأربعين درهماً، وأسقط ذلك عن النساء والصبيان. وإنما فعل عمر ذلك على قدر اليسار والطاقة.
فالذين يؤخذ منهم الجزية اليهود والنصارى والمجوس والصابئون وقد أخذ عثمان رضي الله عنه من البربر.
واستيداء الجزية بغير ضرب ولا عنف. ويقبل منهم مكان الدنانير والدراهم الثياب وما أشبهها. وروي عن علي عليه السلام أنه كان يأخذ في الجزية من صاحب المال مالاً، ومن صاحب الحبال حبالاً. ولا يأخذ فيها خمراً ولا خنازير.
ولا يباع في الجزية بقرهم ولا حميرهم ولا مواشيهم. واختلف الناس في قوله عز وجل: "عن يد وهم صاغرون"، فقال سعيد بن المسيب: يتعبون عند أخذها. قال أبو عبيد: لم يرد تكليفهم فوق طاقتهم، إنما أراد أن لا يعاملوا عند طلبها بالإكرام لكن بالإستخفاف. وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة، وأن تجز نواصيهم، وأن يركبوا الأكف عرضاً ولا يركبوا كما يركب المسلمون، وأن يربطوا الكستجات في أوساطهم ليعرف زيهم من زي المسلمين.
وقيل: وهم صاغرون يعطيها قائماً والذي يأخذها قاعد. وليس على عبد جزية. وإذا أخذت الجزية منهم لم يكن لهم أن يظهروا شركهم حتى يسمعوا المسلمين، ولم يكن للمسلمين أن يتتبعوهم فيما أخفوه عنهم. وعلى المسلمين أن يجروا عليهم أحكام المسلمين، قال: فهذا معنى وهم صاغرون.
حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعت الحسن يقول: "كراء الدار جزية المؤمن؛ ولا يلزم الرهبان أصحاب الصوامع جزية، لفقرهم وتخليهم عن الدنيا".
مبلغ ما كان يرتفع من الخوارج
ارتفع خراج الشام على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه خمسمائة ألف دينار، فلما أفضى الأمر إلى معاوية، قطع الوظائف على أهل المدن فوظف أهل قنسرين أربعمائة وخمسين ألف دينار، على الجماجم من ذلك الثلثان. وعلى أهل دمشق أربعمائة وخمسين ألف دينار، على الجماجم من ذلك الثلثان. وعلى الأردن مائة وثمانين ألف دينار، على الجماجم من ذلك الثلثان. وعل فلسطين مثل ذلك، ثم جعل بعد ذلك يصطفي الأرض الجيدة ويدفعها إلى الرجل بخراجها وعلوجها، والخراج على أصله لا ينقص منه شيء.
ذكر مصر
دخل عمرو بن العاص مصر بصلح وعهد، فوضع عليهم من الجزية، على كل إنسان دينارين وثلاثة أرادب قمحاً، والأردب عند أهل مصر ست ويبات، والويبة كيل يكون ما فيه من الحنطة ثلاثون رطلاً بالبغدادي، إذا كانت الحنطة ثقيلة، فإذا خفت كانت سبعة وعشرين رطلاً، وجعل عليه مع الثلاثة أرادب قسطين زيتاً وقسطين خلاً وقسطاً من عسل. والقسط كيل عندهم يكون ما فيه أربعة أرطال.
ولهم من الشرط: أن لا تباع نساؤهم، ولا أولادهم، ولا أرضوهم ولا ديارهم، ولا تباح كنوزهم، ولا يزاد عليهم في جزيتهم.
فلم يزل ذلك على ذلك حتى ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فكان إلى أيام عبد الملك بن مروان ألفي ألفي دينار، فإنه ولى أخاه عبد العزيز مصر فخط الأرضين، وذلك أنها كانت كثيرة فاقتطع أقواماً، وزاد ذلك على الجماجم فكانت تستأدى ألف ألف دينار، فرحلوا إلى عبد الملك يشكون، فلما رجعوا زاد عليهم عبد العزيز.
ذكر السواد
اختلف الناس في خراج السواد، فروى بعضهم أن عمر رضي الله عنه، بعث عثمان بن حنيف لمساحة السواد، فمسح الأرض وجعل على جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب النخل خمسة دراهم، وعلى جريب البر أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين. وروي أيضاً أنه جعل على كل جريب غامراً وعامراً، درهماً وقفيزاً، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم. وعلى جريب الشجر عشرة دراهم وعشرة أقفزة، ولم يذكر النخل. وقيل: جعل على كل جريب عامر وغامر يناله الماء بدلو أو غيره عطل أو زرع درهماً وقفيزاً وألقى لهم النخل عوناً لهم. وجعل على كل جريب كرم عشرة دراهم، وعلى جريب الرطبة ستة دراهم، وعلى جريب السمسم خمسة دراهم، وعلى جريب الخضر من غلة الصيف، من كل جريب ثلاثة دراهم، وعلى جريب القطن خمسة دراهم.
وروي عن الشعبي أن عثمان بن حنيف مسح السواد، فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب، فوضع على كل جريب درهماً وقفيزاً ولم يذكر غير ذلك.
وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء أن عمر رحمه الله، إنما أوجب الخراج على أهل الأرض خاصة، بأجرة مسماة، لأن مخرج الخراج مذهب الكراء، فكأنه أجرى كل جريب بدرهم وقفيز في السنة، وألقى من ذلك الشجر والنخل، فلم يجعل لها أجرة، لأن قبالتها لا تطيب حتى تسمن، فيكون ذلك مع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وقبل أن يجعلوا. قال: وهذا الذي كرهه الفقهاء. وفي هذا الحديث حجة لمن قال: السواد فيء للمسلمين، وإنما أهله عمال للمسلمين بكراء معلوم.
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي: وهذه الأحاديث كلها تدل على أن جعل الخراج على الأرضين، التي تغل من ذوات الحب والثمار، وعطل من ذلك الدور والمساكن التي ينزلونها فلم يجعل عليهم فيها شيئاً.
وقال أبو حنيفة ومالك والثوري وابن أبي ذئب: إذا عمرت الأرض رأينا أن يزاد عليها، وإذا نقصت رأينا أن يوضع عنها. وقالوا ليس على الغامر شيء وإن بلغه الماء.
وحد السواد التي وقعت عليه المساحة من لدن تخوم الموصل ماداً مع الماء إلى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة هذا طوله. فأما عرضه فحده من أرض حلوان إلى منتهى طرف القادسية المتصل بعذيب.
فأما خراجه فإن الواقدي ذكر أنه سال عبد الحميد بن جعفر كم مبلغ خراج سواد الكوفة على عهد عمر? قال: سبعون ألف ألف درهم.
وروي عن محمد بن كعب القرظي، قال: أخبرني أهل الأرض بالعراق، أنه بلغ الخراج على عهد عمر وعثمان رحمهما الله مائة ألف ألف. فلما ولي معاوية صار إلى خمسين ألف ألف وهدايا النوروز والمهرجان خمسون ألف ألف لنفسه، وكان قد اصطفى أموال كسرى فكان يقطع فيها ويصل ويجيز من يشاء.
ثم بلغ الخراج في فتنة ابن الزبير ستين ألف وهدايا النوروز والمهرجان وصواف نحو عشرين ألف ألف، فلما ولي الحجاج صار إلى أربعين ألف ألف، وما كان يصل إلى ذلك إلا بضرب الأبدان، فلما قتل ابن الأشعث، قال الحجاج: الآن فرغت لأهل السواد فعمد إلى رؤسائهم، وأهل بيتوتاتهم من الدهاقين، فقتلهم صبراً وجعل كلما قتل من الدهاقين رجلاً، أخذ ماله وأضر بمن بقي منهم إضراراً شديداً، فخرجت الأرض فمات الحجاج والخراج خمسة وعشرون ألفاً، فكان الأمر على ذلك حتى ولي عمر بن عبد العزيز، فولى عبد الحميد بن عبد الرحمن السواد، وتقدم إليه أن يرجع إلى ما وضع عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرضهم ورقابهم، ولا يقبل من ألطافهم شيئاً في أعيادهم.
وأول من أحدث هدايا النوروز والمهرجان الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم سعيد بن العاص بعده، فضج الناس إلى عثمان رضي الله عنه فكتب إليه فنهاه عن ذلك، فبلغ الخراج بعد هدية النيروز في أيام عمر بن عبد العزيز ستين ألف ألف فكان يخرج أعطيات الناس وينفذ إلى عمر بعشرة آلاف ألف درهم.
حدثنا القاضي عمرو بن تركي قال: حدثنا الوليد بن هشام القحذمي، قال: قال الحجاج يوماً للدهاقين - وقد اجتمعوا عنده: كم كان عمر بن الخطاب يجبي السواد? قالوا: مائة ألف ألف درهم. قال: فكم جباه زياد? قالوا: مائة ألف ألف. قال: فكم نجيبه نحن اليوم? قالوا: ثمانين ألف ألف. قال: فلم ذلك? فقال له ابن جميل بن بصبهري دهقان الفلوجيين: هذا كله لبيتين قالهما شاعركم الحارث بن حلزة. قال: وما هما قال لقوله:
لا تكسع الشول بأغبارها * إنك لا تدري من الناتج
وأصبب لأضيافك ألبانها * فإن شر اللبن الوالج
فاستعمل عمالكم هذا فخربت الدنيا. ومعنى البيتين أن العرب كانت إذا أخصبت عاماً، لم تستقص الحلب، وتركت في الضروع بقية، وكسعت الضروع بالماء البارد ليتراد اللبن، فيكون أقوى لظهورها، فإن كان في العام المقبل جدب، كان فيها فضل وقوة حتى لا ينقطع اللبن، فقال هذا الشاعر: "لا تكسع الشول" وهي النوق، بأغبارها وهي بقايا ألبانها، إنك لا تدري من الناتج أي لعله أن يغار عليك فتؤخذ أو تموت، فيأخذها الوارث. فالصواب أن تتعجل منفعتها. أي فعمل العمال هذا وأخذوا العاجل، ولم يعمروا للعام المقبل فتقص الخراج لذلك.
وهو الخراج والخرج. قرأ أهل الكوفة خراجاً بالألف في كل القرآن إلا عاصماً فإنه قرأها هو وأهل المدينة وأبو عمرو خرجا بغير ألف، وكذا قرأ ابن عباس رضي الله عنه.
والخراج في اللغة الأجر، ومنه خراج الأرضين. وقال الفراء: الخراج أعم والخرج أقل، كأنه شيء من الخراج. ويقال للذمي: أد خرج رأسك فخراج ربك خير. قال الكلبي: فرزق ربك خير.
وقال الحسن - وهو الصواب: فأجر ربك خير لك في الآخرة من أجورهم في الدنيا، إذ كان أكثر الناس على أن الخراج الأجر وأخرجه. وحكى التوجي أن أعرابياً قال: ما مواعيدكم إلا أسربة فجمع سراباً أسربة، وخرج وخروج مثل فلس وفلوس.
القبالات
قال أبو بكر: حدثنا محمد بن القاسم أبو العيناء قال: حدثني الأصمعي عن أبي الأشهب عن الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس رحمه الله فقال: أتقبل منك الأبلة بمائة ألف? فضربه ابن عباس وصلبه.وروي أن عبد الرحمن بن زياد قال: أنا قلت لابن عمر: إنا نتقبل الأرض فنصيب من ثمارها يعني الفضل، فقال: ذلك الربا العجلان. وقال ابن عباس رضي الله عنه القبالات حرام.
وقال سعيد بن جبير: لا خير في القبالة، وإنما كرهوها لأنها بيع ثمر لم يخلق بعد، ولم يبد صلاحه، وزرع نابت لم يستحصد، ومن قبل أن يزرع فهذا هو الغرر المنهي عنه.
وقال بعض الفقهاء فيها: إنه يحكم على الله أن يصير الأمر على ما يريد، فإذا كان الشيء معلوماً جازت القبالة والإجارة، كأنه قول الرجل: قد أجرتك هذه الدار بعشرة دراهم شهراً معلوماً، فإن كانت الإجارة أربعة، أو جهل منها واحد جاز، فقد عرفت الدار وعرفت المدة ووصفت، وعرفت الدراهم، فهذه ثلاثة إن كانت قد عرفت، ولم يعرف هل يسكن الدار وحده أو هو وعياله? ولا يعرف عدد عياله، فهو جائز.
ما يفضل من المال
قال محمد بن يحيى: حدثنا عبد العزيز بن معاوية القرشي، قال: حدثنا جعفر بن عون قال: حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اجتمعوا لهذا المال فانظروا لمن ترونه، إني سمعت الله عز وجل: يقول: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم"، والله ما لهؤلاء وحدهم. "والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم". والله ما هو لهؤلاء وحدهم. "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان". والله ما من أحد من المسلمين إلا وله حق في هذا المال، أعطي منه أو منع حتى راع بعدن".
وقال عمر يوماً: قد أعطيت الناس حقوقهم، وفضل عندي مال ما ترون فيه? فقالوا: يا أمير المؤمنين لك حاج، وتنوبك نوائب لا تنوب غيرك، فخذه إليك لذلك فإن أنفسنا طيبة لك به. وعلي رضي الله عنه ساكت، فقال: ألا تتكلم يا أبا الحسن? فقال: قد أشار عليك القوم، فقال: لتقولن. فقال: لم يجعل علمك ظناً ويقينك شكاً، قال: قد قلت قولاً لتخرجن منه، قال: أما تذكر حين بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فأتيت العباس فمنعك الصدقة، فأتيتني فقلت: إن العباس منعني الصدقة، فانطلق معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت معك فوجدناه مهموماً، فرجعنا ولم نقل شيئاً له، ثم رجعنا وقد طابت نفسه، فقال: "إن كان عندي ديناران فكأنهما يهمانني حتى وجهتهما". فقلت: إن العباس قد منعني الصدقة، فقال: "إن عم الرجل صنو أبيه" قال: لا جرم إني أشكر لك المرتين جميعاً قال: فأشر علي. قال: فإني أشير عليك أن تقسمه، فدعا عمر عبد الله بن الأرقم، فقال: كم في بيت المال? قال: كذا وكذا، قال: "لولا أني أرى أن أقرب لمنفعته أن يكون معاً، لقسمت الأول فالأول"، فقام رجل من ثقيف فقال: يا أمير المؤمنين أعده للبوائق فقال: "كلمة شر يستن بها أمراء السوء من بعدي، أعطاني الله جوابها، بل أعد لها ما أعده لها رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوى الله وطاعته".
ولما حبس معاوية على الناس أعطياتهم، قام إليه أبو مسلم الخولاني وهو يخطب فقال: يا معاوية إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك وأمك، فلم حبست على الناس العطاء? فغضب ثم نزل فدخل وأومأ إلى الناس أن تثبتوا ولا تتفرقوا، ثم خرج فعاد إلى المنبر فقال: أيها الناس إن أبا مسلم الخولاني قد قال ما قال فوجدت لذلك، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا غضب أحدكم فليغتسل"، وصدق أبو مسلم فاغدوا على أعطياتكم فخذوها على بركة الله. ثم كانت فضول الأموال تحمل إليه فيصل بها من أحب وينفق كيف يريد.
مكاتبة المسلم وغيره
مضت السنة في المكاتبة أن يبتدئ المكاتب نفسه على المكتوب إليه.
يروى أن العلاء بن الحضرمي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه. وروى الربيع بن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكتبون إليه من فلان بن فلان إلى محمد رسول الله.
وقد رخص في تقديم المكاتب. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه إلا إلى والد ووالدة أو إمام". وروى يحيى بن أبي كثير أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية.
قالوا: والكتاب إلى المسلم: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. وإلى غير المسلم: والسلام على من اتبع الهدى. كذا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم وإلى كسرى وإلى مسيلمة الكذاب. وقد روي أنه رخص في رد السلام على الكافر، وأن رجلاً منهم كتب في آخر كتابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: سلام عليك. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب أن يرد عليه السلام.
وإنما كتبوا في أول الكتاب سلام عليك، لأن النكرات أوائل الأشياء والمعارف الثواني، فافتتحوا بالنكرة فإذا ردوه عرفوا فقالوا: السلام عليك فعرفوه بألف ولام أي هذا ذلك الأول. كقولك في الكلام مر بي رجل فكان من أمره كذا وكذا، ثم قال لي الرجل: كذا، فعرفت أنه ذلك الذي ابتدأت بذكره.
وقال بعضهم إذا كان الشيء مهماً لا ينفصل بعضه من بعض تكلموا به مرة بالألف واللام، ومرة بطرحها كقولهم: قلت خيراً، وقلت الخير، وكسبت مالاً وكسبت المال، ولا أراك الله سوءاً ولا أراك السوء.
ما في الإنسان وغيره
وهذا شيء لا يسع الإنسان الثنايا، وهي أربع: اثنتان من فوق واثنتان من أسفل. ثم الرباعيات الواحدة رباعية مخففة الياء، وهن أربع ويقال لهذه الثمان الثغر. ثم الأنياب وهن أربع، ثم الضواحك والنواجذ، وهن ثمان، ويقال لهن العوارض، ثم الأرحاء وهي الأضراس: أربعة من فوق وأربعة من تحت في جانبي الفم، وهي الطواحن. واللحي مركب الأسنان وهو الفك، واللثة: اللحم الذي فيه الأسنان، والدردر مغارز الأسنان في اللثة، والعمور اللحم الذي بين الأسنان الواحد عمر، وأضراس الحلم ضرسان: ثنتان في آخر الأضراس من أسفل لا من أعلى إذا صار الإنسان رجلاً.
وما كان له خف مثل الجمل والنعامة، فإنه يقال لفمه: مشفر وما كان له ظلف قيل له: المرمة والمقمة والجحفلة للحافر والخراطيم للسباع والمنسر والمنقار للطائر.
الأطعمة
يقال: الوليمة، ولطعام الأبنية الوكيرة، ولطعام الولادة الخرس، لأن ما تطعم النفساء خرسة، وطعام الختان إعذار، وطعام القادم من سفر نقيعة.
ويقال: قرمت إلى اللحم قرمة، وعمت إليه عيمة. ويقال: يدي من اللحم غمرة وزهمة لأن الزهم الشحم، ومن الزبد واللبن وضرة، ومن السمك سهكة. وربما حمل بعض هذا على بعض.
ويقال: أرغم الله أنفه، خص الأنف لأنه اطلع ما في الوجه، والرغام التراب يراد كبه الله على وجهه فإن أول ما يلصق منه التراب بالأنف، وقالوا: على رغم أنفه، ثم كثر حتى قالوا: على رغمه فألقوه الأنف.
وقمقم الله عصبه جمعه حتى لا يحرك يداً لا رجلاً، والبحر قمقام من ذلك لأنه مجمع الماء. قالوا: والشأفة قرحة تخرج بالقدم فتكوى فتذهب، فإذا قالوا: استأصل الله شأفته، فكأنما قالوا: أذهبه الله كما أذهب الشأفة. وإذا أصابه ذلك قيل: شفيت رجله شافاً.
أسكت الله نأمته، النئيم الصوت الضعيف مخففة، ونامته مشددة ما ينم عليه من حركته.
سخم الله وجهه سوده من السخام وهو سواد القدر.
وأسخن الله عينه أي غمه وحزنه، لأن دمعة الحزن حارة، ودمعة الفرح باردة، فلذلك يقال: أقر الله عينك مأخوذة من القر.
وأباد الله خضراءهم أي سوادهم يريد أشخاصهم، ويقال للروضة الخضراء سوداء، ومنه صفة الجنتين "مدهامتان" وقال الأصمعي: أباد الله غضراءهم أي غضارتهم. والغضراء طينة خضراء علكة.
وفي جنبي الإنسا أربعة وعشرون ضلعاً، الواحدة ضلع وهي مؤنثة ويقال للمؤخرة منها ضلع الخلف.
وههنا شيء يكثر في كلام الناس فذكرناه: تقول للرجل إذا أمرته بأخذ الشيء: ها يا رجل، وللإثنين هاؤما، وللجمع هاؤم وهاءيا امرأة فتكسر الهمزة للمؤنث، وللمرأتين هاؤما، كما للمذكر في الإثنين وفي الجمع هاؤن تدخل النون لجمع المؤنث. فإذا أدخلت الكاف، قلت: هاك يا رجل، وهاك يا امرأة، وهاكاً للذكرين والأنثيين، وإن جمعت قلت للذكران: هاكم وللإناث هاكن. وإن أمرت بإعطائك شيئاً قلت للذكر: هات يا هذا، وهاتيا وهاتوا، وللمؤنث هاتي وهاتيا وهاتين. وإذا سألت رجلاً عن رجل قلت: كيف ذاك الرجل? وكيف ذاكما وكيف ذاكم? وإذا سألت رجلين عن رجلين، قلت: كيف ذانكما وكيف أولئكم.
وإذا سألت رجلاً عن المرأة، قلت: كيف تلك المرأة الخطاب للرجل وأول الكلام للمرأة، وفي التثنية كيف تانكما? وفي الجمع كيف أولئكم? فإذا سألت امرأة عن رجل، قلت: كيف ذاك الرجل? أول الكلام للرجل وآخره للمرأة. وكيف ذانكما وكيف أولئكن? بالنون لأن آخر الكلام للمؤنث. فإن سألت امرأة عن امرأة، قلت: كيف تلك المرأة وكيف تانكما وكيف أولئكن?.
مدح الإيجاز في ابتداء المكاتبة والجواب
قال محمد بن يحيى: حدثنا الحسين بن يحيى الكاتب قال: حدثنا إسحاق قال: سمع جعفر بن يحيى يقول لكتابه: "إن استطعتم أن تكون كتبكم توقيعات فافعلوا".
وقال بعض الكتاب: الإيجاز في الابتداء أمكن منه في الجواب، ما لم يكن منه في إعذار وإنذار، وعود وبدء، وفتوح وعهود.
قال أبو بكر: والذي عندي أنه يحتاج الكاتب والخاطب والشاعر، إلى أن يخرجوا معانيهم في أقواتها من الألفاظ، على الاختصار، ما لم يحتج إلى إكثار، فإن احتيج إلى ذلك جيء به بما لا بد منه. وأكثر ما يقع ذلك في الرغبة والرهبة، ألا ترى إلى كتاب الله عز وجل وكلامه المعجز، كيف يكون فيه ذكر الجنة والنار، وقصة الأنبياء عليهم السلام، والنقمة ممن كذبهم، والأمر بالاعتبار بما نزل بهم، فكانت الحكمة في تقرير ذلك مما يفعل العرب، وسنأتي بفعلهم بعد. ولأن الإنسان قد يقرأ بعض القرآن ويحفظ شيئاً منه دون شيء، فلم يخل الله عز وجل: كل موضع منه من ترغيب وترهيب، وإذكار واعتبار تفضلاً منه على عباده، واستدعاء لطاعتهم، ونهياً عن عصيانهم فوقع التكرير لذلك.
وقد حدثني محمد بن يزيد المبرد النحوي قال: حدثني أبو محمد التوجي عن أبي عمر الأسدي، قال: قيل لأبي عمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل? قال: نعم ليسمع منها، قيل: فهل كانت توجز قال: نعم ليحفظ عنها.
وقد روي في هذا لأبي دؤاد الإيادي:
يرمون بالخطب الطوال وتارة * وحي الملاحظ خيفة الرقباء
واحتج من زعم أن الجواب ينبغي أن يكون أكثر من السؤال، لأن السؤال عنده استعلام، والجواب إعلام، وقد قال الله عز وجل: "وما تلك بيمينك يا موسى"، فاقتضى الجواب أن يقول: "هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي". ثم رأى أن منافعه بها كثيرة فاختصر ذكرها وقال: "ولي فيها مآرب أخرى".
وقالوا: "البلاغة لمحة دالة". وقالوا: "لا تنفق كلمتين إذا كفتك كلمة" وأنشدني أحمد بن إسماعيل الكاتب لنفسه:
خير الكلام قليل * على كثير دليل
والعي معنى قصير * يحويه لفظ طويل
وفي الكلام فضول * وفيه قال وقيل
أولا ترى إلى موضع الإيجاز بذكر الحجة في القرآن كيف أتى مختصراً معجزاً وهو فيه كثير، فمنه قوله تبارك وتعالى: "وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم" ثم قال عز وجل في مكان آخر يذكر هذا: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة". ثم قال في مكان آخر، وقد أمرهم أن يعتبروا، فقرب ذلك عليه فقال: "وفي أنفسكم لأفلا تبصرون" ففي كل شيء من خلق الله عز وجل: للإنسان عبرة إلا أن أقربها وأخصرها أمر نفسه.
ثم اختصر عز وجل أمره ونهيه، وتحليله وتحريمه، واستثنى في الذي أحل، ما نذكره بعد من حرامه، وفي الذي أحل وقتاً يحرم فيه كل ذلك. إذا كتب أجزأه فيه سطرواحد، وهو قوله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتل عليكم غي محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد" فأمر بأن نوفي بعقوده ثم أحل بهائم الأنعام، واستثنى ما يحرم منها ما يجيء بعد، ثم ذكر أن هذا الحلال يحرم على المحرم. ولو أراد أبلغ الكتاب أن يجيء بهذه في أسطر كثيرة ما أمكنه على عجزه في حسن اللفظ والنظم. وهذا كثير يطول به الكتاب ذكرت ههنا طرفاً منه.
قال وأنشدني محمد بن يزيد المبرد في وصف خاطب:
إذا ما انتدى خاطباً لم يقل * له أطل القول أو قصر
انتدى تكلم في النادي وهو مجلس القوم، وقد روي إذا ما ابتدا طبيب بداء فنون الكلا * م لم يعي يوماً ولم يهذر
فإن هو أطنب في خطبة * قضى للمقل على المكثر
وحكى سيبويه أن امرأة من العرب كانت بغيا، فكان يقول لها القائل: خطب، فتقول: نكح وتمضي معه.
وحكي أن رجلاً كان عود رجلاً أن يجيئه في وقت من الزمان، فيمضي معه إلى موضع معروف، حتى ألفا ذلك وعرفاه فكان يأتيه فيقول "ألا تا" فيقول: "بلى فا" يريد ألا تمضي? فيقول: بلى فامضي. وهذا كله إنما يجوز مع الإفهام والمعرفة.
وأنشدني الحسين بن عمر الكاتب قال: أنشدني علي بن الحسين الإسكافي عن أبي محلم للأحيمر السعدي في كلمة:
وحاذر جواب المصمتين إذا سمت * عيون العدى فالقول تبدو شواكله
من القول ما يكفي المصيب قليله * ومنه الذي لا يكتفي الدهر قائله
يصد عن المعنى فينزل ما تحاً * ويذهب في التقصير منه تطاوله
فلا تك مكثاراً تزيد على الذي * عنيت به في خطب أمر تزاوله
وكلم رجل سقراط في أمر بكلام أطاله وزاد فيه على ما احتاج إليه فقال له سقراط: "أنساني أول كلامك بعد آخره، وطول عهده مع تقارب أقطاره".
وقال آخر: الكلام أوعية والمعاني أمتعة، وقد يجمع في الوعاء الواحد ضروب من الأمتعة.
وقالوا: السؤال بغي والجواب نصير.
وقال آخر: البلاغة في الجواب أوحد وأظهر.
وقالوا: الأجوبة أمهات الفوائد، تلدها بتلقيح السؤال.
وقالوا: "الجوابات المستكة" ولم يقولوا: المسائل المستكة.
وقالوا: لكل كلام جواب.
وقال سهل بن هارون: من فضل الجواب على الابتداء أن الابتداء يوجد في الجواب ولا يوجد جواب في ابتداء.
وقال آخر: "إني أدع الكلام خوفاً من الجواب، أنه يقع ولم يذكر"، يريد قولهم: السكوت جواب.
قال الصولي: حدثنا يونس بن محمد الكديمي، قال: حدثنا عبد الله بن داود الحذيمي، قال: سمعت الأعمش يقول: "السكوت جواب"، وهذا إنما أخذه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الصولي: حدثني محمد بن يونس الكديمي قال: حدثنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا سفيان الثوري قال: حدثنا مالك بن أنس عن عبد الله بن الفضل، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها صماتها". وحدثني إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا مالك بن أنس وذكر مثله.
وقال آخر:
يا من بنا يرتاب * ترك الجواب جواب
وقال بشار وذكر أن السكوت يعفي من لا ونعم:
وإذا قلت لها جودي لنا * خرجت بالصمت من لا ونعم
وأنشدني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال: أنشدني الحسين بن الضحاك لنفسه:
وإبأبي مفحم بعزته * قلت له إذ خلوت مكتتما
تحب بالله من يخصك بالحب * فما قال لا ولا نعما
ثم تثنى بمقلتي خجل * أراد رجع الجواب فاحتشما
فكنت كالمبتغي بحيلته * برءاً من السقم فابتدا قسما
وقال بعض الكتاب: أكثر حيل الكاتب في بلاغته يقصد شيئاً فيأتي بغيره ويدرجه فيه.
قال محمد بن يحيى الصولي: ومن ذلك ما حدثنا الحسين بن فهم قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن يوسف عن أبيه قال: دخلت على المأمون وفي يده كتاب ورد من عمرو بن مسعدة وهو يردد النظر فيه مرات، ثم قال لي: أظنك قد أفكرت في تردادي النظر في هذا الكتاب. قلت: قد أفكرت في ذلك. قال: إني عجبت من بلاغته واحتياله لمراده كتب: كتابي إلى أمير المؤمنين، أعزه الله، ومن قبلي من قواده وأجناده، في الطاعة والانقياد على أحسن ما تكون عليه طاعة جند، تأخرت أرزاقهم واختلت أحوالهم" ألا ترى يا أحمد إلى إدماجه الخلة في الأجناد وإعفاء سلطانه من الأكثار، ثم أمر لهم برزق ثمانية أشهر.
ونحوه هذا ما حدثني به أبو علي السجزي قال: لما ولي عبد الله بن سليمان الوزارة أوصلت إليه كتاباً من عبيد الله بن عبد الله وفيه شعر له:
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا * وأعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها * ودع أمرنا إن المهم المقدم
فلما قرأ عبد الله هذا الشعر قال: ما أحسن ما احتال في شكوى حاله، بين أضعاف مدحه، فأوصل رقاعه إلي فقضى كل حاجة كانت له.
وحدثني علي بن الصباح ، عن حماد، عن الهيثم بن عدي، قال: كان الحجاج يستبطئ المهلب في حرب الأزارقة والمهلب، محسن مجتهد يستحق مكان الذم الشكر. فكتب إليه المهلب: "إن من البلاء أن يكون الرأي لمن تملكه دون من تبصره" فلما قرأ الحجاج هذا أقصر عن مكاتبته بمثل ذلك.
وحدثني الحسين بن علي العنبري قال: حدثني محمد بن معاوية الأسدي، قال: لما ظفر المهلب بالخوارج وفرغ من أمرهم قال الحجاج: الآن يرد كتاب المهلب طويلاً بوصفه، جامعاً لوصف يشرح أحواله، وإنه لحقيق بكل وصف، وأهل لكل مدح. قال فورد كتابه.
"بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الكافيء بالإسلام فقد ما سواه، المعجل النقمة لمن بغاه، الذي يزيد من شكره، ويرزق من كفره.
أما بعد فقد كان من أمرنا ما أغنت جملته عن تفصيله. وكنا نحن وعدونا في مدة هذا التنازع على حالتين مختلفتين: يسرنا منهم أكثر مما يسوؤنا ويسوؤهم منا أكثر مما يسرهم؛ على شدة شوكتهم، واجتماع كلمتهم، وانزعاج القلوب لمخافتهم؛ حتى نوم بذكرهم الرضيع، وأصم لخوفهم السميع. فانتهزت منهم الفرصة عند إمكانها، بعد أن تنظرت وقت إبانها؛ واستدعى النهل علله، وبلغ الكتاب أجله. فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".
ونحو هذا، إلا أنه في التهدد، ما حدثني به عبد الواحد بن العباس الهاشمي، قال: سمعت الرياشي يقول: كتب ملك الروم إلى المعتصم كتاباً يتهدده فيه فأمر بجوابه. فلما قربت الأجوبة عليه لم يرضها وقال للكاتب: "اكتب" فأملى عليه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد قرأت كتابك، وسمعت خطابك. والجواب ما ترى لا ما تسمع. وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار".
وكتب أحمد بن يوسف إلى إسحاق الموصلي يدعوه ويعلمه أن عنده قلماً "المعنى أنا وقلم وأنت أعلم".
وكتب عبد الملك إلى الحجاج: "أما بعد فقد بلغني سرفك في سفك الدماء، وتبذير الأموال في الباطل، ومنعك الحق؛ فلا يؤنسنك بي إلا طاعتك، ولا يوحشنك مني إلا معصيتك".
قال: فكتب إليه الحجاج: "أما بعد فقد وصل كتاب أمير المؤمنين، وما قتلت إلا فيه، ولا أعطيت إلا له. فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي لي سالفي، ويأمر لي بما أحب في مستأنفي؛ فعل إن شاء الله".
قال الصولي: حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني العتبي قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى بعض ولده، وقد خالفه في شيء: "أما بعد فإني أمرتك بأمر فأتيت غيره، ووصيتك بوصية فأبيت إلا عصته. وخفت أنك بمنزلة الصبي الذي إذا أمر بشيء أباه، وإذا نهي عن شيء أتاه؛ فيحتال له فيما ينفعه بأن ينهى عنه، وفيما يضره بأن يؤمر به. ويا سوأتي لمن هذه حاله والسلام".
مكاتبة الإخوان
قال الصولي: حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: سمعت الحسن بن وهب يقول: كاتب رئيسك بما يستحق، ومن دونك بما يستوجب، واكتب إلى صديقك كما تكتب إلى حبيبك.
وقال بعض الكتاب: غزل المودة أرق من غزل الصبابة.
وقال غيره: إني لألذ للمؤانسة كلذتي للملامسة.
وحدثنا أبو العيناء قال: حدثنا الأصمعي قال: قال هشام: قد مرت لذات الدنيا كلها على يدي وفعلي، فما رأيت ألذ من محادثة صديق ألقى التحفظ بيني وبينه.
قال الصولي: أو ما ترى حذق أبي تمام في قوله لآل وهب:
كل شعب كنتهم به آل وهب * فهو شعبي وشعب كل أديب
إن قلبي لكم لكالكبد الحر * ى وقلبي لغيركم كالقلوب
وهو القائل:
واجد بالخليل من برحاء الشو * ق وجدان غيره بالحبيب
وأنشدنا أحمد بن إسماعيل لنفسه:
صدود الحبيب دعاء الغلي * ل وأغلظ منه صدود الخليل
صددت فاشمت بي حاسداً * عليك وحققت قول العذول
وقال أبو تمام إلى ابن الهيثم:
سلام الله عدة رمل خبت * على ابن الهيثم الملك اللباب
ذكرتك ذكرة جذبت ضلوعي * إليك كأنها ذكرى تصابي
وقال إبراهيم بن العاس الصولي:
أميل مع الذمام على ابن عمي * وأقضي للصديق على الشقيق
وإما تلفني حراً وطاعاً * فإنك واجدي عبد الصديق
وقالوا: طرف الصداقة أملح من طرف العلاقة.
ذكر الحساب
قال الصولي: لم نرد بذكر الحساب أن نذكر الضرب والقسمة والمعاملة، إما أردنا أن نذكر اللغة فيه ووصف الكتاب به إذ كان الحساب قد عملت فيه كتب يزيد بعضها على جملة كتابنا هذا، ولئلا يخلو هذا الكتاب من ذكره إذ كان أصلاً لا يستغني عنه الكاتب ولا بد لكل أحد منه.
يقال: حسب يحسب حساباً وحسباناً مثل بنى يبني بناء وبنياناً والفعلان في مصدر فعل وفعل قد جاءا، وإن لم يكثرا قالوا: رفع رفعاناً وخسر خسراناً وغنى غنياناً. قال الحارث بن خالد:
أجد بعمرة غنيانها * فتهجر أم شاننا شانها
والحسبان العذاب، ومنه قول الله عز وجل: "ويرسل عليها حسباناً من السماء"، والحسبان الاتكال، ولم نسمعه إلا مع ذكر الله عز وجل: يقال على الله حسباني وتكلاني قال الشاعر:
على الله حسباني إن النفس أشرفت * على طمع أو خاف شيئاً ضميرها
وقال الله تعالى: "الشمس والقمر بحسبان" أي يطلعان ويغيبان بأوقات وقتها اله لا تزيد ولا تنقص، فكانت كصحة ما يحسب. قال الله عز وجل: "وجعلنا الليل والنهار أيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا".
وأجمع الحساب من كل جنس وملة، بكل خط ولغة، على أن تراكيب الحساب لا تعدوا أربعة: عدد يضرب في عدد، أو قسمة عدد على عدد. أو إلقاء عدد من عدد. أو زيادة عدد على عدد، وتكلموا في أوائل العدد ونهاياتها بكلام كثير، أحسنه ما قال الهند: إن الأعداد تبتدئ من واحد وتنتهي إلى تسعة، ثم تكون العشرة راجعة إلى حال الواحد على الرتبة.
وعلى هذا وصفوا حروفهم التسعة وقالوا: الحساب الهندي أخرج لكثير العدد إلا أن الكتاب اجتنبوه لأن له آلة، ورأوا أن ما قلت آلته، وانفرد الإنسان فيه بآلة من جسمه، كان أذهب في السر وأليق بشأن الرياسة، وهو ما اقتصروا عليه من العقد والبنان وإخراج رؤوس الجمل في أواخر السطور، وحط التفصيلات عنها واحداً دون آخر، وفرعاً دون أصل. وعني بعض الكتاب بذلك، حتى خف عقده وصار يلحق ببنانه، مثل ما يلحق ببصره، ولا يستبين الناظر مواقع أنامله.
وقد شبه عبد الله بن أيوب بن محمد التيمي وميض البرق بخفة يد الحاسب فقال:
أعني على بارق ناظر * خفي كوحيك بالحاجب
كأن تألقه في السما * يدا كاتب أو يدا حاسب
وقال بعض الكتاب:
وناطق تخبر ألفاظه * عن نغمات العود بالزمر
بينا تراه عاقداً خمسة * وستة صار إلى عشر
وصار من بعد إلى واحد * كحاسب أخطأ في كسر
ومن أحسن ما قيل في تشبيه يد الحاسب بوميض البرق بعد قول التيمي قول عنترة من أبيات:
وفرضت للناس الكتابة فاحتذوا * فيها مثالك والعلوم فرائض
وإذا خططت فأنت غيث معشب * وإذا حسبت فأنت برق وامض
وإذا نهضت فأنت نجم ثاقب * وإذا جلست فأنت ليث رابض
فبك التمثل حين ينعت فاضل * وإليك يرجع حين يشكل غامض
وقد زعم قوم أن قول الله عز وجل: "فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة". إنما قصد به الإفادة إذ كانت العرب لا تعرف دقيق الأعداد وليست ممن يحسن الحساب واحتجوا بقول الفرزدق:
ثلاث واثنتان فهن خمس * وواحدة تميل إلى سمام
قالوا: فلولا أنه رأى ذلك فائدة ما قاله. واحتجوا بقول النبي حدثنا، حين أخبر أن الشهر قد يكون تسعاً وعشرين "الشهر هكذا" وفتح أصابع يديه العشر "وهكذا وهكذا" وثني إحدى أصابعه في الثالثة. وقيل: المعنى أنه لما فصل بين السبع والثلاثة بإفطار أخبر أنها كالمتصلة، إذ كان قد أتى بها كما أمر فقد كملت له. وقيل: بل أراد أنها كملت فدية حين وصل السبعة بالثلاثة.
وكان بعض العرب باع جوهراً نفيساً، بألف درهم فقيل له: قد كان يساوي أكثر من هذا فقال: ما ظننت أن عدداً أكثر من ألف. وقال ابن الرومي:
وكنت حسبت فلما حسبت * زاد الحساب على المحسبة
وقال الخليل بن أحمد يهجو رجلاً كانت يداه مقبوضتين عن البذل فقال:
كفاك لم يخلقا للندى * ولم يك بخلهما بدعة
فكف ثلاثة آلافها * وتسع مئيها لها شرعه
وكف عن الخير مقبوضة * كما نقصت مائة سبعه
وقال النابغة للنعمان في اعتذاره إليه: كن حكيماً في إنصافي، كما حكمت جارية كانت لها حمامة، فرأت قطاً محزرته ستاً وستين فقالت:
ليت الحمام ليه * إلى حمامتيه
أو نصفه قديه * ثم الحمام مائه
قالوا: وكانت لها قطاة وجعلت القطا حماماً. وقيل: أراد النابغة: احكم علي بعدل، كما حكمت هذه في العدد فأصابت. والأول أجود وهو قول الأصمعي، أفلا ترى إلى النابغة كيف حكى هذا ونسب هذه الفتاة إلى حكمة وعدل حين أحسنت العدد فقال.
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت * إلى حمام سراع وارد الثمد
الثمد الماء القليل.
قال أبو عبيدة: وكان يقال للجارية: الزرقاء واسمها عنز، وكانت من جديس. وقال غيره: القائلة لهذا هند بنت الخس: قالت:
ألا ليتما هذا الحمام لنا * إلى حمامتنا أو نصفه فقد
قولها "فقد" أي حسبي وقدك حسبك.
فحسبوه فألفوه كما زعمت * تسعاً وتسعين لم ينقص ولم يزد
فكلمت مائة فيها حمامتها * وأسرعت حسبة في ذلك العدد
ومن المشهور الذي يتطارحه الناس أشعار:
لها الثلثان من قلبي * وثلثا ثلثها الباقي
وثلثا ثلث ما يبقى * وثلث الثلث للساقي
وتبقى حصص ست * لقسم بين عشاق
الأصل مائتان وثلاثة وأربعون، ذهب الثلثان مائة واثنان وستون، الباقي أحد وثلاثون، ذهب ثلثا ثلثه، يبقى سبعة وعشرون فيذهب ثمانية عشر وهو قوله: وثلثا ثلث ما يبقى وتبقى تسعة ثلثها للساقي، وهو قوله: وثلث الثلث للساقي ويبقى ستة فصيرها حصصاً ليستوي له الشعر. فقال: ويبقى حصص ست لأنه لو قال: اسهم كانت ستة.
نقصان الألف وإسقاطها
ألف الوصل لا يجوز إسقاطها من الخط إلا في ثلاثة مواضع: تحذف من بسم الله الرحمن الرحيم وقد ذكرنا ذلك.
وتسقط من ابن إذا جاء بعد اسم ظاهر في معنى فلان، وكان مضافاً إلى اسم ظاهر كالإسم الأول، وكان الابن نعتاً للإسم كقولك: مررت بزيد بن محمد، وجاز إسقاط الألف لأن الإسم الأول ولآخر قد دلا على الابن فعرف موضعهما فحذفت، وإنما فعلوا ذلك لللإجاز، فعلى هذا أجر الابن ما دام الابن واحداً، فإذا ثنيت كتبت: جاءني زيد ومحمد إبنا عبد الله كان بالألف، وإذا كان الابن مبتدأ لم يجز إسقاط الألف منه لأنه لم يأت قبله ما يدل عليه، وكذلك إذا كان خبراً قبح إسقاط الألف كقولك: إن محمداً ابن زيد لأنه كالمبتدأ، ولئلا يشبه الخبر النعت، وكذلك إذا أضيف إلى اسم ليس في معنى فلان كقولك: زيد ابن الرجل الصالح، وكذلك إذا أضيف إلى مكني عنه كقولك: زيد ابنك، أثبتت الألف في هذه كله، فإذا صرت إلى المؤنث كتبت فلانة ابنة فلان بالألف لا يجوز إسقاطها، لأن النسب بالنساء لم يكثر فيعرف موضعه، كما كثر في الرجال، ولأن في ابنة لغة أخرى يقال: بنت بالتاء، ومن العرب من يجعل الهاء في ابنة تاء لأنه يبني الكلام على الإضافة لأن الهاء تصير في ابنة تاء لئلا يلتبس فيقال: ابنت.
والموضع الثالث أن تكون ألف الوصل مع لام، كقولك: "الرجل" فإن هذه الألف تسقط إذا كانت لام الصفة معها، وهي اللام الزائدة مكسورة أو مفتوحة، فالمكسورة مثل قولك: "للرجل" مال. والمفتوحة كقولك: "للثوب" خير من ثوبك وأشباه ذلك، وإنما فعل ذلك لأن الحرف علم مع إسقاطها فمالوا إلى التخفيف فهذه قصة ألف الوصل.
فأما حذف الألف إذا كانت حشواً نحو خالد ومالك وما يشبه ذلك فأكثر ما تحذف إذا كانت في الأسماء المستعملة لمعرفتهم بالحرف فإذا كانت في اسم فهو نعت لم تحذف، مثل شاكر وصابر وظالم وصادق، وأشباه ذلك، لأن النعت لا يتكرر للإنسان فيتكرر الاسم فيعرف. وقد أسقطوها من صالح نعتاً ولا نعلمهم أسقطوها من غيره، وذلك أنهم شبهوها بالإسم لما كثر صالح في أسماءهم، وهو رديء في القياس. فإذا صرت إلى الجمع سهل إسقاط الألف لقلة إشكاله، مثل الظالمين والكافرين وإثباتها أجود.
فأما ما كان من بنات الياء والواو نحو: الراضين والساعين وفي الرفع: لراعون وأشباه ذلك فلا يجوز طرح الألف منه لأنه قد حذف منه موضع اللام من الفعل، وهو الياء، لأن الأصل الراعيون في الرفع والراعيين في النصب والخفض، فالياء الأولى تسكن لأنها معتلة وياء الجميع أو واوه ساكنة، فأسقطوا الياء الأولى للالتقاء الساكنين، واستقبحوا أن يحذف الألف، وقد حذفوا لام الفعل فيجحفوا بالحرف.
فإما ألف دراهم فإنما يجوز حذفها إذ تقدمها ما يدل على الجمع كقولك: ثلاثة دراهم وأشباه ذلك وإذا كانت مفردة لم يجز إسقاطها وما كان مثل عمران ومروان وسفيان وسلطان فإثبات الألف فيه أجود، وإن أسقطتها من الاسم الذي يعرف بسقوطها فجائز. وفي الجملة إن إسقاطها يحسن فيما كثر استعماله من الأسماء.
وقد حذفوا ألف أولئك الثانية استغناء عنها لعلمهم بالحرف. وقد حذف قوم ألف النداء في المصحف فكتبوا: يداود ويعيسى بغير ألف، وإنما حملهم على ذلك علمهم بالنداء وإثبات الألف أجود وأقيس، والسلام عليك إذا أردت التسليم، فكلهم يكتبه بغير ألف. فإذا قلت كان برداً وسلاماً وهذا عبا السلام فبالألف أجود، وإن كتبت بغير ألف جاز. ويكتبون: ثمنية دراهم وثمني ليال، بغير ألف لمعرفتهم بالحرف فإذا قالوا: ثمان أثبتوا الألف كراهية حذفها مع حذف الياء، فيجحفوا بالحرف كما ذكرنا متقدماً.
نقصان الألف
قال الصولي: لا يكادون يزيدون الألف إلا بعد واو الجمع، مثل آمنوا وكفروا. قال الفراء: وإنما فعلوا ذلك ليفرقوا بين واو الأصل واو الجمع، وواو الأصل التي تكون في مثل: يغزو ويدعوا وأشباه ذلك. وقال الأخفش: إنما فعلوا ذلك لئلا يشبه واو الجمع وواو العطف، إذ كان يجيء في الكلام كفر وفعل وهذا القول يصح إذا كانت واو الجمع تنفرد وتنكسر إذا اتصلت مثل آمنوا وكفروا وظلموا لأنه لا يشبه أمر وفعل.
قال أبو بكر محمد بن يحيى الصولي. وحدثنا أحمد بن يحيى النحوي ثعلب قال: سألني محمد بن عبد الله عن إتيان الألف في: ضربوا وقاموا، فقلت له: قال الفراء: فرقوا بين الواو الأصلية في أرجو وأخو وحمو وبين التي ليست بأصلية في ضربوا.
قال الأخفش: كرهوا أن يظن أنها واو نسق إذا كتبوا كفر وفعل ثم بنوا على ذلك.
وقال الخليل: الضمة تنقطع إلى همزة فاستوثقوا بالألف، فقال محمد: لا يقع مثل هذا إلا في طبع الخليل.
قال أبو العباس: والذي عندي فيه أن اللف جعلت بدلاً من المكنى، وهو الهاء لأنهم إذا قالوا: ضربوه، سقطت الألف، فإذا قالوا: ضربوا، ثبتت، ليعلم أن الحرف قد انفرد، وأخو وأبو، لاىتثبت الألف فيه لأن الواو أصلية فالحرف قائم بنفسه: أخو زيد وأبوه.
والألف في: مائة زيدت فيما ذكر الأخمش لبفصل بينها وبين منه، إذا قالوا: أخذت مائة، لم يشبه أخذت منه، وقالوا أيضاً: فعلوا لئلا يشبه مية. وهذا قول مرذول لأن مية متى تذكر وتقع في كتاب. والناس من أهل البصرة والكوفة على ما قاله الأخفش.
الهمز
الهمزة إذا كانت لام الفعل - ومعنى الفعل أن تكون آخر الحرف مثل قرأ ونبأ واستهزأ - فإنها تثبت في الحرف ولا تسقط كما تسقط الياء وتكتب على ما قبلها فإن كان الذي قبلها مفتوحاً، كتبت بالألف وإن كان مكسوراً بالياء، وإن كان مضموماً، كتبت بالواو؛ ومن ذلك أن تكتب، إذا أمرت من قرأت: إقرأ بالألف، ومن نبأت نبيء بالياء، ومن سؤت سؤ بالواو. فإن لم تكن في موضع جزم، وانضم ما قبلها، كتبت بالواو، كقولك: وهو يسوء زيداً فإذا انكسر ما قبلها، كتبت بالياء مثل يستهزئ.
وإذا انفتح ما قبلها فقد اختلف في كتابتها في الرفع، فكتب بعضهم: هو يقرأ ويخبأ، بالألف والواو للزومهم القياس، في كتابتهم الهمزة بالألف، إذا انفتح ما قبلها، فإذا انفتح ما قبلها زادوا الواو في الرفع، وقد كتب في المصحف على هذا المذهب بالياء نحو: "ولقد جاءك من نبإي المرسلين"، بالألف والياء بعدها، وهذا قبيح لأن فيها اشتباه المقصور بالممدود.
قال: وإذا قالوا: الهمزة لام الفعل فهي آخره، مثل الباء من ضرب واللام من فعل، فإذا قالوا: هو عين الفعل، وقعت موقع العين من قولهم فعل مثل الراء من ضرب والتاء من قتل، فإذا قالوا: هي فاء الفعل فإنما وقعت أولاً مثل الفاء من فعل وهي مثل الضاد من ضرب والقاف من قتل.
وإذا كانت الهمزة فاء الفعل، مثل: أتى وأبى وأذن فإنها تأتي مختلفة. تقول: إذا أمرت: إيت فلاناً وإيذن له فتصير الهمزة ياء، وذلك لأنهم يكرهون اجتماع الهمزتين فتصير الثانية ياء، لسكونها وانكسار ما قبلها. فإذا أدخلت عليها حروف النسق، أسقطت الياء فلم تثبتها في الكتاب فتقول: إيذن لفلان وأذن لفلان إيت فلاناً وآت فلاناً، وإنما فعلوا ذلك لأن الهمزة إذا انفتح ما قبلها صارت ألفاً فكرهوا اجتماع الألفين في الكتاب، فحذفوا إحداهما وهي ألف الأمر. وإنما حذفوا لأنها تذهب من اللفظ في الوصل والهمزة تثبت في اللفظ فالقوها كذلك.
وأما في ذوات الأربعة، وهو أن تضيف الحرف إلى نفسك، فتجده على أربعة أحرف مثل: أكلت وأمرت، فإن الهمزة تسقط في هذا الباب، في الأمر فتقول: مر فلاناً بكذا وكل طعامك وكان الأصل: أو كل أو مر، فلما سكنت الهمزة وانفتح ما قبلها، صارت واواً، وكل واو وقعت بين ضمتين أو كسرتين تسقط، فلما سقطت الواو، بقي أمر، فأسقطت الألف المجتلبة للأمر، لأنها إنما تدخل لسكون أول الحرف، ذلك كان لا يبتدئ بالساكن فلما تحرك أول الحرف أسقطوها استغناء عنها فبقيت مر وكل. فإذا أدخلت حرف النسق، فالأجود أن يكون الحرف على حاله، وإن شئت رددت الهمزة، فأثبتت الألف.
وفي القرآن: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" بإثبات الهمزة، وإنما ترد الهمزة لأن ألف الأمر التي أسقطتها تذهب في اللفظ فترجع الهمزة فتثبت الألف في الكتاب وترك الهمزة أكثر ولا نعلم جاء الهمز إلا في: "وأمر"، وكانت تجوز على القياس فإذا سكن ما قبل الهمز، فإن أكثر ما جاء عن العب إسقاطها من الكتاب إلا أن يكون أثر جاء فيه، من ذلك قول الله عز وجل: "لكم فيها دفء ومنافع" و "يخرج الخبء" و "يحول بين المرء وقلبه"، كتبوا بغير ألف هذه كلهان ومن العرب من يكتبها على لفظها، إذا سكن ما قبلها فإن كانت مضمومة، كتبها بالواو وإذا كانت مفتوحة كتبها بالألف، وإذا كانت مكسورة كتبها بالياء، كتبوا: "هن نساؤ صدق"، بالواو و "رأيت نسآء صدق" بالألف ومررت بنسائي صدق. بالياء.
فإذا كانت الهمزة آخر الحروف، والحرف ممدود، كتب بألف واحدة في النصب والخفض والرفع، كقولك: رأيت عطاء وشربت ماء ومررت بعطاء وهذا عطاء. فأما في الخفض والرفع، فلم تثبت الواو ولا الياء لأنهم يستثقلونهما طرفاً.
وأما في النصب فلأنهم يكرهون اجتماع شبهين، فإذا اجتمعت في الحرف ألفان، كتبوه بألف واحدة كقولك: شربت ماء، ألا ترى أن ههنا ثلاث ألفات الألف الأولى والهمزة المفتوحة وألف الإعراب. وكل ممدود منصوب فالصواب أن يكتب بألفين لأن فيه ثلاث ألفات.
ومما يستحسن فيه الجمع بين ألفين: قولك: قد قرأا وجاءا، وذلك ليكون فرقاً بين الواحد والمثنى، وكتبت لفلان براآت ليكون فرقاً بين الواحدة والجمع، ولأن من العرب من يقف على براءة بالتاء، فلو كتبت بألف واحدة لم تعرف الواحدة من الجمع.
الهاء
كل ما كان من ذوات الياء، وكانت فاء الفعل فيه واواً مثل: وفيت ووعيت وأويت، فإنه يكون في الأمر حرفاً واحداً لأن الأصل "أوفى" بالياء، تذهب الياء للجزم وتسقط الواو، لأنها صارت بين كسرتين فبقي "أف" فتسقط ألف الأمر، لأنه قد استغني عنها لتحرك أول الحرف فتبقى الفاء وحدها، فإذا اتصل الكلام بعضه ببعض لم تثبت الهاء في اللفظ، فإذا وقفت وقفت بالهاء، كقولك: فه وقه من وفيت ووفيت، وشبه من وشيت الثوب، لأنه لا ينطق بحرف واحد استبقاء له، فإذا كتبت كتبت بالهاء، لأن الكتاب على الوقف ألا ترى ان اختيار العرب في كتابتهم رأيت محمد بن عبد الله أن يكون بالألف لأن القارئ ربما وقف على "محمداً"، فإن لم يثبت فيه الألف أشبه ما لا يجري من الأسماء كقولك: رأيت عمر، وإن كان الكتاب قد استجازوا إسقاطها لكثرة استعمالهم، وذلك ممن لا يعرف أصل الكتاب فيقف على فساده.
فإن جعلت قبل الحرف الذي وصلته بالهاء، حرفاً لا ينفصل منه، جاز أن تكتبه بغيرها، كقولك: اذهب، وف لزيد، وقالوا: لزيد، وإنما جاز لأن الواو والفاء لا ينفصلان وكأن الكلمة قد صارت على حرفين وإثبات الهاء أجود.
فأما هاء التأنيث فأصلها إن تكتب بالهاء، إذا كانت مضافة إلى اسم ظاهر، لأن الوقف عليها بالهاء مثل: امرأة زيد، وفتاة عمرو، فإذا أضفتها إلى مكني عنه كانت بالتاء، لأنه لا يمكن الوقوف عليها بالهاء، كقولك: امرأتك وفتاتك، فهذا الوجه. وقد كتب في المصحف "رحمت الله" "ومريم ابنت عمران" ومثله "نعنت الله"، وذلك لكثرة اصطحابهما ليس يفصلان في القراءة، فصار كالحرف الواحد الذي لا ينفصل منه، والهاء في ذلك أجود لأنها تنفصل منه ويسكت عليها.
فأما هيهات فمن وقف عليها بالتاء، كتبها بالتاء، ومن وقف عليها بالهاء، كتبها بالهاء لأن الكتاب على الوقف.
ويا أيها الرجل، ويا أيها القوم، تكتبه بالألف، وذلك الوجه. وقد كتب في المصحف "يايه المؤمنون" و "يايه الثقلان". و "يايه الساحر" بغير ألف. وفي جميع القرآن بالألف وهو الصواب.
الواو
الواو تزاد في ثلاثة مواضع: فمن ذلك الواو في: "عمرو"، زيدت ليفصل فيها بينه وبين عمر فإذا كتبت عمراص بالنصب وجئت بالألف لم تحتج إلى الواو، لأن عمر لا ينصرف ولا تدخلع الألف.
وزيدت في "أولئك" لتفصل بينها وبين إليك.
وزيدت في "يا أوخي"، لتفصل بين التصغير وبين الاسم على جهته.
فأما المواضع التي نقصت منها فواو "طاوس" و "داود" كتبوهما بواو واحدة، كراهية للشبهين والحرف معروف. ومن كتبه بواوين على الأصل فقد أصاب.
فإذا صرت إلى ما قبلها واو، مثل "آووا ونصروا" و "لووا" و "جاووا" و "باووا بغضب". فيه ثلاثة أوجه: أجودهن أن يكتب بواو واحدة وألف وقد كتبها بعضهم بواوين وإسقاط ألف وكل قد كتب به.
الياء
كل اسم كانت لام الفعل منه ياء فإنها تحذف في الخفض والرفع، فإذا نصبت لم يكن من إثباتها بد كقولك: رأيت قاضياً وغازياً، فإذا صرت إلى جمع المؤنث السالم من هذا الباب، مثل: جوار وقواض كتبت ذلك أيضاً في الرفع والخفض بغير الياء، وأثبت في النصب الياء ولم تثبت الألف، فتقول: هذه قواض، ومررت بقواض وبجوار، ولا تثبت الياء، فإذا أثبت قلت: جواري ولم تثبت الألف لأنه حرف لا يجري فإذا أدخلت الألف واللام أثبت الياء في الواحد والجمع، كقولك: القاضي والجواري.
ومن العرب من يسقط الياء في الخفض والرفع، فيقول: هذا القاض ومررت بالغاز، وهؤلاء الجوار ومررت بالجوار، فإذا صاروا إلى النصب أثبتوا الياء كما كان قبل دخول الألف واللام والأول أجود.
وإذا كان الجمع بالنون مثل القاضين والمصلين، كتبته بياء لأن الياء الأولى منهما قد سقطت لالتقاء الساكنين.
ما يكتب بالياء والألف من الأفعال
قال الصولي: امتحن كل فعل ورد عليك من ذوات الواو والياء بأن تضيفه إلى نفسك، فإن ظهر بالياء، كان الأجود أن تكتبه بالياء وجاز كتابته بالألف على اللفظ مثل قضى ورمى، ألا ترى أنك إذا أضفته إلى نفسك قلت: قضيت ورميت. وإن ظهر الفعل بالواو، كتبته بالألف لا غير مثل دعا وعلا، ألا ترى أنك إذا أضفته إلى نفسك قلت: دعوت وعلوت. فقس على ذلك كل ما ورد عليك إن شاء الله تعالى تصب.
وكل ما كان من ذوات الواو والياء، رددته إلى ما لم يسم فاعله فاكتبه بالياء فيما كان ماضياً ومستقبلاً معاً، كقولك: دعي يدعى وغزي يغزى ورمي يرمى.
وكل فعل من ذوات الياء والواو، زدت في أوله شيئاً، فاكتبه بالياء، فإنه أجود، وإن كتبته بالألف جاز على اللفظ مثل ادعى واستقصى واستدعى، لأنك إذا لفظت به كان بالياء، لأن ذوات الواو إذا زيد في أولها شيء ردت إلى الياء.
المقصور والممدود
كل اسم ممدود فإنه يكتب بالألف، كان من ذوات الواو والياء لا اختلاف في ذلك.
فأما المقصور فامتحنه بالتثنية، فإن كان بالياء، كتبته بالياء وجازت كتابته بالألف، وذلك نحو فتى ورحى لأن تثنيتهما بالياء نحو فتيان ورحيان، وإن كانت تثنيته بالواو كتبته بالألف لا غير، نحو قفا وعصا لأن تثنيتهما قفوان وعصوان.
وكل اسم في أوله ميم مفتوحة أو مكسورة فاكتبه بالياء مثل المثنى والمدعى والمرمي والمقضي.
وإن كانت في أوله ميم مكسورة فاكتبه أيضاً بالياء ما كان اسماً مثل المقري الذي يقرى فيه الماء أي يجمع والمهدى الذي يهدي عليه، فإن كان نعتاً، فاكتبه بالألف لأنه ممدود مثل معطاء ومهداء.
فإذا كان الاسم على فعل أو فعل بكسر الفاء وضمها مع فتح العين فاكتبه بالياء من أي النوعين كان مثل هدى وسدى وحمى ورضى.
وكل مقصور كانت لام الفعل فاكتبه بالألف مثل الدنيا والعليا والمحيا وروايا وخطايان، وإنما كتبوها بالألف لأنهم كرهوا الجمع بين ياءين في الكتاب.
وأما القصوى والهوى وما أشبههما فإنها تكتب بالياء لأنه ليس من أسمائهم فأخرجوه مخرج عيسى وموسى ويحيى.
وأما قوله عز وجل: "ويحيا من حي عن بينة" فبالألف لا غير و "زكريا" كتبوه بالألف لأن فيه لغتين بالمد والقصر كتبوه بالألف لأن الألف كمعهما وكذلك "الزنا" و "الشرا" بالألف لأن فيه لغتين.
وذا كانت عين الفعل همزة. ومعنى عين الفعل أن تقع وسطاً من مثل فعل مثل نأى ينأى وشأى يشأى، كتبت بالياء، وإن كانت من بنات الواو، ألا ترى أنك تقول: نأوت قال: وإنما فعلوا ذلك كراهية ن يجمعوا بين ألفين فقس على ذلك.
ما كتب على غير القياس
من ذلك الصلوة والزكوة والغدوة والحيوة والمشكوة والربو، كتب كل هذا في المصحف بالواو، وكان يجب أن يكتبن بالألف للفظ، وإنما كتبن كذلك على مثل أهل الحجاز لأنهم تعلموا الكتاب من أهل الحيرة، وهذا إنما فعل بسبب قلة الكتاب في ذلك الزمان، وإن الذين كتبوه أهل الحجاز، وأنت اليوم بالخيار، إن شئت كتبتهما بالألف وإن شئت أقررتهما على ما في المصحف.
كتاب النون الخفيفة
النون الخفيفة تكون عند الوقف عليها في النصب ألفاً، وفي الخفض ياء، وفي الرفع واواً. وكذلك تكتب نحو: اضربن يا رجل، فإذا وقفت عليه قلت: اضرباً، ومنه قوله عز وجل: "لنسفعاً بالناصية"، كتبت في المصحف بالألف لانفتاح ما قبلها، معناه لنجذبن بناصيته والسفع الجذب بشدة، والناصية مقدم الرأس، يريد جل وعز لنذلنه بذلك. وتقول: اضربي يا امرأة بالياء لأن الوقف بالياء واضربوا يا رجال بالواو لأن الوقف عليها بالواو.
ومن العربي من يقف على النون، فمن كانت هذه لغتهم كتبت بالنون. وتقول: اضربن يا رجل نصبت الباء، وموضعها جزم للأمر لسكون النون كراهية اجتماع ساكنين، وتثنى اضربان يا رجلان واضربن يا رجال. وفي المؤنث اضربن يا امرأة واضربان مثل الذكر. وفي الجميع اضربن يا نسوة، فتشدد النون ضرورة لأنهما نونان نون جمع المؤنث والنون الخفيفة.
والنون الخفيفة والثقيلة، تقع كل واحدة منهما موقع الأخرى، وتقول في النون الثقيلة: اضربن يا رجل واضربان واضربن يا رجال. وفي المؤنث اضربن يا امرأة والتثنية كالذكرين، وفي الجميع اضربنان، استثقلوا ثلاث نونات نون الجمع والنون الشديدة وهي نونان فأبدلوا الوسطى ألفاً. والدعاء كالأمر والنهي كقولك: اللهم ارزقنا فلاناً وفي الاستفهام أتقومن يا رجل.
الإدغام
الإدغام في الحرفين إذا كانا من جنس واحد، يتلو أحدهما صاحبه، وتحركا كتبا حرفاً واحداً، مثل: غض ومد، لأن الأول منهما يسكن ويدغم في الثاني. وإذا كانا من حرفين كتبا حرفين، وفي اللفظ كانا واحداً مشدداً نحو: لم يفق قاسم، ولم ينصف فرعون، فإذا سكن الثاني أثبتا حرفين مثل: لم يمدد ولم يعضض، فإذا كانا من حرفين وهما متحركان، أحدهما ساكن كتبا حرفين، مثل: لم يترك كبيرهم لصغيرهم شيئاً، إن افترقا أو اتصل أحدهما بصاحبه وإنما يكون الاتصال إذا كان الثاني حرف كناية كقوله تعالى: "أينما تكونوا يدرككم الموت". وكقول زهير: فتعرككم عرك الرحى بثقالها
وكذلك هو مذهبهم في الفتح ليس في ذلك اختلاف. فإذا كان الحرفان نونين، فإن من العرب من يدغمهما، ومن من يظهرهما: فيقول الذي يدغم: أنتم تضربوني، ويقول الذي لا يدغم أنتم تضربونني فيكتب في الإدغام بنون واحدة ليكون فرقاً بين المدغم وغير المدغم. وإن كان الحرفان المدغمان من جنسين أظهرا على جنسيهما، كقولك اتخذت ووعدت، فإذا كان المدعمان يتولد منهما حرف غيرهما كتب ذلك المتولد مثل مدكر ومظلم قال زهير:
هو الجواد الذي يعطيك نائله * عفوا ويظلم أحياناً فيظلم
وأما اللامان اللتان تكتبان في أول الحرف، إحداهما فاء الفعل والأخرى تجيء مع الألف للتعريف، فإنك تكتبها حرفين نحو اللحن والليل. وإنما كتبوا الذي بلام واحدة لأنها لا تنفرد عن الأخرى وكذلك الذين. فأما اللذان في التثنية فإنها كتبت على الأصل لتفرق بين التثنية والجمع.
ما يقطع ويوصل
يكتبون: أحب "أن لا" تفعل كذا بألف ونون، وتكون "لا" مقطوعة منها وهو أجود، لأن القارئ ربما احتاج أن يقف على النون. والكتاب على الوقف، فمنهم من يكتب بألف ولام موصولة لأن النون تدغم في اللام إذا نطق بها، وكتبت على اللفظ. و "كلما" إذا أردت بها الجزاء كقولك: كلما فعلت فعلت، كتبتها حرفاً واحداً لأنها أداة، وإذ أردت بها معنى الذي كقولك: كل ما فعلت فصواب، فاقطع "كل" من "ما" وكذلك: إنما وكأنما ولكنما إذا أردت بهن الأدوات فاجعلها حرفاً واحداً. وإذا أردت بمعنى "ما" الذي فاقطع، وذلك أن الوقف في الأولى لا يستقيم على بعض الحروف دون بعض. وإذا كانت بمعنى الذي وقفت على ما قبلها. فقس عليه تصب إن شاء الله تعالى. وكتبوا: "لئلا" موصولة وهي "لأن لا"، فجعلوها كالشيء الواحد وكتبوا: "هأنتم، هأنا" بألف واحدة، ولم يكتب بألفين جعلا كالشيء الواحد.
تم الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه
في يوم الخميس المبارك سادس عشري شهر الحجة الحرام ختام سنة 1107 ألف ومائة وسبع من الهجرة النبوية على مهاجرها أفضل الصلاة والسلام. على يد كاتبه يوسف بن محمد الشهير بابن الوكيل الملوي غفر الله له ولوالديه ومشائخه والمسلمين.
منسوخ من موقع الورَّاق - جزاهم اللَّه خيراً
قام بنسخه وتنسيقه ونشره أخوكم (خزانة الأدب)
وهو يُرجو ممن يستفيد منه أن يدعو له ولوالديه
وأن لا يحذف هذه السطور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق