ج23.وج24.البداية والنهاية لابن كثير
ج23.البداية
والنهاية لابن كثير
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
يَا عُمَرُ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
تَمَسَّكْ بِمَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَاثْبُتْ عَلَى مَا أَنْتَ عَلَيْهِ. قَالَ:
ثُمَّ كَأَنَّهُ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ فَخَرَجْتُ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ، وَهُوَ يَقُولُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَنِي رَبِّي، وَإِذَا عَلِيٌّ فِي إِثْرِهِ،
وَهُوَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي غَفَرَ لِي رَبِّي.
فَصْلٌ ( إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ
سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا )
وَهُوَ ذِكْرُنَا فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " الْحَدِيثَ الَّذِي
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ
كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا. فَقَالَ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ عَلَى رَأْسِ
الْمِائَةِ الْأُولَى. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ جَدَّدَ اللَّهُ
بِهِ أَمْرَ الدِّينِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ هُوَ
أَوْلَى مَنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ وَأَحَقَّ ; لِإِمَامَتِهِ، وَعُمُومِ
وِلَايَتِهِ، وَاجْتِهَادِهِ وَقِيَامِهِ فِي تَنْفِيذِ الْحَقِّ، فَقَدْ كَانَتْ
سِيرَتُهُ شَبِيهَةً بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَكَانَ كَثِيرًا مَا
يَتَشَبَّهُ بِهِ. وَقَدْ جَمَعَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
سِيرَةَ الْعُمَرَيْنِ ; عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَقَدْ أَفْرَدْنَا سِيرَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مُجَلَّدٍ
عَلَى حِدَةٍ، وَمُسْنَدَهُ فِي مُجَلَّدٍ ضَخْمٍ، وَأَمَّا سِيرَةُ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا طَرَفًا
صَالِحًا هُنَا، يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْطِي مَنِ انْقَطَعَ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ، مِنْ بَلَدِهِ وَغَيْرِهَا، لِلْفِقْهِ وَنَشْرِ الْعِلْمِ
وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فِي كُلِّ عَامٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةَ دِينَارٍ،
وَكَانَ يَكْتُبُ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَأْخُذُوا النَّاسَ بِالسُّنَّةِ،
وَيَقُولَ: إِنْ لَمْ تُصْلِحْهُمُ السُّنَّةُ فَلَا أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ.
وَكَتَبَ إِلَى سَائِرِ الْبِلَادِ أَنْ لَا يَرْكَبَ ذِمِّيٌّ مِنَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ عَلَى سَرْجٍ، وَلَا يَلْبَسُ قَبَاءً وَلَا
طَيْلَسَانًا وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا يَمْشِيَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا
بِزُنَّارٍ مِنْ جِلْدٍ، وَهُوَ مَقْرُونُ النَّاصِيَةِ، وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ
فِي مَنْزِلِهِ سِلَاحٌ أُخِذَ مِنْهُ، وَكَتَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ
عَلَى الْأَعْمَالِ إِلَّا أَهْلُ الْقُرْآنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ
خَيْرٌ فَغَيْرُهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ خَيْرٌ. وَكَانَ يَكْتُبُ
إِلَى عُمَّالِهِ: اجْتَنِبُوا الْأَشْغَالَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّ
مَنْ أَضَاعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَشَدُّ
تَضْيِيعًا. وَقَدْ كَانَ يَكْتُبُ الْمَوْعِظَةَ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ
عُمَّالِهِ فَيَنْخَلِعُ بِهَا قَلْبُهُ، وَرُبَّمَا عَزَلَ بَعْضُهُمْ نَفْسَهُ
عَنِ الْعِمَالَةِ مِنْ شِدَّةِ مَا تَقَعُ مَوْعِظَتُهُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمَوْعِظَةَ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ قَلْبِ الْوَاعِظِ دَخَلَتْ قَلْبَ
الْمَوْعُوظِ. وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ كُلَّ مَنِ
اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثِقَةٌ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِمَوَاعِظَ حِسَانٍ وَلَوْ تَقَصَّيْنَا ذَلِكَ لَطَالَ
هَذَا الْفَصْلُ، وَلَكِنْ قَدْ ذَكَرْنَا مَا فِيهِ إِشَارَةً إِلَى ذَلِكَ.
وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ
عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي
أُذَكِّرُكَ لَيْلَةً تَمَخَّضُ بِالسَّاعَةِ فَصَبَاحُهَا الْقِيَامَةُ، فَيَا
لَهَا مِنْ لَيْلَةٍ وَيَا لَهُ مِنْ صَبَاحٍ، وَكَانَ يَوْمًا عَلَى
الْكَافِرِينَ عَسِيرًا. وَكَتَبَ إِلَى آخَرَ: أُذَكِّرُكَ طُولَ سَهَرِ أَهْلِ النَّارِ
فِي النَّارِ مَعَ خُلُودِ الْأَبَدِ، وَإِيَّاكَ أَنْ يُنْصَرَفَ بِكَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ فَيَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِكَ، وَانْقِطَاعَ الرَّجَاءِ مِنْكَ.
قَالُوا: فَخَلَعَ هَذَا الْعَامِلُ نَفْسَهُ مِنَ الْعِمَالَةِ، وَقَدِمَ عَلَى
عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: خَلَعْتَ قَلْبِي بِكِتَابِكَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى وِلَايَةٍ أَبَدًا.
فَصْلٌ ( رَدُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِلْمَظَالِمِ )
وَقَدْ رَدَّ جَمِيعَ الْمَظَالِمِ كَمَا قَدَّمْنَا، حَتَّى إِنَّهُ رَدَّ فَصَّ
خَاتَمٍ كَانَ فِي يَدِهِ ; قَالَ: أَعْطَانِيهِ الْوَلِيدُ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ.
وَخَرَجَ مِنْ جَمِيعِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ فِي الْمَلْبَسِ
وَالْمَأْكَلِ وَالْمَتَاعِ، حَتَّى إِنَّهُ تَرَكَ التَّمَتُّعَ بِزَوْجَتِهِ
الْحَسْنَاءِ، فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، يُقَالُ: كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ
النِّسَاءِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَدَّ جَهَازَهَا وَمَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهَا
إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ كَانَ دَخْلُهُ فِي كُلِّ
سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَتَرَكَ
ذَلِكَ كُلَّهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ دَخْلٌ سِوَى أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ
فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَكَانَ حَاصِلُهُ فِي خِلَافَتِهِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ،
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ جَمَاعَةٌ، وَكَانَ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ
أَجَلَّهُمْ، فَمَاتَ فِي حَيَاتِهِ فِي زَمَنِ خِلَافَتِهِ، حَتَّى يُقَالَ:
إِنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَبِيهِ. فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ
حُزْنٌ،
وَقَالَ: أَمْرٌ رَضِيَهُ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُهُ. وَكَانَ قَبْلَ الْخِلَافَةِ يُؤْتَى بِالْقَمِيصِ الرَّفِيعِ اللَّيِّنِ جِدًّا، فَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَهُ لَوْلَا خُشُونَةٌ فِيهِ. فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ الْغَلِيظَ الْمَرْقُوعَ وَلَا يَغْسِلُهُ حَتَّى يَتَّسِخَ جِدًّا، وَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَهُ لَوْلَا لِينُهُ. وَكَانَ يَلْبَسُ الْفَرْوَةَ الْغَلِيظَةَ، وَكَانَ سِرَاجُهُ عَلَى ثَلَاثِ قَصَبَاتٍ فِي رَأْسِهِنَّ طِينٌ، وَلَمْ يَبْنِ شَيْئًا فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ. وَكَانَ يَخْدِمُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ، وَقَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا عَوَّضَنِي اللَّهُ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَكَانَ يَأْكُلُ الْغَلِيظَ مِنَ الطَّعَامِ أَيْضًا، وَلَا يُبَالِي بِشَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ، وَلَا يُتْبِعُهُ نَفْسَهُ وَلَا يَوَدُّهُ، حَتَّى قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَزْهَدَ مِنْ أُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ ; لِأَنَّ عُمَرَ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا وَزَهِدَ فِيهَا، وَلَا نَدْرِي حَالَ أُوَيْسٍ لَوْ مَلَكَ مَا مَلَكَهُ عُمَرُ كَيْفَ يَكُونُ ؟ لَيْسَ مَنْ جَرَّبَ كَمَنْ لَمْ يُجَرِّبْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ النَّاسُ يَقُولُونَ: مَالِكٌ زَاهِدٌ. إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ; أَتَتْهُ الدُّنْيَا فَاغِرَةً فَاهَا فَرَدَّهَا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: لَمْ يَكُنْ عُمَرُ يَرْتَزِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَمَرَ جَارِيَةً تُرَوِّحُهُ حَتَّى يَنَامَ فَرَوَّحَتْهُ، فَنَامَتْ هِيَ، فَأَخَذَ الْمِرْوَحَةَ مِنْ يَدِهَا وَجَعَلَ يُرَوِّحُهَا، وَيَقُولُ: أَصَابَكِ مِنَ الْحَرِّ مَا أَصَابَنِي. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا. فَقَالَ: بَلْ جَزَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ عَنِّي خَيْرًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ تَحْتَ ثِيَابِهِ مِسْحًا غَلِيظًا مِنْ شَعْرٍ، وَيَضَعُ فِي رَقَبَتِهِ غُلًّا إِذَا قَامَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ إِذَا أَصْبَحَ وَضَعَهُ فِي مَكَانٍ وَخَتَمَ عَلَيْهِ فَلَا يَشْعُرُ بِهِ أَحَدٌ وَكَانُوا يَظُنُّونَهُ مَالًا أَوْ جَوْهَرًا مِنْ حِرْصِهِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ فَإِذَا فِيهِ غُلٌّ وَمَسْحٌ.
وَكَانَ يَبْكِي حَتَّى بَكَى الدَّمَ مِنَ الدُّمُوعِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ بَكَى فَوْقَ سَطْحٍ حَتَّى سَالَ دَمْعُهُ مِنَ الْمِيزَابِ. وَكَانَ يَأْكُلُ مِنَ الْعَدَسِ لِيَرِقَّ قَلْبُهُ وَتَغْزُرُ دَمْعَتُهُ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ اضْطَرَبَتْ أَوْصَالُهُ، وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَهُ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ [ الْفُرْقَانِ: 13 ] الْآيَةَ. فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ. وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ مَنْ كَانَ فِي صَلَاحِهِ صَلَاحٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلَاكِهِ صَلَاحُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ. وَقَالَ: لَوْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى يَحْكُمَ أَمْرَ نَفْسِهِ لَذَهَبَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَقَلَّ الْوَاعِظُونَ وَالسَّاعُونَ لِلَّهِ بِالنَّصِيحَةِ. وَقَالَ: الدُّنْيَا عَدُوَّةُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ، أَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَغَمَّتْهُمْ، وَأَمَّا الْأَعْدَاءُ فَغَرَّتْهُمْ. وَقَالَ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ عُصِمَ مِنَ الْمِرَاءِ وَالْغَضَبِ وَالطَّمَعِ. وَقَالَ لِرَجُلٍ: مَنْ سَيِّدُ قَوْمِكَ ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: لَوْ كُنْتَ كَذَلِكَ لَمْ تَقُلْهُ. وَقَالَ: أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: لَقَدْ بُورِكَ لِعَبْدٍ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرَ فِيهَا مِنَ الدُّعَاءِ، أُعْطِيَ أَوْ مُنِعَ. وَقَالَ: قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ. وَقَالَ لِرَجُلٍ: عَلِّمْ وَلَدَكَ الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ: الْقَنَاعَةَ وَكَفَّ الْأَذَى. وَتَكَلَّمَ رَجُلٌ عِنْدَهُ فَأَحْسَنَ، فَقَالَ: هَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَّالُ. وَقِصَّتُهُ مَعَ
أَبِي حَازِمٍ مُطَوَّلَةٌ حِينَ رَآهُ
خَلِيفَةً وَقَدْ شَحَبَ وَجْهُهُ مِنَ التَّقَشُّفِ، وَتَغَيَّرَ حَالُهُ،
فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ يَكُنْ ثَوْبُكَ نَقِيًّا ؟ وَوَجْهُكَ وَضِيًّا ؟
وَطَعَامُكَ شَهِيًّا ؟ وَمَرْكَبُكَ وَطِيًّا ؟ فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تُخْبِرْنِي
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ عَقَبَةً كَئُودًا لَا يَجُوزُهَا إِلَّا كُلُّ
ضَامِرٍ مَهْزُولٍ ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَذَكَرَ
أَنَّهُ رَأَى فِي غَشْيَتِهِ تِلْكَ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، وَقَدِ
اسْتُدْعِيَ بِكُلٍّ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، فَأُمِرَ بِهِمْ إِلَى
الْجَنَّةِ، ثُمَّ ذُكِرَ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَمْ يَدْرِ مَا صُنِعَ
بِهِمْ، ثُمَّ دُعِيَ هُوَ فَأُمِرَ بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ
لَقِيَهُ سَائِلٌ فَسَأَلَهُ عَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ
قَالَ لِلسَّائِلِ: فَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ،
قَتَلَنِي رَبِّي بِكُلِّ قَتْلَةٍ قَتْلَةً، ثُمَّ هَا أَنَا أَنْتَظِرُ مَا
يَنْتَظِرُهُ الْمُوَحِّدُونَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَآثِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا،
وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَهُوَ حَسْبُنَا
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ذِكْرُ سَبَبِ وَفَاتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَانَ سَبَبُهَا السُّلَّ، وَقِيلَ: سَبَبُهَا أَنَّ مَوْلًى لَهُ سَمَّهُ فِي
طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، وَأُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَحَصَلَ لَهُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ مَرَضٌ، فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مَسْمُومٌ، فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمْتُ
يَوْمَ سُقِيتُ السُّمَّ. ثُمَّ اسْتَدْعَى مَوْلَاهُ الَّذِي سَقَاهُ، فَقَالَ
لَهُ:
وَيْحَكَ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا
صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ أُعْطِيتُهَا. فَقَالَ: هَاتِهَا.
فَأَحْضَرَهَا فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ حَيْثُ
لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَتَهْلَكَ.
ثُمَّ قِيلَ لِعُمَرَ: تَدَارَكْ نَفْسَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ
شِفَائِي أَنْ أَمْسَحَ شَحْمَةَ أُذُنِي، أَوْ أُوتَى بِطِيبٍ فَأَشُمَّهُ مَا
فَعَلْتُ. فَقِيلَ لَهُ: هَؤُلَاءِ بَنُوكَ وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلَا تُوصِي
لَهُمْ بِشَيْءٍ ; فَإِنَّهُمْ فُقَرَاءُ ؟ فَقَالَ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ
الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [ الْأَعْرَافِ: 196
] وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِمْ حَقَّ أَحَدٍ، وَهُمْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا
صَالِحٌ فَاللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ فَمَا
كُنْتُ لِأُعِينَهُ عَلَى فِسْقِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا أُبَالِي فِي أَيِّ
وَادٍ هَلَكَ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَفَأَدَعُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى
مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَكُونَ شَرِيكَهُ فِيمَا يَعْمَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ ؟ مَا
كُنْتُ لِأَفْعَلَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِأَوْلَادِهِ فَوَدَّعَهُمْ وَعَزَّاهُمْ بِهَذَا،
وَأَوْصَاهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ، ثُمَّ قَالَ: انْصَرِفُوا عَصَمَكُمُ اللَّهُ،
وَأَحْسَنَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ أَوْلَادِ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْمِلُ عَلَى ثَمَانِينَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُ أَوْلَادِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ
كَثْرَةِ مَا تَرَكَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ يَتَعَاطَى وَيَسْأَلُ مِنْ
أَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِأَنَّ عُمَرَ وَكَلَ وَلَدَهُ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسُلَيْمَانُ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يَكِلُونَ
أَوْلَادَهُمْ إِلَى مَا يَدَعُونَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ الْفَانِيَةِ،
فَيَضِيعُونَ وَتَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ فِي شَهَوَاتِ أَوْلَادِهِمْ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ:
ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، قَالَ:
قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ
أَتَيْتَ الْمَدِينَةَ فَإِنْ قَضَى اللَّهُ مَوْتًا دُفِنْتَ فِي الْقَبْرِ
الرَّابِعِ مَعَ رَسُولِ صَلَّى الْهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْ يُعَذِّبَنَا اللَّهُ بِكُلِّ عَذَابٍ،
إِلَّا النَّارَ فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لِي عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِي أَنِّي لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَهْلٌ.
قَالُوا: وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ قُرَى حِمْصَ وَكَانَتْ
مُدَّةُ مَرَضِهِ عِشْرِينَ يَوْمًا.
وَلَمَّا احْتُضِرَ قَالَ: أَجْلِسُونِي. فَأَجْلَسُوهُ، فَقَالَ: إِلَهِي، أَنَا
الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْتُ، وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ ثَلَاثًا وَلَكِنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأَحَدَّ النَّظَرَ، فَقَالُوا:
إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: إِنِّي
لَأَرَى حَضَرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلَا جَانٍّ. ثُمَّ قُبِضَ مِنْ سَاعَتِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِهِ: اخْرُجُوا عَنِّي. فَخَرَجُوا وَجَلَسَ
عَلَى الْبَابِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأُخْتُهُ فَاطِمَةُ،
فَسَمِعُوهُ يَقُولُ: مَرْحَبًا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوُجُوهِ
إِنْسٍ وَلَا جَانٍّ، ثُمَّ قَرَأَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ [ الْقَصَصِ: 83 ] ثُمَّ هَدَأَ الصَّوْتُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَوَجَدُوهُ قَدْ غُمِّضَ، وَسُوِّيَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقُبِضَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ،
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي
سَلَمَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا وُضِعَ عِنْدَ قَبْرِهِ
هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَسَقَطَتْ صَحِيفَةٌ بِأَحْسَنِ كِتَابٍ فَقَرَءُوهَا
فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ
لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ. فَأَدْخَلُوهَا بَيْنَ
أَكْفَانِهِ، وَدَفَنُوهَا مَعَهُ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بِسَنَدِهِ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ الْحُبَابِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: أُسِرْتُ أَنَا
وَثَمَانِيَةٌ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَأَمَرَ مَلِكُ الرُّومِ بِضَرْبِ
رِقَابِنَا، فَقُتِلَ أَصْحَابِي، وَشَفَعَ فِيَّ بِطْرِيقٌ مِنْ بَطَارِقَةِ الْمَلِكِ،
فَأَطْلَقَنِي لَهُ، فَأَخَذَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، وَإِذَا لَهُ ابْنَةٌ مِثْلُ
الشَّمْسِ، فَعَرَضَهَا عَلَيَّ، وَعَلَى أَنْ يُقَاسِمَنِي نِعْمَتَهُ،
وَأَدْخُلَ مَعَهُ فِي دِينِهِ، فَأَبَيْتُ، وَخَلَتْ بِي ابْنَتُهُ فَعَرَضَتْ
نَفْسَهَا عَلَيَّ فَامْتَنَعْتُ، فَقَالَتْ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ ذَلِكَ ؟
فَقُلْتُ: يَمْنَعُنِي دِينِي، فَلَا أَتْرُكُ دِينِي لِامْرَأَةٍ وَلَا لِشَيْءٍ.
فَقَالَتْ: تُرِيدُ الذَّهَابَ إِلَى بِلَادِكَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: سِرْ
عَلَى هَذَا النَّجْمِ بِاللَّيْلِ، وَاكْمُنْ بِالنَّهَارِ ; فَإِنَّهُ يُلْقِيكَ
إِلَى بِلَادِكَ. قَالَ: فَسِرْتُ كَذَلِكَ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي الْيَوْمِ
الرَّابِعِ مُكْمِنٌ، وَإِذَا بِخَيْلٍ مُقْبِلَةٍ فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ فِي
طَلَبِي ; فَإِذَا أَنَا بِأَصْحَابِي الَّذِينَ قُتِلُوا، وَمَعَهُمْ آخَرُونَ
عَلَى دَوَابَّ شُهْبٍ، فَقَالُوا: عُمَيْرٌ ؟ فَقُلْتُ: عُمَيْرٌ، فَقُلْتُ:
أَوَلَيْسَ قَدْ قُتِلْتُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ،
نَشَرَ الشُّهَدَاءَ، وَأَذِنَ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا جِنَازَةَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي بَعْضُهُمْ: نَاوِلْنِي يَدَكَ يَا
عُمَيْرُ، فَأَرْدَفَنِي، فَسِرْنَا يَسِيرًا، ثُمَّ قَذَفَ بِي قَذْفَةً وَقَعْتُ
قُرْبَ مَنْزِلِي بِالْجَزِيرَةِ، مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَكُونَ لَحِقَنِي شَرٌّ.
وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ أَوْصَى
إِلَيَّ أَنْ أُغَسِّلَهُ وَأُكَفِّنَهُ، وَأَدْفِنَهُ فَإِذَا حَلَلْتُ عُقْدَةَ
الْكَفَنِ، أَنْ أَنْظُرَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَلَمَّا فَعَلْتُ ذَلِكَ إِذَا
وَجْهُهُ كَالْقَرَاطِيسِ بَيَاضًا، وَكَانَ قَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ دَفَنَ
ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ فَيَحُلُّ عَنْ وُجُوهِهِمْ فَإِذَا هِيَ
مُسْوَدَّةٌ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا
نَحْنُ نُسَوِّي التُّرَابَ عَلَى قَبْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ
سَقَطَ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ كِتَابٌ فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، أَمَانٌ مِنَ اللَّهِ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ النَّارِ.
سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَمْرٍو،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَصْرِيِّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكٍ فَذَكَرَهُ،
وَفِيهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ
مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ، لَا
سِيَّمَا الْعُلَمَاءُ وَالزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ. وَرَثَاهُ الشُّعَرَاءُ ;
فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ
يَرْثِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
عَمَّتْ صَنَائِعُهُ فَعَمَّ هَلَاكُهُ فَالنَّاسُ فِيهِ كُلُّهُمْ مَأْجُورُ
وَالنَّاسُ مَأْتَمُهُمْ عَلَيْهِ وَاحِدٌ
فِي كُلِّ دَارٍ رَنَّةٌ وَزَفِيرُ يُثْنِي عَلَيْكَ لِسَانُ مَنْ لَمْ تُولِهِ
خَيْرًا لِأَنَّكَ بِالثَّنَاءِ جَدِيرُ رَدَّتْ صَنَائِعُهُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ
فَكَأَنَّهُ مِنْ نَشْرِهَا مَنْشُورُ
وَقَالَ جَرِيرٌ يَرْثِي عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
يَنْعَى النُّعَاةُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَنَا يَا خَيْرَ مَنْ حَجَّ بَيْتَ
اللَّهِ وَاعْتَمَرَا
حَمَلْتَ أَمْرًا عَظِيمًا فَاضْطَلَعْتَ بِهِ وَقُمْتَ فِيهِ بِأَمْرِ اللَّهِ
يَا عُمْرَا
الشَّمْسُ كَاسِفَةٌ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ تَبْكِي عَلَيْكَ نُجُومُ اللَّيْلِ
وَالْقَمَرَا
وَقَالَ مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْثِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
لَوْ أَعْظَمَ الْمَوْتُ خَلْقًا أَنْ يُوَاقِعَهُ لِعَدْلِهِ لَمْ يُصِبْكَ
الْمَوْتُ يَا عُمَرُ
كَمْ مِنْ شَرِيعَةِ عَدْلٍ قَدْ نَعَشْتَ لَهُمْ كَادَتْ تَمُوتُ وَأُخْرَى
مِنْكَ تُنْتَظَرُ
يَا لَهَفَ نَفْسِي وَلَهَفَ الْوَاجِدِينَ مَعِي عَلَى الْعُدُولِ الَّتِي
تَغْتَالُهَا الْحَفْرُ
ثَلَاثَةٌ مَا رَأَتْ عَيْنِي لَهُمْ شَبَهًا تَضُمُّ أَعْظُمَهُمْ فِي
الْمَسْجِدِ الْحُفَرُ
وَأَنْتَ تَتْبَعُهُمْ لَمْ تَأْلُ مُجْتَهِدًا سُقْيًا لَهَا سُنَنٌ بِالْحَقِّ
تَفْتَقِرُ
لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ وَالْأَقْدَارُ غَالِبَةٌ تَأْتِي رَوَاحًا وَتِبْيَانًا
وَتَبْتَكِرُ
صَرَفْتُ عَنْ عُمَرَ الْخَيْرَاتِ مَصْرَعَهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ لَكِنْ يَغْلِبُ
الْقَدْرُ
قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ سَمْعَانَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ، وَقِيلَ:
الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ.
وَقِيلَ: بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ. وَقِيلَ: لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ
إِحْدَى - وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ - وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَمِائَةٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقِيلَ: ابْنُهُ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَ
الْأَرْبَعِينَ بِأَشْهُرٍ. وَقِيلَ: بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بِأَكْثَرَ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ عَاشَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: سِتًّا وَثَلَاثِينَ.
وَقِيلَ: سَبْعًا وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ:
مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَبْلُغْهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: مَاتَ عُمَرُ عَلَى
رَأْسِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا وَهْمٌ،
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، يَعْنِي تِسْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: سَنَتَانِ وَنِصْفٌ.
وَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَسْمَرَ دَقِيقَ الْوَجْهِ حَسَنَهُ، نَحِيفَ
الْجِسْمِ حَسَنَ اللِّحْيَةِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، بِجَبْهَتِهِ أَثَرُ
شَجَّةٍ، وَكَانَ قَدْ شَابَ وَخَضَّبَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ
بُويِعَ لَهُ بِعَهْدٍ مِنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ
يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا
تُوُفِّيَ عُمَرُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى
وَمِائَةٍ بَايَعَهُ النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْعَامَّةَ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ
تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَعَزَلَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَنْ إِمْرَةِ
الْمَدِينَةِ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَوَلَّى
عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَجَرَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، مُنَافَسَاتٌ وَضَغَائِنُ، حَتَّى آلَ
الْأَمْرُ إِلَى أَنِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ حُكُومَةً فَحَدَّهُ حَدَّيْنِ فِيهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ الْخَوَارِجِ، وَهُمْ أَصْحَابُ بِسِطَامٍ
الْخَارِجِيِّ، وَبَيْنَ جُنْدِ الْكُوفَةِ وَكَانَتِ الْخَوَارِجُ جَمَاعَةً
قَلِيلَةً، وَكَانَ جَيْشُ الْكُوفَةِ نَحْوًا مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ
وَكَادَتِ الْخَوَارِجُ أَنْ تَكْسِرَهُمْ، فَتَذَامَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَطَحَنُوا
الْخَوَارِجَ طَحْنًا عَظِيمًا، وَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُبْقُوا
مِنْهُمْ ثَائِرًا.
وَفِيهَا خَرَجَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَخَلَعَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ طَوِيلَةٍ
وَقِتَالٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهَا بَسَطَ الْعَدْلَ فِي أَهْلِهَا،
وَبَذَلَ الْأَمْوَالَ، وَحَبَسَ عَامِلَهَاعَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ لِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ حَبَسَ آلَ الْمُهَلَّبِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْبَصْرَةِ، حِينَ
هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مِنْ
مَحْبَسِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ
أَتَى بِعَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ إِنِّي لَأَتَعَجَّبُ مِنْ ضَحِكِكَ لِأَنَّكَ هَرَبْتَ
مِنَ الْقِتَالِ كَمَا تَهْرُبُ النِّسَاءُ، وَإِنَّكَ جِئْتَنِي وَأَنْتَ تُتَلُّ
كَمَا يُتَلُّ الْعَبْدُ. فَقَالَ عَدِيٌّ: إِنِّي لَأَضْحَكُ لِأَنَّ بَقَائِي
بَقَاءٌ لَكَ، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِي طَالِبًا لَا يَتْرُكُنِي. قَالَ: وَمَنْ
هُوَ ؟ قَالَ: جُنُودُ بَنِي أُمَيَّةَ بِالشَّامِ لَا يَتْرُكُونَكَ، فَتَدَارَكْ
نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ إِلَيْكَ الْبَحْرُ بِأَمْوَاجِهِ فَتَطْلُبَ
الْإِقَالَةَ فَلَا تُقَالُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ يَزِيدُ جَوَابَ مَا قَالَ، ثُمَّ
سَجَنَهُ كَمَا سَجَنَ أَهْلَهُ.
وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بِالْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ
نُوَّابَهُ فِي النَّوَاحِي وَالْجِهَاتِ، وَاسْتَنَابَ فِي الْأَهْوَازِ،
وَأَرْسَلَ أَخَاهُ مُدْرِكَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ
وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ الْخَلِيفَةَ
يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ جَهَّزَ ابْنَ أَخِيهِ الْعَبَّاسَ بْنَ الْوَلِيدِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، مُقَدَّمَةً بَيْنَ يَدَيْ عَمِّهِ
مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ فِي جُنُودِ الشَّامِ قَاصِدِينَ
الْبَصْرَةَ لِقِتَالِهِ، وَلَمَّا بَلَغَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ مَخْرَجُ
الْجُيُوشِ قَاصِدَةً إِلَيْهِ، خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا
أَخَاهُ مَرْوَانَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَجَاءَ حَتَّى نَزَلَ وَاسِطًا،
وَاسْتَشَارَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ فِي مَاذَا يَعْتَمِدُهُ ؟
فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الرَّأْيِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ
يَسِيرَ إِلَى الْأَهْوَازِ لِيَتَحَصَّنَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَقَالَ:
إِنَّمَا تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُونِي طَائِرًا فِي رَأْسِ جَبَلٍ. وَأَشَارَ
عَلَيْهِ رِجَالُ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى الْجَزِيرَةِ
فَيَنْزِلَهَا، وَيَتَحَصَّنَ بِأَجْوَدِ
حِصْنٍ فِيهَا، وَيُبَعِّضَ عَلَيْهِ
رِجَالَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ
فَيُقَاتِلُ بِهِمْ أَهْلَ الشَّامِ.
وَانْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ نَازِلٌ بِوَاسِطٍ، وَجَيْشُ الشَّامِ
قَاصِدُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ
بْنِ قَيْسٍ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ. وَعَلَى مَكَّةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَامِرٌ
الشَّعْبِيُّ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ قَدِ اسْتَحْوَذَ
عَلَيْهَا وَخَلَعَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ،
وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ.
وَأَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ
وَكَانَ عَابِدًا صَادِقًا ثَبْتًا، وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي كِتَابِنَا "
التَّكْمِيلِ ". وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَمِائَةٍ
فَفِيهَا كَانَ اجْتِمَاعُ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ، وَذَلِكَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ رَكِبَ مِنْ وَاسِطٍ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ، وَسَارَ هُوَ فِي جَيْشٍ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمُهَلَّبِ حَتَّى بَلَغَ مَكَانًا
يُقَالُ لَهُ: الْعَقْرُ. وَانْتَهَى إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
فِي جُنُودٍ لَا قِبَلَ لِيَزِيدَ بِهَا، وَقَدِ الْتَقَتِ الْمُقَدَّمَتَانِ
أَوَّلًا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَهْلَ
الشَّامِ ثُمَّ تَذَامَرَ أَهْلُ الشَّامِ فَحَمَلُوا عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ
فَكَشَفُوهُمْ، فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً مِنَ الشُّجْعَانِ،
مِنْهُمُ الْمَنْتُوفُ، وَكَانَ شُجَاعًا مَشْهُورًا، وَكَانَ مِنْ مَوَالِي
بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ: فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْفَرَزْدَقُ:
تُبَكِّي عَلَى الْمَنْتُوفِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ وَتَنْهَى عَنِ ابْنَيْ مَسْمَعٍ
مَنْ بَكَاهُمَا
فَأَجَابَهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ مَوْلَى الثَّوْرِيِّينَ مِنْ هَمْدَانَ،
وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَوَّلُ الْجَهْمِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَبَحَهُ خَالِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى، فَقَالَ الْجَعْدُ:
نُبَكِّي عَلَى الْمَنْتُوفِ فِي
نَصْرِ قَوْمِهِ وَلَسْنَا نُبَكِّي الشَّائِدَيْنِ أَبَاهُمَا
أَرَادَ فِنَاءَ الْحَيِّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَعِزُّ تَمِيمٍ لَوْ أُصِيبَ
فِنَاهُمَا
فَلَا لَقِيَا رَوْحًا مِنَ اللَّهِ سَاعَةً وَلَا رَقَأَتْ عَيْنَا شَجِيٍّ
بَكَاهُمَا
أَفِي الْغِشِّ نَبْكِي إِنْ بَكَيْنَا عَلَيْهِمَا وَقَدْ لَقِيَا بِالْغِشِّ
فِينَا رَدَاهُمَا
وَلَمَّا اقْتَرَبَ مَسْلَمَةُ، وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ
جَيْشِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ خَطَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ النَّاسَ،
وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ يَعْنِي عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ وَكَانَ
مَعَ يَزِيدَ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا قَدْ بَايَعُوهُ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَنْ لَا تَطَأَ الْجُنُودُ بِلَادَهُمْ،
وَعَلَى أَنْ لَا تُعَادَ عَلَيْهِمْ سِيرَةُ الْفَاسِقِ الْحَجَّاجِ، وَمَنْ
بَايَعْنَا عَلَى ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ، وَمَنْ خَالَفَنَا قَاتَلْنَاهُ.
وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى
الْكَفِّ وَتَرْكِ الدُّخُولِ فِي الْفِتْنَةِ، وَيَنْهَاهُمْ أَشَدَّ النَّهْيِ،
وَذَلِكَ لِمَا وَقَعَ مِنَ الشَّرِّ الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ فِي أَيَّامِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ، وَمَا قُتِلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ النُّفُوسِ الْعَدِيدَةِ،
وَجَعَلَ الْحَسَنُ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَيَعِظُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَيُحَرِّضُهُمْ
عَلَى الْكَفِّ، فَبَلَغَ
ذَلِكَ نَائِبَ الْبَصْرَةِ مَرْوَانَ
بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ
وَالْجِهَادِ وَالنَّفِيرِ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ بَلَغَنِي
أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ الضَّالَّ الْمُرَائِيَ وَلَمْ يُسَمِّهِ يُثَبِّطُ
النَّاسَ عَنَّا، أَمَا وَاللَّهِ لَيَكُفَنَّ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ
وَلَأَفْعَلَنَّ، وَتَوَعَّدَ الْحَسَنَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَسَنَ قَوْلُهُ،
قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أَكْرَهُ أَنْ يُكْرِمَنِي اللَّهُ بِهَوَانِهِ.
فَسَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى زَالَتْ دَوْلَتُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْجُيُوشَ لَمَّا تَوَاجَهَتْ تَبَارَزَ النَّاسُ قَلِيلًا، وَلَمْ تَنْشَبِ
الْحَرْبُ شَدِيدًا، فَلَمْ يَثْبُتْ أَهْلُ الْعِرَاقِ حَتَّى فَرُّوا سَرِيعًا، وَبَلَغَهُمْ
أَنَّ الْجِسْرَ الَّذِي جَاءُوا عَلَيْهِ قَدْ حُرِقَ فَانْهَزَمُوا، فَقَالَ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مَا بَالُ النَّاسِ ؟ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأَمْرِ مَا
يُفَرُّ مِنْ مِثْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ الْجِسْرَ قَدْ
حُرِقَ. فَقَالَ: قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
ثُمَّ رَامَ أَنْ يَرُدَّ الْمُنْهَزِمِينَ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، فَثَبَتَ
فِي عِصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ
حَتَّى بَقِيَ فِي شِرْذِمَةٍ مِنْهُمْ قَلِيلَةٍ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَسِيرُ قُدُمًا
لَا يَمُرُّ بِخَيْلٍ إِلَّا هَزَمَهُمْ، وَأَهْلُ الشَّامِ يَنْحَازُونَ عَنْهُ
يَمِينًا وَشِمَالًا، وَقَدْ قُتِلَ قَبْلَهُ أَخُوهُ حَبِيبُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
فَازْدَادَ حَنَقًا وَغَضَبًا، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْهَبَ، ثُمَّ قَصَدَ
نَحْوَ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ، فَلَمَّا
وَاجَهَهُ حَمَلَتْ عَلَيْهِ خُيُولُ الشَّامِ فَقَتَلُوهُ، وَقَتَلُوا مَعَهُ
أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَقَتَلُوا
السَّمَيْدَعَ، وَكَانَ مِنَ
الشُّجْعَانِ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ: الْقَحْلُ بْنُ عَيَّاشٍ. فَقُتِلَ إِلَى جَانِبِ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ، وَجَاءُوا بِرَأْسِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ إِلَى مَسْلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَرْسَلَهُ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى أَخِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَاسْتَحْوَذَ مَسْلَمَةُ عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَعَثَ بِهِمْ
إِلَى الْكُوفَةِ، وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ فِيهِمْ، فَجَاءَ كِتَابُ يَزِيدَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِهِمْ، وَسَارَ مَسْلَمَةُ فَنَزَلَ الْحِيرَةَ.
وَلَمَّا انْتَهَتْ هَزِيمَةُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ إِلَى ابْنِهِ
مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ بِوَاسِطٍ، عَمَدَ إِلَى نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَسِيرًا فِي
يَدِهِ فَقَتَلَهُمْ ; مِنْهُمْ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَابْنُهُ، وَمَالِكٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنَا مَسْمَعٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْأَشْرَافِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَتَى الْبَصْرَةَ وَمَعَهُ الْخَزَائِنُ
مِنَ الْأَمْوَالِ، وَجَاءَ عَمُّهُ الْمُفَضَّلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَاجْتَمَعَ
آلُ الْمُهَلَّبِ بِالْبَصْرَةِ، فَأَعَدُّوا السُّفُنَ، وَتَجَهَّزُوا أَتَمَّ
الْجِهَازِ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْهَرَبِ، فَسَارُوا بِعِيَالِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ،
فَلَمْ يَزَالُوا سَائِرِينَ، حَتَّى أَتَوْا جِبَالَ كَرْمَانَ فَنَزَلُوهَا،
وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ فَلَّ مِمَّنْ كَانَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ،
وَقَدْ أَمَّرُوا عَلَيْهِمُ
الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَأَرْسَلَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
جَيْشًا، عَلَيْهِمْ هِلَالُ بْنُ أَحْوَزَ الْمَازِنِيُّ فِي طَلَبِ آلِ
الْمُهَلَّبِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ:
مُدْرِكُ بْنُ ضَبٍّ الْكَلْبِيُّ. فَلَحِقَهُمْ بِجِبَالِ كَرْمَانَ
فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
الْمُفَضَّلِ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ،
ثُمَّ لَحِقُوا الْمُفَضَّلَ فَقَتَلُوهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى مَسْلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ فَأَخَذُوا لَهُمْ أَمَانًا مِنْ أَمِيرِ الشَّامِ ; مِنْهُمْ
مَالِكُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ، ثُمَّ أَرْسَلُوا
بِالْأَثْقَالِ وَالْأَمْوَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ فَوَرَدَتْ عَلَى
مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَعَهُمْ رَأْسُ الْمُفَضَّلِ، وَرَأْسُ
عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنَيِ الْمُهَلَّبِ، فَبَعَثَ مَسْلَمَةُ بِالرُّءُوسِ،
وَتِسْعَةٍ مِنَ الصِّبْيَانِ الْأَحْدَاثِ الْحِسَانِ إِلَى أَخِيهِ يَزِيدَ،
فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ أُولَئِكَ، وَنُصِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِدِمَشْقَ ثُمَّ
أَرْسَلَهَا إِلَى حَلَبَ فَنُصِبَتْ بِهَا، وَحَلَفَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ لَيَبِيعَنَّ ذَرَارِيَّ آلِ الْمُهَلَّبِ، فَاشْتَرَاهُمْ بَعْضُ
الْأُمَرَاءِ إِبْرَارًا لِقَسَمِهِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَأَعْتَقَهُمْ وَخَلَّى
سَبِيلَهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَسْلَمَةُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمِيرِ شَيْئًا.
وَقَدْ رَثَا الشُّعَرَاءُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ بِقَصَائِدَ ذَكَرَهَا ابْنُ
جَرِيرٍ.
وِلَايَةُ مَسْلَمَةَ عَلَى بِلَادِ
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ حَرْبِ آلِ الْمُهَلَّبِ كَتَبَ إِلَيْهِ
أَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِوِلَايَةِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ
وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَاسْتَنَابَ عَلَى الْكُوفَةِ وَعَلَى
الْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ عَلَى خُرَاسَانَ خَتَنَهُ زَوْجَ ابْنَتِهِ سَعِيدَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعاصِ،
الْمُلَقَّبِ بِخُذَيْنَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَحَرَّضَ أَهْلَهَا عَلَى
الصَّبْرِ وَالشَّجَاعَةِ، وَعَاقَبَ عُمَّالًا مِمَّنْ كَانَ يَنُوبُ لِيَزِيدَ
بْنِ الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَمَاتَ بَعْضُهُمْ
تَحْتَ الْعُقُوبَةِ.
ذِكْرُ وَقْعَةٍ جَرَتْ بَيْنَ التُّرْكِ وَالْمُسْلِمِينَ
وَذَلِكَ أَنَّ خَاقَانَ الْمَلِكَ الْأَعْظَمَ مَلِكَ التُّرْكِ، بَعَثَ جَيْشًا
إِلَى الصُّغْدِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ
لَهُ: كُورْصُولُ. فَأَقْبَلَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى قَصْرِ الْبَاهِلِيِّ
فَحَصَرَهُ وَفِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَصَالَحَهُمْ نَائِبُ
سَمَرْقَنْدَ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطَرِّفٍ عَلَى
أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ سَبْعَةَ عَشَرَ دِهْقَانًا رَهَائِنَ
عِنْدَهُمْ، ثُمَّ نَدَبَ عُثْمَانُ النَّاسَ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ
الْمُسَيَّبُ بْنُ بِشْرٍ الرِّيَاحِيُّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَسَارُوا نَحْوَ
التُّرْكِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ خَطَبَ النَّاسَ، فَحَثَّهُمْ عَلَى
الْقِتَالِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ ذَاهِبٌ إِلَى الْأَعْدَاءِ لِطَلَبِ
الشَّهَادَةِ، فَرَجَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ فِي كُلِّ
مَنْزِلٍ يَخْطُبُهُمْ، وَيَرْجِعُ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، حَتَّى
بَقِيَ فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى غَالَقَ جَيْشَ الْأَتْرَاكِ، وَهُمْ مُحَاصِرُو ذَلِكَ الْقَصْرِ، وَقَدْ عَزَمَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ هُمْ فِيهِ عَلَى قَتْلِ نِسَائِهِمْ وَذَبْحِ أَوْلَادِهِمْ أَمَامَهُمْ، ثُمَّ يَنْزِلُونَ فَيُقَاتِلُونَ حَتَّى يُقْتَلُوا عَنْ آخِرِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ الْمُسَيَّبُ يُثَبِّتُهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، فَثَبَتُوا وَمَكَثَ الْمُسَيَّبُ حَتَّى إِذَا كَانَ - وَقْتُ السَّحَرِ كَبَّرَ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ، وَقَدْ جَعَلُوا شِعَارَهُمْ يَا مُحَمَّدُ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَى التُّرْكِ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَقَرُوا دَوَابَّ كَثِيرَةً، وَنَهَضَ إِلَيْهِمُ التُّرْكُ، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى فَرَّ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، وَضُرِبَتْ دَابَّةُ الْمُسَيَّبِ فِي عَجُزِهَا فَتَرَجَّلَ عَنْهَا، وَتَرَجَّلَ مَعَهُ الشُّجْعَانُ، فَقَاتَلُوا، وَهُمْ كَذَلِكَ قِتَالًا عَظِيمًا، وَالْتَفَّتِ الْجَمَاعَةُ بِالْمُسَيَّبِ، وَصَبَرُوا حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفَرَّ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ هَارِبِينَ لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَتْرَاكُ فِي غَايَةِ الْكَثْرَةِ، فَنَادَى مُنَادِي الْمُسَيَّبِ: أَنْ لَا تَتْبَعُوا أَحَدًا مِنْهُمْ، وَعَلَيْكُمْ بِالْقَصْرِ وَأَهْلِهِ. فَاحْتَمَلُوهُمْ وَحَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ، وَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ سَالِمِينَ بِمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَحْصُورِينَ، وَجَاءَتِ التُّرْكُ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْقَصْرِ فَلَمْ يَجِدُوا بِهِ دَاعِيًا وَلَا مُجِيبًا، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَقُونَا بِالْأَمْسِ لَمْ يَكُونُوا إِنْسًا، إِنَّمَا كَانُوا جِنًّا. ثُمَّ غَزَا سَعِيدٌ الْمُلَقَّبُ خُذَيْنَةُ أَمِيرُ خُرَاسَانَ بِلَادَ الصُّغْدِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَعَانُوا الْكُفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ
الْغَزْوَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا،
فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى نَصَرَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ، وَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَقَبَضَ مَا وَجَدَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ.
وَفِيهَا عَزَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَاهُ
مَسْلَمَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ
يَصْرِفُ أَمْوَالَ الْغَنِيمَةِ فِيمَا يُرِيدُ، وَلَمْ يَصْرِفْ إِلَى أَخِيهِ
يَزِيدَ شَيْئًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَطَمِعَ فِي أَخِيهِ فَعَزَلَهُ عَنْهَا،
وَوَلَّى عَلَيْهَا بَدَلَهُ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ عَلَى الْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْمَدِينَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ
الْفَزَارِيُّ، نَائِبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى الْبَصْرَةِ وَهُوَ
الَّذِي قَبَضَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ وَبَعَثَ بِهِ مُقَيَّدًا إِلَى
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِسَجْنِهِ،
فَلَمَّا مَرِضَ عُمَرُ هَرَبَ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ ظَهَرَ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَنَصَبَ رَايَاتٍ سُودًا، وَطَلَبَ الْبَصْرَةَ
وَمَلَكَهَا، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ ثُمَّ إِنَّ
مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ أَبِيهِ أَخْرَجَ
عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ هَذَا مِنَ الْحَبْسِ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ مَعَهُ
جَمَاعَةً نَحْوَ ثَلَاثِينَ إِنْسَانًا.
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
كَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَهُ فُتُوحَاتٌ كَثِيرَةٌ،
وَكَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، لَهُ
أَخْبَارٌ فِي الْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، وَآخِرُ أَمْرِهِ أَنَّهُ قُتِلَ،
وَقُتِلَ مِنْ إِخْوَتِهِ وَأَوْلَادِهِ جَمَاعَةٌ، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُ
وَنِسَاؤُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَزَالَ مَا كَانَ فِيهِ، وَقَدْ كَانُوا نَحْوَ
ثَمَانِينَ نَفْسًا آلَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَقَدْ جَمَعُوا
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ، فَمَا أَفَادَهُمْ ذَلِكَ
شَيْئًا بَلْ سُلِبُوا ذَلِكَ جَمِيعَهُ.
قَالَ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالسَّادَةِ
الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ الْهِلَالِيُّ
أَبُو الْقَاسِمِ وَيُقَالُ: أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُرَاسَانِيُّ، كَانَ يَكُونُ
بِبَلْخٍ وَسَمَرْقَنْدَ وَنَيْسَابُورَ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ
أَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ
التَّابِعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
حَتَّى وَلَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
جَاوَرَهُ سَبْعَ سِنِينَ.
وَكَانَ الضَّحَّاكُ إِمَامًا فِي التَّفْسِيرِ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: خُذُوا
التَّفْسِيرَ عَنْ أَرْبَعَةٍ ; مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ: وَهُوَ ثِقَةٌ. وَأَنْكَرَ شُعْبَةُ
سَمَاعَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ سَعِيدٍ
الْقَطَّانُ: كَانَ ضَعِيفًا.
وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ "، وَقَالَ: لَمْ يُشَافِهْ
أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَقِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَدْ
وَهِمَ.
وَحَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ سَنَتَيْنِ، وَوَضَعَتْهُ وَلَهُ أَسْنَانٌ، وَكَانَ
يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ حِسْبَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي مَكْتَبِهِ
ثَلَاثَةُ آلَافِ صَبِيٍّ، وَكَانَ يَرْكَبُ حِمَارًا، وَيَدُورُ مِنَ
الْعَلْيَاءِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ - وَقِيلَ: سَنَةَ
سِتٍّ - وَمِائَةٍ. وَقَدْ بَلَغَ الثَّمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الْمُتَوَكِّلِ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ النَّاجِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، ثِقَةٌ، رَفِيعُ الْقَدْرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ - وَهُوَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ - سَعِيدًا
الْمُلَقَّبُ خُذَيْنَةَ، عَنْ نِيَابَةِ خُرَاسَانَ وَوَلَّى عَلَيْهَا سَعِيدَ
بْنَ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ، بِإِذْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ سَعِيدٌ
هَذَا مِنَ الْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ، انْزَعَجَ لَهُ التُّرْكُ، وَخَافُوهُ
خَوْفًا شَدِيدًا، وَتَقَهْقَرُوا مِنْ بِلَادِ الصُّغْدِ إِلَى مَا وَرَاءَ
ذَلِكَ مِنْ بِلَادِ الصِّينِ وَغَيْرِهَا.
وَفِيهَا جَمَعَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ بَيْنَ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَإِمْرَةِ مَكَّةَ،
وَوَلَّى عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيَّ نِيَابَةَ
الطَّائِفِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَدَنِيُّ.
- عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ الْهِلَالِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاصُّ الْمَدَنِيُّ، مَوْلَى مَيْمُونَةَ، وَهُوَ أَخُو
سُلَيْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ تَابِعِيٌّ.
وَرَوَى هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَوَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ
وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: تُوفِيَ قَبْلَ الْمِائَةِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ الْمَكِّيُّ
، أَبُو الْحَجَّاجِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ مَوْلَى السَّائِبِ بْنِ أَبِي
السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ،
كَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ
زَمَانِهِ بِالتَّفْسِيرِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُرِيدُ
بِالْعِلْمِ وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخَذَ ابْنُ عُمَرَ بِرِكَابِي وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ
ابْنِي سَالِمًا وَغُلَامِي نَافِعًا يَحْفَظَانِ حِفْظَكَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ عَرَضَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثِينَ مَرَّةً.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ
الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّتَيْنِ، أَقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ،
وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا.
مَاتَ مُجَاهِدٌ وَهُوَ سَاجِدٌ، سَنَةَ مِائَةٍ. وَقِيلَ: إِحْدَى - وَقِيلَ:
ثِنْتَيْنِ. وَقِيلَ: ثَلَاثٍ - وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ. وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ.
مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ كَانَ يُلَقَّبُ
بِالْمَهْدِيِّ لِصَلَاحِهِ، كَانَ تَابِعِيًّا جَلِيلَ الْقَدْرِ، مِنْ سَادَاتِ
الْمُسْلِمِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَمِائَةٍ
فِيهَا قَاتَلَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْحَرَشِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ أَهْلَ
الصُّغْدِ، وَحَاصَرَ أَهْلَ خُجَنْدَةَ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَخَذَ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَأَسَرَ رَقِيقًا كَثِيرًا جِدًّا، وَكَتَبَ بِذَلِكَ
إِلَى يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ
أَمِيرُ الْعِرَاقِ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ إِذْ لَمْ يَكْتُبْ إِلَيْهِ
فَيَكْتُبَ هُوَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَلَّاهُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ
إِمْرَةِ الْحَرَمَيْنِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ
سَبَبُهُ أَنَّهُ خَطَبَ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، فَامْتَنَعَتْ مِنْ
قَبُولِ ذَلِكَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا وَتَوَعَّدَهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى يَزِيدَ
تَشْكُوهُ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
النَّضْرِيِّ نَائِبِ الطَّائِفِ، فَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ، وَأَنْ يَضْرِبَ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الضَّحَّاكِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتَهُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى فِرَاشِهِ بِدِمَشْقَ وَأَنْ يَأْخُذَ
مِنْهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَاسْتَجَارَ بِمَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَدَخَلَ
عَلَى أَخِيهِ فَقَالَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقَالَ: كُلُّ حَاجَةٍ
تَقُولُهَا فَهِيَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ ابْنَ الضَّحَّاكِ. فَقَالَ: هُوَ
وَاللَّهِ حَاجَتِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهَا وَلَا أَعْفُو عَنْهُ.
فَرَدَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَتَسَلَّمَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ فَضَرَبَهُ
وَأَخَذَ مَالَهُ حَتَّى تَرَكَهُ فِي جُبَّةِ صُوفٍ، فَسَأَلَ النَّاسَ
بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ قَدْ بَاشَرَ
نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَكَانَ الزُّهْرِيُّ قَدْ
أَشَارَ عَلَيْهِ بِرَأْيٍ سَدِيدٍ ; وَهُوَ أَنْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ إِذَا
أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَفْعَلْ، فَأَبْغَضَهُ
النَّاسُ، وَذَمَّهُ الشُّعَرَاءُ، ثُمَّ كَانَ هَذَا آخِرَ أَمْرِهِ.
وَفِيهَا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، سَعِيدَ بْنَ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَخِفُّ بِأَمْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا عَزَلَهُ
أَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَاقَبَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً،
وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَوَلَّى عَلَى خُرَاسَانَ مُسْلِمَ بْنَ
سَعِيدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ زُرْعَةَ الْكِلَابِيَّ، فَسَارَ إِلَيْهَا، فَاسْتَخْلَصَ
أَمْوَالًا كَانَتْ مُنْكَسِرَةً فِي أَيَّامِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ.
وَفِيهَا غَزَا الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ نَائِبُ
إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ أَرْضَ التُّرْكِ، فَفَتَحَ بَلَنْجَرَ وَهَزَمَ
التُّرْكَ، وَغَرَّقَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ فِي الْمَاءِ، وَسَبَى مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَافْتَتَحَ عَامَّةَ الْحُصُونِ الَّتِي تَلِي بَلَنْجَرَ،
وَأَجْلَى عَامَّةَ أَهْلِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّضْرِيُّ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ، وَعَلَى نِيَابَةِ الْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ مُسْلِمُ بْنُ
سَعِيدٍ يَوْمَئِذٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وُلِدَ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ الْمُلَقَّبُ
بِالسَّفَّاحِ أَوَّلُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَقَدْ بَايَعَ أَبَاهُ فِي
الْبَاطِنِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَالِدُ بْنُ مَعْدَانِ الْكَلَاعِيُّ.
وَعَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ
أَبِيهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، ثِقَةٌ مَشْهُورٌ.
وَعَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ
وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ
تَوَلَّى قَضَاءَ الْكُوفَةِ قَبْلَ الشَّعْبِيِّ ; فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ تَوَلَّى
فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَاسْتَمَرَّ إِلَى أَنْ مَاتَ،
وَأَمَّا أَبُو بُرْدَةَ فَإِنَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ
عَزَلَهُ الْحَجَّاجُ وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا بَكْرٍ وَكَانَ أَبُو بُرْدَةَ
فَقِيهًا حَافِظًا عَالِمًا، لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ.
أَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ
.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ بِلَادَ اللَّانِ،
وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَبِلَادًا مُتَّسِعَةَ الْأَكْنَافِ مِنْ وَرَاءِ
بَلَنْجَرَ 72، وَأَصَابَ غَنَائِمَ جَمَّةً، وَسَبَى خَلْقًا مِنْ أَوْلَادِ
الْأَتْرَاكِ.
وَفِيهَا غَزَا مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ بِلَادَ التُّرْكِ، وَحَاصَرَ مَدِينَةً
عَظِيمَةً مِنْ بِلَادِ الصُّغْدِ فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ
يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا غَزَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِلَادَ الرُّومِ،
فَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سِرِّيَّةً أَلْفَ فَارِسٍ فَأُصِيبُوا جَمِيعًا.
وَفِيهَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِأَرْبَدَ مِنْ
أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعُمْرُهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ
وَالْأَرْبَعِينَ، وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَبُو خَالِدٍ
الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ
بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رَجَبٍ
مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَةٍ، بِعَهْدٍ مِنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ أَنْ يَكُونَ
الْخَلِيفَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ،
ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: كَانَ لَا يَرِثُ
الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
وَعَلِيٍّ، فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ،
وَلَمْ يُورِّثِ الْكَافِرَ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ
مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَاجَعَ السُّنَّةَ
الْأُولَى، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا قَامَ
هِشَامٌ أَخَذَ بِسُّنَّةِ الْخُلَفَاءِ. يَعْنِي أَنَّهُ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ
مِنَ الْكَافِرِ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ
عِنْدَ مَكْحُولٍ إِذْ أَقْبَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَهَمَمْنَا أَنْ
نُوَسِّعَ لَهُ، فَقَالَ مَكْحُولٌ: دَعُوهُ يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ
الْمَجْلِسُ، يَتَعَلَّمُ التَّوَاضُعَ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ هَذَا يُكْثِرُ مِنْ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَ أَنْ
يَلِيَ الْخِلَافَةَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَزَمَ أَنْ يَتَأَسَّى بِعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ فَمَا تَرَكَهُ قُرَنَاءُ السُّوءِ، وَحَسَّنُوا لَهُ
الظُّلْمَ، كَمَا قَالَ حَرْمَلَةُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
قَالَ: سِيرُوا بِسِيرَةِ عُمَرَ. فَمَكَثَ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً،
فَأُتِيَ بِأَرْبَعِينَ شَيْخًا، فَشَهِدُوا لَهُ أَنَّهُ مَا عَلَى الْخُلَفَاءِ
مِنْ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ.
وَقَدِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي
الدِّينِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِنَّمَا ذَاكَ وَلَدُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ
كَمَا سَيَأْتِي، أَمَّا هَذَا فَمَا كَانَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا
لِمَا بِي، وَمَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا سَيُفْضِي إِلَيْكَ، فَاللَّهَ اللَّهَ
فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّكَ عَمَّا
قَلِيلٍ مَيِّتٌ، فَتَدَعُ الدُّنْيَا لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ، وَتُفْضِي إِلَى
مَنْ لَا يَعْذِرُكَ، وَالسَّلَامُ.
وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ هِشَامٍ: أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّكَ اسْتَبْطَأْتَ حَيَاتَهُ،
وَتَمَنَّيْتَ وَفَاتَهُ، وَرُمْتَ الْخِلَافَةَ. وَكَتَبَ فِي آخِرِهِ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا
بِأَوْحَدِ وَقَدْ عَلِمُوا لَوْ يَنْفَعُ الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ
مَتَى مِتُّ مَا الْبَاغِي عَلَيَّ بِمُخْلَدِ مَنِيَّتُهُ تَجْرِي لِوَقْتٍ
وَحَتْفُهُ
يُصَادِفُهُ يَوْمًا عَلَى غَيْرِ مَوْعِدِ فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ
الَّذِي مَضَى
تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: جَعَلَ اللَّهُ يَوْمِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَوَلَدِي
قَبْلَ وَلَدِكَ، فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَكَ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ هَذَا يُحِبُّ حَظِيَّةً مِنْ حَظَايَاهُ يُقَالُ لَهَا:
حَبَّابَةُ - بِتَشْدِيدِ
الْبَاءِ الْأُولَى، وَالصَّحِيحُ
تَخْفِيفُهَا - وَاسْمُهَا الْعَالِيَةُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً جِدًّا، وَكَانَ
قَدِ اشْتَرَاهَا فِي زَمَنِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، مِنْ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ فَقَالَ
أَخُوهُ سُلَيْمَانُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْجُرَ عَلَى يَزِيدَ. فَبَاعَهَا
يَزِيدُ فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ
سَعْدَةُ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِكَ مَنْ
أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْءٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَبَّابَةُ. فَبَعَثَتِ امْرَأَتُهُ،
فَاشْتَرَتْهَا لَهُ وَلَبَّسَتْهَا وَصَنَّعَتْهَا وَأَجْلَسَتْهَا مِنْ وَرَاءِ
السِّتَارَةِ، وَقَالَتْ لَهُ أَيْضًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ
فِي نَفْسِكَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ ؟ قَالَ: أَوَمَا أَخْبَرْتُكِ ؟ فَقَالَتْ:
هَذِهِ حَبَّابَةُ وَأَبْرَزَتْهَا لَهُ، وَأَخْلَتْهُ بِهَا، وَتَرَكَتْهُ
وَإِيَّاهَا، فَحَظِيَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ أَيْضًا،
فَقَالَ يَوْمًا: أَشْتَهِي أَنْ أَخْلُوَ بِحَبَّابَةَ فِي قَصْرٍ مُدَّةً مِنَ
الدَّهْرِ لَا يَكُونُ عِنْدَنَا أَحَدٌ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَجَمَعَهَا إِلَيْهِ
فِي قَصْرٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ مَعَهَا عَلَى أَسَرِّ حَالٍ وَأَنْعَمِ بَالٍ، إِذْ
رَمَاهَا بِحَبَّةِ رُمَّانٍ - وَيُرْوَى: بِعِنَبَةٍ - فِي فَمِهَا وَهِيَ تَضْحَكُ،
فَشَرِقَتْ بِهَا فَمَاتَتْ، فَمَكَثَ أَيَّامًا يُقَبِّلُهَا وَيَرْشُفُهَا
وَهِيَ مَيِّتَةٌ، حَتَّى أَنْتَنَتْ وَجَيَّفَتْ، فَأَمَرَ بِدَفْنِهَا، فَلَمَّا
دَفَنَهَا أَقَامَ أَيَّامًا عِنْدَ قَبْرِهَا هَائِمًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْمَنْزِلِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى قَبْرِهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ:
فَإِنْ تَسْلُ عَنْكِ النَّفْسُ أَوْ تَدَعِ الصَّبَا فَبِالْيَأْسِ تَسْلُو
عَنْكِ لَا بِالتَّجَلُّدِ
وَكُلُّ خَلِيلٍ زَارَنِي فَهُوَ قَائِلٌ مِنْ أَجْلِكِ هَذَا هَامَةُ الْيَوْمِ
أَوْ غَدِ
ثُمَّ رَجَعَ، فَمَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى خُرِجَ بِنَعْشِهِ، وَكَانَ
مَرَضُهُ بِالسُّلِّ، وَذَلِكَ بِالسَّوَادِ سَوَادِ الْأُرْدُنِّ، يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَشَهْرًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ:
أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ:
خَمْسًا - وَقِيلَ: سِتًّا. وَقِيلَ: ثَمَانِيًا. وَقِيلَ: تِسْعًا -
وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا أَبْيَضَ مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، أَفْقَمَ الْفَمِ، لَمْ
يَشِبْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْجَوْلَانِ. وَقِيلَ: بِحَوْرَانَ. وَصَلَّى
عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ،
وَقِيلَ: بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ
الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ حَتَّى دَفُنِ بَيْنَ
بَابِ الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ هِشَامٍ وَمِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ
الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَبَايَعَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ هِشَامًا.
خِلَافَةُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ
- وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَشْهَرٌ ; لِأَنَّهُ
وُلِدَ لَمَّا قَتَلَ أَبُوهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ فِي
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعَيْنِ، فَسَمَّاهُ مَنْصُورًا تَفَاؤُلًا، ثُمَّ قَدِمَ
فَوَجَدَ أُمَّهُ قَدْ أَسْمَتْهُ بِاسْمِ أَبِيهَا هِشَامٍ فَأَقَرَّهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ وَهُوَ بِالزَّيْتُونَةِ فِي مَنْزِلٍ
لَهُ، فَجَاءَهُ الْبَرِيدُ بِالْعَصَا وَالْخَاتَمِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ،
فَرَكِبَ مِنَ الرَّصَافَةِ حَتَّى أَتَى دِمَشْقَ، فَقَامَ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ
أَتَمَّ الْقِيَامِ، فَعَزَلَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ وَوَلَّى عَلَيْهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيَّ وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْعِرَاقِ فِي سَنَةِ
سِتٍّ وَمِائَةٍ. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْمَخْزُومِيُّ خَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، أَخُو أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ
هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلَمْ تَلِدْ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ سِوَاهُ حَتَّى
طَلَّقَهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمْقَاءَ.
وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ دَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ فِي السِّرِّ بِأَرْضِ
الْعِرَاقِ وَحَصَلَ لِدُعَاتِهِمْ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ يَسْتَعِينُونَ بِهَا
عَلَى أَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ بِصَدَدِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
كَانَ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ وَعُلَمَائِهِمْ.
قَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنْهُ بِالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ عَشْرَةٌ.
فَذَكَرَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ أَحَدَهُمْ وَخَارِجَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَسَالِمَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدَ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ،
وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَعُرْوَةَ، وَالْقَاسِمَ،
وَقَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ، وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ بِهِ صَمَمٌ وَوَضَحٌ، وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ
قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِسَنَةٍ. وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ.
أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ مِنْ رِجَالِ " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ فِي
قَوْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَكُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي قَوْلٍ. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ
وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّضْرِيَّ،
وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ خَالَهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ. وَفِيهَا غَزَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الصَّائِفَةَ. وَفِيهَا غَزَا مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ مَدِينَةَ فَرْغَانَةَ
وَمُعَامَلَتَهَا، فَلَقِيَهُ عِنْدَهَا التُّرْكُ فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ وَقْعَةٌ
هَائِلَةٌ، قُتِلَ فِيهَا الْخَاقَانُ وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التُّرْكِ.
وَفِيهَا أَوْغَلَ الْجَرَّاحُ الْحَكَمِيُّ فِي أَرْضِ الْخَزْرِ فَصَالَحُوهُ
وَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ. وَفِيهَا غَزَا الْحَجَّاجُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ اللَّانَ، فَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا وَغَنِمَ وَسَلِمَ. وَفِيهَا
عَزَلَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ
مُسْلِمَ بْنَ سَعِيدٍ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيَّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِي الزِّنَادِ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمَدِينَةَ
لِيَتَلَقَّاهُ وَيَكْتُبَ لَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، فَفَعَلَ، وَتَلَقَّاهُ
النَّاسُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَفِيهِمْ أَبُو
الزِّنَادِ قَدِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَتَلَقَّاهُ فِيمَنْ تَلْقَّاهُ
سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَهْلَ بَيْتِكَ فِي مِثْلِ
هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الصَّالِحَةِ لَمْ يَزَالُوا يَلْعَنُونَ أَبَا تُرَابٍ،
فَالْعَنْهُ أَنْتَ أَيْضًا. قَالَ
أَبُو الزِّنَادِ: فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى هِشَامٍ وَاسْتَثْقَلَهُ، وَقَالَ: مَا
قَدِمْتُ لِشَتْمِ أَحَدٍ وَلَا لِلَعْنَةِ أَحَدٍ، إِنَّمَا قَدِمْنَا حُجَّاجًا.
ثُمَّ قَطَعَ كَلَامَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى أَبِي الزِّنَادِ يُحَادِثُهُ، وَلَمَّا
انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ عَرَضَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَلْحَةَ فَتَظَلَّمَ
إِلَيْهِ فِي أَرْضٍ، فَقَالَهُ لَهُ: أَيْنَ كُنْتَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ؟
قَالَ: ظَلَمَنِي. قَالَ: فَالْوَلِيدِ ؟ قَالَ: ظَلَمَنِي. قَالَ: فَسُلَيْمَانَ
؟ قَالَ: ظَلَمَنِي. قَالَ: فَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؟ قَالَ: رَدَّهَا
عَلَيَّ. قَالَ: فَيَزِيدَ ؟ قَالَ: انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِي وَهِيَ الْآنَ فِي
يَدِكَ. فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: أَمَا لَوْ كَانَ فِيكَ مَضْرِبٌ لَضَرَبْتُكَ.
فَقَالَ: بَلَى فِيَّ مَضْرِبٌ بِالسَّيْفِ وَالسَّوْطِ. فَانْصَرَفَ هِشَامٌ
عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ لِرَجُلٍ مَعَهُ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْ هَذَا.
وَفِيهَا كَانَ الْعَامِلَ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ
خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ.
وَمِمَّنْ تَوَفِّيَ فِيهَا:
سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
أَحَدُ الْفُقَهَاءِ.
وَطَاوُسُ بْنُ كَيْسَانَ الْيَمَانِيُّ،
مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ
تَرْجَمْنَاهُمَا فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ بِالْيَمَنِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبَّادٌ الرُّعَيْنِيُّ. فَدَعَا
إِلَى مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ، وَاتَّبَعَهُ فِرْقَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَحَكَمُوا،
فَقَاتَلَهُمْ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ، وَكَانُوا
ثَلَاثَمِائَةٍ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا وَقَعَ بِالشَّامِ طَاعُونٌ شَدِيدٌ. وَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ
هِشَامٍ الصَّائِفَةَ وَعَلَى جَيْشِ أَهْلِ الشَّامِ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ
فَقَطَعُوا الْبَحْرَ إِلَى قُبْرُسَ. وَغَزَا مَسْلَمَةُ فِي الْبَرِّ فِي جَيْشٍ
آخَرَ.
وَفِيهَا ظَفَرَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِجَمَاعَةٍ مِنْ
دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِخُرَاسَانَ فَصَلَبَهُمْ وَأَشْهَرَهُمْ.
وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْقَسْرِيُّ جِبَالَ نَمْرُونَ مَلِكِ الْغِرْشِسْتَانِ
مِمَّا يَلِي جِبَالَ الطَّالَقَانِ فَصَالَحَهُ نَمْرُونُ وَأَسْلَمَ عَلَى
يَدَيْهِ.
وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْغُورَ، وَهِيَ جِبَالُ هَرَاةَ، فَعَمَدَ أَهْلُهَا
إِلَى حَوَاصِلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَثْقَالِهِمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ
فِي كَهْفٍ مَنِيعٍ، لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَفِلٌ
جَدًّا، فَأَمَرَ أَسَدٌ بِالرِّجَالِ
فَجُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ وَدَلَّاهُمْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ بِوَضْعِ مَا
هُنَالِكَ فِي التَّوَابِيتِ، فَلَمَّا جَمَعُوا مَا هُنَالِكَ قَعَدَ الرِّجَالُ
فِي التَّوَابِيتِ وَرَفَعُوهُمْ، فَسَلِمُوا وَغَنِمُوا. وَهَذَا رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَفِيهَا أَمَرَ أَسَدٌ بِجَمْعِ مَا حَوْلَ بَلْخَ إِلَيْهَا، وَاسْتَنَابَ
عَلَيْهَا بَرْمَكَ وَالِدَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ وَبَنَاهَا بِنَاءً جَيِّدًا
جَدِيدًا مُحْكَمًا، وَحَصَّنَهَا وَجَعَلَهَا مَعْقِلًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَمِيرُ
الْحَرَمَيْنِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَحَدُ التَّابِعِينَ.
وَعِكْرِمَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَحَدُ التَّابِعِينَ، وَالْمُفَسِّرِينَ الْمُكْثِرِينَ، وَالْعُلَمَاءِ
الرَّبَّانِيِّينَ، وَالرَّحَّالِينَ الْجَوَّالِينَ.
وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ
كَانَ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ
الْمَشْهُورِينَ.
وَكُثَيِّرُ عَزَّةَ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ كُثَيِّرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ، أَبُو صَخْرٍ الْخُزَاعِيُّ الْحِجَازِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي جُمُعَةِ وَعَزَّةُ هَذِهِ - الْمَشْهُورُ بِهَا
الْمَنْسُوبُ إِلَيْهَا، لِتَغَزُّلِهِ فِيهَا - هِيَ أُمُّ عَمْرٍو عَزَّةُ -
بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ - بِنْتُ جَمِيلِ بْنِ حَفْصٍ مِنْ بَنِي حَاجِبِ بْنِ
غِفَارٍ وَإِنَّمَا صُغِّرَ اسْمُهُ فَقِيلَ: كُثَيِّرٌ. لِأَنَّهُ كَانَ دَمِيمَ
الْخَلْقِ قَصِيرًا، طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ كَانَ يُقَالُ لَهُ: زَبُّ الذُّبَابِ. وَكَانَ إِذَا
مَشَى يُظَنُّ أَنَّهُ صَغِيرٌ مِنْ قَصْرِهِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَقُولُ لَهُ: طَأْطِئْ رَأْسَكَ لَا يُؤْذِكَ
السَّقْفُ. وَكَانَ يَضْحَكُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَفِدُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا، وَكَانَ
يُقَالُ: إِنَّهُ أَشْعَرَ الْإِسْلَامِيِّينَ. عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِيهِ
تَشَيُّعٌ، وَرُبَّمَا نَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى مَذْهَبِ التَّنَاسُخِيَّةِ،
وَكَانَ يَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ إِنْ صَحَّ
النَّقْلُ عَنْهُ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [
الِانْفِطَارِ: 8 ]. وَقَدِ اسْتَأْذَنَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا
دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ
أَنْ تَرَاهُ. فَقَالَ: مَهْلًا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا الْمَرْءُ
بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، إِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِبَيَانٍ، وَإِنْ
قَاتَلَ قَاتَلَ بِجَنَانٍ، وَأَنَا الَّذِي أَقُولُ:
وَجَرَّبْتُ الْأُمُورَ وَجَرَّبَتْنِي وَقَدْ أَبْدَتْ عَرِيكَتِيَ الْأُمُورُ
وَمَا تَخْفَى الرِّجَالُ عَلَيَّ إِنِّي
بِهِمْ لَأَخُو مُثَاقَبَةٍ خَبِيرُ تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فَتَزْدَرِيهِ
وَفِي أَثْوَابِهِ أَسَدٌ مَزِيرُ وَيُعْجِبُكَ الطَّرِيرَ فَتَجْتَبِيهِ
فَيُخْلِفُ ظَنَّكَ الرَّجُلُ الطَّرِيرُ وَمَا عِظَمُ الرِّجَالِ لَهَا بِزَيْنٍ
وَلَكِنْ زَيْنُهَا كَرَمٌ وَخِيرُ بُغَاثُ الطَّيْرِ أَطْولُهَا جُسُومًا
وَلَمْ تُطُلِ الْبُزَاةُ وَلَا الصُّقُورُ وَقَدْ عَظُمَ الْبَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ
فَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالْعِظَمِ الْبَعِيرُ فَيُرْكَبُ ثُمَّ يُضْرَبُ
بِالْهَرَاوَى
وَلَا عُرْفٌ لَدَيْهِ وَلَا نَكِيرُ وَعُودُ النَّبْعِ يَنْبُتُ مُسْتَمِرًّا
وَلَيْسَ يَطُولُ وَالْقَصْبَاءُ خَوْرُ
وَقَدْ تَكَلَّمَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ عَلَى غَرِيبِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ
وَشِعْرِهَا بِكَلَامٍ طَوِيلٍ.
قَالُوا: وَدَخَلَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ
يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَامْتَدَحَهُ بِقَصِيدَتِهِ
الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
عَلَى ابْنِ أَبِي الْعَاصِي دُرُوعٌ حَصِينَةٌ أَجَادَ الْمُسَدِّي سَرْدَهَا
وَأَذَالَهَا
قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَفَلَا قُلْتَ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى، لِقَيْسِ
بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:
وَإِذَا تَجِيءُ كَتِيبَةٌ مَلْمُومَةٌ شَهْبَاءُ يَخْشَى الذَّائِدُونَ
نِهَالَهَا
كُنْتَ الْمُقَدَّمَ غَيْرَ لَابِسِ جُنَّةٍ بِالسَّيْفِ تَضْرِبُ مُعْلِمًا
أَبْطَالَهَا
فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَفَهُ بِالْخُرْقِ وَوَصَفْتُكَ
بِالْحَزْمِ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ لِلْخُرُوجِ إِلَى
مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا كُثَيِّرُ ! ذَكَرْتُكَ الْآنَ
بِشِعْرِكَ، فَإِنْ أَصَبْتَهُ أَعْطَيْتُكَ حُكْمَكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، كَأَنَّكَ لَمَّا وَدَّعْتَ عَاتِكَةَ بِنْتَ يَزِيدَ بَكَتْ
لِفِرَاقِكَ، فَبَكَى لِبُكَائِهَا حَشَمُهَا فَذَكَرْتَ قَوْلِي:
إِذَا مَا أَرَادَ الْغَزْوَ لَمْ تَثْنِ عَزْمَهُ حَصَانٌ عَلَيْهَا نَظْمُ دُرٍّ
يُزَيِّنُهَا
نَهَتْهُ فَلَمَّا لَمْ تَرَ النَّهْيَ عَاقَهُ بَكَتْ فَبَكَى مِمَّا عَرَّاهَا
قَطِينُهَا
قَالَ: أَصَبْتَ فَاحْتَكِمْ. قَالَ: مِائَةُ نَاقَةٍ مِنْ نُوقِكَ
الْمُخْتَارَةِ. قَالَ: هِيَ لَكَ.
فَلَمَّا سَارَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى
الْعِرَاقِ نَظَرَ يَوْمًا إِلَى كُثَيِّرِ عَزَّةَ وَهُوَ مُفَكِّرٌ فِي
أَمْرِهِ، فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ. فَلَمَّا جِيءَ بِهِ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ
إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِمَا كُنْتَ تُفَكِّرُ بِهِ تُعْطِينِي حُكْمِي ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: وَاللَّهِ ؟ قَالَ: وَاللَّهِ. قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّكَ
تَقُولُ فِي نَفْسِكَ: هَذَا رَجُلٌ لَيْسَ هُوَ عَلَى مَذْهَبِي، وَهُوَ ذَاهِبٌ
إِلَى قِتَالِ رَجُلٍ آخَرَ لَيْسَ هُوَ عَلَى مَذْهَبِي، فَإِنْ أَصَابَنِي
سَهْمٌ غَرْبٌ مِنْ بَيْنِهِمَا خَسِرْتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. فَقَالَ: إِي
وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاحْتَكِمْ. قَالَ: حُكْمِي أَنْ أَرُدَّكَ
إِلَى أَهْلِكَ وَأُحْسِنَ جَائِزَتَكَ. فَأَعْطَاهُ مَالًا وَأَذِنَ لَهُ فِي
الِانْصِرَافِ.
وَقَالَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ، عَنْ كُثَيِّرِ عَزَّةَ: وَفَدْتُ أَنَا
وَالْأَحْوَصُ وَنُصَيْبٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ وَلِيَ
الْخِلَافَةَ، وَنَحْنُ نَمُتُّ إِلَيْهِ بِصُحْبَتِنَا إِيَّاهُ وَمُعَاشَرَتِنَا
لَهُ لَمَّا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَكُلٌّ مِنَّا يَظُنُّ أَنَّهُ سَيُشْرِكُهُ
فِي الْخِلَافَةِ، فَنَحْنُ نَسِيرُ وَنَخْتَالُ فِي رِحَالِنَا، فَلَمَّا
انْتَهَيْنَا إِلَى خُنَاصِرَةَ وَلَاحَتْ لَنَا أَعْلَامُهَا، تَلَقَّانَا
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا أَقْدَمُكُمْ ؟ أَوَمَا عَلِمْتُمْ
أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُحِبُّ الشِّعْرَ ؟ قَالَ: فَوَجَمْنَا لِذَلِكَ،
فَأَنْزَلَنَا مَسْلَمَةُ عِنْدَهُ، وَأَجْرَى عَلَيْنَا النَّفَقَاتِ وَعَلَفَ
دَوَابَّنَا، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ
يَسْتَأْذِنَ لَنَا عَلَى عُمَرَ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْجُمَعِ دَنَوْتُ
مِنْهُ لِأَسْمَعَ خُطْبَتَهُ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ،
فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: لِكُلِّ سَفَرٍ زَادٌ لَا مَحَالَةَ،
فَتُزَوَّدُوا لِسَفَرِكُمْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى،
وَكُونُوا كَمَنْ عَايَنَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنْ عَذَابِهِ
وَثَوَابِهِ فَتَرْغَبُوا وَتَرْهَبُوا، وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ وَتَنْقَادُوا لِعَدُوِّكُمْ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بُسِطَ أَمَلُ مَنْ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَا يُمْسِي بَعْدَ إِصْبَاحِهِ وَلَا يُصْبِحُ بَعْدَ إِمْسَائِهِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ لَهُ بَيْنَ ذَلِكَ خَطَرَاتُ الْمَنَايَا، وَإِنَّمَا يَطَمْئِنُّ مَنْ وَثِقَ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَا يُدَاوِي مِنَ الدُّنْيَا كَلْمًا إِلَّا أَصَابَهُ جَارِحٌ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ ؟ ! أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ آمُرَكُمْ بِمَا أَنْهَى عَنْهُ نَفْسِي فَتَخْسَرُ صَفْقَتِي وَتَبْدُو مَسْكَنَتِي فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الْحَقُّ وَالصِّدْقُ. ثُمَّ بَكَّى حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَاضٍ نَحْبَهُ، وَارْتَجَّ الْمَسْجِدُ وَمَا حَوْلَهُ بِالْبُكَاءِ وَالْعَوِيلِ. قَالَ: فَانْصَرَفْتُ إِلَى صَاحِبَيَّ، فَقُلْتُ: خُذَا شَرْجًا مِنَ الشِّعْرِ غَيْرَ مَا كُنَّا نَقُولُ لِعُمَرَ وَآبَائِهِ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ آخِرِيٌّ، لَيْسَ بِرَجُلِ دُنْيَا. قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لَنَا مَسْلَمَةُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، طَالَ الثَّوَاءُ، وَقَلَّتِ الْفَائِدَةُ، وَتَحَدَّثَ بِجَفَائِكَ إِيَّانَا وُفُودُ الْعَرَبِ. فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [ التَّوْبَةِ: 60 ] - وَقَرَأَ الْآيَةَ - فَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْطَيْتُكُمْ، وَإِلَّا فَلَا حَقَّ لَكُمْ فِيهَا. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي مِسْكِينٌ وَعَابِرُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ. فَقَالَ: أَلَسْتُمْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ ؟ يَعْنِي مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقُلْنَا: بَلَى. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا ثَوَاءَ عَلَى مَنْ هُوَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ. فَقُلْتُ: ائْذَنْ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْإِنْشَادِ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَا تَقُلْ إِلَّا حَقًّا. فَأَنْشَدْتُهُ قَصِيدَةً فِيهِ:
وَلَيْتَ فَلَمْ تَشْتِمْ عَلِيًّا
وَلَمْ تُخِفْ بَرِيًّا وَلَمْ تَقْبَلْ إِشَارَةَ مُجْرِمِ
وَصَدَّقْتَ بِالْفِعْلِ الْمَقَالَ مَعَ الَّذِي أَتَيْتَ فَأَمْسَى رَاضِيًا
كُلُّ مُسْلِمِ
أَلَا إِنَّمَا يَكْفِي الْفَتَى بَعْدَ زَيْغِهِ مِنَ الْأَوَدِ الْبَادِي
ثِقَافُ الْمُقَوِّمِ
وَقَدْ لَبِسَتْ تَسْعَى إِلَيْكَ ثِيَابُهَا تَرَاءَى لَكَ الدُّنْيَا بِكَفٍّ
وَمِعْصَمِ
وَتُومِضُ أَحْيَانًا بِعَيْنٍ مَرِيضَةٍ وَتَبْسِمُ عَنْ مِثْلِ الْجُمَانِ
الْمُنَظَّمِ
فَأَعْرَضْتَ عَنْهَا مُشْمَئِزًّا كَأَنَّمَا سَقَتْكَ مَدُوفًا مِنْ سِمَامٍ
وَعَلْقَمِ
وَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَجْبَالِهَا فِي مُمَنَّعٍ وَمِنْ بَحْرِهَا فِي مُزْبِدِ
الْمَوْجِ مُفْعَمِ
وَمَا زِلْتَ تَوَّاقًا إِلَى كُلِّ غَايَةٍ بَلَغْتَ بِهَا أَعْلَى الْبِنَاءِ
الْمُقَدَّمِ
فَلَمَّا أَتَاكَ الْمَلِكُ عَفْوًا وَلَمْ تَكُنْ لِطَالِبِ دُنْيَا بَعْدَهُ فِي
تَكَلُّمِ
تَرَكْتَ الَّذِي يَفْنَى وَإِنْ كَانَ مُونِقًا وَآثَرْتَ مَا يَبْقَى بِرَأْيِ
مُصَمِّمِ
وَأَضْرَرْتَ بِالْفَانِي وَشَمَّرْتَ لِلَّذِي أَمَامَكَ فِي يَوْمٍ مِنَ
الشَّرِّ مُظْلِمِ
وَمَا لَكَ إِذْ كُنْتَ الْخَلِيفَةَ مَانِعٌ سِوَى اللَّهِ مِنْ مَالِ رَغِيبٍ
وَلَا دَمِ
سَمَا لَكَ هَمٌّ فِي الْفُؤَادِ مُؤَرِّقٌ بَلَغْتَ بِهِ أَعْلَى الْمَعَالِي
بِسُلَّمِ
فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الْأَرْضِ وَالْغَرْبِ كُلِّهَا مُنَادٍ يُنَادِي مِنْ
فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ
يَقُولُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ظَلَمْتَنِي بِأَخْذِكَ دِينَارِي وَلَا أَخْذِ
دِرْهَمِي
وَلَا بَسْطِ كَفٍّ لِامْرِئٍ غَيْرِ مُجْرِمٍ وَلَا السَّفْكِ مِنْهُ ظَالِمًا
مِلْءَ مِحْجَمِ
وَلَوْ يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ لَقَسَّمُوا لَكَ الشَّطْرَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ
غَيْرَ نُدَّمِ
فَعِشْتَ بِهَا مَا حَجَّ لِلَّهِ رَاكِبٌ مُلَبٍّ مَطِيفٌ بِالْمَقَامِ
وَزَمْزَمَ
فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ
لِمُبَايِعٍ وَأَعْظِمْ بِهَا أَعْظِمْ بِهَا ثُمَّ أَعْظِمِ
قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ: إِنَّكَ
تُسْأَلُ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ الْأَحْوَصُ
فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً أُخْرَى، فَقَالَ: إِنَّكَ تُسْأَلُ عَنْ هَذَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ نُصَيْبٌ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَأَمَرَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَأَغْزَى نُصَيْبًا
إِلَى مَرَجِ دَابِقٍ. وَقَدْ وَفَدَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَامْتَدَحَهُ بِقَصَائِدَ، فَأَعْطَاهُ
سَبْعَمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ كُثِّيرُ عَزَّةَ شِيعِيًّا خَشَبِيًّا
يَرَى الرَّجْعَةَ، وَكَانَ يَرَى التَّنَاسُخَ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [ الِانْفِطَارِ: 8 ]. وَقَالَ مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ: هُوِّلَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ لَيْلَةً فِي مَنَامِهِ، فَأَصْبَحَ
يَمْتَدِحُ آلَ الزُّبَيْرِ وَيَرْثِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَكَانَ
يُسِيءُ الرَّأْيَ فِيهِ:
بِمُفْتَضِحِ الْبَطْحَاءِ ثَاوٍ لَوَ انَّهُ أَقَامَ بِهَا مَا لَمْ تَرُمْهَا
الْأَخْاشِبُ
سَرِحْنَا سُرُوبًا آمِنِينَ وَمَنْ يَخَفْ بَوَائِقَ مَا يَخْشَى تَنُبْهُ
النَّوَائِبُ
تَبَرَّأْتُ مِنْ عَيْبِ ابْنِ أَسْمَاءَ إِنَّنِي إِلَى اللَّهِ مِنْ عَيْبِ
ابْنِ أَسْمَاءَ تَائِبُ
هُوَ الْمَرْءُ لَا تُزْرِي بِهِ أُمَّهَاتُهُ وَآبَاؤُهُ فِينَا الْكِرَامُ
الْأَطَايِبُ
وَقَالَ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الزَّبَيْرِيُّ: قَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ: مَا
الَّذِي يَدْعُوكَ إِلَى مَا تَقُولُ مِنَ الشِّعْرِ فِي عَزَّةَ وَلَيْسَتْ عَلَى
مَا تَصِفُ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ ؟ ! فَلَوْ قُلْتَ ذَلِكَ فِيَّ وَفِي
أَمْثَالِي، فَأَنَا أَشْرَفُ وَأَفْضَلُ مِنْهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنْ
تَخْتَبِرَهُ وَتَبْلُوَهُ، فَقَالَ:
صَحَا قَلْبُهُ يَا عَزُّ أَوْ كَادَ يَذْهَلُ وَأَضْحَى يُرِيدُ الصَّوْمَ أَوْ
يَتَبَدَّلُ
وَكَيْفَ يُرِيدُ الصَّوْمَ مَنْ هُوَ وَامِقٌ لِعَزَّةَ لَا قَالٍ وَلَا
مُتَبَذِّلُ
إِذَا وَصَلَتْنَا خُلَّةٌ كَيْ تُزِيلُنَا أَبَيْنَا وَقُلْنَا الْحَاجِبِيَّةُ
أَوَّلُ
سَنُولِيكِ عُرْفًا إِنْ أَرَدْتِ وِصَالَنَا وَنَحْنُ لِتِيكَ الْحَاجِبِيَّةِ
أَوْصَلُ
وَحَدَّثَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي هَجَرْتُهَا فَحَمَلَهَا غَيْظًا عَلَيَّ
الْمُحَمِّلُ
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: لَقَدْ جَعَلَتْنِي خُلَّةً وَلَسْتُ لَكَ بِخُلَّةٍ،
وَهَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ جَمِيلٌ فَهُوَ وَاللَّهِ أَشْعَرُ مِنْكَ حَيْثُ
يَقُولُ:
يَا رُبَّ عَارِضَةٍ عَلَيْنَا وَصْلَهَا بِالْجِدِّ تَخْلِطُهُ بِقَوْلِ
الْهَازِلِ
فَأَجَبْتُهَا بِالْقَوْلِ بَعْدَ تَسَتُّرٍ حُبِّي بُثَيْنَةَ عَنْ وِصَالِكِ
شَاغِلِي
لَوْ كَانَ فِي قَلْبِي بِقَدْرِ قُلَامَةٍ فَضْلٌ وَصَلْتُكِ أَوْ أَتَتْكِ رَسَائِلِي
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُنْكِرُ فَضْلَ جَمِيلٍ وَمَا أَنَا إِلَّا حَسَنَةٌ مِنْ
حَسَنَاتِهِ. وَاسْتَحْيَا.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ
الْأَنْبَارِيِّ، لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ:
بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتِ مِنْ مَعْشُوقَةٍ طَبِنَ الْعَدُوُّ لَهَا فَغَيَّرَ حَالَهَا
وَمَشَى إِلَيَّ بِعَيْبِ عَزَّةَ نِسْوَةٌ جَعَلَ الْإِلَهَ خُدُودَهُنَّ
نِعَالَهَا
اللَّهُ يَعْلَمُ لَوْ جُمِعْنَ وَمُثِّلَتْ لَاخْتَرْتُ قَبْلَ تَأَمُّلٍ
تِمْثَالَهَا
وَلَوَ انَّ عَزَّةَ خَاصَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى فِي الْحُسْنِ عِنْدَ مُوَفَّقٍ
لَقَضَى لَهَا
وَأَنْشَدَ غَيْرُهُ لِكُثَيِّرِ عَزَّةَ:
فَمَا أَحْدَثَ النَّأْيُ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا سُلُوًّا وَلَا طُولُ
اجْتِمَاعٍ تَقَالِيَا
وَمَا زَادَنِي الْوَاشُونَ إِلَّا صَبَابَةً وَلَا كَثْرَةُ النَّاهِينَ إِلَّا
تَمَادِيَا
وَقَالَ كُثَيِّرٌ أَيْضًا:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ إِذَا وُطِّنَتْ يَوْمًا لَهَا
النَّفْسُ ذَلَّتِ
هَنِيئًا مَرِيئًا غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا
اسْتَحَلَّتِ
وَقَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ أَيْضًا، وَفِيهِ حِكْمَةٌ:
وَمَنْ لَا يُغْمِضُ عَيْنَهُ عَنْ صَدِيقِهِ وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ
وَهُوَ عَاتِبُ
وَمَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ يَجِدْهَا وَلَا يَسْلَمُ لَهُ
الدَّهْرُ صَاحِبُ
وَذَكَرُوا أَنَّ عَزَّةَ بِنْتَ جَمِيلِ بْنِ حَفْصٍ - أَحَدِ بَنِي حَاجِبِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غِفَارٍ - أُمَّ عَمْرِو الضَّمْرِيَّةَ وَفَدَتْ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ تَشْكُو إِلَيْهِ ظُلَامَةً،
فَقَالَ لَهَا: لَا أَقْضِيهَا لَكِ
حَتَّى تُنْشِدِينِي شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ. فَقَالَتْ: لَا أَحْفَظُ لَهُ كَثِيرَ
شِعْرٍ، لَكِنِّي سَمِعْتُهُمْ يَحْكُونَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِيَّ:
قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ عَلِمْتُ غَرِيمَهُ وَعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى
غَرِيمُهَا
فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكِ، وَلَكِنْ أَنْشِدِينِي قَوْلَهُ:
وَقَدْ زَعَمَتْ أَنِّي تَغَيَّرْتُ بَعْدَهَا وَمَنْ ذَا الَّذِي يَا عَزُّ لَا
يَتَغَيَّرُ
تَغَيَّرَ جِسْمِي وَالْخَلِيقَةُ كَالَّذِي عَهِدْتِ وَلَمْ يُخْبَرْ بِسِرِّكِ
مُخْبَرُ
فَاسْتَحْيَتْ وَقَالَتْ: أَمَّا هَذَا فَلَا أَحْفَظُهُ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُمْ
يَحْكُونَهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ أَحْفَظُ لَهُ قَوْلَهُ:
كَأَنِّي أُنَادِي صَخْرَةً حِينَ أَعْرَضَتْ مِنَ الصُّمِّ لَوْ تَمْشِي بِهَا
الْعُصْمُ زَلَّتِ
صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكِ إِلَّا بَخِيلَةً وَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الْوَصْلَ
مَلَّتِ
قَالَ: فَقَضَى لَهَا حَاجَتَهَا وَرَدَّهَا، وَرَدَّ عَلَيْهَا ظُلَامَتَهَا،
وَقَالَ: أَدْخِلُوهَا عَلَى الْحُرَمِ لِيَتَعَلَّمُوا مَنْ أَدَبِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ نِسَاءِ الْعَرَبِ قَالَتْ: اجْتَازَتْ بِنَا عَزَّةُ
فَاجْتَمَعَ نِسَاءُ الْحَاضِرِ إِلَيْهَا لِيَنْظُرْنَ حُسْنَهَا، فَإِذَا هِيَ
حُمَيْرَاءُ حُلْوَةٌ لَطِيفَةٌ، فَلَمْ تَقَعْ مِنَ النِّسَاءِ بِذَلِكَ
الْمَوْقِعِ حَتَّى تَكَلَّمَتْ، فَإِذَا هِيَ أَبْرَعُ الْخَلْقِ وَأَحْلَاهُ
حَدِيثًا، فَمَا بَقِيَ فِي
أَعْيُنَنَا امْرَأَةً تَفُوقُهَا
حُسْنًا وَجَمَالًا وَحَلَاوَةً.
وَذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: دَخَلَتْ عَزَّةُ
عَلَى سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ فَقَالَتْ لَهَا: إِنِّي أَسْأَلُكِ عَنْ
شَيْءٍ فَاصْدُقِينِي، مَا الَّذِي أَرَادَ كُثَيِّرُ فِي قَوْلِهِ لَكِ:
قَضَى كُلُّ ذِي دَيْنٍ فَوَفَى غَرِيمَهُ وَعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى
غَرِيمُهَا
فَقَالَتْ: كُنْتُ وَعَدْتُهُ قُبْلَةً مَطَلْتُهُ بِهَا. فَقَالَتْ: أَنْجِزِيهَا
لَهُ وَإِثْمُهَا عَلَيَّ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ الْبَنِينَ أُخْتَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَالَتْ لَهَا مِثْلَ هَذَا سَوَاءً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ
كُثَيِّرًا مِنْ عَزَّةَ فَأَبَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَبَعْدَمَا فَضَحَنِي بَيْنَ النَّاسِ وَشَهَّرَنِي فِي
الْعَرَبِ؟ ! وَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ الِامْتِنَاعِ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهَا اجْتَازَتْ مَرَّةً بِكُثَيِّرٍ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهَا،
فَتَنَكَّرَتْ عَلَيْهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُ، فَتَعَرَّضَ
لَهَا فَقَالَتْ لَهُ: فَأَيْنَ حُبُّكَ عَزَّةَ ؟ فَقَالَ: أَنَا لَكِ
الْفِدَاءُ، لَوْ أَنَّ عَزَّةَ أَمَةٌ لِي لَوَهَبْتُهَا لَكَ. فَقَالَتْ:
وَيْحَكَ ! لَا تَفْعَلْ، أَلَسْتَ الْقَائِلَ:
إِذَا وَصَلَتْنَا خُلَّةٌ كَيْ
تُزِيلَنَا أَبَيْنَا وَقُلْنَا الْحَاجِبِيَّةُ أَوَّلُ
فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتِ وَأُمِّي، أَقْصَرِي عَنْ ذِكْرِهَا وَاسْمَعِي مَا أَقُولُ.
ثُمَّ قَالَ:
هَلْ وَصْلُ عَزَّةَ إِلَّا وَصْلُ غَانِيَةٍ فِي وَصْلِ غَانِيَةٍ مِنْ وَصْلِهَا
بَدَلُ
قَالَتْ: فَهَلْ لَكَ فِي الْمُجَالَسَةِ ؟ قَالَ: وَمَنْ لِي بِذَلِكَ ؟ قَالَتْ:
فَكَيْفَ بِمَا قُلْتَ فِي عَزَّةَ ؟ فَقَالَ: أُقْلِبُهُ فَيَتَحَوَّلُ لَكِ.
قَالَ: فَسَفَرَتْ عَنْ وَجْهِهَا وَقَالَتْ: أَغَدْرًا وَتَنَكُاثًا يَا فَاسِقُ؟
! وَإِنَّكَ لَهَاهُنَا يَا عَدُوَّ اللَّهِ. فَبُهِتَ وَأَبْلَسَ، وَلَمْ
يَنْطِقْ وَتَحَيَّرَ وَخَجِلَ، ثُمَّ قَالَتْ: قَاتَلَ اللَّهُ جَمِيلًا حَيْثُ
يَقُولُ:
لَحَا اللَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُ الْوُدُّ عِنْدَهُ وَمَنْ حَبْلُهُ إِنْ مُدَّ
غَيْرُ مَتِينِ
وَمَنْ هُوَ ذُو وَجْهَيْنِ لَيْسَ بِدَائِمٍ عَلَى الْعَهْدِ حَلَّافٌ بِكُلِّ
يَمِينِ
ثُمَّ شَرَعَ كُثَيِّرٌ يَعْتَذِرُ وَيَتَنَصَّلُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ، وَيَقُولُ
فِي ذَلِكَ الْأَشْعَارَ ذَاكِرًا وَآثِرًا.
وَقَدْ مَاتَتْ عَزَّةُ بِمِصْرَ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ
وَزَارَ كُثَيِّرٌ قَبْرَهَا وَرَثَاهَا، وَتَغَيَّرَ شِعْرُهُ بَعْدَهَا، فَقَالَ
لَهُ قَائِلٌ: مَا بَالُ شِعْرِكَ تَغَيَّرَ، وَقَدْ قَصَّرَتْ فِيهِ ؟ فَقَالَ:
مَاتَتْ عَزَّةُ فَلَا أَطْرَبُ، وَذَهَبَ الشَّبَابُ فَلَا أَعْجَبُ، وَمَاتَ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ فَلَا أَرْغَبُ، وَإِنَّمَا الشِّعْرُ عَنْ
هَذِهِ الْخِلَالِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ وَوَفَاةُ عِكْرِمَةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ فِي
سَنَةِ خَمْسٍ وَمِائَةٍ،
عَلَى الْمَشْهُورِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَمِائَةٍ
فَفِيهَا افْتَتَحَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ بِلَادِ
الرُّومِ وَفَتَحَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حِصْنًا مِنْ
حُصُونِ الرُّومِ أَيْضًا. وَفِيهَا غَزَا أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيُّ أَمِيرُ خُرَاسَانَ فَكَسَرَ الْأَتْرَاكَ كَسْرَةً فَاضِحَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْمَخْزُومِيُّ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ. وَالْعُمَّالُ فِيهَا هُمُ
الْعُمَّالُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بِأَعْيَانِهِمْ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ. وَرَاشِدُ بْنُ
سَعْدٍ الْمَقْرَائِيُّ الْحِمْصِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي
قَوْلٍ. وَأَبُو نَضْرَةَ الْمُنْذِرُ بْنُ مَالِكٍ
بْنِ قِطْعَةَ الْعَبْدِيُّ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَمِائَةٍ
فَفِيهَا عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْدَمَ إِلَى الْحَجِّ،
فَأَقْبَلَ مِنْهَا فِي رَمَضَانَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ الْحَكَمَ بْنَ
عَوَانَةَ الْكَلْبِيَّ، وَاسْتَنَابَ هِشَامٌ عَلَى خُرَاسَانَ أَشْرَسَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيَّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيَّ وَكَانَ أَشْرَسُ فَاضِلًا خَيِّرًا، وَكَانَ يُسَمَّى الْكَامِلَ
لِذَلِكَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ الْمُرَابِطَةَ بِخُرَاسَانَ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ دِثَارٍ الْبَاهِلِيَّ وَتَوَلَّى
هُوَ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، كَبِيرَهَا وَصَغِيرَهَا، فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُهَا.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ
وَالطَّائِفِ.
سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَةٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا قَاتَلَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ
خَاقَانَ فِي جُمُوعٍ عَظِيمَةٍ، فَتَوَاقَفُوا نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ هَزَمَ
اللَّهُ خَاقَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَرَجَعَ مَسْلَمَةُ سَالِمًا غَانِمًا،
فَسَلَكَ عَلَى مَسْلَكِ ذِي الْقَرْنَيْنِ فِي رُجُوعِهِ إِلَى الشَّامِ،
وَتُسَمَّى هَذِهِ الْغَزْوَةُ غُزَاةُ الطِّينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَلَكُوا
عَلَى مَغَارِقَ وَمَوَاضِعَ غَرَقٍ فِيهَا دَوَابُّ كَثِيرَةٌ، وَتَوَحَّلَ
فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمَا نَجَوْا حَتَّى قَاسَوْا شَدَائِدَ وَأَهْوَالًا
صِعَابًا وَشِدَادًا عِظَامًا.
وَفِيهَا دَعَا أَشْرَسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ
أَهْلَ الذِّمَّةِ بِسَمَرْقَنْدَ وَمَنْ وَرَاءَ النَّهْرِ إِلَى الدُّخُولِ فِي
الْإِسْلَامِ، عَلَى أَنْ يَضَعَ عَنْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى
ذَلِكَ، وَأَسْلَمُوا غَالِبُهُمْ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ بِالْجِزْيَةِ، فَنَصَبُوا
لَهُ الْحَرْبَ وَقَاتَلُوهُ، ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرْكِ حُرُوبٌ
كَثِيرَةٌ، أَطَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بَسْطَهَا وَشَرْحَهَا فَوْقَ الْحَاجَةِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامٌ، عُبَيْدَةَ إِلَى
إِفْرِيقِيَّةَ مُتَوَلِّيًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ جَهَّزَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ
فِي جَيْشٍ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا،
وَأَسَرُوا بِطْرِيقَهُمْ، وَانْهَزَمَ
بِاقِيهِمْ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ حِصْنَيْنِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ
وَغَنِمَ غَنَائِمَ جَمَّةً.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ. وَعَلَى الْعِرَاقِ خَالِدٌ
الْقَسْرِيُّ وَعَلَى خُرَاسَانَ أَشْرَسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَرِيرٌ الشَّاعِرُ
وَهُوَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفَى وَيُقَالُ: جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ بْنِ
الْخَطَفَى. وَاسْمُ الْخَطَفَى حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ
بْنِ كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ
بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ،
أَبُو حَزْرَةَ الشَّاعِرُ الْبَصْرِيُّ، قَدِمَ دِمَشْقَ مِرَارًا، وَامْتَدَحَ
يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْخُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِ، وَوَفَدَ عَلَى عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ
يُقَارَنُونَ الْفَرَزْدَقُ، وَالْأَخْطَلُ، وَكَانَ جَرِيرٌ أَشْعَرَهُمْ
وَأَخْيَرَهُمْ.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَشْعَرُ الثَّلَاثَةِ.
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، ثَنَا الْأُشْنَانْدَانِيُّ، ثَنَا التَّوَّزِيُّ، عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرًا وَمَا
تُضَمُّ شَفَتَاهُ مِنَ التَّسْبِيحِ، فَقُلْتُ: وَمَا يَنْفَعُكَ هَذَا
وَأَنْتَ تَقْذِفُ الْمُحْصَنَةَ ؟ !
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئَاتِ [ هُودٍ: 114 ]، وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ حَقٌّ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخْلُ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَمْتَدِحُهُ
بِقَصِيدَةٍ، وَعِنْدَهُ الشُّعَرَاءُ الثَّلَاثَةُ جَرِيرٌ، وَالْفَرَزْدَقُ،
وَالْأَخْطَلُ فَلَمْ يَعْرِفْهُمُ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ
لِلْأَعْرَابِيِّ: هَلْ تَعْرِفُ أَهَجَى بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَوْلُ جَرِيرٍ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ أَمْدَحَ بَيْتٍ قِيلَ فِي الْإِسْلَامِ ؟
قَالَ: نَعَمْ، قَوْلُ جَرِيرٍ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحٍ
فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ أَرَقَّ بَيْتٍ قِيلَ فِي
الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَوْلُ جَرِيرٍ:
إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ
قَتْلَانَا
يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لَا حَرَاكَ بِهِ وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللَّهِ
أَرْكَانًا
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، فَهَلْ تَعْرِفُ جَرِيرًا ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَإِنِّي
إِلَى رُؤْيَتِهِ لَمُشْتَاقٌ. قَالَ: فَهَذَا جَرِيرٌ وَهَذَا الْأَخْطَلُ
وَهَذَا الْفَرَزْدَقُ. فَأَنْشَأَ الْأَعْرَابِيُّ
يَقُولُ:
فَحَيَّا الْإِلَهُ أَبَا حَرْزَةٍ وَأَرْغَمَ أَنْفَكَ يَا أَخْطَلُ
وَجَدُّ الْفَرَزْدَقِ أَتْعِسْ بِهِ وَدَقَّ خَيَاشِيمَهُ الْجَنْدَلُ
فَأَنْشَأَ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
يَا أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفًا أَنْتَ حَامِلُهُ يَا ذَا الْخَنَا وَمَقَالِ
الزُّورِ وَالْخَطَلِ
مَا أَنْتَ بِالْحَكَمِ التُّرْضَى حُكُومَتُهُ وَلَا الْأَصِيلِ وَلَا ذِي
الرَّأْيِ وَالْجَدَلِ
ثُمَّ أَنْشَأَ الْأَخْطَلُ يَقُولُ:
يَا شَرَّ مَنْ حَمَلَتْ سَاقٌ عَلَى قَدَمٍ مَا مِثْلُ قَوْلِكَ فِي الْأَقْوَامِ
يُحْتَمَلُ
إِنَّ الْحُكُومَةَ لَيْسَتْ فِي أَبِيكَ وَلَا فِي مَعْشَرٍ أَنْتَ مِنْهُمْ
إِنَّهُمْ سَفَلُ
فَقَامَ جَرِيرٌ مُغْضَبًا وَهُوَ يَقُولُ:
شَتَمْتُمَا قَائِلًا بِالْحَقِّ مُهْتَدِيًا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ وَالْأَقْوَالُ
تَنْتَضِلُ
أَتَشْتُمَانِ سَفَاهًا خَيْرَكُمْ حَسَبًا فَفِيكُمَا وَإِلَهِي الزُّورُ
وَالْخَطَلُ
شَتَمْتُمَاهُ عَلَى رَفْعِي وَوَضْعِكُمَا لَا زِلْتُمَا فِي سَفَالٍ أَيُّهَا
السَّفَلُ
ثُمَّ وَثَبَ جَرِيرٌ فَقَبَّلَ رَأْسَ الْأَعْرَابِيِّ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، جَائِزَتِي لَهُ. وَكَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَقَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ: وَلَهُ مِثْلُهَا مِنْ مَالِي. فَقَبَضَ الْأَعْرَابِيُّ ذَلِكَ
كُلَّهُ، وَخَرَجَ.
وَحَكَى يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ
أَنَّ جَرِيرًا دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ مَعَ وَفْدِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ
جِهَةِ الْحَجَّاجِ فَأَنْشَدَهُ مَدِيحَهُ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
فَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ نَاقَةٍ وَثَمَانِيَةً مِنَ الرُّعَاةِ ; أَرْبَعَةً مِنَ
النُّوبَةِ، وَأَرْبَعَةً مِنَ السَّبْيِ الَّذِينَ قَدِمَ بِهِمْ مِنَ الصُّغْدِ.
قَالَ جَرِيرٌ وَبَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ جَامَاتٌ مِنْ فِضَّةٍ قَدْ
أُهْدِيَتْ لَهُ، وَهُوَ لَا يَعْبَأُ بِهَا شَيْئًا، فَهُوَ يَقْرَعُهَا
بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَحْلَبَ، فَأَلْقَى
إِلَيَّ وَاحِدَةً مِنْ تِلْكَ الْجَامَاتِ، وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْحَجَّاجِ
أَعْجَبَهُ إِكْرَامُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ، فَأَطْلَقَ لَهُ خَمْسِينَ
نَاقَةً تَحْمِلُ طَعَامًا لِأَهْلِهِ.
وَحَكَى نِفْطَوَيْهِ أَنَّ جَرِيرًا دَخَلَ يَوْمًا عَلَى بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ
وَعِنْدَهُ الْأَخْطَلُ فَقَالَ بِشْرٌ لِجَرِيرٍ: أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قَالَ: لَا،
وَمَنْ هَذَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ ؟ فَقَالَ: هَذَا الْأَخْطَلُ. فَقَالَ
الْأَخْطَلُ: أَنَا الَّذِي شَتَمْتُ عِرْضَكَ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَآذَيْتُ
قَوْمَكَ. فَقَالَ جَرِيرٌ: أَمَّا قَوْلُكَ: شَتَمْتُ عِرْضَكَ. فَمَا ضَرَّ
الْبَحْرَ أَنْ يَشْتُمَهُ مَنْ غَرِقَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: وَأَسْهَرْتُ
لَيْلَكَ. فَلَوْ تَرَكْتَنِي أَنَامُ لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ:
وَآذَيْتُ قَوْمَكَ. فَكَيْفَ تُؤْذِي قَوْمًا أَنْتَ تُؤَدِّي الْجِزْيَةَ
إِلَيْهِمْ ؟ ! وَكَانَ الْأَخْطَلُ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ الْمُتَنَصِّرَةِ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَ مَثْوَاهُ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ،
عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَفَدَ إِلَيْهِ الشُّعَرَاءُ فَمَكَثُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا
يُؤْذَنُ لَهُمْ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِمْ، فَسَاءَهُمْ ذَلِكَ وَهَمُّوا
بِالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ فَقَالَ
لَهُ جَرِيرٌ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرْخِي عِمَامَتَهُ هَذَا زَمَانُكَ فَاسْتَأْذِنْ
لَنَا عُمَرَا
فَدَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْئًا، فَمَرَّ بِهِمْ عَدِيُّ بْنُ
أَرْطَاةَ فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ مُنْشِدًا:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ
مَضَى زَمَنِي
أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إِنْ كُنْتَ لَاقِيَهُ أَنِّي لَدَى الْبَابِ
كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ
لَا تَنْسَ حَاجَتَنَا لَاقَيْتَ مَغْفِرَةً قَدْ طَالَ مُكْثِيَ عَنْ أَهْلِي
وَعَنْ وَطَنِي
فَدَخَلَ عَدِيٌّ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، الشُّعَرَاءُ بِبَابِكَ، وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ،
وَأَقْوَالُهُمْ نَافِذَةٌ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عَدِيُّ ! مَالِي
وَلِلشُّعَرَاءِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَسْمَعُ الشِّعْرَ وَيَجْزِي
عَلَيْهِ، وَقَدْ أَنْشَدَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ مَدْحَهُ، فَأَعْطَاهُ
حُلَّةً. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَرْوِي مِنْهَا شَيْئًا ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَأَنْشَدَهُ:
رَأَيْتُكَ يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا نَشَرْتَ كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ
مُعْلَمَا
شَرَعْتَ لَنَا دِينَ الْهُدَى بَعْدَ
جَوْرِنَا عَنِ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا
وَنَوَّرْتَ بِالْبُرْهَانِ أَمْرًا مُدَلَّسًا وَأَطْفَأْتَ بِالْقُرْآنِ نَارًا
تَضَرَّمَا
فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا
كَانَ قَدَّمَا
أَقَمْتَ سَبِيلَ الْحَقِّ بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ وَكَانَ قَدِيمًا رُكْنُهُ قَدْ
تَهَدَّمَا
تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إِلَهُنَا وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى
وَأَعْظَمَا
فَقَالَ عُمَرُ: وَيْحَكَ يَا عَدِيُّ ! مَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ:
عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ فَقَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
ثُمَّ نَبَّهْتُهَا فَهَبَّتْ كِعَابًا طَفْلَةٌ مَا تَبِينُ رَجْعَ الْكَلَامِ
سَاعَةً ثُمَّ إِنَّهَا بَعْدُ قَالَتْ وَيْلَتَا قَدْ عَجِلْتَ يَا ابْنَ
الْكِرَامِ
أَعَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ جِئْتَ تُسْرِي تَتَخَطَّى إِلَى رُءُوسِ النِّيَامِ
مَا تَجَشَّمْتَ مَا تُرِيدُ مِنَ الْأَمْ رِ وَلَا جِئْتَ طَارِقًا لِخِصَامِ
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ إِذْ فَجَرَ كَتَمَ وَسَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ ! لَا
يَدْخُلُ عَلَيَّ وَاللَّهِ أَبَدًا. فَمَنْ بِالْبَابِ سِوَاهُ ؟ قَالَ: هَمَّامُ
بْنُ غَالِبٍ - يَعْنِي الْفَرَزْدَقَ - فَقَالَ عُمَرُ: أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي
يَقُولُ:
هُمَا دَلَّتَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ
كَاسِرُهْ
فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ بِالْأَرْضِ قَالَتَا أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ
نُحَاذِرُهْ
لَا يَطَأُ وَاللَّهِ بِسَاطِي وَهُوَ كَاذِبٌ. فَمَنْ سِوَاهُ بِالْبَابِ ؟
قَالَ: الْأَخْطَلُ. قَالَ:
أَوَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانَ طَوْعًا وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِي
وَلَسْتُ بِزَاجِرٍ عَنْسًا بُكُورًا إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ
وَلَسْتُ بِزَائِرٍ بَيْتًا بَعِيدًا بِمَكَّةَ أَبْتَغِي فِيهِ صَلَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كَالْعَيْرِ أَدْعُو قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى
الْفَلَاحِ
وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ
وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ كَافِرٌ أَبَدًا. فَهَلْ بِالْبَابِ سِوَى
مَنْ ذَكَرْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْأَحْوَصُ قَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتْبَعُهُ
فَمَا هُوَ دُونَ مَنْ ذَكَرْتَ، فَمَنْ هَاهُنَا غَيْرُهُ ؟ قَالَ: جَمِيلُ بْنُ
مَعْمَرٍ. قَالَ: الَّذِي يَقُولُ:
أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ يُوَافِقُ فِي الْمَوْتَى
ضَرِيحِي ضَرِيحُهَا
فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ إِذَا قِيلَ قَدْ سُوِّيَ عَلَيْهَا
صَفِيحُهَا
فَلَوْ كَانَ عَدُوُّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا لِيَعْمَلَ
بِذَلِكَ صَالِحًا ! وَاللَّهِ لَا يُدْخِلُ عَلَيَّ أَبَدًا، فَهَلْ بِالْبَابِ
أَحَدٌ سِوَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ جَرِيرٌ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ
الَّذِي يَقُولُ:
طَرَقَتْكَ صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي
بِسَلَامِ
فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَأْذَنْ لِجَرِيرٍ. فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ
الْعَادِلِ
وَسِعَ الْخَلَائِقَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ
الْمَائِلِ
إِنِّي لَأَرْجُوَ مِنْكَ خَيْرًا عَاجِلًا وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ
الْعَاجِلِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ ! اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَقُولُ.
ثُمَّ إِنَّ جَرِيرًا اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْإِنْشَادِ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ
وَلَمْ يَنْهَهُ، فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً طَوِيلَةً يَمْدَحُهُ بِهَا، فَقَالَ
لَهُ: وَيْحَكَ يَا جَرِيرُ ! لَا أَرَى لَكَ فِيهَا هَاهُنَا حَقًّا. فَقَالَ:
إِنِّي مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ. فَقَالَ إِنَّا وُلِّينَا هَذَا الْأَمْرَ
وَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، أَخَذَتْ أُمُّ عَبْدِ
اللَّهِ مِائَةً، وَابْنُهَا مِائَةً، وَقَدْ بَقِيَتْ مِائَةٌ. فَأَمَرَ لَهُ
بِهَا، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى الشُّعَرَاءِ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا جَرِيرُ ؟
فَقَالَ: مَا يَسُوءُكُمْ، خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ
يُعْطِي الْفُقَرَاءَ، وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ. ثُمَّ
أَنْشَأَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنَ
الْجِنِّ رَاقِيَا
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِيمَا حَكَاهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ:
قَالَتْ جَارِيَةٌ لِلْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ فِي جَرِيرٍ: إِنَّكَ تُدْخِلُ هَذَا
عَلَيْنَا. فَقَالَ: إِنَّهُ مَا عَلِمْتُ [ إِلَّا ] عَفِيفًا.
فَقَالَتْ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ
أَخَلَيْتِنِي وَإِيَّاهُ سَتَرَى مَا يَصْنَعُ. فَأَمَرَ بِإِخْلَائِهَا مَعَ
جَرِيرٍ فِي مَكَانٍ يَرَاهُمَا وَلَا يَشْعُرُ جَرِيرٌ بِشَيْءٍ، مِنْ ذَلِكَ
فَقَالَتْ لَهُ: يَا جَرِيرُ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ وَقَالَ: هَا أَنَا ذَا.
فَقَالَتْ: أَنْشِدْنِي مِنْ قَوْلِكَ كَذَا وَكَذَا. لِشِعْرٍ فِيهِ رِقَّةٌ
وَتَحْنُّنٌ. فَقَالَ: لَسْتُ أَحْفَظُهُ، وَلَكِنْ أَحْفَظُ كَذَا وَكَذَا.
وَيُعْرِضُ عَنْ ذَاكَ، وَيُنْشِدُهَا شِعْرًا فِي مَدْحِ الْحَجَّاجِ فَقَالَتْ:
لَسْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا، إِنَّمَا أُرِيدُ كَذَا وَكَذَا. فَيُعْرِضُ عَنْ
ذَلِكَ، وَيَنْشُدُهَا فِي مَدْحِ الْحَجَّاجِ حَتَّى انْقَضَى الْمَجْلِسُ،
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لِلَّهِ دَرُّكَ، أَبَيْتَ إِلَّا كَرَمًا وَتَكَرُّمًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَنْشَدْتُ أَعْرَابِيًّا بَيْتًا لِجَرِيرٍ الْخَطَفَى:
أَبُدِّلَ اللَّيْلُ لَا تَجْرِي كَوَاكِبُهُ أَوْ طَالَ حَتَّى حَسِبْتُ
النَّجْمَ حَيْرَانَا
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: إِنَّ هَذَا حَسَنٌ فِي مَعْنَاهُ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنْ مِثْلِهِ، وَلَكِنِّي أَنْشُدُكَ فِي ضِدِّهِ مِنْ قَوْلِي:
وَلَيْلٍ لَمْ يُقَصِّرْهُ رُقَادٌ وَقَصَّرَهُ لَنَا وَصْلُ الْحَبِيبِ
نَعِيمُ الْحُبِّ أَوْرَقَ فِيهِ حَتَّى تَنَاوَلْنَا جَنَاهُ مِنْ قِرِيبِ
بِمَجْلِسِ لَذَّةٍ لَمْ نَقْفِ فِيهِ عَلَى شَكْوَى وَلَا عَيْبِ الذُّنُوبِ
فَحُلْنَا أَنْ نُقَطِّعَهُ بِلَفْظٍ فَتَرْجَمَتِ الْعُيونُ عَنِ الْقُلُوبِ
فَقُلْتُ لَهُ: زِدْنِي. قَالَ: أَمَّا مِنْ هَذَا فَحَسْبُكَ، وَلَكِنْ
أُنْشِدُكَ غَيْرَهُ. فَأَنْشَدَنِي:
وَكُنْتُ إِذَا عَقَدْتُ حِبَالَ قَوْمٍ صَحِبْتُهُمْ وَشِيمَتِيَ الْوَفَاءُ
فَأُحْسِنُ حِينَ يُحْسِنُ
مُحْسِنُوهُمْ وَأَجْتَنِبُ الْإِسَاءَةَ إِنْ أَسَاءُوا
أَشَاءُ سِوَى مَشِيئَتِهِمْ فَآتِي مَشِيئَتَهُمْ وَأَتْرُكُ مَا أَشَاءُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ جَرِيرٌ أَشْعَرَ مِنَ الْفَرَزْدَقِ عِنْدَ
الْجُمْهُورِ، وَأَفْخَرُ بَيْتٍ قَالَهُ جَرِيرٌ:
إِذَا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ حَسِبْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ غِضَابَا
قَالَ: وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ: مَنْ أَشْعَرُ النَّاسِ ؟ فَأَخَذَ بِيَدِهِ
وَأَدْخَلَهُ عَلَى أَبِيهِ، وَإِذَا هُوَ يَرْتَضِعُ مِنْ ثَدْيِ عَنْزٍ،
فَاسْتَدْعَاهُ فَنَهَضَ وَاللَّبَنُ يَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ جَرِيرٌ
لِلَّذِي سَأَلَهُ: أَتُبْصِرُ هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَتَعْرِفُهُ ؟
قَالَ: لَا. قَالَ: هَذَا أَبِي، وَإِنَّمَا يَشْرَبُ مِنْ ضَرْعِ الْعَنْزِ ;
لِئَلَّا يَحْلِبَهَا فَيَسْمَعَ جِيرَانُهُ حِسَّ الْحَلْبِ فَيَطْلُبُوا مِنْهُ
لَبَنًا، فَأَشْعُرُ النَّاسِ مَنْ فَاخَرَ بِهَذَا ثَمَانِينَ شَاعِرًا
فَغَلَبَهُمْ.
وَقَدْ كَانَ بَيْنَ جَرِيرٍ، وَالْفَرَزْدَقِ مُقَاوَلَاتٌ وَمُهَاجَاةٌ
كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ مَاتَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَةٍ.
قَالَهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالَ خَلِيفَةُ: مَاتَ
الْفَرَزْدَقُ، وَجَرِيرٌ بَعْدَهُ بِأَشْهُرٍ. وَقَالَ الصُّولِيُّ: مَاتَا فِي
سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ الْفَرَزْدَقُ قَبْلَ جَرِيرٍ
بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَقَالَ الْكُدَيْمِيُّ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَى رَجُلٌ
جَرِيرًا فِي الْمَنَامِ
بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي. فَقِيلَ: بِمَاذَا ؟ قَالَ:
بِتَكْبِيرَةٍ كَبَّرْتُهَا بِالْبَادِيَةِ. قِيلَ لَهُ: فَمَا فَعَلَ
الْفَرَزْدَقُ ؟ قَالَ: أَيْهَاتِ، أَهْلَكَهُ قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ. قَالَ
الْأَصْمَعِيُّ: لَمْ يَدَعْهُ فِي الْحَيَاةِ وَلَا فِي الْمَمَاتِ.
وَأَمَّا الْفَرَزْدَقُ:
فَاسْمُهُ هَمَّامُ بْنُ غَالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرِّ بْنِ أُدِّ
بْنِ طَابِخَةَ، أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبِي خَطَلٍ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْفَرَزْدَقِ، وَجَدُّهُ صَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ
صَحَابِيٌّ، وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
حَدَّثَ الْفَرَزْدَقُ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَفَدَ مَعَ أَبِيهِ عَلَيْهِ،
فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: ابْنِي وَهُوَ شَاعِرٌ. قَالَ: عَلِّمْهُ الْقُرْآنَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الشِّعْرِ. وَسَمِعَ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَرَآهُ
وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْعِرَاقِ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ، وَعَرْفَجَةَ بْنَ أَسْعَدَ، وَزُرَارَةَ بْنَ كَرْبٍ،
وَالطِّرَمَّاحَ بْنَ عَدِيٍّ الشَّاعِرَ.
وَرَوَى عَنْهُ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَمَرْوَانُ الْأَصْفَرُ، وَحَجَّاجُ بْنُ
حَجَّاجٍ الْأَحْوَلُ
وَجَمَاعَةٌ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ يَطْلُبُ مِيرَاثَ عَمِّهِ الْحُتَاتِ، وَعَلَى الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَلَى أَخِيهِ هِشَامٍ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنِ الْفَرَزْدَقِ قَالَ: نَظَرَ أَبُو
هُرَيْرَةَ إِلَى قَدَمِي فَقَالَ: يَا فَرَزْدَقُ إِنِّي أَرَى قَدَمَيْكَ
صَغِيرَتَيْنِ، فَاطْلُبْ لَهُمَا مَوْضِعًا فِي الْجَنَّةِ. فَقُلْتُ: إِنَّ
ذُنُوبِي كَثِيرَةٌ. فَقَالَ: لَا تَأْيَسْ ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ بِالْمَغْرِبِ بَابًا
مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ، لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ
مَغْرِبِهَا ".
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
الْفَرَزْدَقِ فَتَحَرَّكَ، فَإِذَا فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ !
فَقَالَ: حَلَفْتُ أَنْ لَا أَنْزِعَهُ حَتَّى أَحْفَظَ الْقُرْآنَ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْتُ بَدَوِيًّا أَقَامَ
بِالْحَضَرِ إِلَّا فَسَدَ لِسَانُهُ إِلَّا رُؤْبَةَ بْنَ الْعَجَّاجِ،
وَالْفَرَزْدَقَ، فَإِنَّهُمَا زَادَا عَلَى طُولِ الْإِقَامَةِ جِدَّةً وَحِدَّةً.
وَقَالَ رَاوِيَتُهُ أَبُو شَفْقَلٍ: طَلَّقَ الْفَرَزْدَقُ امْرَأَتَهُ
النَّوَارَ ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ فَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ
ثُمَّ نَدِمَ عَلَى طَلَاقِهَا وَإِشْهَادِهِ الْحَسَنَ عَلَى
ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
نَدِمْتُ نَدَامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمَّا غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوَارُ
وَكَانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْهَا كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرَارُ
فَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ يَدِي وَقَلْبِي لَكَانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الْخِيَارُ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا مَاتَتِ النَّوَارُ بِنْتُ
أَعْيَنَ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْمُجَاشِعِيُّ امْرَأَةُ الْفَرَزْدَقِ وَكَانَتْ قَدْ
أَوْصَتْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فَشَهِدَهَا أَعْيَانُ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْحَسَنُ عَلَى بَغْلَتِهِ وَالْفَرَزْدَقُ عَلَى بَعِيرِهِ
فَسَارَا، فَقَالَ الْحَسَنُ، لِلْفَرَزْدَقِ: مَاذَا يَقُولُ النَّاسُ ؟ قَالَ:
يَقُولُونَ: شَهِدَ هَذِهِ الْجِنَازَةَ الْيَوْمَ خَيْرُ النَّاسِ. يَعْنُونَكَ،
وَ: شَرُّ النَّاسِ. يَعْنُونِي. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا فِرَاسٍ لَسْتُ بِخَيْرِ
النَّاسِ، وَلَسْتَ بِشَرِّ النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا أَعْدَدْتَ
لِهَذَا الْيَوْمِ ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُنْذُ
ثَمَانِينَ سَنَةً. فَلَمَّا أَنْ صَلَّى عَلَيْهَا الْحَسَنُ مَالُوا إِلَى
قَبْرِهَا لِدَفْنِهَا، فَأَنْشَأَ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي أَشَدَّ مِنَ الْقَبْرِ
الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا
إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ
الْفَرَزْدَقَا
لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَنْ مَشَى إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ
الْقِلَادَةِ أَزْرَقَا
يُسَاقُ إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ مُسَرْبَلًا سَرَابِيلَ قَطْرَانٍ لِبَاسًا
مُخَرَّقَا
إِذَا شَرِبُوا فِيهَا الصَّدِيدَ
رَأَيْتَهُمْ يَذُوبُونَ مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا
قَالَ: فَبَكَى الْحَسَنُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ الْتَزَمَ الْفَرَزْدَقَ
وَقَالَ: لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ
أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ.
وَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: أَلَا تَخَافُ مِنَ اللَّهِ فِي قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ ؟
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَّهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أُبْصِرُ
بِهِمَا، فَكَيْفَ يُعَذِّبُنِي ؟ !
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ قَبْلَ جَرِيرٍ
بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: بِأَشْهُرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحَسَنُ، وَابْنُ سَيْرَيْنَ فَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَةَ كُلٍّ
مِنْهُمَا مَبْسُوطَةً فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ". وَحَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
فَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ
وَاسْمُهُ يَسَارٌ، أَبُو سَعِيدٍ الْبَصْرِيُّ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
وَيُقَالُ: مَوْلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ،
وَأُمُّهُ خَيْرَةُ مُوَلَّاةُ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَخْدُمُهَا، فَرُبَّمَا
أَرْسَلَتْهَا فِي الْحَاجَةِ فَتَشْتَغِلُ عَنْ وَلَدِهَا الْحَسَنِ وَهُوَ
رَضِيعٌ، فَتُشَاغِلُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِثَدْيِهَا، فَيَدُرُّ عَلَيْهِ
فَيَرْتَضِعُ مِنْهَا، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ تِلْكَ الْحِكْمَةَ وَالْعُلُومَ
الَّتِي أُوتِيَهَا الْحَسَنُ مِنْ بَرَكَةِ تِلْكَ الرَّضَاعَةِ مِنَ الثَّدْيِ
الْمَنْسُوبِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ كَانَ
وَهُوَ صَغِيرٌ تُخْرِجُهُ أُمُّهُ إِلَى الصَّحَابَةِ فَيَدْعُونَ لَهُ، وَكَانَ
فِي جُمْلَةِ مَنْ يَدْعُو لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: اللَّهُمَّ
فَقِّهْهُ
فِي الدِّينِ، وَحَبِّبْهُ إِلَى
النَّاسِ.
وَسُئِلَ مَرَّةً أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا عَنْهَا
مَوْلَانَا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ سَمِعَ وَسَمِعْنَا، فَحَفِظَ وَنَسِينَا.
وَقَالَ ابْنُ مُرَّةَ: إِنِّي لَأَغْبِطُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بِهَذَيْنِ
الشَّيْخَيْنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا جَالَسْتُ رَجُلًا فَقِيهًا إِلَّا رَأَيْتُ فَضْلَ
الْحَسَنِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ أَفْقَهَ مِنَ
الْحَسَنِ.
وَقَالَ أَيُّوبُ: كَانَ الرَّجُلُ يُجَالِسُ الْحَسَنَ ثَلَاثَ حِجَجٍ مَا
يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ ; هَيْبَةً لَهُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ لِرَجُلٍ يُرِيدُ قُدُومَ الْبَصْرَةِ: إِذَا نَظَرْتَ إِلَى
رَجُلٍ أَجْمَلِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْيَبِهِمْ فَهُوَ الْحَسَنُ فَأَقْرِئْهُ
مِنِّي السَّلَامَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا نَظَرَ إِلَى الْحَسَنِ
انْتَفَعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ وَلَمْ يَرَ عَمَلَهُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: مَا زَالَ
الْحَسَنُ يَعِي الْحِكْمَةَ حَتَّى نَطَقَ بِهَا، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ إِذَا
ذَكَرَهُ يَقُولُ: ذَاكَ الَّذِي يُشْبِهُ كَلَامُهُ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: قَالُوا: كَانَ الْحَسَنُ جَامِعًا لِلْعِلْمِ
وَالْعَمَلِ، عَالِمًا رَفِيعًا فَقِيهًا، ثِقَةً مَأْمُونًا، عَابِدًا نَاسِكًا،
كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، فَصِيحًا جَمِيلًا وَسِيمًا، وَقَدِمَ مَكَّةَ
فَأُجْلِسَ عَلَى سَرِيرٍ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَحَدَّثَهُمْ. وَكَانَ
فِيهِمْ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَطَاوُسٌ، وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ فَقَالُوا:
لَمْ نَرَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ.
قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: مَاتَ الْحَسَنُ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً
عَامَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، فِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ مِنْهَا، بَيْنَهُ وَبَيْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِائَةُ يَوْمٍ.
وَأَمَّا ابْنُ سِيرِينَ
فَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ
مَوْلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ النَّضْرِيِّ كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ سَبْيِ
عَيْنِ التَّمْرِ، أَسَرَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي جُمْلَةِ السَّبْيِ،
فَاشْتَرَاهُ أَنَسٌ ثُمَّ كَاتَبَهُ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ
الْأَخْيَارِ جَمَاعَةٌ؛ مُحَمَّدٌ هَذَا، وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ، وَمَعْبَدٌ،
وَيَحْيَى، وَحَفْصَةُ، وَكَرِيمَةُ وَكُلُّهُمْ تَابِعِيُّونَ ثِقَاةٌ
أَجِلَّاءُ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وُلِدَ مُحَمَّدٌ لِسَنَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ خِلَافَةِ
عُثْمَانَ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: هُوَ
أَصْدَقُ مَنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْبَشَرِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، عَالِمًا رَفِيعًا،
فَقِيهًا إِمَامًا، كَثِيرَ الْعِلْمِ وَرِعًا، وَكَانَ بِهِ صَمَمٌ.
وَقَالَ مُورِقُ الْعِجْلِيُّ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَفْقَهَ فِي وَرَعِهِ،
وَأَوْرَعَ فِي فِقْهِهِ مِنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَرْجَى النَّاسِ لِهَذِهِ
الْأُمَّةِ، وَأَشَدُّ النَّاسِ إِزْرَاءً عَلَى نَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: لَمْ أَرَ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ ثَلَاثَةٍ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ بِالْعِرَاقِ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ بِالْحِجَازِ وَرَجَاءِ بْنِ
حَيْوَةَ بِالشَّامِ وَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى حُرُوفِهِ.
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِذَاكَ الْأَصَمِّ. يَعْنِي مُحَمَّدَ
بْنَ سِيرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَجْرَأَ عَلَى الرُّؤْيَا مِنْهُ،
وَلَا أَجْبَنَ عَنْ فُتْيَا مِنْهُ.
وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَمْ يَكُنْ بِالْبَصْرَةِ أَعْلَمُ بِالْقَضَاءِ
مِنْهُ.
قَالُوا: وَمَاتَ فِي تَاسِعِ شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ الْحَسَنِ بِمِائَةِ يَوْمٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيُّ وَهُوَ تَابِعِيٌّ
جَلِيلٌ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِكُتُبِ الْأَوَائِلِ، وَهُوَ يُشْبِهُ كَعْبَ
الْأَحْبَارِ وَكَانَ لَهُ صَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَقْوَالٌ
حَسَنَةٌ وَحِكَمٌ وَمَوَاعِظُ، وَقَدْ بَسَطْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي كِتَابِنَا
" التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوفِّيَ بِصَنْعَاءَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، وَقَالَ
غَيْرُهُ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بِأَكْثَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ قَبْرَهُ فِي بُصْرَى بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: عُصْمٌ. وَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ أَصْلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى، وَغَزَا
سَعِيدُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى، حَتَّى بَلَغَ قَيْسَارِيَّةَ مِنْ
بِلَادِ الرُّومِ.
وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَشْرَسَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
السُّلَمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَوَلَّى عَلَيْهَا الْجُنَيْدَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيَّ وَوَلَّى الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَكَمِيَّ إِرْمِينِيَّةَ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ التُّرْكُ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ فَلَقِيَهُمُ الْحَارِثُ بْنُ
عَمْرٍو فَهَزَمَهُمْ، وَلَمَّا وَصَلَ الْجُنَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى
خُرَاسَانَ أَمِيرًا عَلَيْهَا، تَلَقَّتْهُ خُيُولُ الْأَتْرَاكِ مُنْهَزِمِينَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ، فَتَصَافُّوا وَاقْتَتَلُوا
قِتَالًا شَدِيدًا، وَطَمِعُوا فِيهِ وَفِيمَنْ مَعَهُ لِقِلَّتِهِمْ
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ، وَمَعَهُمْ مِلْكُهُمْ خَاقَانُ، فَكَادَ الْجُنَيْدُ
أَنْ يَهْلَكَ، ثُمَّ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، فَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً
مُنْكَرَةً، وَأَسَرَ ابْنَ أَخِي مَلِكِهِمْ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ وَهُوَ
أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ، وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ
وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ الْجُنَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُرِّيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ.
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ فَافْتَتَحَ حُصُونًا مِنْ
نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ.
وَفِيهَا سَارَتِ التُّرْكُ مِنَ اللَّانِ فَلَقِيَهُمُ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَكَمِيُّ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَذْرَبِيجَانَ
فَاقْتَتَلُوا قَبْلَ أَنْ يَتَكَامَلَ إِلَيْهِ جَيْشُهُ، فَاسْتُشْهِدَ
الْجَرَّاحُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ بِمَرْجِ أَرْدَبِيلَ وَأَخَذَ
الْعَدُوُّ أَرْدَبِيلَ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بَعَثَ سَعِيدَ بْنَ عَمْرٍو الْحَرَشِيَّ فِي جَيْشٍ سَرِيعًا، فَلَحِقَ
التُّرْكَ وَهُمْ يَسِيرُونَ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ إِلَى نَحْوِ مِلْكِهِمْ
خَاقَانَ، فَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنْ
أَهْلِ الذِّمَّةِ أَيْضًا، وَقَتَلَ فِي التُّرْكِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا،
وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَقَتَلَهُمْ صَبْرًا، وَشَفَى مَا كَانَ
تَغَلَّثَ مِنَ الْقُلُوبِ، وَلَمْ يَكْتَفِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بِذَلِكَ حَتَّى أَرْسَلَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَثَرِ
التُّرْكِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ وَشِتَاءٍ عَظِيمٍ، فَوَصَلَ
إِلَى بَابِ الْأَبْوَابِ، وَاسْتَخْلَفَ عِنْدَهُ أَمِيرًا، وَسَارَ هُوَ بِمَنْ
مَعَهُ فِي طَلَبِ الْأَتْرَاكِ وَمَلِكِهِمْ خَاقَانَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ
مَعَهُمْ مَا سَنَذْكُرُهُ، وَنَهَضَ أَمِيرُ خُرَاسَانَ فِي طَلَبِ الْأَتْرَاكِ
أَيْضًا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَوَصَلَ إِلَى نَهْرِ بَلْخَ وَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ
سِرِّيَّةً ; ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأُخْرَى عَشَرَةَ آلَافٍ يُمْنَةً
وَيُسْرَةً،
وَجَاشَتِ التُّرْكُ فَأَتَوْا
سَمَرْقَنْدَ، فَكَتَبَ أَمِيرُهُمْ إِلَيْهِ يُعْلِمُهُ بِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا
يَقْدِرُ عَلَى صَوْنِ سَمَرْقَنْدَ مِنْهُمْ، وَمَعَهُمْ مِلْكُهُمُ الْأَعْظَمُ
خَاقَانُ، فَالْغَوْثَ الْغَوْثَ. فَسَارَ الْجُنَيْدُ مُسْرِعًا فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ نَحْوَ سَمَرْقَنْدَ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى شِعْبِ سَمَرْقَنْدَ، وَبَقِيَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، فَصَبَّحَهُ خَاقَانُ فِي جَمْعٍ
عَظِيمٍ، فَحَمَلَ خَاقَانُ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْجُنَيْدِ فَانْحَازُوا إِلَى
الْعَسْكَرِ، وَالتُّرْكُ تَتْبَعُهُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَتَرَاءَى
الْجَمْعَانِ وَالْمُسْلِمُونَ يَتَغَدَّوْنَ، وَلَا يَشْعُرُونَ بِانْهِزَامِ
مُقَدِّمَتِهِمْ وَانْحِيَازِهَا إِلَيْهِمْ، فَنَهَضُوا إِلَى السِّلَاحِ،
وَاصْطَفَوْا عَلَى مَنَازِلِهِمْ، وَذَلِكَ فِي مَجَالٍ وَاسِعٍ، وَمَكَانٍ
بَارِزٍ فَالْتَقَوْا، فَحَمَلَتِ التُّرْكُ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَفِيهَا بَنُو
تَمِيمٍ وَالْأَزْدُ فَقُتِلَ مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ
أَرَادَ اللَّهُ كَرَامَتَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ بَرَزَ بَعْضُ شُجْعَانِ
الْمُسْلِمِينَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ شُجْعَانِ التُّرْكِ فَقَتَلَهُمْ، فَنَادَاهُ
تُرْجُمَانُ الْمَلِكِ: إِنْ صِرْتَ إِلَيْنَا جَعَلْنَاكَ فِيمَنْ يَرْفُضُ
الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ فَنَعْبُدُكَ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! إِنَّمَا
أُقَاتِلُكُمْ عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. ثُمَّ
قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ تَنَاخَى الْمُسْلِمُونَ، وَتَدَاعَتِ الْأَبْطَالُ وَالشُّجْعَانُ مِنْ
كُلِّ مَكَانٍ، وَصَبَرُوا وَصَابَرُوا، وَحَمَلُوا عَلَى التُّرْكِ حَمْلَةَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا، ثُمَّ عَطَفَتِ التُّرْكُ عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
خَلْقًا حَتَّى لَمْ يَبْقَ سِوَى أَلْفَيْنِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ سَوْدَةُ بْنُ أَبْجَرَ وَاسْتَأْسَرُوا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً، فَحَمَلُوهُمْ إِلَى الْمَلِكِ خَاقَانَ،
فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَهَذِهِ الْوَقْعَةُ يُقَالُ لَهَا: وَقْعَةُ الشِّعْبِ. وَقَدْ بَسَطَهَا ابْنُ
جَرِيرٍ جَدًّا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ الْكِنْدِيُّ
أَبُو الْمِقْدَامِ وَيُقَالُ: أَبُو نَصْرٍ. وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، كَبِيرُ
الْقَدْرِ ثِقَةٌ فَاضِلٌ عَادِلٌ، وَزِيرُ صِدْقٍ لِخُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ
وَكَانَ مَكْحُولٌ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: سَلُوا شَيْخَنَا وَسَيِّدَنَا رَجَاءَ
بْنَ حَيْوَةَ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ،
وَوَثَّقُوهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ وَكَلَامٌ حَسَنٌ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيُّ الْحِمْصِيُّ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ دِمَشْقِيٌّ. تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ مَوْلَاتِهِ
أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ وَغَيْرِهَا، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ عَالِمًا عَابِدًا نَاسِكًا،
لَكِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ بِسَبَبِ أَخْذِهِ خَرِيطَةً مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، فَعَابُوهُ وَنَزَكُوا عِرْضَهُ،
وَتَرَكُوا حَدِيثَهُ، وَأَنْشَدُوا فِيهِ الشِّعْرَ، مِنْهُمْ شُعْبَةُ
وَغَيْرُهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَرَقَ غَيْرَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
وَثَّقَهُ جَمَاعَاتٌ آخَرُونَ وَقَبِلُوا رِوَايَتَهُ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ
وَعَلَى عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَقَالُوا: لَا يَقْدَحُ فِي
رِوَايَتِهِ مَا أَخَذَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إِنْ صَحَّ عَنْهُ. وَقَدْ كَانَ
وَالِيًا عَلَيْهِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ شَهْرٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. أَعْنِي سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ مِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ أَرْضَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةِ
مَرْعَشَ.
وَفِيهَا صَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَى خُرَاسَانَ
وَانْتَشَرُوا فِيهَا، وَقَدْ أَخَذَ أَمِيرُهُمْ رَجُلًا مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ،
وَتَوَعَّدَ غَيْرَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَغَلَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي بِلَادِ التُّرْكِ فَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأُمَمًا مُنْتَشِرَةً، حَتَّى قَتَلَ ابْنَ خَاقَانَ
وَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَدَانَتْ لَهُ تِلْكَ الْمَمَالِكُ مِنْ نَاحِيَةِ
بَلَنْجَرَ وَأَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَأَبُو مَعْشَرٍ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُنَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِيهَا كَانَ مَهْلِكُ
الْأَمِيرِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ
وَهُوَ مَعَ الْبَطَّالِ عَبْدِ اللَّهِ بِأَرْضِ الرُّومِ. قُتِلَ شَهِيدًا،
وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ
أَبُو عُبَيْدَةَ وَيُقَالُ: أَبُو بَكْرٍ. مَوْلَى آلِ مَرْوَانَ، مَكِّيٌّ
سَكَنَ الشَّامَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَعَنْهُ خَلْقٌ
مِنْهُمْ أَيُّوبُ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ.
حَدِيثُهُ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ
مَقَالَتِي هَذِهِ فَوَعَاهَا، ثُمَّ بَلَّغَهَا غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ
إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ
مُؤْمِنٍ ; إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ،
وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ
وَرَائِهِمْ ".
وَرَوَى عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا لَقِيَ
أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ
ثُمَّ لَقِيَهُ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ. وَقَدْ وَثَّقَ عَبْدَ الْوَهَّابِ هَذَا
جَمَاعَاتٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ كَثِيرَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْغَزْوِ حَتَّى
اسْتُشْهِدَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِمَا فِي رَحْلِهِ مِنْ رُفَقَائِهِ. وَكَانَ
سَمْحًا جَوَادًا، اسْتُشْهِدَ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ الْأَمِيرِ
أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَطَّالِ وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ خَلِيفَةُ وَغَيْرُهُ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَقِيَ
الْعَدُوَّ، فَفَرَّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ يُنَادِي وَيَرْكُضُ
فَرَسَهُ نَحْوَ الْعَدُوِّ ; أَنْ هَلُمُّوا إِلَى الْجَنَّةِ، وَيْحَكُمْ !
أَتَفِرُّونَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ ! ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ،
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، كَبِيرُ الْقَدْرِ، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ فِي زَمَانِهِ،
وَكَانَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ هُذَيْلٍ وَقِيلَ: مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنْ آلِ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ. وَكَانَ نُوبِيًّا. وَقِيلَ: مِنْ سَبْيِ كَابُلَ.
وَقِيلَ: كَانَ مِنَ الْأَبْنَاءِ، مِنْ سُلَالَةِ الْأَكَاسِرَةِ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا نَسَبَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: طُفْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا
فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
بِالْحِجَازِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِالْبَصْرَةِ وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ
وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: قُلْ. وَإِنَّمَا
يَقُولُ: كُلْ. وَكَانَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، مَهْمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ
شَيْءٍ يُفْعَلْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: كَانَ أَفْقَهَ أَهْلِ الشَّامِ وَكَانَ
أَفْقَهَ مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: بَعْدَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى، وَعَلَى
الْيُمْنَى سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَفِيهَا الْتَقَى
عَبْدُ اللَّهِ الْبَطَّالُ وَمَلِكُ الرُّومِ الْمُسَمَّى فِيهِمْ قُسْطَنْطِينَ
وَهُوَ ابْنُ هِرَقْلَ الْأَوَّلِ الَّذِي كَتَبَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسَرَهُ الْبَطَّالُ فَأَرْسَلَهُ إِلَى
سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ فَسَارَ بِهِ إِلَى أَبِيهِ.
وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ عَنْ إِمْرَةِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ
مُحَمَّدَ بْنَ هِشَامٍ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي قَوْلٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: إِنَّمَا حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
الْفِهْرِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ أَحَدُ كِبَارِ
التَّابِعِينَ الثِّقَاتِ الرُّفَعَاءِ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَدْرَكَ مِائَتَيْ
صَحَابِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: سَمِعْتُ بَعْضَ
أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: كَانَ عَطَاءٌ أُسُودَ، أَعْوَرَ، أَفْطَسَ، أَشَلَّ،
أَعْرَجَ، ثُمَّ عَمِيَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً فَقِيهًا عَالِمًا كَثِيرَ
الْحَدِيثِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ فِي
زَمَانِهِ أَعْلَمَ بِالْمَنَاسِكِ مِنْهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: وَكَانَ قَدْ
حَجَّ سَبْعِينَ حِجَّةً، وَعَمَّرَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
يُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ ; مِنَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ، وَيَفْدِي عَنْ
إِفْطَارِهِ، وَيَتَأَوَّلَ الْآيَةَ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ [ الْبَقَرَةِ: 184 ].
وَكَانَ يُنَادِي مُنَادِي بَنِي أُمَيَّةَ فِي أَيَّامِ مِنًى: لَا يُفْتِي
النَّاسُ فِي الْحَجِّ إِلَّا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: مَا رَأَيْتُ فِيمَنْ لَقِيتُ أَفْقَهَ
مِنْهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَاتَ عَطَاءٌ يَوْمَ مَاتَ وَهُوَ أَرْضَى أَهْلِ
الْأَرْضِ عِنْدَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَ الْمَسْجِدُ فِرَاشَ عَطَاءٍ عِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَلَاةً.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ،
وَعَطَاءٌ هَؤُلَاءِ
أَئِمَّةَ الْأَمْصَارِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحَدِّثُنِي بِالْحَدِيثِ فَأُنْصِتُ لَهُ
كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ.
الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ
فَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ بِالشَّامِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ
هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ.
وَالنُّوَّابُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ.
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ وَأُمُّهُ أُمُّ عَبْدِ
اللَّهِ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ،
كَثِيرُ الْعِلْمِ، أَحَدُ أَعْلَامِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عِلْمًا وَعَمَلًا
وَعِبَادَةً وَنَسَبًا وَشَرَفًا، وَهُوَ أَحَدُ مَنْ تَدَّعِي فِيهِ طَائِفَةُ
الشِّيعَةِ أَنَّهُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلَمْ يَكُنِ
الرَّجُلُ عَلَى طَرِيقِهِمْ وَلَا عَلَى مِنْوَالِهِمْ، وَلَا يَدَيْنُ بِمَا
وَقَعَ فِي أَذْهَانِهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ وَخَيَالِهِمْ، بَلْ كَانَ مِمَّنْ
يُقَدِّمُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَذَلِكَ عِنْدَهُ صَحِيحٌ فِي الْأَثَرِ،
وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي إِلَّا وَهُوَ
يَتَوَلَّاهُمَا. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ
وَغَيْرِهِمْ، فَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ
; ابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَرَبِيعَةُ،
وَالْأَعْمَشُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالْأَعْرَجُ - وَهُوَ أَسَنُّ مِنْهُ -
وَابْنُ جُرَيْحٍ، وَعَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَأَبُو
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبِي وَكَانَ خَيْرَ مُحَمَّدِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ.
وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: هُوَ مَدَنِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي قَوْلٍ. وَقِيلَ: فِي الَّتِي
قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. أَوْ فِي الَّتِي هِيَ بَعْدَهَا أَوْ
بَعْدَ بَعْدِهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَقِيلَ:
لَمْ يُجَاوِزِ السِّتِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ وَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ
بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَكَانَ مُعْظَمُ ذَلِكَ فِي وَاسِطَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْجُنَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمُرِّيُّ أَمِيرُ خُرَاسَانَ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ فِي بَطْنِهِ، وَكَانَ قَدْ
تَزَوَّجَ الْفَاضِلَةَ بِنْتَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَتَغْضَّبَ عَلَيْهِ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَعَزَلَهُ وَوَلَّى
مَكَانَهُ عَاصِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى خُرَاسَانَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ
أَدْرَكْتَهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَأَزْهِقْ رُوحَهُ. فَمَا قَدِمَ عَاصِمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ حَتَّى مَاتَ الْجُنَيْدُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا
بِمُرْوَ وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو الْجُوَيْرِيَّةِ عِيسَى بْنُ عَصَبَةَ
يَرْثِيهِ:
هَلَكَ الْجُودُ وَالْجُنَيْدُ جَمِيعًا فَعَلَى الْجُودِ وَالْجُنَيْدِ
السَّلَامُ أَصْبَحَا ثَاوِيَيْنِ فِي بَطْنِ مَرْوَ
مَا تَغَنَّى عَلىَ الْغُصُونِ الْحَمَامُ كُنْتُمَا نُزْهَةَ الْكِرَامِ فَلَمَّا
مِتَّ مَاتَ النَّدَى وَمَاتَ الْكِرَامُ
وَلَمَّا قَدِمَ عَاصِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ أَخَذَ نُوَّابَ
الْجُنَيْدِ بِالضَّرْبِ الْبَلِيغِ وَأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَعَسَفَهُمْ فِي
الْمُصَادَرَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، فَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ الْحَارِثُ بْنُ
سُرَيْجٍ وَبَارَزَهُ بِالْحَرْبِ،
وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ هُزِمَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ
الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ وَظَهَرَ عَاصِمٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ وَلِيُّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ عَمِّهِ هِشَامِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُسْرَى وَسُلَيْمَانُ
بْنُ هِشَامٍ الصَّائِفَةَ الْيُمْنَى.
وَفِيهَا بَعَثَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ - وَهُوَ عَلَى إِرْمِينِيَّةَ -
بَعْثَيْنِ، فَفَتَحَ حُصُونًا مِنْ بِلَادِ اللَّانِ وَنَزَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ
عَلَى الْإِيمَانِ.
وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ عَاصِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيَّ عَنْ إِمْرَةِ
خُرَاسَانَ، وَضَمَّهَا إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ مَعَ
الْعِرَاقِ مُعَادَةً إِلَيْهِ، جَرْيًا عَلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ الْعَادَةِ ;
وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ كِتَابِ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيِّ: إِنَّ
وِلَايَةَ خُرَاسَانَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا مَعَ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ. فَأَجَابَهُ
هِشَامٌ إِلَى ذَلِكَ قَبُولًا لِنَصِيحَتِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السَّدُوسِيُّ أَبُو الْخَطَّابِ الْبَصْرِيُّ
الْأَعْمَى أَحَدُ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْعَامِلِينَ، رَوَى
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى، وَعَطَاءٌ،
وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَمَسْرُوقٌ، وَأَبُو مِجْلَزٍ
وَغَيْرُهُمْ. وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْكِبَارِ كَأَيُّوبَ،
وَحَمَّادِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي
عَرُوبَةَ
وَالْأَعْمَشِ، وَشُعْبَةَ،
وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَمِسْعَرٍ، وَمَعْمَرٍ، وَهَمَّامٍ.
قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: مَا جَاءَنِي عِرَاقِيٌّ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَقَالَ
بَكْرٌ الْمُزْنِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحْفَظَ مِنْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ: هُوَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ. وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: كَانَ
قَتَادَةُ إِذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ يَأْخُذُهُ الْعَوِيلُ وَالزَّوِيلُ حَتَّى
يَحْفَظَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مَكْحُولٍ. وَقَالَ
مَعْمَرٌ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَحَمَّادٍ، وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا سَمِعْتُ شَيْئًا إِلَّا وَعَاهُ قَلْبِي.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ أَحْفَظُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، لَا يَسْمَعُ
شَيْئًا إِلَّا حَفِظَهُ، وَقُرِئَ عَلَيْهِ صَحِيفَةُ جَابِرٍ مَرَّةً وَاحِدَةً
فَحَفِظَهَا، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَذُكِرَ يَوْمًا، فَأَثْنَى عَلَى
عِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالِاخْتِلَافِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ. وَقَالَ: قَلَّمَا تَجِدُ مَنْ يَتَقَدَّمُهُ، أَمَّا الْمِثْلُ فَلَعَلَّ
!
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِوَاسِطَ فِي الطَّاعُونِ - يَعْنِي
فِي هَذِهِ السَّنَةِ - وَعُمْرُهُ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْحُبَابِ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، وَالْأَعْرَجُ،
وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
زَكَرِيَّا الْخُزَاعِيُّ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ، وَمُوسَى بْنُ وَرْدَانَ.
وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَقِيلَ:
مِنْ نَيْسَابُورَ. وَقِيلَ: مِنْ كَابُلَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. رَوَى عَنْ
مَوْلَاهُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ; مِثْلَ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ
سَلَمَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ،
وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ النُّبَلَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَجِلَّاءِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ
عُمَرَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَدْ بَعَثَهُ
إِلَى مِصْرَ يُعَلِّمُ النَّاسَ السُّنَنَ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَوَثَّقُوهُ. وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ.
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ:
ذُو الرُّمَّةِ الشَّاعِرُ
وَاسْمُهُ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ بُهَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ
أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ
أَبُو الْحَارِثِ أَحَدُ فُحُولِ
الشُّعَرَاءِ، وَلَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَكَانَ يَتَغَزَّلُ فِي مَيَّةَ بِنْتِ
مُقَاتِلِ بْنِ طَلَبَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ وَكَانَتْ
جَمِيلَةً، وَكَانَ هُوَ دَمِيمَ الْخَلْقِ، أَسْوَدَ اللَّوْنَ، وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا فُحْشٌ وَلَا خَنَا، وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا قَطُّ وَلَا رَأَتْهُ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ تَسْمَعُ بِهِ وَيَسْمَعُ بِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ
تَنْذُرُ إِنْ هِيَ رَأَتْهُ أَنْ تَذْبَحَ جَزُورًا، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ:
وَاسَوْأَتَاهُ وَاسَوْأَتَاهُ. وَلَمْ تُبْدِ لَهُ وَجْهَهَا قَطُّ إِلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ مِنْ حَلَاوَةٍ وَتَحْتَ الثِّيَابِ الْعَارُ لَوْ
كَانَ بَادِيَا
قَالَ: فَانْسَلَخَتْ مِنْ ثِيَابِهَا، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَاءَ يَخْبُثُ طَعْمُهُ وَإِنْ كَانَ لَوْنُ الْمَاءِ
أَبْيَضَ صَافِيَا
فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ تَذُوقَ طَعْمَهُ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ. فَقَالَتْ:
تَذُوقُ الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ تَذُوقَهُ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فَوَاضَيْعَةَ الشِّعْرِ الَّذِي لَجَّ وَانْقَضَى بِمَيٍّ وَلَمْ أَمْلِكْ
ضَلَالَ فُؤَادِيَا
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَمِنْ شَعْرِهِ السَّائِرِ بَيْنَ النَّاسِ
مَا أَنْشَدَهُ:
إِذَا هِبَّتِ الْأَرْوَاحُ مِنْ نَحْوِ جَانِبٍ بِهِ أَهْلُ مَيٍّ هَاجَ قَلْبِي
هُبُوبُهَا
هَوًى تَذْرِفُ الْعَيْنَانِ مِنْهُ وَإِنَّمَا
هَوَى كُلِّ نَفْسٍ أَيْنَ حَلَّ حَبِيبُهَا
وَأَنْشَدَ عِنْدَ الْمَوْتِ:
يَا قَابِضَ الرُّوحِ عَنْ نَفْسِي إِذَا احْتُضِرَتْ وَغَافِرَ الذَّنْبِ
زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا مُعَاوِيَةُ، وَسُلَيْمَانُ ابْنَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ.
وَفِيهَا قَصَدَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ: عَمَّارُ بْنُ يَزِيدَ. ثُمَّ تَسَمَّى
بِخِدَاشٍ إِلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ فَدَعَا النَّاسَ إِلَى خِلَافَةِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَاسْتَجَابَ لَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، فَلَمَّا الْتَفُّوا عَلَيْهِ دَعَاهُمْ إِلَى مَذْهَبِ الْخُرَّمِيَّةِ
الزَّنَادِقَةِ وَأَبَاحَ لَهُمْ نِسَاءَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَزَعَمَ لَهُمْ
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّوْلَةَ، فَأُخِذَ فَجِيءَ بِهِ إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَمِيرِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ
يَدُهُ وَسُلَّ لِسَانُهُ ثُمَّ صُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْمَخْزُومِيُّ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَقِيلَ: إِنَّ
إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ كَانَتْ مَعَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عُزِلَ، وَوُلِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ
هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَكَانَتْ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ إِلَى خَالِدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ وَأَعْمَالِهَا
أَخُوهُ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ، أَبُو الْحَسَنِ وَيُقَالُ:
أَبُو مُحَمَّدٍ، وَأُمُّهُ زُرْعَةُ بِنْتُ مِشْرَحِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ
الْكَنَدِيِّ - أَحَدِ الْمُلُوكِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ
الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَهُمْ مِشْرَحٌ، وَجَمْدٌ، وَمِخْوَسٌ، وَأَبْضَعَةُ
وَأُخْتُهُمُ الْعَمَرَّدَةُ - وَكَانَ مَوْلِدُ عَلِيٍّ هَذَا يَوْمَ قُتِلَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَسَمَّاهُ أَبُوهُ بِاسْمِهِ، وَكَنَّاهُ
بِكُنْيَتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ عَلِيٍّ وَهُوَ الَّذِي
سَمَّاهُ وَكَنَّاهُ، وَلَقَّبَهُ بِأَبِي الْأَمْلَاكِ.
فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى
السَّرِيرِ، وَسَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ
وَلَدٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وُلِدَ لِي وَلَدٌ سَمَّيْتُهُ مُحَمَّدًا. فَقَالَ لَهُ:
أَنْتَ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَأَجْزَلَ عَطِيَّتَهُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ هَذَا فِي غَايَةِ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَالْعِلْمِ
وَالْعَمَلِ، وَحُسْنِ الشَّكْلِ، وَالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ، كَانَ يُصَلِّي فِي
كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ. قَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ
الْفَلَّاسُ: كَانَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْحَمِيمَةِ
مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ لُبَابَةَ بِنْتَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الَّتِي كَانَتْ
تَحْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ وَطَلَّقَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ وَكَانَ سَبَبُ طَلَاقِهِ إِيَّاهَا
أَنَّهُ عَضَّ تُفَّاحَةً ثُمَّ رَمَى بِهَا إِلَيْهَا، فَأَخَذَتِ السِّكِّينَ،
فَحَزَّتْ مِنَ التُّفَّاحَةِ مَا مَسَّ فَمَهُ مِنْهَا، فَقَالَ: وَلِمَ
تَفْعَلِينَ هَذَا ؟ فَقَالَتْ: أُزِيلُ الْأَذَى عَنْهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ
عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ أَبْخَرَ، فَطَلَّقَهَا، فَلَمَّا تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ هَذَا نَقَمَ عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ ذَلِكَ، فَضَرَبَهُ بِالسِّيَاطِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ
تُذِلَّ بَنِيهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ. وَضَرَبَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً ; لِأَنَّهُ
اشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الْخِلَافَةَ صَائِرَةٌ إِلَى بَنِيهِ.
فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَمَعَهُ ابْنَا ابْنِهِ السَّفَّاحُ، وَالْمَنْصُورُ وَهُمَا صَغِيرَانِ، فَأَكْرَمَهُ
هِشَامٌ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا،
وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُوصِيهِ بِابْنَيْهِ خَيْرًا، وَيَقُولُ:
إِنَّهُمَا سَيَلِيَانِ الْأَمْرَ. فَجَعَلَ هِشَامٌ يَتَعَجَّبُ مِنْ سَلَامَةِ
بَاطِنِهِ، وَيَنْسُبُهُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْحُمْقِ، فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا
قَالَ.
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَتَمَامِ الْقَامَةِ،
كَانَ بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ رَاكِبٌ، وَكَانَ إِلَى مَنْكِبِ أَبِيهِ عَبْدِ
اللَّهِ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى مَنْكِبِ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ وَكَانَ
الْعَبَّاسُ إِلَى مَنْكِبِ أَبِيهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ بَايَعَ كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ
بِسَنَوَاتٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أَمْرُهُ حَتَّى مَاتَ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ وَكَانَ
ظُهُورُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ: عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ نَسِيٍّ، وَأَبُو صَخْرَةَ جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، وَأَبُو عُشَّانَةَ الْمَعَافِرِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ الْعَبْسِيُّ أَرْضَ الرُّومِ.
وَفِيهَا قَتَلَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ مَلِكَ التُّرْكِ
الْأَعْظَمَ خَاقَانَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
أَمِيرَ خُرَاسَانَ عَمِلَ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
عَلَى الْعِرَاقِ ثُمَّ سَارَ بِجُيُوشِهِ إِلَى مَدِينَةِ خُتَّلَ
فَافْتَتَحَهَا، وَتَفَرَّقَتْ فِي أَرْضِهَا جُنُودُهُ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ
وَيَغْنَمُونَ، فَجَاءَتِ الْعُيُونُ إِلَى مَلِكِ التُّرْكِ خَاقَانَ أَنَّ
جَيْشَ أَسَدٍ قَدْ تَفَرَّقَ فِي بِلَادِ خُتَّلَ فَاغْتَنَمَ خَاقَانُ هَذِهِ
الْفُرْصَةَ، فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ فِي جُنُودِهِ قَاصِدًا إِلَى أَسَدٍ
وَتَزَوَّدَ خَاقَانُ وَأَصْحَابُهُ سِلَاحًا كَثِيرًا، وَقَدِيدًا وَمِلْحًا،
وَسَارُوا فِي خَلْقٍ عَظِيمٍ، وَجَاءَتِ الْعَيْنُ الصَّافِيَةُ إِلَى أَسَدٍ
فَأَعْلَمُوهُ بِقَصْدِ خَاقَانَ لَهُ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ كَثِيفٍ، فَتَجَهَّزَ
لِذَلِكَ، وَأَخَذَ أُهْبَتَهُ، فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى أَطْرَافِ
جَيْشِهِ فَلَمَّهَا عَلَيْهِ، وَأَشَاعَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ خَاقَانَ قَدْ
هَجَمَ عَلَى أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ ; لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ
خِذْلَانٌ لِأَصْحَابِهِ فَلَا يَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَهُمْ
فِي نُحُورِهِمْ، وَجَعَلَ تَدْمِيرَهُمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ أَخَذَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ،
وَازْدَادُوا حَنَقًا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى الْأَخْذِ بِالثَّأْرِ
فَقَصَدُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ أَسَدٌ فَإِذَا هُوَ حَيٌّ قَدِ اجْتَمَعَتْ
عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَسَارَ أَسَدٌ نَحْوَ خَاقَانَ حَتَّى
أَتَى جَبَلَ الْمِلْحِ وَأَرَادَ أَنْ يَخُوضَ
نَهْرَ بَلْخَ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ، فَكَرِهَ أَسَدٌ أَنْ يَتْرُكَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَأَمَرَ كُلَّ فَارِسٍ أَنْ يَحْمِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَاةً عَلَى عُنُقِهِ، وَتَوعَّدَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَحَمَلَ هُوَ مَعَهُ شَاةً، وَخَاضُوا النَّهْرَ، فَمَا خَلَصُوا مِنْهُ جِيدًا حَتَّى دَهَمَهُمْ خَاقَانُ مِنْ وَرَائِهِمْ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ، فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوهُ لَمْ يَقْطَعِ النَّهْرَ وَبَعْضَ الضَّعْفَةِ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ أَحْجَمُوا، وَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ إِلَيْهِمُ النَّهْرَ، فَتَشَاوَرَ الْأَتْرَاكُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَحْمِلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً - وَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا - فَيَقْتَحِمُوا النَّهْرَ، فَضَرَبُوا بِكُوسَاتِهِمْ ضَرْبًا شَدِيدًا، حَتَّى ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، ثُمَّ رَمَوْا بِأَنْفُسِهِمْ فِي النَّهْرِ رَمْيَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَجَعَلَتْ خُيُولُهُمْ تَنْخِرُ أَشَدَّ النَّخِيرِ، وَخَرَجُوا مِنْهُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ خَنْدَقُوا حَوْلَهُمْ خَنْدَقًا لَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، فَبَاتَ الْجَيْشَانِ تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مَالَ خَاقَانُ عَلَى بَعْضِ الْجَيْشِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرَ أُمَمًا، وَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَإِبِلًا مُوْقَرَةً، ثُمَّ إِنَّ الْجَيْشَيْنِ تَوَاجَهُوا فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، حَتَّى خَافَ جَيْشُ أَسَدٍ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْعِيدِ، فَمَا صَلَّوْهَا إِلَّا عَلَى وَجَلٍ، ثُمَّ سَارَ أَسَدٌ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ مَرْجَ بَلْخَ، حَتَّى انْقَضَى الشِّتَاءُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى خَطَبَ أَسَدٌ النَّاسَ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِي لِقَاءِ خَاقَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَتَحَصَّنُ بِبَلْخَ وَنَبْعَثُ إِلَى خَالِدٍ وَالْخَلِيفَةِ. وَمِنْ قَائِلٍ يُشِيرُ بِالذَّهَابِ إِلَى مَرْوَ، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِمُلْتَقَاهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ رَأْيُ أَسَدِ الْأُسْدِ، فَقَصَدَ بِجَيْشِهِ نَحْوَ
خَاقَانَ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا، ثُمَّ دَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ: نُصِرْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثَلَاثًا. ثُمَّ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْتَقَتْ مُقَدِّمَتُهُ بِمُقَدَّمَةِ خَاقَانَ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرُوا أَمِيرَهُمْ وَسَبْعَةَ أُمَرَاءَ مَعَهُ، ثُمَّ سَاقَ أَسَدٌ فَانْتَهَى إِلَى أَغْنَامِهِمْ فَاسْتَاقَهَا، فَإِذَا هِيَ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ شَاةٍ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَهُمْ، وَكَانَ خَاقَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِنَّمَا مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ نَحْوُهَا، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ خَامَرَ إِلَيْهِ، يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ فَهُوَ يَدُلُّهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا اقْتَتَلَ النَّاسُ هَرَبَتِ الْأَتْرَاكُ فِي كُلِّ جَانِبٍ، وَانْهَزَمَ خَاقَانُ، وَمَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ الْمَذْكُورُ يَحْمِيهِ وَيُثَبِّتُهُ، فَتَبِعَهُمْ أَسَدٌ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ انْخَذَلَ خَاقَانُ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِمُ الْخَزُّ، وَمَعَهُمُ الْكُوسَاتُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ أَمَرَ بِالْكُوسَاتِ فَضُرِبَتْ ضَرْبَ الِانْصِرَافِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الِانْصِرَافَ، فَتَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ، فَاحْتَاطُوا عَلَى مُعَسْكَرِهِمْ، فَاحْتَازُوهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَوَانِي مِنَ النَّقْدِ، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمَاتِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، لِكَثْرَتِهِ وَعِظَمِ قِيمَتِهِ وَحُسْنِهِ، غَيْرَ أَنَّ خَاقَانَ كَانَ قَدْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ بِخِنْجَرٍ فَقَتَلَهَا، فَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ تَتَحَرَّكُ، وَوَجَدُوا قُدُورَهُمْ تَغْلِي بِأَطْعِمَاتِهِمْ، وَهَرَبَ خَاقَانُ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ الْمُدُنِ، فَتَحَصَّنَ بِهَا، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ لَعِبَ بِالنَّرْدِ مَعَ بَعْضِ أُمَرَائِهِ،
فَغَلَبَهُ الْأَمِيرُ، فَتَوَعَّدَهُ
خَاقَانُ بِقَطْعِ الْيَدِ، فَحَنِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، ثُمَّ عَمِلَ
عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَتِ الْأَتْرَاكُ فِرَقًا يَعْدُو
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَبَعَثَ أَسَدٌ إِلَى
أَخِيهِ خَالِدٍ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِخَاقَانَ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِطَوْقِ خَاقَانَ، وَشَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ حَوَاصِلِهِ
وَأَمْتِعَتِهِ، فَوَفَّدَهَا خَالِدٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامٍ
فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا جِدًّا، وَأَطْلَقَ لِلرُّسُلِ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً كَثِيرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي
أَسَدٍ يَمْدَحُهُ عَلَى ذَلِكَ:
لَوْ سِرْتَ فِي الْأَرْضِ تَقِيسُ الْأَرْضَا تَقِيسُ مِنْهَا طُولَهَا
وَالْعَرْضَا لَمْ تَلْقَ خَيْرًا مَرَّةً وَنَقْضَا
مِنَ الْأَمِيرِ أَسَدٍ وَأَمْضَى أَفْضَى إِلَيْنَا الْخَيْرَ حِينَ أَفْضَى
وَجَمَعَ الشَّمْلَ وَكَانَ رَفْضَا مَا فَاتَهُ خَاقَانُ إِلَّا رَكْضَا
قَدْ فَضَّ مِنْ جُمُوعِهِ مَا فَضَّا يَا بْنَ سُرَيْجٍ قَدْ لَقِيتَ حَمْضَا
حَمْضًا بِهِ يُشْفَى صُدَاعُ الْمَرْضَى
وَفِيهَا قَتَلَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ الْمُغِيرَةَ بْنَ
سَعِيدٍ وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَابَعُوهُ عَلَى بَاطِلِهِ،
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ سَاحِرًا فَاجِرًا شِيعِيًّا خَبِيثًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ
قَالَ: سَمِعْتُ
الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ:
لَوْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يُحْيِيَ عَادًا وَثَمُودَ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ
كَثِيرًا لَأَحْيَاهُمْ.
قَالَ الْأَعْمَشُ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ يَخْرُجُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ
فَيَتَكَلَّمُ، فَيُرَى مِثْلُ الْجَرَادِ عَلَى الْقُبُورِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا
مِنَ الْكَلَامِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ
عَلَى سِحْرِهِ وَفُجُورِهِ. وَلَمَّا بَلَغَ خَالِدًا أَمْرُهُ أَمَرَ
بِإِحْضَارِهِ، فَجِيءَ بِهِ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ أَوْ سَبْعَةِ نَفَرٍ، فَأَمَرَ
خَالِدٌ فَأُبْرِزَ سَرِيرُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ أَطْنَانِ
الْقَصَبِ، وَالنِّفْطِ فَصَبَّ فَوْقَهَا، وَأَمَرَ الْمُغِيرَةَ أَنْ يَحْتَضِنَ
طُنًّا مِنْهَا، فَامْتَنَعَ فَضُرِبَ حَتَّى احْتَضَنَ مِنْهَا طُنًّا وَاحِدًا،
وَصَبَّ فَوْقَ رَأْسِهِ النِّفْطَ، ثُمَّ أَضْرَمَ بِالنَّارِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ
بِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بُهْلُولُ بْنُ بِشْرٍ.
وَيُلَقَّبُ بِكُثَارَةَ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْخَوَارِجِ دُونَ
الْمِائَةِ، وَقَصَدُوا قَتْلَ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ
الْبُعُوثَ، فَكَسَرُوا الْجُيُوشَ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ جِدًّا ;
لِشَجَاعَتِهِمْ وَجَلَدِهِمْ، وَقِلَّةِ نُصْحِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنَ
الْجُيُوشِ، فَرَدُّوا الْعَسَاكِرَ مِنَ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ، الْمُوقَرَةِ
بِالْأَسْلِحَةِ وَلَمْ يَبْلُغُوا
الْمِائَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ رَامُوا قُدُومَ الشَّامِ لِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ
هِشَامٍ فَقَصَدُوا نَحْوَهَا، فَاعْتَرَضَهُمْ جَيْشٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ
فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلُوا عَامَّةَ أَصْحَابِ
بُهْلُولٍ الْخَارِجِيِّ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ جَدِيلَةَ يُكَنَّى أَبَا
الْمَوْتِ ضَرَبَ بُهْلُولًا ضَرْبَةً فَصَرَعَهُ، وَتَفَرَّقَ بَقِيَّةُ
أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا جَمِيعُهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَقَدْ رَثَاهُمْ بَعْضُ
أَصْحَابِهِمْ فَقَالَ:
بُدِّلْتُ بَعْدَ أَبِي بِشْرٍ وَصُحْبَتِهِ قَوْمًا عَلَيَّ مَعَ الْأَحْزَابِ
أَعْوَانَا
بَانُوا كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ صَحَابَتِنَا وَلَمْ يَكُونُوا لَنَا
بِالْأَمْسِ خُلَّانَا
يَا عَيْنُ أَذْرِي دُمُوعًا مِنْكِ تَهْتَانَا وَابْكِي لَنَا صُحْبَةً بَانُوا
وَإِخْوَانَا
خَلَّوْا لَنَا ظَاهِرَ الدُّنْيَا وَبَاطِنَهَا وَأَصْبَحُوا فِي جِنَانِ الْخُلْدِ
جِيرَانَا
ثُمَّ تَجَمَّعَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أُخْرَى عَلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِمْ،
فَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا وَقَتَلُوا، وَجُهِّزَتْ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرُ مِنْ
عِنْدِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَمْ
يَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْقَسْرِيُّ بِلَادَ التُّرْكِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ
مَلِكُهُمْ بَدْرُ طَرْخَانُ أَلْفَ أَلْفٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا،
وَأَخَذَهُ قَهْرًا، فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ مَدِينَتَهُ
وَقَلْعَتَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَنِسَاءَهُ وَأَمْوَالَهُ.
وَفِيهَا خَرَجَ الصُّحَارِيُّ بْنُ شَبِيبٍ الْخَارِجِيُّ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ
قَلِيلَةٌ نَحْوٌ مِنْ
ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ جُنْدًا، فَقَتَلُوهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ،
فَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْهُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو شَاكِرٍ مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَحَجَّ مَعَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ لِيُعَلِّمَهُ
مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَكَانَ أَمِيرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ
مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَمِيرَ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ
بِكَمَالِهِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا
أَخُوهُ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَائِبُ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانُ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ
وَافْتَتَحَ فِيهَا حُصُونًا.
وَفِيهَا غَزَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ قِلَاعَ تُومَانْ شَاهْ،
وَافْتَتَحَهَا وَخَرَّبَ أَرَاضِيَهُ.
وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِمَارُ بِلَادَ التُّرْكِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَمِيرَ
خُرَاسَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ دُبَيْلَةٌ فِي
جَوْفِهِ، فَلَمَّا كَانَ مَهْرَجَانُ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَتِ الدَّهَاقِينُ -
وَهُمْ أُمَرَاءُ الْمُدُنِ الْكِبَارِ - مِنْ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِالْهَدَايَا
وَالتُّحَفِ عَلَى أَسَدٍ وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ نَائِبُ هَرَاةَ وَدِهْقَانُهَا
خُرَاسَانْ شَاهْ، فَقَدِمَ بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ وَتُحَفٍ غَزِيرَةٍ، وَكَانَ
مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ قَصْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَقَصْرٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَبَارِيقُ
مَنْ ذَهَبٍ، وَصِحَافٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَتَفَاصِيلُ مِنْ حَرِيرِ تِلْكَ
الْبِلَادِ أَلْوَانٌ مُلَوَّنَةٌ، فَوَضَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَيْنَ يَدَيْ أَسَدٍ
حَتَّى امْتَلَأَ الْمَجْلِسُ، ثُمَّ قَامَ الدِّهْقَانُ
خَطِيبًا، فَامْتَدَحَ أَسَدًا
بِخِصَالٍ حَسَنَةٍ ; عَلَى عَقْلِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَعَدْلِهِ، وَمَنْعِهِ
أَهْلَهُ وَخَاصَّتَهُ أَنْ يَظْلِمُوا أَحَدًا مِنَ الرَّعَايَا بِشَيْءٍ قَلَّ
أَوْ كَثُرَ، وَأَنَّهُ قَهَرَ الْخَاقَانَ الْأَعْظَمَ، وَكَانَ فِي مِائَةِ
أَلْفٍ، فَكَسَرَهُ وَقَتَلَهُ، وَأَنَّهُ يَفْرَحُ بِمَا يَفِدُ إِلَيْهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَهُوَ بِمَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ أَفْرَحُ وَأَشَدُّ سُرُورًا،
فَأَثْنَى عَلَيْهِ أَسَدٌ وَأَجْلَسَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ أَسَدٌ جَمِيعَ تِلْكَ
الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالِ وَمَا هُنَالِكَ أَجْمَعُ عَلَى الْأُمَرَاءِ
وَالْأَكَابِرِ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ قَامَ
مِنْ مَجْلِسِهِ وَهُوَ عَلِيلٌ مِنْ تِلْكَ الدُّبَيْلَةِ، ثُمَّ أَفَاقَ
إِفَاقَةً، وَجِيءَ بِهَدِيَّةٍ كُمِّثْرَى، فَجَعَلَ يُفَرِّقُهَا عَلَى
الْحَاضِرِينَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَأَلْقَى إِلَى دِهْقَانِ خُرَاسَانَ
وَاحِدَةً، فَانْفَجَرَتْ دُبَيْلَتُهُ، فَكَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى عَمَلِهِجَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ فَمَكَثَ أَمِيرًا
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، حَتَّى جَاءَ عَهْدُ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ فِي رَجَبٍ
مِنْهَا، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ وَفَاةُ أَسَدٍ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ عِرْسٍ الْعَبْدِيُّ يَرْثِيهِ:
نَعَى أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ نَاعٍ فَرِيعَ الْقَلْبُ للْمَلِكِ الْمُطَاعِ
بِبَلْخٍ وَافَقَ الْمِقْدَارَ يَسْرِي
وَمَا لِقَضَاءِ رَبِّكَ مِنْ دِفَاعِ فَجُودِي عَيْنُ بِالْعَبَرَاتِ سَحًّا
أَلَمْ يُحْزِنْكِ تَفْرِيقُ الْجِمَاعِ أَتَاهُ حِمَامُهُ فِي جَوْفِ صِيغٍ
وَكَمْ بِالصِّيغِ مِنْ بَطَلٍ شُجَاعِ كَتَائِبُ قَدْ يُجِيبُونَ الْمُنَادِي
عَلَى جُرْدٍ مُسَوَّمَةٍ سِرَاعِ
سُقِيتَ الْغَيْثَ إِنَّكَ كُنْتَ
غَيْثًا
مَرِيعًا عِنْدَ مُرْتَادِ النِّجَاعِ
وَفِيهَا عَزَلَ هِشَامٌ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ عَنْ نِيَابَةِ
الْعِرَاقِ وَذَلِكَ أَنَّهُ انْحَصَرَ مِنْهُ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُ مِنْ
إِطْلَاقِ عِبَارَةٍ فِيهِ ; وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَنْهُ إِنَّهُ ابْنُ
الْحَمْقَاءِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ غِلْظَةٌ، فَرَدَّ عَلَيْهِ
هِشَامٌ رَدًّا عَنِيفًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ حَسَدَهُ عَلَى سَعَةِ مَا حَصَلَ
لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ وَالْغَلَّاتِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ
كَانَ دَخْلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَقِيلَ: دِرْهَمٌ. وَلِوَلَدِهِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ وَفَدَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَلْزَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ عَمْرٍو. فَلَمْ يُرَحِّبْ بِهِ وَلَمْ
يَعْبَأْ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ يُعَنِّفُهُ، وَيُبَكِّتُهُ عَلَى
ذَلِكَ، وَأَنَّهُ حَالَ وُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ إِلَيْهِ مِنْ لَيْلٍ أَوْ
نَهَارٍ يَقُومُ مِنْ فَوْرِهِ بِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ مَجْلِسِهِ،
فَيَنْطَلِقُ عَلَى قَدَمَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بَابَ ابْنِ عَمْرٍو صَاغِرًا
ذَلِيلًا مُسْتَأْذِنًا عَلَيْهِ، مُتَنَصِّلًا إِلَيْهِ مِمَّا وَقَعَ، فَإِنْ
أَذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَقِفْ عَلَى بَابِهِ حَوْلًا، غَيْرَ مُتَحَلْحِلٍ مِنْ
مَكَانِكَ وَلَا زَائِلٍ، ثُمَّ أَمْرُكَ إِلَيْهِ ; إِنْ شَاءَ عَزْلَكَ، وَإِنْ
شَاءَ أَبْقَاكَ، وَإِنْ شَاءَ انْتَصَرَ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا. وَكَتَبَ إِلَى
ابْنِ عَمْرٍو يُعْلِمُهُ بِمَا كَتَبَ إِلَى خَالِدٍ وَأَمَرَهُ إِنْ وَقَفَ
بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ يَضْرِبَهُ عِشْرِينَ سَوْطًا عَلَى رَأْسِهِ، إِنْ رَأَى
ذَلِكَ مَصْلَحَةً. ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا عَزَلَ خَالِدًا وَأَخْفَى ذَلِكَ،
وَبَعَثَ الْبَرِيدَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْيَمَنِ، وَهُوَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ
فَوَلَّاهُ إِمْرَةَ الْعِرَاقِ وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهَا وَالْقُدُومِ
عَلَيْهَا فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَدِمُوا الْكُوفَةَ
وَقْتَ السَّحَرِ، فَدَخَلُوهَا، فَلَمَّا
أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَمَرَهُ يُوسُفُ
بِالْإِقَامَةِ، فَقَالَ: إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامُ - يَعْنِي خَالِدًا -
فَانْتَهَرَهُ، وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ، وَتَقَدَّمَ يُوسُفُ فَصَلَّى
وَقَرَأَ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَ سَأَلَ سَائِلٌ. ثُمَّ انْصَرَفَ
فَبَعَثَ إِلَى خَالِدٍ، وَطَارِقٍ وَأَصْحَابِهِمَا، فَأُحْضِرُوا فَأَخَذَ
مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، صَادَرَ خَالِدًا بِمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ خَالِدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ،
وَعُزِلَ عَنْهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ
عِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَدِمَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى وِلَايَةِ الْعِرَاقِ
مَكَانَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ وَاسْتَنَابَ عَلَى خُرَاسَانَ
جُدَيْعَ بْنَ عَلِيِّ الْكَرْمَانِيَّ وَعَزَلَ جَعْفَرَ بْنَ حَنْظَلَةَ الَّذِي
كَانَ اسْتَنَابَهُ أَسَدٌ ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ عَزَلَ جُدَيْعًا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ،
وَذَهَبَ جَمِيعُ مَا كَانَ اقْتَنَاهُ وَحَصَّلَهُ خَالِدٌ مِنَ الْعَقَارِ
وَالْأَمْلَاكِ وَهْلَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ كَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ لَمَّا بَلَغَهُمْ عَتْبُ هِشَامٍ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ
يَعْرِضُ عَلَيْهِ بَعْضَ أَمْلَاكِهِ، فَمَا أَحَبَّ مِنْهَا أَخَذَهُ وَمَا
شَاءَ تَرَكَ، وَقَالُوا لَهُ: لِأَنْ يَذْهَبَ الْبَعْضُ وَيَبْقَى الْبَعْضُ
خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ الْجَمِيعُ مَعَ الْعَزْلِ وَالْإِخْرَاقِ. فَامْتَنَعَ
مِنْ ذَلِكَ وَاغْتَرَّ بِالدُّنْيَا، وَعَزَّتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَذِلَّ،
فَفَجَأَهُ الْعَزْلُ، وَذَهَبَ مَا كَانَ حَصَّلَهُ وَجَمَعَهُ وَمَنَعَهُ،
وَاسْتَقَرَّتْ وِلَايَةُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ عَلَى الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ
وَاسْتَقَرَّتْ وِلَايَةُ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ نَائِبًا عَلَى خُرَاسَانَ
فَتَمَهَّدَتِ الْبِلَادُ وَأَمِنَ الْعِبَادُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَالَ سَوَّارُ بْنُ
الْأَشْعَرِ فِي ذَلِكَ:
أَضْحَتْ خُرَاسَانُ بَعْدَ الْخَوْفِ آمِنَةً مِنْ ظُلْمِ كُلِّ غَشُومِ
الْحُكْمِ جَبَّارِ
لَمَّا أَتَى يُوسُفًا أَخْبَارُ مَا لَقِيَتْ اخْتَارَ نَصْرًا لَهَا نَصْرَ بْنَ
سَيَّارِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَبْطَأَتْ شِيعَةُ آلِ الْعَبَّاسِ كِتَابَ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ عَتَبَ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِهِمْ
ذَلِكَ الزِّنْدِيقَ الْمُلَقَّبَ بِخِدَاشٍ وَكَانَ خُرَّمِيًّا، وَهُوَ الَّذِي
أَحَلَّ لَهُمُ الْمُنْكِرَاتِ، وَدَنَّسَ الْمَحَارِمَ وَالْمُصَاهِرَاتِ،
فَقَتَلَهُ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَعَتَبَ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ فِي تَصْدِيقِهِمْ لَهُ وَاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ عَلَى الْبَاطِلِ،
فَلَمَّا اسْتَبْطَأُوا كِتَابَهُ إِلَيْهِمْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا يَخْبُرُ
لَهُمْ أَمَرَهُ، وَبَعَثُوا هُمْ أَيْضًا رَسُولًا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُهُمْ
أَعْلَمَهُ مُحَمَّدٌ بِمَاذَا عَتَبَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْخُرَّمِيِّ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ مَعَ الرَّسُولِ كِتَابًا مَخْتُومًا، فَلَمَّا
فَتَحُوهُ إِذَا هُوَ لَيْسَ فِيهِ سِوَى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
تَعْلَمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا عَتَبْنَا عَلَيْكُمْ بِسَبَبِ الْخُرَّمِيُّ. ثُمَّ
أَرْسَلَ هُوَ رَسُولًا إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ،
وَهَمُّوا بِهِ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ مِنْ جِهَتِهِ عَصًا مَلْوِيٌّ عَلَيْهَا
حَدِيدٌ وَنُحَاسٌ، فَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا إِشَارَةً لَهُمْ إِلَى أَنَّهُمْ
عُصَاةٌ، وَأَنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ كَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ النُّحَاسِ
وَالْحَدِيدِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ
هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْمَخْزُومِيُّ فِيمَا قَالَهُ أَبُو
مَعْشَرٍ.
قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَقِيلَ: ابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ هِشَامٍ. فَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الرُّومَ
فَافْتَتَحَ بِهَا مَطَامِيرَ وَغَزَا مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ بِلَادَ صَاحِبِ
الذَّهَبِ فَافْتَتَحَ قِلَاعَهُ، وَخَرَّبَ أَرْضَهُ، فَأَذْعَنَ لَهُ
بِالْجِزْيَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأَلْفِ رَأْسٍ يُؤَدِّيهَا إِلَيْهِ،
وَأَعْطَاهُ رَهْنًا عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا فِي صَفَرٍ قُتِلَ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي تَنْتَسِبُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الزَّيْدِيَّةُ فِي
قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: إِنَّمَا قُتِلَ فِي صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ سَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ سَبَبَ مَقْتَلِهِ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ
تَبَعًا لِلْوَاقِدِيِّ وَهُوَ أَنَّ زَيْدًا وَفَدَ عَلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ
فَسَأَلَهُ: هَلْ أَوْدَعَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ عِنْدَكَ مَالًا ؟ فَقَالَ لَهُ
زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَيْفَ يُودِعُنِي مَالًا وَهُوَ يَشْتُمُ آبَائِي عَلَى
مِنْبَرِهِ فِي
كُلِّ جُمُعَةٍ؟ ! فَأَحْلَفَهُ
أَنَّهُ مَا أَوْدَعَ عِنْدَهُ شَيْئًا، فَأَمَرَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِإِحْضَارِ
خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ مِنَ السِّجْنِ، فَجِيءَ بِهِ فِي
عَبَاءَةٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أَوْدَعْتَ هَذَا شَيْئًا نَسْتَخْلِصُهُ مِنْهُ ؟
قَالَ: لَا، وَكَيْفَ وَأَنَا أَشْتُمُ آبَاءَهُ كُلَّ جُمُعَةٍ؟ ! فَتَرَكَهُ
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ وَأَعْلَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، فَعَفَا عَنْ
ذَلِكَ، وَيُقَالُ: بَلِ اسْتَحْضَرَهُمْ فَحَلَفُوا بِمَا حَلَفُوا.
ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الشِّيعَةِ الْتَفَّتْ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَكَانُوا
نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَنَهَاهُ بَعْضُ النُّصَحَاءِ عَنِ
الْخُرُوجِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَقَالَ لَهُ: إِنَّ جَدَّكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَقَدِ الْتَفَّتْ عَلَى بَيْعَتِهِ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، ثُمَّ خَانُوهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ
إِلَيْهِمْ، وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَلَمْ يَقْبَلْ بَلِ
اسْتَمَرَّ يُبَايِعُ النَّاسَ فِي الْبَاطِنِ بِالْكُوفَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، حَتَّى اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَهُوَ
يَتَحَوَّلُ مِنْ مَنْزِلٍ إِلَى مَنْزِلٍ، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى دَخَلَتْ
سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَكَانَ فِيهَا مَقْتَلُهُ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا.
وَفِيهَا غَزَا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ أَمِيرُ خُرَاسَانَ غَزَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً
فِي التُّرْكِ وَأَسَرَ مَلِكَهُمْ كُورْصُولَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ،
وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَلَمَّا تَيَقَّنَهُ وَتَحَقَّقَهُ، سَأَلَ مِنْهُ
كُورْصُولُ أَنْ يُطْلِقَهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ لَهُ أَلْفَ بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ التُّرْكِ
- وَهِيَ
الْبَخَاتِيُّ - وَأَلْفَ بِرْذَوْنٍ،
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ جِدًّا، فَشَاوَرَ نَصْرٌ مَنْ بِحَضْرَتِهِ
مِنَ الْأُمَرَاءِ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِإِطْلَاقِهِ. ثُمَّ
سَأَلَهُ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ: كَمْ غَزَوْتَ مِنْ غَزْوَةٍ ؟ فَقَالَ:
ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ غَزْوَةً. فَقَالَ لَهُ نَصْرٌ: مَا مِثْلُكَ يُطْلَقُ
وَقَدْ شَهِدْتَ هَذَا كُلَّهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ
وَصَلَبَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ جَيْشَهُ مِنْ قَتْلِهِ بَاتُوا تِلْكَ
اللَّيْلَةَ يَجْعَرُونَ وَيَبْكُونَ عَلَيْهِ، وَجَذُّوا لِحَاهُمْ
وَشُعُورَهُمْ، وَقَطَّعُوا آذَانَهُمْ، وَحَرَّقُوا خِيَامًا كَثِيرَةً،
وَقَتَلُوا أَنْعَامًا كَثِيرَةً، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَمَرَ نَصْرٌ بِإِحْرَاقِهِ
لِئَلَّا يَأْخُذُوا جُثَّتَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَشُدَّ عَلَيْهِمْ مِنْ قَتْلِهِ،
وَانْصَرَفُوا خَائِبِينَ صَاغِرِينَ خَاسِئِينَ، ثُمَّ كَرَّ نَصْرٌ عَلَى
بِلَادِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ أُمَمًا لَا
يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ فِيمَنْ حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ
جِدًّا مِنَ الْأَعَاجِمِ أَوِ الْأَتْرَاكِ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ،
فَقَالَتْ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: كُلُّ مَلِكٍ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ سِتَّةُ
أَشْيَاءَ فَلَيْسَ بِمَلِكٍ ; وَزِيرٌ صَادِقٌ يَفْصِلُ خُصُومَاتِ النَّاسِ،
وَيُشَاوِرُهُ وَيُنَاصِحُهُ، وَطَبَّاخٌ يَصْنَعُ لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ،
وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا مُغْتَمًّا فَنَظَرَ إِلَيْهَا
سُرَّتْهُ وَذَهَبَ غَمُّهُ، وَحِصْنٌ مَنِيعٌ إِذَا فَزِعَ رَعَايَاهُ لَجَئُوا
إِلَيْهِ، وَسَيْفٌ إِذَا قَارَعَ بِهِ الْأَقْرَانَ لَمْ يَخْشَ خِيَانَتَهُ،
وَذَخِيرَةٌ إِذَا حَمَلَهَا فَأَيْنَمَا وَقَعَ مِنَ الْأَرْضِ عَاشَ بِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ نَائِبُ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَنَائِبُ الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ،
وَنَائِبُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ مَرْوَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قُتِلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ الْقُرَشِيِّ
الْأُمَوِيِّ، أَبُو سَعِيدٍ وَأَبُو الْأَصْبَغِ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: وَدَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي مَحَلَّةِ الْقِبَابِ عِنْدَ بَابِ
الْجَامِعِ الْقِبْلِيِّ، وَلِيَ الْمَوْسِمَ أَيَّامَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ وَغَزَا
الرُّومَ غَزَوَاتٍ، وَحَاصَرَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَوَلَّاهُ أَخُوهُ يَزِيدُ
إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ ثُمَّ عَزَلَهُ، وَوَلِيَ إِرْمِينِيَّةَ.
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَنْهُ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ أَبِي عُثْمَانَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَزْعَةَ، وَعُيَيْنَةَ وَالِدُ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ أَبِي عِمْرَانَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ خَدِيجٍ،
وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ
يُلَقَّبُ بِالْجَرَادَةِ الصَّفْرَاءِ، وَلَهُ آثَارٌ كَثِيرَةٌ وَحُرُوبٌ
وَنِكَايَةٌ فِي الرُّومِ.
قُلْتُ: وَقَدْ فَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الرُّومِ.
وَلَمَّا وَلِيَ إِرْمِينِيَّةَ غَزَا
التُّرْكَ فَبَلَغَ بَابَ الْأَبْوَابِ فَهَدَمَ الْمَدِينَةَ الَّتِي عِنْدَهُ،
ثُمَّ أَعَادَ بِنَاءَهَا بَعْدَ تِسْعِ سِنِينَ.
وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ غَزَا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ فَحَاصَرَهَا،
وَافْتَتَحَ مَدِينَةَ الصَّقَالِبَةِ وَكَسَرَ مَلِكَهُمُ الْبُرْجَانَ ثُمَّ
عَادَ إِلَى مُحَاصَرَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَأَخَذَهُ، وَهُوَ يُغَازِيهِمْ، صُدَاعٌ عَظِيمٌ فِي
رَأْسِهِ، فَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَيْهِ بِقَلَنْسُوَةٍ، وَقَالَ: ضَعْهَا
عَلَى رَأْسِكَ يَذْهَبْ صُدَاعُكَ. فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ مَكِيدَةً، فَوَضَعَهَا
عَلَى رَأْسِ بَهِيمَةٍ، فَلَمْ يَرَ إِلَّا خَيْرًا، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى
رَأْسِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا خَيْرًا، فَوَضَعَهَا عَلَى
رَأْسِهِ فَذَهَبَ صُدَاعُهُ، فَفَتَقَهَا فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ سَبْعُونَ
سَطْرًا هَذِهِ الْآيَةُ مُكَرَّرَةً: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ فَاطِرٍ: 41 ]. رَوَاهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ.
وَقَدْ لَقِيَ مَسْلَمَةُ فِي حِصَارِهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ شِدَّةً عَظِيمَةً،
وَجَاعَ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَهَا جَوْعًا شَدِيدًا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْبَرِيدَ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ
إِلَى الشَّامِ، فَحَلَفَ مَسْلَمَةُ أَنْ لَا يُقْلِعَ عَنْهُمْ حَتَّى يَبْنُوا
لَهُ جَامِعًا كَبِيرًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَبَنَوْا لَهُ جَامِعًا
وَمَنَارَةً، فَهُوَ بِهَا إِلَى الْآنِ يُصَلِّي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ
الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ.
قُلْتُ: وَهِيَ آخِرُ مَا يَفْتَحُهُ
الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا
سَنُورِدُهُ فِي الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، وَنَذْكُرُ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَتْ لِمَسْلَمَةَ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ وَمَسَاعٍ
مَشْكُورَةٌ، وَغَزَوَاتٌ مُتَتَالِيَةٌ وَمَنْثُورَةٌ، وَقَدِ افْتَتَحَ حُصُونًا
وَقِلَاعًا، وَأَحْيَا بِعَزْمِهِ وَحَزْمِهِ قُصُورًا وَبِقَاعًا، وَكَانَ فِي
زَمَانِهِ نَظِيرَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي أَيَّامِهِ، فِي كَثْرَةِ
مَغَازِيهِ، وَكَثْرَةِ فُتُوحِهِ، وَقُوَّةِ عَزْمِهِ، وَشِدَّةِ بَأْسِهِ،
وَجَوْدَةِ تَصَرُّفِهِ فِي نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ، هَذَا مَعَ الْكَرَمِ
وَالْفَصَاحَةِ، وَالرِّيَاسَةِ وَالسَّمَاحَةِ، وَالْأَصَالَةِ وَالرَّجَاحَةِ، وَالدِّينِ
وَالْعِفَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: مُرُوءَتَانِ ظَاهِرَتَانِ ; الرِّيَاشُ
وَالْفَصَاحَةُ. وَقَالَ يَوْمًا لِنُصَيْبٍ الشَّاعِرِ: سَلْنِي. قَالَ: لَا.
قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ كَفَّكَ بِالْجَزِيلِ أَكْثَرُ مِنْ مَسْأَلَتِي
بِاللِّسَانِ. فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَنْبِيَاءُ لَا
يَتَثَاءَبُونَ كَمَا يَتَثَاءَبُ النَّاسُ، مَا تَثَاءَبَ نَبِيٌّ قَطُّ. وَقَدْ
أَوْصَى بِثُلْثِ مَالِهِ لِأَهْلِ الْأَدَبِ، وَقَالَ: إِنَّهَا صِنَاعَةٌ مَجْفُوٌّ
أَهْلُهَا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
لِسَبْعٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقِيلَ: فِي سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ
لَهُ: الْحَانُوتُ.
وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ، وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ:
أَقُولُ وَمَا الْبُعْدُ إِلَّا الرَّدَى أَمْسَلَمُ لَا تَبْعُدَنْ مَسْلَمَهْ
فَقَدْ كُنْتَ نُورًا لَنَا فِي الْبِلَادِ
مُضِيئًا فَقَدْ أَصْبَحَتْ مُظْلِمَهْ وَنَكْتُمُ مَوْتَكَ نَخْشَى الْيَقِينَ
فَأَبْدَى الْيَقِينُ عَنِ الْجُمْجُمَهْ
نُمَيْرُ بْنُ أَوْسٍ الْأَشْعَرِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى
عَنْ حُذَيْفَةَ مُرْسَلًا وَأَبِي مُوسَى مُرْسَلًا وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَنْ
مُعَاوِيَةَ مُرْسَلًا، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ
جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ، مِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَارِيُّ.
وَلَّاهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ بَعْدَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْخَشْخَاشِ الْعُذْرِيِّ ثُمَّ اسْتَعْفَى هِشَامًا
فَأَعْفَاهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
مَالِكٍ. وَكَانَ نُمَيْرٌ هَذَا لَا يَحْكُمُ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ،
وَكَانَ يَقُولُ: الْآدَابُ مِنَ الْآبَاءِ، وَالصَّلَاحُ مِنَ اللَّهِ.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: تُوَفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. وَهُوَ غَرِيبٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ زَيْدُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَيْعَةَ مِمَّنْ
بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَمَرَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ
بِالْخُرُوجِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ، فَشَرَعُوا فِي أَخْذِ الْأُهْبَةِ لِذَلِكَ،
فَانْطَلَقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ
عُمَرَ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَأَخْبَرَهُ - وَهُوَ بِالْحِيرَةِ يَوْمَئِذٍ -
خَبَرَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ،
فَبَعَثَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَطْلُبُهُ وَيُلِحُّ فِي طَلَبِهِ، فَلَمَّا
عَلِمَتِ الشِّيعَةُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالُوا
لَهُ: مَا قَوْلُكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ ؟ فَقَالَ:
غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَتَبَرَّأُ
مِنْهُمَا، وَأَنَا لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا. قَالُوا: فَلِمَ
تَطْلُبُ إِذًا بِدَمِ أَهْلِ الْبَيْتِ ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا أَحَقَّ
النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْنَا بِهِ
وَدَفَعُونَا عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِهِمْ كُفْرًا، قَدْ
وَلُوا فَعَدَلُوا، وَعَمِلُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالُوا: فَلِمَ
تُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ إِذًا ؟ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَأُولَئِكَ، إِنَّ
هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّاسَ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنِّي أَدْعُو إِلَى
كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ، فَإِنْ تَسْمَعُوا يَكُنْ خَيْرًا
لَكُمْ وَلِي، وَإِنْ تَأْبَوْا فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. فَرَفَضُوا
وَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَنَقَضُوا بَيْعَتَهُ وَتَرَكُوهُ، فَلِهَذَا سُمُّوا
الرَّافِضَةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَمَنْ
تَابَعَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى قَوْلِهِ سُمُّوا الزَّيْدِيَّةِ وَغَالِبُ أَهْلِ
الْكُوفَةِ مِنْهُمْ رَافِضَةٌ وَغَالِبُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الْيَوْمِ عَلَى
مَذْهَبِ الزَّيْدِيَّةِ وَفِيهِ حَقٌّ ; وَهُوَ تَعْدِيلُ الشَّيْخَيْنِ،
وَبَاطِلٌ ; وَهُوَ اعْتِقَادُ تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ عَلِيٌّ
مُقَدَّمًا عَلَيْهِمَا، بَلْ وَلَا عُثْمَانُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ أَهْلِ
السُّنَّةِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَوَاعَدَهُمْ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءَ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السُّنَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ
عَلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ يَأْمُرُهُ بِجَمْعِ النَّاسِ
كُلِّهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَجَمَعَ النَّاسَ لِذَلِكَ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، قَبْلَ خُرُوجِ زَيْدٍ بِيَوْمٍ، وَخَرَجَ
زَيْدٌ بِمَنْ مَعَهُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، وَرَفَعَ
أَصْحَابَهُ النِّيرَانَ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ: يَا مَنْصُورُ يَا مَنْصُورُ.
فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ إِذَا قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةَ
عَشْرَ رَجُلًا، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَيْنَ النَّاسُ ؟
فَقِيلَ: هُمْ فِي الْمَسْجِدِ مَحْصُورُونَ. وَكَتَبَ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ
إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ يُعْلِمُهُ
بِخُرُوجِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَبَعَثَ إِلَيْهِ سِرِّيَّةً إِلَى الْكُوفَةِ، وَرَكِبَتِ الْجُيُوشُ مَعَ نَائِبِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَيْضًا فِي طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَالْتَقَى زَيْدٌ بِمَنْ مَعَهُ جُرْثُومَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ فَهَزَمَهُمْ ثُمَّ أَتَى الْكُنَاسَةَ، فَحَمَلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ اجْتَازَ بِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ وَاقِفٌ فَوْقَ تَلٍّ وَزَيْدٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَلَوْ قَصَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ لَقَتَلَهُ، وَلَكِنْ أَخْذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَكُلَّمَا الْتَقَى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ يُنَادُونَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ اخْرُجُوا إِلَى الدِّينِ وَالْعِزِّ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دِينٍ وَلَا عِزٍّ وَلَا دُنْيَا. ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوُا انْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي اقْتَتَلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ بِشَرِّ حَالٍ، وَأَمْسَوْا فَعَبَّأَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ جَيْشَهُ جِدًّا، ثُمَّ أَصْبَحُوا فَالْتَقَوْا مَعَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي أَصْحَابِهِ، فَكَشَفَهُمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى السَّبْخَةِ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِي خَيْلِهِ وَرَجِلِهِ حَتَّى أَخَذُوا عَلَى الْمُسَنَّاةِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ رُمِيَ زَيْدٌ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ جَانِبَ جَبْهَتَهُ الْيُسْرَى، فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ، فَرَجَعَ وَرَجَعَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَظُنُّ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَّا لِلْمَسَاءِ وَاللَّيْلِ، وَأُدْخِلَ زَيْدٌ فِي دَارٍ فِي سِكَّةِ الْبَرِيدِ وَجِيءَ بِطَبِيبٍ فَانْتَزَعَ ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ جَبْهَتِهِ، فَمَا عَدَا أَنِ انْتَزَعَهُ حَتَّى مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ أَيْنَ
يَدْفِنُوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلْبِسُوهُ دِرْعَهُ وَأَلْقُوهُ فِي الْمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: احْتَزُّوا رَأْسَهُ وَاتْرُكُوا جُثَّتَهُ فِي الْقَتْلَى.
فَقَالَ ابْنُهُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَأْكُلُ أَبِي الْكِلَابُ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: ادْفِنُوهُ فِي الْعَبَّاسِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ادْفِنُوهُ فِي
الْحُفْرَةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الطِّينُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَجْرَوْا
عَلَى قَبْرِهِ الْمَاءَ ; لِئَلَّا يُعْرَفَ، وَانْفَتَلَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ
يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ، فَمَا أَصْبَحَ الْفَجْرُ وَلَهُمْ قَائِمَةٌ
يَنْهَضُونَ بِهَا، وَتَتَبَّعَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْجَرْحَى هَلْ يَجِدُ
زَيْدًا بَيْنَهُمْ، وَجَاءَ مَوْلًى لِزَيْدٍ سِنْدِيٌّ، قَدْ شَهِدَ دَفْنَهُ،
فَدَلَّ عَلَى قَبْرِهِ، فَأُخِذَ مِنْ قَبْرِهِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ
بِصُلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِالْكُنَاسَةِ وَمَعَهُ نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ،
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيُّ،
وَزِيَادٌ النَّهْدِيُّ وَيُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا مَكَثَ مَصْلُوبًا أَرْبَعَ
سِنِينَ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأُحْرِقَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ
عُمَرَ لَمْ يَعْلَمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ حَتَّى كَتَبَ
لَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ لَغَافِلٌ، وَإِنَّ
زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ غَارِزٌ ذَنَبَهُ بِالْكُوفَةِ يُبَايَعُ لَهُ، فَأَلِحَّ فِي
طَلَبِهِ وَأُعْطِهِ الْأَمَانَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَقَاتِلْهُ. فَتَطَلَّبَهُ
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ
عَلَى قَبْرِهِ حَزَّ رَأْسَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ فَنَصَبَهُ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسَارُوا بِهِ
إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى نَصَبُوهُ عَلَى أَحَدِ أَبْوَابِهَا، وَأَمَّا
جُثَّتُهُ فَلَمْ تَزَلْ مَصْلُوبَةً تُحْرَسُ لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى انْقَضَتْ
دَوْلَةُ هِشَامٍ وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ الْوَلِيدُ بْنُ
يَزِيدَ فَأَمَرَ بِهِ، فَأُنْزِلَ
وَحُرِّقَ فِي أَيَّامِهِ، قَبَّحَ اللَّهُ الْوَلِيدَ هَذَا. وَأَمَّا ابْنُهُ
يَحْيَى بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَاسْتَجَارَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرِ
بْنِ مَرْوَانَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَتَهَدَّدُهُ حَتَّى
يَحْضُرَهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ: مَا كُنْتُ لِأُؤْوِيَ
مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ عَدُوُّنَا وَابْنُ عَدُوِّنَا. فَصَدَّقَهُ
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا هَدَأَ الطَّلَبُ عَنْهُ سَيَّرَهُ
إِلَى خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ
الزَّيْدِيَّةِ إِلَى خُرَاسَانَ فَأَقَامُوا بِهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ.
قَالَ أَبُو مَخْنَفٍ: وَلَمَّا قَتَلَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ
خَطَبَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَشَتَمَهُمْ
وَأَنَّبَهُمْ ; قَالَ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَأْذَنْتُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي قَتْلِ خَلْقٍ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَذِنَ لِي لَقَتَلْتُ
مُقَاتَلَتَكُمْ، وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّكُمْ، وَمَا صَعِدْتُ هَذَا الْمِنْبَرَ
إِلَّا لِأُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَطَّالُ
فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ
جَرِيرٍ عَلَى هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ
فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ:
عَبْدُ اللَّهِ أَبُو يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِالْبَطَّالِ.
كَانَ يَنْزِلُ أَنْطَاكِيَةَ، حَكَى عَنْهُ أَبُو مَرْوَانَ الْأَنْطَاكِيُّ.
ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ حِينَ عَقَدَ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ عَلَى غَزْوِ
بِلَادِ الرُّومِ وَلَّى عَلَى رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ
الْبَطَّالَ وَقَالَ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ: صَيِّرْهُ عَلَى طَلَائِعِكَ،
وَأْمُرْهُ فَلْيُعَسَّ بِاللَّيْلِ الْعَسْكَرَ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ ثِقَةٌ
مِقْدَامٌ شُجَاعٌ. وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ يُشَيِّعُهُمْ إِلَى بَابِ
دِمَشْقَ.
قَالَ: فَقَدَّمَ مَسْلَمَةُ الْبَطَّالَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ يَكُونُونَ بَيْنَ
يَدَيْهِ تُرْسًا مِنَ الرُّومِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ
حَدَّثَنِي أَبُو مَرْوَانَ - شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ - قَالَ: كُنْتُ
أَغَازِي الْبَطَّالَ وَقَدْ أَوْطَأَ الرُّومَ ذُلًّا، قَالَ الْبَطَّالُ:
فَسَأَلَنِي بَعْضُ وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ عَنْ أَعْجَبِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي
فِيهِمْ، فَقُلْتُ لَهُ: خَرَجْتُ فِي سِرِّيَّةٍ لَيْلًا، فَدَفَعْنَا إِلَى
قَرْيَةٍ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: أَرْخُوا لُجُمَ خُيُولِكُمْ وَلَا تُحَرِّكُوا
أَحَدًا بِقَتْلٍ وَلَا بِسَبْيٍ حَتَّى تَشْحَنُوا الْقَرْيَةَ فَإِنَّهُمْ فِي
نَوْمَةٍ. فَفَعَلُوا وَافْتَرَقُوا فِي أَزِقَّتِهَا، فَدَفَعْتُ فِي أُنَاسٍ
مِنْ أَصْحَابِي إِلَى بَيْتٍ يَزْهَرُ سِرَاجُهُ، وَإِذَا امْرَأَةٌ تُسَكِّتُ
ابْنَهَا مِنْ بُكَائِهِ وَهِيَ تَقُولُ: لَتَسْكُتْنَّ أَوْ لَأَدْفَعَنَّكَ
إِلَى الْبَطَّالِ يَذْهَبُ بِكَ. وَانْتَشَلَتْهُ مِنْ سَرِيرِهِ وَقَالَتْ:
أَمْسِكْ يَا بِطَّالُ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي مَرْوَانَ
الْأَنْطَاكِيِّ عَنِ الْبَطَّالِ قَالَ: انْفَرَدْتُ مَرَّةً عَلَى فَرَسِي،
لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ، وَقَدْ سَمَّطْتُ خَلْفِي
مِخْلَاةً فِيهَا شَعِيرٌ، وَمَعِي مَنْدِيلٌ فِيهِ خُبْزٌ وَشِوَاءٌ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ لَعَلِّي أَلْقَى أَحَدًا مُنْفَرِدًا أَوْ أَطَّلِعُ عَلَى خَبَرٍ، إِذَا أَنَا بِبُسْتَانٍ فِيهِ بُقُولٌ حَسَنَةٌ، فَنَزَلْتُ وَأَكَلْتُ مِنْ ذَلِكَ الْخَبْزِ وَالشِّوَاءِ مَعَ الْبَقْلِ، فَأَخَذَنِي إِسْهَالٌ عَظِيمٌ قُمْتُ مِنْهُ مِرَارًا، فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ مِنْ كَثْرَةِ الْإِسْهَالِ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَالْإِسْهَالُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَجَعَلْتُ أَخْشَى إِنْ أَنَا نَزَلْتُ عَنْ فَرَسِي أَنْ أَضْعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ، وَأَفْرَطَ بِي الْإِسْهَالُ فِي السَّرْجِ، حَتَّى خَشِيَتُ أَنْ أَسْقُطَ مِنَ الضَّعْفِ، فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْفَرَسِ، وَنِمْتُ عَلَى وَجْهِي لَا أَدْرِي أَيْنَ يَسِيرُ الْفَرَسُ بِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا بِقَرْعِ نِعَالِهِ عَلَى بَلَاطٍ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَإِذَا دَيْرٌ، وَإِذَا قَدْ خَرَجَ مِنْهُ نِسْوَةٌ صُحْبَةَ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ جَمِيلَةٍ جِدًّا، فَجَعَلَتْ تَقُولُ لَهُنَّ بِلِسَانِهَا: أَنْزِلْنَهُ. فَأَنْزَلْنَنِي، فَغَسَلْنَ عَنِّي ثِيَابِي وَسَرْجِي وَفَرَسِي، وَوَضَعْنَنِي عَلَى سَرِيرٍ، وَعَمِلْنَ لِي طَعَامًا وَشَرَابًا فَمَكَثْتُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْبُوتًا، ثُمَّ أَقَمْتُ بَقِيَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى تُرَادَّ إِلَيَّ حَالِي، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قِيلَ: جَاءَ الْبِطْرِيقُ. فَأَمَرْتُ بِفَرَسِي فَحُوِّلَ، وَغُلِّقَ عَلَيَّ الْبَابُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، وَإِذَا هُوَ بِطْرِيقٌ كَبِيرٌ فِيهِمْ قَدْ جَاءَ لِخِطْبَتِهَا، فَأَخْبَرَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ بِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ فِيهِ رَجُلٌ وَلَهُ فَرَسٌ، فَهَمَّ بِالْهُجُومِ عَلَيَّ، فَمَنَعَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَتْ تَقُولُ لَهُ: إِنْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْبَابَ لَمْ أَقْضِ حَاجَتَهُ. فَثَنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْهُجُومِ عَلَيَّ، وَأَقَامَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ فِي ضِيَافَتِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ وَانْطَلَقَ. قَالَ الْبَطَّالُ: فَنَهَضْتُ فِي أَثَرِهِمْ، فَهَمَّتْ أَنْ تَمْنَعَنِي خَوْفًا عَلَيَّ مِنْهُمْ فَلَمْ أَقْبَلْ، وَسُقْتُ حَتَّى لَحِقْتُهُمْ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَانْفَرَجَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَأَرَادَ الْفِرَارَ، فَأَلْحَقُهُ فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ وَاسْتَلَبْتُهُ وَأَخَذْتُ رَأْسَهُ مُسَمَّطًا عَلَى فَرَسِي، وَرَجَعْتُ إِلَى الدَّيْرِ، فَخَرَجْنَ إِلَيَّ
وَوَقَفْنَ بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ:
ارْكَبْنَ. فَرَكِبْنَ مَا هُنَالِكَ مِنَ الدَّوَابِّ، وَسُقْتُ بِهِنَّ حَتَّى
أَتَيْتُ أَمِيرَ الْجَيْشِ، فَدَفَعْتُهُنَّ إِلَيْهِ، فَنَفَّلَنِي مَا شِئْتُ
مِنْهُنَّ، فَأَخَذْتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ بِعَيْنِهَا، فَهِيَ أَمُّ
أَوْلَادِي. وَكَانَ أَبُوهَا بِطْرِيقًا كَبِيرًا فِيهِمْ، وَكَانَ الْبَطَّالُ
بَعْدَ ذَلِكَ يُكَاتِبُ أَبَاهَا وَيُهَادِيهِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَاشِدٍ مَوْلَى خُزَاعَةَ يُخْبِرُ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الْبَطَّالِ أَنَّ
هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا وَلَّاهُ الْمِصِّيصَةَ بَعَثَ الْبَطَّالُ
سَرِيَّةً إِلَى أَرْضِ الرُّومِ فَغَابَ عَنْهُ خَبَرُهَا فَلَمْ يَدْرِ مَا
صَنَعُوا، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ
إِلَى عَمُّورِيَّةَ، فَطَرَقَ بَابَهَا لَيْلًا، فَقَالَ لَهُ الْبَوَّابُ: مَنْ
هَذَا ؟ قَالَ الْبَطَّالُ: فَقُلْتُ: أَنَا سَيَّافُ الْمَلِكِ وَرَسُولُهُ إِلَى
الْبِطْرِيقِ فَخُذْ لِي طَرِيقًا إِلَيْهِ. فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ إِذَا
هُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ إِلَى جَانِبِهِ،
ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ فِي رِسَالَةٍ، فَمُرْ هَؤُلَاءِ
فَلْيَنْصَرِفُوا. فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَذَهَبُوا. قَالَ: ثُمَّ قَامَ
فَغَلَقَ بَابَ الْكَنِيسَةِ عَلَيَّ وَعَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ،
فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، وَضَرَبْتُ بِهِ رَأَسَهُ صَفْحًا، وَقُلْتُ لَهُ: أَنَا
الْبَطَّالُ فَاصْدُقْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَكَ.
قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قُلْتُ: السَّرِيَّةُ الَّتِي بَعَثْتُهَا مَا خَبَرُهَا ؟
فَقَالَ: هُمْ فِي بِلَادِي يَنْتَهِبُونَ مَا تَهَيَّأَ لَهُمْ، وَهَذَا كِتَابٌ
قَدْ جَاءَنِي يُخْبِرُ أَنَّهُمْ فِي وَادِي كَذَا وَكَذَا، وَاللَّهِ لَقَدْ
صَدَقْتُكَ. فَقُلْتُ: هَاتِ الْأَمَانَ. فَأَعْطَانِي الْأَمَانَ، فَقُلْتُ:
ائْتِنِي بِطَعَامٍ. فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَجَاءُوا بِطَعَامٍ، فَوُضِعَ لِي،
فَأَكَلْتُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْصَرِفَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا بَيْنَ
يَدَيْ رَسُولِ الْمَلِكِ. فَانْطَلَقُوا يَتَعَادُّونَ بَيْنَ يَدَيَّ،
وَانْطَلَقْتُ إِلَى ذَلِكَ الْوَادِي
الَّذِي ذُكِرَ، فَإِذَا أَصْحَابِي
هُنَالِكَ، فَأَخَذَتْهُمْ وَرَجَعْتُ إِلَى الْمِصِّيصَةِ. فَهَذَا أَغْرَبُ مَا
جَرَى.
قَالَ الْوَلِيدُ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رَأَى الْبَطَّالَ
وَهُوَ قَافِلٌ مَنْ حَجَّتِهِ، وَكَانَ قَدْ شُغِلَ بِالْجِهَادِ عَنِ الْحَجِّ،
وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ دَائِمًا الْحَجَّ ثُمَّ الشَّهَادَةَ، فَلَمْ
يَتَمَكَّنْ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا فِي السَّنَةِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ
فِيهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ سَبَبُ شَهَادَتِهِ أَنَّ لِيُونَ
مَلِكَ الرُّومِ خَرَجَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ،
فَبَعَثَ الْبِطْرِيقُ - الَّذِي الْبَطَّالُ مُتَزَوِّجٌ بِابْنَتِهِ الَّتِي
ذَكَرْنَا أَمْرَهَا - إِلَى الْبَطَّالِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَ
الْبَطَّالُ أَمِيرَ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ
مَالِكَ بْنَ شَبِيبٍ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ
نَتَحَصَّنَ فِي مَدِينَةِ حَرَّانَ، فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي الْجُيُوشِ. فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَدَهَمَهُمُ
الْجَيْشُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَالْبَطَّالُ يَجُولُ بَيْنَ يَدَيِ
الْأَبْطَالِ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يُنَوِّهَ بِاسْمِهِ ; خَوْفًا
عَلَيْهِ مِنَ الرُّومِ فَاتَّفَقَ أَنْ نَادَاهُ بَعْضُهُمْ، وَذَكَرَ اسْمَهُ
غَلَطًا مِنْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ فُرْسَانُ الرُّومِ حَمَلُوا عَلَيْهِ
حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَاقْتَلَعُوهُ مَنْ سَرْجِهِ بِرِمَاحِهِمْ، فَأَلْقَوْهُ
إِلَى الْأَرْضِ، وَسَاقُوا وَرَاءَ النَّاسِ يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ،
وَقُتِلَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَالِكُ بْنُ شَبِيبٍ وَانْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ،
وَانْطَلَقُوا إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْخَرَابِ فَتَحَصَّنُوا بِهَا،
وَأَصْبَحَ لِيُونُ فَوَقَفَ عَلَى مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ، فَإِذَا الْبَطَّالُ
بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقَالَ لَهُ لِيُونُ مَا هَذَا يَا أَبَا يَحْيَى ؟ فَقَالَ:
هَكَذَا تُقْتَلُ الْأَبْطَالُ. فَاسْتَدْعَى لِيُونُ بِالْأَطِبَّاءِ لِيُدَاوُوهُ
فَإِذَا جِرَاحُهُ قَدْ نَفَذَتْ إِلَى مَقَاتِلِهِ، فَقَالَ لَهُ لِيُونُ: هَلْ
مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ قَالَ: تَأْمُرُ مَنْ مَعَكَ
مِنْ
أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلُوا
غَسْلِيَ وَالصَّلَاةَ عَلَيَّ وَدَفْنِي. فَفَعَلَ، وَأَطْلَقَ لِأَجْلِ ذَلِكَ
أُولَئِكَ الْأُسَارَى، وَانْطَلَقَ لِيُونُ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ
الَّذِينَ تَحَصَّنُوا فَحَاصَرَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ
الْبُرُدُ بِقُدُومِ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ فِي الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ،
فَفَرَّ لِيُونُ فِي جَيْشِهِ رَاجِعًا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: كَانَتْ وَفَاةُ الْبَطَّالِ وَمَقْتَلُهُ
بِأَرْضِ الرُّومِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ: قُتِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ قُتِلَ هُوَ وَالْأَمِيرُ
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، كَمَا
ذَكَرْنَا ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يُؤَرِّخْ
وَفَاتَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
تَرْجَمَةِ الْبَطَّالِ مَعَ تَقَصِّيهِ لِلْأَخْبَارِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا،
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ الْعَامَّةُ عَنِ الْبَطَّالِ مِنَ السِّيرَةِ
الْمَنْسُوبَةِ إِلَى دَلْهَمَةَ، وَالْبَطَّالِ، وَالْأَمِيرِ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، وَالْقَاضِي عُقَبَةَ فَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، وَوَضْعٌ بَارِدٌ،
وَجَهْلٌ كَبِيرٌ، وَتَخْبِيطٌ فَاحِشٌ، لَا يَرُوجُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ
أَوْ جَاهِلٍ رَدِيٍّ، كَمَا يَرُوجُ عَلَيْهِمْ سِيرَةُ عَنْتَرَةَ الْعَبْسِيِّ
الْمَكْذُوبَةُ، وَكَذَلِكَ سِيرَةُ الْبَكْرِيِّ، وَالدَّنَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَالْكَذِبُ الْمُفْتَعَلُ فِي سِيرَةِ الْبَكْرِيِّ أَشَدُّ إِثْمًا وَأَعْظَمُ
جُرْمًا مِنْ غَيْرِهَا ; لِأَنَّ
وَاضِعَهَا يَدْخُلُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِيَاسٌ الذَّكِيُّ
وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ بْنُ إِيَاسِ بْنِ هِلَالِ بْنِ
رِئَابِ بْنِ عَبْدِ بْنِ دُرَيْدِ بْنِ أَوْسِ بْنِ سُوَاءَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
سَارِيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَوْسِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرَ
بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ هَكَذَا نَسَبَهُ خَلِيفَةُ بْنُ
خَيَّاطٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، وَهُوَ أَبُو وَاثِلَةَ الْمُزَنِيُّ
قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ، وَلِجَدِّهِ صُحْبَةٌ، وَكَانَ يُضْرَبُ
الْمَثَلُ بِذَكَائِهِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ مَرْفُوعًا فِي
الْحَيَاءِ، عَنْ أَنَسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
وَنَافِعٍ، وَأَبِي مِجْلَزٍ. وَعَنْهُ الْحَمَّادَانِ، وَشُعْبَةُ،
وَالْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ لَفَهِمٌ، إِنَّهُ لَفَهِمٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ،
وَالْعِجْلِيُّ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَالنَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ. زَادَ ابْنُ سَعْدٍ:
وَكَانَ عَاقِلًا مِنَ الرِّجَالِ فَطِنًا. وَزَادَ الْعِجْلِيُّ: وَكَانَ
فَقِيهًا عَفِيفًا.
وَقَدْ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَوَفَدَ
عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَرَّةً أُخْرَى حِينَ عَزَلَهُ عَدِيُّ
بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: تَحَاكَمَ إِيَاسٌ وَهُوَ صَبِيٌّ شَابٌّ،
وَشَيْخٌ إِلَى قَاضِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِدِمَشْقَ فَقَالَ لَهُ
الْقَاضِي: إِنَّهُ شَيْخٌ وَأَنْتَ شَابٌّ، فَلَا تُسَاوِهِ فِي الْكَلَامِ.
فَقَالَ إِيَاسٌ: إِنْ كَانَ كَبِيرًا فَالْحَقُّ أَكْبَرُ مِنْهُ. فَقَالَ لَهُ
الْقَاضِي: اسْكُتْ. فَقَالَ: وَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِي إِذَا سَكَتُّ ؟
فَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَحْسَبُكَ تَنْطِقُ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِي هَذَا حَتَّى
تَقُومَ. فَقَالَ إِيَاسٌ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - زَادَ
غَيْرُهُ: فَقَالَ الْقَاضِي: مَا أَظُنُّكَ إِلَّا ظَالِمًا لَهُ. فَقَالَ: مَا
عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي - فَقَامَ الْقَاضِي، فَدَخَلَ
عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَالَ: اقْضِ حَاجَتَهُ
وَأَخْرِجْهُ السَّاعَةَ مِنْ دِمَشْقَ، لَا يُفْسِدُ عَلَيَّ النَّاسَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا عَزَلَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ قَضَاءِ
الْبَصْرَةِ فَرَّ مِنْهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَوَجَدَهُ قَدْ
مَاتَ، فَكَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةٍ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، فَتَكَلَّمَ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَرَدَّ عَلَيْهِ إِيَاسٌ فَأَغْلَظَ لَهُ الْأُمَوِيُّ،
فَقَامَ إِيَاسٌ فَقِيلَ لِلْأُمَوِيِّ: هَذَا إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْمُزَنِيُّ. فَلَمَّا عَادَ مِنَ الْغَدِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْأُمَوِيُّ
وَقَالَ:
لَمْ أَعْرِفْكَ، وَقَدْ جَلَسَتْ
إِلَيْنَا بِثِيَابِ السُّوقَةِ وَكَلَّمْتَنَا بِكَلَامِ الْأَشْرَافِ، فَلَمْ
نَحْتَمِلْ ذَلِكَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا
ضَمْرَةُ عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: يُولَدُ فِي كُلِّ مِائَةِ
سَنَةٍ رَجُلٌ تَامُّ الْعَقْلِ. فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ إِيَاسَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: دَخَلَ عَلَى إِيَاسٍ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ، فَلَمَّا رَآهُنَّ
قَالَ: أَمَّا إِحْدَاهُنَّ فَمُرْضِعٌ، وَالْأُخْرَى بِكْرٌ، وَالْأُخْرَى
ثَيِّبٌ. فَقِيلَ لَهُ: بِمَ عَلِمَتْ هَذَا ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْمُرْضِعُ
فَلَمَّا قَعَدَتْ أَمْسَكَتْ ثَدْيَهَا بِيَدِهَا، وَأَمَّا الْبِكْرُ فَلَمَّا
دَخَلَتْ لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَلَمَّا دَخَلَتْ
نَظَرَتْ وَرَمَتْ بِعَيْنَيْهَا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ:، ثَنَا الْأَحْنَفُ بْنُ حَكِيمٍ بِأَصْبَهَانَ
ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، سَمِعْتُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ:
أَعْرِفُ اللَّيْلَةَ الَّتِي وُلِدْتُ فِيهَا، وَضَعَتْ أُمِّي عَلَى رَأْسِي
جَفْنَةً.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ لِأُمِّهِ: مَا شَيْءٌ
سَمِعْتُهُ وَأَنْتِ حَامِلٌ بِي وَلَهُ جَلَبَةٌ شَدِيدَةٌ ؟ قَالَتْ: تِلْكَ يَا
بُنَيَّ طِسْتٌ سَقَطَتْ مِنْ فَوْقِ الدَّارِ إِلَى أَسْفَلَ، فَفَزِعْتُ
فَوَلَدَتُكَ تِلْكَ السَّاعَةَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ النُّمَيْرِيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ إِيَاسَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنْ أَكْذِبَ كِذْبَةً لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهَا إِلَّا أَبِي مُعَاوِيَةَ لَا أُحَاسَبُ عَلَيْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَأَنَّ لِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ،
ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ عَنْ إِيَاسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَا خَاصَمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بِعَقْلِي
كُلِّهِ إِلَّا الْقَدَرِيَّةَ ; قَلْتُ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنِ الظُّلْمِ مَا
هُوَ ؟ قَالُوا: أَخْذُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ لَهُ. قُلْتُ: فَإِنَّ اللَّهَ
لَهُ كُلُّ شَيْءٍ.
قَالَ بَعْضُهُمْ، عَنْ إِيَاسٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْكُتَّابِ وَأَنَا صَبِيٌّ،
فَجَعَلَ أَوْلَادُ النَّصَارَى يَضْحَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَقُولُونَ:
إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا فَضْلَةَ لِطَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
فَقُلْتُ لِلْفَقِيهِ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ مِنَ
الطَّعَامِ مَا يَنْصَرِفُ فِي غِذَاءِ الْبَدَنِ ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: فَمَا
تُنْكِرُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ طَعَامَ أَهْلِ الْجَنَّةِ كُلَّهُ غِذَاءً
لِأَبْدَانِهِمْ ؟ فَقَالَ لَهُ مُعَلِّمُهُ: مَا أَنْتَ إِلَّا شَيْطَانٌ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ إِيَاسٌ وَهُوَ صَغِيرٌ بِعَقْلِهِ قَدْ وَرَدَ بِهِ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فِي صِفَةِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ أَنَّ طَعَامَهُمْ يَنْصَرِفُ جُشَاءً وَعَرَقًا كَالْمِسْكِ، فَإِذَا
الْبَطْنُ ضَامِرٌ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ:
قَدِمَ إِيَاسٌ وَاسِطًا فَجَاءَهُ ابْنُ شُبْرُمَةَ بِمَسَائِلَ قَدْ أَعَدَّهَا،
فَقَالَ لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَسْأَلَكَ ؟ قَالَ: سَلْ، وَقَدِ ارْتَبْتُ
حِينَ اسْتَأْذَنْتَ. فَسَأَلَهُ عَنْ سَبْعِينَ مَسْأَلَةً يُجِيبُهُ فِيهَا،
وَلَمْ يَخْتَلِفَا إِلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ، رَدَّهُ إِيَاسٌ إِلَى
قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ إِيَاسٌ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَتَحْفَظُ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [
الْمَائِدَةِ: 3 ] ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا. قَالَ:
فَهَلْ أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِآلِ شُبْرُمَةَ رَأْيًا ؟
وَقَالَ عَبَّاسٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ،
ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: يَا
أَبَا وَاثِلَةَ حَتَّى مَتَى يَبْقَى النَّاسُ ؟ وَحَتَّى مَتَى يَتَوَالَدُ
النَّاسُ وَيَمُوتُونَ ؟ فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: أَجِيبُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُمْ جَوَابٌ، فَقَالَإِيَاسٌ: حَتَّى تَتَكَامَلَ الْعِدَّتَانِ ; عِدَّةُ
أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَعِدَّةُ أَهْلِ النَّارِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اكْتَرَى إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا
الْحَجَّ، فَرَكِبَ مَعَهُ فِي الْمَحْمَلِ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ وَلَا يَعْرِفُ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَمَكَثَا ثَلَاثًا لَا يُكَلِّمُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلَاثٍ تَحَادَثَا فَتَعَارَفَا، وَتَعَجَّبَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ اجْتِمَاعِهِ بِصَاحِبِهِ، لِمُبَايَنَةِ مَا بَيْنَهُمَا
فِي الِاعْتِقَادِ فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ لَهُ إِيَاسٌ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ
الْجَنَّةِ يَقُولُونَ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [
الْأَعْرَافِ: 43 ] وَيَقُولُ أَهْلُ النَّارِ:
رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا
شِقْوَتُنَا [ الْمُؤْمِنُونَ: 106 ] وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ لَا
عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [ الْبَقَرَةِ: 32 ] ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ مِنْ
أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَمْثَالِ الْعَجَمِ مَا فِيهِ إِثْبَاتُ الْقَدَرِ، ثُمَّ
اجْتَمَعَ مَرَّةً أُخْرَى إِيَاسٌ، وَغَيْلَانُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَنَاظَرَ بَيْنَهُمَا، فَقَهَرَهُ إِيَاسٌ وَمَا زَالَ يَحْصُرُهُ
فِي الْكَلَامِ حَتَّى اعْتَرَفَ غَيْلَانُ بِالْعَجْزِ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ،
فَدَعَا عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا،
فَاسْتَجَابَ اللَّهُ مِنْهُ، فَأُمْكِنَ مِنْ غَيْلَانَ فَقُتِلَ وَصُلِبَ بَعْدَ
ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِنْ كَلَامِ الْحَسَنِ: لَأَنْ يَكُونَ فِي فِعَالِ الرَّجُلِ فَضْلٌ عَنْ
قَوْلِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي قَوْلِهِ فَضْلٌ عَنْ فِعَالِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ: ذَكَرْتُ رَجُلًا بِسُوءٍ عِنْدَ إِيَاسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِي وَقَالَ: أَغَزَوْتَ الرُّومَ ؟ قُلْتُ: لَا.
قَالَ: فَالسِّنْدَ وَالْهِنْدَ وَالتُّرْكَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَفَسَلِمَ
مِنْكَ الرُّومُ وَالسِّنْدُ وَالْهِنْدُ وَالتُّرْكُ وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْكَ
أَخُوكَ الْمُسْلِمُ؟ ! قَالَ: فَلَمْ أَعُدْ بَعْدَهَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ: رَأَيْتُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي
بَيْتِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِذَا هُوَ أَحْمَرُ طَوِيلُ الذِّرَاعِ غَلِيظُ
الثِّيَابِ، يُلَوِّثُ عِمَامَتَهُ، وَهُوَ قَدْ غَلَبَ عَلَى الْكَلَامِ، فَلَا
يَتَكَلَّمُ مَعَهُ أَحَدٌ.
وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ فِيكَ عَيْبٌ سِوَى كَثْرَةِ كَلَامِكَ.
فَقَالَ: بِحَقٍّ
أَتَكَلَّمُ أَمْ بِبَاطِلٍ ؟ فَقِيلَ:
بَلْ بِحَقٍّ. فَقَالَ: كُلَّمَا كَثُرَ الْحَقُّ فَهُوَ خَيْرٌ.
وَلَامَهُ بَعْضُهُمْ فِي لِبَاسِهِ الثِّيَابَ الْغَلِيظَةَ، فَقَالَ: إِنَّمَا
أَلْبَسُ ثَوْبًا يَخْدِمُنِي وَلَا أَلْبَسُ ثَوْبًا أَخْدِمُهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: إِنَّ أَشْرَفَ خِصَالِ
الرَّجُلِ صَدَقُ اللِّسَانِ، وَمِنْ عَدِمَ فَضِيلَةَ الصِّدْقِ فَقَدْ فُجِعَ
بِأَكْرَمِ أَخْلَاقِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ إِيَاسًا عَنِ النَّبِيذِ، فَقَالَ: هُوَ
حَرَامٌ. فَقَالَ الرَّجُلُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْمَاءِ. فَقَالَ: حَلَالٌ.
قَالَ: فَالْكَشُوثُ ؟ قَالَ: حَلَالٌ. قَالَ: فَالتَّمْرُ ؟ قَالَ: حَلَالٌ.
قَالَ: فَمَا بَالُهُ إِذَا اجْتَمَعَ يَحْرُمُ ؟ فَقَالَ إِيَاسٌ: أَرَأَيْتَ
لَوْ رَمَيْتُكَ بِهَذِهِ الْحَفْنَةِ مِنَ التُّرَابِ، أَتُوجِعُكَ ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: فَهَذِهِ الْحَفْنَةُ مِنَ التِّبْنِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَذِهِ
الْغَرْفَةُ مِنَ الْمَاءِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ خَلَطْتُ هَذَا
بِهَذَا، وَهَذَا بِهَذَا حَتَّى صَارَ طِينًا، ثُمَّ اسْتَحْجَرَ، ثُمَّ
رَمَيْتُكَ، أَيُوجِعُكَ ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَيَقْتُلُنِي. قَالَ:
فَكَذَلِكَ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ إِذَا اجْتَمَعَتْ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَدِيَّ بْنَ
أَرْطَاةَ إِلَى الْبَصْرَةِ نَائِبًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ إِيَاسٍ،
وَالْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ الْجَوْشَنِيِّ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْقَهَ
فَلْيُوَلِّهِ الْقَضَاءَ. فَقَالَ إِيَاسٌ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَتَوَلَّى:
أَيُّهَا الرَّجُلُ، سَلْ فَقِيهَيِ الْبَصْرَةِ ; الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ.
وَكَانَ إِيَاسٌ لَا يَأْتِيهِمَا، فَعَرَفَ الْقَاسِمُ أَنَّهُ إِنْ سَأَلَهُمَا
أَشَارَا
بِهِ، فَقَالَ الْقَاسِمُ لِعَدِيٍّ:
وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّ إِيَاسًا أَفْضَلُ مِنِّي
وَأَفْقَهُ مِنِّي وَأَعْلَمُ بِالْقَضَاءِ، فَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فَوَلِّهِ،
وَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَمَا يَنْبَغِي أَنْ أَلِيَ الْقَضَاءَ. فَقَالَ إِيَاسٌ:
هَذَا رَجُلٌ أُوقِفَ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَافْتَدَى مِنْهَا بِيَمِينٍ
كَاذِبَةٍ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا. فَقَالَ عَدِيٌّ: أَمَا إِذْ فَطِنَتْ
إِلَى هَذَا فَقَدْ وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ. فَمَكَثَ سَنَةً يَفْصِلُ بَيْنَ
النَّاسِ وَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، وَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ حَكَمَ بِهِ،
ثُمَّ هَرَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى دِمَشْقَ، فَاسْتَعْفَى
مِنَ الْقَضَاءِ، فَوَلَّى عَدِيٌّ بُعْدَهُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ.
قَالُوا: لَمَّا تَوَلَّى إِيَاسٌ الْقَضَاءَ بِالْبَصْرَةِ فَرِحَ بِهِ الْعُلَمَاءُ،
حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ: لَقَدْ رَمَوْهَا بِحَجَرِهَا. وَجَاءَهُ الْحَسَنُ،
وَابْنُ سِيرِينَ فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، فَبَكَى إِيَاسٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ:
الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ ; قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ
فَقَالَ الْحَسَنُ: فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [
الْأَنْبِيَاءِ: 78، 79 ]. قَالُوا: ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ،
وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ لِلْخُصُومَاتِ، فَمَا قَامَ حَتَّى فَصَلَ
سَبْعِينَ قَضِيَّةً، حَتَّى كَانَ يُشَبَّهُ بِشُرَيْحٍ الْقَاضِي. وَرُوِيَ
أَنَّهُ كَانَ إِذَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ فَسَأَلَهُ عَنْهُ.
وَقَالَ إِيَاسٌ: إِنِّي لَأُكَلِّمُ النَّاسَ بِنِصْفِ عَقْلِي، فَإِذَا
اخْتَصَمَ إِلَيَّ اثْنَانِ جَمَعْتُ عَقْلِي كُلَّهُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنَّكَ
لَتُعْجَبُ بِرَأْيِكَ. فَقَالَ: لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ أَقْضِ بِهِ.
وَقَالَ لَهُ آخَرُ: إِنَّ فِيكَ خِصَالًا لَا تُعْجِبُنِي. فَقَالَ: مَا هِيَ ؟
فَقَالَ: تَحْكُمُ قَبْلَ أَنْ تَفْهَمَ، وَتُجَالِسَ كُلَّ أَحَدٍ، وَتَلْبَسُ
الثِّيَابَ الْغَلِيظَةَ. فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا أَكْثَرُ ; الثَّلَاثَةُ أَوِ
الِاثْنَانِ ؟ قَالَ: الثَّلَاثَةُ. فَقَالَ: مَا أَسْرَعَ مَا فَهِمْتَ
وَأَجَبْتَ. فَقَالَ: أَوَ يَجْهَلُ هَذَا أَحَدٌ ؟ فَقَالَ: وَكَذَلِكَ مَا
أَحْكَمُ أَنَا بِهِ، وَأَمَّا مُجَالَسَتِي لِكُلِّ أَحَدٍ فَلَأَنْ أَجْلِسَ
مَعَ مَنْ يَعْرِفُ لِي قَدْرِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَجْلِسَ مَعَ مَنْ لَا
يَعْرِفُ لِي قَدْرِي، وَأَمَّا الثِّيَابُ فَإِنَّمَا أَلْبَسُ مِنْهَا مَا يَقِينِي
لَا مَا أَقِيهِ أَنَا.
قَالُوا: وَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ اثْنَانِ قَدْ أَوْدَعَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ
الْآخَرِ مَالًا، وَجَحَدَهُ الْآخَرُ، فَقَالَ إِيَاسٌ لِلْمُودِعِ: أَيْنَ
أَوْدَعْتَهُ ؟ قَالَ: عِنْدَ شَجَرَةٍ فِي بُسْتَانٍ. فَقَالَ: انْطَلِقْ
إِلَيْهَا، فَقِفْ عِنْدَهَا لَعَلَّكَ تَتَذَكَّرُ. فَانْطَلَقَ. وَجَلَسَ
الْآخَرُ، فَجَعَلَ إِيَاسٌ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ وَيُلَاحِظُهُ، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ فَقَالَ لَهُ: أَوْصَلَ صَاحِبُكَ بَعْدُ إِلَيْهَا ؟ فَقَالَ: لَا
بَعْدُ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ: قُمْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ فَأَدِّ
إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَإِلَّا جَعَلْتُكَ نَكَالًا. وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ
فَقَامَ مَعَهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ وَدِيعَتَهُ بِكَمَالِهَا.
وَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَوْدَعْتُ عِنْدَ فُلَانٍ مَالًا،
وَقَدْ جَحَدَنِي. فَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ الْآنَ وَائْتِنِي غَدًا. وَبَعَثَ مِنْ
فَوْرِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الْجَاحِدِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ
قَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَنَا هَاهُنَا
مَالٌ، فَضَعْهُ عِنْدَكَ فِي مَكَانٍ حَرِيزٍ. فَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً.
فَقَالَ: لَهُ اذْهَبِ الْآنَ وَائْتِنِي غَدًا. وَأَصْبَحَ ذَلِكَ الرَّجُلُ
صَاحِبُ الْحَقِّ فَجَاءَ إِلَى إِيَاسٍ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ الْآنَ إِلَيْهِ
فَقُلْ لَهُ: أَعْطِنِي حَقِّي وَإِلَّا رَفَعَتُكَ إِلَى الْقَاضِي. فَذَهَبَ
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَخَافَ أَنْ لَا يُودِعَ عِنْدَهُ الْحَاكِمُ، فَدَفَعَ
إِلَيْهِ حَقَّهُ، فَجَاءَ إِلَى إِيَاسٍ فَأَعْلَمَهُ، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ
الرَّجُلُ مِنَ الْغَدِ ; رَجَاءَ أَنْ يُودَعَ، فَانْتَهَرَهُ إِيَاسٌ
وَطَرَدَهُ، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ خَائِنٌ.
وَتَحَاكَمَ إِلَيْهِ اثْنَانِ فِي جَارِيَةٍ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا
ضَعِيفَةُ الْعَقْلِ، فَقَالَ لَهَا إِيَاسٌ: أَيُّ رِجْلَيْكِ أَطْوَلَ ؟
فَقَالَتْ: هَذِهِ. فَقَالَ لَهَا: أَتَذْكُرِينَ لَيْلَةَ وُلِدْتِ ؟ فَقَالَتْ:
نَعَمْ. فَقَالَ لِلْبَائِعِ: رُدَّ رُدَّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ إِيَاسًا سَمِعَ صَوْتَ امْرَأَةٍ مِنْ بَيْتِهَا،
فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ بِصَبِيٍّ. فَلَمَّا وَلَدَتْ وَلَدَتْ كَمَا
قَالَ، فَسُئِلَ: بِمَ عَرَفْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: سَمِعْتُ صَوْتَهَا وَنَفَسُهَا
مَعَهُ، فَعَلِمْتُ أَنَّهَا حَامِلٌ، وَفِي صَوْتِهَا صَحَلٌ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ
غُلَامٌ. قَالُوا: ثُمَّ مَرَّ يَوْمًا بِبَعْضِ الْمَكَاتِبِ، فَإِذَا صَبِيٌّ
هُنَالِكَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ أَدْرِي شَيْئًا فَهَذَا الصَّبِيُّ ابْنُ تِلْكَ
الْمَرْأَةِ فَإِذَا هُوَ ابْنُهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: شَهِدَ رَجُلٌ
عِنْدَ إِيَاسٍ فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ ؟ فَقَالَ: أَبُو الْعَنْقَزِ. فَلَمْ
يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنِ
الْأَعْمَشِ: دَعَوْنِي إِلَى إِيَاسٍ فَإِذَا رَجُلٌ كُلَّمَا فَرَغَ مِنْ
حَدِيثٍ أَخَذَ فِي آخِرَ.
وَقَالَ إِيَاسٌ: كُلُّ رَجُلٍ لَا يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ فَهُوَ أَحْمَقُ.
فَقِيلَ لَهُ: فَمَا عَيْبُكَ ؟ قَالَ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ.
قَالُوا: وَلَمَّا مَاتَتْ أُمُّهُ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
كَانَ لِي بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إِلَى الْجَنَّةِ، فَغُلِقَ أَحَدُهُمَا.
وَقَالَ أَبُوهُ: إِنَّ النَّاسَ يَلِدُونَ أَبْنَاءً، وَوَلَدْتُ أَبًا.
وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَهُ، وَيَكْتُبُونَ عَنْهُ الْفِرَاسَةَ،
فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ جُلُوسٌ، إِذْ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ قَدْ جَاءَ،
فَجَلَسَ عَلَى دَكَّةِ حَانُوتٍ، وَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ أَحَدٌ يَنْظُرُ
إِلَيْهِ، ثُمَّ قَامَ فَنَظَرَ فِي وَجْهِ رَجُلٍ، ثُمَّ عَادَ، فَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ: هَذَا فَقِيهُ كُتَّابٍ قَدْ أَبَقَ لَهُ غُلَامٌ أَعْوَرُ فَهُوَ
يَتَطَلَّبُهُ. فَقَامُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَسَأَلُوهُ، فَوَجَدُوهُ كَمَا
قَالَ إِيَاسٌ فَقَالُوا لِإِيَاسٍ: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ:
لَمَّا جَلَسَ عَلَى دَكَّةِ الْحَانُوتِ عَلِمْتُ أَنَّهُ ذُو وِلَايَةٍ، ثُمَّ
نَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِفَقَاهَةِ الْمَكْتَبِ، ثُمَّ جَعَلَ
يَنْظُرُ إِلَى كُلِّ مَنْ يَمُرُّ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ فَقَدَ غُلَامًا،
ثُمَّ لَمَّا قَامَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِ ذَلِكَ الرَّجُلِ مِنَ الْجَانِبِ
الْآخَرِ، عَرَفْتُ أَنَّ غُلَامَهُ أَعْوَرُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِي تَرْجَمَتِهِ، مِنْ
ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ
عِنْدِي رَجُلٌ فِي بُسْتَانٍ،
فَقُلْتُ لَهُ: كَمْ عَدَدُ أَشْجَارِهِ ؟ فَقَالَ: كَمْ عَدَدُ جُذُوعِ هَذَا
الْمَجْلِسِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ مِنْ مُدَّةِ سِنِينَ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي.
وَأَقْرَرْتُ شَهَادَتَهُ.
قَالَ خَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوفِّيَ بِوَاسِطَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
عِشْرِينَ وَمِائَةٍ
ذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّ خَاقَانَ مِلْكَ التُّرْكِ لَمَّا
قُتِلَ فِي وِلَايَةِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ عَلَى خُرَاسَانَ،
تَفَرَّقَ شَمْلُ الْأَتْرَاكِ وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُغِيرُ عَلَى بَعْضٍ،
وَبَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تُخَرَّبَ بِلَادُهُمْ،
وَاشْتَغَلُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا سَأَلَ أَهْلُ الصُّغْدِ مِنْ أَمِيرِ خُرَاسَانَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ
أَنْ يَرُدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَسَأَلُوهُ شُرُوطًا أَنْكَرَهَا
الْعُلَمَاءُ، مِنْهَا ; أَنْ لَا يُعَاقَبُ مَنِ ارْتَدَّ مِنْهُمْ عَنِ
الْإِسْلَامِ، وَلَا تُؤْخَذُ أُسَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِشِدَّةِ نِكَايَتِهِمْ فِي
الْمُسْلِمِينَ، فَعَابَ عَلَيْهِ النَّاسُ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى هِشَامٍ فِي
ذَلِكَ فَتَوَقَّفَ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى أَنَّ هَؤُلَاءِ إِذَا اسْتَمَرُّوا عَلَى
مُعَانَدَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ ضَرَرُهُمْ أَشَدَّ، أَجَابَهُمْ إِلَى
ذَلِكَ.
وَقَدْ بَعَثَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ وَفْدًا إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ يَسْأَلُ مِنْهُ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ،
وَتَكَلَّمُوا فِي نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ بِأَنَّهُ وَإِنْ
كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَبِرَ وَضَعُفَ بَصَرُهُ فَلَا
يَعْرِفُ الرَّجُلَ إِلَّا مِنْ قَرِيبٍ بِصَوْتِهِ، وَتَكَلَّمُوا فِيهِ كَلَامًا
كَثِيرًا، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ هِشَامٌ وَاسْتَمَرَّ بِهِ عَلَى
إِمْرَةِ خُرَاسَانَ وَوِلَايَتِهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا يَزِيدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَالْعُمَّالُ فِيهَا مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الْقَصِيرُ مِنْ أَهْلِ
دِمَشْقَ وَأَبُو يُونُسَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسْعِ بْنِ جَابِرٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي
كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ "، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ
فَلَقِيَ مَلِكَ الرُّومِ أَلْيُونَ فَسَلِمَ سُلَيْمَانُ وَغَنِمَ.
وَفِيهَا قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنْ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ
قَاصِدِينَ إِلَى مَكَّةَ، فَمَرُّوا بِالْكُوفَةِ فَبَلَغَهُمْ أَنَّ فِي
السِّجْنِ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ نُوَّابِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيِّ قَدْ حَبَسَهُمْ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَاجْتَمَعُوا بِهِمْ فِي
السِّجْنِ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ لِبَنِي الْعَبَّاسِ وَإِذَا
عِنْدَهُمْ مِنْ ذَلِكَ جَانِبٌ كَبِيرٌ، فَقَبِلُوا مِنْهُمْ، وَوَجَدُوا
عِنْدَهُمْ فِي السِّجْنِ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ وَهُوَ إِذْ ذَاكَ
غُلَامٌ يَخْدِمُ عِيسَى بْنَ مَعْقِلَ الْعِجْلِيَّ وَكَانَ مَحْبُوسًا،
فَأَعْجَبَهُمْ شَهَامَتُهُ وَقُوَّتُهُ وَاسْتِجَابَتُهُ مَعَ مَوْلَاهُ إِلَى
هَذَا الْأَمْرِ، فَاشْتَرَاهُ بُكَيْرُ بْنُ مَاهَانَ مِنْهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ
دِرْهَمٍ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ، فَاسْتَنْدَبُوهُ لِهَذَا الْأَمْرِ،
فَكَانُوا لَا يُوَجِّهُونَهُ إِلَى مَكَانٍ
إِلَّا ذَهَبَ، وَنَتَجَ مَا
يُوَجِّهُونَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا
بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ دُعَاةُ بَنِي
الْعَبَّاسِ فَقَامَ مَقَامَهُ وَلَدُهُ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنَّمَا تُوُفِّيَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ
هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ
نَائِبَ الْحِجَازِ وَالطَّائِفِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
يَقِفُ عَلَى بَابِهَا، وَيَهْدِي إِلَيْهَا الْأَلْطَافَ وَالتُّحَفَ،
وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهَا مِنَ التَّقْصِيرِ، وَهِيَ لَا تَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ.
وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَكِّيُّ الْقَارِئُ، مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
السَّائِبِ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ
وَاثِلَةَ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَوَثَّقَهُ الْأَئِمَّةُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ. وَقِيلَ: سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
الزُّهْرِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ،
أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ الْأَعْلَامِ، مِنْ أَئِمَّةِ
الْإِسْلَامِ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، سَمِعَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَرَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَصَابَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَارْتَحَلْتُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ عِنْدِي
عِيَالٌ كَثِيرَةٌ، فَجِئْتُ جَامِعَهَا، فَجَلَسْتُ فِي أَعْظَمِ حَلْقَةٍ،
فَإِذَا رَجُلٌ قَدْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
مَسْأَلَةٌ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِيهَا شَيْئًا -
وَقَدْ شَذَّ عَنْهُ - فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ يَرْوِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أَحْفَظُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَخَذَنِي فَأَدْخَلَنِي عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ.
فَسَأَلَنِي: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَانْتَسَبْتُ لَهُ، وَذَكَرْتُ لَهُ حَاجَتِي
وَعِيَالِي، فَسَأَلَنِي: هَلْ تَحْفَظُ الْقُرْآنَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،
وَالْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ. فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَأَجَبْتُهُ،
فَقَضَى دَيْنِي، وَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ، وَقَالَ لِي: اطْلُبِ الْعِلْمَ، فَإِنِّي
أَرَى لَكَ عَيْنًا حَافِظَةً وَقَلْبًا ذَكِيًّا. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى
الْمَدِينَةِ أَطْلُبُ الْعِلْمَ وَأَتَتَبَّعُهُ، فَبَلَغَنِي أَنَّ امْرَأَةً
بِقُبَاءَ رَأَتْ رُؤْيَا عَجِيبَةً، فَأَتَيْتُهَا فَسَأَلْتُهَا عَنْ ذَلِكَ،
فَقَالَتْ: إِنَّ بِعْلِي مَاتَ وَتَرَكَ لَنَا خَادِمًا وَدَاجِنًا وَنُخَيْلَاتٍ
; نَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا،
وَنَأْكُلُ مِنْ ثَمَرِهَا،
فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمَةِ وَالْيَقْظَى رَأَيْتُ كَأَنَّ ابْنِي
الْكَبِيرَ - وَكَانَ مُشْتَدًّا - قَدْ أَقْبَلَ، فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ، فَذَبَحَ
وَلَدَ الدَّاجِنِ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يُضَيِّقُ عَلَيْنَا اللَّبَنَ. تَمَّ
نَصَبَ الْقِدْرَ، وَقَطَّعَهُ وَوَضَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ
فَذَبَحَ بِهَا أَخَاهُ - وَأَخُوهُ صَغِيرٌ كَمَا قَدْ جَاءَ - ثُمَّ
اسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورَةً، فَدَخَلَ وَلَدِي الْكَبِيرُ فَقَالَ: أَيْنَ
اللَّبَنُ ؟ فَقُلْتُ: شَرِبَهُ وَلَدُ الدَّاجِنِ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ
عَلَيْنَا اللَّبَنَ. ثُمَّ أَخَذَ الشَّفْرَةَ فَذَبَحَهُ وَقَطَّعَهُ فِي
الْقِدْرِ، فَبَقِيتُ مُشْفِقَةً خَائِفَةً مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذْتُ وَلَدِي
الصَّغِيرَ فَغَيَّبْتُهُ فِي بَعْضِ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ إِلَى
الْمَنْزِلِ وَأَنَا مُشْفِقَةٌ جِدًّا مِمَّا رَأَيْتُ، فَأَخَذَتْنِي عَيْنِي
فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ: مَا لَكِ مُغْتَمَّةً ؟ فَقُلْتُ:
إِنِّي رَأَيْتُ مَنَامًا، فَأَنَا أَحْذَرُ مِنْهُ. فَقَالَ: يَا رُؤْيَا، يَا
رُؤْيَا. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ
إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ ؟ قَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا خَيْرًا.
ثُمَّ قَالَ: يَا أَحْلَامُ، يَا أَحْلَامُ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ دُونَهَا فِي
الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَقَالَ: مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ
الصَّالِحَةِ ؟ فَقَالَتْ: مَا أَرَدْتُ إِلَّا خَيْرًا. ثُمَّ قَالَ: يَا
أَضْغَاثُ، يَا أَضْغَاثُ. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ شَعِثَةٌ، فَقَالَ:
مَا أَرَدْتِ إِلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ ؟ فَقَالَتْ: إِنَّهَا
امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَغُمَّهَا سَاعَةً. ثُمَّ اسْتَيْقَظْتُ،
فَجَاءَ ابْنِي فَوَضَعَ الطَّعَامَ، وَقَالَ: أَيْنَ أَخِي ؟ فَقُلْتُ لَهُ: دَرَجَ
إِلَى بُيُوتِ الْجِيرَانِ. فَذَهَبَ وَرَاءَهُ، فَكَأَنَّمَا هُدِيَ إِلَيْهِ،
فَأَقْبَلَ بِهِ يُقَبِّلُهُ، ثُمَّ وَضَعَهُ وَجَلَسْنَا جَمِيعًا، فَأَكَلَنَا
مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ.
وُلِدَ الزُّهْرِيُّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ
وَكَانَ قَصِيرًا قَلِيلَ اللِّحْيَةِ، لَهُ شَعَرَاتٌ طِوَالٌ، خَفِيفُ
الْعَارِضِينَ.
قَالُوا: وَقَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي نَحْوٍ مَنْ ثَمَانِينَ يَوْمًا، وَجَالَسَ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ
ثَمَانَ سِنِينَ أَوْ عَشْرَ سِنِينَ،
تَمَسُّ رُكْبَتُهُ رُكْبَتَهُ.
وَكَانَ يَخْدِمُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْتَقِي لَهُ الْمَاءَ
الْمَالِحَ، وَيَدُورُ عَلَى مَشَايِخِ الْحَدِيثِ وَمَعَهُ أَلْوَاحٌ يَكْتُبُ
عَنْهُمُ الْحَدِيثَ، وَيَكْتُبُ عَنْهُمْ كُلَّ مَا سَمِعَ مِنْهُمْ، حَتَّى
صَارَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ أَوْ أَعْلَمَهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَقَدِ احْتَاجَ
أَهْلُ عَصْرِهِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
كُنَّا نَكْرَهُ كِتَابَ الْعِلْمِ حَتَّى أَكْرَهَنَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ
الْأُمَرَاءُ، فَرَأَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَهُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ الزُّهْرِيُّ يَرْجِعُ مِنْ عِنْدِ عُرْوَةَ
فَيَقُولُ لِجَارِيَةٍ عِنْدَهُ فِيهَا لُكْنَةٌ: حَدَّثَنَا عُرْوَةُ ثَنَا
فُلَانٌ. وَيَسْرُدُ عَلَيْهَا مَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَتَقُولُ لَهُ الْجَارِيَةُ:
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ. فَيَقُولُ لَهَا: اسْكُتِي لَكَاعِ، فَإِنِّي
لَا أُرِيدُكِ، إِنَّمَا أُرِيدُ نَفْسِي.
ثُمَّ وَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِدِمَشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَكْرَمَهُ
وَقَضَى دَيْنَهُ، وَفَرَضَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَجُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَانَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَوْلَادِهِ مِنْ
بَعْدِهِ الْوَلِيدِ، وَسُلَيْمَانَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ ثُمَّ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَاسْتَقْضَاهُ يَزِيدُ
مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ ثُمَّ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ هِشَامٍ وَحَجَّ
مَعَهُ، وَجَعَلَهُ مُعَلِّمَ أَوْلَادِهِ إِلَى أَنْ تُوفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، قَبْلَ هِشَامٍ بِسَنَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ
اللَّيْثَ يَقُولُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: مَا اسْتَوْدَعْتُ قَلْبِي شَيْئًا قَطُّ
فَنَسِيتُهُ.
قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ أَكْلَ التُّفَّاحِ وَسُؤْرَ الْفَأْرِ، وَيَقُولُ:
إِنَّهُ يُنْسِي. وَكَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ وَيَقُولُ: إِنَّهُ يُذَكِّرُ.
وَفِيهِ يَقُولُ فَائِدُ بْنُ أَقْرَمَ:
ذَرْ ذَا وَأَثْنِ عَلَى الْكَرِيمِ مُحَمَّدٍ وَاذْكُرْ فَوَاضِلَهُ عَلَى
الْأَصْحَابِ وَإِذَا يُقَالُ مَنِ الْجَوَادُ بِمَالِهِ
قِيلَ الْجَوَادُ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابِ أَهْلُ الْمَدَائِنِ يَعْرِفُونَ
مَكَانَهُ
وَرَبِيعُ نَادِيهِ عَلَى الْأَعْرَابِ يَشْرِي وَفَاءَ جِفَانِهِ وَيَمُدُّهَا
بِكُسُورِ أَثْبَاجٍ وَفَتْقِ لُبَابِ
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: حَدَّثَ الزُّهْرِيُّ
يَوْمًا بِحَدِيثٍ، فَلَمَّا قَامَ أَخَذْتُ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ
فَاسْتَفْهَمْتُهُ، فَقَالَ: تَسْتَفْهِمُنِي ؟ مَا اسْتَفْهَمْتُ عَالِمًا قَطُّ،
وَلَا رَدَدْتُ عَلَى عَالِمٍ قَطُّ. ثُمَّ جَعَلَ ابْنُ مَهْدِيٍّ يَقُولُ:
فَذِيكَ الطِّوَالُ، وَتِلْكَ الْمَغَازِي.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ السَّلَامِيِّ عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدٍ - يَعْنِي
ابْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ سَأَلَ
الزُّهْرِيَّ أَنْ يَكْتُبَ لِبَنِيهِ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ، فَأَمْلَى عَلَى
كَاتِبِهِ أَرْبَعَمِائَةِ حَدِيثٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ
فَحَدَّثَهُمْ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ هِشَامًا قَالَ لِلزَّهْرِيِّ: إِنَّ ذَلِكَ
الْكِتَابَ ضَاعَ. فَقَالَ: لَا عَلَيْكَ. فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ تِلْكَ
الْأَحَادِيثَ، ثُمَّ أَخْرَجَ هِشَامٌ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ، فَإِذَا هُوَ لَمْ
يُغَادِرْ حَرْفًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ هِشَامٌ امْتِحَانَ حِفْظِهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ سَوْقًا
لِلْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: مَا رَأَيْتُ
أَحَدًا أَنَصَّ لِلْحَدِيثِ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَلَا أَهْوَنَ مِنَ الدِّينَارِ
وَالدِّرْهَمِ عِنْدَهُ، وَمَا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنْدَ الزُّهْرِيِّ
إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْبَعْرِ.
قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: وَلَقَدْ جَالَسْتُ جَابِرًا، وَابْنَ عَبَّاسٍ،
وَابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْسَقُ لِلْحَدِيثِ
مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَحْسَنُ النَّاسِ حَدِيثًا وَأَجْوَدُهُمْ
إِسْنَادًا الزُّهْرِيُّ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَحْسَنُ الْأَسَانِيدِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ:
مَكَثْتُ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً أَخْتَلِفُ مِنَ الْحِجَازِ إِلَى
الشَّامِ، وَمِنَ الشَّامِ إِلَى الْحِجَازِ فَمَا كُنْتُ أَسْمَعُ حَدِيثًا
أَسْتَطْرِفُهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: مَا رَأَيْتُ عَالِمًا قَطُّ أَجْمَعَ مِنَ ابْنِ شِهَابٍ
وَلَوْ سَمِعْتَهُ يُحَدِّثُ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَقُلْتَ: مَا
يُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا. وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ
قَلْتَ: لَا يُحْسِنُ إِلَّا هَذَا. وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ الْأَعْرَابِ
وَالْأَنْسَابِ قُلْتَ: لَا يُحْسِنُ إِلَّا هَذَا. وَإِنْ حَدَّثَ عَنِ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَانَ حَدِيثَهُ، ثُمَّ يَتْلُوهُ بِدُعَاءٍ جَامِعٍ،
يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَحَاطَ بِهِ عِلْمُكَ،
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ أَحَاطَ بِهِ
عِلْمُكَ، فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَ الزُّهْرِيُّ
أَسْخَى مَنْ رَأَيْتُ، كَانَ يُعْطِي كُلَّ مَنْ جَاءَ وَسَأَلَهُ، حَتَّى إِذَا
لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ شَيْءٌ اسْتَسْلَفَ، وَكَانَ يُطْعِمُ النَّاسَ الثَّرِيدَ
وَيَسْقِيهِمُ الْعَسَلَ، وَكَانَ يَسْمُرُ عَلَى شَرَابِ الْعَسَلِ كَمَا
يَسْمُرُ أَهْلُ الشَّرَابِ عَلَى شَرَابِهِمْ، وَيَقُولُ: اسْقُونَا
وَحَدِّثُونَا. فَإِذَا نَعَسَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ لَهُ: مَا أَنْتَ مِنْ سُمَّارِ
قُرَيْشٍ. وَكَانَتْ لَهُ قُبَّةٌ مُعَصْفَرَةٌ، وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ
مُعَصْفَرَةٌ، وَتَحْتُهُ بِسَاطٌ مُعَصْفَرٌ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: قَالَ يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ: مَا بَقِيَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْعِلْمِ مَا بَقِيَ عِنْدَ ابْنِ
شِهَابٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَ مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ: عَلَيْكُمْ بِابْنِ شِهَابٍ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ
بِسُنَّةٍ مَاضِيَةٍ مِنْهُ. وَكَذَا قَالَ مَكْحُولٌ.
وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنَ الزُّهْرِيِّ. فَقِيلَ
لَهُ: وَلَا الْحَسَنُ ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ مِنَ الزُّهْرِيِّ.
وَقِيلَ لِمَكْحُولٍ: مَنْ أَعْلَمُ مَنْ لَقِيتَ ؟ قَالَ: الزُّهْرِيُّ. قِيلَ:
ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: الزُّهْرِيُّ. قِيلَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: الزُّهْرِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ الزُّهْرِيُّ إِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ لَمْ يُحَدِّثْ
بِهَا أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: مُحَدِّثُو أَهْلِ الْحِجَازِ
ثَلَاثَةٌ الزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: الَّذِينَ أَفْتَوْا أَرْبَعَةٌ
الزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ
وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ
أَفْقَهُهُمْ عِنْدِي.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: ثَلَاثٌ إِذَا كُنَّ فِي الْقَاضِي فَلَيْسَ بِقَاضٍ، إِذَا
كَرِهَ اللَّوَائِمَ وَأَحَبَّ الْمَحَامِدَ، وَكَرِهَ الْعَزْلَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: كَانَ يُقَالُ: فُصَحَاءُ زَمَانِهِمُ
الزُّهْرِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ الَّذِي
أَدَّبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَدَّبَ
رَسُولُ اللَّهِ بِهِ أَمَّتَهُ أَمَانَةُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ لِيُؤَدِّيَهُ
عَلَى مَا أُدِّيَ إِلَيْهِ، فَمَنْ سَمِعَ عِلْمًا فَلْيَجْعَلْهُ أَمَامَهُ
حُجَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَمِرُّوا
أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَتْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ مِنْ غَوَائِلِ
الْعِلْمِ أَنْ يُتْرَكَ الْعَالِمُ
حَتَّى يَذْهَبَ عِلْمُهُ،
وَالنِّسْيَانَ، وَالْكَذِبَ، وَهُوَ أَشَدُّ الْغَوَائِلِ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالَمِ
وَالسَّمَاعُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إِذَا طَالَ
الْمَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَقَدْ قَضَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَرَّةً ثَمَانِينَ أَلْفًا.
وَفِي رِوَايَةٍ: سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَفِي رِوَايَةٍ عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَتَبَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي
الْإِسْرَافِ، وَكَانَ يَسْتَدِينُ، فَقَالَ لَهُ: لَا آمَنُ أَنْ يَحْبِسَ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ عَنْكَ فَتَكُونَ قَدْ حُمِلْتَ عَلَى
أَمَانَتِكَ. قَالَ: فَوَعَدَهُ الزُّهْرِيُّ أَنْ يُقْصِرَ، فَمَرَّ بِهِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَقَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ وَنَصَبَ مَوَائِدَ الْعَسَلِ، فَوَقَفَ بِهِ
رَجَاءٌ وَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا هَذَا بِالَّذِي فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ الزُّهْرِيُّ: انْزِلْ فَإِنَّ السَّخِيَّ لَا تُؤَدِّبُهُ
التَّجَارِبُ.
وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى:
لَهُ سَحَائِبُ جُودٍ فِي أَنَامِلِهِ أَمْطَارُهَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ
وَالذَّهَبُ
يَقُولُ فِي الْعُسْرِ إِنْ أَيْسَرْتُ ثَانِيَةً أَقْصَرْتُ عَنْ بَعْضِ مَا
أُعْطِي وَمَا أَهَبُ
حَتَّى إِذَا عَادَ أَيَامُ الْيَسَارِ
لَهُ رَأَيْتَ أَمْوَالَهُ فِي النَّاسِ تُنْتَهَبُ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وُلِدَ الزُّهْرِيُّ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقَدِمَ
فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ إِلَى أَمْوَالِهِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ
بِشَغْبٍ وَبَدَا فَأَقَامَ بِهَا، فَمَرِضَ هُنَاكَ وَمَاتَ، وَأَوْصَى أَنْ
يُدْفَنَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً،
قَالُوا: وَكَانَ ثِقَةً، كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ،
فَقِيهًا جَامِعًا.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ الْعَسْقَلَانِيُّ: رَأَيْتُ قَبْرَ
الزُّهْرِيِّ بِأَدَامَى - وَهِيَ خَلْفَ شَغْبٍ وَبَدَا مِنْ فِلَسْطِينَ -
مُسَنَّمًا مُجَصَّصًا.
وَقَدْ وَقَفَ الْأَوْزَاعِيُّ يَوْمًا عَلَى قَبْرِهِ فَقَالَ: يَا قَبْرُ كَمْ
فِيكَ مِنْ عِلْمٍ وَحِلْمٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ تُوفِّيَ الزُّهْرِيُّ بِأَمْوَالِهِ بِشَغْبٍ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ لِيَدْعُوَ لَهُ الْمَارَّةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: سَنَةَ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، كَمَا
أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ:
بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ بْنِ تَمِيمٍ السُّكُونِيُّ أَبُو عَمْرٍو وَيُقَالُ: أَبُو
زُرْعَةَ إِمَامُ الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ أَيَّامَ هِشَامٍ وَقَاصُّ أَهْلِ
الشَّامِ، كَانَ أَحَدَ الزُّهَّادِ الْكِبَارِ وَالْعُبَّادِ الصُّوَّامِ
الْقُوَّامِ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ لَهُ صُحْبَةٌ، وَعَنْ جَابِرٍ،
وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَكْتُبُ عَنْهُ مَا
يَقُولُهُ مِنَ الْفَوَائِدِ الْعَظِيمَةِ فِي قَصَصِهِ وَوَعْظِهِ، وَقَالَ: مَا
رَأَيْتُ وَاعِظًا قَطُّ مِثْلَهُ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا بَلَغَنِي عَنْ أَحَدٍ
مِنَ الْعِبَادَةِ مَا بَلَغَنِي عَنْهُ، كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ، وَهُوَ الْأَصْمَعِيُّ: كَانَ إِذَا نَعَسَ فِي لَيْلِ
الشِّتَاءِ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي ثِيَابِهِ فِي الْبِرْكَةِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ مَاءَ الْبِرْكَةِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ
صَدِيدِ جَهَنَّمَ.
وَقَالَ آخَرُ، وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ: كَانَ إِذَا كَبَّرَ فِي الْمِحْرَابِ سَمِعُوا تَكْبِيرَهُ مِنَ
الْأَوْزَاعِ - قُلْتُ: وَهِيَ خَارِجُ بَابِ الْفَرَادِيسِ بِمَحَلَّةِ سُوقِ
قُمَيْلَةَ الْيَوْمَ - قَالَ: وَكُنَّا نَتَبَيَّنُ قِرَاءَتَهُ مِنْ عَقَبَةِ
الشِّيحِ عِنْدَ دَارِ الضِّيَافَةِ. يَعْنِي مِنْ عِنْدِ دَارِ الذَّهَبِ دَاخِلَ
بَابِ الْفَرَادِيسِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ شَامِيٌّ تَابِعِيٌّ
ثِقَةٌ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، قَاصًّا
حَسَنَ الْقِصَصِ.
وَقَدِ اتَّهَمَهُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ بِالْقَدَرِ، حِينَ قَالَ بِلَالٌ
يَوْمًا فِي وَعْظِهِ: رُبَّ مَسْرُورٍ مَغْبُونٍ، وَرُبَّ مَغْبُونٍ لَا يَشْعُرُ،
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَهُ الْوَيْلُ وَلَا يَشْعُرُ، يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَضْحَكُ،
وَقَدْ حَقَّ عَلَيْهِ فِي قَضَاءِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَا
وَيْلٌ لَكَ رُوحًا، وَيَا وَيْلٌ لَكَ جَسَدًا، فَلْتَبْكِ وَلْتَبْكِ عَلَيْكَ
الْبَوَاكِي لِطُولِ الْأَمَدِ.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ شَيْئًا حَسَنًا مِنْ كَلَامِهِ فِي مَوَاعِظِهِ
الْبَلِيغَةِ ; فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ لَكَفَى بِهِ ذَنْبًا أَنَّ
اللَّهَ يُزَهِّدُنَا فِي الدُّنْيَا، وَنَحْنُ نَرْغَبُ فِيهَا،
زَاهِدُكُمْ رَاغِبٌ، وَعَالِمُكُمْ
جَاهِلٌ، وَمُجْتَهِدُكُمْ مُقَصِّرٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: أَخٌ لَكَ كُلَّمَا لَقِيَكَ ذَكَّرَكَ بِنَصِيبِكَ مِنَ
اللَّهِ، أَوْ أَخْبَرَكَ بِعَيْبٍ فِيكَ، أَحَبُّ إِلَيْكَ وَخَيْرٌ لَكَ مِنْ
أَخٍ كُلَّمَا لَقِيَكَ وَضَعَ فِي كَفِّكَ دِينَارًا.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا تَكُنْ وَلِيًّا لِلَّهِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَعَدُوَّهُ فِي
السِّرِّ، وَلَا تَكُنْ ذَا وَجْهَيْنِ وَذَا لِسَانَيْنِ، فَتُظْهِرُ لِلنَّاسِ
أَنَّكَ تَخْشَى اللَّهَ لِيَحْمَدُوكَ، وَقَلْبُكَ فَاجِرٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا لِلْفَنَاءِ،
وَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ لِلْبَقَاءِ، تُنْقَلُونَ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ، كَمَا
نُقِلْتُمْ مِنَ الْأَصْلَابِ إِلَى الْأَرْحَامِ، وَمِنَ الْأَرْحَامِ إِلَى
الدُّنْيَا، وَمِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْقُبُورِ، وَمِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ،
وَمِنَ الْمَوْقِفِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ.
وَقَالَ أَيْضًا: عِبَادُ الرَّحْمَنِ، إِنَّكُمْ تَعْمَلُونَ فِي أَيَّامٍ
قِصَارٍ لِأَيَّامٍ طِوَالٍ، وَفِي دَارِ زَوَالٍ لِدَارِ مُقَامٍ، وَدَارِ حُزْنٍ
وَنَصَبٍ لِدَارِ نَعِيمٍ وَخُلْدٍ، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَلَى يَقِينٍ فَلَا
يَتَعَنَّ، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، لَوْ قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاكُمُ الْمَاضِيَةُ
لَكَانَ فِيمَا تَسْتَقْبِلُونَ لَكُمْ شُغُلٌ، وَلَوْ عَمِلْتُمْ بِمَا
تَعْمَلُونَ لَكُنْتُمْ عِبَادَ اللَّهِ حَقًّا، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، أَمَّا مَا
وَكَلَكُمُ اللَّهُ بِهِ
فَتُضَيِّعُونَهُ، وَأَمَّا مَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ فَتَطْلُبُونَهُ !
مَا هَكَذَا نَعَتَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُوقِنِينَ، أَذَوُو عُقُولٍ فِي
الدُّنْيَا وَبُلْهٌ عَمَّا خُلِقْتُمْ لَهُ ؟ ! فَكَمَا تَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ
بِمَا تُؤَدُّونَ مِنْ طَاعَتِهِ، فَكَذَلِكَ أَشْفِقُوا مِنْ عَذَابِهِ بِمَا
تَنْتَهِكُونَ مِنْ مَعَاصِيهِ، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، هَلْ جَاءَكُمْ مُخْبِرٌ
يُخْبِرُكُمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِكُمْ تُقُبِّلَ مِنْكُمْ ؟ أَوْ شَيْئًا
مِنْ خَطَايَاكُمْ غُفِرَ لَكُمْ ؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 115 ] وَاللَّهِ لَوْ
عُجِّلَ لَكُمُ الثَّوَابُ فِي الدُّنْيَا لَاسْتَقْلَلْتُمْ مَا فُرِضَ
عَلَيْكُمْ، أَتَرْغَبُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ لِتَعْجِيلِ دَارٍ مَغْمُورَةٍ
بِالْآفَاتِ، وَلَا تَرْغَبُونَ وَتَنَافِسُونَ فِي جَنَّةٍ أُكُلُهَا دَائِمٌ
وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ
[ الرَّعْدِ: 35 ] ؟ !
وَقَالَ أَيْضًا: الذِّكْرُ ذِكْرَانِ ; ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ حَسَنٌ
جَمِيلٌ، وَذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ أَفْضَلُ، عِبَادُ
الرَّحْمَنِ، يُقَالُ لِأَحَدِنَا: تُحِبُّ أَنْ تَمُوتَ ؟ فَيَقُولُ: لَا.
فَيُقَالُ: لِمَ ؟ فَيَقُولُ: حَتَّى أَعْمَلَ. فَيُقَالُ لَهُ: اعْمَلْ.
فَيَقُولُ: سَوْفَ. فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ،
وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَ عَمَلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا
يُحِبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ عَنْهُ عَرَضُ دُنْيَاهُ، عِبَادَ الرَّحْمَنِ، إِنَّ
الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْفَرِيضَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَقَدْ أَضَاعَ مَا سِوَاهَا، فَمَا يَزَالُ يُمَنِّيهِ الشَّيْطَانُ
فِيهَا وَيُزَيِّنُ لَهُ حَتَّى مَا يَرَى شَيْئًا دُونَ الْجَنَّةِ، فَقَبْلَ
أَنْ تَعْمَلُوا أَعْمَالَكُمْ فَانْظُرُوا مَاذَا تُرِيدُونَ بِهَا، فَإِنْ كَانَتْ
خَالِصَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَمْضُوهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ
فَلَا تَشُقُّوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَلَا شَيْءَ لَكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا
يَقْبَلُ
مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ
خَالِصًا، فَإِنَّهُ قَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ فَاطِرٍ: 10 ].
وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ إِلَى عَذَابِكُمْ بِسَرِيعٍ ; يُقِيلُ
الْعَثْرَةَ، وَيَقْبَلُ الْمُقْبِلَ، وَيَدْعُو الْمُدْبِرَ.
وَقَالَ أَيْضًا: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ لَجُوجًا، مُمَارِيًا، مُعْجَبًا
بِرَأْيِهِ، فَقَدْ تَمَّتْ خَسَارَتُهُ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: خَرَجَ النَّاسُ بِدِمَشْقَ يَسْتَسْقُونَ، فَقَامَ
فِيهِمْ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ مَنْ حَضَرْتُمْ، أَلَسْتُمْ
مُقِرِّينَ بِالْإِسَاءَةِ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ
قُلْتَ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [ التَّوْبَةِ: 91 ] وَقَدْ
أَقْرَرْنَا بِالْإِسَاءَةِ، فَاعْفُ عَنَّا وَاسْقِنَا. قَالَ: فَسُقُوا
يَوْمَهُمْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا يَشْتَدُّونَ
بَيْنَ الْأَعْرَاضِ، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا جَنَّهُمُ
اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا. وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا يَقُولُ: لَا تَنْظُرُ إِلَى
صِغَرِ الذَّنْبِ، وَانْظُرْ مَنْ عَصَيْتَ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ بَادَأَكَ
بِالْوُدِّ فَقَدَ اسْتَرَقَّكَ بِالشُّكْرِ.
وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَمِنْ تَبِعَاتِ الذُّنُوبِ، وَمِنْ
مُرْدِيَاتِ الْأَعْمَالِ، وَمُضِلَّاتِ الْفِتَنِ.
الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ،
هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ
مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ وَهُوَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي
أُمَيَّةَ كَانَ شَيْخُهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أَصْلُهُ مِنْ حَرَّانَ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي بَنِي مَرْوَانَ. سَكَنَ الْجَعْدُ دِمَشْقَ،
وَكَانَتْ لَهُ بِهَا دَارٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْقَلَانِسِيِّينَ إِلَى جَانِبِ
الْكَنِيسَةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قُلْتُ: وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِالْقُرْبِ
مِنَ الْخَوَّاصِينَ الْيَوْمَ غَرْبِيَّهَا عِنْدَ حَمَّامِ الْقَطَّانِينَ
الَّذِي يُقَالُ لَهُ: حَمَّامُ قُلَيْنِسَ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ: وَقَدْ أَخَذَ بِدْعَتَهُ عَنْ بَيَانِ بْنِ
سَمْعَانَ وَأَخَذَهَا بَيَانٌ عَنْ طَالُوتِ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ
وَزَوْجِ ابْنَتِهِ، عَنْ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ السَّاحِرِ لَعَنَهُ اللَّهُ،
وَأَخَذَ عَنِ الْجَعْدِ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ الْخَزَرِيُّ. وَقِيلَ:
التِّرْمِذِيُّ. وَقَدْ أَقَامَ بِبَلْخَ وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ مُقَاتِلِ بْنِ
سُلَيْمَانَ فِي مَسْجِدِهِ
وَيَتَنَاظَرَانِ، حَتَّى نُفِيَ إِلَى
تِرْمِذَ، ثُمَّ قُتِلَ الْجَهْمُ بِأَصْبَهَانَ وَقِيلَ: بِمَرْوَ. قَتَلَهُ
نَائِبُهَا سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَزَاهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ
خَيْرًا، وَأَخَذَ بِشْرُ الْمَرِيسِيُّ عَنِ الْجَهْمِ وَأَخَذَ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي دُؤَادٍ، عَنْ بِشْرٍ وَأَمَّا الْجَعْدُ لَعَنَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ
أَقَامَ بِدِمَشْقَ حَتَّى أَظْهَرَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَتَطَلَّبَهُ
بَنُو أُمَيَّةَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَسَكَنَ الْكُوفَةَ فِلْقَيْهِ بِهَا
الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَتَقَلَّدَ هَذَا الْقَوْلَ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ،
ثُمَّ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى
بِالْكُوفَةِ وَذَلِكَ أَنَّ خَالِدًا خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ
تِلْكَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي
مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ
عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ فِي أَصْلِ
الْمِنْبَرِ بِيَدِهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَقَبَّلَ مِنْهُ، وَذَلِكَ
فِي أَيَّامِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَدْ كَانَ هِشَامٌ طَلَبَهُ
بِدِمَشْقَ حِينَ أَظْهَرَ مَا أَظْهَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ هَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ،
فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ أَنْ
يَقْتُلَهُ، فَقَتَلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ رَوَى قِصَّتَهُ مَعَ خَالِدٍ
الْبُخَارِيُّ فِي " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ كَالطَّبَرَانِيِّ، وَابْنِ
أَبِي عَاصِمٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
" التَّارِيخِ ".
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَأَنَّهُ كَانَ
كُلَّمَا رَاحَ إِلَى وَهْبٍ
يَغْتَسِلُ وَيَقُولُ: أَجْمَعُ
لِلْعَقْلِ. وَكَانَ يَسْأَلُ وَهْبًا عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ
لَهُ وَهْبٌ يَوْمًا: وَيْلَكَ يَا جَعْدُ أَقْصِرِ الْمَسْأَلَةَ، إِنِّي
لَأَظُنُّكَ مِنَ الْهَالِكِينَ، لَوْ لَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
أَنَّ لَهُ يَدًا مَا قُلْنَا ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُ عَيْنًا مَا قُلْنَا ذَلِكَ.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثِ الْجَعْدُ أَنْ صُلِبَ، ثُمَّ قُتِلَ.
وَذُكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ وَيُرْوَى
لِعِمْرَانِ بْنِ حِطَّانَ:
لَيْثٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخَاءُ تَجْفُلُ مِنْ صَفِيرِ
الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الْوَغَى بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ
طَائِرِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا رِزْقُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، ثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:تُرْفَعُ زِينَةُ الدُّنْيَا سَنَةَ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي "
مُسْنَدِهِ " عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نُفَيْلٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ مُصْعَبٍ
عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. قُلْتُ: وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ وَمُصْعَبُ بْنُ
مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ تُكُلِّمَ فِيهِ،
وَضَعَّفَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْدِ وَكَذَا تَكَلَّمَ فِي
الرَّاوِي عَنْهُ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا غَزَا النُّعْمَانُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ
مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا تُوَفِّي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
ذِكْرُ وَفَاتِهِ وَتَرْجَمَتِهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
هُوَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَبُو الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ
الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّهُ أُمُّ هِشَامٍ
بِنْتُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ
عِنْدَ بَابِ الْخَوَّاصِينَ وَبَعْضُهَا الْيَوْمَ مَدْرَسَةُ نُورِ الدِّينِ
الشَّهِيدِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: النُّورِيَّةُ الْكَبِيرَةُ. وَتُعْرَفُ
بِدَارِ الْقَبَّابِينَ يَعْنِي الَّذِينَ يَبِيعُونَ الْقِبَابَ. وَهِيَ
الْخِيَامُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ
أَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِعَهْدٍ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ، وَكَانَ
لَهُ مِنَ الْعُمْرِ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ جَمِيلًا
أَبْيَضَ أَحْوَلَ، يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَهُوَ الرَّابِعُ مِنْ وَلَدِ عَبْدِ
الْمَلِكِ لِصُلْبِهِ الَّذِينَ وُلُّوا الْخِلَافَةَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ بَالَ فِي الْمِحْرَابِ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ، فَدَسَّ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْهَا،
فَفَسَّرَهَا لَهُ بِأَنَّهُ يَلِي الْخِلَافَةَ مِنْ وَلَدِهِ أَرْبَعَةٌ،
فَوَقَعَ ذَلِكَ، فَكَانَ هِشَامٌ آخِرَهُمْ، وَكَانَ فِي خِلَافَتِهِ حَازِمَ
الرَّأْيِ، جَمَّاعًا لِلْأَمْوَالِ يُبَخَّلُ، وَكَانَ ذَكِيًّا مُدَبِّرًا، لَهُ
بَصَرٌ بِالْأُمُورِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ،
شَتَمَ مَرَّةً رَجُلًا مِنَ الْأَشْرَافِ، فَقَالَ: أَتَشْتُمُنِي وَأَنْتَ
خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ؟ فَاسْتَحْيَا وَقَالَ: اقْتَصَّ مِنِّي بَدَلَهَا.
أَوْ قَالَ: بِمِثْلِهَا. فَقَالَ: إِذَنْ أَكُونُ سَفِيهًا مِثْلَكَ. قَالَ:
فَخُذْ عِوَضًا مِنْهَا. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. قَالَ: فَاتْرُكْهَا لِلَّهِ.
قَالَ: هِيَ لِلَّهِ، ثُمَّ لَكَ.
فَقَالَ هِشَامٌ عِنْدَ ذَلِكَ: وَاللَّهِ لَا أَعُودُ إِلَى مِثْلِهَا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أَسْمَعَ رَجُلٌ هِشَامًا كَلَامًا، فَقَالَ لَهُ:
أَتَقُولُ لِي مِثْلَ هَذَا وَأَنَا خَلِيفَتُكَ ؟
وَغَضِبَ مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ، فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ وَإِلَّا ضَرَبْتُكَ
سَوْطًا.
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ قَدِ اقْتَرَضَ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
مَالًا ; أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي
مَرْوَانَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ هِشَامٌ فَقَالَ: مَا فَعَلَ حَقُّنَا قِبَلَكَ ؟
قَالَ: مَوْفُورٌ مَشْكُورٌ. فَقَالَ: هُوَ لَكَ.
وَكَانَ هِشَامٌ مِنْ أَكْرَهِ النَّاسِ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَلَقَدْ دَخَلَ
عَلَيْهِ مِنْ مَقْتَلِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنِهِ يَحْيَى أَمْرٌ شَدِيدٌ،
وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي افْتَدَيْتُهُمَا بِجَمِيعِ مَا أَمْلِكُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ غَنِيٍّ، عَنْ بِشْرٍ مَوْلَى هِشَامٍ
قَالَ: أُتِيَ هِشَامٌ بِرَجُلٍ عِنْدَهُ قِيَانٌ وَخَمْرٌ وَبَرْبَطٌ. فَقَالَ:
اكْسِرُو الطُّنْبُورَ عَلَى رَأْسِهِ
وَقَرْنِهِ. فَبَكَى الشَّيْخُ. قَالَ
بِشْرٌ: فَضَرَبَهُ، فَقُلْتُ لَهُ وَأَنَا أُعَزِّيهِ: عَلَيْكَ بِالصَّبْرِ.
فَقَالَ: أَتُرَانِي أَبْكِي لِلضَّرْبِ، إِنَّمَا أَبْكِي لِاحْتِقَارِهِ
الْبَرْبَطَ حَتَّى سَمَّاهُ طُنْبُورًا.
قَالَ: وَأَغْلَظَ لِهِشَامٍ رَجُلٌ يَوْمًا فِي الْكَلَامِ فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ
أَنْ تَقُولَ هَذَا لِإِمَامِكَ.
قَالَ: وَتَفَقَّدَ أَحَدَ وَلَدِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ: مَا
لَكَ لَمْ تَشْهَدِ الْجُمُعَةَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَغْلَتِي عَجَزَتْ عَنِّي.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ: أَمَا كَانَ يُمْكِنُكَ الْمَشْيُ. وَمَنَعَهُ أَنْ يَرْكَبَ
سَنَةً.
وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إِلَى هِشَامٍ طَيْرَيْنِ،
فَأَوْرَدَهُمَا السَّفِيرُ إِلَى هِشَامٍ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي
وَسَطِ دَارِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَرْسِلْهُمَا فِي الدَّارِ. فَأَرْسَلَهُمَا،
ثُمَّ قَالَ: جَائِزَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَمَا
جَائِزَتُكَ عَلَى هَدِيَّةٍ طَيْرَيْنِ ؟ خُذْ أَحَدَهُمَا. فَجَعَلَ الرَّجُلُ
يَسْعَى خَلْفَ أَحَدِهِمَا، فَقَالَ: وَيْحَكَ ! مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: أَخْتَارُ
أَجْوَدَهُمَا. قَالَ: وَتَخْتَارُ أَيْضًا الْجَيِّدَ وَتَتْرُكَ الرَّدِيءَ ؟
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا.
وَذَكَرَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ قَحْذَمٍ كَاتِبِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
بَعَثَنِي يُوسُفُ إِلَى هِشَامٍ بِيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَلُؤْلُؤَةٍ كَانَتَا
لِرَائِقَةَ جَارِيَةِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ
مُشْتَرَى الْيَاقُوتَةِ ثَلَاثَةٌ
وَسَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ
فَوْقَهُ فَرْشٌ لَمْ أَرَ رَأْسَ هِشَامٍ مِنْ عُلُوِّ تِلْكَ الْفُرُشِ،
فَأَوْرَدْتُهَا لَهُ، فَقَالَ: كَمْ زِنْتُهُمَا ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ
لَا مِثْلَ لَهَا. فَسَكَتَ.
قَالُوا: وَرَأَى قَوْمًا يَفْرِطُونَ الزَّيْتُونَ، فَقَالَ: الْقُطُوهُ لَقْطًا،
وَلَا تَنْفُضُوهُ نَفَضَا، فَتُفْقَأَ عُيُونُهُ وَتَنْكَسِرَ غُصُونُهُ.
وَكَانَ يَقُولُ: ثَلَاثَةٌ لَا يَضَعْنَ الشَّرِيفَ ; تَعَاهُدُ الصَّنِيعَةِ،
وَإِصْلَاحُ الْمَعِيشَةِ، وَطَلَبُ الْحَقِّ وَإِنْ قَلَّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ: يُقَالُ: إِنَّ هِشَامًا لَمْ يَقُلْ مِنَ
الشِّعْرِ سِوَى هَذَا الْبَيْتِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَكَ الْهَوَى إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ
عَلَيْكَ مَقَالُ
وَقَدْ رُوِيَ لَهُ شِعْرٌ غَيْرُ هَذَا.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ وَسْنَانَ الْأَعْرَجِيِّ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي
نُحَيْلَةَ، عَنْ عَقَّالِ بْنِ شَبَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى هِشَامٍ وَعَلَيْهِ
قَبَاءُ فَنَكٍ أَخْضَرُ، فَوَجَّهَنِي إِلَى
خُرَاسَانَ 72، ثُمَّ جَعَلَ يُوصِينِي
وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْقَبَاءِ، فَفَطِنَ، فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ قُلْتُ:
رَأَيْتُ عَلَيْكَ قَبَاءَ فَنَكٍ أَخْضَرَ قَبْلَ أَنْ تَلِيَ الْخِلَافَةَ،
فَجَعَلْتُ أَتَأَمَّلُ هَذَا ; أَهْوَ ذَاكَ أَمْ غَيْرُهُ ؟ قَالَ: هُوَ
وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ذَاكَ، مَا لِي قَبَاءٌ غَيْرُهُ، وَأَمَّا
مَا تَرَوْنَ مِنْ جَمْعِي لِهَذَا الْمَالِ وَصَوْنِهِ فَإِنَّهُ لَكُمْ. قَالَ
عَقَّالٌ: وَكَانَ هِشَامٌ مَحْشُوًّا عَقْلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ: جَمَعْتُ دَوَاوِينَ
بَنِي أُمَيَّةَ فَلَمْ أَرَ أَصْلَحَ لِلْعَامَّةِ وَالسُّلْطَانِ مِنْ دِيوَانِ
هِشَامٍ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ غَسَّانَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ: لَمْ يَكُنْ
أَحَدٌ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ أَشَدَّ نَظَرًا فِي أَمْرِ أَصْحَابِهِ
وَدَوَاوِينِهِ، وَلَا أَشَدَّ مُبَالَغَةً فِي الْفَحْصِ عَنْهُمْ مِنْ هِشَامٍ.
وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ وَلَمَّا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! قُلْ مَا عِنْدَكَ، إِنْ كَانَ حَقًّا اتَّبَعْنَاهُ،
وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا رَجَعْتَ عَنْهُ. فَنَاظَرَهُ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ
فَقَالَ لِمَيْمُونٍ: أَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعْصَى ؟ فَقَالَ لَهُ مَيْمُونٌ:
أَيُعْصَى اللَّهُ كَارِهًا ؟ فَسَكَتَ غَيْلَانُ، فَقَيَّدَهُ حِينَئِذٍ هِشَامٌ
وَقَتَلَهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ مُنْذِرِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ قَالَ: أَصَبْنَا فِي خَزَائِنِ
هِشَامٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ قَمِيصٍ، كُلُّهَا قَدْ أُثِرَ بِهَا.
وَشَكَى هِشَامٌ إِلَى أَبِيهِ ثَلَاثًا ; إِحْدَاهَا أَنَّهُ يَهَابُ الصُّعُودَ
عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالثَّانِيَةُ، قِلَّةُ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ،
وَالثَّالِثَةُ، أَنَّ عِنْدَهُ فِي الْقَصْرِ مِائَةُ جَارِيَةٍ لَا يَكَادُ
يَصِلُ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ: أَمَّا صُعُودُكَ
عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا عَلَوْتَ فَوْقَهُ فَارْمِ بِبَصَرِكَ إِلَى مُؤَخَّرِ
النَّاسِ فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكَ، وَأَمَّا قِلَّةُ الطَّعَامِ فَمُرِ
الطَّبَّاخَ فَلْيُكْثِرِ الْأَلْوَانَ، فَلَعَلَّكَ أَنْ تَتَنَاوَلَ مِنْ كُلِّ
لَوْنٍ لُقْمَّةً، وَعَلَيْكَ بِكُلِّ بَيْضَاءَ بَضَّةٍ ذَاتِ جَمَالٍ وَحُسْنٍ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا بَنَى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ الرُّصَافَةَ قَالَ: أُحِبَّ أَنْ أَخْلُوَ بِهَا يَوْمًا لَا
يَأْتِينِي فِيهِ خَبَرُ غَمٍّ. فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى أَتَتْهُ
رِيشَةُ دَمٍ مِنْ بَعْضِ الثُّغُورِ فَقَالَ: وَلَا يَوْمًا وَاحِدًا ؟ وَرُوِيَتْ
هَذِهِ الْحِكَايَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمْكُثْ بَعْدَ ذَلِكَ
إِلَّا شَهْرًا وَاحِدًا.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ هِشَامٌ لَا يُكْتَبُ إِلَيْهِ
بِكِتَابٍ فِيهِ ذِكْرُ الْمَوْتِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ
الْحِزَامِيُّ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنْ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ
رَبِّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: مَشَيْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ -
يَعْنِي ابْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - إِلَى دَارِهِ عِنْدَ
الْحَمَّامِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ طَالَ مُلْكُ هِشَامٍ وَسُلْطَانُهُ،
وَقَدْ قَرُبَ مِنَ الْعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ زَعَمَ النَّاسُ أَنَّ
سُلَيْمَانَ سَأَلَ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ،
فَزَعَمَ النَّاسُ أَنَّهَا الْعِشْرُونَ. فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا أَحَادِيثُ
النَّاسِ، وَلَكِنْ أَبِي حَدَّثَنِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:لَنْ يُعَمِّرَ اللَّهُ مَلِكًا فِي
أُمَّةِ نَبِيٍّ مَضَى قَبْلَهُ مَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ مِنَ الْعُمْرِ فِي
أُمَّتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَمَّرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً بِمَكَّةَ وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: لَيْسَ حَدِيثٌ فِيهِ تَوْقِيتٌ
غَيْرَ هَذَا، قَرَأَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَلَى كِتَابِي فَقَالَ: مَنْ
حَدَّثَكَ بِهِ ؟ فَقُلْتُ: إِبْرَاهِيمُ. فَتَلَهَّفَ ؟ أَنْ لَا يَكُونُ
سَمِعَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ.
وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنِي
عِيَاذُ بْنُ الْمَغْرَاءِ الْعَتَكِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا
يَقُولُ: هَلَاكُ مُلْكِ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ أَحْوَلَ. يَعْنِي
هِشَامًا.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي مُعَاذٍ
النُّمَيْرِيِّ عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ كُلَيْعٍ، عَنْ
سَالِمٍ كَاتِبِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا
هِشَامٌ وَعَلَيْهِ كَآبَةٌ، وَقَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ، فَاسْتَدْعَى
الْأَبْرَشَ بْنَ الْوَلِيدِ فَجَاءَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا
لِي أَرَاكَ هَكَذَا ؟ فَقَالَ: مَا لِي لَا أَكُونُ وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ
بِالنُّجُومِ أَنِّي أَمُوتُ إِلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مِنْ يَوْمِي هَذَا.
قَالَ: فَكَتَبْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ جَاءَنِي
رَسُولُهُ فِي اللَّيْلِ يَقُولُ: أَحْضِرْ مَعَكَ دَوَاءً لِلذَّبْحَةِ،
وَكَانَتْ قَدْ أَصَابَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمَلَ مِنْهُ فَعُوفِيَ،
فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ وَمَعِي ذَلِكَ الدَّوَاءُ، فَتَنَاوَلَهُ وَهُوَ فِي وَجَعٍ
شَدِيدٍ، وَاسْتَمَرَّ فِيهِ عَامَّةُ اللَّيْلِ، ثُمَّ قَالَ: يَا سَالِمُ
اذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ فَقَدْ وَجَدْتُ خِفَّةً، وَذَرِ الدَّوَاءَ عِنْدِي.
فَذَهَبْتُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَصَلْتُ إِلَى مَنْزِلِي حَتَّى سَمِعْتُ
الصِّيَاحَ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ هِشَامًا نَظَرَ إِلَى أَوْلَادِهِ وَهُمْ يَبْكُونَ
حَوْلَهُ، فَقَالَ: جَادَ لَكُمْ هِشَامٌ بِالدُّنْيَا وَجُدْتُمْ عَلَيْهِ
بِالْبُكَاءِ، وَتَرَكَ لَكُمْ مَا جَمَعَ، وَتَرَكْتُمْ عَلَيْهِ مَا كَسَبَ، مَا
أَعْظَمَ مُنْقَلَبَ هِشَامٍ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ جَاءَتِ الْخَزَنَةُ فَخَتَمُوا عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَأَرَادُوا تَسْخِينَ
الْمَاءِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا لَهُ عَلَى قُمْقُمٍ، حَتَّى اسْتَعَارُوا لَهُ.
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: الْحُكْمُ لِلْحَكَمِ الْحَكِيمِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالرُّصَافَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ جَاوَزَ السِّتِّينَ. وَصَلَّى
عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، وَكَانَتْ خِلَافَةُ
هِشَامٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: وَثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُصْعَبٍ
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:تُرْفَعُ زِينَةُ
الدُّنْيَا سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ قَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ:
زِينَتُهَا نُورُ الْإِسْلَامِ وَبَهْجَتُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يَعْنِي
الرِّجَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: لَمَّا مَاتَ هِشَامٌ تَوَلَّى مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ وَاضْطَرَبَ
أَمْرُهُمْ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَأَخَّرَتْ أَيَّامُهُمْ بَعْدَهُ نَحْوًا
مِنْ سَبْعِ سِنِينَ، وَلَكِنْ فِي اخْتِلَافٍ وَهَيْجٍ، وَمَا زَالُوا حَتَّى
خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ بَنُو الْعَبَّاسِ فَاسْتَلَبُوهُمْ نِعْمَتَهُمْ
وَمُلْكَهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا، وَسَلَبُوهُمُ الْخِلَافَةَ، كَمَا
سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ مَبْسُوطًا مُقَرَّرًا فِي
مَوَاضِعِهِ.
خِلَافَةُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْفَاسِقِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَالْمَدَائِنِيُّ: بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ
مَاتَ عَمُّهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ
خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: بُويِعَ لَهُ يَوْمَ السَّبْتِ فِي رَبِيعٍ
الْآخِرِ. وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَ
سَبَبُ وِلَايَتِهِ أَنَّ أَبَاهُ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَ قَدْ
جَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ هِشَامٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ
الْوَلِيدِ هَذَا، فَلَمَّا وَلِيَ هِشَامٌ أَكْرَمَ ابْنَ أَخِيهِ الْوَلِيدَ
حَتَّى ظَهَرَ عَلَيْهِ أَمْرُ الشَّرَابِ وَخُلَطَاءِ السُّوءِ وَمَجَالِسِ
اللَّهْوِ، فَأَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَأَمَّرَهُ عَلَى
الْحَجِّ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَأَخَذَ مَعَهُ كِلَابُ الصَّيْدِ
خُفْيَةً مِنْ عَمِّهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ جَعَلَهَا فِي صَنَادِيقَ، فَسَقَطَ
مِنْهَا صُنْدُوقٌ فِيهِ كَلْبٌ، فَسَمِعَ صَوْتَهُ، فَأَحَالُوا ذَلِكَ عَلَى
الْجَمَّالِ، فَضُرِبَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالُوا: وَاصْطَنَعَ الْوَلِيدُ
قُبَّةً عَلَى قَدْرِ الْكَعْبَةِ وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يَنْصِبَ تِلْكَ
الْقُبَّةَ فَوْقَ سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَيَجْلِسَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ هُنَالِكَ،
وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ الْخُمُورَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَى مَكَّةَ هَابَ أَنْ يَفْعَلَ مَا كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنَ
الْجُلُوسِ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ; خَوْفًا مِنَ النَّاسِ وَمِنْ
إِنْكَارِهِمْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَمُّهُ ذَلِكَ مِنْهُ نَهَاهُ
مِرَارًا، فَلَمْ يَنْتَهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى حَالِهِ الْقَبِيحِ، وَعَلَى
فِعْلِهِ الرَّدِيءِ، فَعَزَمَ عَمُّهُ عَلَى خَلْعِهِ مِنَ الْخِلَافَةِ -
وَلَيْتَهُ فَعَلَ - وَأَنْ يُوَلِّيَ بَعْدَهُ مَسْلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ
وَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَمِنْ أَخْوَالِهِ،
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَيْتَ ذَلِكَ تَمَّ، وَلَكِنْ
لَمْ يَنْتَظِمْ حَتَّى قَالَ هِشَامٌ يَوْمًا لِلْوَلِيدِ: وَيْحَكَ ! وَاللَّهِ
مَا أَدْرِي أَعْلَى الْإِسْلَامِ أَنْتَ أَمْ لَا، فَإِنَّكَ مَا تَدَعُ شَيْئًا
مِنَ الْمُنْكَرَاتِ إِلَّا أَتَيْتَهُ غَيْرَ مُتَحَاشٍ وَلَا مُسْتَتِرٍ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ:
يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ دِينِنَا دِينِي عَلَى دِينِ أَبِي شَاكِرِ
نَشْرَبُهَا صِرْفًا وَمَمْزُوجَةً
بِالسُّخْنِ أَحْيَانًا وَبِالْفَاتِرِ
فَغَضِبِ هِشَامٌ عَلَى ابْنِهِ مَسْلَمَةَ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا شَاكِرٍ،
وَقَالَ لَهُ: يُعَيِّرُنِي بِكَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أُرَقِّيَكَ إِلَى الْخِلَافَةِ ؟ وَبَعَثَهُ عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَهَ تِسْعَ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، فَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَالْوَقَارَ وَاللِّينَ، وَقَسَّمَ
بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَمْوَالًا، فَقَالَ مَوْلًى لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ دِينِنَا
دِينِي عَلَى دِينِ أَبِي شَاكِرِ
الْوَاهِبِ الْجُرْدِ بِأَرْسَانِهَا لَيْسَ بِزِنْدِيقٍ وَلَا كَافِرِ
وَوَقَعَتْ بَيْنَ هِشَامٍ وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَحْشَةٌ عَظِيمَةٌ
بِسَبَبِ تَعَاطِي الْوَلِيدِ مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْفَوَاحِشِ
وَالْمُنْكَرَاتِ، فَتَنَكَّرَ لَهُ هِشَامٌ وَعَزَمَ عَلَى خَلْعِهِ وَتَوْلِيَةِ
وَلَدِهِ مَسْلَمَةَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ، فَفَرَّ مِنْهُ الْوَلِيدُ إِلَى
الصَّحْرَاءِ، وَجَعَلَا يَتَرَاسَلَانِ بِأَقْبَحِ الْمُرَاسَلَاتِ، وَجَعَلَ
هِشَامٌ يَتَوَعَّدُهُ وَعِيدًا شَدِيدًا وَيَتَهَدَّدُهُ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ
حَتَّى مَاتَ هِشَامٌ، وَالْوَلِيدُ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَتِ
اللَّيْلَةُ الَّتِي قَدِمَ فِي صَبِيحَتِهَا عَلَيْهِ الْبُرُدُ بِالْخِلَافَةِ ;
قَلِقَ الْوَلِيدُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ قَلَقًا شَدِيدًا، وَقَالَ لِبَعْضِ
أَصْحَابِهِ: وَيْحَكَ ! قَدْ أَخَذَنِي اللَّيْلَةَ قَلَقٌ عَظِيمٌ، فَارْكَبْ
لَعَلَّنَا نَنْبَسِطُ، فَسَارَا مِيلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي هِشَامٍ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ كَتْبِهِ إِلَيْهِ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، ثُمَّ
رَأَيَا مِنْ بُعْدٍ رَهْجًا وَأَصْوَاتًا وَغُبَارًا، ثُمَّ انْكَشَفَ ذَلِكَ
عَنْ بُرُدٍ يَقْصِدُونَهُ بِالْوِلَايَةِ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَيْحَكَ ! إِنَّ
هَذِهِ رُسُلُ هِشَامٍ اللَّهُمَّ أَعْطِنَا خَيْرَهَا. فَلَمَّا اقْتَرَبَتِ
الْبَرُدُ مِنْهُ وَتَبَيَّنُوهُ تَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ، وَجَاءُوا
فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَبُهِتَ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! أَمَاتَ
هِشَامٌ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ بَعَثَكُمْ ؟ قَالُوا: سَالِمُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ. وَأَعْطَوْهُ الْكِتَابَ
فَقَرَأَهُ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَيْفَ مَاتَ عَمُّهُ هِشَامٌ
فَأَخْبَرُوهُ، فَكَتَبَ مِنْ فَوْرِهِ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى أَمْوَالِ هِشَامٍ
وَحَوَاصِلِهِ بِالرُّصَافَةِ وَقَالَ:
لَيْتَ هِشَامًا عَاشَ حَتَّى يَرَى مِكْيَالَهُ الْأَوْفَرَ قَدْ طُبِّعَا
كِلْنَاهُ بِالصَّاعِ الَّذِي كَالَهُ وَمَا ظَلَمْنَاهُ بِهِ إِصْبَعَا
وَمَا أَتَيْنَا ذَاكَ عَنْ بِدْعَةٍ
أَحَلَّهُ الْفُرْقَانُ لِي أَجْمَعَا
ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَاسْتَعْمَلَ الْعُمَّالَ، وَجَاءَتْهُ الْبَيْعَةُ
مِنَ الْآفَاقِ، وَجَاءَتْهُ الْوُفُودُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ
مُحَمَّدٍ - وَهُوَ إِذْ ذَاكَ نَائِبُ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ -
يُبَارِكُ لَهُ فِي خِلَافَةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَالتَّمْكِينِ فِي
بِلَادِهِ، وَيُهَنِّئُهُ بِمَوْتِ هِشَامٍ وَظَفْرِهِ بِهِ، وَالتَّحَكُّمِ فِي
أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُ جَدَّدَ الْبَيْعَةَ لَهُ فِي
بِلَادِهِ، وَأَنَّهُمْ فَرِحُوا وَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَلَوْلَا خَوْفُهُ
مِنَ الثَّغْرِ لَاسْتَنَابَ عَلَيْهِ وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِ، شَوْقًا
إِلَى رُؤْيَتِهِ، وَرَغْبَةً فِي مُشَافَهَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَلِيدَ سَارَ
فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً بَادِيَ الرَّأْيِ، وَأَمَرَ بِإِعْطَاءِ
الزَّمْنَى وَالْمَجْذُومِينَ وَالْعُمْيَانَ، لِكُلِّ إِنْسَانٍ خَادِمًا،
وَأَخْرَجَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ الطِّيبَ وَالتُّحَفَ لِعِيَالَاتِ
الْمُسْلِمِينَ، وَزَادَ فِي أُعْطِيَّاتِ النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ
الشَّامِ وَالْوُفُودَ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُجِيدًا، لَا
يُسْأَلُ شَيْئًا قَطُّ فَيَقُولُ: لَا. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ
يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالْكَرَمِ:
ضَمِنْتُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَعُقْنِي عَوَائِقُ بِأَنَّ سَمَاءَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
سَتُقْلِعُ
سَيُوشِكُ إِلْحَاقٌ مَعًا وَزِيَادَةٌ وَأَعْطِيَةٌ مِنِّي إِلَيْكُمْ تَبَرَّعُ
مُحَرَّمُكُمْ دِيوَانُكُمْ وَعَطَاؤُكُمْ بِهِ تَكْتُبُ الْكُتَّابُ شَهْرًا
وَتَطْبَعُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَقَدَ الْوَلِيدُ الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ الْحَكَمِ ثُمَّ عُثْمَانَ عَلَى أَنْ يَكُونَا وَلِيِّيِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَعَثَ الْبَيْعَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَمِيرِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فَأَرْسَلَهَا إِلَى نَائِبِ خُرَاسَانَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَخَطَبَ بِذَلِكَ نَصْرٌ خُطْبَةً عَظِيمَةً بَلِيغَةً طَوِيلَةً سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ بِكَمَالِهَا. وَاسْتَوْسَقَ لِلْوَلِيدِ الْمَمَالِكُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَأَخَذَتِ الْبَيْعَةُ لِوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْآفَاقِ، وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ بِالِاسْتِقْلَالِ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ وَفَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْوَلِيدِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ كَمَا كَانَتْ فِي أَيَّامِ هِشَامٍ وَأَنْ يَكُونَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ وَنُوَّابُهُ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يَسْتَوْفِدُهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنَ اسْتِصْحَابِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ، فَحَمَلَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ أَلْفَ مَمْلُوكٍ عَلَى الْخَيْلِ، وَأَلْفَ وَصِيفَةٍ، وَشَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَبَارِيقِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ التُّحَفِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَلِيدُ يَسْتَحِثُّهُ سَرِيعًا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ طَنَابِيرَ وَبَرَابِطَ وَمُغْنِيَاتٍ وَبَازَاتٍ وَبَرَاذِينَ فُرْهًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الطَّرَبِ وَالْفِسْقِ، فَكَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَرِهُوهُ، وَقَالَ الْمُنَجِّمُونَ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ: إِنَّ الْفِتْنَةَ قَرِيبًا سَتَقَعُ بِالشَّامِ. فَجَعَلَ يَتَثَاقَلُ فِي سَيْرِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ جَاءَتْهُ الْبُرُدُ، فَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَلِيدَ قَدْ قُتِلَ، وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ الْعَظِيمَةُ فِي النَّاسِ بِالشَّامِ فَعَدَلَ بِمَا مَعَهُ إِلَى بَعْضِ الْمُدُنِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْعِرَاقِ وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ الْخَلِيفَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى
الْوَلِيدُ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وِلَايَةَ
الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ وَأَمَرَهَ أَنْ يُقِيمَ إِبْرَاهِيمَ،
وَمُحَمَّدًا ابْنِي هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ بِالْمَدِينَةِ
مُهَانَيْنِ لِكَوْنِهِمَا خَالَيْ هِشَامٍ ثُمَّ يَبْعَثُ بِهِمَا إِلَى يُوسُفَ
بْنِ عُمَرَ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَبَعَثَهُمَا إِلَيْهِ، فَمَا زَالَ
يُعَذِّبُهُمَا حَتَّى مَاتَا، وَأَخَذَ مِنْهُمَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيَّ قَضَاءَ الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ إِلَى أَهْلِ قُبْرُسَ جَيْشًا مَعَ
أَخِيهِ، وَقَالَ: خَيِّرْهُمْ فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الشَّامِ،
وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى الرُّومِ. فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ اخْتَارَ
جِوَارَ الْمُسْلِمِينَ بِالشَّامِ وَمِنْهُمْ مَنِ انْتَقَلَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا قَدِمَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَمَالِكُ بْنُ
الْهَيْثَمِ، وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ، وَقَحْطَبَةُ بْنْ شَبِيبٍ مَكَّةَ
فَلَقُوا - فِي قَوْلٍ أَهْلِ السِّيَرِ - مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَأَخْبَرُوهُ
بِقِصَّةِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ: أَحَرٌّ هُوَ أَمْ عَبْدٌ ؟ فَقَالُوا: أَمَّا
هُوَ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ حُرٌّ، وَأَمَّا مَوْلَاهُ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ عَبْدٌ.
فَاشْتَرَوْهُ فَأَعْتَقُوهُ، وَدَفَعُوا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَكُسْوَةً بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقَالَ لَهُمْ: لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي
بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا، فَإِنْ مُتُّ فَإِنَّ صَاحِبَكُمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ - يَعْنِي ابْنَهُ - فَإِنَّهُ ابْنِي، فَأُوصِيكُمْ بِهِ. وَمَاتَ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بَعْدَ أَبِيهِ عَلِيٍّ بِسَبْعِ سِنِينَ.
وَفِيهَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَلِيٍّ بِخُرَاسَانَ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
وَالطَّائِفِ، وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ
نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَهُوَ فِي هِمَّةِ الْوُفُودِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ
يَزِيدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ،
فَقُتِلَ الْوَلِيدُ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيِّ
الْهَاشِمِيِّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ أَبُو السَّفَّاحِ
وَالْمَنْصُورِ رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
وَجَمَاعَةٍ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمُ ابْنَاهُ الْخَلِيفَتَانِ
أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ
الْمَنْصُورُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
أَوْصَى إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ
بِالْأَخْبَارِ، فَبَشَّرَهُ بِأَنَّ الْخِلَافَةَ سَتَكُونُ فِي وَلَدِهِ،
فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ
يَتَزَايَدُ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي
قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً،
وَكَانَ مَنْ أَحْسَنِ النَّاسِ شَكْلًا، فَأَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
لِوَلَدِهِ
إِبْرَاهِيمَ فَمَا أُبْرِمَ الْأَمْرُ
إِلَّا لِوَلَدِهِ السَّفَّاحُ، فَاسْتَلَبَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ الْأَمْرَ فِي
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا يَحْيَى بْنُ زَيْدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا
قُتِلَ أَبُوهُ زَيْدٌ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، لَمْ يَزَلْ
يَحْيَى مُخْتَفِيًا فِي خُرَاسَانَ عِنْدَ الْحَرِيشِ بْنِ عَمْرِو بْنِ دَاوُدَ
بِبَلْخَ حَتَّى مَاتَ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلَكِ فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ يُخْبِرُهُ بِأَمْرِ يَحْيَى بْنِ
زَيْدٍ فَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ إِلَى نَائِبِ بَلْخَ عَقِيلِ بْنِ مَعْقِلِ
الْعِجْلِيِّ فَأَحْضَرَ الْحَرِيشَ فَعَاقَبَهُ سِتَّمِائَةِ سَوْطٍ، فَلَمْ
يَدُلَّ عَلَيْهِ، وَجَاءَ وَلَدُ الْحَرِيشِ فَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، فَحُبِسَ،
فَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ إِلَى يُوسُفَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَى الْوَلِيدِ
بْنِ يَزِيدَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى نَصْرِ بْنِ
سَيَّارٍ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ مِنَ السِّجْنِ، وَإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ
صُحْبَةِ أَصْحَابِهِ، وَيُجَهِّزُهُمْ إِلَيْهِ فَأَطْلَقَهُمْ وَأَطْلَقَ لَهُمْ
وَجَهَّزَهُمْ، فَسَارُوا إِلَى دِمَشْقَ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ
تَوَسَّمَ نَصْرٌ مِنْهُ غَدْرًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا عَشَرَةَ آلَافٍ،
فَكَسَرَهُمْ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ وَإِنَّ مَا مَعَهُ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَقَتَلَ
أَمِيرَهُمْ، وَاسْتَلَبَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ جَاءَ جَيْشٌ
آخَرُ، فَقَتَلُوهُ وَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ، وَقَتَلُوا جَمِيعَ أَصْحَابِهِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهَذِهِ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْأُمَوِيُّ الدِّمَشْقِيُّ بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ عَمِّهِ هِشَامٍ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ بِعَهْدٍ مِنْ
أَبِيهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمُّهُ أُمُّ الْحَجَّاجِ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَقَتْلُ يَوْمَ
الْخَمِيسَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ
قَتْلِهِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ ; لِفِسْقِهِ، وَقِيلَ: وَزَنْدَقَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا ابْنُ
عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي الْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: وُلِدَ لِأَخِي
أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامٌ،
فَسَمَّوْهُ الْوَلِيدَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
سَمَّيْتُمُوهُ بِأَسْمَاءِ فَرَاعِنَتِكُمْ، لَيَكُونَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْوَلِيدُ.
لَهَوَ شَرٌّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ
مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
وَهِقْلُ بْنُ زِيَادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ
الْأَوْزَاعِيِّ، فَلَمْ يَذْكُرُوا عُمَرَ فِي إِسْنَادِهِ، وَأَرْسَلُوهُ،
وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ كَثِيرٍ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ. ثُمَّ سَاقَ طُرُقَهُ
هَذِهِ كُلَّهَا بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِهَا. وَحَكَى عَنِ الْبَيْهَقِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَطَاءٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّهَا قَالَتْ: دَخَلَ
عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدِي غُلَامٌ مِنْ
آلِ الْمُغِيرَةِ اسْمُهُ الْوَلِيدُ فَقَالَ: " مَنْ هَذَا يَا أُمَّ
سَلَمَةَ ؟ " قَالَتْ: هَذَا الْوَلِيدُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَقَدِ اتَّخَذْتُمُ الْوَلِيدَ حَنَانًا، غَيِّرُوا
اسْمَهُ ; فَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فِرْعَوْنٌ يُقَالُ لَهُ:
الْوَلِيدُ ".
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مُسْلِمٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
. غَالِبٍ الْأَنْطَاكِيُّ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، ثَنَا صَدَقَةُ، عَنْ هِشَامِ
بْنِ الْغَازِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلَمَهُ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ.
صِفَةُ مَقْتَلِهِ وَزَوَالِ دَوْلَتِهِ
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُجَاهِرًا بِالْفَوَاحِشِ مُصِرًّا عَلَيْهَا، مُنْتَهِكًا
مَحَارِمَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَتَحَاشَى مِنْ مَعْصِيَةٍ، وَرُبَّمَا
اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِالزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ الدِّينِ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. لَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ عَاصِيًا شَاعِرًا مَاجِنًا
مُتَعَاطِيًا لِلْمَعَاصِي، لَا يَتَحَاشَى بِهَا مَنْ أَحَدٍ وَلَا يَسْتَحِي
مَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ وَبَعْدَ أَنْ وَلِيَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ سَعَى فِي
قَتْلِهِ، قَالَ: أَشْهَدُ - بُعْدًا لَهُ - أَنَّهُ كَانَ شَرُوبًا لِلْخَمْرِ
مَاجِنًا فَاسِقًا، وَلَقَدْ أَرَادَنِي عَلَى نَفَسِي الْفَاسِقُ.
وَحَكَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ،
عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ نَظَرَ إِلَى
نَصْرَانِيَّةٍ مِنْ حِسَانِ نِسَاءِ النَّصَارَى اسْمُهَا سَفْرَى فَأَحَبَّهَا،
فَبَعَثَ إِلَيْهَا يُرَاوِدُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَأَلَحَّ
عَلَيْهَا، وَعَشِقَهَا، فَلَمْ تُطَاوِعْهُ، فَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُ النَّصَارَى
فِي بَعْضِ كَنَائِسِهِمْ لِعِيدٍ لَهُمْ، فَذَهَبَ الْوَلِيدُ إِلَى بُسْتَانٍ
هُنَاكَ، فَتَنَكَّرَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ مُصَابٌ، فَخَرَجَ النِّسَاءُ مِنَ
الْكَنِيسَةِ إِلَى الْبُسْتَانِ، فَرَأَيْنَهُ فَأَحْدَقْنَ بِهِ، فَجَعَلَ
يُكَلِّمُ سَفْرَى وَيُمَازِحُهَا وَتُضَاحِكُهُ وَلَا تَعْرِفُهُ، حَتَّى
اشْتَفَى مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ قِيلَ لَهَا: وَيْحَكِ !
أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا الرَّجُلُ ؟ فَقَالَتْ: لَا. فَقِيلَ لَهَا: هُوَ
الْوَلِيدُ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ حَنَّتْ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَكَانَتْ عَلَيْهِ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَيْهَا. فَقَالَ الْوَلِيدُ فِي ذَلِكَ:
أَضْحَى فُؤَادُكَ يَا وَلِيدُ عَمِيدَا صَبًّا قَدِيمًا للْحِسَانِ صَيُودَا مِنْ
حَبِّ وَاضِحَةِ الْعَوَارِضِ طِفْلَةٍ
بَرَزَتْ لَنَا نَحْوَ الْكَنِيسَةِ عِيدَا مَا زِلْتُ أَرْمُقُهَا بِعَيْنَيْ
وَامِقٍ
حَتَّى بَصُرْتُ بِهَا تُقَبِّلُ عُودَا عُودَ الصَّلِيبِ فَوَيْحُ نَفْسِيَ مَنْ
رَأَى
مِنْكُمْ صَلِيبًا مِثْلَهُ مَعْبُودَا فَسَأَلْتُ رَبِّيَ أَنْ أَكُونَ مَكَانَهُ
وَأَكُونَ فِي لَهَبِ الْجَحِيمِ وَقُودَا
وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا لَمَّا ظَهَرَ أَمْرُهُ، وَعَلِمَ بِحَالِهِ النَّاسُ،
وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا وَقَعَ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ:
أَلَّا حَبَّذَا سَفْرَى وَإِنْ قِيلَ إِنَّنِي كَلِفْتُ بِنَصْرَانِيَّةٍ
تَشْرَبُ الْخَمْرَا
يَهُونُ عَلَيَّ أَنْ نَظَلَّ نَهَارَنَا
إِلَى اللَّيْلِ لَا أُولَى نُصَلِّي وَلَا عَصْرَا
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طَرَارٍ النَّهْرَوَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ بَعْدَ
إِيرَادِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: لِلْوَلِيدِ فِي هَذَا النَّحْوِ مِنَ
الْخَلَاعَةِ وَالْمُجُونِ وَسَخَافَةِ الدِّينِ مَا يَطُولُ ذِكْرُهُ، وَقَدْ
نَاقَضْنَاهُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ مَنْظُومِ شِعْرِهِ الْمُتَضَمِّنِ رَكِيكَ
ضَلَالِهِ وَكُفْرِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْوَلِيدَ سَمِعَ بِخِمَّارٍ صَلْفٍ
بِالْحِيرَةِ، فَقَصَدَهُ حَتَّى شَرِبَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنَ
الْخَمْرِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى فَرَسِهِ، وَمَعَهُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَلَمَّا انْصَرَفَ أَمَرَ لِلْخَمَّارِ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ: أَخْبَارُ الْوَلِيدِ كَثِيرَةٌ قَدْ
جَمَعَهَا الْأَخْبَارِيِّونَ مَجْمُوعَةً وَمُفْرَدَةً، وَقَدْ جَمَعْتُ شَيْئًا
مِنْ سِيَرِهِ وَآثَارِهِ، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي ضَمَّنَهُ مَا فَجَرَ بِهِ
مِنْ خُرْقِهِ وَسَفَاهَتِهِ، وَحُمْقِهِ وَهَزَلِهِ، وَمُجُونِهِ وَسَخَافَةِ
دِينِهِ، وَمَا صَرَّحَ بِهِ مِنَ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ،
وَالْكَفْرِ بِمَنْ أَنْزَلَهُ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَارَضْتُ شِعْرَهُ
السَّخِيفَ بِشِعْرٍ حَصِيفٍ، وَبَاطِلَهُ بِحَقٍّ نَبِيهٍ شَرِيفٍ، وَتَوَخَّيْتُ
رِضَاءَ اللَّهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، وَاسْتِيجَابَ مَغْفِرَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي
شَيْخٍ، ثَنَا صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: أَرَادَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ
الْحَجَّ، وَقَالَ: أَشْرَبُ فَوْقَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ. فَهَمَّ قَوْمٌ أَنْ
يَفْتِكُوا بِهِ إِذَا خَرَجَ، فَجَاءُوا إِلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيِّ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ فَأَبَى، فَقَالُوا لَهُ:
فَاكْتُمْ عَلَيْنَا. فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ. فَجَاءَ إِلَى الْوَلِيدِ
فَقَالَ لَهُ: لَا تَخْرُجْ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَمَنْ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَخَافُهُمْ عَلَيَّ ؟ قَالَ: لَا أُخْبِرُكَ بِهِمْ. قَالَ:
إِنْ لَمْ تُخْبِرْنِي بِهِمْ بَعَثْتُ بِكَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ. قَالَ:
وَإِنْ بَعَثْتَ بِي إِلَى يُوسُفَ. فَبَعَثَهُ إِلَى يُوسُفَ فَعَذَّبَهُ حَتَّى
قَتَلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهِمْ
سَجَنَهُ، ثُمَّ سَلَّمَهُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ يَسْتَخْلِصُ مِنْهُ
أَمْوَالَ الْعِرَاقِ فَقَتَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا وَفَدَ
إِلَى الْوَلِيدِ اشْتَرَى مِنْهُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ يُخَلِّصُهَا مِنْهُ، فَمَا زَالَ يُعَاقِبُهُ،
وَيَسْتَخْلِصُ مِنْهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَغَضِبَ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ قَتْلِهِ،
وَخَرَجُوا عَلَى الْوَلِيدِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:
كُنْتُ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ فَذُكِرَ
الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَانَ زِنْدِيقًا.
فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: خِلَافَةُ اللَّهِ عِنْدَهُ أَجَلُّ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا
فِي زِنْدِيقٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جَوْصَاءَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا حُصَيْنُ بْنُ
الْوَلِيدِ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ
الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: إِذَا قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الشَّابُّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَظْلُومًا، لَمْ تَزَلْ طَاعَةٌ مُسْتَخَفًّا
بِهَا، وَدَمٌ مَسْفُوكًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ:
ذِكْرُ قَتْلِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: النَّاقِصُ.
لِلْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَكَيْفَ قُتِلَ
قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَ أَمْرِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ وَخَلَاعَتِهِ
وَمَجَانَتِهِ، وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنْ تَهَاوُنِهِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِأَمْرِ
دِينِهِ قَبْلَ خِلَافَتِهِ، وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ وَأَفْضَتْ إِلَيْهِ
لَمْ
يَزْدَدْ فِي الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ
اللَّهْوِ وَاللَّذَّةِ وَالرُّكُوبِ إِلَى الصَّيْدِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ
وَمُنَادَمَةِ الْفُسَّاقِ، إِلَّا تَمَادِيًا وَجِدًّا، فَثَقُلَ ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهِ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَجُنْدِهِ، وَكَرِهُوهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَكَانَ
مِنْ أَعْظَمِ مَا جَنَى عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى أَوْرَثَهُ ذَلِكَ هَلَاكَهُ،
إِفْسَادُهُ عَلَى نَفْسِهِ بَنِي عَمَّيْهِ هِشَامٍ، وَالْوَلِيدِ مَعَ
إِفْسَادِهِ الْيَمَانِيَةَ وَهُمْ عُظْمُ جُنْدِ خُرَاسَانَ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَمَّا قَتَلَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى
غَرِيمِهِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ الَّذِي هُوَ نَائِبُ الْعِرَاقِ إِذْ ذَاكَ،
فَلَمْ يَزَلْ يُعَاقِبُهُ حَتَّى هَلَكَ، انْقَلَبُوا عَلَيْهِ وَتَنَكَّرُوا
لَهُ، وَسَاءَهُمْ قَتْلُهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ ضَرَبَ
ابْنَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ سَوْطٍ، وَحَلَّقَ رَأْسَهُ
وَلِحْيَتَهُ، وَغَرَّبَهُ إِلَى عَمَّانَ، فَحَبَسَهُ بِهَا، فَلَمْ يَزَلْ
هُنَاكَ حَتَّى قُتِلَ الْوَلِيدُ وَأَخَذَ جَارِيَةً كَانَتْ لِآلِ عَمِّهِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَلَّمَهُ فِيهَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ
فَقَالَ: لَا أَرُدُّهَا. فَقَالَ: إِذَنْ تَكْثُرَ الصَّوَاهِلُ حَوْلَ
عَسْكَرِكَ. وَحَبَسَ الْأَفْقَمَ يَزِيدَ بْنَ هِشَامٍ وَبَايَعَ لِوَلَدَيْهِ
الْحَكَمِ وَعُثْمَانَ وَكَانَا دُونَ الْبُلُوغِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ
أَيْضًا، وَنَصَحُوهُ فَلَمْ يَنْتَصِحْ، وَنَهَوْهُ فَلَمْ يَرْتَدِعْ وَلَمْ
يَقْبَلْ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَرَمَاهُ
بَنُو هِشَامٍ وَبَنُو
الْوَلِيدِ بِالْكَفْرِ وَغَشِيَانِ
أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ أَبِيهِ، وَقَالُوا: قَدِ اتَّخَذَ مِائَةَ جَامِعَةٍ، عَلَى
كُلِّ جَامِعَةٍ اسْمُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِيَقْتُلَهُ بِهَا،
وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِيهِ قَوْلًا يَزِيدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ النَّاسُ إِلَى قَوْلِهِ أَمْيَلُ ;
لِأَنَّهُ أَظْهَرَ النُّسُكَ وَالتَّوَاضُعَ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا يَسَعُنَا
الرِّضَا بِالْوَلِيدِ. حَتَّى حَمَلَ النَّاسَ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ.
قَالُوا: وَانْتُدِبَ لِلْقِيَامِ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ
وَالْيَمَانِيَةِ وَخَلْقٌ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ وَآلِ الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ، وَآلِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ الْقَائِمَ
بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَالدَّاعِيَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى
الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ
نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ فَلْمْ يَقْبَلُ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْوَلِيدَ لَقَيَّدْتُكَ
وَأَرْسَلْتُكَ إِلَيْهِ. وَاتَّفَقَ خُرُوجُ النَّاسِ مِنْ دِمَشْقَ مِنْ وَبَاءٍ
وَقَعَ بِهَا، فَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ نَحْوَ الْمِائَتَيْنِ، إِلَى
نَاحِيَةِ مَشَارِفِ دِمَشْقَ، فَانْتَظَمَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَمْرُهُ،
وَجَعَلَ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ، فَلَا
يَقْبَلُ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ فِي ذَلِكَ:
إِنِّي أُعِيذُكُمُ بِاللَّهِ مِنْ فِتَنٍ
مِثْلِ الْجِبَالِ تَسَامَى ثُمَّ تَنْدَفِعُ إِنَّ الْبَرِيَّةَ قَدْ مَلَّتْ
سِيَاسَتَكُمْ
فَاسْتَمْسِكُوا بِعَمُودِ الدِّينِ وَارْتَدِعُوا لَا تُلْحِمُنَّ ذِئَابَ
النَّاسِ أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ الذِّئَابَ إِذَا مَا أُلْحِمَتْ رَتَعُوا لَا تَبْقُرُنَّ بِأَيْدِيكُمْ
بُطُونَكُمُ
فَثَمَّ لَا حَسْرَةٌ تُغْنِي وَلَا جَزَعُ
فَلَمَّا اسْتَوْسَقَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَمْرُهُ، وَبَايَعَهُ مَنْ
بَايَعَهُ مِنَ النَّاسِ، قَصَدَ دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا فِي غَيْبَةِ الْوَلِيدِ
فَبَايَعَهُ أَكْثَرُ أَهْلِهَا فِي اللَّيْلِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ
الْمِزَّةِ قَدْ بَايَعُوا كَبِيرَهُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ مَصَادٍ فَمَضَى إِلَيْهِ
يَزِيدُ مَاشِيًا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ
مَطَرٌ شَدِيدٌ، فَأَتَوْهُ فَطَرَقُوا بَابَهُ لَيْلًا، ثُمَّ دَخَلُوا، فَكَلَّمَهُ
يَزِيدُ فِي ذَلِكَ، فَبَايَعَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مَصَادٍ ثُمَّ رَجَعَ يَزِيدُ
مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى طَرِيقِ الْقَنَاةِ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ
أَسْوَدَ، فَحَلَفَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ دِمَشْقَ إِلَّا فِي
السِّلَاحِ، فَلَبِسَ سِلَاحًا مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ فَدَخَلَهَا، وَكَانَ
الْوَلِيدُ قَدِ اسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ فِي غَيْبَتِهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا
أَيْضًا مِنَ الْوَبَاءِ فَهُوَ مُقِيمٌ بِقَطَنَا وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ عَلَى
دِمَشْقَ، وَعَلَى شُرْطَتِهَا أَبُو الْعَاجِ كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
السُّلَمِيُّ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ اجْتَمَعَ أَصْحَابُ يَزِيدَ
بَيْنَ الْعِشَائَيْنِ عِنْدَ بَابِ الْفَرَادِيسِ فَلَمَّا أُذِّنَ لِعَشَاءِ
الْآخِرَةِ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ
غَيْرُهُمْ بَعَثُوا إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ
فَجَاءَهُمْ، فَقَصَدُوا بَابَ
الْمَقْصُورَةِ فَفَتَحَ لَهُمْ خَادِمٌ، فَدَخَلُوا فَوَجَدُوا أَبَا الْعَاجِ
وَهُوَ سَكْرَانُ، فَأَخَذُوهُ وَأَخَذُوا خُزَّانَ بَيْتِ الْمَالِ،
وَتَسَلَّمُوا الْحَوَاصِلَ، وَتَقْوَوْا بِالْأَسْلِحَةِ، وَأَمَرَ يَزِيدُ
بِإِغْلَاقِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، وَأَنْ لَا يَفْتَحَ إِلَّا لِمَنْ يَعْرِفُ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ قَدِمَ أَهْلُ الْحَوَاضِرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
فَدَخَلُوا مِنْ سَائِرِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، كُلُّ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مِنَ
الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِمْ، فَكَثُرَتِ الْجُيُوشُ حَوْلَ يَزِيدَ بْنِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي نُصْرَتِهِ، وَكُلُّهُمْ قَدْ بَايَعَهُ
بِالْخِلَافَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
فَجَاءَتْهُمْ أَنْصَارُهُمْ حِينَ أَصْبَحُوا سَكَاسِكُهَا أَهْلُ الْبُيوُتِ
الصَّنَادِدِ
وَكَلْبٌ فَجَاءُوهُمْ بِخَيْلٍ وَعِدَّةٍ مِنَ الْبِيضِ وَالْأَبْدَانِ ثُمَّ
السَّوَاعِدِ
فَأَكْرِمْ بِهَا أَحْيَاءَ أَنْصَارِ سُنَّةٍ هُمْ مَنَعُوا حُرْمَاتِهَا كُلَّ
جَاحِدِ
وَجَاءَتْهُمْ شَعْبَانُ وَالْأَزْدُ شُرَّعًا وَعَبْسٌ وَلَخْمٌ بَيْنَ حَامٍ
وَذَائِدِ
وَغَسَّانُ وَالْحَيَّانِ قَيْسٌ وَتَغْلِبٌ وَأَحْجَمَ عَنْهَا كُلُّ وَانٍ
وَزَاهِدِ
فَمَا أَصْبَحُوا إِلَّا وَهُمْ أَهْلُ مُلْكِهَا قَدِ اسْتَوْثَقُوا مِنْ كُلِّ
عَاتٍ وَمَارِدِ
وَبَعَثَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَصَادٍ فِي مِائَتَيْ
فَارِسٍ إِلَى قَطَنَا لِيَأْتُوهُ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَجَّاجِ نَائِبِ دِمَشْقَ، وَلَهُ الْأَمَانُ، وَكَانَ قَدْ تَحَصَّنَ فِي
قَصْرٍ هُنَاكَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَوَجَدُوا عِنْدَهُ خُرْجَيْنِ ; فِي كُلٍّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا مَرُّوا بِالْمِزَّةِ
قَالَ أَصْحَابُ ابْنِ مَصَادٍ:
خُذْ هَذَا الْمَالَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا تُحَدِّثُ الْعَرَبُ أَنِّي أَوَّلُ مَنْ خَانَ. ثُمَّ أَتَوْا بِهِ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَاسْتَخْدَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ جُنْدًا لِلْقِتَالِ قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَبَعَثَ بِهِمْ مَعَ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ لِيَأْتُوا بِهِ، وَرَكِبَ بَعْضُ مَوَالِي الْوَلِيدِ فَرَسًا سَابِقًا، فَسَاقَ بِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْلَاهُ مِنَ اللَّيْلِ وَقَدْ نَفَقَ الْفَرَسُ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، ثُمَّ تَوَاتَرَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَاكَ إِلَى حِمْصَ، فَإِنَّهَا حَصِينَةٌ، وَقَالَ الْأَبْرَشُ سَعِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكَلْبِيُّ: انْزِلْ عَلَى قَوْمِي بِتَدْمُرَ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ رَكِبَ بِمَنْ مَعَهُ وَهُوَ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَقَصَدَهُ أَصْحَابُ يَزِيدَ فَالْتَقَوْا بِثِقَلِهِ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَأَخَذُوهُ، وَجَاءَ الْوَلِيدُ فَنَزَلَ حِصْنَ الْبَخْرَاءِ الَّذِي كَانَ لِلنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَجَاءَهُ رَسُولُ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ: إِنِّي آتِيكَ. وَكَانَ مِنْ أَنْصَارِهِ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ بِإِبْرَازِ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَعَلَيَّ يَتَوَثَّبُ الرِّجَالُ، وَأَنَا أَثِبُ عَلَى الْأَسَدِ، وَأَتَخَصَّرُ الْأَفَاعِيَ ؟! وَقَدِمَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بِمَنْ مَعَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ خَلَصَ مَعَهُ مِنَ الْأَلْفَيْ فَارِسٍ ثَمَانِمِائَةِ فَارِسٍ، فَتَصَافُّوا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ، حُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَى الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ جَاءَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ لِنَصْرِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ فَجِيءَ بِهِ إِلَيْهِ قَهْرًا حَتَّى بَايَعَ لِأَخِيهِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَاجْتَمَعُوا
عَلَى حَرْبِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ اجْتِمَاعَهُمْ فَرُّوا مِنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الْوَلِيدُ فِي ذُلٍّ وَقُلٍّ مِنَ النَّاسِ، فَلَجَأَ إِلَى الْحِصْنِ فَجَاءُوا إِلَيْهِ، وَأَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُحَاصِرُونَهُ، فَدَنَا الْوَلِيدُ مِنْ بَابِ الْحِصْنِ فَنَادَى: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ شَرِيفٌ. فَكَلَّمَهُ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ السَّكْسَكِيُّ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَلَمْ أَرْفَعِ الْمُؤَنَ عَنْكُمْ ؟ أَلَمْ أُعْطِ فُقَرَاءَكُمْ ؟ أَلَمْ أَخْدِمْ زَمَنَاكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: إِنَّمَا نَنْقِمُ عَلَيْكَ انْتِهَاكَ الْمَحَارِمِ، وَشُرْبَ الْخُمُورِ، وَنِكَاحَ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِ أَبِيكَ، وَاسْتِخْفَافَكَ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا أَخَا السَّكَاسِكِ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ أَكْثَرْتَ وَأَغْرَقْتَ، وَإِنَّ فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لِي لَسِعَةً عَمَّا ذَكَرْتَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا يُرْتَقُ فَتْقُكُمْ، وَلَا يُلِمَّ شَعَثُكُمْ، وَلَا تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُمْ. وَرَجَعَ إِلَى الدَّارِ، فَجَلَسَ وَوَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُصْحَفًا، فَنَشَرَهُ وَأَقْبَلَ يَقْرَأُ فِيهِ، وَقَالَ: يَوْمٌ كَيَوْمِ عُثْمَانَ. وَاسْتَسْلَمَ وَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْحَائِطَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ نَزَلَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَإِلَى جَانِبِهِ سَيْفُهُ فَقَالَ: نَحِّهِ عَنْكَ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَوْ أَرَدْتَ الْقِتَالَ بِهِ لَكَانَ غَيْرَ هَذَا. فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَبْعَثَ بِهِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَبَادَرَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَأَقْبَلُوا عَلَى الْوَلِيدِ يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ بِالسُّيُوفِ حَتَّى قَتَلُوهُ، ثُمَّ جَرُّوهُ بِرِجْلِهِ لِيُخْرِجُوهُ، فَصَاحَتِ النِّسْوَةُ، فَتَرَكُوهُ، وَاحْتَزَّ أَبُو عِلَاقَةَ الْقُضَاعِيُّ رَأْسَهُ، وَخَاطُوا مَا كَانَ جُرِحَ فِي وَجْهِهِ بِعَقَبٍ، وَبَعَثُوا بِهِ إِلَى يَزِيدَ مَعَ
عَشَرَةِ نَفَرٍ، مِنْهُمْ مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، وَرَوْحُ بْنُ مُقْبِلٍ، وَبِشْرٌ مَوْلَى كِنَانَةَ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُلَقَّبُ بِوَجْهِ الْفَلْسِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ بَشَّرُوهُ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، فَأَطْلَقَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنَ الْعَشْرَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ، وَقَالَ لَهُ رَوْحُ بْنُ مُقْبِلٍ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ الْفَاسِقِ. فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجَعَتِ الْجُيُوشُ إِلَى يَزِيدَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ يَدَهُ لِلْمُبَايَعَةِ يَزِيدُ بْنُ عَنْبَسَةَ السَّكْسَكِيُّ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا رِضًا لَكَ فَأَعِنِّي عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لِمَنْ جَاءَهُ بِرَأْسِ الْوَلِيدِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ. لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَأَمَرَ يَزِيدُ بِنَصْبِ رَأْسِهِ عَلَى رُمْحٍ، وَأَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا يُنْصَبُ رَأْسُ الْخَارِجِيِّ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْصِبَنَّهُ. فَشَهَرَهُ فِي الْبَلَدِ عَلَى رُمْحٍ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ شَهْرًا، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَزِيدَ، فَقَالَ أَخُوهُ: بُعْدًا لَهُ، أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ شَرُوبًا لِلْخَمْرِ مَاجِنًا فَاسِقًا، وَلَقَدْ أَرَادَنِي عَلَى نَفَسِي الْفَاسِقِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رَأْسَهُ لَمْ يَزَلْ مُعَلِّقًا بِحَائِطِ جَامِعِ دِمَشْقَ الشَّرْقِيِّ مِمَّا يَلِي الصَّحْنَ، حَتَّى انْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَثَرَ دَمِهِ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ
سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ:
ثَمَانِيًا وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: إِحْدَى - وَقِيلَ: ثِنْتَانِ. وَقِيلَ:
خَمْسٌ. وَقِيلَ: سِتٌّ - وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَنَةٌ
وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَشْهَرِ. وَقِيلَ: وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ شَدِيدَ الْبَطْشِ، طَوِيلَ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ،
كَانَتْ تُضْرَبُ لَهُ سِكَّةُ الْحَدِيدِ فِي الْأَرْضِ، وَيُرْبَطُ فِيهَا
خَيْطٌ إِلَى رِجْلِهِ، ثُمَّ يَثِبُ عَلَى الْفَرَسِ، فَيَرْكَبُهَا، وَلَا
يَمَسُّ الْفَرَسَ، فَتَنْقَلِعُ تِلْكَ السِّكَّةُ مِنَ الْأَرْضِ مَعَ وَثْبَتِهِ.
خِلَافَةُ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِالنَّاقِصِ ; لِنَقْصِهِ النَّاسَ الزِّيَادَةَ الَّتِي
كَانَ زَادَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ، وَهِيَ عَشَرَةٌ
عَشَرَةٌ، وَرَدِّهِ إِيَّاهُمْ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ هِشَامٍ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ لَقَّبَهُ بِذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَذَلِكَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ - وَكَانَ فِيهِ
صَلَاحٌ وَوَرَعٌ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَوَّلُ مَا عَمِلَ انْتِقَاصُهُ مِنْ
أَرْزَاقِ الْجُنْدِ مَا كَانَ الْوَلِيدُ زَادَهُمْ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ
عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ، فَسُمِّيَ النَّاقِصَ لِذَلِكَ. وَيُقَالُ فِي الْمَثَلِ:
الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ. يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَهَذَا. وَلَكِنْ لَمْ تَطُلْ أَيَّامُهُ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ مِنْ
آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ، وَانْتَشَرَتِ
الْفِتَنُ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَةُ بَنِي مَرْوَانَ فَنَهَضَ سُلَيْمَانُ بْنُ
هِشَامٍ، وَكَانَ مُعْتَقَلًا فِي سِجْنِ الْوَلِيدِ بِعَمَّانَ، فَاسْتَحْوَذَ
عَلَى أَمْوَالِهَا وَحَوَاصِلِهَا، وَأَقْبَلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَجَعَلَ يَلْعَنُ
الْوَلِيدَ وَيَعِيبُهُ وَيَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ، فَأَكْرَمَهُ يَزِيدُ وَرَدَّ
عَلَيْهِ أَمْوَالَهُ الَّتِي كَانَ أَخَذَهَا مِنْهُ الْوَلِيدُ وَتَزَوَّجَ
يَزِيدُ أُخْتَ سُلَيْمَانَ وَهِيَ أُمُّ هِشَامٍ بِنْتُ هِشَامٍ
وَنَهَضَ أَهْلُ حِمْصَ إِلَى دَارِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الَّتِي عِنْدَهُمْ فَهَدَمُوهَا، وَحَبَسُوا أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، وَهَرَبَ هُوَ مِنْ حِمْصَ، فَلَحِقَ بِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَظْهَرَ أَهْلُ حِمْصَ الْأَخْذَ بِدَمِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَ الْبَلَدِ، وَأَقَامُوا النَّوَائِحَ وَالْبَوَاكِيَ عَلَى الْوَلِيدِ وَكَاتَبُوا الْأَجْنَادَ فِي طَلَبِ ثَأْرِ الْوَلِيدِ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَكَمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ يَزِيدَ الَّذِي أَخَذَ لَهُ الْعَهْدَ هُوَ الْخَلِيفَةُ، وَخَلَعُوا نَائِبَهُمْ، وَهُوَ مَرْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثُمَّ قَتَلُوهُ وَقَتَلُوا ابْنَهُ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْنٍ فَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ كَتَبَ إِلَيْهِمْ كِتَابًا مَعَ يَعْقُوبَ بْنِ هَانِئٍ، وَمَضْمُونُ الْكِتَابِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ رَضِينَا بِوَلِيِّ عَهْدِنَا الْحَكَمِ بْنِ الْوَلِيدِ. فَأَخَذَ يَعْقُوبُ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: وَيْحَكَ ! لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ يَتِيمًا تَحْتَ حَجْرِكَ لَمْ يَحِلَّ لَكَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ، فَكَيْفَ أَمْرُ الْأُمَّةِ. فَوَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى رُسُلِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَطَرَدُوهُمْ عَنْهُمْ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ: لَوْ قَدْ قَدِمْتُ دِمَشْقَ لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيَّ مِنْهُمُ اثْنَانِ. فَرَكِبُوا مَعَهُ، وَسَارُوا نَحْوَ دِمَشْقَ، وَقَدْ أَمَّرُوا عَلَيْهِمُ السُّفْيَانِيَّ فَتَلَقَّاهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ قَدْ جَهَّزَهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَجَهَّزَ أَيْضًا عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْحَجَّاجِ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ يَكُونُونَ عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، وَجَهَّزَ هِشَامَ بْنَ مَصَادٍ الْمِزِّيَّ فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ لِيِكُونُوا عَلَى عَقَبَةِ السُّلَمِيَّةِ فَمَرَّ أَهْلُ حِمْصَ، وَتَرَكُوا جَيْشَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ ذَاتَ الْيَسَارِ
وَعَدَّوْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ
سُلَيْمَانُ سَاقَ فِي طَلَبِهِمْ، فَلَحِقَهُمْ عِنْدَ السُّلَيْمَانِيَّةِ
فَجَعَلُوا الزَّيْتُونَ عَنْ أَيْمَانِهِمْ وَالْجَبَلَ عَنْ شَمَائِلِهِمْ
وَالْجِبَابَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مَخْلَصٌ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ
جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ فِي قَيَّالَةِ الْحَرِّ قِتَالًا
شَدِيدًا، فَقُتِلَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ بِمَنْ مَعَهُ، فَحَمَلَ
عَلَى أَهْلِ حِمْصَ فَاخْتَرَقَ جَيْشَهُمْ، حَتَّى رَكِبَ التَّلَّ الَّذِي فِي
وَسَطِهِمْ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، فَتَفَرَّقُوا وَاتَّبَعَهُمُ النَّاسُ،
ثُمَّ تَنَادَوْا بِالْكَفِّ عَنْهُمْ عَلَى أَنْ يُبَايِعُوا لِيَزِيدَ بْنِ
الْوَلِيدِ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً، مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ
السُّفْيَانِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ
ارْتَحَلَ سُلَيْمَانُ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَنَزَلَا عَذْرَاءَ وَمَعَهُمُ
الْجُيُوشُ وَأَشْرَافُ النَّاسِ، وَأَشْرَافُ أَهْلِ حِمْصَ مِنَ الْأُسَارَى،
وَمَنِ اسْتَجَابَ مِنْ غَيْرِ أَسْرٍ، بَعْدَ مَا قُتِلَ مِنْهُمْ ثَلَاثُمِائَةِ
نَفْسٍ، فَدَخَلُوا بِهِمْ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ،
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَصَفَحَ عَنْهُمْ، وَأَطْلَقَ الْأَعْطِيَاتِ لَهُمْ، لَا
سِيَّمَا لِأَشْرَافِهِمْ، وَوَلَّى عَلَيْهِمُ الَّذِي اخْتَارُوهُ، وَهُوَ
مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَطَابَتْ عَلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ،
وَأَقَامُوا عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ سَامِعِينَ لَهُ مُطِيعِينَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَايَعَ أَهْلُ فِلَسْطِينَ يَزِيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي سُلَيْمَانَ كَانَتْ لَهُمْ أَمْلَاكٌ
هُنَاكَ، وَكَانُوا ينْزِلُونَهَا، وَكَانَ
أَهْلُ فِلَسْطِينَ يُحِبُّونَ مُجَاوَرَتَهُمْ، فَلَمَّا قُتِلَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ كَتَبَ سَعِيدُ بْنُ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ - وَكَانَ رَئِيسَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ - إِلَى - يَزِيدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَدْعُوهُ إِلَى الْمُبَايَعَةِ لَهُ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ خَبَرُهُمْ بَايَعُوا أَيْضًا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَأَمَّرُوهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْجُيُوشَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ فِي الدَّمَاشِقَةِ وَأَهْلِ حِمْصَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ السُّفْيَانِيِّ فَصَالَحَهُمْ أَهْلُ الْأُرْدُنِّ أَوَّلًا وَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ فِلَسْطِينَ وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وِلَايَةَ الْإِمْرَةِ بِالرَّمَلَةِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمَالِكُ هُنَالِكَ، وَقَدْ خَطَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّاسَ بِدِمَشْقَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَنَا وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا، وَلَا حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلَا رَغْبَةً فِي الْمِلْكِ، وَمَا بِي إِطْرَاءُ نَفْسِي، إِنِّي لَظَلُومٌ لِنَفْسِي إِنْ لَمْ يَرْحَمْنِي رَبِّي، وَلَكِنِّي خَرَجْتُ غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِدِينِهِ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا هُدِمَتْ مَعَالِمُ الدِّينِ، وَأُطْفِئَ نُورُ أَهْلِ التَّقْوَى، وَظَهَرَ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ، الْمُسْتَحِلُّ لِكُلِّ حُرْمَةٍ، وَالرَّاكِبُ كُلَّ بِدْعَةٍ، مَعَ أَنَّهُ وَاللَّهِ مَا كَانَ يُصَدِّقُ بِالْكِتَابِ، وَلَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَإِنَّهُ لَابْنُ عَمِّي فِي النَّسَبِ، وَكُفْئِي فِي الْحَسَبِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَكِلَنِي إِلَى نَفْسِي، وَدَعَوْتُ إِلَى ذَلِكَ مَنْ أَجَابَنِي مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِي، وَسَعَيْتُ فِيهِ حَتَّى أَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، لَا بِحَوْلِي وَقُوَّتِي، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لَكُمْ
عَلَيَّ أَنْ لَا أَضَعَ حَجَرًا عَلَى
حَجَرٍ، وَلَا لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا أَكْرِي نَهْرًا، وَلَا أُكَثِّرُ
مَالًا، وَلَا أُعْطِيَهُ زَوْجَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا أَنْقُلُ مَالًا مِنْ
بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى أَسُدَّ ثَغْرَ ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَخَصَاصَةَ
أَهْلِهِ بِمَا يُعِينُهُمْ، فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ نَقَلْتُهُ إِلَى الْبَلَدِ
الَّذِي يَلِيهِ مِمَّنْ هُوَ أَحْوَجُ إِلَيْهِ، وَلَا أُجَمِّرَكُمْ فِي
ثُغُورِكُمْ فَأَفْتِنَكُمْ وَأَفْتِنَ أَهْلِيكُمْ، وَلَا أُغْلِقُ بَابِي
دُونَكُمْ فَيَأْكُلَ قَوِيُّكُمْ ضَعِيفَكُمْ، وَلَا أَحْمِلَ عَلَى أَهْلِ
جِزْيَتِكُمْ مَا يُجْلِيهِمْ عَنْ بِلَادِهِمْ وَيَقْطَعُ نَسْلَهُمْ، وَإِنَّ
لَكُمْ عِنْدِي أَعْطِيَاتِكُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَرْزَاقَكُمْ فِي كُلِّ
شَهْرٍ، حَتَّى تَسْتَدِرَّ الْمَعِيشَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ
أَقْصَاهُمْ كَأَدْنَاهُمْ، فَإِنْ أَنَا وَفَّيْتُ لَكُمْ بِمَا قُلْتُ،
فَعَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ وَحُسْنُ الْمُؤَازَرَةِ، وَإِنْ أَنَا لَمْ
أَفِ لَكُمْ، فَلَكُمْ أَنْ تَخْلَعُونِي إِلَّا أَنْ تَسْتَتِيبُونِي، فَإِنْ
تُبْتُ قَبِلْتُمْ مِنِّي، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ
يُعْطِيكُمْ مِنْ نَفْسِهِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتُكُمْ، فَأَرَدْتُمْ أَنْ
تُبَايِعُوهُ، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُهُ وَيَدْخُلُ فِي طَاعَتِهِ،
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ،
إِنَّمَا الطَّاعَةُ طَاعَةُ اللَّهِ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَأَطِيعُوهُ
بِطَاعَةِ اللَّهِ مَا أَطَاعَ، فَإِذَا عَصَى فَدَعَا إِلَى مَعْصِيَتِهِ فَهُوَ
أَهْلٌ أَنْ يُعْصَى وَيُقْتَلَ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
لِي وَلَكُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ عَنْ
إِمْرَةِ الْعِرَاقِ لَمَّا ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الْحَنَقِ عَلَى الْيَمَانِيَةِ،
وَهُمْ قَوْمُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ حِينَ قُتِلَ
الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَكَانَ قَدْ
سَجَنَ غَالِبَ مَنْ بِبِلَادِهِ مِنْهُمْ، وَجَعَلَ الْأَرْصَادَ عَلَى
الثُّغُورِ ; خَوْفًا مِنْ جُنْدِ الْخَلِيفَةِ، فَعَزَلَهُ عَنْهَا أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَوَلَّى عَلَيْهَا مَنْصُورَ بْنَ
جُمْهُورٍ مَعَ بِلَادِ السِّنْدِ وَسِجِسْتَانَ وَخُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ
مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ أَعْرَابِيًّا جِلْفًا، وَكَانَ يُزَنُّ بِمَذْهَبِ
الْغَيْلَانِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ وَلَكِنْ كَانَتْ لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ،
وَغِنَاءٌ كَثِيرٌ فِي مَقْتَلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَحَظِيَ بِذَلِكَ عِنْدَ
يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنْ
مَقْتَلِ الْوَلِيدِ ذَهَبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْعِرَاقِ فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ
مِنْ أَهْلِهَا لِيَزِيدَ وَقَرَّرَ بِالْأَقَالِيمِ نُوَّابًا وَعُمَّالًا،
وَكَرَّ رَاجِعًا فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ ; فَلِذَلِكَ وَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ مَا
وَلَّاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَإِنَّهُ فَرَّ مِنَ الْعِرَاقِ فَلَحِقَ بِبِلَادِ
الْبَلْقَاءِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ فَأَحْضَرُوهُ
إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ - وَكَانَ كَبِيرَ
اللِّحْيَةِ جِدًّا، رُبَّمَا كَانَتْ تُجَاوِزُ سَرَّتْهُ، وَكَانَ قَصِيرَ
الْقَامَةِ - فَوَبَّخَهُ وَأَنَّبَهُ، ثُمَّ سَجَنَهُ، وَأَمَرَ بِاسْتِخْلَاصِ
الْحُقُوقِ مِنْهُ، وَلَمَّا انْتَهَى مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ إِلَى الْعِرَاقِ
قَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ
مَقْتَلِ الْوَلِيدِ وَأَنَّ اللَّهَ أَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ،
وَأَنَّهُ قَدْ وَلَّى عَلَيْهِمْ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ
شَجَاعَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَرْبِ، فَبَايَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ لِيَزِيدَ
بْنِ الْوَلِيدِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ السِّنْدِ وَسِجِسْتَانَ.
وَأَمَّا نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ نَائِبُ خُرَاسَانَ فَإِنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ
السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِمَنْصُورِ بْنِ جُمْهُورٍ وَأَبَى أَنْ يَنْقَادَ
لِأَوَامِرِهِ، وَقَدْ كَانَ جَهَّزَ هَدَايَا كَثِيرَةً لِلْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ
فَاسْتَمَرَّتْ لَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ كِتَابًا إِلَى الْغَمْرِ
بْنِ يَزِيدَ أَخِي الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، يَحُثُّهُ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ
دَمِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ وَكَانَ مَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرًا عَلَى
أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ.
ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَزَلَ مَنْصُورَ بْنَ جُمْهُورٍ عَنْ
وِلَايَةِ الْعِرَاقِ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يُحِبُّونَ أَبَاكَ فَقَدْ
وَلَّيْتُكَهَا. وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَكَتَبَ لَهُ إِلَى أُمَرَاءِ
الشَّامِ الَّذِينَ بِالْعِرَاقِ يُوصِيهِمْ بِهِ ; خَشْيَةَ أَنْ يَمْتَنِعَ
مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ مِنْ تَسْلِيمِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، فَسَلَّمَ
إِلَيْهِ، وَسَمِعَ وَأَطَاعَ.
وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ بِوِلَايَةِ خُرَاسَانَ
مُسْتَقِلًّا بِهَا، فَخَرَجَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْكَرْمَانِيُّ.
لِأَنَّهُ وُلِدَ بِكَرْمَانَ وَهُوَ أَبُو عَلِيٍّ جَدِيعُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
شَبِيبٍ الْمَعْنِيُّ وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ
يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَ يُسَلِّمُ
عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَلَا يَجْلِسُ عِنْدَهُ، فَتَحَيَّرَ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ وَأُمَرَاؤُهُ فِيمَا يَصْنَعُ بِهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ بَعْدَ
جَهْدٍ عَلَى سَجْنِهِ، فَسُجِنَ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ،
فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَرَكِبُوا مَعَهُ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ نَصْرٌ مَنْ قَاتَلَهُمْ وَقَهَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ.
وَاسْتَخَفَّ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ
وَتَلَاشَوْا أَمْرَهُ وَحُرْمَتَهُ، وَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ،
وَأَسْمَعُوهُ غَلِيظَ مَا يَكْرَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسِفَارَةِ سَلْمِ
بْنِ أَحْوَزَ أَدَّى ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَخَرَجَتِ الْبَاعَةُ مِنَ الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ وَهُوَ يَخْطُبُ، وَانْفَضَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْهُ، فَقَالَ
لَهُمْ نَصْرٌ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ
نَشَرْتُكُمْ وَطَوَيْتُكُمْ،
وَطَوَيْتُكُمْ وَنَشَرْتُكُمْ، فَمَا عِنْدِي مِنْكُمْ عَشَرَةٌ عَلَى دِينٍ،
فَاتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ لَئِنِ اخْتَلَفَ فِيكُمْ سَيْفَانِ
لَيَتَمَنَّيْنَّ الرَّجُلُ مِنْكُمْ أَنْ يَنْخَلِعَ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ
وَوَلَدِهِ وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا. ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَإِنْ يَغْلِبْ شَقَاؤُكُمُ عَلَيْكُمْ فَإِنِّي فِي صَلَاحِكُمُ سَعَيْتُ
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَشْرَجِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
الْوَرْدِ الْجَعْدِيُّ:
أَبِيتُ أَرْعَى النُّجُومَ مُرْتِفِقًا إِذَا اسْتَقَلَّتْ تَجْرِي أَوَائِلُهَا
مِنْ فِتْنَةٍ أَصْبَحَتْ مُجَلِّلَةً قَدْ عَمَّ أَهْلَ الصَّلَاةِ شَامِلُهَا
مَنْ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَمَنْ بِالشَّامِ كُلٌّ شَجَاهُ شَاغِلُهَا
فَالنَّاسُ مِنْهَا فِي لَوْنٍ مُظْلِمَةٍ دَهْمَاءَ مُلْتَجَّةٍ غَيَاطِلُهَا
يُمْسِي السَّفِيهُ الَّذِي يُعَنَّفُ بِالْ جَهْلِ سَوَاءً فِيهَا وَعَاقِلُهَا
وَالنَّاسُ فِي كُرْبَةٍ يَكَادُ لَهَا تَنْبِذُ أَوْلَادَهَا حَوَامِلُهَا
يَغْدُونَ مِنْهَا فِي ظِلِّ مُبْهَمَةٍ عَمْيَاءَ تَغْتَالُهُمْ غَوَائِلُهَا
لَا يَنْظُرُ النَّاسُ مِنْ عَوَاقِبِهَا إِلَّا الَّتِي لَا يَبِينُ قَائِلُهَا
كَرَغْوَةِ الْبَكْرِ أَوْ كَصَيْحَةِ حُبْ لَى طَرَقَتْ حَوْلَهَا قَوابِلُهَا
فَجَاءَ فِينَا يَزْرِي بِوِجْهَتِهِ فِيهَا خُطُوبٌ جَمٌّ زَلْازِلُهَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ
الْخَلِيفَةُ الْبَيْعَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ إِبْرَاهِيمَ، لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَقَدْ حَرَّضَهُ عَلَى
ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ وَالْوُزَرَاءِ.
وَفِيهَا عَزَلَ يَزِيدُ عَنْ إِمْرَةِ الْحِجَازِ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدٍ
الثَّقَفِيَّ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَقَدِمَهَا فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْهَا.
وَفِيهَا أَظْهَرَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ الْخِلَافَ لِيَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ
وَخَرَجَ مِنْ بِلَادِ إِرْمِينِيَّةَ يُظْهِرُ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِدَمِ
الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى حَرَّانَ أَظْهَرَ
الْمُوَافَقَةَ، وَبَايَعَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، أَبَا هَاشِمٍ بُكَيْرَ بْنَ مَاهَانَ إِلَى أَرْضِ خُرَاسَانَ،
فَاجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِمَرْوَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ
كِتَابَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ إِلَيْهِمْ وَوَصِيَّتَهُ،
فَتَلَقَّوْا ذَلِكَ بِالْقَبُولِ، وَأَرْسَلُوا مَعَهُ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ
النَّفَقَاتِ.
وَفِي سَلْخِ ذِي الْقِعْدَةِ، وَقِيلَ: فِي سَلْخِ ذِي الْحِجَّةِ. وَقِيلَ:
لِعَشَرٍ مَضَيْنَ مِنْهُ. وَقِيلَ: بَعْدَ الْأَضْحَى مِنْهَا. كَانَتْ وَفَاةُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهَذِهِ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافِ بْنِ قَصِيِّ، أَبُو خَالِدٍ الْأُمَوِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ أَوَّلَ
مَا بُويِعَ بِهَا فِي قَرْيَةٍ الْمِزَّةِ ثُمَّ دَخَلَ دِمَشْقَ فَغَلَبَ
عَلَيْهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْجُيُوشَ إِلَى ابْنِ عَمِّهِ الْوَلِيدِ بْنِ
يَزِيدَ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْخِلَافَةِ فِي أَوَاخِرَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالنَّاقِصِ ; لِنَقْصِهِ
النَّاسَ الْعَشَرَاتِ الَّتِي زَادَهُمْ إِيَّاهَا الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ بِذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ
بِالْحِمَارِ. فَكَانَ يَقُولُ: النَّاقِصُ بْنُ الْوَلِيدِ. وَأَمُّهُ شَاهْفَرِنْدَ
بِنْتُ فَيْرُوزَ بْنِ كِسْرَى كِسْرَوِيَّةٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأُمُّهُ شَاهْ آفْرِيْدَ بِنْتُ فَيْرُوزَ بْنِ
يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرِيَارَ بْنِ كِسْرَى. وَهُوَ الْقَائِلُ:
أَنَا ابْنُ كِسْرَى وَأَبِي مَرْوَانُ وَقَيْصَرُ جَدِّي وَجَدُّ خَاقَانَ
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ جَدَّهُ فَيْرُوزُ وَأُمُّ أُمِّهِ بِنْتُ
قَيْصَرَ وَأُمُّ شِيرَوَيْهِ هِيَ بِنْتُ خَاقَانَ مَلِكُ التُّرْكِ وَكَانَتْ
قَدْ سَبَاهَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ هِيَ وَأُخْتًا لَهَا، فَبَعَثَهُمَا
إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَرْسَلَ بِهَذِهِ إِلَى الْوَلِيدِ وَاسْتَبْقَى عِنْدَهُ
الْأُخْرَى. فَوَلَدَتْ هَذِهِ لِلْوَلِيدِ يَزِيدَ النَّاقِصَ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ مَسْأَلَةً فِي السَّلَمِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ وِلَايَتِهِ فِيمَا سَلَفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَأَنَّهُ كَانَ عَادِلًا دَيِّنًا، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُبْغِضًا لِلشَّرِّ،
قَاصِدًا لِلْحَقِّ.
وَقَدْ خَرَجَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى صَلَاةِ
الْعِيدِ بَيْنَ صَفَّيْنِ مِنَ الْخَيَّالَةِ، وَالسُّيُوفُ مُسَلَّةٌ عَنْ
يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَرَجَعَ مِنَ الْمُصَلَّى إِلَى الْخَضْرَاءِ
كَذَلِكَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي مَرْوَانَ.
وَالْمُرَادُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهَذَا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ اللَّيْثِيِّ قَالَ: قَالَ
يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّاقِصُ: يَا بَنِي أُمَيَّةَ إِيَّاكُمْ وَالْغِنَاءَ،
فَإِنَّهُ يُنْقِصُ الْحَيَاءَ، وَيَزِيدُ فِي الشَّهْوَةِ، وَيَهْدِمُ
الْمُرُوءَةَ، وَإِنَّهُ لَيَنُوبُ عَنِ الْخَمْرِ، وَيَفْعَلَ مَا يَفْعَلُ
الْمُسْكِرُ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّسَاءَ
فَإِنَّ الْغِنَاءَ دَاعِيَةُ الزِّنَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:
النَّاقِصُ. دَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَدَرِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ، وَقَرَّبَ
غَيْلَانَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَلَعَلَّهُ قَرَّبَ أَصْحَابَ غَيْلَانَ
لِأَنَّ غَيْلَانَ قَتَلَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ
الْوَلِيدِ النَّاقِصُ: وَاحَسْرَتَاهُ ! وَاأَسَفَاهُ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ:
الْعَظَمَةُ لِلَّهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْخَضْرَاءِ مِنْ طَاعُونٍ أَصَابَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ
السَّبْتِ لِسَبْعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: فِي مُسْتَهَلِّهِ.
وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَضْحَى مِنْهُ. وَقِيلَ: بَعْدَهُ بِأَيَّامٍ. وَقِيلَ: لِعَشْرٍ
بَقَيْنَ مِنْهُ. وَقِيلَ: فِي سَلْخِهِ. وَقِيلَ: فِي سَلْخِ ذِي الْقِعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَأَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي عُمْرِهِ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ عَلَى الْأَشْهَرِ. وَقِيلَ:
خَمْسَةُ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٌ.
وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ أَنَّهُ دُفِنَ بَيْنَ بَابِ
الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ وَقِيلَ: إِنَّهُ دُفِنَ بِبَابِ الْفَرَادِيسِ.
وَكَانَ أَسْمَرَ نَحِيفًا، حَسَنَ الْجِسْمِ، حَسَنَ الْوَجْهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ: كَانَ يَزِيدُ أَسْمَرَ
طَوِيلًا، صَغِيرَ الرَّأْسِ، بِوَجْهِهِ خَالٌ، وَكَانَ جَمِيلًا، فِي فَمِهِ
بَعْضُ السِّعَةِ، وَلَيْسَ بِالْمُفْرِطِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ
نَائِبُ الْحِجَازِ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ نَائِبُ الْعِرَاقِ وَنَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ أَسَدِ بْنِ كُرْزِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْقَرِيٍّ، أَبُو الْهَيْثَمِ
الْبَجَلِيُّ الْقَسْرِيُّ الدَّمَشْقِيُّ أَمِيرُ مَكَّةَ وَالْحِجَازِ
لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ثُمَّ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ، وَأَمِيرُ
الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِمَا هِشَامٍ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي مُرَبَّعَةِ الْقَزِّ
وَتُعْرَفُ الْيَوْمَ بِدَارِ الشَّرِيفِ الزَّيْدِيِّ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ
الْحَمَّامُ الَّذِي دَاخِلُ بَابِ تَوْمَاءَ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " يَا
أَسَدُ، أَتُحِبُّ الْجَنَّةَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَأَحِبَّ
لِلْمُسْلِمِينَ مَا تُحِبَّ لِنَفْسِكَ " رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ سَيَّارٍ أَبِي الْحَكَمِ
أَنَّهُ سَمِعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَوْسَطَ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَوَى عَنْ جِدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَكْفِيرِ الْمَرَضِ الذُّنُوبَ.
وَكَانَتْ أَمُّهُ نَصْرَانِيَّةً، وَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ فِي
الْأَشْرَافِ، مِمَّنْ أَمُّهُ نَصْرَانِيَّةٌ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: أَوَّلُ مَا عُرِفَ مِنْ رِيَاسَتِهِ أَنَّهُ أَوَطَأَ
صَبِيًّا بِدِمَشْقَ بِفَرَسِهِ، فَحَمَلَهُ فَأَشْهَدَ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ
أَنَّهُ هُوَ صَاحِبُهُ، فَإِنْ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ. وَقَدِ اسْتَنَابَهُ
الْوَلِيدُ عَلَى الْحِجَازِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ،
ثُمَّ اسْتَنَابَهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهَا، وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَمِائَةٍ اسْتَنَابَهُ
هِشَامٌ عَلَى الْعِرَاقِ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ
سَلَّمَهُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ
الَّذِي وَلَّاهُ مَكَانَهُ، فَعَاقَبَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
ثُمَّ أَطْلَقَهُ، فَأَقَامَ بِدِمَشْقَ إِلَى الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَسَلَّمَهُ الْوَلِيدُ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ لِيَسْتَخْلِصَ مِنْهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، فَمَاتَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ الْبَلِيغَةِ ; كَسَرَ
قَدَمَيْهِ، ثُمَّ سَاقَيْهِ، ثُمَّ فَخِذَيْهِ، ثُمَّ صَدْرَهُ، فَمَاتَ وَلَمْ
يَتَكَلَّمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَلَا تَأْوَّهَ حَتَّى خَرَجَتْ رُوحُهُ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ: خَطَبَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ يَوْمًا،
فَارْتَجَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَجِيءُ
أَحْيَانًا، وَيَعْزُبُ أَحْيَانًا، فَيَتَسَبَّبُ عِنْدَ مَجِيئِهِ سَبَبُهُ،
وَيَتَعَذَّرُ عِنْدَ عُزُوبِهِ مَطْلَبُهُ، وَقَدْ يُرَدُّ إِلَى السَّلِيطِ
بَيَانُهُ، وَيُنِيبُ إِلَى الْحَصْرِ كَلَامُهُ، وَسَيَعُودُ إِلَيْنَا مَا
تُحِبُّونَ، وَنَعُودُ لَكُمْ كَمَا تُرِيدُونَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: خَطَبَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ يَوْمًا
بِوَاسِطَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تَنَافَسُوا فِي الْمَكَارِمِ،
وَسَارِعُوا إِلَى الْمَغَانِمِ، وَاشْتَرُوا الْحَمْدَ بِالْجُودِ، وَلَا
تَكْتَسِبُوا بِالْمَطْلِ ذَمًّا، وَلَا تَعْتَدُّوا بِمَعْرُوفٍ لَمْ
تُعَجِّلُوهُ، وَمَهْمَا يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ نِعْمَةٌ عِنْدَ أَحَدٍ لَمْ
يَبْلُغْ شُكْرَهَا، فَاللَّهُ أَحْسَنُ لَهُ جَزَاءً، وَأَجْزَلُ عَطَاءً،
وَاعْلَمُوا أَنَّ حَوَائِجَ النَّاسِ إِلَيْكُمْ نِعَمٌ فَلَا تَمَلُّوهَا
فَتُحَوَّلَ نِقَمًا، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْمَالِ مَا أَكْسَبَ أَجْرًا وَأَوْرَثَ
ذِكْرًا، وَلَوْ رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ لَرَأَيْتُمُوهُ رَجُلًا حَسَنًا
جَمِيلًا يَسُرُّ النَّاظِرِينَ، وَيَفُوقُ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ رَأَيْتُمُ
الْبُخْلَ لَرَأَيْتُمُوهُ رَجُلًا مُشَوَّهًا قَبِيحًا تَنْفِرُ مِنْهُ
الْقُلُوبُ، وَتُغَضُّ دُونَهُ الْأَبْصَارُ، إِنَّهُ مَنْ جَادَ سَادَ، وَمَنْ
بَخِلَ ذَلَّ، وَأَكْرَمُ النَّاسِ مَنْ أَعْطَى مَنْ لَا يَرْجُوهُ، وَمَنْ عَفَا
عَنْ قُدْرَةٍ، وَأَوْصَلُ النَّاسِ مَنْ وَصَلَ مَنْ قَطَعَهُ،
وَمَنْ لَمْ يَطِبْ حَرْثُهُ لَمْ
يَزْكُ نَبْتُهُ، وَالْفُرُوعُ عِنْدَ مَغَارِسِهَا تَنْمُو، وَبِأُصُولِهَا
تَسْمُو.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْهَيْثَمِ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا
قَدِمَ عَلَى خَالِدٍ فَأَنْشَدَهُ قَصِيدَةً امْتَدَحَهُ بِهَا يَقُولُ فِيهَا:
إِلَيْكَ ابْنَ كُرْزِ الْخَيْرِ أَقْبَلْتُ رَاغِبًا لِتَجَبُرَ مِنِّي مَا وَهَى
وَتَبَدَّدَا إِلَى الْمَاجِدِ الْبُهْلُولِ ذِي الْحِلْمِ وَالنَّدَى
وَأَكْرَمِ خَلْقِ اللَّهِ فَرْعًا وَمَحْتِدَا إِذَا مَا أُنَاسٌ قَصَّرُوا
بِفِعَالِهِمْ
نَهَضَتْ فَلَمْ تُلْفَى هُنَالِكَ مُقْعَدَا فَيَالَكَ بَحْرًا يَغْمُرُ النَّاسَ
مَوْجُهُ
إِذَا يُسْأَلُ الْمَعْرُوفَ جَاشَ وَأَزْبَدَا بَلَوْتُ ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي
كُلِّ مَوْطِنٍ
فَأَلْفَيْتُ خَيْرَ النَّاسِ نَفْسًا وَأَمْجَدَا فَلَوْ كَانَ فِي الدُّنْيَا
مِنَ النَّاسِ خَالِدٌ
لِجُودٍ بِمَعْرُوفٍ لَكُنْتُ مُخَلَّدًا فَلَا تَحْرِمَنِّي مِنْكَ مَا قَدْ
رَجَوْتُهُ
فَيُصْبِحَ وَجْهِي كَالِحَ اللَّوْنِ أَرْبَدَا
قَالَ: فَحَفِظَهَا خَالِدٌ فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ عِنْدَ خَالِدٍ قَامَ
الْأَعْرَابِيُّ يَنْشُدُهَا، فَابْتَدَرَهُ إِلَيْهَا خَالِدٌ فَأَنْشَدَهَا
قَبْلَهُ، وَقَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، إِنَّ هَذَا شِعْرٌ قَدْ سَبَقْنَاكَ
إِلَيْهِ. فَنَهَضَ الشَّيْخُ، فَوَلَّى ذَاهِبًا، فَأَتْبَعَهُ خَالِدٌ مَنْ
يَسْمَعُ مَا يَقُولُ، فَإِذَا هُوَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَلَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا كُنْتُ أَرْتَجِي لَدَيْهِ وَمَا لَاقَيْتُ مِنْ
نَكَدِ الْجُهْدِ
دَخَلْتُ عَلَى بَحْرٍ يَجُودُ بِمَالِهِ وَيُعْطِي كَثِيرَ الْمَالِ فِي طَلَبِ
الْحَمْدِ
فَخَالَفَنِي الْجَدُّ الْمَشُومُ لِشِقْوَتِي وَقَارَبَنِي نَحْسِي وَفَارَقَنِي
سَعْدِي
فَلَوْ كَانَ لِي رِزْقٌ لَدَيْهِ لَنِلْتُهُ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ الْوَاحِدِ
الْفَرْدِ
فَرَدَّهُ إِلَى خَالِدٍ وَأَعْلَمَهُ بِمَا كَانَ يَقُولُ، فَأَمَرَ لَهُ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَأَلَ
أَعْرَابِيٌّ خَالِدًا الْقَسْرِيَّ أَنْ يَمْلَأَ لَهُ جِرَابَهُ دَقِيقًا،
فَأَمَرَ بِمَلْئِهِ لَهُ دَرَاهِمَ، فَقِيلَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ خَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِ: مَا فَعَلَ مَعَكَ ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُهُ مَا أَشْتَهِي، فَأَمَرَ لِي
بِمَا يَشْتَهِي هُوَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَيْنَمَا خَالِدٌ يَسِيرُ فِي مَوْكِبِهِ إِذْ تَلَقَّاهُ
أَعْرَابِيٌّ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَلِمَ ؟
أَقَطَعْتَ السَّبِيلَ ؟ أَأَخْرَجْتَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ ؟ فَكُلُّ ذَلِكَ
يَقُولُ: لَا. قَالَ: فَلِمَ ؟ قَالَ: مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ. فَقَالَ: سَلْ
حَاجَتَكَ. فَقَالَ: ثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَقَالَ خَالِدٌ: مَا رَبِحَ أَحَدٌ
مِثَلَ مَا رَبِحْتُ الْيَوْمَ ; إِنِّي وَضَعْتُ فِي نَفْسِي أَنْ يَسْأَلَنِي
مِائَةَ أَلْفٍ، فَسَأَلَ ثَلَاثِينَ، فَرَبِحْتُ سَبْعِينَ أَلْفًا، ارْجِعُوا
بِنَا الْيَوْمَ. وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَكَانَ إِذَا جَلَسَ تُوضَعُ الْأَمْوَالُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ
هَذِهِ الْأَمْوَالَ وَدَائِعُ لَا بُدَّ مِنْ تَفْرِقَتِهَا.
وَسَقَطَ خَاتَمٌ لِجَارِيَتِهِ رَائِقَةَ يُسَاوِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فِي
بَالُوعَةِ الدَّارِ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُؤْتَى بِمَنْ يَسْتَخْرِجُهُ، فَقَالَ:
إِنَّ يَدَكِ أَكْرَمُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ تَلْبَسَهُ بَعْدَمَا صَارَ إِلَى هَذَا
الْمَوْضِعِ الْقَذِرِ. وَأَمَرَ لَهَا بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ بَدَلَهُ،
وَقَدْ كَانَ لِرَائِقَةَ هَذِهِ مِنَ الْحُلِيِّ شَيْءٌ عَظِيمٌ، مِنْ جُمْلَةِ
ذَلِكَ يَاقُوتَةٌ وَجَوْهَرَةٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفِ
دِينَارٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي
كِتَابِ " أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ
" السُّنَّةِ "، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي كُتُبِ
السُّنَّةِ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ خَطَبَ النَّاسَ فِي
عِيدِ أَضْحًى، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ
ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ
اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى
تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا
كَبِيرًا. ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: كَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ، وَهُوَ مُؤَدِّبُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ:
مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ. نِسْبَةً إِلَيْهِ، وَهُوَ شَيْخُ الْجَهْمِ بْنِ
صَفْوَانَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ:
إِنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا. وَكَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَدْ تَلَقَّى هَذَا
الْمَذْهَبَ الْخَبِيثَ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: بَيَانُ بْنُ سِمْعَانَ.
وَأَخَذَهُ بَيَانٌ، عَنْ طَالُوتَ ابْنِ أُخْتِ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ عَنْ
خَالِهِ لَبِيدِ بْنِ أَعْصَمَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، وَجُفِّ طَلْعَةِ ذَكَرٍ
تَرَكَهُ تَحْتَ رَاعُوفَةٍ بِبِئْرِ ذِي أَرْوَانَ الَّتِي كَانَ مَاؤُهَا
نُقَاعَةَ الْحِنَّاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا. وَجَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ
اللَّهَ أَنْزَلَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ سُورَتَيِ "
الْمُعَوِّذَتَيْنِ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ
الرِّفَاعِيُّ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ قَالَ: رَأَيْتُ خَالِدًا
الْقَسْرِيَّ حِينَ أُتِيَ بِالْمُغِيرَةِ وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ وُضِعَ لَهُ
سَرِيرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ سَعِيدٍ:
أَحْيِهِ ! - وَكَانَ الْمُغِيرَةُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَقَالَ:
وَاللَّهِ، أَصْلَحَكَ اللَّهُ، مَا أُحْيِي الْمَوْتَى. قَالَ: لَتُحْيِيَنَّهُ
أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ. ثُمَّ
أَمَرَ بِطُنِّ قَصَبٍ، فَأَضْرَمُوا فِيهِ نَارًا، ثُمَّ قَالَ لِلْمُغِيرَةِ:
اعْتَنِقْهُ. فَأَبَى، فَعَدَا رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُغِيرَةِ فَاعْتَنَقَهُ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَرَأَيْتُ النَّارَ تَأْكُلُهُ وَهُوَ يُشِيرُ
بِالسَّبَّابَةِ. قَالَ خَالِدٌ: هَذَا وَاللَّهِ أَحَقُّ بِالرِّئَاسَةِ مِنْكَ.
ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَصْحَابَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: أُتِيَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِرَجُلٍ تَنَبَّأَ
بِالْكُوفَةِ فَقِيلَ لَهُ: مَا عَلَامَةُ نُبُوَّتِكَ ؟ قَالَ: قَدْ أُنْزِلَ
عَلَيَّ قُرْآنٌ. قِيلَ: مَا هُوَ ؟ قَالَ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْجَمَاهِرْ،
فَصْلِ لِرَبِّكَ وَلَا تُجَاهِرْ. وَلَا تُطِعْ كُلَّ كَافِرٍ وَفَاجِرْ.
فَأَمَرَ بِهِ، فَصُلِبَ، فَقَالَ وَهُوَ يُصْلَبُ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ
الْعَمُودْ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ عَلَى عُودْ، فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ أَنْ لَا
تَعُودْ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أُتِيَ خَالِدٌ بِشَابٍّ قَدْ وُجِدَ فِي دَارِ قَوْمٍ،
وَادُّعِيَ عَلَيْهِ السَّرَقُ،
فَسَأَلَهُ فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ
بِقَطْعِ يَدِهِ، فَتَقَدَّمَتْ فَتَاةٌ حَسْنَاءُ، فَقَالَتْ:
أَخَالِدٌ قَدْ أَوَطَأْتَ وَاللَّهِ عُشْوَةً وَمَا الْعَاشِقُ الْمِسْكِينُ
فِينَا بِسَارِقِ
أَقَرَّ بِمَا لَمْ يَجْنِهِ غَيْرَ أَنَّهُ رَأَى الْقَطْعَ أُولَى مِنْ
فَضِيحَةِ عَاشِقِ
فَأَمَرَ خَالِدٌ بِإِحْضَارِ أَبِيهَا، فَزَوَّجَهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَتَى،
وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدٍ فَقَالَ: إِنِّي قَدِ
امْتَدَحْتُكَ بِبَيْتَيْنِ، وَلَسْتُ أَنْشُدُهُمَا إِلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ
وَخَادِمٍ. فَقَالَ: قُلْ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَزِمْتَ نَعَمْ حَتَّى كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ سَمِعْتَ مِنَ الْأَشْيَاءِ شَيْئًا
سِوَى نَعَمْ
وَأَنْكَرْتَ لَا حَتَّى كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ سَمِعْتَ بِهَا فِي سَالِفِ
الدَّهْرِ وَالْأُمَمْ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخَادِمٍ يَحْمِلُهَا.
قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ
لَهُ: مِائَةُ أَلْفٍ. فَقَالَ: أَكْثَرْتَ، حُطَّ مِنْهَا. فَقَالَ: أَضَعُ
مِنْهَا تِسْعِينَ أَلْفًا. قَالَ: فَتَعْجَّبَ مِنْهُ خَالِدٌ فَقَالَ: أَيُّهَا
الْأَمِيرُ، سَأَلْتُكَ عَلَى قَدْرِكَ، وَوَضَعْتُ عَلَى قَدْرِي. فَقَالَ لَهُ:
لَنْ تَغْلِبَنِي. وَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
قَالَ: وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ قُلْتُ فِيكَ
شِعْرًا، وَأَنَا أَسْتَصْغِرُهُ
فِيكَ. فَقَالَ: قُلْ. فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
تَعَرَّضْتَ لِي بِالْجُودِ حَتَّى نَعَشْتَنِي وَأَعْطَيْتَنِي حَتَّى ظَنَنْتُكَ
تَلْعَبُ
فَأَنْتَ النَّدَى وَابْنُ النَّدَى وَأَخُو النَّدَى حَلِيفُ النَّدَى مَا
للنَّدَى عَنْكَ مَذْهَبُ
فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ. قَالَ: عَلَيَّ خَمْسُونَ أَلْفًا دَيْنًا. فَقَالَ:
قَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِهَا، وَشَفَعْتُهَا لَكَ. فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفٍ.
قَالَ أَبُو الطِّيبِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى ابْنِ الْوَشَّاءِ:
دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ فَأَنْشَدَهُ:
كَتَبْتَ نَعَمْ بِبَابِكَ فَهِيَ تَدْعُو إِلَيْكَ النَّاسَ مُسْفِرَةَ
النِّقَابِ
وَقُلْتَ لِلَا عَلَيْكِ بِبَابِ غَيْرِي فَإِنَّكِ لَنْ تُرَيْ أَبَدًا بِبَابِي
قَالَ: فَأَعْطَاهُ عَلَى كُلِّ بَيْتٍ خَمْسِينَ أَلْفًا. وَقَدْ قَالَ فِيهِ
ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ رَجُلُ سُوءٍ يَقَعُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ خَالِدًا حَفَرَ بِئْرًا بِمَكَّةَ
ادَّعَى فَضْلَهَا عَلَى زَمْزَمَ.
وَلَهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ تَفْضِيلُ الْخَلِيفَةِ عَلَى الرَّسُولِ. وَهَذَا
كُفْرٌ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِكَلَامِهِ غَيْرَ مَا يَبْدُو مِنْهُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ
وَلَعَلَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ صَاحِبَ " الْعِقْدِ
" سَبَّ بِهِ،
وَيُقَرِّرُهُ عَنْهُ ; لِأَنَّ
صَاحِبَ الْعِقْدِ كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ شَنِيعٌ، وَرُبَّمَا لَا يَفْهَمُهُ
كُلُّ أَحَدٍ، وَقَدِ اغْتَرَّ بِهِ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ فَمَدَحَهُ
بِالْحِفْظِ وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَفْهَمْ تَشَيُّعَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْوَلِيدَ
بْنَ يَزِيدَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فِي إِمَارَتِهِ، وَمِنْ نِيَّتِهِ
أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ
مِنَ الْجَمَاعَةِ، فَحَذَّرَ خَالِدٌ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ،
فَسَأَلَهُ أَنْ يُسَمِّيَهُمْ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَعَاقَبَهُ عِقَابًا شَدِيدًا،
ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ فَعَاقَبَهُ حَتَّى مَاتَ شَرَّ
قِتْلَةٍ وَأَسْوَأَهَا، وَذَلِكَ فِي مُحَرَمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ
سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَقَالَ:
كَانَ يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ، وَقَدْ بَنَى لِأُمِّهِ كَنِيسَةً فِي دَارِهِ
فَنَالَ مِنْهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ. وَقَالَ صَاحِبُ " الْأَعْيَانِ ":
كَانَ فِي نَسَبِهِ يَهُودٌ، فَانْتَمَوْا إِلَى الْعَرَبِ، وَكَانَ يَقْرُبُ مِنْ
شِقٍّ، وَسَطِيحٍ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ كَانَا ابْنَيْ خَالَةٍ، وَعَاشَ كُلٌّ
مِنْهُمَا سِتَّمِائَةٍ، وَوُلِدَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ مَاتَتْ
طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ بَعْدَمَا تَفَلَتْ فِي فَمِ
كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَالَتْ: إِنَّهُ
سَيَقُومُ مَقَامِي فِي الْكَهَانَةِ. ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ يَوْمِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ، وَدَرَّاجٌ
أَبُو السَّمْحِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ فِي قَوْلٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ
حَبِيبٍ الْمُحَارِبِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَاسِمٍ
شَيْخُ مَالِكٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِ " التَّكْمِيلِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بِوَصِيَّةِ أَخِيهِ يَزِيدَ النَّاقِصِ إِلَيْهِ، وَمُبَايَعَةِ
الْأُمَرَاءِ لَهُ بِذَلِكَ، وَجَمِيعِ أَهْلِ الشَّامِ، إِلَّا أَهْلَ حِمْصَ
فَلْمْ يُبَايِعُوهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ
الْمُلَقَّبَ بِالْحِمَارِ كَانَ نَائِبًا بِأَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ -
وَتِلْكَ كَانَتْ لِأَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ - وَكَانَ نَقِمَ عَلَى يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ
فِي قَتْلِهِ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ، وَأَقْبَلَ فِي طَلَبِ دَمِ الْوَلِيدِ
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حَرَّانَ أَنَابَ وَبَايَعَ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ
فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى بَلَغَهُ مَوْتُهُ، فَأَقْبَلَ فِي أَهْلِ
الْجَزِيرَةِ حَتَّى وَصَلَ قِنَّسْرِينَ، فَحَاصَرَ أَهْلَهَا، فَنَزَلُوا عَلَى
طَاعَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى حِمْصَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
الْحَجَّاجِ مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ
يُحَاصِرُهُمْ حَتَّى يُبَايِعُوا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْوَلِيدِ وَقَدْ
أَصَرُّوا عَلَى عَدَمِ مُبَايَعَتِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْعَزِيزِ قُرْبُ
مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ تَرَحَّلَ عَنْهَا، وَقَدِمَ مَرْوَانُ إِلَيْهَا،
فَبَايَعُوهُ وَسَارُوا مَعَهُ قَاصِدِينَ دِمَشْقَ، وَمَعَهُمْ جُنْدُ الْجَزِيرَةِ
وَجُنْدُ قِنَّسْرِينَ، فَتَوَجَّهَ مَرْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ فِي ثَمَانِينَ
أَلْفًا، وَقَدْ بَعَثَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ سُلَيْمَانَ بْنَ هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَالْتَقَى الْجَيْشَانِ
عِنْدَ عَيْنِ الْجَرِّ مِنَ الْبِقَاعِ، فَدَعَاهُمْ مَرْوَانُ إِلَى الْكَفِّ
عَنِ الْقِتَالِ، وَأَنْ يُخَلُّوا عَنِ ابْنَيِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ -
وَهُمَا الْحَكَمُ، وَعُثْمَانُ - اللَّذَيْنِ كَانَا قَدْ أُخِذَ الْعَهْدُ
لَهُمَا، وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ سَجَنَهُمَا بِدِمَشْقَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا مِنْ حِينِ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ إِلَى
الْعَصْرِ، وَبَعَثَ مَرْوَانُ سَرِيَّةً
تَأْتِي جَيْشَ سُلَيْمَانَ بْنِ
هِشَامٍ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَتَمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ، وَأَقْبَلُوا مِنْ
وَرَائِهِمْ يُكَبِّرُونَ، وَحَمَلَ الْآخَرُونَ مِنْ تِلْقَائِهِمْ عَلَيْهِمْ،
فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ فِي أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ أَهْلُ
حِمْصَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَاسْتُبِيحَ عَسْكَرُهُمْ.
وَكَانَ مِقْدَارُ مَا قُتِلَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَرِيبًا
مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ
مِثْلُهُمْ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَرْوَانُ الْبَيْعَةَ لِلْغُلَامَيْنِ ابْنَيِ
الْوَلِيدِ الْحَكَمِ، وَعُثْمَانَ، وَأَطْلَقَهُمْ كُلَّهُمْ سِوَى رَجُلَيْنِ،
وَهَمَا يَزِيدُ بْنُ الْعَقَّارِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مَصَادٍ الْكَلْبِيَّانِ،
فَضَرَبَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسِّيَاطِ وَحَبَسَهُمَا، فَمَاتَا فِي
السِّجْنِ ; لِأَنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ بَاشَرَ قَتْلَ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ
حِينَ قُتِلَ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ
فَإِنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا مُنْهَزِمِينَ، فَمَا أَصْبَحَ لَهُمُ الصُّبْحُ إِلَّا
بِدِمَشْقَ فَأَخْبَرُوا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْوَلِيدِ
بِمَا وَقَعَ، فَاجْتَمَعَ مَعَهُمْ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ،
وَهُمْ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَيَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَأَبُو عِلَاقَةَ السَّكْسَكِيُّ، وَالْأَصْبَغُ بْنُ
ذُؤَالَةَ الْكَلْبِيُّ وَنُظَرَاؤُهُمْ، عَلَى أَنْ يَعْمِدُوا إِلَى قَتْلِ
ابْنَيِ الْوَلِيدِ الْحَكَمِ، وَعُثْمَانَ خَشْيَةَ أَنْ يَلِيَا الْخِلَافَةَ
فَيُهْلِكَا مَنْ عَادَاهُمَا وَقَتَلَ أَبَاهُمَا، فَبَعَثُوا إِلَيْهِمَا
يَزِيدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ فَعَمَدَ إِلَى السِّجْنِ
وَفِيهِ الْحَكَمُ، وَعُثْمَانُ ابْنَا الْوَلِيدِ وَقَدْ بَلَغَا، وَيُقَالُ:
وَوُلِدَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدٌ. فَشَدَخَهُمَا بِالْعَمْدِ، وَقَتَلَ يُوسُفَ بْنَ
عُمَرَ وَكَانَ مَسْجُونًا مَعَهُمَا، وَكَانَ فِي سِجْنِهِمَا أَيْضًا أَبُو
مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ فَهَرَبَ فَدَخَلَ فِي بَيْتٍ دَاخِلَ السِّجْنِ،
وَجَعَلَ وَرَاءَ الْبَابِ رَدْمًا، فَحَاصَرُوهُ فَامْتَنَعَ، فَأَتَوْا بِنَارٍ
لِيَحْرِقُوا الْبَابَ، ثُمَّ اشْتَغَلُوا عَنْ ذَلِكَ بِقُدُومِ مَرْوَانَ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ إِلَى دِمَشْقَ فِي طَلَبِ الْمُنْهَزِمِينَ.
ذِكْرُ دُخُولِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ
دِمَشْقَ فِيهَا وَوِلَايَتِهِ الْخِلَافَةَ، وَعَزْلِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْوَلِيدِ عَنْهَا
لَمَّا أَقْبَلَ مَرْوَانُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ عَيْنِ الْجَرِّ
وَاقْتَرَبَ مِنْ دِمَشْقَ وَقَدِ انْهَزَمَ أَهْلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْأَمْسِ،
هَرَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمَدَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ إِلَى
بَيْتِ الْمَالِ، فَفَتَحَهُ وَأَنْفَقَ مَا فِيهِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنِ
اتَّبَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ، وَثَارَ مَوَالِي الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ إِلَى
دَارِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَقَتَلُوهُ فِيهَا وَانْتَهَبُوهَا،
وَنَبَشُوا قَبْرَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَصَلَبُوهُ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ
وَدَخَلَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ دِمَشْقَ فَنَزَلَ فِي أَعَالِيهَا، وَأُتِيَ
بِالْغُلَامَيْنِ الْحَكَمِ، وَعُثْمَانَ مَقْتُولَيْنِ، وَكَذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ
عُمَرَ فَأَمَرَ بِهِمْ فَدُفِنُوا، وَأُتِيَ بِأَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ
وَهُوَ فِي كُبُولِهِ، فَسَلَّمَ عَلَى مَرْوَانَ بِالْخِلَافَةِ، فَقَالَ
مَرْوَانُ: مَهْ ! فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ جَعَلَاهَا لَكَ مِنْ
بَعْدِهِمَا. ثُمَّ أَنْشَدَهُ قَصِيدَةً قَالَهَا الْحَكَمُ فِي السِّجْنِ،
وَهِيَ طَوِيلَةٌ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ مَرْوَانَ عَنِّي وَعَمِّي الْغَمْرَ طَالَ بِهِ حَنِينَا
بِأَنِّي قَدْ ظُلِمْتُ وَصَارَ قَوْمِي
عَلَى قَتْلِ الْوَلِيدِ مُشَايِعِينَا فَإِنْ أَهْلَكْ أَنَا وَوَلِيُّ عَهْدِي
فَمَرْوَانٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَا
ثُمَّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ لِمَرْوَانَ: ابْسُطْ يَدَكَ.
فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ
مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ ثُمَّ بَايَعَهُ رُءُوسُ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ
دِمَشْقَ وَحِمْصَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مَرْوَانُ: اخْتَارُوا
أُمَرَاءَ نُوَلِّيهِمْ عَلَيْكُمْ. فَاخْتَارَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَمِيرًا،
فَوَلَّاهُ عَلَيْهِمْ، فَعَلَى دِمَشْقَ زَامَلُ بْنُ عَمْرٍو الْحُبْرَانِيُّ
وَعَلَى حِمْصَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَجَرَةَ الْكِنْدِيُّ وَعَلَى الْأُرْدُنِّ
الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ، وَعَلَى فَلَسْطِينَ ثَابِتُ بْنُ
نُعَيْمٍ الْجُذَامِيُّ.
وَلَمَّا اسْتَوْسَقَ الشَّامُ لِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ رَجَعَ إِلَى حَرَّانَ،
وَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الَّذِي كَانَ
خَلِيفَةً وَابْنُ عَمِّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الْأَمَانَ، فَآمَنَهُمَا،
وَقَدِمَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي أَهْلِ تَدْمُرَ فَبَايَعُوهُ.
ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَرَّ مَرْوَانُ بِحَرَّانَ أَقَامَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ،
فَانْتَقَضَ عَلَيْهِ مَا كَانَ انْبَرَمَ لَهُ مِنْ مُبَايَعَةِ أَهْلِ الشَّامِ،
فَنَقَضَ أَهْلُ حِمْصَ وَغَيْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى حِمْصَ جَيْشًا،
فَوَافَوْهُمْ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدِمَ
مَرْوَانُ إِلَيْهَا بَعْدَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ، فَنَازَلَهَا مَرْوَانُ فِي
جُنُودٍ كَثِيرَةٍ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْمَخْلُوعُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَهُمَا عِنْدَهُ مُكَرَّمَانِ
خِصِّيصَانِ لَا يَجْلِسُ إِلَّا بِهِمَا وَقْتَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ،
فَلَمَّا حَاصَرَ حِمْصَ نَادَوْهُ: إِنَّا عَلَى طَاعَتِكَ. فَقَالَ: افْتَحُوا
بَابَ الْبَلَدِ. فَفَتَحُوهُ، ثُمَّ كَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْقِتَالِ، فَقَتَلَ
مِنْهُمْ نَحْوَ الْخَمْسِمِائَةٍ أَوِ السِّتِّمِائَةِ. فَأَمَرَ بِهِمْ
فَصُلِبُوا حَوْلَ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ بَعْضِ سُورِهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ دِمَشْقَ فَإِنَّ أَهْلَ الْغُوطَةِ حَاصَرُوا أَمِيرَهُمْ
زَامَلَ بْنَ عَمْرٍو وَوَلَّوْا
عَلَيْهِمْ يَزِيدَ بْنَ خَالِدٍ الْقَسْرِيَّ
وَثَبَتَ فِي الْمَدِينَةِ نَائِبَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
مَرْوَانُ مِنْ حِمْصَ عَسْكَرًا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا
اقْتَرَبُوا مِنْ دِمَشْقَ خَرَجَ النَّائِبُ فِيمَنْ مَعَهُ، وَالْتَقَوْا هُمْ
وَالْعَسْكَرُ بِأَهْلِ الْغُوطَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَحَرَّقُوا الْمِزَّةَ وَقُرًى
أُخْرَى مَعَهَا، وَاسْتَجَارَ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَسْرِيُّ، وَأَبُو
عِلَاقَةَ الْكَلْبِيُّ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمِزَّةِ مِنْ لَخْمٍ فَدَلَّ
عَلَيْهِمْ زَامَلُ بْنُ عَمْرٍو فَأُتِيَ بِهِمَا، فَقَتَلَهُمَا وَبَعَثَ
بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْوَانَ وَهُوَ بِحِمْصَ.
وَخَرَجَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ فِي أَهْلِ فِلَسْطِينَ عَلَى الْخَلِيفَةِ،
وَأَتَوْا طَبَرِيَّةَ فَحَاصَرُوهَا، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا،
فَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَفَرَّ ثَابِتُ بْنُ
نُعَيْمٍ هَارِبًا إِلَى فِلَسْطِينَ فَأَتْبَعَهُ الْأَمِيرُ أَبُو الْوَرْدِ
فَهَزَمَهُ ثَانِيَةً، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَأَسَرَ أَبُو الْوَرْدِ
ثَلَاثَةً مِنْ أَوْلَادِهِ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَهُمْ جَرْحَى،
فَأَمَرَ بِمُدَاوَاتِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَائِبِ
فِلَسْطِينَ وَهُوَ الرُّمَاحِسُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ يَأْمُرُهُ
بِطَلَبِ ثَابِتِ بْنِ نُعَيْمٍ حَيْثُ كَانَ، فَمَا زَالَ يَتَلَطَّفُ بِهِ
حَتَّى أَخَذَهُ أَسِيرًا، وَذَلِكَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَبَعَثَهُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ
كَانُوا مَعَهُ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ، فَأُقِيمُوا عَلَى بَابِ
مَسْجِدِهَا ; لِأَنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ كَانُوا قَدْ أَرَجَفُوا بِأَنَّ ثَابِتَ
بْنَ نُعَيْمٍ ذَهَبَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ
نَائِبَ مَرْوَانَ فِيهَا، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِمْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ ; لِيَعْرِفُوا بُطْلَانَ مَا كَانُوا بِهِ أَرَجَفُوا.
وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ مَرْوَانُ بِدِيرِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُدَّةً
حَتَّى بَايَعَ لِابْنَيْهِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ عَبْدِ اللَّهِ وَزَوَّجَهُمَا
ابْنَتَيْ هِشَامٍ وَهُمَا أُمُّ هِشَامٍ وَعَائِشَةُ وَكَانَ مَجْمَعًا حَافِلًا،
وَعَقْدًا هَائِلًا، وَبَيْعَةً عَامَّةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ تَامَّةً، وَقَدِمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
دِمَشْقَ وَأَمَرَ بِثَابِتٍ
وَأَصْحَابِهِ بَعْدَ مَا كَانُوا قُطِعُوا أَنْ يُصْلَبُوا عَلَى أَبْوَابِ
الْبَلَدِ، وَلَمْ يَسْتَبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ عَمْرُو
بْنُ الْحَارِثِ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ عِنْدَهُ - فِيمَا زَعَمَ - عِلْمٌ
بِوَدَائِعَ كَانَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْدَعَهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ.
وَاسْتَوْسَقَ أَمْرُ الشَّامِ لِمَرْوَانَ مَا عَدَا تَدْمُرَ فَسَارَ مِنْ
دِمَشْقَ فَنَزَلَ الْقَسْطَلَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ
تَدْمُرَ قَدْ عَوَّرُوا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمِيَاهِ، فَاشْتَدَّ
غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَمَعَهُ جَحَافِلُ مِنَ الْجُيُوشِ، فَتَكَلَّمَ
الْأَبْرَشُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَكَانُوا قَوْمَهُ - وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ
يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا لِيُعْذِرَ إِلَيْهِمْ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ
الْوَلِيدِ أَخَا الْأَبْرَشِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا
إِلَيْهِ، وَلَا سَمِعُوا لَهُ قَوْلًا، فَرَجَعَ، فَهَمَّ الْخَلِيفَةُ أَنْ
يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الْجُنُودَ، فَسَأَلَهُ الْأَبْرَشُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ
بِنَفْسِهِ، فَأَرْسَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْأَبْرَشُ كَلَّمَهُمْ
وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَجَابَهُ أَكْثَرُهُمْ،
وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمْهُ بِمَا وَقَعَ،
فَأَمَرَهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَهْدِمَ بَعْضَ سُورِهَا، وَأَنْ يُقْبِلَ بِمَنْ
أَطَاعَهُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَهُ سَارَ بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ نَحْوَ الرُّصَافَةِ عَلَى طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ،
وَمَعَهُ مِنَ الرُّءُوسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْلُوعُ
وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ وَلَدِ الْوَلِيدِ، وَيَزِيدَ،
وَسُلَيْمَانَ فَأَقَامَ بِالرُّصَافَةِ أَيَّامًا، ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الرَّقَّةِ
فَاسْتَأْذَنَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ أَيَّامًا ;
لِيَسْتَرِيحَ وَيُجِمَّ ظَهْرَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَانْحَدَرَ مَرْوَانُ فَنَزَلَ
عِنْدَ وَاسِطَ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ فَأَقَامَ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَضَى إِلَى
قَرْقِيسِيَا وَابْنُ هُبَيْرَةَ بِهَا ; لِيَبْعَثَهُ إِلَى الْعِرَاقِ
لِمُحَارَبَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيِّ الْخَارِجِيِّ
الْحَرُورِيِّ وَاشْتَغَلَ مَرْوَانُ بِهَذَا الْأَمْرِ.
وَأَقْبَلَ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ مِمَّنْ كَانَ مَرْوَانُ قَدْ بَعَثَهُمْ فِي بَعْضِ السَّرَايَا، فَاجْتَازُوا بِالرُّصَافَةِ وَفِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ اسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي الْمُقَامِ هُنَاكَ لِلرَّاحَةِ، فَدَعَوْهُ إِلَى الْبَيْعَةِ لَهُ وَخَلْعِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَارَبَتِهِ، فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَخَلَعَ مَرْوَانَ وَسَارَ بِالْجُيُوشِ إِلَى قِنَّسْرِينَ، وَكَاتَبَ أَهْلَ الشَّامِ، فَانْفَضُّوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ الَّذِي جَهَّزَهُ مَرْوَانُ لِقِتَالِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْخَارِجِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ مَرْوَانُ إِلَيْهِمْ عِيسَى بْنَ مُسْلِمٍ فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا أَيْضًا، فَالْتَقَوْا بِأَرْضِ قِنَّسْرِينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَاءَ مَرْوَانُ وَالنَّاسُ فِي الْحَرْبِ، فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَيِّفًا عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَذَهَبَ سُلَيْمَانُ مَفْلُولًا، فَأَتَى حِمْصَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ مَنِ انْهَزَمَ مَنْ جَيْشِهِ، فَعَسْكَرَ بِهِمْ فِيهَا، وَبَنَى مَا كَانَ مَرْوَانُ هَدَمَ مِنْ سُورِهَا، فَجَاءَهُمْ مَرْوَانُ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهِمْ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ مَنْجَنِيقًا، فَمَكَثَ كَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَرْمِيهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيَخْرُجُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيُقَاتِلُونَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ. هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ مَعَهُ إِلَى تَدْمُرَ وَقَدِ اعْتَرَضُوا جَيْشَ مَرْوَانَ فِي الطَّرِيقِ، وَهَمُّوا بِالْفَتْكِ بِهِ وَأَنْ يُبَيِّتُوهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَتَهَيَّأَ لَهُمْ مَرْوَانُ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ، وَانْصَرَفُوا إِلَى تَدْمُرَ وَلَزِمَ مَرْوَانُ
مُحَاصَرَةَ حِمْصَ كَمَالَ عَشَرَةِ
أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَلَزِمَهُمُ الذُّلُّ،
سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِ،
ثُمَّ سَأَلُوهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ
وَابْنَيْهِ مَرْوَانَ، وَعُثْمَانَ وَمِنَ السَّكْسَكِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ
عَلَى جَيْشِهِ، وَمِنْ حَبَشِيٍّ كَانَ يَشْتُمُهُ وَيَفْتَرِي عَلَيْهِ،
فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَمَّنَهُمْ وَقَتَلَ أُولَئِكَ.
ثُمَّ سَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ الْعِرَاقِ قَدْ صَالَحَ الضَّحَّاكَ
الْخَارِجِيَّ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْكُوفَةِ وَأَعْمَالِهَا، وَجَاءَتْ
خُيُولُ مَرْوَانَ قَاصِدَةً إِلَى الْكُوفَةِ فَتَلَقَّاهُمْ نَائِبُهَا مِنْ
جِهَةِ الضَّحَّاكِ، مِلْحَانُ الشَّيْبَانِيُّ فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ مِلْحَانُ
فَاسْتَنَابَ الضَّحَّاكُ عَلَيْهَا الْمُثَنَّى بْنَ عِمْرَانَ مِنْ بَنِي
عَائِذَةَ وَسَارَ الضَّحَّاكُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَ
ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْخَوَارِجِ
وَأَرْسَلَ الضَّحَّاكُ جَيْشًا إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيُّ وَكَانَ
سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ - وَكَانَ
خَارِجِيًّا - اغْتَنَمَ غَفْلَةَ النَّاسِ وَاشْتِغَالَهُمْ بِمَقْتَلِ
الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَثَارَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ بِالْعِرَاقِ
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ - وَلَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلَهُ لِخَارِجِيٍّ
- فَقَصَدَتْهُمُ الْجُيُوشُ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ، فَتَارَةً يَكْسِرُونَ،
وَتَارَةً يُكْسَرُونَ، ثُمَّ مَاتَ سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ فِي طَاعُونٍ
أَصَابَهُ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْخَوَارِجِ مِنْ
بَعْدِهِ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ هَذَا، فَالْتَفَّ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ،
وَالْتَقَى هُوَ وَجَيْشٌ كَثِيرٌ، فَغَلَبَتِ الْخَوَارِجُ وَقَتَلُوا خَلْقًا
كَثِيرًا، مِنْهُمْ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخُو أَمِيرِ
الْعِرَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَثَاهُ
بِأَشْعَارٍ. ثُمَّ قَصَدَ الضَّحَّاكُ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرْوَانَ،
فَاجْتَازَ بِالْكُوفَةِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، فَكَسَرَهُمْ وَدَخَلَ
الْكُوفَةَ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَاسْتَنَابَ بِهَا رَجُلًا اسْمُهُ
حَسَّانُ ثُمَّ اسْتَنَابَ مِلْحَانَ الشَّيْبَانِيَّ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَسَارَ هُوَ فِي طَلَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَالْتَقَوْا، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَتَفْصِيلُهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ وَمَعَهُمْ أَبُو
مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً،
وَأَعْطَوْهُ خُمْسَ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ لَهُمْ أَمْرٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ لِكَثْرَةِ الشُّرُورِ الْمُنْتَشِرَةِ، وَالْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ
بَيْنَ النَّاسِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِالْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ،
فَحَارَبَهُ أَمِيرُ الْعِرَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ أَجْلَاهُ
عَنْهَا، فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ، فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ الَّذِي كَانَ لَحِقَ
بِبِلَادِ التُّرْكِ وَمَالَأَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ، وَوَفَّقَهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ،
وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ دُعَاءِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْإِسْلَامِ،
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى
خُرَاسَانَ فَأَكْرَمَهُ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ نَائِبُهَا، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَجَاءُوا لِتَهْنِئَتِهِ،
ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ خُصُومَةٌ، وَاسْتَمَرَّ
الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَطَاعَةِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ الْمُنَاوَأَةِ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمِيرُ الْحِجَازِ
وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ.
وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ النَّضْرُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرَشِيُّ وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ
الضَّحَّاكُ الْحَرُورِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ
الْكَرْمَانِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ.
وَمِمَّنْ تُوفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ، وَسَعْدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ
الْجَزَرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، وَمَالِكُ
بْنُ دِينَارٍ، وَوَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ النَّاقِصَ كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابَ أَمَانٍ
حَتَّى خَرَجَ مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ وَصَارَ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ،
وَرَجَعَ عَنْ مُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَأَنَّهُ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ نَائِبِ خُرَاسَانَ
وَحْشَةٌ وَمُنَافَسَاتٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، فَلَمَّا صَارَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ اسْتَوْحَشَ الْحَارِثُ بْنُ
سُرَيْجٍ مِنْ ذَلِكَ، وَتَوَلَّى ابْنُ هُبَيْرَةَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ وَجَاءَتِ
الْبَيْعَةُ لِمَرْوَانَ، فَامْتَنَعَ الْحَارِثُ مِنْ قَبُولِهَا وَتَكَلَّمَ فِي
مَرْوَانَ وَجَاءَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ أَمِيرُ الشُّرْطَةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ
رُءُوسِ الْأَجْنَادِ وَالْأُمَرَاءِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَكُفَّ لِسَانَهُ
وَيَدَهُ، وَأَنْ لَا يُفَرِّقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَبَى وَبَرَزَ
نَاحِيَةً عَنِ النَّاسِ، وَدَعَا نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ
مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَامْتَنَعَ نَصْرٌ مِنْ
مُوَافَقَتِهِ، وَاسْتَمَرَّ هُوَ عَلَى خُرُوجِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ
الْجَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ مَوْلَى بَنِي رَاسِبٍ، وَيُكَنَّى بِأَبِي مُحْرِزٍ -
وَهُوَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْجَهْمِيَّةُ - أَنْ يَقْرَأَ
كِتَابًا فِيهِ سِيرَةِ الْحَارِثِ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ الْحَارِثُ يَقُولُ:
أَنَا صَاحِبُ الرَّايَاتِ السُّودِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ نَصْرٌ يَقُولُ: إِنْ
كُنْتَ ذَاكَ فَلَعَمْرِي إِنَّكُمُ الَّذِينَ تُخَرِّبُونَ سُورَ دِمَشْقَ
وَتُزِيلُونَ بَنِي أُمَيَّةَ فَخْذْ مِنِّي خَمْسَمِائَةِ رَأْسٍ وَمِائَتَيْ
بَعِيرٍ وَمَا شِئْتَ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَإِنْ كُنْتَ غَيْرَهُ فَقَدْ
أَهْلَكْتَ عَشِيرَتَكَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِالْحَارِثُ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّ
هَذَا لَكَائِنٌ. فَقَالَ لَهُ
نَصْرٌ: فَابْدَأْ بِالْكَرْمَانِيِّ أَوَّلًا، ثُمَّ سِرْ إِلَى الرَّيِّ وَأَنَا فِي طَاعَتِكَ إِذَا وَصَّلْتَهَا. ثُمَّ تَنَاظَرَ نَصْرٌ وَالْحَارِثُ وَرَضِيَا أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَحَكَمَا أَنْ يُعْزَلَ نَصْرٌ وَيَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى، فَامْتَنَعَ نَصْرٌ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ، وَلَزِمَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَغَيْرُهُ قِرَاءَةَ سِيرَةِ الْحَارِثِ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَجَامِعِ وَالطُّرُقِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمْعٌ غَفِيرٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْتَدَبَ لِقِتَالِهِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْجُيُوشِ عَنْ أَمْرِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، فَقَصَدُوهُ فَحَاجَفَ دُونَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، طَعَنَهُ رَجُلٌ فِي فِيهِ فَقَتَلَهُ، وَيُقَالُ: بَلْ أُسِرَ الْجَهْمُ فَأُوقِفُ بَيْنَ يَدَيْ سَلْمِ بْنِ أَحْوَزَ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّ لِي أَمَانًا مِنِ ابْنِكَ. فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَمِّنَكَ، وَلَوْ فَعَلَ مَا أَمَّنْتُكَ، وَلَوْ مَلَأْتَ هَذِهِ الْمُلَاءَةَ كَوَاكِبَ، وَأَنْزَلْتَ إِلَيَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَا نَجَوْتَ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ فِي بَطْنِي لَشَقَقْتُ بَطْنِي حَتَّى أَقْتُلَكَ. وَأَمَرَ عَبْدَ رَبِّهِ بْنَ سِيسَنَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، وَالْكَرْمَانِيُّ عَلَى نَصْرٍ وَمُخَالَفَتِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاتِّبَاعِ أَئِمَّةِ الْهُدَى، وَتَحْرِيمِ الْمُنْكِرَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا، وَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا، فَغَلَبَ الْكَرْمَانِيُّ وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْحَارِثِ وَكَانَ رَاكِبًا عَلَى بَغْلٍ، فَتَحَوَّلَ عَنْهُ إِلَى فَرَسٍ، فَحَرَنَتْ أَنْ تَمْشِيَ، وَهَرَبَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُمْ سِوَى مِائَةٌ، فَأَدْرَكَهُ أَصْحَابُ الْكَرْمَانِيِّ فَقَتَلُوهُ تَحْتَ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ، وَقِيلَ: تَحْتَ شَجَرَةِ غُبَيْرَاءَ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ لَسِتٍّ بَقِيْنَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُتِلَ مَعَهُ مِائَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَاحْتَاطَ الْكَرْمَانِيُّ عَلَى
حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ مَنْ خَرَجَ مَعَهُ أَيْضًا،
وَأَمَرَ بِصَلْبِ الْحَارِثِ بِلَا رَأْسٍ عَلَى بَابِ مَدِينَةِ مَرْوَ،
وَلَمَّا بَلَغَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ مَقْتَلُ الْحَارِثِ قَالَ فِي ذَلِكَ:
يَا مُدْخِلَ الذُّلِّ عَلَى قَوْمِهِ بُعْدًا وَسُحْقًا لَكَ مِنْ هَالِكِ
شُؤْمُكَ أَرْدَى مُضَرًا كُلَّهَا
وَغَضَّ مِنْ قَوْمِكَ بِالْحَارِكِ مَا كَانَتِ الْأَزْدُ وَأَشْيَاعُهَا
تَطْمَعُ فِي عَمْرٍو وَلَا مَالِكِ وَلَا بَنِي سَعْدٍ إِذَا أَلْجَمُوا
كُلَّ طِمِرٍّ لَوْنُهُ حَالِكُ
وَقَدْ أَجَابَهُ عَبَّادُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ فِيمَا قَالَ:
أَلَّا يَا نَصْرُ قَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ وَقَدْ طَالَ التَّمَنِّيَ وَالرَّجَاءُ
وَأَصْبَحَتِ الْمَزُونُ بِأَرْضِ مَرْوٍ تُقَضِّي فِي الْحُكُومَةِ مَا تَشَاءُ
يَجُوزُ قَضَاؤُهَا فِي كُلِّ حُكْمٍ عَلَى مُضَرٍ وَإِنْ جَارَ الْقَضَاءُ
وَحِمْيَرُ فِي مَجَالِسِهَا قُعُودٌ تَرَقْرَقُ فِي رِقَابِهِمُ الدِّمَاءُ
فَإِنَّ مُضَرٌ بِذَا رَضِيَتْ وَذَلَّتْ فَطَالَ لَهَا الْمَذَلَّةُ وَالشَّقَاءُ
وَإِنْ هِيَ أَعَتَبَتْ فِيهَا وَإِلَّا فَحَلَّ عَلَى عَسَاكِرِهَا الْعَفَاءُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَبَا
مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ إِلَى
خُرَاسَانَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى شِيعَتِهِمْ بِهَا: إِنَّ هَذَا أَبُو
مُسْلِمٍ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَقَدْ وَلَيْتُهُ عَلَى مَا غَلَبَ
عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ خُرَاسَانَ. فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ خُرَاسَانَ،
وَقَرَأَ عَلَى أَصْحَابِهِ هَذَا الْكِتَابَ، لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ
يَعْمَلُوا بِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُ، وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَرَجَعَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، فَاشْتَكَاهُمْ
إِلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَابَلُوهُ بِهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، فَقَالَ لَهُ:
يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ إِنَّكَ رَجُلٌ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ وَعَلَيْكَ بِهَذَا الْحَيِّ مِنَ الْيَمَنِ فَالْزَمْهُمْ وَانْزِلْ
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُتِمُّ هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا بِهِمْ.
ثُمَّ حَذَّرَهُ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَحْيَاءِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ
أَنْ لَا تَدَعَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ لِسَانًا عَرَبِيًّا فَافْعَلْ، وَمَنْ
بَلَغَ مِنْ أَبْنَائِهِمْ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ وَاتَّهَمْتَهُ فَاقْتُلْهُ،
وَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّيْخِ فَلَا تَعْصِهِ. يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ،
وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِيمَا
بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْخَارِجِيُّ فِي قَوْلِ
أَبِي مِخْنَفٍ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الضَّحَّاكَ حَاصَرَ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِوَاسِطَ وَوَافَقَهُ عَلَى مُحَاصَرَتِهِ
مَنْصُورُ بْنُ جُمْهُورٍ، فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَكَ فِي مُحَاصَرَتِي، وَلَكِنْ
عَلَيْكَ بِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ فَسِرْ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ
اتَّبَعْتُكَ. فَاصْطَلَحَا عَلَى مُخَالَفَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ،
وَتَرَحَّلَ الضَّحَّاكُ عَنْهُ، وَسَارَ قَاصِدًا إِلَى قِتَالِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا اجْتَازَ الضَّحَّاكُ بِالْمَوْصِلِ كَاتَبَهُ
أَهْلُهَا، فَمَالَ إِلَيْهِمْ فَدَخَلَهَا، وَقَتَلَ
نَائِبَهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا،
وَبَلَغَ ذَلِكَ مَرْوَانَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ حِمْصَ، مَشْغُولٌ بِأَهْلِهَا
وَعَدَمِ مُبَايَعَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَكَتَبَ إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَرْوَانَ - وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ - يَأْمُرُهُ أَنْ يُقَاتِلَ
الضَّحَّاكَ بِالْمَوْصِلِ فَسَارَ الضَّحَّاكُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَرْوَانَ وَكَانَ الضَّحَّاكُ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ
أَلْفًا، فَحَاصَرُوا نَصِيبِينَ، وَسَارَ مَرْوَانُ فِي طَلَبِهِ، فَالْتَقَيَا
هُنَالِكَ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، فَاقْتَحَمَ الضَّحَّاكُ عَنْ
فَرَسِهِ، وَتَرَجَّلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ الْأُمَرَاءِ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ فِي الْمَعْرَكَةِ،
وَحَجَزَ اللَّيْلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَفَقَدَ أَصْحَابُ الضَّحَّاكِ
الضَّحَّاكَ وَشَكُّوا فِي أَمْرِهِ، حَتَّى أَخْبَرَهُمْ مَنْ شَاهَدَهُ قَدْ
قُتِلَ، فَبَكَوْا عَلَيْهِ وَنَاحُوا، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى مَرْوَانَ
فَبَعَثَ إِلَى الْمَعْرَكَةِ بِالْمَشَاعِلِ وَمَنْ يَعْرِفُ مَكَانَهُ بَيْنَ
الْقَتْلَى، فَلَمَّا وَجَدُوهُ جَاءُوا بِهِ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ مَقْتُولٌ،
وَفِي رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ نَحْوٌ مَنْ عِشْرِينَ ضَرْبَةً، فَأَمَرَ بِرَأْسِهِ،
فَطِيفَ بِهِ فِي مَدَائِنِ الْجَزِيرَةِ.
وَاسْتَخْلَفَ الضَّحَّاكُ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى جَيْشِهِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ:
الْخَيْبَرِيُّ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ جَيْشِ الضَّحَّاكِ وَالْتَفَّ
مَعَ الْخَيْبَرِيِّ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَأَهْلُ
بَيْتِهِ وَمَوَالِيهِ، وَالْجَيْشُ الَّذِي كَانُوا قَدْ بَايَعُوهُ فِي
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ عَلَى الْخِلَافَةِ، وَخَلَعُوا مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ
عَنِ الْخِلَافَةِ لِأَجْلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا اقْتَتَلُوا مَعَ مَرْوَانَ
فَحَمَلَ الْخَيْبَرِيُّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ شُجْعَانِ أَصْحَابِهِ عَلَى
مَرْوَانَ وَهُوَ فِي الْقَلْبِ، فَكَّرَ مُنْهَزِمًا، وَاتَّبَعُوهُ حَتَّى
أَخْرَجُوهُ مِنَ الْجَيْشِ، وَدَخَلُوا عَسْكَرَهُ، وَجَلَسَ
الْخَيْبَرِيُّ عَلَى فَرْشِهِ، هَذَا
وَمَيْمَنَةُ مَرْوَانَ ثَابِتَةٌ، وَعَلَيْهَا ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ
وَمَيْسَرَتُهُ أَيْضًا ثَابِتَةٌ، وَعَلَيْهَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ
الْعُقَيْلِيُّ. وَلَمَّا رَأَى عَبِيدَ الْعَسْكَرِ قِلَّةَ مَنْ مَعَ
الْخَيْبَرِيِّ وَأَنَّ الْمَيْمَنَةَ وَالْمَيْسَرَةَ مِنْ جَيْشِهِمْ
بَاقِيَتَانِ طَمِعُوا فِيهِ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ بِعُمُدِ الْخِيَامِ،
فَقَتَلُوهُ بِهَا، وَبَلَغَ مَقْتَلُهُ مَرْوَانَ وَقَدْ سَارَ عَنِ الْجَيْشِ
نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٍ، فَرَجَعَ مَسْرُورًا، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ
الْخَيْبَرِيِّ وَقَدْ وَلَّوْا عَلَيْهِمْ شَيَّبَانَ فَقَاتَلَهُمْ مَرْوَانُ
بَعْدَ ذَلِكَ بِالْكَرَادِيسِ، فَهَزَمَهُمْ.
وَفِيهَا بَعَثَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنَ
عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ لِيُقَاتِلَ مَنْ بِهَا مِنَ الْخَوَارِجِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَأَمِيرُ
الْعِرَاقِ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ
بْنُ سَيَّارٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ: بَكْرُ بْنُ سَوَادَةَ، وَجَابِرٌ
الْجَعْفِيُّ، وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ مَقْتُولًا كَمَا تَقَدَّمَ
وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ أَحَدُ كُبَرَاءِ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَعَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، وَأَبُو حَصِينٍ عُثْمَانُ بْنُ عَاصِمٍ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبُو الْتَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكَّيُّ، وَأَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، وَأَبُو قَبِيلٍ الْمَعَافِرِيُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا اجْتَمَعَتِ الْخَوَارِجُ بَعْدَ الْخَيْبَرِيِّ عَلَى شَيْبَانَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحُلَيْسِ الْيَشْكُرِيِّ الْخَارِجِيِّ فَأَشَارَ
عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ أَنْ يَتَحَصَّنُوا بِالْمَوْصِلِ
وَيَجْعَلُوهَا مَنْزِلًا لَهُمْ، فَتَحَوَّلُوا إِلَيْهَا، وَتَبِعَهُمْ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَسْكَرُوا بِظَاهِرِهَا،
وَخَنْدَقُوا عَلَيْهِمْ مِمَّا يَلِي جَيْشَ مَرْوَانَ وَقَدْ خَنْدَقَ مَرْوَانُ
عَلَى جَيْشِهِ أَيْضًا مِنْ نَاحِيَتِهِمْ، وَأَقَامَ سَنَةً يُحَاصِرُهُمْ
وَيَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، وَظَفَرَ مَرْوَانُ
بِابْنِ أَخٍ لِسُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ
هِشَامٍ، أَسَرهُ بَعْضُ جَيْشِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَتْ يَدَاهُ، ثُمَّ
ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَعَمُّهُ سُلَيْمَانُ وَالْجَيْشُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى نَائِبِهِ بِالْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ
يَأْمُرُهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ فِي بِلَادِهِ، فَجَرَتْ لَهُ
مَعَهُمْ وَقَعَاتٌ عَدِيدَةٌ، فَظَفِرَ بِهِمُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَأَبَادَ
خَضْرَاءَهُمْ، وَلَمْ يُبْقِ لَهُمْ بَقِيَّةً بِالْعِرَاقِ وَاسْتَنْقَذَ
الْكُوفَةَ مَنْ أَيْدِيهِمْ، وَكَانَ عَلَيْهَا الْمُثَنَّى بْنُ عِمْرَانَ
الْعَائِذِيُّ - عَائِذَةُ قُرَيْشٍ - فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنْ
يُمِدَّهُ بِعَامِرِ بْنِ ضُبَارَةَ - وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ - فَبَعَثَهُ فِي
سِتَّةِ آلَافٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، فَأَرْسَلَتِ الْخَوَارِجُ إِلَيْهِ
سَرِيَّةً فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَاعْتَرَضُوهُ فِي الطَّرِيقِ، فَهَزَمَهُمُ
ابْنُ ضُبَارَةَ وَقَتَلَ أَمِيرَهُمُ الْجَوْنَ بْنَ كِلَابٍ الشَّيْبَانِيَّ
الْخَارِجِيَّ وَأَقْبَلَ نَحْوَ الْمَوْصِلِ،
وَرَجَعَ فَلُّ الْخَوَارِجِ
إِلَيْهِمْ، فَأَشَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْتَحِلُوا
عَنِ الْمَوْصِلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ الْإِقَامَةُ بِهَا
وَمَرْوَانُ مِنْ أَمَامِهِمْ وَابْنُ ضُبَارَةَ مِنْ وَرَائِهِمْ، قَدْ قَطَعَ
عَنْهُمُ الْمِيرَةَ حَتَّى لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ، فَارْتَحَلُوا
عَنْهَا، وَسَارُوا عَلَى حُلْوَانَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ
ابْنَ ضُبَارَةَ فِي آثَارِهِمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَاتَّبَعَهُمْ يَقْتُلُ
مَنْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ، وَيَلْحَقُهُمْ فِي مُوَاطِنَ فَيُقَاتِلُهُمْ، وَمَا
زَالَ وَرَاءَهُمْ حَتَّى فَرَّقَ شَمْلَهُمْ شَذَرَ مَذَرَ، وَهَلَكَ أَمِيرُهُمْ
شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْيَشْكُرِيُّ بِالْأَهْوَازِ فِي السَّنَةِ
الْقَابِلَةِ، قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ خُلَيْدٍ
الْأَزْدِيُّ. وَرَكِبَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي مَوَالِيهِ وَأَهْلِ
بَيْتِهِ السُّفُنَ، وَسَارُوا إِلَى السِّنْدِ، وَرَجَعَ مَرْوَانُ مِنَ
الْمَوْصِلِ فَأَقَامَ بِمَنْزِلِهِ بَحَرَّانَ وَقَدْ وَجَدَ سُرُورًا بِزَوَالِ
الْخَوَارِجِ وَلَكِنْ لَمْ يَتِمَّ سُرُورُهُ، بَلْ أَعْقَبَهُ الْقَدَرُ مَنْ
هُوَ أَقْوَى شَوْكَةً، وَأَعْظَمُ أَتْبَاعًا، وَأَشَدُّ بَأْسًا مِنَ
الْخَوَارِجِ، وَهُوَ ظُهُورُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ الدَّاعِيَةُ إِلَى
دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ.
أَوَّلُ ظُهُورِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ بِخُرَاسَانَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْإِمَامِ الْعَبَّاسِيِّ بِطَلَبِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ مِنْ
خُرَاسَانَ، فَسَارَ إِلَيْهِ فِي سَبْعِينَ مِنَ النُّقَبَاءِ، لَا يَمُرُّونَ
بِبَلَدٍ إِلَّا سَأَلُوهُمْ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُونَ ؟ فَيَقُولُ أَبُو
مُسْلِمٍ: نُرِيدُ الْحَجَّ. وَإِذَا تَوَسَّمَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ بَعْضِهِمْ
مَيْلًا إِلَيْهِ دَعَاهُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ، فَيُجِيبُهُ إِلَى ذَلِكَ،
فَلَمَّا كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ جَاءَ كِتَابٌ ثَانٍ مِنْ
إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ
إِلَيْكَ بِرَايَةِ النَّصْرِ فَارْجِعْ إِلَى خُرَاسَانَ وَأَظْهَرَ الدَّعْوَةَ. فَامْتَثَلَ أَبُو مُسْلِمٍ ذَلِكَ وَأَمَرَ قَحْطَبَةَ بْنَ شَبِيبٍ أَنْ يَسِيرَ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ فَيُوَافِيهِ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ، وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ بِالْكِتَابِ، فَدَخَلَ خُرَاسَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ الْكِتَابَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ كَثِيرٍ وَفِيهِ أَنْ أَظْهِرْ دَعْوَتَكَ وَلَا تَتَرَبَّصْ، فَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ دَاعِيًا إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ فَبَثَّ أَبُو مُسْلِمٍ دُعَاتَهُ فِي بِلَادِ خُرَاسَانَ وَنَوَاحِيهَا، وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ مَشْغُولٌ بِقِتَالِ الْكَرْمَانِيِّ، وَشَيْبَانَ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرُورِيِّ وَقَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْخِلَافَةِ فِي طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ فَظَهَرَ أَمْرُ أَبِي مُسْلِمٍ وَقَصَدَهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَكَانَ مِمَّنْ قَصَدَهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَهْلُ سِتِّينَ قَرْيَةٍ، فَأَقَامَ هُنَاكَ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَفَتُحَتْ عَلَيْهِ أَقَالِيمُ كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَقَدَ أَبُو مُسْلِمٍ اللِّوَاءَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ الْإِمَامُ، وَكَانَ يُدْعَى الظِّلَّ، عَلَى رُمْحٍ طُولُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَعَقَدَ الرَّايَةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا الْإِمَامُ أَيْضًا، وَتُدْعَى السَّحَابَ، عَلَى رُمْحٍ طُولُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا، وَهُمَا سَوْدَاوَانِ، وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ الْحَجِّ: 39 ]. وَلَبِسَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَمَنْ أَجَابَهُمْ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ السَّوَادَ وَصَارَتْ شِعَارَهُمْ، وَأَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ نَارًا عَظِيمَةً يَدْعُونَ بِهَا أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَكَانَتْ عَلَامَةَ مَا بَيْنَهُمْ فَتَجَمَّعُوا. وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ إِحْدَى الرَّايَتَيْنِ بِالسَّحَابِ أَنَّ السَّحَابَ كَمَا يُطَبِّقُ جَمِيعَ الْأَرْضِ، كَذَلِكَ بَنُو الْعَبَّاسِ تُطَبِّقُ دَعْوَتُهُمُ الْأَرْضَ، وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ الْأُخْرَى بِالظِّلِّ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنَ الظِّلِّ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ بَنُو الْعَبَّاسِ لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ مِنْهُمْ، وَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَكَثُرَ جَيْشُهُ جِدًّا.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ
أَمَرَ أَبُو مُسْلِمٍ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ،
وَنَصَبَ لَهُ مِنْبَرًا، وَأَنْ يُخَالِفَ فِي ذَلِكَ بَنِي أُمَيَّةَ وَيَعْمَلَ
بِالسُّنَّةِ، فَنُودِيَ لِلصَّلَاةِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. وَلَمْ يُؤَذِّنْ
وَلَمْ يُقِمْ، خِلَافًا لَهُمْ، وَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ،
وَكَبَّرَ سَبْعًا فِي الْأُولَى قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، لَا أَرْبَعًا، وَخَمْسًا
فِي الثَّانِيَةِ لَا ثَلَاثًا، خِلَافًا لَهُمْ. وَابْتَدَأَ الْخُطْبَةَ
بِالذِّكْرِ وَالتَّكْبِيرِ، وَخَتَمَهَا بِالْقِرَاءَةِ، وَانْصَرَفَ النَّاسُ
مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ طَعَامًا،
فَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِي النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ
كِتَابًا بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ،
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ
تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ عَيَّرَ أَقْوَامًا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى
مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ
فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ
تَحْوِيلًا [ فَاطِرٍ: 42، 43 ] فَعَظُمَ عَلَى نَصْرٍ أَنْ قَدَّمَ اسْمَهُ عَلَى
اسْمِهِ، وَأَطَالَ الْفِكْرَةَ، وَقَالَ: هَذَا كِتَابٌ لَهُ جَوَابٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثُمَّ بَعَثَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ خَيْلًا عَظِيمَةً
لِمُحَارَبَةِ أَبِي مُسْلِمٍ وَذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ
شَهْرًا، فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَيْهِمْ مَالِكَ بْنَ الْهَيْثَمِ
الْخُزَاعِيَّ فَالْتَقَوْا هُنَالِكَ
فَدَعَاهُمْ مَالِكٌ إِلَى الرِّضَا عَنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَوْا ذَلِكَ، فَتَصَافُّوا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ
إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ جَاءَهُ مَدَدٌ فَقَوِيَ مَالِكٌ عَلَيْهِمْ،
وَاسْتَظْهَرَ وَظَفِرَ بِهِمْ، وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَوْقِفٍ اقْتَتَلَ فِيهِ
دُعَاةُ بَنِي الْعَبَّاسِ وَجُنْدُ بَنِي أُمَيَّةَ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَلَبَ خَازِمُ بْنُ خُزَيْمَةَ
عَلَى مُرْوِ الرُّوذِ وَقَتَلَ عَامِلِهَا مِنْ جِهَةِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ،
وَهُوَ بِشْرُ بْنُ جَعْفَرٍ السَّعْدِيُّ وَكَتَبَ بِالْفَتْحِ إِلَى أَبِي
مُسْلِمٍ.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ إِذْ ذَاكَ شَابًّا حَدَثًا قَدِ اخْتَارَهُ إِبْرَاهِيمُ
الْإِمَامُ لِدَعْوَتِهِمْ، وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ وَقُوَّةِ
فَهْمِهِ وَجَوْدَةِ عَقْلِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ
مَوْلًى لِإِدْرِيسَ بْنِ مَعْقِلٍ الْعِجْلِيِّ فَاشْتَرَاهُ بَعْضُ دُعَاةِ
بَنِي الْعَبَّاسِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَخَذَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ ثُمَّ آلَ وَلَاؤُهُ لِآلِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ زَوَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامُ بِابْنَةِ أَبِي النَّجْمِ عِمْرَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ، وَكَتَبَ إِلَى نُقَبَائِهِمْ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ
أَنْ يَسْمَعُوا لَهُ وَيُطِيعُوا، فَامْتَثَلُوا أَمْرَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ،
وَقَدْ كَانُوا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ رَدُّوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِيهِ
لِصِغَرِهِ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ أَكَّدَ كِتَابَهُ
إِلَيْهِمْ فِي سَبَبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَنْهُ مَعْدِلٌ، وَكَانَ
فِي ذَلِكَ الْخِيَرَةُ، وَكَانَ
أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا.
وَلَمَّا اسْتَفْحَلَ أَمْرُ أَبِي مُسْلِمٍ بِخُرَاسَانَ تَعَاقَدَتْ طَوَائِفُ
مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ الَّذِينَ بِهَا عَلَى حَرْبِهِ وَمُقَاتِلَتِهِ، وَلَمْ
يَكْرَهْ أَمْرَهُ الْكَرْمَانِيُّ، وَشَيْبَانُ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا عَلَى
نَصْرٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لَهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدْعُو إِلَى خَلْعِ
مَرْوَانَ الْحِمَارِ وَقَدْ طَلَبَ نَصْرٌ مِنْ شَيْبَانَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ
عَلَى حَرْبِ أَبِي مُسْلِمٍ أَوْ يَكُفَّ عَنْهُ حَتَّى يَتَفَرَّغَ لِحَرْبِهِ،
فَإِذَا قَتَلَهُ وَتَفَرَّغَ مِنْهُ عَادَا إِلَى عَدَاوَتِهِمَا، فَبَلَغَ
ذَلِكَ أَبَا مُسْلِمٍ فَبَعَثَ إِلَى ابْنِ الْكَرْمَانِيِّ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ،
فَثَنَى ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ شَيْبَانَ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَبَعَثَ أَبُو
مُسْلِمٍ إِلَى هَرَاةَ النَّضْرَ بْنَ نُعَيْمٍ فَافْتَتَحَهَا وَطَرَدَ عَنْهَا
عَامِلَهَا عِيسَى بْنَ عَقِيلٍ اللَّيْثِيَّ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْبَلَدِ،
وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِذَلِكَ، وَجَاءَ عَامِلُهَا إِلَى نَصْرٍ
هَارِبًا. ثُمَّ إِنَّ شَيْبَانَ وَادَعَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ سَنَةً عَلَى
تَرْكِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَذَلِكَ عَنْ كُرْهٍ مِنَ ابْنِ
الْكَرْمَانِيِّ فَبَعَثَ ابْنُ الْكَرْمَانِيِّ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: إِنِّي مَعَكَ
عَلَى قِتَالِ نَصْرٍ. وَرَكِبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خِدْمَةِ ابْنِ
الْكَرْمَانِيِّ فَنَزَلَ عِنْدَهُ وَاجْتَمَعَا، فَاتَّفَقَا عَلَى حَرْبِهِ
وَمُخَالَفَتِهِ، وَتَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى مَوْضِعٍ فَسِيحٍ، وَكَثُرَ
جُنْدُهُ، وَعَظُمَ جَيْشُهُ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الشُّرَطِ وَالْحَرَسِ
وَالرَّسَائِلِ وَالدِّيوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ الْمَلِكُ
إِلَيْهِ، وَجَعَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيَّ - وَكَانَ أَحَدَ
النُّقَبَاءِ - عَلَى الْقَضَاءِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِأَبِي مُسْلِمٍ الصَّلَوَاتِ،
وَيَقُصُّ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَيَذْكُرُ مَحَاسِنَ بَنِي هَاشِمٍ وَيَذُمُّ بَنِي
أُمَيَّةَ. ثُمَّ تَحَوَّلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَنَزَلَ
بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: آلِينُ.
وَكَانَ فِي مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ، فَخَشِيَ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ الْمَاءَ، وَذَلِكَ فِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَصَلَّى بِهِمْ يَوْمَ النَّحْرِ الْقَاضِي الْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ، وَصَارَ
نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ فِي جَحَافِلَ قَاصِدًا قِتَالَ أَبِي مُسْلِمٍ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبِلَادِ نُوَّابًا، فَكَانَ مِنَ الْأَمْرِ مَا
سَنَذْكُرُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
مَقْتَلُ الْكَرْمَانِيِّ
وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَبَيْنَ الْكَرْمَانِيِّ
وَهُوَ جَدِيعُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرْمَانِيُّ فَقُتِلَ بَيْنَهُمَا مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَعَلَ أَبُو مُسْلِمٍ يُكَاتِبُ كُلًّا مِنَ
الطَّائِفَتَيْنِ، وَيَسْتَمِيلُهُمْ إِلَيْهِ، يَكْتُبُ إِلَى نَصْرٍ وَإِلَى
الْكَرْمَانِيِّ: إِنَّ الْإِمَامَ قَدْ أَوْصَانِي بِكُمْ خَيْرًا، وَلَسْتُ
أَعْدُو رَأْيَهُ فِيكُمْ. وَكَتَبَ إِلَى الْكُوَرِ يَدْعُو إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ فَاسْتَجَابَ لَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌ غَفِيرٌ، وَأَقْبَلَ أَبُو
مُسْلِمٍ فَنَزَلَ بَيْنَ خَنْدَقِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَخَنْدَقِ جُدَيْعٍ
الْكَرْمَانِيِّ، فَهَابَهُ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا. وَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ
سَيَّارٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ
الْمُلَقَّبِ بِالْحِمَارِ يُعْلِمُهُ بِأَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ وَكَثْرَةِ مَنْ
مَعَهُ، وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَكَتَبَ فِي
كِتَابِهِ:
أَرَى بَيْنَ الرَّمَادِ وَمِيضَ
جَمْرٍ فَأَحْرِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ ضِرَامُ فَإِنَّ النَّارَ بِالْعُودَيْنِ
تُذْكَى
وَإِنَّ الْحَرْبَ مَبْدَؤُهَا الْكَلَامُ فَقُلْتُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ
شِعْرِي
أَأَيْقَاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ: الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ. فَقَالَ
نَصْرٌ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ أَعْلَمَكُمْ أَنْ لَا نُصْرَةَ عِنْدَهُ.
وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهَا بِلَفْظٍ آخَرَ:
أَرَى خَلَلَ الرَّمَادِ وَمِيضَ نَارٍ فَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ
فَإِنَّ النَّارَ بِالزِّنْدَيْنِ تُورَى وَإِنَّ الْحَرْبَ أَوَّلُهَا كَلَامُ
لِئَنْ لَمْ يُطْفِهَا عُقَلَاءُ قَوْمٍ يَكُونُ وُقُودُهَا جُثُثٌ وَهَامُ
أَقُولُ مِنَ التَّعَجُّبِ لَيْتَ شِعْرِي أَأَيْقَاظٌ أُمَيَّةُ أَمْ نِيَامُ
فَإِنْ كَانُوا لِحِينِهِمُ نِيَامًا فَقُلْ قُومُوا فَقَدْ حَانَ الْقِيامُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ عَلَوِيَّةِ الْكُوفَةِ حِينَ
خَرَجَ مُحَمَّدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَلَى
الْمَنْصُورِ أَخِي السَّفَّاحِ:
أَرَى نَارًا تَشُبُّ عَلَى بِقَاعٍ لَهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ شُعَاعُ
وَقَدْ رَقَدَتْ بَنُو الْعَبَّاسِ
عَنْهَا وَبَاتَتْ وَهِيَ آمِنَةٌ رِتَاعُ
كَمَا رَقَدَتْ أُمَيَّةُ ثُمَّ هَبَّتْ تُدَافِعُ حِينِ لَا يُغْنِي الدِّفَاعُ
وَكَتَبَ نَصْرٌ إِلَى نَائِبِ الْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ
يَسْتَمِدُّهُ، كَتَبَ إِلَيْهِ:
أَبْلِغٍ يَزِيدَ وَخَيْرُ الْقَوْلِ أَصْدَقُهُ وَقَدْ تَبَيِّنْتُ أَنْ لَا
خَيْرَ فِي الْكَذِبِ
بِأَنْ خُرَاسَانُ أَرْضٌ قَدْ رَأَيْتُ بِهَا بَيْضًا لَوِ افْرَخَ قَدْ
حُدِّثْتَ بِالْعَجَبِ
فِرَاخُ عَامَيْنِ إِلَّا أَنَّهَا كَبُرَتْ لَمَّا يَطِرْنَ وَقَدْ سُرْبِلْنَ
بِالزَّغَبِ
فَإِنْ يَطِرْنَ وَلَمْ يُحْتَلْ لَهُنَّ بِهَا يُلْهِبْنَ نِيَرَانَ حَرْبٍ
أَيَّمَا لَهَبِ
فَبَعَثَ ابْنُ هُبَيْرَةَ بِكِتَابِ نَصْرٍ إِلَى مَرْوَانَ وَاتَّفَقَ فِي
وُصُولِهِ إِلَيْهِ أَنْ وَجَدُوا رَسُولًا مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَمَعَهُ كِتَابٌ مِنْهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَشْتُمُهُ
وَيَسُبُّهُ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يُنَاهِضَ نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ وَالْكَرْمَانِيَّ،
وَلَا يَتْرُكُ هُنَاكَ مَنْ يُحْسِنُ الْكَلَامَ بِالْعَرَبِيَّةِ. فَعِنْدَ
ذَلِكَ بَعَثَ مَرْوَانُ وَهُوَ مُقِيمٌ بِحَرَّانَ إِلَى نَائِبِهِ بِدِمَشْقَ
وَهُوَ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، يَأْمُرُهُ أَنْ
يُرْسَلَ كِتَابًا إِلَى نَائِبِهِ بِالْبَلْقَاءِ وَيَأْمُرُهُ فِيهِ أَنْ
يَذْهَبَ إِلَى الْحُمَيْمَةِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبُ بِالْإِمَامِ، فَيُقَيِّدُهُ وَيُرْسِلُهُ إِلَيْهِ،
فَبَعَثَ نَائِبُ دِمَشْقَ إِلَى نَائِبِ الْبَلْقَاءِ، فَذَهَبَ إِلَى مَسْجِدِ
الْبَلْدَةِ، فَوَجَدَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ جَالِسًا فِيهِ، فَقَيَّدَهُ
وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى دِمَشْقَ، فَبَعَثَهُ نَائِبُ دِمَشْقَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى
مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَمَرَ بِهِ فَسُجِنَ،
وَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي فِي السَّنَةِ
الْآتِيَةِ.
وَأَمَّا أَبُو مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَسَّطَ بَيْنَ جَيْشِ نَصْرٍ،
وَالْكَرْمَانِيِّ كَاتَبَ الْكَرْمَانِيَّ: إِنِّي مَعَكَ. فَمَالَ إِلَيْهِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ نَصْرٌ: وَيْحَكَ ! لَا تَغْتَرَّ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ
قَتْلَكَ وَقَتْلَ أَصْحَابِكَ مَعَكَ، فَهَلُمَّ حَتَّى نَكْتُبَ كِتَابًا
بَيْنَنَا بِالْمُوَادَعَةِ. فَدَخَلَ الْكَرْمَانِيُّ دَارَهُ، ثُمَّ خَرَجَ
إِلَى الرَّحْبَةِ فِي مِائَةِ فَارِسٍ وَبَعَثَ إِلَى نَصْرٍ أَنْ هَلُمَّ حَتَّى
نَتَكَاتَبَ، فَأَبْصَرَ نَصْرٌ غِرَّةً مِنَ الْكَرْمَانِيِّ فَنَهَضَ إِلَيْهِ
فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً،
وَقُتِلَ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْمَعْرَكَةِ، طَعَنَهُ رَجُلٌ فِي خَاصِرَتِهِ،
فَخْرَّ عَنْ دَابَّتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ نَصْرٌ بِصَلْبِهِ، فَصُلِبَ وَصُلِبَ
مَعَهُ سَمَكَةٌ، وَانْضَافَ وَلَدُهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
وَمَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِيهِ، فَصَارُوا كَتِفًا
وَاحِدَةً عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَغَلَّبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى فَارِسَ وَكُوَرِهَا،
وَعَلَى حُلْوَانَ وَقُومِسَ وَأَصْبَهَانَ وَالرَّيِّ بَعْدَ حُرُوبٍ يَطُولُ
ذِكْرُهَا وَبَسْطُهَا، ثُمَّ الْتَقَى عَامِرُ بْنُ ضُبَارَةَ مَعَهُ
بِإْصْطَخْرَ فَهَزَمَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ وَأَسَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا فَكَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ فَنَسَبَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ، وَقَالَ لَهُ: مَا جَاءَ بِكَ مَعَ ابْنِ
مُعَاوِيَةَ وَقَدْ عَلِمْتَ خِلَافَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْوَانَ ؟ فَقَالَ:
كَانَ عَلَيَّ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ حَرْبُ بْنُ
قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ الْكِنَانِيُّ
فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهُ، وَقَالَ: هُوَ ابْنُ أُخْتِنَا. فَوَهَبَهُ لَهُ،
وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَقْدِمَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. ثُمَّ اسْتَعْلَمَ
ابْنُ ضُبَارَةَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَخْبَارِ ابْنِ
مُعَاوِيَةَ فَذَمَّهُ، وَرَمَاهُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ بِاللِّوَاطِ، وَجِيءَ مِنَ
الْأُسَارَى بِمِائَةِ غُلَامٍ عَلَيْهِمُ الثِّيَابُ الْمُصَبَّغَةُ، فَحَمَلَ
ابْنُ ضُبَارَةَ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى ابْنِ
هُبَيْرَةَ لِيُخْبِرِهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى مَرْوَانَ
فِي أَجْنَادِ أَهْلِ الشَّامِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا أَخْبَرَهُ ابْنُ ضُبَارَةَ
عَنِ ابْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ زَوَالَ
مُلْكِ مَرْوَانَ يَكُونُ عَلَى يَدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَا يَشْعُرُ وَاحِدٌ
مِنْهُمْ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَافَى الْمَوْسِمَ أَبُو حَمْزَةَ
الْخَارِجِيُّ فَأَظْهَرَ التَّحَكُّمَ وَالْمُخَالَفَةَ لِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ مَرْوَانَ وَالتَّبَرُّؤَ مِنْهُ، فَرَاسَلَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ، وَإِلَيْهِ أَمْرُ الْحَجِيجِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الْأَمَانِ إِلَى يَوْمِ النَّفْرِ،
فَوَقَفُوا عَلَى حَجْرَةٍ مِنَ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ ثُمَّ تَحَيَّزُوا عَنْهُمْ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ تَعَجَّلَ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَتَرَكَ
مَكَّةَ فَدَخَلَهَا الْخَارِجِيُّ بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
فِي ذَلِكَ:
زَارَ الْحَجِيجَ عِصَابَةٌ قَدْ خَالَفُوا دِينَ الْإِلَهِ فَفَرَّ عَبْدُ
الْوَاحِدِ
تَرَكَ الْحَلَائِلَ وَالِإْمَارَةَ هَارِبًا وَمَضَى يُخَبِّطُ كَالْبَعِيرِ
الشَّارِدِ
لَوْ كَانَ وَالِدُهُ تَنَصَّلَ عِرْقَهُ لَصَفَتْ مَشَارِبُهُ بِعِرْقِ
الْوَالِدِ
وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ الْوَاحِدِ
إِلَى الْمَدِينَةِ شَرَعَ فِي تَجْهِيزِ السَّرَايَا إِلَى الْخَارِجِيِّ
وَبَذَلَ النَّفَقَاتِ، وَزَادَ فِي أَعْطِيَةِ الْأَجْنَادِ، وَسَيَّرَهُمْ
إِلَيْهِ سَرِيعًا.
وَكَانَ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ
وَإِمْرَةُ خُرَاسَانَ إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ
عَلَى بَعْضِ بِلَادِهِ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ: سَالِمٌ أَبُو
النَّضْرِ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ فِي قَوْلٍ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِ " التَّكْمِيلِ ".
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِتِسْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا دَخَلَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ مَدِينَةَ مَرْوَ وَنَزَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ
بِهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَذَلِكَ بِمُسَاعَدَةِ
عَلِيِّ بْنِ الْكَرْمَانِيِّ وَهَرَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ فِي شِرْذِمَةٍ
قَلِيلَةٍ مِنَ النَّاسِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ
الْمَرْزُبَانَةُ ثُمَّ عَجَّلَ الْهَرَبَ حَتَّى لَحِقَ بِسَرْخَسَ وَتَرَكَ
امْرَأَتَهُ وَرَاءَهُ، وَنَجَا بِنَفْسِهِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ أَبِي مُسْلِمٍ
بِخُرَاسَانَ جَدًّا، وَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ الطَّوَائِفُ مِنَ النَّاسِ،
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ.
مَقْتَلُ شَيْبَانَ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرُورِيِّ
وَلَمَّا هَرَبَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ بَقِيَ شَيْبَانُ الْحَرُورِيُّ وَكَانَ
مُمَالِئًا لَهُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ رُسُلًا،
فَحَبَسَهُمْ شَيْبَانُ فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى بَسَّامِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ مَوْلَى بَنِي لَيْثٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْكَبَ إِلَى شَيْبَانَ
فَيُقَاتِلُهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَاقْتَتَلَا، فَهَزَمَهُ بِسَّامٌ وَقَتَلَهُ،
وَاتَّبَعَ أَصْحَابَهُ يَقْتُلُهُمْ وَيَأْسِرُهُمْ. ثُمَّ قَتَلَ أَبُو مُسْلِمٍ
عَلِيًّا، وَعُثْمَانَ ابْنَيِ الْكَرْمَانِيِّ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ
أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ وَجَّهَ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ إِلَى أَبِيوَرْدَ
فَافْتَتَحَهَا وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَوَجَّهَ
أَبُو مُسْلِمٍ أَبَا دَاوُدَ إِلَى بَلْخَ، فَأَخَذَهَا مِنْ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْقُشَيْرِيِّ فَجَمَعَ زِيَادٌ خَلْقًا مِنَ
الْجُنُودِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ
النَّاحِيَةِ لِقِتَالِ الْمُسَوِّدَةِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ أَبُو دَاوُدَ
فَقَتَلَهُمْ حَتَّى كَسَرَهُمْ وَاسْتَبَاحَ مُعَسْكَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا، وَاصْطَفَى مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ
هُنَالِكَ، ثُمَّ وَقَعَتْ كَائِنَةٌ اقْتَضَتْ أَنِ اتَّفَقَ رَأْيُ أَبِي مُسْلِمٍ
مَعَ أَبِي دَاوُدَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ الْكَرْمَانِيِّ فِي يَوْمِ كَذَا
وَكَذَا، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ يَقْتُلُ أَبُو مُسْلِمٍ عَلِيَّ بْنَ
جُدَيْعٍ الْكَرْمَانِيَّ فَوَقَعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَوَجَّهَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ إِلَى نَيْسَابُورَ
لِقِتَالِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَمَعَ قَحْطَبَةَ جَمَاعَةٌ مِنْ كُبَرَاءِ
الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ بَرْمَكَ وَخَلْقٌ مِنْهُمْ، فَالْتَقَوْا
مَعَ تَمِيمِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَقَدْ وَجَّهَهُ أَبُوهُ لِقِتَالِهِمْ
بِطُوسَ فَقَتَلَ قَحْطَبَةُ مِنْ أَصْحَابِ نَصْرٍ نَحْوًا مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ
أَلْفًا فِي الْمَعْرَكَةِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ بَعَثَ إِلَى قَحْطَبَةَ
مَدَدًا فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ عَلَيْهِمْ عَلِيُّ بْنُ مَعْقِلٍ وَلَمَّا
الْتَقَوْا قَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِ نَصْرٍ خَلْقًا، وَقَتَلُوا تَمِيمَ بْنَ
نَصْرٍ وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ عُمَرَ
بْنِ هُبَيْرَةَ نَائِبَ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ بَعَثَ سَرِيَّةً مَدَدًا
لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَرْسَلَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ
جِهَتِهِ قَحْطَبَةَ بْنَ شَبِيبٍ، فَالْتَقَى مَعَهُمْ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِجُرْجَانَ وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
فَقَامَ قَحْطَبَةُ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ
وَالْقِتَالِ وَذَمَّرَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْمُصَابَرَةِ، وَوَعَدَهُمْ عَنِ
الْإِمَامِ أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَقَاتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَانْهَزَمَ جُنْدُ بَنِي أُمَيَّةَ وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَغَيْرِهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ، مِنْهُمْ أَمِيرُ الْمَدَدِ نُبَاتَةُ بْنُ
حَنْظَلَةَ عَامِلُ جُرْجَانَ وَرَسَاتِيقِهَا لِابْنِ هُبَيْرَةَ فَبَعَثَ
قَحْطَبَةُ بِرَأْسِهِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ.
ذِكْرُ دُخُولِ أَبِي حَمْزَةَ
الْخَارِجِيِّ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ وَاسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا مُدَّةَ
ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى ارْتَحَلَ مِنْهَا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ بِقُدَيْدٍ مِنْ
أَرْضِ الْحِجَازِ بَيْنَ أَبِي حَمْزَةَ الْخَارِجِيِّ - الَّذِي كَانَ حَكَمَ
فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ - وَبَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَتَلَ الْخَارِجِيُّ
خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْخَارِجِيُّ
الْمَدِينَةَ وَهَرَبَ نَائِبُهَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُلَيْمَانَ فَقَتَلَ
الْخَارِجِيُّ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، وَذَلِكَ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
خَلَتْ مَنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ خَطَبَ الْخَارِجِيُّ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ 72 عَلَى الْمِنْبَرِ النَّبَوِيِّ فَوَبَّخَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ،
وَكَانَ فِيمَا وَبَّخَهُمْ بِهِ أَنْ قَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنِّي
مَرَرْتُ بِكُمْ أَيَّامَ الْأَحْوَلِ - يَعْنِي هِشَامَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ -
وَقَدْ أَصَابَتْكُمْ عَاهَةٌ فِي ثِمَارِكُمْ، فَكَتَبْتُمْ إِلَيْهِ
تَسْأَلُونَهُ أَنْ يَضَعَ الْخَرْصَ عَنْ ثِمَارِكُمْ، فَوَضَعَهُ عَنْكُمْ،
فَزَادَ غَنِيَّكُمْ غِنًى، وَزَادَ فَقِيرَكُمْ فَقْرًا، فَكَتَبْتُمْ إِلَيْهِ:
جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. فَلَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ
غَيْرِ هَذَا، وَقَدْ أَقَامَ أَبُو حَمْزَةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ; بَقِيَّةَ
صَفَرٍ وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ وَبَعْضَ جُمَادَى الْأُولَى فِيمَا قَالَهُ
الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَدْ رَوَى الْمَدَائِنِيُّ أَنَّ أَبَا حَمْزَةَ رَقِيَ يَوْمًا مِنْبَرَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: تَعْلَمُونَ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَنَّا لَمْ نَخْرُجْ
مِنْ دِيَارِنَا وَأَمْوَالِنَا أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا عَبَثًا، وَلَا
لِدَوْلَةِ مُلْكٍ نُرِيدُ أَنْ نَخُوضَ فِيهِ، وَلَا لِثَأْرٍ قَدِيمٍ نِيلَ
مِنَّا،
وَلَكِنَّا لَمَّا رَأَيْنَا مَصَابِيحَ الْحَقِّ قَدْ عُطِّلَتْ، وَضَعُفَ الْقَائِلُ بِالْحَقِّ، وَقُتِلَ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ، ضَاقَتْ عَلَيْنَا الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَسَمِعْنَا دَاعِيًا يَدْعُو إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَحُكْمِ الْقُرْآنِ، فَأَجَبْنَا دَاعِيَ اللَّهِ، وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [ الْأَحْقَافِ: 32 ]. أَقْبَلْنَا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، النَّفَرُ مِنَّا عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ عَلَيْهِ زَادُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ، يَتَعَاوَرُونَ لِحَافًا وَاحِدًا. قَلِيلُونَ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، فَآوَانَا اللَّهُ وَأَيَّدَنَا بِنْصِرِهِ، فَأَصْبَحْنَا وَاللَّهِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِخْوَانًا، ثُمَّ لَقِينَا رِجَالَكُمْ بِقُدَيْدٍ، فَدَعَوْنَاهُمْ إِلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَدَعَوْنَا إِلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَحُكْمِ آلِ مَرْوَانَ فَشَتَّانَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا بَيْنَ الْغَيِّ وَالرُّشْدِ. ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَنَا يَهْرَعُونَ يَزِفُّونَ قَدْ ضَرَبَ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ بِجِرَانِهِ، وَغَلَتْ بِدِمَائِهِمْ مَرَاجِلُهُ، وَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ ظَنَّهُ، وَأَقْبَلَ أَنْصَارُ اللَّهِ عَصَائِبَ وَكَتَائِبَ، بِكُلِّ مُهَنَّدٍ ذِي رَوْنَقٍ، فَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ، بِضَرْبٍ يَرْتَابُ مِنْهُ الْمُبْطِلُونَ، وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنْ تَنْصُرُوا مَرْوَانَ يُسْحِتَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَوَّلُكُمْ خَيْرُ أَوَّلٍ، وَآخِرُكُمْ شَرُّ آخَرٍ. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، النَّاسُ مِنَّا وَنَحْنُ مِنْهُمْ، إِلَّا مُشْرِكًا عَابِدَ وَثَنٍ، أَوْ كَافِرَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ إِمَامًا جَائِرًا. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ نَفَسًا فَوْقَ طَاقَتِهَا، أَوْ سَأَلَهَا مَا لَمْ يُؤْتِهَا، فَهُوَ لِلَّهِ عَدُوٌّ، وَلَنَا حَرْبٌ. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَخْبِرُونِي عَنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ فَرَضَهَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، فَجَاءَ تَاسِعٌ لَيْسَ لَهُ مِنْهَا وَلَا سَهْمٌ وَاحِدٌ، فَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ، مُكَابِرًا مُحَارِبًا لِرَبِّهِ. يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَنْتَقِصُونَ أَصْحَابِي ; قُلْتُمْ: شَبَابٌ أَحْدَاثٌ، وَأَعْرَابٌ جُفَاةٌ. وَيْحَكُمْ ! يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، وَهَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شَبَابًا أَحْدَاثًا ؟ ! شَبَابٌ وَاللَّهِ مُكْتَهِلُونَ فِي شَبَابِهِمْ،
غَضَّةٌ عَنِ الشَّرِّ أَعْيُنُهُمْ،
ثَقِيلَةٌ عَنِ الْبَاطِلِ أَقْدَامُهُمْ، قَدْ بَاعُوا لِلَّهِ أَنْفُسًا تَمُوتُ
بِأَنْفُسٍ لَا تَمُوتُ، قَدْ خَالَطُوا كَلَالَهُمْ بِكَلَالِهِمْ، وَقِيَامَ
لَيْلِهِمْ بِصِيَامِ نَهَارِهِمْ، مُنْحَنِيَةٌ أَصْلَابُهُمْ عَلَى أَجْزَاءِ
الْقُرْآنِ، كُلَّمَا مَرُّوا بِآيَةِ خَوْفٍ شَهَقُوا ; خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَإِذَا
مَرُّوا بِآيَةِ شَوْقٍ شَهَقُوا ; شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمَّا نَظَرُوا
إِلَى السُّيُوفِ قَدِ انْتُضِيَتْ، وَإِلَى الرِّمَاحِ قَدْ شُرِعَتْ، وَإِلَى
السِّهَامِ قَدْ فُوِّقَتْ، وَأُرْعِدَتِ الْكَتِيبَةُ بِصَوَاعِقَ الْمَوْتِ،
اسْتَخَفُّوا وَعِيدَ الْكَتِيبَةِ لِوَعِيدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَخِفُّوا
وَعِيدَ اللَّهِ لِوَعِيدِ الْكَتِيبَةِ، فَطُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ، فَكَمْ
مِنْ عَيْنٍ فِي مِنْقَارِ طَائِرٍ طَالَمَا فَاضَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ
خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمْ مِنْ يَدٍ زَالَتْ عَنْ مَفْصِلِهَا طَالَمَا
اعْتَمَدَ بِهَا صَاحِبُهَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا،
وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ تَقْصِيرِنَا، وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ،
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
ثُمَّ رَوَى الْمَدَائِنِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ هَارُونَ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
كَانَ أَبُو حَمْزَةَ الْخَارِجِيُّ قَدْ أَحْسَنَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ
الْمَدِينَةِ حَتَّى اسْتَمَالَ النَّاسَ حِينَ سَمِعُوهُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: بَرِحَ الْخَفَاءُ
أَيْنَ مَا بِكَ يَذْهَبُ ؟ ! مَنْ زَنَى فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَرَقَ فَهُوَ
كَافِرٌ. فَأَبْغَضَهُ النَّاسُ، وَرَجَعُوا عَنْ مَحَبَّتِهِ. وَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ حَتَّى بَعَثَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ أَحَدَ بَنِي سَعْدٍ فِي خُيُولِ أَهْلِ الشَّامِ
أَرْبَعَةِ آلَافٍ، قَدِ انْتَخَبَهَا مِنْ جَيْشِهِ، وَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ مِائَةَ
دِينَارٍ، وَفَرَسًا عَرَبِيَّةً وَبَغْلًا لِثِقَلِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْهُ إِلَّا بِالْيَمَنِ فَلْيَتْبَعْهُ إِلَيْهَا، وَلِيُقَاتِلْ نَائِبَ صَنْعَاءَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى فَسَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ حَتَّى بَلَغَ وَادِيَ الْقُرَى فَتَلْقَّاهُ أَبُو حَمْزَةَ الْخَارِجِيُّ قَاصِدًا مَرْوَانَ فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقَالُوا: وَيْحَكَ يَا ابْنَ عَطِيَّةَ ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا. فَأَبَى أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْقِتَالِ، وَمَا زَالَ يُقَاتِلُهُمْ حَتَّى غَلَبَهُمْ وَكَسَرَهُمْ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَهَضَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَدَخَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ الْمَدِينَةَ وَقَدِ انْهَزَمَ جَيْشُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ عَلَى مَكَّةَ، وَسَارَ إِلَى الْيَمَنِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى مِنْ صَنْعَاءَ، فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى مَرْوَانَ وَجَاءَ كِتَابُ مَرْوَانَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِعَجَلَةِ السَّيْرِ إِلَى مَكَّةَ لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ عَامَهُ هَذَا، فَخَرَجَ مِنْ صَنْعَاءَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا، وَتَرَكَ جَيْشَهُ بِصَنْعَاءَ، وَمَعَهُ خُرْجٌ فِيهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ نَزَلَ مَنْزِلًا هُنَالِكَ، إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ أَمِيرَانِ، يُقَالُ لَهُمَا: ابْنَا جُمَانَةَ. مِنْ سَادَاتِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَمَعَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا فَأَحْدَقُوا بِابْنِ عَطِيَّةِ وَأَصْحَابِهِ. فَقَالُوا: وَيْحَكُمْ ! أَنْتُمْ لُصُوصٌ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيَّ بِإِمْرَةِ الْحَجِّ فِي هَذَا الْعَامِ، فَنَحْنُ نُعَجِّلُ السَّيْرَ لِنَلْحَقَ الْمَوْسِمَ، وَأَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ. فَقَالُوا: هَذَا بَاطِلٌ. ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا ابْنُ عَطِيَّةَ وَأَصْحَابَهُ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَأَخَذُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الْمَالِ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
وَقَدْ جُعِلَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالطَّائِفِ،
وَنَائِبُ الْعِرَاقِ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ وَإِمْرَةُ خُرَاسَانَ
إِلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ قَدِ انْتَزَعَ مِنْهُ
أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مِنْ خُرَاسَانَ وَكُوَرًا وَرَسَاتِيقَ وَقَدْ أَرْسَلَ
نَصْرٌ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ يَسْتَمِدُّهُ وَيَسْتَنْجِدُهُ وَيَطْلُبُ أَنْ
يَمُدَّهُ مِنْ عِنْدِهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَبْلَ أَنْ لَا يَكْفِيَهُ مِائَةُ
أَلْفٍ، وَكَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ يَسْتَمِدُّهُ، فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ
هُبَيْرَةَ يَمُدُّهُ بِمَا أَرَادَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ شُعَيْبُ بْنُ الْحبْحَابِ،
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رَفِيعٍ، وَكَعْبُ
بْنُ عَلْقَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا وَجَّهَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ وَلَدَهُ الْحَسَنَ
إِلَى قُومِسَ لِقِتَالِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ، وَأَرْدَفَهُ بِالْأَمْدَادِ،
فَخَامَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَصْرٍ، وَارْتَحَلَ نَصْرٌ فَنَزَلَ الرَّيَّ،
فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَيْنِ، ثُمَّ مَرِضَ، فَسَارَ مِنْهَا إِلَى هَمَذَانَ،
فَلَمَّا كَانَ بِسَاوَةَ قَرِيبًا مِنْ هَمَذَانَ تُوُفِّيَ لِمُضِيِّ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ
خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ نَصْرٌ تَمَكَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيُّ وَأَصْحَابُهُ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ
جِدًّا، فَسَارَ قَحْطَبَةُ مِنْ جُرْجَانَ، وَقَدِمَ أَمَامَهُ زِيَادُ بْنُ
زُرَارَةَ الْقُشَيْرِيُّ وَكَانَ قَدْ نَدِمَ عَلَى اتِّبَاعِ أَبِي مُسْلِمٍ
فَتَرَكَ الْجَيْشَ، وَأَخَذَ جَمَاعَةً مَعَهُ، وَسَلَكَ طَرِيقَ أَصْبَهَانَ
لِيَأْتِيَ ابْنَ ضُبَارَةَ فَبَعَثَ قَحْطَبَةُ وَرَاءَهُ جَيْشًا، فَقَتَلُوا
عَامَّةَ أَصْحَابِهِ، وَأَقْبَلَ قَحْطَبَةُ وَرَاءَهُ، فَقَدِمَ قُومِسَ، وَقَدِ
افْتَتَحَهَا ابْنُهُ الْحَسَنُ فَأَقَامَ بِهَا، وَبَعَثَ ابْنَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ إِلَى الرَّيِّ، ثُمَّ سَاقَ وَرَاءَهُ، فَوَجَدَهُ قَدِ افْتَتَحَهَا،
فَأَقَامَ بِهَا وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِذَلِكَ، وَارْتَحَلَ أَبُو
مُسْلِمٍ مِنْ مَرْوَ فَنَزَلَ نَيْسَابُورَ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا،
وَبَعَثَ قَحْطَبَةُ - بَعْدَ دُخُولِهِ الرَّيَّ بِثَلَاثٍ - ابْنَهُ الْحَسَنَ
بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى هَمَذَانَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ مِنْهَا
مَالِكُ بْنُ أَدْهَمَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَجْنَادِ الشَّامِ وَخُرَاسَانَ
فَنَزَلُوا نَهَاوَنْدَ فَافْتَتَحَ الْحَسَنُ هَمَذَانَ، ثُمَّ سَارَ وَرَاءَهُمْ
إِلَى نَهَاوَنْدَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُوهُ بِالْأَمْدَادِ وَرَاءَهُ، فَجَاءَ
فَحَاصَرَهُمْ بِهَا حَتَّى افْتَتَحَهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ عَامِرُ
بْنُ ضُبَارَةَ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ هُبَيْرَةَ كَانَ قَدْ كَتَبَ
إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى قَحْطَبَةَ وَأَمَدَّهُ بِالْعَسَاكِرِ، فَسَارَ
ابْنُ ضُبَارَةَ حَتَّى الْتَقَى مَعَ قَحْطَبَةَ، وَابْنُ ضُبَارَةَ فِي مِائَةٍ
وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: عَسْكَرُ الْعَسَاكِرِ، وَقَحْطَبَةُ
فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ رَفَعَ قَحْطَبَةُ
وَأَصْحَابُهُ الْمَصَاحِفَ، وَنَادَى الْمُنَادِي: يَا أَهْلَ الشَّامِ، إِنَّا
نَدْعُوكُمْ إِلَى مَا فِي هَذَا الْمُصْحَفِ. فَشَتَمُوا الْمُنَادِيَ،
وَشَتَمُوا قَحْطَبَةَ، فَأَمَرَ قَحْطَبَةُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوا
عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ كَثِيرُ قِتَالٍ حَتَّى انْهَزَمَ أَصْحَابُ
ابْنِ ضُبَارَةَ وَاتَّبَعَهُمْ أَصْحَابُ قَحْطَبَةَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَقَتَلُوا ابْنَ ضُبَارَةَ فِي الْعَسْكَرِ وَأَخَذُوا مِنْ
عَسْكَرِهِمْ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ.
وَفِيهَا حَاصَرَ قَحْطَبَةُ نَهَاوَنْدَ حِصَارًا شَدِيدًا، حَتَّى سَأَلَهُ
أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ بِهَا أَنْ يَشْغَلَ أَهْلَهَا حَتَّى يَفْتَحُوا لَهُ
الْبَابَ، فَفَتَحُوا لَهُ الْبَابَ، وَأَخَذُوا لَهُمْ مِنْهُ أَمَانًا، فَقَالَ
لَهُمْ مَنْ بِهَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ: مَا فَعَلْتُمْ ؟ فَقَالُوا: أَخَذْنَا
لَنَا وَلَكُمْ أَمَانًا. فَخَرَجُوا ظَانِّينَ أَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ، فَقَالَ
قَحْطَبَةُ لِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ: كُلُّ مَنْ حَصَلَ عِنْدَهُ أَسِيرٌ
مِنَ الْخُرَاسَانِيِّينَ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ وَلْيَأْتِنَا بِرَأْسِهِ.
فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مِمَّنْ كَانَ هَرِبَ مِنْ أَبِي مُسْلِمٍ
مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأَطْلَقَ الشَّامِيِّينَ وَأَوْفَى لَهُمْ عَهْدَهُمْ،
وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنْ لَا يُمَالِئُوا عَلَيْهِ عَدُوًّا، ثُمَّ
بَعَثَ قَحْطَبَةُ - عَنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ - أَبَا عَوْنٍ إِلَى شَهْرَزُورَ
فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَحَاصَرَهَا حَتَّى افْتَتَحَهَا، وَقَتَلَ نَائِبَهَا
عُثْمَانَ بْنَ سُفْيَانَ. وَقِيلَ: لَمْ يَقْتُلْ بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى
الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَبَعَثَ
إِلَى قَحْطَبَةَ بِذَلِكَ. وَلَمَّا
بَلَغَ مَرْوَانَ خَبَرُ قَحْطَبَةَ، وَأَبِي مُسْلِمٍ وَمَا وَقَعَ مِنْ
أَمْرِهِمَا تَحَوَّلَ مِنْ حَرَّانَ، فَنَزَلَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الزَّابُّ
الْأَكْبَرُ.
وَفِيهَا قَصَدَ قَحْطَبَةُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ نَائِبَ الْعِرَاقِ يَزِيدَ بْنَ
عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ تَقَهْقَرَ ابْنُ هُبَيْرَةَ
إِلَى وَرَائِهِ، وَمَا زَالَ يَتَقَهْقَرُ إِلَى أَنْ جَاوَزَ الْفُرَاتَ،
وَجَاءَ قَحْطَبَةُ فَجَازَهُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا
سَنَذْكُرُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا جَازَ قَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْفُرَاتَ وَمَعَهُ
الْجُنُودُ وَالْفُرْسَانُ، وَابْنُ هُبَيْرَةَ مُخَيِّمٌ عَلَى فَمِ الْفُرَاتِ
مِمَّا يَلِي الْفَلُّوجَةَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ، وَقَدْ أَمَدَّهُ
مَرْوَانُ بِجُنُودٍ كَثِيرَةٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ كُلُّ مَنِ انْهَزَمَ مِنْ
جَيْشِ ابْنِ ضُبَارَةَ ثُمَّ إِنَّ قَحْطَبَةَ عَدَلَ إِلَى الْكُوفَةِ
لِيَأْخُذَهَا، فَاتَّبَعَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ
الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ اقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، وَكَثُرَ الْقَتْلُ فِي الْفَرِيقَيْنِ، وَوَلَّى أَهْلُ الشَّامِ
مُنْهَزِمِينَ، وَاتَّبَعَهُمْ أَهْلُ خُرَاسَانَ، وَفُقِدَ قَحْطَبَةُ مِنَ
النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُمْ رَجُلٌ أَنَّهُ قُتِلَ، وَأَنَّهُ أَوْصَى أَنْ يَكُونَ
أَمِيرُ النَّاسِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدَهُ الْحَسَنَ، وَلَمْ يَكُنِ الْحَسَنُ
حَاضِرًا، فَبَايَعُوا حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ لِأَخِيهِ الْحَسَنِ، وَذَهَبَ
الْبَرِيدُ إِلَى الْحَسَنِ لِيَحْضُرَ، وَقُتِلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ
جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَالَّذِي قَتَلَ قَحْطَبَةَ مَعْنُ بْنُ
زَائِدَةَ، وَيَحْيَى بْنُ حُصَيْنٍ. وَقِيلَ: بَلْ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ آخِذًا بِثَأْرِ بَنِي نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَوُجِدَ
قَحْطَبَةُ فِي الْقَتْلَى، فَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَسَارَ الْحَسَنُ بْنُ
قَحْطَبَةَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ خَرَجَ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَدَعَا إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ وَسَوَّدَ، وَكَانَ
خُرُوجُهُ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَأَخْرَجَ عَامِلَهَا مِنْ جِهَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ، وَهُوَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ
الْحَارِثِيُّ وَتَحَوَّلَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ،
فَقَصَدَهُ حَوْثَرَةُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا مِنْ جِهَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ،
فَلَمَّا اقْتَرَبَ حَوْثَرَةُ مِنَ الْكُوفَةِ
جَعَلَ أَصْحَابُهُ يَذْهَبُونَ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ فَيُبَايِعُونَهُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا رَأَى
حَوْثَرَةُ ذَلِكَ ارْتَحَلَ إِلَى وَاسِطَ. وَيُقَالُ: بَلْ دَخَلَ الْحَسَنُ
بْنُ قَحْطَبَةَ الْكُوفَةَ، وَكَانَ قَحْطَبَةُ قَدْ جَعَلَ فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ
تَكُونَ وِزَارَةُ الْخِلَافَةِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ
مَوْلَى السَّبِيعِ الْكُوفِيِّ الْخَلَّالِ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ فَلَمَّا
قَدِمُوا عَلَيْهِ أَشَارَ أَنْ يَذْهَبَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي جَمَاعَةٍ
مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى قِتَالِ ابْنِ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطَ، وَأَنْ يَذْهَبَ
أَخُوهُ حُمَيْدٌ إِلَى الْمَدَائِنِ وَبَعَثَ الْبُعُوثَ إِلَى كُلِّ جَانِبٍ
مِنْ تِلْكَ النَّوَاحِي يَفْتَتِحُونَهَا، وَفَتَحُوا الْبَصْرَةَ، افْتَتَحَهَا
سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ، فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ -
كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ - جَاءَ أَبُو مَالِكٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدٍ
الْخُزَاعِيُّ فَأَخَذَ الْبَصْرَةَ لِأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا، أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِأَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْمُلَقَّبِ بِالسَّفَّاحِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ
وَهِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ خِلَافَةُ السَّفَّاحِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ
قَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ أَنَّ مَرْوَانَ اطَّلَعَ
عَلَى كِتَابٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ
الْإِمَامِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِأَنْ لَا يُبْقِي أَحَدًا بِأَرْضِ
خُرَاسَانَ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَرَبِيَّةِ إِلَّا أَبَادَهُ، فَلَمَّا
وَقَفَ مَرْوَانُ عَلَى ذَلِكَ سَأَلَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فَقِيلَ لَهُ: هُوَ
بِالْبَلْقَاءِ. فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ أَنْ يُحْضِرَهُ، وَبَعَثَ
رَسُولًا فِي ذَلِكَ وَمَعَهُ صِفَتُهُ وَنَعْتُهُ، فَذَهَبَ الرَّسُولُ، فَوَجَدَ
أَخَاهُ أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ، فَأَخَذَهُ
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَخُوهُ. فَدَلَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
فَأَخَذَهُ وَذَهَبَ مَعَهُ بِأُمِّ وَلَدٍ لَهُ يُحِبُّهَا، وَأَوْصَى إِلَى
أَهْلِهِ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ أَبُو الْعَبَّاسِ
السَّفَّاحُ وَأَمَرَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَارْتَحَلُوا مِنْ
فَوْرِهِمْ إِلَيْهَا، وَكَانُوا جَمَاعَةً، مِنْهُمْ أَعْمَامُهُ السِّتَّةُ،
وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ، وَدَاوُدُ، وَعِيسَى، وَصَالِحٌ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَعَبْدُ
الصَّمَدِ بَنُو عَلِيٍّ وَأَخَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ، وَيَحْيَى
ابْنَا مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَابْنَاهُ مُحَمَّدٌ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنَا
إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ الْمَمْسُوكِ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا
الْكُوفَةَ أَنْزَلَهُمْ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ دَارَ الْوَلِيدِ بْنِ سَعْدٍ
مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي بَنِي أَوْدٍ وَكَتَمَ أَمْرَهُمْ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنَ الْقُوَّادِ وَالْأُمَرَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ
بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، حَتَّى فُتِحَتِ الْبِلَادُ، ثُمَّ بُويِعَ
لِلسَّفَّاحِ.
وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ سِيرَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ بِحَرَّانَ
فَحَبَسَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَا زَالَ فِي السِّجْنِ إِلَى هَذِهِ
السَّنَةِ، فَمَاتَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا
فِي السِّجْنِ، عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ غُمَّ
بِمُرْفَقَةٍ وُضِعَتْ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى مَاتَ عَنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُهَلْهَلُ بْنُ صَفْوَانَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ هُدِمَ عَلَيْهِ بَيْتٌ حَتَّى مَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ سُقِيَ
لَبَنًا مَسْمُومًا فَمَاتَ. وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَ شَهِدَ
الْمَوْسِمَ عَامَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ هُنَالِكَ ;
لَأَنَّهُ وَقَفَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَنَجَائِبَ كَثِيرَةٍ، وَحُرْمَةٍ
وَافِرَةٍ، فَأَنْهَى أَمْرَهُ إِلَى مَرْوَانَ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا
مُسْلِمٍ إِنَّمَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى هَذَا، وَيُسَمُّونَهُ الْخَلِيفَةَ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ،
وَقَتَلَهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أُخِذَ مِنَ الْكُوفَةِ لَا مِنْ حُمَيْمَةِ
الْبَلْقَاءِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا كِرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، لَهُ فَضَائِلُ
وَفَوَاضِلُ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَأَبِي هَاشِمٍ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَنْهُ أَخَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ
أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ الْمَنْصُورُ،
وَأَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَمَالِكُ
بْنُ الْهَيْثَمِ وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: الْكَامِلُ الْمُرُوءَةِ
مَنْ أَحْرَزَ دِينَهُ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، وَاجْتَنَبَ مَا يُلَامُ عَلَيْهِ.
خِلَافَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ
السَّفَّاحِ
لَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْكُوفَةِ مَقْتَلُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَرَادَ
أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ أَنْ يُحَوِّلَ الْخِلَافَةَ إِلَى آلِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَغَلَبَهُ بَقِيَّةُ النُّقَبَاءِ
وَالْأُمَرَاءِ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَحْضَرُوا أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ
وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ عُمْرُهُ
إِذْ ذَاكَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ
بِالْخِلَافَةِ أَبُو سَلَمَةَ الْخَلَّالُ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَرَجَ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ
عَلَى بِرْذَوْنٍ أَبْلَقَ، وَالْجُنُودُ مُلَبَّسَةٌ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلَ دَارَ
الْإِمَارَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي
أَعْلَاهُ، وَعَمُّهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ وَاقِفٌ دُونَهُ بِثَلَاثِ دَرَجٍ،
وَتَكَلَّمَ السَّفَّاحُ وَكَانَ أَوَّلَ مَا نَطَقَ بِهِ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي اصْطَفَى الْإِسْلَامَ لِنَفْسِهِ فَكَرَّمَهُ وَشَرَّفَهُ
وَعَظَّمَهُ، وَاخْتَارَهُ لَنَا، وَأَيَّدَهُ بِنَا، وَجَعَلَنَا أَهْلَهُ
وَكَهْفَهُ وَالْقُوَّامَ بِهِ وَالذَّابِّينَ عَنْهُ وَالنَّاصِرِينَ لَهُ،
وَأَلْزَمَنَا كَلِمَةَ التَّقْوَى، وَجَعَلَنَا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا،
خَصَّنَا بِرَحِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَرَابَتِهِ، وَاشْتَقَّنَا مَنْ نَبْعَتِهِ، وَوَضَعَنَا مِنَ الْإِسْلَامِ
وَأَهْلِهِ بِالْمَوْضِعِ الرَّفِيعِ، وَأَنْزَلَ بِذَلِكَ عَلَى أَهْلِ
الْإِسْلَامِ كِتَابًا يُتْلَى عَلَيْهِمْ، فَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 33 ]. وَقَالَ: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ
أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [ الشُّورَى: 23 ].
وَقَالَ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 214 ]. وَقَالَ: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [ الْحَشْرِ: 7 ]. فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَضْلَنَا، وَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ حَقَّنَا وَمَوَدَّتَنَا، وَأَجْزَلَ مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ نَصِيبَنَا ; تَكْرِمَةً لَنَا، وَفَضْلَةً عَلَيْنَا، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، وَزَعَمَتِ السَّبَئِيَّةُ الضُّلَّالُ أَنَّ غَيْرَنَا أَحَقُّ بِالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْخِلَافَةِ مِنَّا، فَشَاهَتْ وُجُوهُهُمْ، بِمَ وَلِمَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ ! وَبِنَا هَدَى اللَّهُ النَّاسَ بَعْدَ ضَلَالَتِهِمْ، وَبَصَّرَهُمْ بَعْدَ جَهَالَتِهِمْ، وَأَنْقَذَهُمْ بَعْدَ هَلَكَتِهِمْ، وَأَظْهَرَ بِنَا الْحَقَّ، وَأَدْحَضَ بِنَا الْبَاطِلَ، وَأَصْلَحَ بِنَا مِنْهُمْ مَا كَانَ فَاسِدًا، وَرَفَعَ بِنَا الْخَسِيسَةَ، وَأَتَمَّ النَّقِيصَةَ، وَجَمَعَ الْفِرْقَةَ، حَتَّى عَادَ النَّاسُ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ أَهْلَ تَعَاطُفٍ وَبِرٍّ وَمُوَاسَاةٍ فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ فِي أُخْرَاهُمْ، فَتَحَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنَّةً وَمِنْحَةً لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَامَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَصْحَابُهُ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنِهِمْ، فَحَوَوْا مَوَارِيثَ الْأُمَمِ، فَعَدَلُوا فِيهَا، وَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، وَأَعْطَوْهَا أَهْلَهَا، وَخَرَجُوا خِمَاصًا مِنْهَا، ثُمَّ وَثَبَ بَنُو حَرْبٍ وَمَرْوَانٍ فَابْتَزُّوهَا وَتَدَاوَلُوهَا، فَجَارُوا فِيهَا، وَاسْتَأْثَرُوا بِهَا، وَظَلَمُوا أَهْلَهَا، فَأَمْلَى اللَّهُ لَهُمْ حِينًا حَتَّى آسَفُوهُ، فَلَمَّا آسَفُوهُ انْتَقَمَ مِنْهُمْ بِأَيْدِينَا، وَرَدَّ عَلَيْنَا حَقَّنَا، وَتَدَارَكَ بِنَا أُمَّتَنَا، وَوَلِيَ نَصْرَنَا وَالْقِيَامَ بِأَمْرِنَا ; لِيَمُنَّ بِنَا عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَخَتَمَ بِنَا كَمَا افْتَتَحَ بِنَا، وَإِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا يَأْتِيَكُمُ الْجَوْرُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الْخَيْرُ، وَلَا الْفَسَادُ مِنْ حَيْثُ جَاءَكُمُ الصَّلَاحُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ إِلَّا بِاللَّهِ، يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أَنْتُمْ مَحَلُّ مَحَبَّتِنَا وَمَنْزِلُ مَوَدَّتِنَا، وَأَنْتُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِنَا وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْنَا،
وَقَدْ زِدْتُكُمْ فِي أَعْطِيَاتِكُمْ
مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَاسْتَعِدُّوا، فَأَنَا السَّفَّاحُ الْهَائِجُ، وَالثَّائِرُ
الْمُبِيرُ.
وَكَانَ بِهِ وَعْكٌ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ،
وَنَهَضَ عَمُّهُ دَاوُدُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا شُكْرًا شُكْرًا
الَّذِي أَهْلَكَ عَدُوَّنَا، وَأَصَارَ إِلَيْنَا مِيرَاثَنَا مِنْ نَبِيِّنَا،
أَيُّهَا النَّاسُ، الْآنَ انْقَشَعَتْ حَنَادِسُ الظُّلُمَاتِ، وَانْكَشَفَ
غِطَاؤُهَا، وَأَشْرَقَتْ أَرْضُهَا وَسَمَاؤُهَا، وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ
مَطْلَعِهَا، وَبَزَغَ الْقَمَرُ مِنْ مِبْزَغِهِ، وَرَجَعَ الْحَقُّ إِلَى
نِصَابِهِ فِي أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ ; أَهِلِ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ
بِكُمْ وَالْعَطْفِ عَلَيْكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا
خَرَجْنَا فِي طَلَبِ هَذَا الْأَمْرِ لِنُكْثِرَ لُجَيْنًا وَلَا عِقْيَانًا،
وَلَا لِنَحْفِرَ نَهْرًا، وَلَا لِنَبْنِيَ قَصْرًا، وَإِنَّمَا أَخْرَجَنَا
الْأَنَفَةُ مِنَ ابْتِزَازِهِمْ حَقَّنَا، وَالْغَضَبُ لِبَنِي عَمِّنَا،
وَلِسُوءِ سِيرَةِ بَنِي أُمَيَّةَ فِيكُمْ، وَاسْتِذْلَالُهُمْ لَكُمْ،
وَاسْتِئْثَارُهُمْ بِفَيْئِكُمْ وَصَدَقَاتِكُمْ، فَلَكُمْ عَلَيْنَا ذِمَّةُ
اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ وَذِمَّةُ الْعَبَّاسِ أَنْ نَحْكُمَ فِيكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ، وَنَعْمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَنَسِيرَ فِي الْعَامَّةِ
مِنْكُمْ وَالْخَاصَّةِ بِسِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، تَبًّا تَبًّا لِبَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي مَرْوَانَ آثَرُوا
الْعَاجِلَةَ عَلَى الْآجِلَةِ، وَالدَّارَ الْفَانِيَةِ عَلَى الدَّارِ
الْبَاقِيَةِ، فَرَكِبُوا الْآثَامَ وَظَلَمُوا الْأَنَامَ، وَارْتَكَبُوا
الْمَحَارِمَ، وَغَشَوُا الْجَرَائِمَ، وَجَارُوا فِي سِيرَتِهِمْ فِي الْعِبَادِ،
وَسُنَّتِهِمُ فِي الْبِلَادِ، الَّتِي بِهَا اسْتَلَذُّوا تَسَرْبُلَ
الْأَوْزَارِ، وَتَجَلْبُبَ الْآصَارِ، وَمَرِحُوا فِي أَعِنَّةِ
الْمَعَاصِي، وَرَكَضُوا فِي مَيَادِينَ الْغَيِّ ; جَهْلًا بِاسْتِدْرَاجِ اللَّهِ، وَأَمْنًا لِمَكْرِ اللَّهِ، فَأَتَاهُمْ بِأْسُ اللَّهِ بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحُوا أَحَادِيثَ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ، فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَأَدَالَنَا اللَّهُ مِنْ مَرْوَانَ وَقَدْ غَرَّهُ بِاللَّهِ الْغَرُورُ، وَأَرْسَلَ لِعَدُوِّ اللَّهِ فِي عِنَانِهِ حَتَّى عَثَرَ فِي فَضْلِ خِطَامِهِ، أَظَنَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؟ ! فَنَادَى حِزْبَهُ، وَجَمَعَ مَكَايِدَهُ، وَرَمَى بِكَتَائِبِهِ، فَوَجَدَ أَمَامَهُ وَوَرَاءَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَبَأْسِهِ وَنِقْمَتِهِ مَا أَمَاتَ بَاطِلَهُ، وَمَحَقَ ضَلَالَهُ، وَجَعَلَ دَائِرَةَ السَّوْءِ بِهِ، وَأَحْيَا شَرَفَنَا وَعِزَّنَا، وَرَدَّ إِلَيْنَا حَقَّنَا وَإِرْثَنَا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - نَصَرَهُ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا - إِنَّمَا عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْلِطَ بِكَلَامِ الْجُمُعَةِ غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا قَطَعَهُ عَنِ اسْتِتْمَامِ الْكَلَامِ بَعْدَ أَنِ اسْحَنْفَرَ فِيهِ، شِدَّةُ الْوَعْكِ، فَادْعُوا اللَّهَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعَافِيَةِ، فَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِمَرْوَانَ عَدُوِّ الرَّحْمَنِ، وَخَلِيفَةِ الشَّيْطَانِ، الْمُتَّبِعِ لِلسَّفَلَةِ الَّذِينَ أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ صَلَاحِهَا، الشَّابَّ الْمُتَكَهِّلَ، الْمُقْتَدِي بِسَلَفِهِ الْأَبْرَارِ الْأَخْيَارِ، الَّذِينَ أَصْلَحُوا الْأَرْضَ بَعْدَ فَسَادِهَا بِمَعَالِمِ الْهُدَى، وَمَنَاهِجِ الْتُّقَى. قَالَ: فَعَجَّ النَّاسُ لَهُ بِالدُّعَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمُوا يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَمْ يَصْعَدْ مِنْبَرَكُمْ هَذَا خَلِيفَةٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هَذَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّفَّاحِ - وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِينَا لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنَّا حَتَّى نُسْلِمَهُ إِلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى مَا أَبْلَانَا وَأَوْلَانَا. ثُمَّ نَزَلَ أَبُو الْعَبَّاسِ، وَدَاوُدُ حَتَّى دَخَلَا الْقَصْرَ. ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ
يُبَايِعُونَ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ
مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ خَرَجَ فَعَسْكَرَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا عَمَّهُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ عَمَّهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى أَبِي عَوْنِ بْنِ يَزِيدَ، وَبَعَثَ ابْنَ أَخِيهِ
عِيسَى بْنَ مُوسَى إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِوَاسِطَ
مُحَاصِرٌ ابْنَ هُبَيْرَةَ، وَبَعَثَ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرِ بْنِ تَمَّامِ بْنِ
الْعَبَّاسِ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ بِالْمَدَائِنِ، وَبَعَثَ أَبَا
الْيَقْظَانِ عُثْمَانَ بْنَ عُرْوَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ
إِلَى بَسَّامِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ بِالْأَهْوَازِ وَبَعَثَ سَلَمَةَ
بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ إِلَى مَالِكِ بْنِ الطَّوَّافِ. وَأَقَامَ هُوَ
بِالْعَسْكَرِ أَشْهُرًا، ثُمَّ ارْتَحَلَ فَنَزَلَ الْمَدِينَةَ الْهَاشِمِيَّةَ
فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَقَدْ تَنَكَّرَ لِأَبِي سَلَمَةَ الْخَلَّالِ وَذَلِكَ
لِمَا كَانَ بَلَغَهُ عَنْهُ مِنَ الْعُدُولِ بِالْخِلَافَةِ عَنْ بَنِي
الْعَبَّاسِ إِلَى آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ مَرْوَانَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ
آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَتَحَوُّلِ الْخِلَافَةِ إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ
تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ
مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ].
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا بَلَغَهُ مَا جَرَى بِأَرْضِ خُرَاسَانَ
مِنْ أَمْرِ أَبِي مُسْلِمٍ وَأَتْبَاعِهِ، تَحَوَّلَ مِنْ حَرَّانَ، فَنَزَلَ
عَلَى نَهْرٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَوْصِلِ يُقَالُ لَهُ: الزَّابُ. مِنْ أَرْضِ
الْجَزِيرَةِ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ السَّفَّاحَ قَدْ بُويِعَ لَهُ
بِالْكُوفَةِ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ الْجُنُودُ، وَاجْتَمَعَ لَهُ أَمْرُهُ،
اشْتَدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ جِدًّا، وَجَمَعَ جُنُودَهُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَبُو
عَوْنِ بْنُ يَزِيدَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَنَازَلَهُ عَلَى الزَّابِ، وَجَاءَتْهُ
الْأَمْدَادُ مِنْ جِهَةِ السَّفَّاحِ ثُمَّ نَدَبَ السَّفَّاحُ النَّاسَ مَنْ
يَلِي الْقِتَالَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَانْتَدَبَ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَلِيٍّ فَقَالَ: سِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسَارَ فِي جُنُودٍ كَثِيرَةٍ،
فَقَدِمَ عَلَى أَبِي عَوْنٍ فَتَحَوَّلَ لَهُ أَبُو عَوْنٍ عَنْ سُرَادِقِهِ
وَخَلَّاهُ لَهُ وَمَا فِيهِ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى
شُرْطَتِهِ حِيَاشَ بْنَ حَبِيبٍ الطَّائِيَّ وَعَلَى حَرَسِهِ نُصَيْرَ بْنَ
الْمُحْتَفِزِ وَوَجَّهَ أَبُو الْعَبَّاسِ، مُوسَى بْنَ كَعْبٍ فِي ثَلَاثِينَ
رَجُلًا عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يَحُثُّهُ عَلَى
مُنَاجَزَةِ مَرْوَانَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى قِتَالِهِ وَنِزَالِهِ، فَتَقَدَّمَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى وَاجَهَ جَيْشَ مَرْوَانَ وَنَهَضَ مَرْوَانُ فِي جُنُودِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَتَصَافَّ الْفَرِيقَانِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مَعَ مَرْوَانَ يَوْمَئِذٍ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفًا. وَقِيلَ: مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا. فَقَالَ مَرْوَانُ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنْ زَالَتِ الشَّمْسُ يَوْمَئِذٍ وَلَمْ يُقَاتِلُونَا، كُنَّا الَّذِينَ نَدْفَعُهَا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَإِنْ قَاتَلُونَا قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ أَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ يَسْأَلُهُ الْمُوَادَعَةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَذَبَ ابْنُ زُرَيْقٍ لَا تَزُولُ الشَّمْسُ حَتَّى أُوطِئَهُ الْخَيْلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمُ السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ مَرْوَانُ لِأَهْلِ الشَّامِ: قِفُوا، لَا تَبْدَءُوهُمْ بِقِتَالٍ. وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الشَّمْسِ، فَخَالَفَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ - وَهُوَ خَتَنُ مَرْوَانَ عَلَى ابْنَتِهِ - فَحَمَلَ، فَغَضِبَ مَرْوَانُ وَشَتَمَهُ، فَقَاتَلَ أَهْلُ الْمَيْمَنَةِ، فَانْحَازَ أَبُو عَوْنٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ: مُرِ النَّاسَ فَلْيَنْزِلُوا. فَنُودِيَ: الْأَرْضَ. فَنَزَلَ النَّاسُ وَأَشْرَعُوا الرِّمَاحَ، وَجَثَوْا عَلَى الرَّكْبَ وَقَاتَلُوهُمْ، وَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ يَتَأَخَّرُونَ كَأَنَّمَا يُدْفَعُونَ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِي قُدُمًا وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَبِّ حَتَّى مَتَى نُقْتَلُ فِيكَ ؟ وَنَادَى: يَا أَهْلَ خُرَاسَانَ، يَا لِثَارَاتِ إِبْرَاهِيمَ، يَا مُحَمَّدُ، يَا مَنْصُورُ. وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَ النَّاسِ جِدًّا، فَأَرْسَلَ مَرْوَانُ إِلَى قُضَاعَةَ يَأْمُرُهُمْ بِالنُّزُولِ، فَقَالُوا: قُلْ لِبَنِي سُلَيْمٍ فَلْيَنْزِلُوا. وَأَرْسَلَ إِلَى السَّكَاسِكِ أَنِ احْمِلُوا. فَقَالُوا: قُلْ لِبَنِي عَامِرٍ فَلْيَحْمِلُوا. فَأَرْسَلَ إِلَى السَّكُونِ أَنِ احْمِلُوا. فَقَالُوا: قُلْ لِغَطَفَانَ
فَلْيَحْمِلُوا. فَقَالَ لِصَاحِبِ
شُرْطَتِهِ: انْزِلْ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَجْعَلُ نَفْسِي غَرَضًا.
قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَسُوَءَنَّكَ. قَالَ: وَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّكَ
قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِابْنِ هُبَيْرَةَ.
قَالُوا: ثُمَّ انْهَزَمَ أَهْلُ الشَّامِ وَاتَّبَعَهُمْ أَهْلُ خُرَاسَانَ فِي
أَدْبَارِهِمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَكَانَ مَنْ غَرِقَ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ غَرِقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَخْلُوعُ، وَقَدْ أَمَرَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِعَقْدِ الْجِسْرِ، وَاسْتِخْرَاجِ مَنْ هَلَكَ مِنَ
الْغَرْقَى، وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ
الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
[ الْبَقَرَةِ: 50 ]. وَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي مَوْضِعِ
الْمَعْرَكَةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ فِي مَرْوَانَ وَفِرَارِهِ يَوْمَئِذٍ:
لَجَّ الْفِرَارُ بِمَرْوَانٍ فَقُلْتُ لَهُ عَادَ الظَّلُومُ ظَلِيمًا هَمُّهُ
الْهَرَبُ أَيْنَ الْفِرَارُ وَتَرْكُ الْمُلْكِ إِذْ ذَهَبَتْ
عَنْكَ الْهُوَيْنَى فَلَا دِينٌ وَلَا حَسَبُ فَرَاشَةُ الْحِلْمِ فِرْعَوْنُ
الْعِقَابِ وَإِنْ
تَطْلُبْ نَدَاهُ فَكَلْبٌ دُونَهُ كَلِبُ
وَاحْتَازَ عَبْدُ اللَّهِ مَا كَانَ فِي مُعَسْكَرِ مَرْوَانَ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ، وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ امْرَأَةً سِوَى جَارِيَةٍ
كَانَتْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَرْوَانَ وَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ يُخْبِرُهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ
النَّصْرِ، وَمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ ; فَصَلَّى السَّفَّاحُ
رَكْعَتَيْنِ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَطْلَقَ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ
الْوَقْعَةَ خَمْسَمِائَةٍ خَمْسَمِائَةٍ، وَرَفَعَ فِي أَرْزَاقِهِمْ إِلَى
ثَمَانِينَ، وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ
بِالْجُنُودِ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ: 249 ].
صِفَةُ مَقْتَلِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ
لَمَّا انْهَزَمَ مَرْوَانُ مِنَ الْمَعْرَكَةِ سَارَ لَا يَلْوِي عَلَى أَحَدٍ،
فَأَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فِي مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ سَبْعَةَ
أَيَّامٍ، ثُمَّ سَارَ فِي طَلَبِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، وَذَلِكَ عَنْ
أَمْرِ السَّفَّاحِ لَهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا مَرَّ مَرْوَانُ بَحَرَّانَ اجْتَازَ
بِهَا، وَأَخْرَجَ أَبَا مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيَّ مِنْ سِجْنِهِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَيْهَا أَبَانَ بْنَ يَزِيدَ وَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ
عُثْمَانَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ حَرَّانَ خَرَجَ إِلَيْهِ
أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ مُسَوِّدًا، فَأَمَّنَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ
وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَهَدَمَ الدَّارَ الَّتِي سُجِنَ فِيهَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامُ وَاجْتَازَ مَرْوَانُ بِقِنَّسْرِينَ
قَاصِدًا إِلَى حِمْصَ، فَلَمَّا جَاءَهَا خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا
بِالْأَسْوَاقِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ شَخَصَ
مِنْهَا، فَلَمَّا رَأَوْا قِلَّةَ مَنْ مَعَهُ اتَّبَعُوهُ ; طَمَعًا فِيهِ،
وَقَالُوا: مَرْعُوبُ مُنْهَزِمٌ. فَأَدْرَكُوهُ بِوَادٍ عِنْدَ حِمْصَ،
فَأَكْمَنَ لَهُمْ أَمِيرَيْنِ، فَلَمَّا تَلَاحَقُوا بِمَرْوَانَ عَطَفَ
عَلَيْهِمْ، فَنَاشَدَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا، فَأَبَوْا إِلَّا مُقَاتَلَتَهُ،
فَثَارَ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، وَثَارَ الْكَمِينَانِ مِنْ وَرَائِهِمْ،
فَانْهَزَمَ الْحِمْصِيُّونَ، وَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَى
نِيَابَتِهَا مِنْ جِهَتِهِ زَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ الْوَلِيدِ، وَهُوَ الْوَلِيدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ، فَتَرَكَهُ بِهَا، وَاجْتَازَ عَنْهَا قَاصِدًا
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ لَا
يَمُرُّ بِبَلَدٍ إِلَّا خَرَجُوا وَقَدْ سَوَّدُوا، فَيُبَايِعُونَهُ
وَيُعْطِيهِمُ الْأَمَانَ، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى قِنَّسْرِينَ وَصَلَ إِلَيْهِ
أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ
فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَقَدْ
بَعَثَهُمُ السَّفَّاحُ مَدَدًا لَهُ، ثُمَّ سَارَ عَبْدُ اللَّهِ حَتَّى أَتَى
حِمْصَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بِعْلَبَكَّ، وَجَاءَ دِمَشْقَ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمِزَّةِ فَنَزَلَ بِهَا يَوْمَيْنِ، ثُمَّ جَاءَهُ أَخُوهُ صَالِحُ بْنُ
عَلِيٍّ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ مَدَدًا مِنَ السَّفَّاحِ فَنَزَلَ صَالِحٌ
بِمَرْجِ عَذْرَاءَ، وَلَمَّا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ نَزَلَ
عَلَى الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، وَنَزَلَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى بَابِ
الْجَابِيَةِ، وَنَزَلَ أَبُو عَوْنٍ عَلَى بَابِ كَيْسَانَ، وَبِسَامٌ عَلَى
بَابِ الصَّغِيرِ وَحُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ عَلَى بَابِ تُومَا، وَعَبْدُ
الصَّمَدِ، وَيَحْيَى بْنُ صَفْوَانَ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ عَلَى بَابِ
الْفَرَادِيسِ فَحَاصَرُوهَا أَيَّامًا، ثُمَّ افْتَتَحَهَا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا
خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَبَاحَهَا ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَهَدَمَ سُورَهَا، وَيُقَالُ:
إِنْ أَهْلَهَا لَمَّا حَاصَرَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ اخْتَلَفُوا
فِيمَا بَيْنَهُمْ، مَا بَيْنَ عَبَّاسِيٍّ وَأُمَوِيٍّ، حَتَّى اقْتَتَلُوا،
فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَتَلُوا نَائِبَهُمْ، ثُمَّ سَلَّمُوا الْبَلَدَ،
وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَ السُّورَ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ الطَّائِيُّ. وَمِنْ نَاحِيَةِ الْبَابِ
الصَّغِيرِ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أُبِيحَتْ دِمَشْقَ ثَلَاثَ
سَاعَاتٍ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ نَحْوًا مِنْ
خَمْسِينَ أَلْفًا.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَسَنِ الْأَعْرَجِ مِنْ وَلَدِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ أَمِيرًا
عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فِي حِصَارِ دِمَشْقَ،
أَنَّهُمْ أَقَامُوا مُحَاصِرِيهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ: مِائَةُ يَوْمٍ.
وَقِيلَ: شَهْرًا وَنِصْفًا. وَأَنَّ الْبَلَدَ كَانَ قَدْ حَصَّنَهُ نَائِبُ
مَرْوَانَ تَحْصِينًا
عَظِيمًا، وَلَكِنِ اخْتَلَفَ أَهْلُهَا
فِيمَا بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ الْيَمَانِيَةِ وَالْمُضَرَيَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبَ الْفَتْحِ، حَتَّى إِنَّهُمْ جَعَلُوا فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مِحْرَابَيْنِ
لِلْقِبْلَتَيْنِ، حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنْبَرَيْنِ وَإِمَامَيْنِ
يَخْطُبَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرَيْنِ، وَهَذَا مِنْ عَجِيبِ مَا
وَقَعَ، وَغَرِيبِ مَا اتَّفَقَ، وَفَظِيعِ مَا أُحْدِثَ بِسَبَبِ الْفِتْنَةِ
وَالْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ.
وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ الْحَافِظُ فِي التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَذَكَرَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
النَّوْفَلِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَوَّلَ مَا
دَخَلَ دِمَشْقَ، دَخَلَهَا بِالسَّيْفِ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ مِنَ النَّهَارِ،
وَجَعَلَ مَسْجِدَ جَامِعِهَا سَبْعِينَ يَوْمًا إِصْطَبْلًا لِدَوَابِّهِ
وَجِمَالِهِ، ثُمَّ نَبَشَ قُبُورَ بَنِي أُمَيَّةَ فَلْمْ يَجِدْ فِي قَبْرِ
مُعَاوِيَةَ إِلَّا خَيْطًا أَسْوَدَ مِثْلَ الْهَبَاءِ، وَنَبَشَ قَبْرَ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَوَجَدَ جُمْجُمَةً، وَكَانَ يُوجَدُ فِي الْقَبْرِ
الْعُضْوُ بَعْدَ الْعُضْوِ، غَيْرَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَإِنَّهُ
وَجَدَهُ صَحِيحًا لَمْ يَبْلَ مِنْهُ غَيْرُ أَرْنَبَةِ أَنْفِهِ، فَضَرَبَهُ
بِالسِّيَاطِ وَهُوَ مَيِّتٌ، وَصَلَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ،
وَدَقَّ رَمَادَهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الرِّيحِ، وَذَلِكَ أَنَّ هِشَامًا كَانَ
قَدْ ضَرَبَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ - حِينَ كَانَ قَدِ اتَّهَمَهُ
بِقَتْلِ وَلَدٍ لَهُ صَغِيرٍ - سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَى
الْحُمَيْمَةِ بِالْبَلْقَاءِ. قَالَ: ثُمَّ تَتَبَّعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيٍّ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَوْلَادِ الْخُلَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَتَلَ
مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ اثْنَيْنِ وَتِسْعِينَ نَفْسًا عِنْدَ نَهْرٍ
بِالرَّمْلَةِ وَبَسَطَ عَلَيْهِمُ الْأَنْطَاعَ، وَمَدَّ عَلَيْهِمْ سِمَاطًا،
فَأَكَلَ وَهُمْ يَخْتَلِجُونَ
تَحْتَهُ، وَأَرْسَلَ امْرَأَةَ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهِيَ عَبْدَةُ
بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ صَاحِبَةُ الْخَالِ، مَعَ
نَفَرٍ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مَاشِيَةً حَافِيَةً
حَاسِرَةً، فَمَا زَالُوا يَزْنُونَ بِهَا، ثُمَّ قَتَلُوهَا.
وَقَدِ اسْتَدْعَى بِالْأَوْزَاعِيِّ فَأُوقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَبَا عَمْرٍو مَا تَقُولُ فِي هَذَا الَّذِي صَنَعْنَا ؟ قَالَ لَهُ: لَا
أَدْرِي، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَانْتَظَرْتُ رَأْسِي
يَسْقُطُ بَيْنَ رِجْلَيَّ، ثُمَّ أُخْرِجْتُ، وَبَعَثَ إِلَيَّ بِمِائَةِ
دِينَارٍ.
وَأَقَامَ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ سَارَ
وَرَاءَ مَرْوَانَ فَنَزَلَ عَلَى نَهْرِ الْكُسْوَةِ، وَوَجَّهَ يَحْيَى بْنَ جَعْفَرٍ
الْهَاشِمِيَّ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى الْأُرْدُنِّ
فَأَتَوْهُ وَقَدْ سَوَّدُوا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَيْسَانَ، ثُمَّ سَارَ فَنَزَلَ
مَرْجَ الرُّومِ ثُمَّ أَتَى نَهْرَ أَبِي فُطْرُسَ، فَوَجَدَ مَرْوَانَ قَدْ
هَرَبَ فَدَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، وَجَاءَهُ كِتَابُ
السَّفَّاحِ أَنْ وَجِّهْ صَالِحَ بْنَ
عَلِيٍّ فِي طَلَبِ مَرْوَانَ وَيُقِيمُ هُوَ بِالشَّامِ نَائِبًا عَلَيْهَا،
فَسَارَ صَالِحٌ فِي طَلَبِ مَرْوَانَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَمَعَهُ أَبُو عَوْنٍ، وَعَامِرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَنَزَلَ عَلَى سَاحِلِ
الْبَحْرِ، وَجَمَعَ مَا هُنَاكَ مِنَ السُّفُنِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَدْ
نَزَلَ الْفَرْمَا، فَجَعَلَ يَسِيرُ عَلَى السَّاحِلِ وَالسُّفُنُ تُقَادُ مَعَهُ
فِي الْبَحْرِ حَتَّى أَتَى الْعَرِيشَ ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى النِّيلِ
ثُمَّ سَارَ إِلَى الصَّعِيدِ، فَعَبَرَ مَرْوَانُ النِّيلَ، وَقَطَعَ الْجِسْرَ
وَحَرَّقَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ، وَمَضَى صَالِحٌ فِي
طَلَبِهِ، فَالْتَقَى بِخَيْلٍ لِمَرْوَانَ فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّمَا
الْتَقَوْا مَعَ خَيْلٍ لِمَرْوَانَ يَهْزِمُونَهُمْ، حَتَّى سَأَلُوا بَعْضَ مَنْ
أَسَرُوا عَنْ مَرْوَانَ فَدَلُّوهُمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا بِهِ فِي كَنِيسَةِ
بُوصِيرَ، فَوَافَوْهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، فَانْهَزَمَ مَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجُنْدِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانُ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ
حَتَّى قَتَلُوهُ ; طَعَنَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ:
مِغْوَدٌ. وَلَا يَعْرِفُهُ، حَتَّى قَالَ رَجُلٌ: صُرِعَ أَمِيَرُ
الْمُؤْمِنِينَ. فَابْتَدَرَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ كَانَ
يَبِيعُ الرُّمَّانَ، فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، فَبَعَثَ بِهِ عَامِرُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ أَمِيُرُ هَذِهِ السَّرِيَّةِ إِلَى أَبِي عَوْنٍ فَبَعَثَ بِهِ
أَبُو عَوْنٍ إِلَى صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ فَبَعَثَ بِهِ صَالِحٌ مَعَ رَجُلٍ
يُقَالُ لَهُ: خُزَيْمَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ هَانِئٍ. كَانَ عَلَى شُرْطَتِهِ،
إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّفَّاحِ.
وَكَانَ مَقْتَلُ مَرْوَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْهَا سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسَ
سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، عَلَى الْمَشْهُورِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّهِ يَوْمَ
قُتِلَ ; فَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: سِتٌّ - وَقِيلَ: ثَمَانٌ -
وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: سِتُّونَ. وَقِيلَ: اثْنَتَانِ - وَقِيلَ: ثَلَاثٌ.
وَقِيلَ: تِسْعٌ - وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ صَالِحَ بْنَ عَلِيٍّ سَارَ إِلَى الشَّامِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
مِصْرَ أَبَا عَوْنِ بْنَ يَزِيدَ.
وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ
هُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ
بْنِ أُمَيَّةَ، الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ، أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ كُرْدِيَّةٌ يُقَالُ
لَهَا: لُبَابَةَ. وَكَانَتْ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ
أَخَذَهَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمَ قَتَلَهُ، فَاسْتَوْلَدَهَا مَرْوَانَ
هَذَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقَدْ
كَانَتْ دَارُ مَرْوَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْأَكَّافِينَ. قَالَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ قَتْلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، وَبَعْدَ
مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَخَلَعَ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ فِي النِّصْفِ مِنْ
صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ،
وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: مَرْوَانُ الْجَعْدِيُّ، نِسْبَةً إِلَى رَأْيِ الْجَعْدِ
بْنِ دِرْهَمٍ، وَيُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَلَكَ مِنْ بَنِي
أُمَيَّةَ كَانَتْ خِلَافَتُهُ مُنْذُ سَلَّمَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْوَلِيدِ إِلَى أَنْ بُويِعَ لِلسَّفَّاحِ خَمْسَ سِنِينَ وَشَهْرًا، وَبَقِيَ مَرْوَانُ
بَعْدَ بَيْعَةِ السَّفَّاحِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا، أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، كَبِيرَ اللِّحْيَةِ، ضَخْمَ
الْهَامَةِ، رَبْعَةً، وَلَمْ يَكُنْ يُخَضِّبُ. وَلَّاهُ هِشَامٌ نِيَابَةَ
أَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ وَالْجَزِيرَةَ فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
وَمِائَةٍ، فَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً وَحُصُونًا مُتَعَدِّدَةً فِي سِنِينَ
كَثِيرَةٍ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ الْغَزْوَ، قَاتَلَ طَوَائِفَ مِنَ النَّاسِ
وَالتَّرْكِ وَالْخَزَرِ وَاللَّانِ وَغَيْرِهِمْ، فَكَسَرَهُمْ وَقَهَرَهُمْ،
وَقَدْ كَانَ شُجَاعًا، بَطَلًا مِقْدَامًا، حَازِمَ الرَّأْيِ، وَلَكِنْ مَنْ
يَخْذُلِ اللَّهَ يُخْذَلْ.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:
كَانَ بَنُو أُمَيَّةَ يَرَوْنَ أَنَّهُ تَذْهَبُ مِنْهُمُ الْخِلَافَةُ إِذَا
وَلِيَهَا مَنْ أُمُّهُ أَمَةٌ، فَلَمَّا وَلِيَهَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ
كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً، فَأُخِذَتِ الْخِلَافَةُ مِنْ يَدِهِ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ لِأَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ،
أَنَا سَهْلُ بْنُ بِشْرٍ، أَنَا الْخَلِيلُ بْنُ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْخَلِيلِ،
أَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الْكِلَابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْجَهْمِ أَحْمَدُ
بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ صُبْحٍ، ثَنَا عَبَّاسُ
بْنُ نَجِيحٍ أَبُو الْحَارِثِ، حَدَّثَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي
رَاشِدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَزَالُ الْخِلَافَةُ فِي بَنِي
أُمَيَّةَ يَتَلَقَّفُونَهَا تَلَقُّفَ الْغِلْمَانِ الْأُكْرَةَ، فَإِذَا
خَرَجَتْ مِنْهُمْ فَلَا خَيْرَ فِي عَيْشٍ. هَكَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
وَسَكَتَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا.
وَقَدْ سَأَلَ الرَّشِيدُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ: مَنْ خَيْرُ الْخُلَفَاءِ ;
نَحْنُ أَمْ بَنُو أُمَيَّةَ ؟ فَقَالَ: هُمْ كَانُوا أَنْفَعَ لِلنَّاسِ،
وَأَنْتُمْ أَقْوَمُ بِالصَّلَاةِ. فَأَعْطَاهُ سِتَّةَ آلَافٍ.
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ، كَثِيرَ الْعُجْبِ، يُعْجِبُهُ
اللَّهْوَ وَالطَّرَبَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَشْتَغِلُ عَنْ ذَلِكَ بِالْحَرْبِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قَرَأْتُ بِخَطِّ أَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُقَلَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُنْقِذٍ الْأَمِيرِ فِي مَجْمُوعٍ لَهُ: كَتَبَ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى جَارِيَةٍ لَهُ تَرَكَهَا بِالرَّمْلَةِ عِنْدَ
انْزِعَاجِهِ إِلَى مِصْرَ مُنْهَزِمًا:
وَمَا زَالَ يَدْعُونِي إِلَى
الصَّبْرِ مَا أَرَى فَآبَى وَيُدْنِينِي الَّذِي لَكَ فِي صَدْرِي وَكَانَ
عَزِيزًا أَنْ تَبِيتِي وَبَيْنَنَا
حِجَابٌ فَقَدْ أَمْسَيْتِ مِنِّي عَلَى عَشْرِ وَأَنْكَاهُمَا وَاللَّهِ
لِلْقَلْبِ فَاعْلَمِي
إِذَا زِدْتُ مِثْلَيْهَا فَصِرْتُ عَلَى شَهْرِ وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَيْنِ
وَاللَّهِ أَنَّنِي
أَخَافُ بِأَنْ لَا نَلْتَقِي آخِرَ الدَّهْرِ سَأَبْكِيكِ لَا مُسْتَبْقِيًا
فَيْضَ عَبْرَةٍ
وَلَا طَالِبًا بِالصَّبْرِ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اجْتَازَ مَرْوَانُ وَهُوَ هَارِبٌ بِرَاهِبٍ، فَاطَّلَعَ
عَلَيْهِ الرَّاهِبُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَاهِبُ، هَلْ
عِنْدَكَ عِلْمٌ بِالزَّمَانِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، عِنْدِي مِنْ تَلَوُّنِهِ
أَلْوَانٌ. قَالَ: هَلْ تَبْلُغُ الدُّنْيَا مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ تَجْعَلَهُ
مَمْلُوكًا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ ؟ قَالَ: تُحِبُّهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَنْتَ مَمْلُوكٌ لَهَا. قَالَ: فَمَا السَّبِيلُ فِي الْعِتْقِ ؟ قَالَ:
بُغْضُهَا وَالتَّخَلِّي عَنْهَا. قَالَ: هَذَا مَا لَا يَكُونُ. قَالَ
الرَّاهِبُ: أَمَّا تَخَلِّيهَا مِنْكَ فَسَيَكُونُ، فَبَادِرْ بِالْهَرَبِ
مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تُبَادِرَكَ. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ: نَعَمْ،
أَنْتَ مِلْكُ الْعَرَبِ مَرْوَانُ تُقْتَلُ فِي بِلَادِ السُّودَانِ وَتُدْفَنُ
بِلَا أَكْفَانِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَوْتَ فِي طَلَبِكَ، لَدَلَلْتُكَ عَلَى
مَوْضِعِ هَرَبِكَ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ: كَانَ يُقَالُ: يَقْتُلُ ع بْنُ ع بْنِ ع
بْنِ ع م بْنَ م بْنِ م. يَعْنُونَ يَقْتُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَلَسَ مَرْوَانُ يَوْمًا وَقَدْ أُحِيطَ بِهِ، وَعَلَى
رَأْسِهِ خَادِمٌ لَهُ
قَائِمٌ، فَقَالَ مَرْوَانُ يَوْمًا
لِبَعْضِ مَنْ يُخَاطِبُهُ: أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ ؟ لَهْفِي عَلَى أَيْدٍ
مَا ذُكِرَتْ، وَنِعَمٍ مَا شُكِرَتْ، وَدَوْلَةٍ مَا نُصِرَتْ. فَقَالَ لَهُ
الْخَادِمُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ تَرَكَ الْقَلِيلَ حَتَّى يَكْثُرَ،
وَالصَّغِيرَ حَتَّى يَكْبُرَ، وَالْخَفِيَّ حَتَّى يَظْهَرَ، وَأَخَّرَ فِعْلَ
الْيَوْمِ لِغَدٍ، حَلَّ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا. فَقَالَ مَرْوَانُ: هَذَا
الْقَوْلُ أَشُدُّ عَلَيَّ مِنْ فَقْدِ الْخِلَافَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ قُتِلَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ
جَاوَزَ السِّتِّينَ، وَبَلَغَ الثَّمَانِينَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي
أُمَيَّةَ بِهِ انْقَضَتْ دَوْلَتُهُمْ.
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي انْقِضَاءِ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَابْتِدَاءِ دَوْلَةِ
بَنِي الْعَبَّاسِ مِنَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا
قَالَ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا بَلَغَ
بَنُو أَبِي الْعَاصِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَغَلًا،
وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا. وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنْ
عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ.
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي
قَبِيلٍ عَنِ ابْنِ مُوهِبٍ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ
مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، فَكَلَّمَهُ فِي حَاجَةٍ، فَقَالَ: اقْضِ حَاجَتِي
فَإِنِّي لَأَبُو عَشَرَةٍ، وَعَمُّ عَشَرَةٍ وَأَخُو عَشَرَةٍ. فَلَمَّا أَدْبَرَ
مَرْوَانُ قَالَ مُعَاوِيَةُ، لِابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ:
أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِذَا بَلَغَ بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ
بَيْنَهُمْ دُوَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا، وَكِتَابَ اللَّهِ دَغَلًا،
فَإِذَا بَلَغُوا سَبْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعَمِائَةٍ، كَانَ هَلَاكُهُمْ
أَسْرَعَ مِنْ لَوْكِ تَمْرَةٍ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.
قَالَ: وَذَكَرَ مَرْوَانُ حَاجَةً لَهُ فَرَدَّ مَرْوَانُ عَبْدَ الْمَلِكِ إِلَى
مُعَاوِيَةَ فَكَلَّمَهُ فِيهَا، فَلَمَّا أَدْبَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ
مُعَاوِيَةُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ هَذَا فَقَالَ: "
أَبُو الْجَبَابِرَةِ الْأَرْبَعَةِ " ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّهُمَّ
نَعَمْ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِىُّ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ،
ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مَازِنٍ الرَّاسِبِيُّ قَالَ:قَامَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَمَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بَنِي أُمَيَّةَ
يَخْطُبُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ رَجُلًا رَجُلًا، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [ الْكَوْثَرِ: 1 ]. وَهُوَ نَهْرٌ فِي
الْجَنَّةِ، وَنَزَلَتْ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا
أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
[ الْقَدْرِ: 1 - 3 ] يَمْلِكُهُ بَنُو أُمَيَّةَ. قَالَ: فَحَسَبْنَا ذَلِكَ، فَإِذَا هُوَ كَمَا قَالَ، لَا يَزِيدُ يَوْمًا وَلَا يَنْقُصُ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ وَهُوَ ثِقَةٌ، وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ. قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ وَيُقَالُ: يُوسُفُ بْنُ مَازِنٍ. رَجُلٌ مَجْهُولٌ، وَلَا يُعْرَفُ هَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرِكِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ الْحَدَّانِيِّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ عَلَى نَكَارَةِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " التَّفْسِيرِ " بِكَلَامٍ مَبْسُوطٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ أَنْ يَكُونَ دَوْلَةُ بَنِي أُمَيَّةَ أَلْفَ شَهْرٍ، إِذَا أُسْقِطَ مِنْهَا أَيَّامُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بُويِعَ لَهُ مُسْتَقِلًّا بِالْمُلْكِ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَهِيَ عَامُ الْجَمَاعَةِ حِينَ سَلَّمَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَمْرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ قَتْلِ عَلِيٍّ ثُمَّ زَالَتِ الْخِلَافَةُ عَنْ بَنِي أُمَيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَإِذَا أُسْقِطَ مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ بَقِيَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَهِيَ مُقَارِبَةٌ لِمَا وَرَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُطَوَّلًا فِي " التَّفْسِيرِ "، وَتَقَدَّمُ فِي الدَّلَائِلِ أَيْضًا تَقْرِيرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ يَصْعَدُونَ مِنْبَرِي،
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَأُنْزِلَتْ: " إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ ". فِيهِ ضَعْفٌ وَإِرْسَالٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الْإِسْرَاءِ: 60 ] قَالَ: رَأَى
نَاسًا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّمَا هِيَ دُنْيَا يُعْطَوْنَهَا. فَسُرِّيَ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فُلَانًا، وَهُوَ بَعْضُ بَنِي
أُمَيَّةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 111 ] يَقُولُ: هَذَا الْمُلْكُ فِتْنَةٌ لَكُمْ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ سَمِعْتُ أَبَا الْجَوْزَاءِ يَقُولُ: وَاللَّهِ
لَيُغَيِّرَنَّ اللَّهُ مُلْكَ
بَنِي أُمَيَّةَ كَمَا غَيَّرَ مُلْكَ
مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [ آلِ عِمْرَانَ: 140 ] فِيهِ ضَعْفٌ وَإِرْسَالٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ سَيْفٍ،
مَوْلًى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ
وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ - وَذَكَرُوا بَنِي أُمَيَّةَ - فَقَالَ: لَا يَكُونُ
هَلَاكُهُمْ إِلَّا بَيْنَهُمْ. قَالُوا: كَيْفَ ؟ قَالَ: يَهْلَكُ خُلَفَاؤُهُمْ،
وَيَبْقَى شِرَارُهُمْ، فَيَتَنَافَسُونَهَا، ثُمَّ يَكْثُرُ النَّاسُ عَلَيْهِمْ
فَيُهْلِكُونَهُمْ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْرَقِيُّ،
ثَنَا الزِّنْجِيُّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ:رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ بَنِي الْحَكَمِ - أَوْ بَنِي أَبِي الْعَاصِ -
يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي كَمَا تَنْزُو الْقِرَدَةُ. قَالَ: فَمَا رُئِيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا حَتَّى
تُوُفِّيَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ:
حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ
أَبِي الْحَسَنِ، هُوَ الْحِمْصِيُّ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، قَالَ:جَاءَ الْحَكَمُ بْنُ
أَبِي الْعَاصِ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ كَلَامَهُ، فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، حَيَّةٌ أَوْ وَلَدُ
حَيَّةٍ، عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَعَلَى مَنْ يَخْرُجُ مَنْ صُلْبِهِ إِلَّا
الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، يُشَرَّفُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَوْضُعُونَ
فِي الْآخِرَةِ، ذَوُو مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ، يُعَظَّمُونَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَ أَبُو الْقَاسِمِ عَامِرُ بْنُ خُرَيْمِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ الدِّمَشْقِيُّ، أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ هِشَامِ بْنِ مَلَاسٍ، ثَنَا أَبُو النَّضِرِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
يَزِيدَ مَوْلَى أَمِّ الْحِكَمِ بِنْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أُخْتِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِ أُمِّ
حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ فَنَحَبَ ثُمَّ تَبَسَّمَ، فَقَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ نَحَبْتَ ثُمَّ تَبَسَّمْتَ. فَقَالَ: رَأَيْتُ
بَنِي مَرْوَانَ يَتَعَاوُرُونَ عَلَى مِنْبَرِي، فَسَاءَنِي ذَلِكَ، ثُمَّ
رَأَيْتُ بَنِي الْعَبَّاسِ يَتَعَاوُرُونَ عَلَى مِنْبَرِي، فَسَرَّنِي ذَلِكَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ الْمَعِيطِيِّ، عَنْ أَبَانَ بْنِ
الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مَعِيطٍ قَالَ: قَدِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى
مُعَاوِيَةَ وَأَنَا حَاضِرٌ، فَأَجَازَهُ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ، ثُمَّ قَالَ:
يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، هَلْ تَكُونُ لَكُمْ دَوْلَةٌ ؟ فَقَالَ: أَعَفِنِي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَتُخْبِرَنِّي. قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ
أَنْصَارُكُمْ ؟ قَالَ: أَهْلُ خُرَاسَانَ وَلِبَنِي أُمَيَّةَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
نَطَحَاتٍ.
وَقَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقُولُ: يَكُونُ مِنَّا ثَلَاثَةٌ أَهْلَ الْبَيْتِ: السَّفَّاحُ،
وَالْمَنْصُورُ، وَالْمَهْدِيُّ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَرَوَاهُ الْأَعْمَشُ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: كَمَا افْتَتَحَ اللَّهُ بِأَوَّلِنَا فَأَرْجُو أَنْ يَخْتِمَهُ
بِنَا. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَذَا وَقَعَ وَيَقَعُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي عِنْدَ انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ
وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ، يُقَالُ لَهُ: السَّفَّاحُ. يُعْطِي الْمَالَ حَثْيًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ،
عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ
أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:يَقْتَتِلُ
عِنْدَ كَنْزِكُمْ هَذِهِ ثَلَاثَةٌ، كُلُّهُمْ وَلَدُ خَلِيفَةٍ، لَا تَصِيرُ
إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ تُقْبِلُ الرَّايَاتُ السُّودُ مِنْ خُرَاسَانَ،
فَيَقْتُلُونَكُمْ مَقْتَلَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا - ثُمَّ ذَكَرَ شَيْئًا -
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَأْتُوهُ وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الثَّلْجِ، فَإِنَّهُ
خَلِيفَةُ اللَّهِ الْمَهْدِيُّ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ثَوْبَانَ فَوَقَفَهُ،
وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ غَيْلَانَ، وَقُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ قَالَا: ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ
يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ قَبِيصَةَ هُوَ ابْنُ ذُؤَيْبٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ:يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ، لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى
تُنْصَبَ بِإِيلِيَاءَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ
حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ الْمِصْرِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ
رُوِيَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَهُوَ أَشْبَهُ.
ثُمَّ قَالَ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا مُحَدِّثٌ، عَنْ
أَبِي الْمُغِيرَةِ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ
عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: تَظْهَرُ رَايَاتٌ سُودٌ لِبَنِي الْعَبَّاسِ
حَتَّى يَنْزِلُوا الشَّامَ، وَيَقْتُلُ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ كُلَّ جَبَّارٍ
وَعَدُوٍّ لَهُمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ عَنِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ
عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْعَامِرِيِّ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْعَبَّاسِ: فِيكُمُ
النُّبُوَّةُ وَفِيكُمُ الْمَمْلَكَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
أَبِي قُرَّةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ
مَوْلَى الْعَبَّاسِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُكُنْتُ: عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: انْظُرْ هَلْ
تَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ شَيْءٍ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا تَرَى ؟ قُلْتُ:
الثُّرَيَّا. قَالَ: أَمَّا إِنَّهُ سَيَمْلِكُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِعَدَدِهَا
مِنْ صُلْبِكَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: عُبَيْدُ بْنُ أَبِي قُرَّةَ لَا يُتَابَعُ
عَلَى حَدِيثِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ
تَمِيمٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مَهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَرْتُ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ وَأَنَا
أَظُنُّهُ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ فَقَالَ جِبْرِيلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَوَسِخُ الثِّيَابِ، وَسَيَلْبِسُ وَلَدُهُ
مِنْ بَعْدِهِ السَّوَادَ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ
شِعَارَ بَنِي الْعَبَّاسِ كَانَ السَّوَادَ، وَأَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ دُخُولِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ
وَعَلَى رَأْسِهِ
عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَتَيَمَّنُوا
بِذَلِكَ، وَجَعَلُوهُ شِعَارَهُمْ فِي الْجُمَعِ وَالْخُطَبِ وَالْأَعْيَادِ
وَالْمَحَافِلِ، وَكَذَلِكَ كَانَ جُنْدُهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى
أَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ السَّوَادِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلْبَسُهُ الْمُلُوكُ
لِلْأُمَرَاءِ حِينَ يَخْلَعُ عَلَيْهِمْ بِالْإِمْرَةِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَلْبَسَ
شَيْئًا مِنَ السَّوَادِ وَهُوَ الشَّرْبُوشُ، وَكَذَلِكَ دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ دَخَلَ دِمَشْقَ وَهُوَ لَابِسٌ السَّوَادَ، فَجَعَلَ
النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ يَعْجَبُونَ مِنْ لِبَاسِهِ، وَكَانَ دُخُولُهُ مِنْ
بَابِ كَيْسَانَ، وَقَدْ خَطَبَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصَلَّى بِهِمْ
وَعَلَيْهِ السَّوَادُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِ الْخُرَاسَانِيِّينَ قَالَ:
لَمَّا خَطَبَ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِدِمَشْقَ وَتَقَدَّمَ
بِالنَّاسِ فَصَلَّى ; صَلَّى رَجُلٌ إِلَى جَانِبِي، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ،
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ،
وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. ثُمَّ قَالَ، وَنَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ:
مَا أَقْبَحَ وَجْهَكَ وَأَشْنَعَ سَوَادَكَ ! وَمَا زَالَ السَّوَادُ شِعَارَهُمْ
إِلَى يَوْمِكَ هَذَا، كَمَا يَلْبَسُهُ الْخُطَبَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
ذِكْرُ اسْتِقْلَالِ أَبِي الْعَبَّاسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْمُلَقَّبِ بِالسَّفَّاحِ، وَمَا اعْتَمَدَهُ
فِي أَيَّامِهِ مِنَ السِّيرَةِ الْحَسَنَةِ وَالْعَدَالَةِ التَّامَّةِ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ أَوَّلَ مَا بُويِعَ بِهَا
بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ - وَقِيلَ:
الْأَوَّلُ - مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ،
ثُمَّ جَرَّدَ الْجُيُوشَ نَحْوَ مَرْوَانَ الْحِمَارِ فَطَرَدُوهُ مِنْ
مَمَالِكِهِ وَأَجْلَوْهُ عَنْهَا، وَمَا زَالُوا وَرَاءَهُ حَتَّى قَتَلُوهُ
بِبُوصِيرَ مِنْ بِلَادِ الصَّعِيدِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فِي الْعَشْرِ
الْأَخِيرَةِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ وَبَسْطُهُ، وَحِينَئِذٍ اسْتَقَلَّ بِالْخِلَافَةِ
السَّفَّاحُ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْحِجَازِ
وَالشَّامِ وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، لَكِنْ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى بِلَادِ
الْأَنْدَلُسِ وَلَا عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ
دَخَلَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَيْهَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ.
وَقَدْ خَرَجَ عَلَى السَّفَّاحِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ طَوَائِفُ، فَمِنْهُمْ
أَهْلُ قِنَّسْرِينَ بَعْدَمَا بَايَعُوهُ عَلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيٍّ وَأَقَرَّ عَلَيْهِمْ أَمِيرُهُمْ، وَهُوَ أَبُو الْوَرْدِ مَجْزَأَةُ
بْنُ الْكَوْثَرِ بْنِ زُفَرَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ وَكَانَ مِنْ
أَصْحَابِ مَرْوَانَ وَأُمَرَائِهِ، فَخَلَعَ السَّفَّاحَ وَلَبِسَ الْبَيَاضَ،
وَحَمَلَ أَهْلَ الْبَلَدِ عَلَى ذَلِكَ فَوَافَقُوهُ، وَكَانَ السَّفَّاحُ
يَوْمَئِذٍ بِالْحِيرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ مَشْغُولٌ بِالْبَلْقَاءِ
يُقَاتِلُ بِهَا حَبِيبَ بْنَ مُرَّةَ الْمُرِّيَّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ
الْبَلْقَاءِ وَالْبَثَنِيَّةِ وَحَوْرَانَ عَلَى خَلْعِ السَّفَّاحِ وَبَيَّضَ،
فَلَمَّا بَلَغَهُ عَنْ أَهْلِ قِنَّسْرِينَ مَا فَعَلُوا صَالَحَ حَبِيبَ بْنَ
مُرَّةَ وَرَكِبَ نَحْوَ قِنَّسْرِينَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِدِمَشْقَ - وَكَانَ
بِهَا أَهْلُهُ وَثِقَلُهُ - اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا أَبَا غَانِمٍ عَبْدَ
الْحَمِيدِ بْنَ رِبْعِيٍّ الطَّائِيَّ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا جَاوَزَ
الْبَلَدَ، وَانْتَهَى إِلَى حِمْصَ نَهَضَ أَهْلُ دِمَشْقَ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ
لَهُ: عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ سُرَاقَةَ. فَخَلَعُوا
السَّفَّاحَ وَبَيَّضُوا، وَقَاتَلُوا أَبَا غَانِمٍ فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْتَهَبُوا ثِقَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَحَوَاصِلِهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِأَهْلِهِ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ تَرَاسَلُوا مَعَ أَهْلِ حِمْصَ وَتَدْمُرَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَبَايَعُوهُ عَلَيْهِمْ بِالْخِلَافَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَصَدَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ فَالْتَقَوْا بِمَرْجِ الْأَخْرَمِ، فَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ أَخَاهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الْفُرْسَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ مُقَدِّمَةِ السُّفْيَانِيِّ، وَعَلَيْهَا أَبُو الْوَرْدِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهَزَمُوا عَبْدَ الصَّمَدِ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أُلُوفٌ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَمَعَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ بِمَنْ مَعَهُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَعَلَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يَفِرُّونَ وَهُوَ ثَابِتٌ هُوَ وَحُمَيْدٌ، وَمَا زَالَ حَتَّى هُزِمَ أَصْحَابُ أَبِي الْوَرْدِ، وَثَبَتَ أَبُو الْوَرْدِ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَقَوْمِهِ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا، وَهَرَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى لَحِقُوا بِتَدْمُرَ وَآمَنَ عَبْدُ اللَّهِ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ وَسَوَّدُوا وَبَايَعُوا وَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ، وَقَدْ بَلَغَهُ مَا صَنَعُوا، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا تَفَرَّقُوا عَنْهَا وَهَرَبُوا مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قِتَالٌ، فَأَمَّنَهُمْ وَدَخَلُوا فِي الطَّاعَةِ وَسَوَّدُوا ; مُوَافَقَةً لِلْخَلِيفَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ، فَإِنَّهُ مَا زَالَ مُتَغَيِّبًا مُشَتَّتًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ حَتَّى لَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ فَقَاتَلَهُ نَائِبُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فِي أَيَّامِهِ، فَقَتَلَهُ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ وَبِابْنَيْنِ لَهُ أَخَذَهُمَا أَسِيرَيْنِ فَأَطْلَقَهُمَا أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَخَلَّى
سَبِيلَهُمَا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ
وَقْعَةَ أَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ كَانَتْ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ آخِرَ
يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ خَلَعَ السَّفَّاحَ أَيْضًا أَهْلُ الْجَزِيرَةِ ; حِينَ بَلَغَهُمْ
أَنَّ أَهْلَ قِنَّسْرِينَ خَلَعُوا، وَافَقُوهُمْ وَبَيَّضُوا، وَرَكِبُوا إِلَى
نَائِبِ حَرَّانَ مِنْ جِهَةِ السَّفَّاحِ - وَهُوَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ - وَكَانَ
فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ قَدِ اعْتَصَمَ بِالْبَلَدِ، فَحَاصَرُوهُ قَرِيبًا مِنْ
شَهْرَيْنِ، ثُمَّ بَعَثَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ فِيمَنْ
كَانَ بِوَاسِطَ مُحَاصِرِي ابْنِ هُبَيْرَةَ فَمَرَّ فِي مِسِيرِهِ إِلَى
حَرَّانَ بِقَرْقِيسِيَا وَقَدْ بَيَّضُوا، فَغَلَّقُوا أَبْوَابَهَا دُونَهُ،
ثُمَّ مَرَّ بِالرَّقَّةِ وَعَلَيْهَا بِكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ وَهُمْ كَذَلِكَ،
ثُمَّ جَاءَ حَرَّانَ وَعَلَيْهَا إِسْحَاقُ بْنُ مُسْلِمٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ
أَهْلِ الْجَزِيرَةِ يُحَاصِرُونَهَا، فَرَحَلَ إِسْحَاقُ عَنْهَا إِلَى الرُّهَا،
وَخَرَجَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنْدِ حَرَّانَ، فَتَلَقَّوْا
أَبَا جَعْفَرٍ وَدَخَلُوا فِي جَيْشِهِ، وَقَدِمَ بَكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ عَلَى
أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ مُسْلِمٍبِالرُّهَا فَوَجَّهَهُ إِلَى جَمَاعَةِ رَبِيعَةَ
بَدَارَا وَمَارِدِينَ، وَرَئِيسُهُمْ حَرُورِيٌّ يُقَالُ لَهُ: بَرِيكَةُ.
فَصَارُوا حِزْبًا وَاحِدًا، فَقَصَدَ إِلَيْهِمْ أَبُو جَعْفَرٍ فَقَاتَلَهُمْ
قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ بَرِيكَةَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَهَرَبَ بَكَّارٌ
إِلَى أَخِيهِ بِالرُّهَا فَاسْتَخْلَفَهُ بِهَا، وَمَضَى فِي عُظْمِ الْعَسْكَرِ
إِلَى سُمَيْسَاطَ، فَخَنْدَقَ عَلَى عَسْكَرِهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو جَعْفَرٍ
فَحَاصَرَ بَكَّارًا بِالرُّهَا وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ وَقَعَاتٌ، وَكَتَبَ
السَّفَّاحُ إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَنْ يَسِيرَ إِلَى
سُمَيْسَاطَ، وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ مُسْلِمٍ سِتُّونَ أَلْفًا
مِنْ أَهْلِ
الْجَزِيرَةِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ
فَكَاتَبَهُمْ إِسْحَاقُ وَطَلَبَ مِنْهُمُ الْأَمَانَ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ
عَلَى إِذَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السَّفَّاحِ، وَوَلَّى السَّفَّاحُ أَخَاهُ
أَبَا جَعْفَرٍ الْجَزِيرَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَإِرْمِينِيَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ
عَلَيْهَا حَتَّى وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَخِيهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ إِسْحَاقَ
بْنَ مُسْلِمٍ الْعَقِيلِيَّ إِنَّمَا طَلَبَ الْأَمَانَ لَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّ
مَرْوَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ قُتِلَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ
وَهُوَ مُحَاصَرٌ، وَقَدْ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
فَآمَنَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ذَهَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ
السَّفَّاحِ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَهُوَ أَمِيرُهَا، لِيَسْتَطْلِعَ
رَأْيَهُ فِي قَتْلِ أَبِي سَلَمَةَ حَفْصِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَزِيرِ، وَكَانَ
سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السَّفَّاحَ سَمَرَ لَيْلَةً مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ،
فَتَذَاكَرُوا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي سَلَمَةَ حِينَ كَانَ أَرَادَ أَنْ
يَصْرِفَ الْخِلَافَةَ عَنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، فَسَأَلَ سَائِلٌ: هَلْ كَانَ
ذَلِكَ عَنْ مُمَالَأَةِ أَبِي مُسْلِمٍ لَهُ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ فَسَكَتَ
الْقَوْمُ، فَقَالَ السَّفَّاحُ: لَئِنْ كَانَ هَذَا عَنْ رَأْيِهِ إِنَّا
لَبِعَرْضِ بَلَاءٍ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ اللَّهُ عَنَّا. قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ: فَقَالَ لِي أَخِي: مَا تَرَى ؟ فَقُلْتُ: الرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ:
لَيْسَ أَحَدٌ أَخَصُّ بِأَبِي مُسْلِمٍ مِنْكَ، فَاذْهَبْ إِلَيْهِ فَاعْلَمْ
عِلْمَهُ، فَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيِهِ احْتَلْنَا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ
رَأْيِهِ طَابَتْ أَنْفُسُنَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ
قَاصِدًا عَلَى وَجَلٍ، فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَى الرَّيِّ إِذَا كِتَابُ أَبِي
مُسْلِمٍ إِلَى نَائِبِهَا يَسْتَحِثُّنِي إِلَيْهِ فِي السَّيْرِ، فَازْدَدْتُ
وَجَلًا، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى نَيْسَابُورَ إِذَا كِتَابُهُ يَسْتَحِثُّنِي
أَيْضًا، وَقَالَ لِنَائِبِهَا: لَا تَدْعْهُ يُقِيمُ سَاعَةً وَاحِدَةً ; فَإِنَّ
أَرْضَكَ بِهَا خَوَارِجُ. فَانْشَرَحْتُ لِذَلِكَ، فَلَمَّا صِرْتُ مِنْ مَرْوَ
عَلَى فَرْسَخَيْنِ، أَتَى يَتَلَقَّانِي وَمَعَهُ النَّاسُ، فَلَمَّا وَاجَهَنِي
تَرَجَّلَ
وَجَاءَ فَقَبَّلَ يَدِي، فَأَمَرْتُهُ
فَرَكِبَ، فَلَمَّا دَخَلْتُ مَرْوَ نَزَلْتُ فِي دَارٍ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا لَا
يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ سَأَلَنِي: مَا
أَقْدَمَكَ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَفْعَلَهَا أَبُو سَلَمَةَ ؟ ! أَنَا
أَكْفِيكُمُوهُ. فَدَعَا مَرَّارَ بْنَ أَنَسٍ الضَّبِّيَّ فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى
الْكُوفَةِ فَحَيْثُ لَقِيتَ أَبَا سَلَمَةَ فَاقْتُلْهُ، وَانْتَهِ فِي ذَلِكَ
إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ. فَقَدِمَ مَرَّارٌ الْكُوفَةَ الْهَاشِمِيَّةَ، وَكَانَ
أَبُو سَلَمَةَ يَسْمُرُ عِنْدَ السَّفَّاحِ، فَلَمَّا خَرَجَ قَتَلَهُ مَرَّارٌ
وَشَاعَ أَنَّ الْخَوَارِجَ قَتَلُوهُ، وَغُلِّقَتِ الْبَلَدُ، ثُمَّ صَلَّى
عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَخُو أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَدُفِنَ
بِالْهَاشِمِيَّةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ. وَيُقَالُ
لِأَبِي مُسْلِمٍ: أَمِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْوَزِيرَ وَزِيرَ آلِ مُحَمَّدِ أَوْدَى فَمَنْ يَشْنَاكَ كَانْ وَزِيرَا
وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا سَارَ أَبُو جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بَعْدَ
مَقْتَلِ أَبِي سَلَمَةَ وَإِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ كَانَ مَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا،
مِنْهُمُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ
فِي جَمَاعَةٍ مِنَ السَّادَاتِ. وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ خُرَاسَانَ
قَالَ لِأَخِيهِ السَّفَّاحِ: لَسْتَ بِخَلِيفَةٍ مَا دَامَ أَبُو مُسْلِمٍ حَيًّا
حَتَّى تَقْتُلَهُ. لَمَّا رَأَى مِنْ طَاعَةِ الْجَيْشِ وَالْأُمَرَاءِ لَهُ،
فَقَالَ لَهُ السَّفَّاحُ: اكْتُمْهَا. فَسَكَتَ.
وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْ خُرَاسَانَ بَعَثَهُ أَخُوهُ إِلَى حِصَارِ
ابْنِ هُبَيْرَةَ بِوَاسِطَ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ
أَخَذَهَ مَعَهُ، فَلَمَّا أُحِيطَ بِابْنِ هُبَيْرَةَ كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لِيُبَايِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَأَبْطَأَ
عَلَيْهِ جَوَابَهُ، فَمَالَ إِلَى مُصَالَحَةِ أَبِي جَعْفَرٍ فَاسْتَأْذَنَ
أَبُو جَعْفَرٍ أَخَاهُ السَّفَّاحَ فِي ذَلِكَ، فَأَذِنَ لَهُ فِي
الْمُصَالَحَةِ، فَكَتَبَ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ كِتَابًا بِالصُّلْحِ، فَمَكَثَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يُشَاوِرُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ خَرَجَ يَزِيدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ هُبَيْرَةَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْبُخَارِيَّةِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ سُرَادِقِ أَبِي جَعْفَرٍ هَمَّ أَنْ يَدْخُلَ بِفَرَسِهِ، فَقَالَ الْحَاجِبُ سَلَّامٌ: انْزِلْ أَبَا خَالِدٍ. فَنَزَلَ، وَكَانَ حَوْلَ السُّرَادِقِ عَشَرَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ فَقَالَ: أَنَا وَمَنْ مَعِي ؟ قَالَ: لَا، بَلْ أَنْتَ وَحْدَكَ. فَدَخَلَ وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةٌ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا، فَحَادَثَهُ أَبُو جَعْفَرٍ سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَتْبَعَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بَصَرَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَأْتِيهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ وَثَلَاثِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لِلْحَاجِبِ: مُرْهُ فَلْيَأْتِ فِي حَاشِيَتِهِ. فَكَانَ يَأْتِي فِي ثَلَاثِينَ نَفْسًا، فَقَالَ الْحَاجِبُ: كَأَنَّكَ تَأْتِي مُتَأَهِّبًا ؟ فَقَالَ: لَوْ أَمَرْتُمُونَا بِالْمَشْيِ لَمَشَيْنَا إِلَيْكُمْ. ثُمَّ كَانَ يَأْتِيهِ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ. وَقَدْ خَاطَبَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَوْمًا لِأَبِي جَعْفَرٍ فَقَالَ لَهُ فِي غُبُونِ كَلَامِهِ: يَا هَنَاهُ. أَوْ قَالَ: يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ. ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ لِسَانُهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَعْذَرَهُ. وَقَدْ كَانَ السَّفَّاحُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي مُصَالَحَةِ ابْنِ هُبَيْرَةَ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ السَّفَّاحُ لَا يَقْطَعُ رَأْيًا دُونَ مُرَاجَعَةِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى يَدَيْ أَبِي جَعْفَرٍ لَمْ يُعْجِبِ السَّفَّاحُ ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ، فَرَاجَعَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مِرَارًا لَا يُفِيدُ شَيْئًا، حَتَّى جَاءَ كِتَابُ السَّفَّاحِ إِلَيْهِ أَنِ اقْتُلْهُ لَا مَحَالَةَ، وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ طَائِفَةً فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ وَفِي حِجْرِهِ صَبِيٌّ لَهُ صَغِيرٌ، وَحَوْلُهُ مَوَالِيهِ وَحَاجِبُهُ، فَدَافَعَ عَنْهُ ابْنُهُ حَتَّى
قُتِلَ، وَقُتِلَ خَلْقٌ مِنْ
مَوَالِيهِ، وَخَلَصُوا إِلَيْهِ، فَأَلْقَى الصَّبِيَّ مِنْ حِجْرِهِ، وَخَرَّ
سَاجِدًا، فَقُتِلَ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ، فَنَادَى أَبُو
جَعْفَرٍ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ إِلَّا الْحَكَمَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
بِشْرٍ، وَخَالِدَ بْنَ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّ، وَعُمَرَ بْنَ ذَرٍّ فَسَكَنَ النَّاسُ،
ثُمَّ اسْتُؤْمِنَ لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ أَبُو مُسْلِمٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ إِلَى
فَارِسَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عُمَّالَ أَبِي سَلَمَةَ فَيَضْرِبَ
أَعْنَاقَهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَلَّى السَّفَّاحُ أَخَاهُ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَوْصِلَ
وَأَعْمَالَهَا، وَوَلَّى عَمَّهُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ
وَالْيَمَنَ وَالْيَمَامَةَ، وَعَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ
عَلَيْهَا عِيسَى بْنَ مُوسَى، فَوَلَّى قَضَاءَهَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ
عَلَى نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُهَلَّبِيُّ، وَعَلَى
قَضَائِهَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَعَلَى السِّنْدِ مَنْصُورُ بْنُ
جُمْهُورٍ، وَعَلَى فَارِسَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَعَلَى إِرْمِينِيَّةَ
وَأَذْرَبِيجَانَ وَالْجَزِيرَةِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَعَلَى الشَّامِ
وَأَعْمَالِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ عَمُّ السَّفَّاحِ، وَعَلَى مِصْرَ
أَبُو عَوْنٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَزِيدَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَأَعْمَالِهَا
أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَعَلَى دِيوَانِ الْخَرَاجِ خَالِدُ بْنُ
بَرْمَكَ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ
الْأُمَوِيُّ، آخِرُ خُلَفَاءِ
بَنِي أُمَيَّةَ، قُتِلَ فِي الْعُشْرِ
الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا
ذِكْرَهُ.
وَوَزِيرُهُ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى بَنِي عَامِرِ
بْنِ لُؤَيٍّ الْكَاتِبُ الْبَلِيغُ الَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ، فَيُقَالُ:
فُتِحَتِ الرَّسَائِلُ بِعَبْدِ الْحَمِيدِ، وَخُتِمَتْ بِابْنِ الْعَمِيدِ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْكِتَابَةِ وَجَمِيعِ فُنُونِهَا، وَهُوَ الْقُدْوَةُ
فِيهَا، وَلَهُ رَسَائِلُ فِي أَلْفِ وَرَقَةٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْأَنْبَارِ،
ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ، وَتَعَلَّمَ هَذَا الشَّأْنَ مَنْ سَالِمٍ مَوْلَى هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ وَزِيرُ الْمَهْدِيِّ
يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ تَخَرَّجَ، وَكَانَ ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ
بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ مَاهِرًا فِي الْكِتَابَةِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا
يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، ثُمَّ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى وَزَرَ
لِمَرْوَانَ الْجَعْدِيِّ آخِرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَأُخِذَ بَعْدَهُ
فَقَتَلَهُ السَّفَّاحُ وَمَثَّلَ بِهِ، وَكَانَ اللَّائِقُ بِمِثْلِهِ الْعَفْوَ
عَنْهُ.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ: الْعِلْمُ شَجَرَةٌ، ثَمَرَتُهَا الْأَلْفَاظُ،
وَالْفِكْرُ بَحْرٌ لُؤْلُؤُهُ الْحِكْمَةُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ، وَرَأَى رَجُلًا يَكْتُبُ خَطًّا رَدِيئًا: أَطِلْ جَلْفَةَ
قَلَمِكَ وَأَسْمِنْهَا، وَحَرِّفْ قَطَّتَكَ وَأَيْمِنْهَا. قَالَ الرَّجُلُ:
فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، فَجَادَ خَطِّي.
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ
كِتَابًا إِلَى بَعْضِ الْأَكَابِرِ يُوصِيهِ بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: حَقُّ
مُوَصِّلِ كِتَابِي إِلَيْكَ كَحَقِّهِ عَلَيَّ ; إِذْ رَآكَ مَوْضِعًا
لِأَمَلِهِ، وَرَآنِي أَهْلًا لِحَاجَتِهِ، وَقَدْ قَضَيْتُ حَاجَتَهُ، فَصَدِّقْ
أَمَلَهُ.
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ:
إِذَا جَرَحَ الْكُتَّابُ كَانَ دُوِيُّهُمْ قِسِيًّا وَأَقْلَامُ الدُّوِيِّ
لَهَا نَبْلًا
وَأَبُو سَلَمَةَ حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَوَّلُ مَنْ وَزَرَ لِآلِ الْعَبَّاسِ،
قَتَلَهُ أَبُو مُسْلِمٍ عَنْ أَمْرِ السَّفَّاحِ بَعْدَ وِلَايَتِهِ بِأَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ السَّفَّاحِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ لَيْلَةُ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَكَانَ
مَقْتَلُهُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
وَكَانَ دَاهِيَةً فَاضِلًا حَسَنَ الْمُفَاكَهَةِ، وَكَانَ السَّفَّاحُ يَأْنَسُ
إِلَيْهِ وَيُحِبُّ مُسَامَرَتَهُ لِطِيبِ مُحَاضَرَتِهِ، وَلَكِنْ تَوَهَّمَ
مَيْلَهُ لِآلِ عَلِيٍّ فَدَسَّ عَلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ مَنْ قَتَلَهُ غِيلَةً،
كَمَا تَقَدَّمَ، فَأَنْشَدَ السَّفَّاحُ عِنْدَ ذَلِكَ:
إِلَى النَّارِ فَلْيَذْهَبْ وَمَنْ كَانَ مِثْلُهُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ فَاتَنَا
مِنْهُ نَأْسَفُ
، كَانَ يُقَالُ لَهُ: وَزِيرُ آلِ مُحَمَّدٍ. وَيُعْرَفُ بِالْخَلَّالِ ;
لِسُكْنَاهُ فِي دَرْبِ
الْخَلَّالِينَ بِالْكُوفَةِ
وَجُلُوسِهِ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِالْوَزِيرِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنَّ اشْتِقَاقَ الْوَزِيرِ
مِنَ الْوِزْرِ، وَهُوَ الْحِمْلُ، فَكَأَنَّ السُّلْطَانَ حَمَّلَهُ أَثْقَالًا
لِاسْتِنَادِهِ إِلَى رَأْيِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ
الْوَزَرِ وَهُوَ الْجَبَلُ، فَكَأَنَّ السُّلْطَانَ لَجَأَ إِلَى رَأْيِهِ كَمَا
يَلْجَأُ الْخَائِفُ إِلَى جَبَلٍ يَعْتَصِمُ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَلَّى السَّفَّاحُ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَصْرَةَ
وَأَعْمَالَهَا، وَكُوَرَ دِجْلَةَ، وَالْبَحْرَيْنِ، وَعُمَانَ. وَوَجَّهَ
عَمَّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى كُوَرِ الْأَهْوَازِ.
وَفِيهَا قَتَلَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ مَنْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي
أُمَيَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْمَدِينَةِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنَهُ مُوسَى عَلَى عَمَلِهِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
أَرْضَ الْحِجَازِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا بَلَغَتِ السَّفَّاحَ وَفَاتُهُ
اسْتَنَابَ عَلَى الْحِجَازِ خَالَهُ زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْمَدَانِ الْحَارِثِيَّ، وَوَلَّى الْيَمَنَ لِابْنِ خَالِهِ مُحَمَّدِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ، وَجَعَلَ إِمْرَةَ
الشَّامِ لِعَمَّيْهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَصَالِحٍ ابْنَيْ عَلِيٍّ، وَقَرَّرَ أَبَا
عَوْنٍ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَائِبًا عَلَيْهَا.
وَفِيهَا تَوَجَّهَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فَقَاتَلَهُمْ
قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى فَتَحَهَا. وَفِيهَا خَرَجَ شَرِيكُ بْنُ شَيْخٍ
الْمَهْرِيُّ بِبُخَارَى عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَقَالَ: مَا عَلَى هَذَا
بَايَعْنَا آلَ مُحَمَّدٍ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ ! وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ
نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثِينَ
أَلْفًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو
مُسْلِمٍ زِيَادَ بْنَ صَالِحٍ الْخُزَاعِيَّ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ السَّفَّاحُ أَخَاهُ يَحْيَى بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْمَوْصِلِ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا عَمَّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا وَلِيَ الصَّائِفَةَ مِنْ جِهَةِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ سَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ فَغَزَا وَرَاءَ الدُّرُوبِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ زِيَادُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ الْحَارِثِيُّ. وَنُوَّابُ
الْبِلَادِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا
أَنَّهُ عُزِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ بَسَّامُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ الطَّاعَةَ، وَخَرَجَ
عَلَى السَّفَّاحِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ فَقَاتَلَهُ
فَقَتَلَ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرُهُ، وَرَجَعَ فَمَرَّ
بِمَلَأٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ أَخْوَالِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
فَسَأَلَهُمْ عَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ نُصْرَةٌ لِلْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يَرُدُّوا
عَلَيْهِ، وَاسْتَهَانُوا بِهِ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ، وَكَانُوا
قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا وَمِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، فَاسْتَعْدَى
بَنُو عَبْدِ الْمَدَانِ عَلَى خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالُوا: قَتَلَ أَخْوَالَكَ بِلَا ذَنْبٍ. فَهَمَّ السَّفَّاحُ
بِقَتْلِهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بِأَنْ لَا يَقْتُلَهُ،
وَلَكِنْ لِيَبْعَثْهُ مَبْعَثًا صَعْبًا، فَإِنْ سَلِمَ فَذَلِكَ، وَإِنْ قُتِلَ
فَذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتَ. فَبَعَثَهُ إِلَى عُمَانَ - وَكَانَ بِهَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْخَوَارِجِ قَدْ تَمَرَّدُوا - وَجَهَّزَ مَعَهُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ،
وَكَتَبَ إِلَى عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ نَائِبِ الْبَصْرَةِ
بِحَمْلِهِمْ فِي السُّفُنِ إِلَى عُمَانَ فَفَعَلَ، فَقَاتَلَ الْخَوَارِجَ
فَكَسَرَهُمْ وَقَهَرَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَقَتَلَ
أَمِيرَ الْخَوَارِجِ الصُّفْرِيَّةِ وَهُوَ الْجُلُنْدَى وَقَتَلَ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَأَنْصَارِهِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ
إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبُعِثَ بِهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ. ثُمَّ بَعْدَ أَشْهُرٍ
كَتَبَ إِلَيْهِ السَّفَّاحُ أَنْ يَرْجِعَ، فَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا
مَنْصُورًا.
وَفِيهَا غَزَا أَبُو مُسْلِمٍ بِلَادَ
الصُّغْدِ، وَغَزَا أَبُو دَاوُدَ أَحَدُ نُوَّابِ أَبِي مُسْلِمٍ بِلَادَ كَشٍّ،
فَقَتَلَ خَلْقًا، وَغَنِمَ مِنَ الْأَوَانِي الصِّينِيَّةِ الْمَنْقُوشَةِ
بِالذَّهَبِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ السَّفَّاحُ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ إِلَى مَنْصُورِ
بْنِ جُمْهُورٍ - وَهُوَ بِالْهِنْدِ - فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَالْتَقَاهُ
مُوسَى بْنُ كَعْبٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَهَزَمَهُ وَاسْتَبَاحَ عَسْكَرَهُ.
وَفِيهَا مَاتَ عَامِلُ الْيَمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ فَاسْتَخْلَفَ السَّفَّاحُ عَلَيْهَا عَمَّهُ - وَهُوَ
خَالُ الْخَلِيفَةِ - زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ. وَفِيهَا تَحَوَّلَ
السَّفَّاحُ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى الْأَنْبَارِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَائِبُ الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى. وَنُوَّابُ
الْأَقَالِيمِ هُمْ هُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ عُمَارَةُ بْنُ جُوَيْنٍ، وَيَزِيدُ بْنُ
يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ الدِّمَشْقِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ زِيَادُ بْنُ صَالِحٍ مِنْ وَرَاءِ نَهْرِ بَلْخَ عَلَى أَبِي
مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، فَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ،
وَاسْتَأْصَلَ خَضْرَاءَهُمْ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ بِتِلْكَ النَّوَاحِي
مُعَظَّمًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ نَائِبُ
الْبَصْرَةِ. وَالنُّوَّابُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُرْدُ بْنُ سِنَانٍ وَأَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَعَطَاءٌ
الْخُرَاسَانِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ خُرَاسَانَ عَلَى السَّفَّاحِ بِالْعِرَاقِ
وَذَلِكَ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ الْخَلِيفَةَ فِي الْقُدُومِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
أَنْ يَقْدَمَ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ
وَتَرْتُ النَّاسَ، وَإِنِّي أَخْشَى مِنْ قِلَّةِ الْخَمْسِمِائَةِ. فَكَتَبَ
إِلَيْهِ أَنِ اقْدَمْ فِي أَلْفٍ. فَقَدِمَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ فَرَّقَهُمْ،
وَأَخَذَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا شَيْئًا كَثِيرًا،
وَلَمَّا قَدِمَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَى أَلْفٍ مِنَ الْجُنْدِ، فَتَلْقَّاهُ
الْقُوَّادُ الْكُبَرَاءُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى السَّفَّاحِ
أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَكَانَ
يَأْتِي إِلَى الْخِدْمَةِ كُلَّ يَوْمٍ، وَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي
الْحَجِّ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي كُنْتُ عَيَّنْتُ إِمْرَةَ
الْحَجِّ لِأَبِي جَعْفَرٍ لَأَمَّرْتُكَ. وَكَانَ مَا بَيْنَ أَبِي جَعْفَرٍ
وَأَبِي مُسْلِمٍ خَرَابًا، وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنَ الْجَفْوَةِ مِنْهُ حِينَ
قَدِمَ عَلَيْهِ نَيْسَابُورَ فِي الْبَيْعَةِ لِلسَّفَّاحِ وَلِلْمَنْصُورِ مِنْ
بَعْدِهِ، فَحَقَدَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، وَأَشَارَ عَلَى السَّفَّاحِ
بِقَتْلِهِ، وَحِينَ قَدِمَ حَرَّضَهُ عَلَى قَتْلِهِ أَيْضًا، فَقَالَ لَهُ
السَّفَّاحُ: قَدْ عَلِمْتَ بَلَاءَهُ مَعَنَا وَخِدْمَتَهُ لَنَا. فَقَالَ لَهُ
أَبُو جَعْفَرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا ذَلِكَ بِدَوْلَتِنَا،
وَاللَّهِ لَوْ أَرْسَلْتَ سِنَّوْرًا لَسَمِعُوا لَهُ وَأَطَاعُوا، وَإِنَّكَ
إِنْ لَمْ تَتَغَدَّ بِهِ تَعَشَّى بِكَ هُوَ. فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ السَّبِيلُ
إِلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ فَحَادَثْتَهُ جِئْتُ أَنَا مِنْ
وَرَائِهِ فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ. قَالَ: فَكَيْفَ بِمَنْ مَعَهُ ؟ قَالَ: هُمْ
أَذَلُّ وَأَقَلُّ. فَأَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهِ، فَلَمَّا
دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى
السَّفَّاحِ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ أَذِنَ لِأَخِيهِ فِيهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَادِمُ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ ذَاكَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَدْ نَدِمَ
عَلَيْهِ، فَلَا تَفْعَلْهُ. فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَادِمُ وَجَدَهُ مُحْتَبِيًا
بِالسَّيْفِ، مُتَهَيِّئًا لِمَا يُرِيدُ مِنْ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَلَمَّا
نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ غَضِبَ أَبُو جَعْفَرٍ غَضَبًا شَدِيدًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْ
وِلَايَةِ أَخِيهِ السَّفَّاحِ وَسَارَ مَعَهُ إِلَى الْحِجَازِ أَبُو مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ وَإِذْنِهِ لَهُ فِي الْحَجِّ فِي
هَذَا الْعَامِ، فَلَمَّا رَجَعَا مِنَ الْحَجِّ فَكَانَا بِذَاتِ عِرْقٍ جَاءَ
الْخَبَرُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ - وَكَانَ يَسِيرُ قَبْلَ أَبِي مُسْلِمٍ
بِمَرْحَلَةٍ - بِمَوْتِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ فَكَتَبَ إِلَى أَبِي
مُسْلِمٍ أَنْ قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ، فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ. فَلَمَّا اسْتَعْلَمَ
أَبُو مُسْلِمٍ الْخَبَرَ عَجَّلَ السَّيْرَ وَرَاءَهُ، فَلَحِقَهُ إِلَى
الْكُوفَةِ فَكَانَتْ بَيْعَةُ الْمَنْصُورِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
وَتَفْصِيلُهُ قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ وَذِكْرُ وَفَاتِهِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ السَّفَّاحُ - وَيُقَالُ لَهُ: الْمُرْتَضَى. وَ: الْقَائِمُ
أَيْضًا - ابْنُ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ بْنِ عَلِيٍّ السَّجَّادِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَبْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ ذِي الرَّأْيِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
شَيْبَةِ الْحَمْدِ بْنِ هَاشِمٍ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، أَبُو
الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّهُ
رَيْطَةُ - وَيُقَالُ: رَائِطَةُ - بِنْتُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الْمَدَانِ بْنِ الدَّيَّانِ الْحَارِثِيِّ، كَانَ مَوْلِدُ
السَّفَّاحِ بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ أَرْضِ الشَّرَاةِ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ
بِالشَّامِ وَنَشَأَ بِهَا حَتَّى طُلِبَ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ، فَقَتَلَهُ
مَرْوَانُ الْحِمَارُ بِحَرَّانَ، فَانْتَقَلُوا إِلَى الْكُوفَةِ، وَبُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ أَخِيهِ فِي حَيَاةِ مَرْوَانَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَيُقَالُ: فِي جُمَادَى سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتُوفِّيَ بِالْجُدَرِيِّ بِالْأَنْبَارِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي عَشَرَ -
وَقِيلَ: الثَّالِثَ عَشَرَ - مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ. وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا - وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ. وَقِيلَ: إِحْدَى -
وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قَالَهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ.
وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيلًا طَوِيلًا، أَقْنَى الْأَنْفِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، حَسَنَ
اللِّحْيَةِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، فَصِيحَ الْكَلَامِ، حَسَنَ الرَّأْيِ، جَيِّدَ
الْبَدِيهَةِ، دَخَلَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ وِلَايَتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمَعَهُ مُصْحَفٌ وَعِنْدَ السَّفَّاحِ وُجُوهُ
بَنِي هَاشِمٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَغَيْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطِنَا حَقَّنَا الَّذِي
جَعَلَهُ اللَّهُ لَنَا فِي هَذَا
الْمُصْحَفِ. قَالَ: فَأَشْفَقَ الْحَاضِرُونَ أَنْ يُعَجِّلَ السَّفَّاحُ
بِشَيْءٍ أَوْ يَعْيَا بِجَوَابِهِ، فَيَبْقَى ذَلِكَ سُبَّةً عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ، فَأَقْبَلَ السَّفَّاحُ عَلَيْهِ غَيْرَ مُغْضَبٍ وَلَا مُنْزَعِجٍ،
فَقَالَ: إِنَّ جَدَّكَ عَلِيًّا وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي وَأَعْدَلَ، وَلِيَ هَذَا
الْأَمْرَ، فَأَعْطَى جَدَّيْكَ الْحَسَنَ، وَالْحُسَيْنَ - وَكَانَا خَيْرًا
مِنْكَ - شَيْئًا قَدْ أَعْطَيْتُكَهُ وَزِدْتُكَ عَلَيْهِ، فَمَا كَانَ هَذَا
جَزَائِي مِنْكَ. قَالَ: فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ
جَوَابًا، وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَةِ جَوَابِهِ وَحِدَّتِهِ وَجَوْدَتِهِ
عَلَى الْبَدِيهَةِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ ذِكْرُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ عِنْدَ انْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَظُهُورٍ مِنَ الْفِتَنِ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: السَّفَّاحُ. فَيَكُونُ إِعْطَاؤُهُ الْمَالَ حَثْيًا.
وَكَذَا رَوَاهُ زَائِدَةُ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَهَذَا
الْحَدِيثُ فِي إِسْنَادِهِ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ.
وَفِي كَوْنِ الْمُرَادِ بِهَذَا الْمَذْكُورِ السَّفَّاحَ نَظَرٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، فِيمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ زَوَالِ دَوْلَةِ بَنِي
أُمَيَّةَ أَخْبَارًا وَآثَارًا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ
، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ عِيسَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - وَهُوَ وَالِدُ
السَّفَّاحِ - قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ
رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ
تَجِدُونَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ ؟ قَالَ لَهُ النَّصْرَانِيُّ: أَنْتَ.
قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَيَّ، فَقَالَ: وَهِيَ فِي ثِيَابِكَ
يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
ذَلِكَ جَعَلْتُ ذَلِكَ النَّصْرَانِيَّ فِي بَالِي، فَرَأَيْتُهُ يَوْمًا،
فَأَمَرْتُ غُلَامِي أَنْ يَحْبِسَهُ عَلَيَّ، وَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى مَنْزِلِي،
فَسَأَلْتُهُ عَمَّا يَكُونُ بَعْدُ فِي خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ فَذَكَرَهُمْ
وَاحِدًا وَاحِدًا، وَتَجَاوَزَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قُلْتُ: ثُمَّ
مَنْ ؟ قَالَ: ثُمَّ ابْنُكَ ابْنُ الْحَارِثِيَّةِ. قَالَ: وَكَانَ إِذْ ذَاكَ
حَمْلًا.
وَوَفَدَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَبَادَرُوا إِلَى تَقْبِيلِ يَدِهِ،
وَتَرَكَ ذَلِكَ عِمْرَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ
الْعَدَوِيُّ وَإِنَّمَا حَيَّاهُ بِالْخِلَافَةِ، وَهَنَّأَهُ بِهَا فَقَطْ.
وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَتْ تَزِيدُكَ رِفْعَةً
وَتَزِيدُنِي وَسِيلَةً إِلَيْكَ، مَا سَبَقَنِي إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ،
وَإِنِّي لَغَنِيٌّ عَمَّا لَا أَجْرَ فِيهِ. ثُمَّ جَلَسَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ
مَا نَقَصَهُ ذَلِكَ مِنْ حَظِّ أَصْحَابِهِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا أَنَّ السَّفَّاحَ بَعَثَ رَجُلًا
يُنَادِي بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي عَسْكَرِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ
لَيْلًا، ثُمَّ رَجَعَ، وَهُمَا هَذَانِ:
يَا آلَ مَرْوَانَ إِنَّ اللَّهَ
مُهْلِكُكُمْ وَمُبْدِلٌ أَمْنَكُمْ خَوْفًا وَتَشْرِيدَا لَا عَمَّرَ اللَّهُ
مِنْ أَنْسَالِكُمْ أَحَدًا
وَبَثَّكُمْ فِي بِلَادِ الْخَوْفِ تَطْرِيدَا
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ السَّفَّاحَ نَظَرَ يَوْمًا فِي
الْمِرْآةِ - وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَجْهًا - فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا
أَقُولُ كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنَا الْخَلِيفَةُ
الشَّابُّ. وَلَكِنِّي أَقُولُ: اللَّهُمَّ عَمِّرْنِي طَوِيلًا فِي طَاعَتِكَ
مُمَتَّعًا بِالْعَافِيَةِ. فَمَا اسْتَتَمَّ كَلَامَهُ حَتَّى سَمِعَ غُلَامًا
يَقُولُ لِآخَرَ: الْأَجَلُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ.
فَتَطَيَّرَ مِنْ كَلَامِهِ، وَقَالَ: حَسْبِيَ اللَّهُ، لَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكُّلِي، وَبِهِ أَسْتَعِينُ. فَمَاتَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ
وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيُّ أَنَّ
الرَّشِيدَ أَمَرَ ابْنَهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ
مَا يَرْوِيهِ عَنْ أَبِيهِ فِي قِصَّةِ السَّفَّاحِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ
عِيسَى أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى السَّفَّاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ بُكْرَةً فَوَجَدَهُ
صَائِمًا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُحَادِثَهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا، ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ
بِفِطْرِهِ عِنْدَهُ. قَالَ: فَحَادَثْتُهُ حَتَّى أَخَذَهُ النَّوْمُ، فَقُمْتُ
عَنْهُ، وَقُلْتُ: أُقِيلَ فِي مَنْزِلِي، ثُمَّ أَجِيءُ بَعْدَ ذَلِكَ.
فَذَهَبْتُ فَنِمْتُ قَلِيلًا ثُمَّ قُمْتُ، فَأَقْبَلْتُ إِلَى دَارِهِ، فَإِذَا
عَلَى بَابِهِ بَشِيرٌ مِنْ أَهْلِ السِّنْدِ بِبَيْعَتِهِمْ لِلْخَلِيفَةِ
وَتَسْلِيمِ الْأُمُورِ إِلَى نُوَّابِهِ. قَالَ: فَحَمِدْتُ اللَّهَ تَعَالَى
الَّذِي وَفَّقَنِي
لِأَنْ أَجِيئَهُ بِبِشَارَةٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ الدَّارَ، فَإِذَا آخَرُ مَعَهُ الْبِشَارَةُ بِفَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ فَحَمِدْتُ اللَّهَ أَيْضًا، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُهُ بِذَلِكَ وَهُوَ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ، فَسَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! كُلُّ شَيْءٍ بَائِدٌ سِوَاهُ، نَعَيْتَ وَاللَّهِ نَفْسِي ; حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ الْإِمَامُ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيَّ فِي مَدِينَتِي هَذِهِ وَافِدَانِ ; وَافِدُ السِّنْدِ، وَالْآخَرُ وَافْدُ إِفْرِيقِيَّةَ بِسَمْعِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَبَيْعَتِهِمْ، فَلَا يَمْضِي بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى أَمُوتَ. قَالَ: وَقَدْ أَتَانِي الْوَافِدَانِ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجَرَكَ يَا عَمِّ فِي ابْنِ أَخِيكَ. فَقُلْتُ: كَلَّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: بَلَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا حَبِيبَةً إِلَيَّ، فَصِحَّةُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهَا، وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذِبْتُ. ثُمَّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَأَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُؤَذِّنُ يُعْلِمُهُ بِوَقْتِ الظُّهْرِ خَرَجَ الْخَادِمُ يَأْمُرُنِي أَنْ أُصَلِّيَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، كُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ الْخَادِمُ فَيَأْمُرُنِي أَنْ أُصَلِّيَ عَنْهُ، وَبِتُّ هُنَاكَ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ السَّحَرِ خَرَجَ الْخَادِمُ بِكِتَابٍ مَعَهُ يَأْمُرُنِي أَنْ أُصَلِّيَ عَنْهُ الْعِيدَ، ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى دَارِهِ، وَفِيهِ يَقُولُ: يَا عَمِّ، إِذَا مِتُّ فَلَا تُعْلِمِ النَّاسَ بِمَوْتِي حَتَّى تَقْرَأَ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ فَيُبَايِعُوا لِمَنْ فِيهِ. قَالَ: فَصَلَّيْتُ بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ مِمَّا أُنْكِرُهُ، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَيْهِ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، فَإِذَا هُوَ عَلَى حَالِهِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَتْ فِي وَجْهِهِ حَبَّتَانِ صَغِيرَتَانِ، ثُمَّ كَثُرَتَا، ثُمَّ صَارَ فِي وَجْهِهِ حَبٌّ صِغَارٌ بِيضٌ - يُقَالُ: إِنَّهُ جُدَرِيٌّ - ثُمَّ بَكَّرْتُ
إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ
أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِذَا هُوَ قَدْ هَجَرَ وَذَهَبَتْ عَنْهُ مَعْرِفَتِي
وَمَعْرِفَةُ غَيْرِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ بِالْعَشِيِّ، فَإِذَا هُوَ قَدِ
انْتَفَخَ حَتَّى صَارَ مِثْلَ الْزِّقِّ، وَتُوُفِّيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ
مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَسَجَّيْتُهُ كَمَا أَمَرَنِي، وَخَرَجْتُ إِلَى
النَّاسِ، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى الرَّسُولِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ قَلَّدَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ الْخِلَافَةَ عَلَيْكُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ أَخَاهُ، فَاسْمَعُوا
لَهُ وَأَطِيعُوا، وَقَدْ قَلَّدَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ اللَّهِ عِيسَى
بْنَ مُوسَى إِنْ كَانَ. قَالَ: فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ.
قِيلَ: إِنْ كَانَ أَهْلًا لَهَا. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنْ كَانَ حَيًّا. وَهَذَا
الْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ. ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ
مُطَوَّلًا، وَهَذَا مُلَخَّصٌ مِنْهُ، وَفِيهِ ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ،
وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الطَّبِيبَ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَخَذَ
بِيَدِهِ، فَأَنْشَأَ السَّفَّاحُ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ:
انْظُرْ إِلَى ضَعْفِ الْحَرَا كِ وُذُلِّهِ بِيَدِ السُّكُونْ
يُنْبِئْكَ أَنَّ بَيَانَهُ هَذَا مُقَدِّمَةُ الْمَنُونْ
فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: أَنْتَ صَالِحٌ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يُبَشِّرُنِي بِأَنِّي ذُو صَلَاحٍ يَبِينُ لَهُ وَبِي دَاءٌ دَفِينُ
لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنِّي غَيْرُ بِاقٍ وَلَا شَكٌّ إِذَا وَضَحَ الْيَقِينُ
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ
آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ حِينَ حَضَرَهُ
الْمَوْتُ: الْمُلْكُ لِلَّهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ، مَلِكِ الْمُلُوكِ،
وَجَبَّارِ الْجَبَابِرَةِ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: اللَّهُ ثِقَةُ عَبْدِ
اللَّهِ.
وَكَانَ مَوْتُهُ بِالْجُدَرِيِّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ بِالْأَنْبَارِ الْعَتِيقَةِ،
عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ
وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ. وَصَلَّى عَلَيْهِ عَمُّهُ
عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ وَدُفِنَ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ مِنَ الْأَنْبَارِ،
وَتَرَكَ تِسْعَ جِبَابٍ وَأَرْبَعَةَ أَقْمِصَةٍ وَخَمْسَ سَرَاوِيلَاتٍ
وَأَرْبَعَ طَيَالِسَةٍ وَثَلَاثَةَ مَطَارِفِ خَزٍّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فَذَكَرَ بَعْضَ مَا أَوْرَدْنَاهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ السَّفَّاحُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ، وَجَعْفَرُ
بْنُ رَبِيعَةَ، وَحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَرَبِيعَةُ الرَّأْيِ،
وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَعَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَطَاءُ بْنُ
السَّائِبِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ
". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
خِلَافَةُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّفَّاحَ مَاتَ وَأَخُوهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِالْحِجَازِ،
فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ لَهُ بِالْعِرَاقِ عَمُّهُ عِيسَى بْنُ عَلِيٍّ، وَبَلَغَهُ
خَبَرُ مَوْتِ أَخِيهِ السَّفَّاحِ وَهُوَ رَاجِعٌ بِذَاتِ عِرْقٍ فَعَجَّلَ
السَّيْرَ، وَكَانَ مَعَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، فَبَايَعَهُ أَبُو
مُسْلِمٍ فِي الطَّرِيقِ وَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
السَّفَّاحِ، فَبَكَى أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ
أَبُو مُسْلِمٍ: أَتَبْكِي وَقَدْ جَاءَتْكَ الْخِلَافَةُ؟! فَأَنَا أَكْفِيكَهَا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَسُرِّيَ عَنِ الْمَنْصُورِ، وَأَمَرَ زِيَادَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ
أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ وَالِيًا عَلَيْهَا، وَكَانَ السَّفَّاحُ قَدْ عَزَلَهُ عَنْهَا بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَقَرَّ بَقِيَّةَ النُّوَّابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ قَدِمَ عَلَى السَّفَّاحِ الْأَنْبَارَ، فَأَمَّرَهُ عَلَى الصَّائِفَةِ، فَرَكِبَ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُ مَوْتُ السَّفَّاحِ، فَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى حَرَّانَ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ السَّفَّاحَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الشَّامِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَالْتَفَّتْ عَلَيْهِ جُيُوشٌ عَظِيمَةٌ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
ذِكْرُ خُرُوجِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْمَنْصُورِ
لَمَّا رَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ مِنَ الْحَجِّ دَخَلَ الْكُوفَةَ،
فَخَطَبَ بِأَهْلِهَا يَوْمَ الْجُمْعَةِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى
الْأَنْبَارِ، وَقَدْ أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ الْبِلَادِ سِوَى الشَّامِ، وَقَدْ ضَبَطَ عِيسَى بْنُ
مُوسَى بُيُوتَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلَ لِلْمَنْصُورِ حَتَّى قَدِمَ،
فَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَهُوَ
بِدُرُوبِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِوَفَاةِ السَّفَّاحِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ
الْخَبَرُ نَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ
الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ وَفَاةَ السَّفَّاحِ، ثُمَّ قَامَ
فِيهِمْ خَطِيبًا، فَذَكَرَ أَنَّ السَّفَّاحَ كَانَ عَهِدَ إِلَيْهِ حِينَ
بَعَثَهُ إِلَى مَرْوَانَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ،
وَشَهِدَ لَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ خُرَاسَانَ بِذَلِكَ، وَنَهَضُوا إِلَيْهِ
فَبَايَعُوهُ، وَرَجَعَ إِلَى حَرَّانَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ نَائِبِ الْمَنْصُورِ
بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقُتِلَ مُقَاتِلٌ
الْعَكِّيُّ نَائِبُهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ بَعَثَ إِلَيْهِ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ تَحَصَّنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بِحَرَّانَ، وَأَرْصَدَ عِنْدَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ وَالسِّلَاحِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا. وَسَارَ أَبُو مُسْلِمٍ وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ مَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ، وَلَمَّا تَحَقَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ قُدُومَ أَبِي مُسْلِمٍ إِلَيْهِ خَشِيَ مِنْ جَيْشِ خُرَاسَانَ الَّذِينَ مَعَهُ أَنْ لَا يُنَاصِحُوهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَأَرَادَ قَتْلَ حُمَيْدِ بْنِ قُحْطُبَةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ. وَرَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، فَنَزَلَ نَصِيبِينَ وَخَنْدَقَ حَوْلَ عَسْكَرِهِ، وَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَنَزَلَ نَاحِيَةً، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِكَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالِيًا عَلَى الشَّامِ فَأَنَا أُرِيدُهَا. فَخَافَ جُنُودُ الشَّامِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالُوا: إِنَّا نَخَافُ عَلَى ذَرَارِينَا وَأَمْوَالِنَا، فَنَحْنُ نَذْهَبُ إِلَيْهَا نَمْنَعُهُمْ مِنْهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ: وَيْحَكُمْ! وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا لِقِتَالِنَا. فَأَبَوْا إِلَّا أَنْ يَرْتَحِلُوا نَحْوَ الشَّامِ فَتَحَوَّلَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ، وَقَصَدَ نَاحِيَةَ الشَّامِ، فَنَهَضَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَنَزَلَ فِي مَوْضِعِ عَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ، وَغَوَّرَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمِيَاهِ، وَكَانَ نَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ مَنْزِلًا جَيِّدًا جِدًّا، وَاحْتَاجَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ، فَنَزَلُوا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ أَبُو مُسْلِمٍ فَوَجَدُوهُ مَنْزِلًا رَدِيئًا، ثُمَّ أَنْشَأَ أَبُو مُسْلِمٍ الْقِتَالَ، فَحَارَبَهُمْ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ عَلَى خَيْلِ عَبْدِ اللَّهِ أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ بَكَّارُ بْنُ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ حَبِيبُ بْنُ سُوَيْدٍ الْأَسَدِيُّ، وَعَلَى مَيْمَنَةِ أَبِي مُسْلِمٍ الْحَسَنُ بْنُ قُحْطُبَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ أَبُو نَصْرٍ خَازِمُ بْنُ
خُزَيْمَةَ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ
وَقَعَاتٌ، وَقُتِلُ مِنْهُمْ جَمَاعَاتٌ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ، وَقَدْ كَانَ
أَبُو مُسْلِمٍ إِذَا حَمَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
مَنْ كَانَ يَنْوِي أَهْلَهُ فَلَا رَجَعْ فَرَّ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي الْمَوْتِ
وَقَعْ
وَكَانَ يُعْمَلُ لَهُ عَرِيشٌ، فَيَكُونُ فِيهِ إِذَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ،
فَمَا رَأَى فِي جَيْشِهِ مِنْ خَلَلٍ أَرْسَلَ فَأَصْلَحَهُ. فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ أَوِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ الْتَقَوْا، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَكَرَ بِهِمْ أَبُو
مُسْلِمٍ; بَعَثَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ قُحْطُبَةَ أَمِيرِ الْمَيْمَنَةِ، يَأْمُرُهُ
أَنْ يَتَحَوَّلَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَّا الْقَلِيلَ، إِلَى الْمَيْسَرَةِ، فَلَمَّا
رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الشَّامِ انْحَازُوا إِلَى الْمَيْمَنَةِ بِإِزَاءِ
الْمَيْسَرَةِ الَّتِي تَعَمَّرَتْ، فَأَرْسَلَ حِينَئِذٍ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى
الْقَلْبِ أَنْ يَحْمِلَ بِمَنْ بَقِيَ فِي الْمَيْمَنَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ
الشَّامِ، فَحَطَّمُوهُمْ، فَجَالَ أَهْلُ الْقَلْبِ وَالْمَيْمَنَةِ مِنَ
الشَّامِيِّينَ، فَحَمَلَ الْخُرَاسَانِيُّونَ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ،
وَانْهَزَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَ تَلَوُّمٍ، وَاحْتَازَ أَبُو
مُسْلِمٍ مَا كَانَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ،
وَأَمَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ بَقِيَّةَ النَّاسِ فَلَمْ يَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَدًا،
وَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ مَوْلَاهُ أَبَا
الْخَصِيبِ لِيُحْصِيَ مَا وَجَدُوا فِي مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ، فَغَضِبَ مِنْ
ذَلِكَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، وَاسْتَوْسَقَتِ الْمَمَالِكُ لِأَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَلِيٍّ وَأَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ عَلَى وُجُوهِهِمَا، فَلَمَّا مَرَّا
بِالرُّصَافَةِ أَقَامَ بِهَا عَبْدُ الصَّمَدِ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ
وَجَدَهُ بِهَا، فَأَخَذَهُ مُقَيَّدًا فِي الْحَدِيدِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى
الْمَنْصُورِ، فَدَفَعَهُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ مِنَ
الْمَنْصُورِ، وَقِيلَ: بَلِ اسْتَأْمَنَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَخِيهِ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَأَقَامَ
عِنْدَهُ زَمَانًا مُخْتَفِيًا، ثُمَّ
عَلِمَ بِهِ الْمَنْصُورُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَسَجَنَهُ، فَلَبِثَ فِي السَّجْنِ
تِسْعَ سِنِينَ، ثُمَّ سَقَطَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَمَاتَ،
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ مَهْلِكِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ لَمَّا نَفَرَ النَّاسُ مِنَ
الْحَجِيجِ سَبَقَ النَّاسَ بِمَرْحَلَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ خَبَرُ السَّفَّاحِ
فِي الطَّرِيقِ، كَتَبَ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ يُعَزِّيهِ فِي
الْخَلِيفَةِ، وَلَمْ يُهَنِّئْهُ بِالْخِلَافَةِ، وَلَا رَجَعَ إِلَيْهِ،
فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ مَا كَانَ مُضْمِرًا لَهُ مِنَ السُّوءِ،
فَقَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ: اكْتُبْ إِلَيْهِ كِتَابًا غَلِيظًا. فَلَمَّا بَلَغَهُ
الْكِتَابُ بَعَثَ يُهَنِّئُهُ بِالْخِلَافَةِ، وَانْقَمَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ
بَعْضُ الْأُمَرَاءِ لِأَبِي جَعْفَرٍ: إِنَّا نَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ لَا
تُجَامِعَهُ فِي الطَّرِيقِ; فَإِنَّ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ مَنْ لَا يُخَالِفُهُ
وَهُمْ لَهُ أَهْيَبُ، وَلَيْسَ مَعَكَ أَحَدٌ. فَأَخَذَ بِرَأْيِهِ، ثُمَّ كَانَ
مِنْ أَمْرِهِ فِي مُبَايَعَتِهِ لِأَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ مَا ذَكَرْنَاهُ،
ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ فَكَسَرَهُ، كَمَا
تَقَدَّمَ، وَقَدْ بَعَثَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ قُحْطُبَةَ لِأَبِي
أَيُّوبَ كَاتِبِ رَسَائِلِ الْمَنْصُورِ يُشَافِهُهُ وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّ أَبَا
مُسْلِمٍ يُتَّهَمُ فِي أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ; فَإِنَّهُ إِذَا جَاءَهُ
الْكِتَابُ مِنْهُ يَقْرَؤُهُ ثُمَّ يَلْوِي شِدْقَيْهِ، وَيَرْمِي بِالْكِتَابِ
إِلَى أَبِي نَصْرٍ، وَيَضْحَكَانِ اسْتِهْزَاءً، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: إِنَّ
تُهْمَةَ أَبِي مُسْلِمٍ عِنْدَنَا أَظْهَرُ مِنْ هَذَا.
وَلَمَّا بَعَثَ أَبُو جَعْفَرٍ مَوْلَاهُ أَبَا الْخَصِيبِ يَقْطِينَ; لِيَحْتَاطَ عَلَى مَا أُصِيبَ مِنْ مُعَسْكَرِ عَبْدِ اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ الثَّمِينَةِ وَغَيْرِهَا، غَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ، فَشَتَمَ أَبَا جَعْفَرٍ، وَهَمَّ بِأَبِي الْخَصِيبِ أَنْ يَقْتُلَهُ، حَتَّى كُلِّمَ فِيهِ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ. فَتَرَكَهُ، وَرَجَعَ أَبُو الْخَصِيبِ، فَأَخْبَرَ الْمَنْصُورَ بِمَا كَانَ، وَبِمَا هَمَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ قَتْلِهِ، فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ، وَخَشِيَ أَنْ يَذْهَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى خُرَاسَانَ فَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَعَ يَقْطِينَ: إِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ الشَّامَ وَمِصْرَ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْ خُرَاسَانَ فَابْعَثْ إِلَى مِصْرَ مَنْ شِئْتَ، وَأَقِمْ أَنْتَ بِالشَّامِ; لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذَا أَرَادَ لِقَاءَكَ كُنْتَ مِنْهُ قَرِيبًا. فَغَضِبَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: قَدْ وَلَّانِي الشَّامَ وَمِصْرَ، وَلِي خُرَاسَانُ ! فَإِذًا أَذْهَبُ إِلَيْهَا، وَأَسْتَخْلِفُ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ. فَكَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ بِذَلِكَ، فَقَلِقَ الْمَنْصُورُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَرَجَعَ أَبُو مُسْلِمٍ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا خُرَاسَانَ، وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَنْصُورِ، فَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْأَنْبَارِ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ وَهُوَ عَلَى الزَّابِ عَازِمٌ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى خُرَاسَانَ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَدُوٌّ إِلَّا أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ كُنَّا نَرْوِي عَنْ مُلُوكِ آلِ سَاسَانَ أَنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ الْوُزَرَاءُ إِذَا سَكَنَتِ الدَّهْمَاءُ، فَنَحْنُ نَافِرُونَ مِنْ قُرْبِكَ، حَرِيصُونَ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِكَ مَا وَفَّيْتَ، حَرِيُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ غَيْرَ أَنَّهَا مِنْ بَعِيدٍ حَيْثُ تُقَارِنُهَا السَّلَامَةُ، فَإِنْ أَرْضَاكَ ذَلِكَ فَأَنَا كَأَحْسَنِ عَبِيدِكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُعْطِيَ نَفْسَكَ إِرَادَتَهَا نَقَضْتُ مَا أَبْرَمْتُ مِنْ عَهْدِكَ ضَنًّا بِنَفْسِي. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى الْمَنْصُورِ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: قَدْ فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وَلَيْسَتْ صِفَتُكَ صِفَةَ أُولَئِكَ الْوُزَرَاءِ الْغَشَشَةِ مُلُوكَهُمُ، الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ اضْطِرَابَ حَبْلِ الدَّوْلَةِ لِكَثْرَةِ جَرَائِمِهِمْ، وَإِنَّمَا رَاحَتُهُمْ فِي انْتِثَارِ نِظَامِ الْجَمَاعَةِ، فَلِمَ سَوَّيْتَ نَفْسَكَ بِهِمْ، وَأَنْتَ فِي طَاعَتِكَ
وَمُنَاصَحَتِكَ وَاضْطِلَاعِكَ بِمَا
حَمَلْتَ مِنْ أَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى مَا أَنْتَ بِهِ؟! وَلَيْسَ مَعَ
الشَّرِيطَةِ الَّتِي أَوْجَبْتَ مِنْكَ سَمْعٌ وَلَا طَاعَةٌ، وَقَدْ حَمَّلَ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِيسَى بْنَ مُوسَى رِسَالَةً لِتَسْكُنَ إِلَيْهَا إِنْ
أَصْغَيْتَ إِلَيْهَا، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الشَّيْطَانِ
وَنَزَغَاتِهِ وَبَيْنَكَ; فَإِنَّهُ لَمْ يَجِدْ بَابًا يُفْسِدُ بِهِ نِيَّتَكَ
أَوْكَدَ عِنْدَهُ وَأَقْرَبَ مِنْ ظَنِّهِ مِنَ الْبَابِ الَّذِي فَتَحَهُ
عَلَيْكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَتَبَ إِلَى الْمَنْصُورِ: أَمَّا بَعْدُ;
فَإِنِّي اتَّخَذْتُ رَجُلًا إِمَامًا وَدَلِيلًا عَلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ
عَلَى خَلْقِهِ، وَكَانَ فِي مَحَلَّةِ الْعِلْمِ نَازِلًا، وَفِي قَرَابَتِهِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا،
فَاسْتَجْهَلَنِي بِالْقُرْآنِ، فَحَرَّفَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ طَمَعًا فِي قَلِيلٍ
قَدْ نَعَاهُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَكَانَ كَالَّذِي دُلِّيَ بِغُرُورٍ،
وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ، وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ، وَلَا أَقْبَلَ
الْمَعْذِرَةَ، وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَفَعَلْتُ تَوْطِيدًا لِسُلْطَانِكُمْ
حَتَّى عَرَّفَكُمُ اللَّهُ مَنْ كَانَ يَجْهَلُكُمْ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَنِي
اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي فَقِدْمًا عُرِفَ بِهِ وَنُسِبَ
إِلَيْهِ، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِمَا قَدَّمَتْ يَدَايَ، وَمَا اللَّهُ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُيُوخِهِ.
وَبَعَثَ الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ جَرِيرَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَجَلِيَّ - وَكَانَ وَاحِدَ أَهْلِ زَمَانِهِ - فِي جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ قَالَ لَهُ: كَلِّمْ أَبَا مُسْلِمٍ
بِأَلْيَنِ كَلَامٍ تَقْدِرُ عَلَيْهِ،
وَقُلْ لَهُ: إِنَّهُ يُرِيدُ رَفْعَكَ، وَعُلُوَّ قَدْرِكَ، وَالْإِطْلَاقَ لَكَ.
فَإِنْ جَاءَ بِهَذَا فَذَاكَ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْ: إِنَّهُ
يَقُولُ: هُوَ بَرِيءٌ مِنَ الْعَبَّاسِ، إِنْ شَقَقْتَ الْعَصَا وَذَهَبْتَ عَلَى
وَجْهِكَ هَذَا لَيُدْرِكَنَّكَ بِنَفْسِهِ وَلَيَلِيَنَّ قِتَالَكَ دُونَ
غَيْرِهِ، وَلَوْ خُضْتَ الْبَحْرَ الْخِضَمَّ لَخَاضَهُ خَلْفَكَ حَتَّى
يُدْرِكَكَ فَيَقْتُلَكَ أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَلَا تَقُلْ لَهُ هَذَا
حَتَّى تَيْأَسَ مِنْ رُجُوعِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَلَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ أُمَرَاءُ الْمَنْصُورِ بِحُلْوَانَ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَلَامُوهُ فِيمَا
هُوَ فِيهِ مِنْ مُنَابَذَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَغَّبُوهُ فِي الرُّجُوعِ
إِلَيْهِ، فَشَاوَرَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أُمَرَائِهِ، فَكُلٌّ نَهَاهُ عَنِ
الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَأَشَارُوا بِأَنْ يُقِيمَ فِي الرَّيِّ فَتَكُونَ
خُرَاسَانُ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَجُنُودُهُ طَوْعٌ لَهُ، فَإِنِ اسْتَقَامَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ وَإِلَّا كَانَ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ. فَأَرْسَلَ
أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى أُمَرَاءِ الْمَنْصُورِ، فَقَالَ لَهُمُ: ارْجِعُوا إِلَى
صَاحِبِكُمْ، فَلَسْتُ أَلْقَاهُ. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ قَالُوا لَهُ
ذَلِكَ الْكَلَامَ الَّذِي كَانَ الْمَنْصُورُ أَمَرَهُمْ بِهِ. فَلَمَّا سَمِعَ
ذَلِكَ كَسَرَهُ جِدًّا، وَقَالَ: قُومُوا عَنِّي السَّاعَةَ.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِمٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى خُرَاسَانَ أَبَا دَاوُدَ خَالِدَ
بْنَ إِبْرَاهِيمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ فِي غَيْبَةِ أَبِي مُسْلِمٍ
حِينَ اتَّهَمَهُ: إِنَّ وِلَايَةَ خُرَاسَانَ لَكَ مَا بَقِيتَ. فَكَتَبَ أَبُو
دَاوُدَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ حِينَ بَلَغَهُ مَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ
مُنَابَذَةِ الْخَلِيفَةِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا مُنَابَذَةُ خُلَفَاءِ بَيْتِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَارْجِعْ إِلَى إِمَامِكَ
سَامِعًا مُطِيعًا. فَزَادَهُ ذَلِكَ كَسْرًا أَيْضًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَبُو
مُسْلِمٍ: إِنِّي سَأَبْعَثُ إِلَيْهِ أَبَا إِسْحَاقَ،
وَهُوَ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ.
فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ، وَوَعَدَهُ بِنِيَابَةِ خُرَاسَانَ إِنْ هُوَ
رَدَّهُ. فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ؟
قَالَ: رَأَيْتُهُمْ مُعَظِّمِينَ لَكَ يَعْرِفُونَ قَدْرَكَ. فَغَرَّهُ ذَلِكَ،
وَعَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَشَارَ أَمِيرًا يُقَالُ
لَهُ: نَيْزَكُ. فَنَهَاهُ، فَصَمَّمَ عَلَى الذَّهَابِ، فَلَمَّا رَآهُ نَيْزَكُ
عَازِمًا عَلَى الذَّهَابِ تَمَثَّلَ نَيْزَكُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ذَهَبَ الْقَضَاءُ بِحِيلَةِ
الْأَقْوَامِ
ثُمَّ قَالَ لَهُ: احْفَظْ عَنِّي وَاحِدَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا
دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ، ثُمَّ بَايِعْ مَنْ شِئْتَ بِالْخِلَافَةِ;
فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُخَالِفُونَكَ. وَكَتَبَ أَبُو مُسْلِمٍ إِلَى الْمَنْصُورِ
يُعْلِمُهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ كَاتِبُ الرَّسَائِلِ: فَدَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ
فِي خِبَاءِ شِعْرٍ بِالرُّومِيَّةِ جَالِسًا عَلَى مُصَلَّاهُ بَعْدَ الْعَصْرِ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ، فَأَلْقَاهُ إِلَيَّ فَإِذَا هُوَ كِتَابُ أَبِي
مُسْلِمٍ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيفَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي
مِنْهُ لِأَقْتُلَنَّهُ. قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَا يَأْتِينِي نَوْمٌ،
وَفَكَّرْتُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَقُلْتُ: إِنْ دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ
خَائِفًا رُبَّمَا يَبْدُو أَنَّهُ يَبْدُرُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَى الْخَلِيفَةِ،
وَالْمَصْلَحَةُ أَنْ يَدْخُلَ آمِنًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ.
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَبْتُ رَجُلًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقُلْتُ لَهُ: هَلْ
لَكَ أَنْ تَتَوَلَّى مَدِينَةَ كَسْكَرٍ; فَإِنَّهَا مُغِلَّةٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ؟ فَقَالَ: وَمَنْ لِي بِذَلِكَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: فَاذْهَبْ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَتَلَقَّهُ فِي الطَّرِيقِ، فَاطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَكَ تِلْكَ الْبَلَدَ; فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُرِيدُ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ وَيَسْتَرِيحَ لِنَفْسِهِ. وَاسْتَأْذَنْتُ الْمَنْصُورَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ لَهُ: سَلِّمْ عَلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّا بِالْأَشْوَاقِ إِلَيْهِ. فَسَارَ ذَلِكَ الرَّجُلُ - وَهُوَ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَابِرٍ - إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَأَخْبَرَهُ بِاشْتِيَاقِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ فَسَرَّهُ ذَلِكَ وَانْشَرَحَ، وَإِنَّمَا هُوَ غُرُورٌ وَمَكْرٌ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو مُسْلِمٍ بِذَلِكَ عَجَّلَ السَّيْرَ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَدَائِنِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْقَوَّادَ وَالْأُمَرَاءَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، وَكَانَ دُخُولُهُ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو أَيُّوبَ عَلَى الْمَنْصُورِ أَنْ يُؤَخِّرَ قَتْلَهُ فِي سَاعَتِهِ هَذِهِ إِلَى الْغَدِ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ مِنَ الْعَشِيِّ، قَالَ: اذْهَبْ فَأَرِحْ نَفْسَكَ، وَادْخُلِ الْحَمَّامَ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِنِي. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَجَاءَهُ النَّاسُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ طَلَبَ الْخَلِيفَةُ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ بَلَائِي عِنْدَكَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْتُلَ نَفْسِي لَقَتَلْتُهَا. قَالَ: فَكَيْفَ بِكَ إِذَا أَمَرْتُكَ بِقَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ؟ قَالَ: فَوَجَمَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ قَوْلَةً ضَعِيفَةً: أَقْتُلُهُ. ثُمَّ اخْتَارَ لَهُ مِنْ عُيُونِ الْحَرَسِ أَرْبَعَةً، فَحَرَّضَهُمُ الْخَلِيفَةُ عَلَى قَتْلِهِ، وَقَالَ: كُونُوا مِنْ وَرَاءِ الرِّوَاقِ، فَإِذَا صَفَّقْتُ فَاخْرُجُوا عَلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ. ثُمَّ أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ رُسُلًا تَتْرَى; يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِمٍ فَدَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ يَبْتَسِمُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلَ الْمَنْصُورُ يُعَاتِبُهُ فِي الَّذِي صَنَعَ
وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَيَعْتَذِرُ
عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا كَانَ اعْتَمَدَهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَسَرَّعَ
فِيهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَفْسُكَ
قَدْ طَابَتْ عَلَيَّ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا زَادَنِي هَذَا إِلَّا غَضَبًا
عَلَيْكَ. ثُمَّ ضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، فَخَرَجَ عُثْمَانُ
وَأَصْحَابُهُ، فَضَرَبُوهُ بِالسُّيُوفِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَلَفُّوهُ فِي
عَبَاءَةٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِإِلْقَائِهِ فِي دِجْلَةَ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِهِ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ
شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَاتَبَهُ بِهِ الْمَنْصُورُ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبْتَ
إِلَيَّ مَرَّاتٍ تَبْدَأُ بِنَفْسِكَ، وَأَرْسَلْتَ تَخْطُبُ عَمَّتِي أَمِينَةَ،
وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سُلَيْطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُقَالُ
هَذَا لِي وَقَدْ سَعَيْتُ فِي أَمْرِكُمْ بِمَا عَلِمَهُ كُلُّ أَحَدٍ. فَقَالَ:
وَيْلَكَ! لَوْ قَامَتْ فِي ذَلِكَ أَمَةٌ سَوْدَاءُ لَأَتَمَّهُ اللَّهُ;
لِجَدِّنَا وَحَظِّنَا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ:
اسْتَبْقِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَعْدَائِكَ. فَقَالَ: وَأَيُّ عَدُوٍّ
لِي أَعْدَى مِنْكَ ؟! ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ، كَمَا ذَكَرْنَا،
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْآنَ صِرْتَ
خَلِيفَةً. وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَنْصُورَ أَنْشَدَ عِنْدَ ذَلِكَ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ
بِهَا النَّوَى كَمًّا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ الْمَنْصُورَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى
قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ; هَلْ يَسْتَشِيرُ أَحَدًا فِي
ذَلِكَ أَوْ يَسْتَبِدُّ هُوَ بِرَأْيِهِ; لِئَلَّا يَشِيعَ وَيَنْتَشِرَ، ثُمَّ
إِنَّهُ اسْتَشَارَ وَاحِدًا مِنْ نُصَحَائِهِ فِي قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ
إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ الْأَنْبِيَاءِ: 22 ]. فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ
أَوْدَعْتَهَا أُذُنًا وَاعِيَةً. ثُمَّ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمٍ، أَبُو مُسْلِمٍ صَاحِبُ دَوْلَةِ -
وَيُقَالُ: دَعْوَةِ - بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: أَمِينُ آلِ
بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ سَنْفِيرُونَ بْنِ
أَسْفَنْدِيَارَ، أَبُو مُسْلِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، صَاحِبُ الدَّوْلَةِ
الْعَبَّاسِيَّةِ، يَرْوِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ
وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ. زَادَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي شُيُوخِهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ حَرْمَلَةَ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: رَوَى عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مَيْمُونٍ الصَّائِغُ، وَبِشْرٌ
وَالِدُ مُصْعَبِ بْنِ بِشْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شُبْرُمَةَ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيبٍ الْمَرْوَزِيُّ،
وَقُدَيْدُ بْنُ مَنِيعٍ صِهْرُ أَبِي مُسْلِمٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ فَاتِكًا، شُجَاعًا، ذَا رَأْيٍ وَعَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ
وَحَزْمٍ. وَقَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ بِالْمَدَائِنِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي " تَارِيخِ أَصْبَهَانَ
": كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارٍ. قِيلَ:
إِنَّهُ وُلِدَ بِأَصْبَهَانَ. وَرَوَى عَنِ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: كَانَ اسْمُ أَبِي مُسْلِمٍ - صَاحِبِ الدَّعْوَةِ -
إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ يَسَارِ بْنِ شِيدُوسَ بْنِ جُودِرْنَ، مِنْ
وَلَدِ بُزُرْجَمُهْرَ، وَكَانَ يُكَنَّى أَبَا إِسْحَاقَ، وَوُلِدَ
بِأَصْبَهَانَ، وَنَشَأَ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ أَوْصَى إِلَى عِيسَى بْنِ
مُوسَى السَّرَّاجِ، فَحَمَلَهُ إِلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ،
فَلَمَّا بَعَثَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ إِلَى خُرَاسَانَ قَالَ لَهُ:
غَيِّرِ اسْمَكَ وَكُنْيَتَكَ. فَتَسَمَّى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُسْلِمٍ،
وَاكْتَنَى بِأَبِي مُسْلِمٍ، فَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً
رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ بِإِكَافٍ،
وَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ نَفَقَةً مِنْ عِنْدِهِ، فَرَحَلَ إِلَى
خُرَاسَانَ وَهُوَ كَذَلِكَ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى صَارَتْ لَهُ
خُرَاسَانُ بِأَزِمَّتِهَا وَحَذَافِيرِهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ فِي
مُرُورِهِ إِلَى خُرَاسَانَ عَدَا رَجُلٌ فِي بَعْضِ الْخَانَاتِ عَلَى حِمَارِهِ،
فَهَلَبَ ذَنَبَهُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ وَحَكَمَ عَلَى ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ، جَعَلَهُ دَكًّا، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ خَرَابًا لَا يُسْكَنُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَصَابَهُ سِبَاءٌ فِي صِغَرِهِ، وَأَنَّهُ
اشْتَرَاهُ بَعْضُ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَنَّ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْإِمَامَ اسْتَوْهَبَهُ أَوِ اشْتَرَاهُ،
فَانْتَمَى إِلَيْهِ، وَزَوَّجَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حِينَ بَعَثَهُ
إِلَى خُرَاسَانَ، بِنْتَ أَبِي النَّجْمِ عِمْرَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الطَّائِيِّ، أَحَدِ دُعَاةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ
أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَوُلِدَ لِأَبِي مُسْلِمٍ بِنْتَانِ; إِحْدَاهُمَا
أَسْمَاءُ، أَعْقَبَتْ، وَفَاطِمَةُ، وَلَمْ تُعْقِبْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ مِنَ السِّنِينَ، كَيْفِيَّةَ اسْتِقْلَالِ أَبِي
مُسْلِمٍ بِأُمُورِ خُرَاسَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ،
وَنَشْرِهِ دَعْوَةَ بَنِي الْعَبَّاسِ.
وَقَدْ كَانَ ذَا هَيْبَةٍ وَصَرَامَةٍ وَإِقْدَامٍ وَتَسَرُّعٍ; رَوَى ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ
إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّوَادُ الَّذِي
أَرَى عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ
يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ. وَهَذِهِ ثِيَابُ الْهَيْبَةِ،
وَثِيَابُ الدَّوْلَةِ. يَا غُلَامُ، اضْرِبْ عُنُقَهُ.
وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُنِيبٍ، عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:مَنْ أَرَادَ هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ الصَّائِغُ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَجُلَسَائِهِ فِي زَمَنِ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يَعِدُهُ إِذَا ظَهَرَ أَنْ
يُقِيمَ الْحُدُودَ وَالْعَدْلَ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ أَبُو مُسْلِمٍ مَا زَالَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْمُونٍ يُلِحُّ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ بِمَا وَعَدَهُ بِهِ
حَتَّى أَحْرَجَهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ: هَلَّا كُنْتَ
تُنْكِرُ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ وَهُوَ يَعْمَلُ أَوَانِيَ الْخَمْرِ مِنَ
الذَّهَبِ فَيَبْعَثُهَا إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ؟ ! فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُولَئِكَ
لَمْ يَعِدُونِي مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا وَعَدْتَنِي أَنْتَ. وَقَدْ رَأَى
بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ لِإِبْرَاهِيمَ مَنَازِلَ عَالِيَةً فِي الْجَنَّةِ;
بِصَبْرِهِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا اعْتَمَدَهُ أَبُو مُسْلِمٍ فِي أَيَّامِ السَّفَّاحِ مِنَ
الطَّاعَةِ الْأَكِيدَةِ لَهُ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَامْتِثَالِ
مَرَاسِيمِهِ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَنْصُورِ اسْتَخَفَّ بِهِ
وَاحْتَقَرَهُ، وَمَعَ هَذَا كَسَرَ عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ حِينَ
دَعَا إِلَى نَفْسِهِ بِالشَّامِ، فَاسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ وَرَدَّهَا إِلَى
حُكْمِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ شَمَخَتْ نَفْسُهُ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَهَمَّ
بِقَلْعِهِ، فَفَطِنَ لِذَلِكَ الْمَنْصُورُ مَعَ مَا كَانَ مُبْطِنًا لَهُ مِنَ
الْبِغْضَةِ، وَقَدْ سَأَلَ أَخَاهُ السَّفَّاحَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ يَقْتُلَهُ
فَيَصْدِفَ عَنْ ذَلِكَ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي
مُسْلِمٍ وَالْمَنْصُورِ مِنَ الْمُرَاسَلَاتِ وَالْمُكَاتَبَاتِ، حِينَ
اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْمَنْصُورُ وَاتَّهَمَهُ بِسُوءِ النِّيَّةِ، وَمَا زَالَ
يُرَاسِلُهُ وَيَسْتَدْعِيهِ وَيَخْدَعُهُ وَيُمَاكِرُهُ حَتَّى اسْتَحْضَرَهُ
فَقَتَلَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا
بَيَانَهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: كَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّهُ يَرِينُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَتَطْبَعُ عَلَيْهَا الْمَعَاصِي، فَقَعْ
أَيُّهَا الطَّائِرُ، وَأَفِقْ أَيُّهَا السَّكْرَانُ، وَانْتَبِهْ أَيُّهَا
الْحَالِمُ، فَإِنَّكَ مَغْرُورٌ بِأَضْغَاثِ أَحْلَامٍ كَاذِبَةٍ، وَفِي بَرْزَخِ
دُنْيَا قَدْ غَرَّتْ مَنْ قَبْلَكَ، وَسُمَّ بِهَا سَوَالِفُ الْقُرُونِ، هَلْ
تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [ مَرْيَمَ: 98 ].
وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْجِزُهُ مَنْ هَرَبَ، وَلَا يَفُوتُهُ مَنْ طَلَبَ، وَلَا
تَغْتَرَّ بِمَنْ مَعَكَ مِنْ شِيعَتِي وَأَهْلِ دَعْوَتِي، فَكَأَنَّهُمْ قَدْ
صَاوَلُوكَ، إِنْ أَنْتَ خَلَعْتَ الطَّاعَةَ، وَفَارَقْتَ الْجَمَاعَةَ، بَدَا
لَكَ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ تَكُنْ تَحْتَسِبُ، مَهْلًا مَهْلًا، احْذَرِ
الْبَغْيَ أَبَا مُسْلِمٍ; فَإِنَّهُ مَنْ بَغَى وَاعْتَدَى تَخَلَّى اللَّهُ
مِنْهُ، وَنَصَرَ عَلَيْهِ مَنْ يَصْرَعُهُ لِلْيَدَيْنِ وَالْفَمِ، وَاحْذَرْ
أَنْ تَكُونَ سُنَّةً فِي الَّذِينَ قَدْ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، فَقَدْ قَامَتِ
الْحُجَّةُ، وَأَعْذَرْتُ إِلَيْكَ وَإِلَى أَهْلِ طَاعَتِي فِيكَ. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ
مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
[ الْأَعْرَافِ: 175 ]. فَأَجَابَهُ أَبُو مُسْلِمٍ: أَمَّا بَعْدُ; فَقَدْ
قَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَرَأَيْتُكَ فِيهِ لِلصَّوَابِ مُجَانِبًا، وَعَنِ الْحَقِّ
حَائِدًا، إِذْ تَضْرِبُ فِيهِ الْأَمْثَالَ عَلَى غَيْرِ أَشْكَالِهَا،
وَتَضْرِبُ فِيهِ
آيَاتٍ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ
لِلْكَافِرِينَ، وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ، وَإِنَّنِي وَاللَّهِ مَا انْسَلَخْتُ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ،
وَلَكِنَّنِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ كُنْتُ رَجُلًا مُتَأَوِّلًا
فِيكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ أَوْجَبَتْ لَكُمْ بِهَا الْوِلَايَةَ
وَالطَّاعَةَ، فَأْتَمَمْتُ بِأَخَوَيْنِ لَكَ مِنْ قَبْلِكَ، ثُمَّ بِكَ مِنْ
بَعْدِهِمَا، فَكُنْتُ لَهُمَا شِيعَةً مُتَدَيِّنًا، أَحْسَبُنِي هَادِيًا،
وَأَخْطَأْتُ فِي التَّأْوِيلِ، وَقَدِيمًا أَخْطَأَ الْمُتَأَوِّلُونَ، وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ
عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْأَنْعَامِ: 54 ]. وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّ
أَخَاكَ السَّفَّاحَ ظَهَرَ فِي صُورَةِ مَهْدِيٍّ، وَكَانَ ضَالًّا; أَمَرَنِي
أَنْ أُجَرِّدَ السَّيْفَ، وَأَقْتُلَ بِالظِّنَّةِ، وَأُقْدِمَ بِالشُّبْهَةِ،
وَأَرْفَعَ الرَّحْمَةَ وَلَا أُقِيلَ الْعَثْرَةَ، فَوَتَرْتُ أَهْلَ الدُّنْيَا
فِي طَاعَتِكُمْ، وَتَوْطِئَةِ سُلْطَانِكُمْ حَتَّى عَرَفَكُمْ مَنْ كَانَ
جَهِلَكُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَدَارَكَنِي مِنْهُ بِالنَّدَمِ،
وَاسْتَنْقَذَنِي بِالتَّوْبَةِ، فَإِنْ يَعْفُ عَنِّي وَيَصْفَحْ فَإِنَّهُ كَانَ
لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا، وَإِنْ يُعَاقِبْنِي فَبِذُنُوبِي، وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الْمُجْرِمُ
الْعَاصِي، فَإِنَّ أَخِي كَانَ إِمَامَ هُدًى، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنَ اللَّهِ، فَأَوْضَحَ لَكَ السَّبِيلَ، وَحَمَلَكَ عَلَى
الْمَنْهَجِ، فَلَوْ بِأَخِي اقْتَدَيْتَ مَا كُنْتَ عَنِ الْحَقِّ حَائِدًا،
وَعَنِ الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ صَادِرًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْنَحْ لَكَ
أَمْرَانِ إِلَّا كُنْتَ لِأَرْشَدِهِمَا تَارِكًا، وَلَأَغْوَاهُمَا مُوَافِقًا،
تَقْتُلُ قَتْلَ الْفَرَاعِنَةِ، وَتَبْطِشُ بَطْشَ الْجَبَابِرَةِ، وَتَحْكُمُ
بِالْجَوْرِ حُكْمَ
الْمُفْسِدِينَ، ثُمَّ مِنْ خَبَرِي
أَيُّهَا الْفَاسِقُ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُ مُوسَى بْنَ كَعْبٍ خُرَاسَانَ،
وَأَمَرْتُهُ بِالْمُقَامِ بِنَيْسَابُورَ، فَإِنْ أَرَدْتَ خُرَاسَانَ لَقِيَكَ
بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قُوَّادِي وَشِيعَتِي، وَأَنَا مُوَجِّهٌ لِلِقَائِكَ
أَقْرَانَكَ، فَاجْمَعْ كَيْدَكَ وَأَمْرَكَ غَيْرَ مُسَدَّدٍ وَلَا مُوَفَّقٍ،
وَحَسْبُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَلَمْ يَزَلِ الْمَنْصُورُ يُرَاسِلُهُ تَارَةً بِالرَّغْبَةِ وَتَارَةً
بِالرَّهْبَةِ، وَيَسْتَخِفُّ أَحْلَامَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَالرُّسُلِ الَّذِينَ يَبْعَثُ بِهِمْ أَبُو مُسْلِمٍ، حَتَّى حَسَّنُوا لَهُ فِي
رَأْيِهِ الْقُدُومَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ سِوَى أَمِيرٍ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ:
نَيْزَكُ. فَإِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَى أَبَا مُسْلِمٍ
قَدِ انْصَاعَ مَعَهُمْ قَالَ:
مَا لِلرِّجَالِ مَعَ الْقَضَاءِ مَحَالَةٌ ذَهَبَ الْقَضَاءُ بِحِيلَةِ
الْأَقْوَامِ
وَأَشَارَ عَلَيْهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، بِأَنْ يَبْدُرَ إِلَى قَتْلِ الْخَلِيفَةِ
إِنْ أَمْكَنَهُ، فَمَا أَمْكَنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا
مُسْلِمٍ لَمَّا قَدِمَ الْمَدَائِنَ تَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ عَنْ أَمْرِ
الْخَلِيفَةِ، فَمَا وَصَلَ إِلَّا آخِرَ النَّهَارِ، وَقَدْ أَشَارَ أَبُو
أَيُّوبَ كَاتِبُ الرَّسَائِلِ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ يَوْمَهُ
هَذَا، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ،
وَأَظْهَرَ احْتِرَامَهُ، وَقَالَ: اذْهَبِ اللَّيْلَةَ فَأَذْهِبْ عَنْكَ
وَعْثَاءَ السَّفَرِ، ثُمَّ ائْتِنِي مِنَ الْغَدِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ
أَرْصَدَ لَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَنْ يَقْتُلُهُ، مِنْهُمْ; عُثْمَانُ بْنُ
نَهِيكٍ، وَشَبِيبُ بْنُ
وَاجٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا تَتْرَى لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ وَيُقَالَ: بَلْ أَقَامَ أَيَّامًا يُظْهِرُ لَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْإِكْرَامَ وَالِاحْتِرَامَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ مِنْهُ الْوَحْشَةُ، فَخَافَ أَبُو مُسْلِمٍ، وَاسْتَشْفَعَ بِعِيسَى بْنِ مُوسَى، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، فَانْطَلِقْ فَأَنَا آتٍ وَرَاءَكَ، وَأَنْتَ فِي ذِمَّتِي حَتَّى آتِيَكَ - وَلَمْ يَكُنْ مَعَ عِيسَى بْنِ مُوسَى خَبَرٌ بِمَا يُرِيدُ بِهِ الْخَلِيفَةُ - فَجَاءَ أَبُو مُسْلِمٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالُوا لَهُ: اجْلِسْ هَاهُنَا; فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَتَوَضَّأُ. فَجَلَسَ وَهُوَ يَوَدُّ أَنْ يَطُولَ مَجْلِسُهُ لِيَجِيءَ عِيسَى بْنُ مُوسَى فَأَبْطَأَ، وَأَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يُعَاتِبُهُ فِي أَشْيَاءَ صَدَرَتْ مِنْهُ، فَيَعْتَذِرُ عَنْهَا جَيِّدًا، حَتَّى قَالَ لَهُ: فَلِمَ قَتَلْتَ سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ، وَفُلَانًا وَفُلَانًا؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ عَصَوْنِي وَخَالَفُوا أَمْرِي. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَنْصُورُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَنْتَ تَقْتُلُ إِذَا عُصِيتَ، وَأَنَا لَا أَقْتُلُكَ وَقَدْ عَصَيْتَنِي؟! وَصَفَّقَ بِيَدَيْهِ، وَكَانَتِ الْإِشَارَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ الْمُرْصَدِينَ لِقَتْلِهِ، فَتَبَادَرُوا إِلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ، فَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ فَقَطَعَ حَمَائِلَ سَيْفِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اسْتَبْقِنِي لِأَعْدَائِكَ. فَقَالَ: وَأَيُّ عَدُوٍّ أَعْدَى لِي مِنْكَ؟ ثُمَّ زَجَرَهُمُ الْمَنْصُورُ، فَقَطَّعُوهُ قِطَعًا قِطَعًا، وَلَفُّوهُ فِي عَبَاءَةٍ، وَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا أَبُو مُسْلِمٍ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: احْمَدِ اللَّهَ; فَإِنَّكَ هَجَمْتَ عَلَى نِعْمَةٍ، وَلَمْ تَهْجُمْ عَلَى نِقْمَةٍ. فَفِي
ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو دُلَامَةَ:
أَبَا مُسْلِمٍ مَا غَيَّرَ اللَّهُ نِعْمَةً عَلَى عَبْدِهِ حَتَّى يُغَيِّرَهَا
الْعَبْدُ
أَبَا مُسْلِمٍ خَوَّفْتَنِي الْقَتْلَ فَانْتَحَى عَلَيْكَ بِمَا خَوَّفْتَنِي
الْأَسَدُ الْوَرْدُ
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ تَقَدَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ
نَهِيكٍ وَشَبِيبِ بْنِ وَاجٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ حَرْبِ بْنِ قَيْسٍ وَآخَرَ مِنَ
الْحَرَسِ أَنْ يَكُونُوا قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو
مُسْلِمٍ، وَخَاطَبَهُ وَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى
فَلْيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ قَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ السَّيْفَانِ اللَّذَانِ أَصَبْتَهُمَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ؟
فَقَالَ: هَذَا أَحَدُهُمَا. قَالَ: أَرِنِيهِ. فَنَاوَلَهُ السَّيْفَ، فَوَضَعَهُ
الْمَنْصُورُ تَحْتَ رُكْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ
كَتَبْتَ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ - يَعْنِي السَّفَّاحَ - تَنْهَاهُ عَنِ
الْمَوَاتِ، أَرَدْتَ أَنْ تُعَلِّمَنَا الدِّينَ؟! قَالَ: إِنَّنِي ظَنَنْتُ أَنْ
أَخْذَهُ لَا يَحِلُّ، فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ عَلِمْتُ أَنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مَعْدِنُ الْعِلْمِ. قَالَ: فَلِمَ تَقَدَّمْتَ
عَلَيَّ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ؟ قَالَ: كَرِهْتُ اجْتِمَاعَنَا عَلَى الْمَاءِ،
فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِالنَّاسِ، فَتَقَدَّمْتُ الْتِمَاسَ الرِّفْقِ. قَالَ: فَلِمَ
لَا رَجَعْتَ إِلَيَّ حِينَ أَتَاكَ خَبَرُ مَوْتِ أَبِي الْعَبَّاسِ؟ قَالَ:
كَرِهْتُ التَّضْيِيقَ عَلَى النَّاسِ، وَعَرَفْتُ أَنَّا نَجْتَمِعُ
بِالْكُوفَةِ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ مِنِّي خِلَافٌ. قَالَ: فَجَارِيَةُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَرَدْتَ أَنْ تَتَّخِذَهَا لِنَفْسِكَ؟ قَالَ: لَا،
وَلَكِنِّي خِفْتَ أَنْ تَضِيعَ فَحَمَلْتُهَا فِي قُبَّةٍ، وَوَكَّلْتُ بِهَا
مَنْ يَحْفَظُهَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الْكَاتِبَ إِلَيَّ تَبْدَأُ
بِنَفْسِكَ، وَالْكَاتِبَ
إِلَيَّ تَخْطُبُ أُمَيْنَةَ بِنْتَ
عَلِيٍّ، وَتَزْعُمُ أَنَّكَ ابْنُ سَلِيطِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؟ !
هَذَا كُلُّهُ وَيَدُ الْمَنْصُورِ فِي يَدِهِ يَعْرِكُهَا وَيُقَبِّلُهَا
وَيَعْتَذِرُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى مُرَاغَمَتِي وَدُخُولِكَ
إِلَى خُرَاسَانَ؟ قَالَ: خِفْتُ أَنْ يَكُونَ دَخَلَكَ مِنِّي شَيْءٌ، فَقُلْتُ:
آتِي خُرَاسَانَ، وَأَكْتُبُ إِلَيْكَ بِعُذْرِي. قَالَ: فَلِمَ قَتَلْتَ
سُلَيْمَانَ بْنَ كَثِيرٍ وَكَانَ مِنْ نُقَبَائِنَا وَدُعَاتِنَا قِبَلَكَ؟
قَالَ: أَرَادَ خِلَافِي. فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَأَنْتَ أَرَدْتَ خِلَافِي
وَعَصَيْتَنِي، قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ. ثُمَّ ضَرَبَهُ بِعَمُودِ
الْخَيْمَةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أُولَئِكَ، فَضَرَبَهُ عُثْمَانُ فَقَطَعَ
حَمَائِلَ سَيْفِهِ وَضَرَبَهُ شَبِيبٌ فَقَطَعَ رِجْلَهُ وَاعْتَوَرَهُ
بَقِيَّتُهُمْ، وَالْمَنْصُورُ يَصِيحُ: وَيْحَكُمُ! اضْرِبُوا، قَطَعَ اللَّهُ
أَيْدِيَكُمْ. ثُمَّ ذَبَحُوهُ وَقَطَّعُوهُ قِطَعًا قِطَعًا، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي
دِجْلَةَ. وَيُرْوَى أَنَّ الْمَنْصُورَ لَمَّا قَتَلَ أَبَا مُسْلِمٍ وَقَفَ
عَلَيْهِ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا مُسْلِمٍ، بَايَعْتَنَا وَبَايَعْنَاكَ،
وَعَاهَدْتَنَا وَعَاهَدْنَاكَ، وَوَفَّيْتَ لَنَا وَوَفَّيْنَا لَكَ، وَإِنَّا
بَايَعْنَاكَ عَلَى أَنْ لَا يَخْرُجُ عَلَيْنَا أَحَدٌ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ
إِلَّا قَتَلْنَاهُ، فَخَرَجْتَ عَلَيْنَا فَقَتَلْنَاكَ، وَحَكَمْنَا عَلَيْكَ
حُكْمَكَ عَلَى نَفْسِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرَانِي
يَوْمَكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ ذَلِكَ:
زَعَمْتَ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يُقْتَضَى فَاسْتَوْفِ بِالْكَيْلِ أَبَا مُجْرِمٍ
سُقِيتَ كَأْسًا كُنْتَ تَسْقِي بِهَا
أَمَرَّ فِي الْحَلْقِ مِنَ الْعَلْقَمِ
وَقَدْ خَطَبَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ بَعْدَ قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تُنَفِّرُوا أَطْرَافَ النِّعْمَةِ بِقِلَّةِ الشُّكْرِ،
فَتَحِلَّ بِكُمُ النِّقْمَةُ، وَلَا تُسِرُّوا غِشَّ الْأَئِمَّةِ; فَإِنَّ
أَحَدًا لَا يُسِرُّ مِنْكُمْ شَيْئًا إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ،
وَصَفَحَاتِ وَجْهِهِ، وَطَوَالِعِ نَظَرِهِ، وَإِنَّا لَنْ نَجْهَلَ حُقُوقَكُمْ
مَا عَرَفْتُمْ حَقَّنَا، وَلَا نَنْسَى الْإِحْسَانَ إِلَيْكُمْ مَا ذَكَرْتُمْ
فَضْلَنَا، وَمَنْ نَازَعَنَا هَذَا الْقَمِيصَ أَوَطْأْنَا أُمَّ رَأَسِهِ
خَبِيءَ هَذَا الْغِمْدِ، وَإِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ بَايَعَ عَلَى أَنَّهُ مَنْ
نَكَثَ بَيْعَتَنَا وَأَظْهَرَ غِشَّنَا لَنَا فَقَدَ أَبَاحَنَا دَمَهُ،
وَنَكَثَ، وَغَدَرَ، وَفَجَرَ، وَكَفَرَ، فَحَكَمْنَا عَلَيْهِ لِأَنْفُسِنَا
حُكْمَهُ عَلَى غَيْرِهِ لَنَا، وَإِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ أَحْسَنَ مُبْتَدِئًا
وَأَسَاءَ مُعَقِّبًا، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ بِنَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَانَا،
وَرَجَحَ قَبِيحُ بَاطِنِهِ عَلَى حُسْنِ ظَاهِرِهِ، وَعَلِمْنَا مِنْ خُبْثِ
سَرِيرَتِهِ وَفَسَادِ نِيَّتِهِ مَا لَوْ عَلِمَ اللَّائِمُ لَنَا فِيهِ،
لَعَذَرَنَا فِي قَتْلِهِ، وَعَنَّفَنَا فِي إِمْهَالِهِ، وَمَا زَالَ يَنْقُضُ
بَيْعَتَهُ وَيَخْفِرُ ذِمَّتَهُ حَتَّى أَحَلَّ لَنَا عُقُوبَتَهُ، وَأَبَاحَنَا
دَمَهُ، فَحَكَمْنَا فِيهِ حُكْمَهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَمْنَعْنَا الْحَقُّ لَهُ
مِنْ إِمْضَاءِ الْحَقِّ فِيهِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ النَّابِغَةُ
الذُّبْيَانِيُّ لِلنُّعْمَانِ - يَعْنِي ابْنَ الْمُنْذِرِ: -
فَمَنْ أَطَاعَكَ فَانْفَعْهُ بِطَاعَتِهِ كَمَا أَطَاعَكَ وَادْلُلْهُ عَلَى
الرَّشَدِ
وَمَنْ عَصَاكَ فَعَاقِبْهُ
مُعَاقَبَةً تَنْهَى الظَّلُومَ وَلَا تَقْعُدْ عَلَى ضَمَدِ
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، بِسَنَدِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الْمُبَارَكِ سُئِلَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ; أَكَانَ خَيْرًا أَمِ الْحَجَّاجُ؟
فَقَالَ: لَا أَقُولُ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَحَدٍ، وَلَكِنْ
كَانَ الْحَجَّاجُ شَرًّا مِنْهُ.
وَقَدِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَرَمَوْهُ بِالزَّنْدَقَةِ،
وَلَمْ أَرَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
مِمَّنْ يَخَافُ اللَّهَ مِنْ ذُنُوبِهِ، وَقَدِ ادَّعَى التَّوْبَةَ مِمَّا كَانَ
سَفَكَ مِنَ الدِّمَاءِ فِي إِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِأَمْرِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: ارْتَدَيْتُ الصَّبْرَ، وَآثَرْتُ
الْكِتْمَانَ، وَحَالَفْتُ الْأَحْزَانَ وَالْأَشْجَانَ، وَسَامَحْتُ
الْمَقَادِيرَ وَالْأَحْكَامَ حَتَّى بَلَغْتُ غَايَةَ هِمَّتِي، وَأَدْرَكْتُ
نِهَايَةَ بُغْيَتِي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
قَدْ نِلْتُ بِالْحَزْمِ وَالْكِتْمَانِ مَا عَجَزَتْ عَنْهُ مُلُوكُ بَنِي
مَرْوَانَ إِذْ حَشَدُوا
مَا زِلْتُ أَضْرِبُهُمْ بِالسَّيْفِ فَانْتَبَهُوا مِنْ رَقْدَةٍ لَمْ يَنَمْهَا
قَبْلَهُمْ أَحَدُ
طَفِقْتُ أَسْعَى عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ وَالْقَوْمُ فِي مُلْكِهِمْ
بِالشَّامِ قَدْ رَقَدُوا
وَمَنْ رَعَى غَنَمًا فِي أَرْضِ مَسْبَعَةٍ وَنَامَ عَنْهَا تَوَلَّى رَعْيَهَا
الْأَسَدُ
وَقَدْ كَانَ قَتَلَهُ بِالْمَدَائِنِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ -
وَقِيلَ: لِخَمْسٍ بَقِينَ.
وَقِيلَ: لِأَرْبَعٍ. وَقِيلَ:
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا - مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. أَعْنِي سَنَةَ
سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ابْتِدَاءُ ظُهُورِهِ فِي رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَقُتِلَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُتِلَ بِبَغْدَادَ فِي سَنَةِ
أَرْبَعِينَ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ قَائِلِهِ; فَإِنَّ بَغْدَادَ لَمْ تَكُنْ
بُنِيَتْ بَعْدُ، وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي
" تَارِيخِهِ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ شَرَعَ فِي تَأْلِيفِ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ
بِالْأَعْطِيَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَاسْتَدْعَى أَبَا إِسْحَاقَ،
وَكَانَ مِنْ أَعَزِّ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ عِنْدَهُ، وَكَانَ عَلَى
شُرْطَتِهِ، وَهَمَّ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَاللَّهِ مَا أَمِنْتُ قَطُّ إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَمَا مِنْ مَرَّةٍ
كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَيْهِ إِلَّا تَحَنَّطْتُ وَلَبِسْتُ أَكْفَانِي. ثُمَّ كَشَفَ
عَنْ ثِيَابِهِ الَّتِي تَلِي جَسَدَهُ فَإِذَا هُوَ مُحَنَّطٌ، وَعَلَيْهِ
أَدْرَاعُ أَكْفَانٍ، فَرَقَّ لَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَطْلَقَهُ.
وَذِكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ قَتَلَ فِي حُرُوبِهِ وَمَا كَانَ
يَتَعَاطَاهُ لِأَجْلِ دَوْلَةِ
بَنِي الْعَبَّاسِ، سِتَّمِائَةِ
أَلْفٍ صَبْرًا. وَقَدْ قَالَ لِلْمَنْصُورِ وَهُوَ يُعَاتِبُهُ عَلَى مَا كَانَ
يَصْنَعُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يُقَالُ لِي مِثْلُ هَذَا بَعْدَ
بَلَائِي وَمَا كَانَ مِنِّي. فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَبِيثَةِ، وَاللَّهِ لَوْ
كَانَتْ أَمَةٌ مَكَانَكَ لَأَجْزَأَتْ عَنْكَ، إِنَّمَا عَمِلْتَ مَا عَمِلْتَ
فِي دَوْلَتِنَا وَبِرِيحِنَا، لَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَمَا قَطَعْتَ
فَتِيلًا.
وَلَمَّا قَتَلَهُ الْمَنْصُورُ لُفَّ فِي كِسَاءٍ وَهُوَ مُقَطَّعٌ إِرَبًا
إِرَبًا، فَدَخَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الَّذِي كَانَ وَعَدَهُ أَنْ يَلْحَقَهُ
لِيَشْفَعَ فِيهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْنَ أَبُو مُسْلِمٍ؟
قَالَ: قَدْ كَانَ هَاهُنَا آنِفًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ
عَرَفْتَ طَاعَتَهُ وَنَصِيحَتَهُ، وَرَأْيَ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ فِيهِ.
فَقَالَ لَهُ: يَا أَنْوَكُ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَدُوًّا
أَعْدَى لَكَ مِنْهُ، هَا هُوَ ذَاكَ فِي الْبِسَاطِ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ! فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: خَلَعَ اللَّهُ
قَلْبَكَ! وَهَلْ كَانَ لَكُمْ مُلْكٌ أَوْ سُلْطَانٌ أَوْ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ
مَعَ أَبِي مُسْلِمٍ؟
ثُمَّ اسْتَدْعَى الْمَنْصُورُ بِرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ، فَجَعَلَ يَسْتَشِيرُهُمْ
فِي قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِقَتْلِهِ، فَكُلُّهُمْ
يُشِيرُ بِقَتْلِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِذَا تَكَلَّمَ أَسَرَّ كَلَامَهُ لِئَلَّا
يُنْقَلَ عَنْهُ إِلَى أَبِي مُسْلِمٍ، فَلَمَّا أَطْلَعَهُمُ الْخَلِيفَةُ عَلَى
قَتْلِهِ أَفْرَحَهُمْ ذَلِكَ، وَأَظْهَرُوا سُرُورًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَطَبَ
الْمَنْصُورُ النَّاسَ عَامَّةً بِذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
ثُمَّ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى نَائِبِ أَبِي مُسْلِمٍ عَلَى أَمْوَالِهِ
وَحَوَاصِلِهِ بِكِتَابٍ
عَلَى لِسَانِ أَبِي مُسْلِمٍ،
وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِ أَبِي مُسْلِمٍ، أَنْ يَقْدُمَ بِجَمِيعِ مَا
عِنْدَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى
نَائِبِهِ وَعَلَيْهِ الْخَاتَمُ بِكَمَالِهِ مَطْبُوعًا اسْتَرَابَ فِي
الْأَمْرِ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ: إِنِّي إِذَا
بَعَثْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي، فَإِنَّمَا أَخْتِمُ بِنِصْفِ الْفَصِّ عَلَى
الْكِتَابِ، فَإِذَا جَاءَكَ الْخَاتَمُ بِكَمَالِهِ فَلَا تَقْبَلْ. فَامْتَنَعَ
نَائِبُهُ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، فَأَرْسَلَ
الْمَنْصُورُ إِلَيْهِ مَنْ قَبَضَهُ لَهُ، وَقَتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ.
وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي دَاوُدَ خَالِدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِإِمْرَةِ
خُرَاسَانَ كَمَا وَعَدَهُ قَبْلَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ. وَلِلَّهِ الْأَمْرُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ سِنْبَاذُ يَطْلُبُ بِدَمِ أَبِي مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيِّ، وَقَدْ كَانَ سِنْبَاذُ هَذَا مَجُوسِيًّا تَغَلَّبَ عَلَى
قُومِسَ وَأَصْبَهَانَ وَالرَّيَّ، وَتُسَمَّى بِفَيْرُوزَ أَصْبَهْبَذَ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ جَيْشًا هُمْ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ
عَلَيْهِمْ جَهْوَرُ بْنُ مَرَّارٍ الْعِجْلِيُّ، فَالْتَقَوْا بَيْنَ هَمَذَانَ
وَالرَّيِّ عَلَى طَرَفِ الْمَفَازَةِ،
فَهَزَمَ جَهْوَرٌ لِسِنْبَاذَ،
وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتِّينَ أَلْفًا، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ، وَقُتِلَ سِنْبَاذُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَبْعِينَ
يَوْمًا. وَأُخِذَ مَا كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ أَبِي مُسْلِمٍ
الَّتِي كَانَتْ بِالرَّيِّ.
وَخَرَجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مُلَبَّدٌ. فِي
أَلْفٍ مِنَ الْخَوَارِجِ بِالْجَزِيرَةِ، فَجَهَّزَ لَهُ الْمَنْصُورُ جُيُوشًا
مُتَعَدِّدَةً كَثِيفَةً، فَكُلُّهَا تَنْفِرُ مِنْ مُلَبَّدٍ، ثُمَّ قَاتَلَهُ
حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ فَهَزَمَهُ مُلَبَّدٌ، وَتَحَصَّنَ
مِنْهُ حُمَيْدٌ فِي بَعْضِ الْحُصُونِ، ثُمَّ صَالَحَهُ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ
عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، وَقَبِلَهَا مُلَبَّدٌ، وَانْقَلَعَ
عَنْهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمُّ الْخَلِيفَةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَكَانَ
نَائِبَ الْمَوْصِلِ، وَعَلَى نِيَابَةِ الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ حُمَيْدُ بْنُ
قَحْطَبَةَ، وَعَلَى مِصْرَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَبُو دَاوُدَ
خَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى الْحِجَازِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ; لِشُغْلِ الْخَلِيفَةِ
بِسِنْبَاذَ.
وَمِنْ مَشَاهِيرِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو مُسْلِمٍ
الْخُرَاسَانِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ
أَحَدُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِمْ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي " التَّكْمِيلِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ قُسْطَنْطِينُ مَلِكُ الرُّومِ مَلَطِيَةَ عَنْوَةً، فَهَدَمَ
سُورَهَا، وَعَفَا عَمَّنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ مُقَاتِلِيهَا.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ نَائِبُ مِصْرَ، فَبَنَى مَا
كَانَ هَدَمَهُ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ سُوَرِ مَلَطْيَةَ وَأَطْلَقَ لِأَخِيهِ
عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَذَلِكَ أَعْطَى لِابْنِ
أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِيهَا بَايَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الَّذِي فَتَحَ دِمَشْقَ ثُمَّ
كَسَرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَانْهَزَمَ إِلَى الْبَصْرَةِ،
وَاسْتَجَارَ بِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، حَتَّى بَايَعَ لِلْخَلِيفَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَجَعَ إِلَى طَاعَتِهِ، وَلَكِنْ حُبِسَ فِي سِجْنِ
بَغْدَادَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا خَلَعَ جَهْوَرُ بْنُ مَرَّارٍ الْعِجْلِيُّ الْخَلِيفَةَ الْمَنْصُورَ،
وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَسَرَ سِنْبَاذَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَمَا
كَانَ عِنْدَهُ مِنْ أَمْوَالِ أَبِي مُسْلِمٍ، فَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ،
وَظَنَّ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى مُنَابَذَةِ الْخَلِيفَةِ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ الْخُزَاعِيَّ فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَهُزِمَ جَهْوَرٌ، وَقُتِلَ
عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَأُخِذَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْحَوَاصِلِ، ثُمَّ لَحِقُوهُ فَقَتَلُوهُ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْمُلَبَّدُ
الْخَارِجِيُّ عَلَى يَدَيْ خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ،
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُلَبَّدِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ، وَانْهَزَمَ
بَقِيَّتُهُمْ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ
صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ. وَالنُّوَّابُ فِيهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا: زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، وَالْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَلَيْثٌ ابْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، فِي قَوْلٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ خِلَافَةُ الدَّاخِلِ عَلَى بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَهُوَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ الْهِشَامِيُّ، كَانَ قَدْ دَخَلَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَاجْتَازَ
بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِقَوْمٍ يَقْتَتِلُونَ عَلَى عَصَبِيَّةِ
الْيَمَانِيَةِ وَالْمُضَرِيَّةِ، فَبَعَثَ مَوْلَاهُ بَدْرًا إِلَيْهِمْ
فَاسْتَمَالَهُمْ إِلَيْهِ، فَبَايَعُوهُ وَدَخَلَ بِهِمْ، فَفَتَحَ بِلَادَ
الْأَنْدَلُسِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ نَائِبِهَا
يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
عُقْبَةَ بْنِ نَافِعٍ الْفِهْرِيِّ وَقَتَلَهُ، وَسَكَنَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
قُرْطُبَةَ، وَاسْتَمَرَّ فِي خِلَافَتِهِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَةٍ - إِلَى سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ فَتُوُفِّيَ فِيهَا، وَلَهُ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَشْهُرٌ.
ثُمَّ قَامَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هِشَامٌ سِتَّ سِنِينَ وَأَشْهُرًا ثُمَّ
مَاتَ، فَوَلِي وَلَدُهُ الْحَكَمُ بْنُ هِشَامٍ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً
وَأَشْهُرًا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ ابْنُهُ الْمُنْذِرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ ابْنُ
ابْنِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُنْذِرِ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ بَعْدَ الثَّلَاثِمِائَةِ بِدَهْرٍ، ثُمَّ
زَالَتْ تِلْكَ الدَّوْلَةُ كَمَا سَنَذْكُرُ، ثُمَّ انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ
وَأَهْلُهَا فَكَأَنَّهُمْ عَلَى مِيعَادٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَكْمَلَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ بِنَاءَ مَلَطْيَةَ، ثُمَّ غَزَا الصَّائِفَةَ
عَلَى طَرِيقِ الْحَدَثِ، فَوَغَلَ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَغَزَا مَعَهُ
أُخْتَاهُ أُمُّ عِيسَى وَلُبَابَةُ ابْنَتَا عَلِيٍّ، وَكَانَتَا نَذَرَتَا إِنْ
زَالَ مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ أَنْ تُجَاهِدَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ الَّذِي حَصَلَ بَيْنَ الْمَنْصُورِ وَمَلِكِ الرُّومِ،
فَاسْتَنْقَذَ بَعْضَ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ
صَائِفَةٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ
لِاشْتِغَالِ الْمَنْصُورِ بِأَمْرِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ، وَلَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ قَحْطَبَةَ غَزَا
الصَّائِفَةَ مَعَ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامِ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَنْصُورُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَكَانَتْ هَذِهِ
السَّنَةُ خِصْبَةً جِدًّا، فَكَانَ
يُقَالُ لَهَا: سَنَةُ الْخِصْبِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَلِيٍّ عَنْ إِمْرَةِ
الْبَصْرَةِ - وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ -
فَاخْتَفَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ وَأَصْحَابُهُ خَوْفًا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ، فَبَعَثَ الْمَنْصُورُ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَهُوَ
سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، يَسْتَحِثُّهُ فِي إِحْضَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَلِيٍّ إِلَيْهِ، فَبَعَثَهُ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ بَعْضَهُمْ، وَسَجَنَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ بَقِيَّةَ أَصْحَابِهِ إِلَى أَبِي دَاوُدَ
نَائِبِ خُرَاسَانَ، فَقَتَلَهُمْ هُنَاكَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْهَادِ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَحَدُ الْعُبَّادِ وَصَاحِبُ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا ثَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ عَلَى أَبِي دَاوُدَ نَائِبِ خُرَاسَانَ،
وَحَاصَرُوا دَارَهُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ يَسْتَغِيثُ بِجُنْدِهِ
لِيَحْضُرُوا إِلَيْهِ، وَاتَّكَأَ عَلَى آجُرَّةٍ فِي الْحَائِطِ، فَانْكَسَرَتْ
بِهِ، فَسَقَطَ فَانْكَسَرَ ظَهْرُهُ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَخَلَفَهُ عَلَى
خُرَاسَانَ عِصَامٌ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، حَتَّى قِدَمَ الْأَمِيرُ عَلَيْهَا مِنْ
جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، وَهُوَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأَزْدِيُّ، فَتَسَلَّمَ بِلَادَ خُرَاسَانَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ
بِهَا; لِأَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى خِلَافَةِ آلِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَحَبَسَ آخَرِينَ، وَأَخَذَ نُوَّابَ أَبِي دَاوُدَ
بِجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ الْمُنْكَسِرَةِ عِنْدَهُمْ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْخَلِيفَةُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ; أَحْرَمَ
فِي الْحِيرَةِ، وَرَجَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ
رَحَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَزَارَهُ وَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ سَلَكَ الشَّامَ
إِلَى الرَّقَّةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى الْهَاشِمِيَّةِ; هَاشِمِيَّةِ الْكُوفَةِ.
وَنُوَّابُ الْأَقَالِيمِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى
خُرَاسَانَ، فَإِنَّهُ مَاتَ نَائِبُهَا أَبُو دَاوُدَ، فَخَلَفَهُ مَكَانَهُ
عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ دَاوُدُ ابْنُ أَبِي هِنْدَ، وَأَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ
دِينَارٍ، وَسُهَيْلُ بْنُ
أَبِي صَالِحٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَتْ طَائِفَةٌ يُقَالُ لَهُمْ: الرَّاوَنْدِيَّةُ. عَلَى
الْمَنْصُورِ.
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْمَدَائِنِيِّ أَنَّ أَصْلَهُمْ مِنْ خُرَاسَانَ،
وَهُمْ عَلَى رَأْيِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، كَانُوا يَقُولُونَ
بِالتَّنَاسُخِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ رُوحَ آدَمَ انْتَقَلَتْ إِلَى عُثْمَانَ
بْنِ نَهِيكٍ، وَأَنَّ رَبَّهُمُ الَّذِي يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ أَبُو
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَأَنَّ الْهَيْثَمَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جِبْرِيلُ.
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: فَأَتَوْا يَوْمًا قَصْرَ الْمَنْصُورِ،
فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: هَذَا قَصْرُ رَبِّنَا. فَأَرْسَلَ
الْمَنْصُورُ إِلَى رُؤَسَائِهِمْ، فَحَبَسَ مِنْهُمْ مِائَتَيْنِ، فَغَضِبُوا
مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: عَلَامَ تَحْبِسُهُمْ؟ ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى نَعْشٍ،
فَحَمَلُوهُ عَلَى كَوَاهِلِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَاجْتَمَعُوا
حَوْلَهُ، كَأَنَّهُمْ يُشَيِّعُونَ جِنَازَةً، فَاجْتَازُوا بِبَابِ السِّجْنِ،
فَأَلْقَوْا النَّعْشَ وَدَخَلُوا السِّجْنَ قَهْرًا، وَاسْتَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ
مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَقَصَدُوا نَحْوَ الْمَنْصُورِ وَهُمْ فِي سِتِّمِائَةٍ، فَتَنَادَى
النَّاسُ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ، وَخَرَجَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْقَصْرِ
مَاشِيًا; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَصْرِ دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا، ثُمَّ جِيءَ
بِدَابَّةٍ فَرَكِبَهَا وَقَصَدَ نَحْوَ الرَّاوَنْدِيَّةِ، وَجَاءَ النَّاسُ مِنْ
كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَجَاءَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ تَرَجَّلَ وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّةِ الْمَنْصُورِ، وَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ارْجِعْ وَنَحْنُ نَكْفِيكَهُمْ. فَأَبَى، وَقَامَ أَهْلُ
السُّوقِ إِلَيْهِمْ فَقَاتَلُوهُمْ،
وَجَاءَتِ الْجُيُوشُ فَالْتَفُّوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ،
فَحَصَدُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، وَجَرَحُوا
عُثْمَانَ بْنَ نَهِيكٍ بِسَهْمٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَمُرِّضَ أَيَّامًا ثُمَّ
مَاتَ، فَوَلِيَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمَنْصُورُ، وَقَامَ عَلَى
قَبْرِهِ حَتَّى دُفِنَ، وَدَعَا لَهُ، وَوَلَّى أَخَاهُ عِيسَى بْنَ نَهِيكٍ
عَلَى الْحَرَسِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَدِينَةِ الْهَاشِمِيَّةِ مِنَ
الْكُوفَةِ.
وَلَمَّا فَرَغَ الْمَنْصُورُ مِنْ قِتَالِ الرَّاوَنْدِيَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ
صَلَّى بِالنَّاسِ الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا، ثُمَّ أُتِيَ بِالطَّعَامِ
فَقَالَ: أَيْنَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ؟ وَأَمْسَكَ عَنِ الطَّعَامِ حَتَّى جَاءَ
مَعْنٌ، فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ، ثُمَّ أَخَذَ فِي شُكْرِهِ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ;
لِمَا رَأَى مِنْ شَهَامَتِهِ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ مَعْنٌ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ جِئْتُ وَإِنِّي لَوَجِلٌ، فَلَمَّا رَأَيْتُ
اسْتِهَانَتَكَ بِهِمْ وَإِقْدَامَكَ عَلَيْهِمْ قَوِيَ قَلْبِي بِذَلِكَ، وَمَا
ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَكُونُ فِي الْحَرْبِ هَكَذَا، فَذَاكَ الَّذِي
شَجَّعَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَمَرَ لَهُ الْمَنْصُورُ بِعَشَرَةِ
آلَافٍ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَوَلَّاهُ الْيَمَنَ، وَكَانَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ
قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيًا; لِأَنَّهُ قَاتَلَ الْمُسَوِّدَةَ مَعَ ابْنِ
هُبَيْرَةَ، فَلَمْ يَظْهَرْ إِلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ. فَلَمَّا رَأَى
الْخَلِيفَةُ صِدْقَهُ فِي قِتَالِهِ رَضِيَ عَنْهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَنْصُورَ قَالَ: أَخْطَأْتُ فِي ثَلَاثٍ; قَتَلْتُ أَبَا
مُسْلِمٍ وَأَنَا فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ، وَحِينَ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ
وَلَوِ اخْتَلَفَ سَيْفَانِ بِالْعِرَاقِ لَذَهَبَتِ الْخِلَافَةُ، وَيَوْمَ
الرَّاوِنْدِيَّةِ لَوْ أَصَابَنِي سَهْمٌ غَرْبٌ لَذَهَبْتُ ضَيَاعًا. وَهَذَا
مِنْ حَزْمِهِ وَصَرَامَتِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْمَنْصُورَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْمَهْدِيَّ
وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، بِلَادَ
خُرَاسَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ
الْجَبَّارِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا مِنْ
شِيعَةِ الْخَلِيفَةِ، فَشَكَاهُ الْمَنْصُورُ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الْخَوْزِيِّ
كَاتِبِ الرَّسَائِلِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اكْتُبْ إِلَيْهِ
لِيَبْعَثَ جَيْشًا مِنْ خُرَاسَانَ لِغَزْوِ الرُّومِ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ
عِنْدِهِ بَعَثْتَ إِلَيْهِ مَنْ شِئْتَ فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا ذَلِيلًا لَيْسَ
عِنْدَهُ كَثِيرُ أَحَدٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ بِذَلِكَ، فَرَدَّ
الْجَوَابَ بِأَنَّ بِلَادَ خُرَاسَانَ قَدْ عَاثَتْ بِهَا الْأَتْرَاكُ، وَمَتَى
خَرَجَ مِنْهَا جَيْشٌ فَسَدَ أَمْرُهَا. فَقَالَ الْمَنْصُورُ لِأَبِي أَيُّوبَ:
مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: فَاكْتُبْ إِلَيْهِ بِأَنَّ بِلَادَ خُرَاسَانَ أَحَقُّ
بِالْمَدَدِ مِنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ جَهَّزْتُ إِلَيْكَ بِالْجُنُودِ فَأَجَابَ
بِأَنَّ بِلَادَ خُرَاسَانَ فِي هَذَا الْعَامِ مُضَيَّقَةٌ أَقْوَاتُهَا، وَمَتَى
دَخَلَهَا جَيْشٌ أَفْسَدَهَا. فَقَالَ الْخَلِيفَةُ لِأَبِي أَيُّوبَ: مَا
تَقُولُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا رَجُلٌ قَدْ أَبْدَى
صَفْحَتَهُ وَخَلَعَ، فَلَا تُنَاظِرْهُ. فَحِينَئِذٍ بَعَثَ الْمَنْصُورُ ابْنَهُ
مُحَمَّدًا الْمَهْدِيَّ لِيُقِيمَ بِالرَّيِّ، وَبَعَثَ الْمَهْدِيُّ خَازِمَ
بْنَ خُزَيْمَةَ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ، فَمَا
زَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى هَزَمُوا مَنْ مَعَهُ، وَأَخَذُوهُ فَأَرْكَبُوهُ
بَعِيرًا مُحَوَّلًا وَجْهُهُ إِلَى نَاحِيَةِ ذَنَبِ الْبَعِيرِ، وَسَيَّرُوهُ
كَذَلِكَ فِي الْبِلَادِ حَتَّى أَقْدَمُوهُ عَلَى الْمَنْصُورِ، وَمَعَهُ ابْنُهُ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَضَرَبَ الْمَنْصُورُ عُنُقَهَ، وَسَيَّرَ ابْنَهُ
وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى جَزِيرَةِ دَهْلَكَ فِي طَرَفِ الْيَمَنِ،
فَأَسَرَتْهُمُ الْهُنُودُ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ فَوِدِيَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَاسْتَقَرَّ الْمَهْدِيُّ نَائِبًا بِخُرَاسَانَ، وَأَمَرَهُ أَبُوهُ أَنْ
يَغْزُوَ طَبَرِسْتَانَ، وَأَنْ يُحَارِبَ الْأَصْبَهْبَذَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجُنُودِ، وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَكَانَ
مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَرْبِ طَبَرِسْتَانَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ
بِشَارٌ الشَّاعِرُ:
فَقُلْ لِلْخَلِيفَةِ إِنْ جِئْتَهُ نَصِيحًا وَلَا خَيْرَ فِي الْمُتَّهَمِ
إِذَا أَيْقَظَتْكَ حُرُوبُ الْعِدَا
فَنَبِّهْ لَهَا عُمَرًا ثُمَّ نَمْ فَتًى لَا يَنَامُ عَلَى دِمْنَةٍ
وَلَا يَشْرَبُ الْمَاءَ إِلَّا بِدَمْ
فَلَمَّا تَوَاقَفَتِ الْجُيُوشُ عَلَى طَبَرِسْتَانَ، فَتَحُوهَا وَحَصَرُوا
الْأَصْبَهْبَذَ حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى قَلْعَتِهِ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى مَا
فِيهَا مِنَ الذَّخَائِرِ، وَكَتَبَ الْمَهْدِيُّ إِلَى أَبِيهِ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ
الْأَصْبَهْبَذُ بِلَادَ الدَّيْلَمِ، فَمَاتَ هُنَاكَ، وَكَسَرُوا أَيْضًا مَلِكَ
التُّرْكِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْمَصْمُغَانُ. وَأَسَرُوا أُمَمًا مِنَ
الذَّرَارِي، فَهَذَا فَتْحُ طَبَرِسْتَانَ الْأَوَّلُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِغَ مِنْ بِنَاءِ الْمِصِّيصَةِ عَلَى يَدَيْ
جَبْرَئِيلَ بْنِ يَحْيَى الْخُرَاسَانِيِّ.
وَفِيهَا رَابَطَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامُ بِبِلَادِ مَلَطْيَةَ.
وَفِيهَا عُزِلَ زِيَادُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ إِمْرَةِ الْحِجَازِ،
وَوَلِيَ الْمَدِينَةَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ،
فَقَدِمَهَا فِي رَجَبٍ، وَوَلِيَ مَكَّةَ وَالطَّائِفَ الْهَيْثَمُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ الْعَتَكِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُوسَى بْنُ كَعْبٍ، وَهُوَ عَلَى شُرْطَةِ الْمَنْصُورِ
وَعَلَى مِصْرَ وَالْهِنْدِ، وَنَائِبُهُ فِي الْهِنْدِ ابْنُهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ ثُمَّ عُزِلَ، وَوَلِيَ
عَلَيْهَا نَوْفَلُ بْنُ الْفُرَاتِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ، وَهُوَ نَائِبُ قِنِّسْرِينَ
وَحِمْصَ وَدِمَشْقَ،
وَبَقِيَّةِ الْبِلَادِ عَلَيْهَا مَنْ
ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ صَاحِبُ
الْمَغَازِي، وَأَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ فِي قَوْلٍ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ عُيَيْنَةُ بْنُ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ نَائِبُ السِّنْدِ
الْخَلِيفَةَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْعَسَاكِرَ صُحْبَةَ عُمَرَ بْنِ
حَفْصِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ، وَوَلَّاهُ السِّنْدَ وَالْهِنْدَ، فَحَارَبَهُ
عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ، وَقَهَرَهُ عَلَى الْأَرْضِ، وَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ.
وَفِيهَا نَكَثَ أَصْبَهْبَذُ طَبَرِسْتَانَ الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَتَلَ طَائِفَةً مِمَّنْ كَانَ بِطَبَرِسْتَانَ،
فَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْجُيُوشَ صُحْبَةَ خَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ،
وَرَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَمَعَهُمْ مَرْزُوقٌ أَبُو الْخَصِيبِ، مَوْلَى
الْمَنْصُورِ، فَحَاصَرُوهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَلَمَّا أَعْيَاهُمْ فَتْحُ
الْحِصْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ احْتَالُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْخَصِيبِ
قَالَ لَهُمُ: اضْرِبُونِي وَاحْلِقُوا رَأْسِي وَلِحْيَتِي. فَفَعَلُوا ذَلِكَ،
فَذَهَبَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ مُغَاضِبٌ لِلْمُسْلِمِينَ، فَدَخَلَ الْحِصْنَ،
فَفَرِحَ بِهِ الْأَصْبَهْبَذُ، وَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ، وَجَعَلَ أَبُو
الْخَصِيبِ يُظْهِرُ لَهُ مِنَ النُّصْحِ وَالْخِدْمَةِ حَتَّى خَدَعَهُ، وَحَظِيَ
عِنْدَهُ جِدًّا، وَجَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَتَوَلَّى فَتْحَ الْحِصْنِ
وَغَلْقَهُ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ عِنْدَهُ كَاتَبَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمَهُمْ
أَنَّ اللَّيْلَةَ الْفُلَانِيَّةَ فِي حَرَسِهِ، فَاقْتَرِبُوا مِنَ الْبَابِ
حَتَّى أَفْتَحَهُ لَكُمْ. فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَتَحَ
لِلْمُسْلِمِينَ الْبَابَ، وَدَخَلُوا فَقَتَلُوا مَنْ فِيهِ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ
وَسَبَوُا الذُّرِّيَّةَ، وَامْتَصَّ الْأَصْبَهْبَذُ خَاتَمًا مَسْمُومًا
فَمَاتَ. فَكَانَ مِمَّنْ أُسِرَ يَوْمَئِذٍ أُمُّ الْمَنْصُورِ ابْنِ
الْمَهْدِيِّ، وَأُمُّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَتَا مِنْ بَنَاتِ
الْمُلُوكِ.
وَفِيهَا بَنَى
الْمَنْصُورُ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ قِبْلَتَهُمُ الَّتِي يُصَلُّونَ عِنْدَهَا
بِالْحِمَّانِ، وَوَلِيَ بِنَاءَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَابِرٍ نَائِبُ
الْفُرَاتِ وَالْأُبُلَّةِ. وَصَامَ الْمَنْصُورُ شَهْرَ رَمَضَانَ بِالْبَصْرَةِ،
وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعِيدَ فِي ذَلِكَ الْمُصَلَّى.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ نَوْفَلَ بْنَ الْفُرَاتِ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
عَمُّ الْخَلِيفَةِ وَنَائِبُ الْبَصْرَةِ، كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ
لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ عَبْدُ الصَّمَدِ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعِكْرِمَةَ وَأَبِي بُرْدَةَ ابْنِ أَبِي مُوسَى. وَعَنْهُ
جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ; بَنُوهُ جَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ وَزَيْنَبُ، وَالْأَصْمَعِيُّ.
وَكَانَ قَدْ شَابَ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَخَضَّبَ لِحْيَتَهُ مِنَ
الشَّيْبِ فِي ذَلِكَ السِّنِّ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، كَانَ
يَعْتِقُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ نَسَمَةٍ، وَبَلَغَتْ
صِلَاتُهُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَسَائِرِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ خَمْسَةَ آلَافِ
أَلْفٍ.
وَاطَّلَعَ يَوْمًا مِنْ قَصْرِهِ، فَرَأَى نِسْوَةً يَغْزِلْنَ فِي دَارٍ مَنْ
دُورِ الْبَصْرَةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ==
ج24. البداية
والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: لَيْتَ
الْأَمِيرَ اطَّلَعَ عَلَيْنَا; فَأَغْنَانَا عَنِ الْغَزْلِ. فَنَهَضَ فَجَعَلَ
يَدُورُ فِي قَصْرِهِ، وَيَجْمَعُ مِنْ حُلِيِّ نِسَائِهِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْجَوَاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا مَلَأَ بِهِ مِنْدِيلًا، ثُمَّ دَلَّاهُ
إِلَيْهِنَّ، وَنَثَرَهُ عَلَيْهِنَّ، فَمَاتَتْ إِحْدَاهُنَّ مِنْ شِدَّةِ
الْفَرَحِ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحَجَّ أَيَّامَ السَّفَّاحِ، وَوَلِيَ الْبَصْرَةَ
لِلْمَنْصُورِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَهُوَ أَخُو
إِسْمَاعِيلَ، وَدَاوُدَ، وَصَالِحٍ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ، وَعَبْدِ اللَّهِ
وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، وَعَاصِمٌ الْأَحْوَلُ،
وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيُّ، فِي قَوْلٍ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدِ
بْنِ بَابٍ - وَيُقَالُ: ابْنُ كَيْسَانَ - التَّمِيمِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو
عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ، شَيْخُ الْقَدَرِيَّةِ
وَالْمُعْتَزِلَةِ. رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي قِلَابَةَ، وَعَنْهُ
الْحَمَّادَانِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَالْأَعْمَشُ - وَكَانَ مِنْ
أَقْرَانِهِ - وَعَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَارُونُ بْنُ مُوسَى،
وَيَحْيَى الْقَطَّانُ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ. وَقَالَ عَلِيٌّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَزَادَ ابْنُ مَعِينٍ: وَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ، كَانَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا النَّاسُ مِثْلُ الزَّرْعِ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: مَتْرُوكٌ، صَاحِبُ بِدْعَةٍ، كَانَ يَحْيَى الْقَطَّانُ يُحَدِّثُنَا عَنْهُ ثُمَّ تَرَكَهُ، وَكَانَ ابْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِثِقَةٍ. وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: قَالَ لِي حُمَيْدٌ: لَا تَأْخُذْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَكَذَا قَالَ أَيُّوبُ وَعَوْفٌ وَابْنُ عَوْنٍ. وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا كُنْتُ أَعُدُّ لَهُ عَقْلًا. وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ: وَاللَّهِ لَا أُصَدِّقُهُ فِي شَيْءٍ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: إِنَّمَا تَرَكُوا حَدِيثَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى الْقَدَرِ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ آخَرُونَ فِي عِبَادَتِهِ، وَزُهْدِهِ وَتَقَشُّفِهِ; قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هَذَا سَيِّدُ شَبَابِ الْقُرَى مَا لَمْ يُحْدِثْ. قَالُوا:
فَأَحْدَثَ وَاللَّهِ أَشَدَّ
الْحَدَثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ وَالْعِبَادَةِ
إِلَى أَنْ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ، وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ الْحَسَنِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ
مَعَهُ فَسُمُّوا الْمُعْتَزِلَةَ، وَكَانَ يَشْتُمُ الصَّحَابَةَ، وَيَكْذِبُ فِي
الْحَدِيثِ وَهْمًا لَا تَعَمُّدًا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ
كَانَتْ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ. فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَمَا لِلَّهِ
عَلَى ابْنِ آدَمَ حُجَّةٌ.
وَرُوِيَ لَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ:
" إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
". حَتَّى قَالَ: " فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ; رِزْقُهُ
وَأَجَلُهُ وَعَمَلُهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ ". إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ:
لَوْ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَرْوِيهِ لَكَذَّبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ
زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ لَمَا أَحْبَبْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ
لَمَا قَبِلْتُهُ، وَلَوْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَدَدْتُهُ، وَلَوْ سَمِعَتُ اللَّهَ يَقُولُ هَذَا
لَقُلْتُ: مَا عَلَى هَذَا أَخَذْتَ عَلَيْنَا الْمِيثَاقَ. وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ
الْكُفْرِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
أَيُّهَا الطَّالِبُ عِلْمًا ايتِ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ
فُخُذِ الْعِلْمَ بِحِلْمٍ
ثُمَّ قَيِّدْهُ بِقَيْدٍ وَذَرِ الْبِدْعَةَ مِنْ آ
ثَارِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: كَانَ يَغُرُّ النَّاسَ بِتَقَشُّفِهِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ
ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا، مُعْلِنٌ بِالْبِدَعِ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:
ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: جَالَسَ الْحَسَنَ
وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَتِهِ، ثُمَّ أَزَالَهُ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَذْهَبِ
أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَ بِالْقَدَرِ وَدَعَا إِلَيْهِ، وَاعْتَزَلَ أَصْحَابَ
الْحَسَنِ، وَكَانَ لَهُ سَمْتٌ وَإِظْهَارُ زُهْدٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ
وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ وُلِدَا سَنَةَ ثَمَانِينَ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ
مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، بِطَرِيقِ
مَكَّةَ. وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ; لِأَنَّهُ كَانَ
يَفِدُ مَعَ الْقُرَّاءِ، فَيُعْطِيهِمُ الْمَنْصُورُ فَيَأْخُذُونَ، وَلَا
يَقْبَلُ عَمْرٌو مِنْهُ شَيْئًا، فَكَانَ ذَلِكَ يُعْجِبُ الْمَنْصُورَ; لِأَنَّ
الْمَنْصُورَ كَانَ بَخِيلًا، وَكَانَ يَقُولُ:
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ
غَيْرَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدْ
وَلَوْ تَبَصَّرَ الْمَنْصُورُ لَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ
الْقُرَّاءِ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ
مِثْلِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ،
وَالزُّهْدُ لَا يَدُلُّ عَلَى صَلَاحٍ، فَإِنَّ بَعْضَ الرَّهَابِينَ قَدْ
يَكُونُ عِنْدَهُ مِنَ الزُّهْدِ مَا لَا يُطِيقُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فِي زَمَانِهِ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ قَالَ:
رَأَيْتُ الْحَسَنَ ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَا مَاتَ
بَعَبَّادَانَ، فَقَالَ لِي: أَيُّوبُ وَيُونُسُ وَابْنُ عَوْنٍ فِي الْجَنَّةِ.
قُلْتُ: فَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ؟ قَالَ: فِي النَّارِ. ثُمَّ رَآهُ مَرَّةً
ثَانِيَةً، وَيُرْوَى ثَالِثَةً، وَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ هَذَا.
وَقَدْ رُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ قَبِيحَةٌ، وَقَدْ طَوَّلَ شَيْخُنَا فِي "
تَهْذِيبِهِ " تَرْجَمَتَهُ، وَلَخَّصْنَا حَاصِلَهَا فِي كِتَابِ "
التَّكْمِيلِ "، وَإِنَّمَا أَشَرْنَا هَاهُنَا إِلَى نُبَذٍ مِنْ حَالِهِ;
لِيُعْرَفَ فَلَا يُغْتَرُّ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا نَدَبَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ إِلَى غَزْوِ الدَّيْلَمِ; لِأَنَّهُمْ
قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا، وَأَمَرَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ
مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقْدِرُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ فَصَاعِدًا، أَنْ يَذْهَبَ
مَعَ الْجَيْشِ إِلَى الدَّيْلَمِ، فَانْتَدَبَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ
لِذَلِكَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى نَائِبُ الْكُوفَةِ
وَأَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَجَّاجٌ الصَّوَّافُ، وَحُمَيْدُ بْنُ تِيرَوَيْهِ
الطَّوِيلُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ
فِي قَوْلٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْثٌ ابْنُ أَبِي
سُلَيْمٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا سَارَ مُحَمَّدٌ ابْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ عَنْ أَمْرِ عَمِّهِ
الْمَنْصُورِ إِلَى بِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَمَعَهُ الْجُيُوشُ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ وَالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَفِيهَا قَدِمَ مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَلَى
أَبِيهِ مِنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ، وَدَخَلَ بِابْنَةِ عَمِّهِ رَيْطَةَ بِنْتِ
السَّفَّاحِ بِالْحِيرَةِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
الْمِيرَةِ وَالْعَسْكَرِ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ، وَوَلَّى رِيَاحَ بْنَ
عُثْمَانَ الْمَرِّيَّ الْمَدِينَةَ، وَعَزَلَ عَنْهَا مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ.
وَتَلَقَّى النَّاسُ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ فِي أَثْنَاءِ طَرِيقِ مَكَّةَ
فِي حَجِّهِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَلَقَّاهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَجْلَسَهُ
الْمَنْصُورُ مَعَهُ عَلَى السِّمَاطِ، ثُمَّ جَعَلَ يُحَادِثُهُ، وَأَقْبَلَ
عَلَيْهِ إِقْبَالًا زَائِدًا بِحَيْثُ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ عَنْ عَامَّةِ
غَدَائِهِ، وَسَأَلَهُ عَنِ ابْنَيْهِ; إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ: لِمَ لَا
جَاءَانِي مَعَ النَّاسِ؟ فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ أَنَّهُ لَا
يَدْرِي أَيْنَ صَارَا مِنْ أَرْضِ
اللَّهِ. وَصَدَقَ فِي ذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ كَانَ قَدْ بَايَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ بِالْخِلَافَةِ، وَخَلَعَ مَرْوَانَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَايَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْوِيلِ الدَّوْلَةِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ خَافَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ مِنْهُمَا أَنْ يَخْرُجَا عَلَيْهِ، وَالَّذِي خَافَ مِنْهُ وَقَعَ فِيهِ، وَلَمَّا خَافَاهُ ذَهَبَا مِنْهُ هَرَبًا فِي الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، فَصَارَا إِلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ سَارَا إِلَى الْهِنْدِ، ثُمَّ تَحَوَّلَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَاخْتَفَيَا بِهَا، فَدَلَّ عَلَى مَكَانِهِمَا الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، فَهَرَبَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ، فَدَلَّ عَلَيْهِمَا ثُمَّ كَذَلِكَ، وَانْتَصَبَ أَلْبًا عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ مِنْ أَتْبَاعِهِمَا، وَاجْتَهَدَ الْمَنْصُورُ بِكُلِّ طَرِيقٍ عَلَى تَحْصِيلِهِمَا، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ إِلَى الْآنِ، فَلَمَّا سَأَلَ أَبَاهُمَا عَنْهُمَا حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ صَارَا إِلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ ثُمَّ أَلَحَّ الْمَنْصُورُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فِي طَلَبِ وَلَدَيْهِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَا تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا دَلَلْتُكَ عَلَيْهِمَا. فَغَضِبَ الْمَنْصُورُ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ وَأَمَرَ بِبَيْعِ رَقِيقِهِ وَأَمْوَالِهِ، وَلَبِثَ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمَنْصُورِ بِحَبْسِ بَنِي حَسَنٍ عَنْ آخِرِهِمْ فَحَبَسَهُمْ، وَجَدَّ فِي طَلَبِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ جَدًّا، هَذَا وَهُمَا يَحْضُرَانِ الْحَجَّ فِي غَالِبِ السِّنِينَ، وَيَكْمُنَانِ فِي الْمَدِينَةِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِمَا مَنْ يَنِمُّ عَلَيْهِمَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَالْمَنْصُورُ يَعْزِلُ نَائِبًا عَنِ الْمَدِينَةِ وَيُوَلِّي عَلَيْهَا غَيْرَهُ، وَيُحَرِّضُهُ عَلَى إِمْسَاكِهِمَا وَالْفَحْصِ عَنْهُمَا، وَبِذْلِ الْأَمْوَالِ فِي طَلَبِهِمَا، وَتُعْجِزُهُ الْمَقَادِيرُ فِي ذَلِكَ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ وَاطَأَهُمَا عَلَى أَمْرِهِمَا
أَمِيرٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَنْصُورِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْعَسَاكِرِ خَالِدُ
بْنُ حَسَّانَ. فَعَزَمُوا فِي بَعْضِ الْحَجَّاتِ عَلَى الْفَتْكِ بِأَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَنَهَاهُمْ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ حَسَنٍ لِشَرَفِ الْبُقْعَةِ. وَقَدِ اطَّلَعَ الْمَنْصُورُ عَلَى ذَلِكَ،
وَعَلِمَ بِمَا مَالَأَهُمَا ذَلِكَ الْأَمِيرُ، فَعَذَّبَهُ حَتَّى أَقَرَّ بِمَا
كَانُوا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَتْكِ بِهِ. فَقَالَ: وَمَا الَّذِي
صَرَفَكُمْ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ نَهَانَا عَنْ
ذَلِكَ. فَأَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ فَغُيِّبَ فِي الْأَرْضِ، فَلَمْ يَظْهَرْ
حَتَّى الْآنَ.
وَقَدِ اسْتَشَارَ الْمَنْصُورُ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ
مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ فِي أَمْرِ ابْنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَبَعَثَ
الْجَوَاسِيسَ وَالْقُصَّادَ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَقَعْ لَهُمَا عَلَى خَبَرٍ،
وَلَا ظَهَرَ لَهُمَا عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ.
وَقَدْ جَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَ:
يَا أُمَّهْ، إِنِّي قَدْ شَقَقْتُ عَلَى أَبِي وَعُمُومَتِي، وَلَقَدْ هَمَمْتُ
أَنْ أَضَعَ يَدِي فِي أَيْدِي هَؤُلَاءِ لِأُرِيحَ أَهْلِي. فَذَهَبَتْ أُمُّهُ
إِلَيْهِمْ إِلَى السِّجْنِ، فَعَرَضَتْ عَلَيْهِمْ مَا قَالَ ابْنُهَا،
فَقَالُوا: لَا، بَلْ نَصْبِرُ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَفْتَحَ
عَلَى يَدَيْهِ خَيْرًا، وَنَحْنُ نَصْبِرُ، وَفَرَجُنَا بِيَدِ اللَّهِ.
وَتَمَالَئُوا كُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نُقِلُوا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى حَبْسٍ بِالْعِرَاقِ
وَفِي أَرْجُلِهِمُ الْقُيُودُ، وَفِي أَعْنَاقِهِمُ الْأَغْلَالُ. وَكَانَ
ابْتِدَاءُ تَقْيِيدِهِمْ مِنَ الرَّبَذَةِ بِأَمْرِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ،
وَقَدْ أَشْخَصَ مَعَهُمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيَّ، وَكَانَ
أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ تَحْتَ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ حَمَلَتْ قَرِيبًا، فَاسْتَحْضَرَهُ
الْخَلِيفَةُ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ حَلَفْتَ بِالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ إِنَّكَ
لَمْ تَغُشَّنِي، وَهَذِهِ
ابْنَتُكَ حَامِلٌ! فَإِنْ كَانَ مِنْ
زَوْجِهَا فَقَدْ حَنِثْتَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَأَنْتَ دَيُّوثٌ.
فَأَجَابَهُ الْعُثْمَانِيُّ بِجَوَابٍ أَحْفَظَهُ بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ
فَجُرِّدَتْ عَنْهُ ثِيَابُهُ، فَإِذَا جِسْمُهُ كَأَنَّهُ الْفِضَّةُ
النَّقِيَّةُ، ثُمَّ ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ
سَوْطًا، مِنْهَا ثَلَاثُونَ فَوْقَ رَأْسِهِ، أَصَابَ أَحَدُّهَا عَيْنَهُ
فَسَالَتْ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ وَقَدْ بَقِيَ كَأَنَّهُ عَبْدٌ
أَسْوَدُ مِنْ زُرْقَةِ الضَّرْبِ، وَتَرَاكُمِ الدِّمَاءِ فَوْقَ جِلْدِهِ،
فَأُجْلِسَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ لِأُمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ،
فَاسْتَسْقَى فَمَا جَسَرَ أَحَدٌ أَنْ يَسْقِيَهُ حَتَّى سَقَاهُ خُرَاسَانِيٌّ
مِنْ جُمْلَةِ الْجَلَاوِزَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ الْخَلِيفَةُ
فِي هَوْدَجِهِ، وَأَرْكَبُوا أُولَئِكَ فِي مُحَامِلَ ضَيِّقَةٍ، وَعَلَيْهِمُ
الْقُيُودُ وَالْأَغْلَالُ فَاجْتَازَ بِهِمُ الْمَنْصُورُ وَهُوَ فِي هَوْدَجِهِ،
فَنَادَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ: وَاللَّهِ يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَا هَكَذَا
صَنَعْنَا بِأَسْرَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ. فَأَخْسَأَهُ الْمَنْصُورُ، وَتَفَلَ
عَلَيْهِ، وَنَفَرَ عَنْهُمْ. وَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْعِرَاقِ حُبِسُوا بِالْهَاشِمِيَّةِ،
وَكَانَ فِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَسَنٍ، وَكَانَ جَمِيلًا
يَذْهَبُ النَّاسُ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِ مِنْ حُسْنِهِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ:
الدِّيبَاجُ الْأَصْفَرُ. فَأَحْضَرَهُ الْمَنْصُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ
لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْتُلُنَّكَ قِتْلَةً مَا قُتِلَهَا أَحَدٌ. ثُمَّ
أَلْقَاهُ بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ، وَسَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. وَقَدْ
هَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي السِّجْنِ حَتَّى فُرِجَ عَنْهُمْ فِيمَا بَعْدُ
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
فَكَانَ فِيمَنْ هَلَكَ فِي السِّجْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ، وَقَدْ قِيلَ
وَهُوَ الْأَظْهَرُ: إِنَّهُ قُتِلَ صَبْرًا. وَأَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَسَنٍ،
وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنَ الْحَبْسِ، وَقَدْ كَانُوا فِي سِجْنٍ لَا
يَسْمَعُونَ فِيهِ التَّأْذِينَ، وَلَا يَعْرِفُونَ وَقْتَ الصَّلَاةِ إِلَّا
بِالتِّلَاوَةِ، ثُمَّ
بَعَثَ أَهْلُ خُرَاسَانَ يَشْفَعُونَ
فِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُثْمَانِيِّ، فَأَمَرَ بِهِ، فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ، وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى أَهْلِ خُرَاسَانَ.
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
الْأُمَوِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالدِّيبَاجِ،
لِحُسْنِ وَجْهِهِ، وَأُمُّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَوَى
الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ وَطَاوُسٍ وَأَبِي
الزِّنَادِ وَالزُّهْرِيِّ وَنَافِعٍ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ،
وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ، وَكَانَ أَخَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَتِ ابْنَتُهُ رُقَيَّةُ زَوْجَةَ ابْنِ أَخِيهِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِسَبَبِهَا قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: أَنْشَدَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَيَّاشٍ
السَّعْدِيُّ لِأَبِي وَجْزَةَ السَّعْدِيِّ يَمْدَحُهُ:
وَجَدْنَا الْمَحْضَ الَابْيَضَ مِنْ قُرَيْشٍ فَتًى بَيْنَ الْخَلِيفَةِ
وَالرَّسُولِ أَتَاكَ الْمَجْدُ مِنْ هَنَّا وَهَنَّا
وَكُنْتَ لَهُ بِمُعْتَلَجِ السُّيُولِ
فَمَا لِلْمَجْدِ دُونَكَ مِنْ مَبِيتٍ
وَمَا لِلْمَجْدِ دُونَكَ مِنْ مَقِيلِ وَلَا مُمْضًى وَرَاءَكَ تَبْتَغِيهِ
وَمَا هُوَ قَابِلٌ بِكَ مِنْ بَدِيلِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فَمِمَّا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ مَخْرَجُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْبَصْرَةِ، عَلَى مَا
سَنُبَيِّنُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى إِثْرِ ذَهَابِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ بِبَنِي حَسَنٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ عَلَى الصِّفَةِ
وَالنَّعْتِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَسَجَنَهُمْ فِي مَكَانٍ سَاءَ
مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، لَا يَسْمَعُونَ فِيهِ التَّأْذِينَ وَلَا يَعْرِفُونَ
دُخُولَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ إِلَّا بِالْأَذْكَارِ وَالتِّلَاوَاتِ. وَقَدْ
مَاتَ أَكْثَرُ أَكَابِرِهِمْ هُنَالِكَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ. هَذَا كُلُّهُوَمُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ مُخْتَفٍ بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى إِنَّهُ فِي
بَعْضِ الْأَحْيَانِ اخْتَفَى فِي بِئْرٍ; نَزَلَ فِيهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ
سِوَى رَأْسِهِ، وَبَاقِيهِ مَغْمُورٌ بِالْمَاءِ، وَقَدْ تَوَاعَدَ هُوَ
وَأَخُوهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَظْهَرَانِ فِيهِ، هَذَا بِالْمَدِينَةِ
وَإِبْرَاهِيمُ بِالْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
يُؤَنِّبُونَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي اخْتِفَائِهِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ
حَتَّى عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَذَلِكَ لَمَّا أَضَرَّ بِهِ شِدَّةُ
الِاخْتِفَاءِ مِنْ كَثْرَةِ إِلْحَاحِ رِيَاحٍ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فِي طَلَبِهِ
لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ وَضَاقَ الْحَالُ، وَاعَدَ
مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ عَلَى الظُّهُورِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَلَمَّا
كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ جَاءَ بَعْضُ الْوُشَاةِ إِلَى مُتَوَلِّي
الْمَدِينَةِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ فَضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ وَانْزَعَجَ
انْزِعَاجًا شَدِيدًا، وَرَكِبَ فِي جَحَافِلَ، فَطَافَ الْمَدِينَةَ وَحَوْلَهَا
لِيَسْتَعْلِمَ مَكَانَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
فَأَعْيَاهُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ فِي
رُجُوعِهِ عَلَى دَارِ مَرْوَانَ وَهُمْ بِهَا مُجْتَمِعُونَ، فَلَمْ يَشْعُرْ
بِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعَثَ إِلَى بَنِي حُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ، فَجَمَعَهُمْ وَمَعَهُمْ رُءُوسٌ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ،
فَوَعَظَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ يَتَطَلَّبُ هَذَا الرَّجُلَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ،
وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، ثُمَّ مَا كَفَاكُمْ كِتْمَانُهُ حَتَّى
بَايَعْتُمُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؟ وَاللَّهِ لَا يَبْلُغُنِي عَنْ
أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَأَنْكَرَ
الَّذِينَ هُمْ هُنَالِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ أَوْ شُعُورٌ بِشَيْءٍ
مِمَّا وَقَعَ مِمَّا يَقُولُهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَأْتِيكَ بِرِجَالٍ
مُتَسَلِّحِينَ يُقَاتِلُونَ دُونَكَ إِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَنَهَضُوا
فَجَاءُوهُ بِجَمَاعَةٍ مُتَسَلِّحِينَ، فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي دُخُولِهِمْ
عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا إِذَنْ لَهُمْ، إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
خَدِيعَةً. فَجَلَسَ أُولَئِكَ عَلَى الْبَابِ، وَمَكَثَ النَّاسُ جُلُوسًا حَوْلَ
الْأَمِيرِ وَهُوَ وَاجِمٌ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا قَلِيلًا، حَتَّى ذَهَبَتْ
طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ مَا فُجِئَ النَّاسُ إِلَّا وَأَصْحَابُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ ظَهَرُوا وَأَعْلَنُوا بِالتَّكْبِيرِ،
فَانْزَعَجَ النَّاسُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ عَلَى
الْأَمِيرِ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ بَنِي الْحُسَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عَلَامَ
وَنَحْنُ مُقِرُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؟ وَاشْتَغَلَ الْأَمِيرُ عَنْهُمْ
بِمَا فَجَأَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَاغْتَنَمُوا الْغَفْلَةَ، وَنَهَضُوا سِرَاعًا
فَتَسَوَّرُوا جِدَارَ الدَّارِ، وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى كُنَاسَةٍ
هُنَالِكَ.
وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي مِائَتَيْنِ
وَخَمْسِينَ فَارِسًا، فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ، فَمَرَّ بِالسِّجْنِ فَأَخْرَجَ
مَنْ فِيهِ، وَجَاءَ دَارَ الْإِمَارَةِ، فَحَاصَرَهَا فَافْتَتَحَهَا، وَأَمْسَكَ
عَلَى رِيَاحِ بْنِ عُثْمَانَ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فَسَجَنَهُ فِي دَارِ
مَرْوَانَ، وَسَجَنَ مَعَهُ
ابْنَ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَهُوَ
الَّذِي أَشَارَ بِقَتْلِ بَنِي حُسَيْنٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ،
فَنَجَوْا وَأُحِيطَ بِهِ، فَأَصْبَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
وَقَدِ اسْتَظْهَرَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَدَانَ لَهُ أَهْلُهَا، فَصَلَّى
بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، وَقَرَأَ فِيهَا: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [
الْفَتْحِ: 1 ]. وَأَسْفَرَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ عَنْ مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ خَطَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَتَكَلَّمَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ،
وَذَكَرَ عَنْهُمْ أَشْيَاءَ ذَمَّهُمْ بِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ
بَلَدًا مِنَ الْبُلْدَانِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهَا، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ إِلَّا
الْقَلِيلَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَفْتَى
بِمُبَايَعَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةَ الْمَنْصُورِ.
فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُمْ مُكْرَهِينَ وَلَيْسَ لِمُكْرَهٍ بَيْعَةٌ.
فَبَايَعَهُ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَلَزِمَ مَالِكٌ
بَيْتَهُ.
وَقَدْ قَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حِينَ دَعَاهُ
إِلَى بَيْعَتِهِ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ مَقْتُولٌ. فَارْتَدَعَ بَعْضُ النَّاسِ
عَنْهُ، وَاسْتَمَرَّ جُمْهُورُهُمْ مَعَهُ، فَاسْتَنَابَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ
بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدَ
الْعَزِيزِ بْنَ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ، وَعَلَى
شُرْطَتِهَا عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَعَلَى دِيوَانِ الْعَطَاءِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ.
وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ; طَمَعًا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي
الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَنُورِدُهَا
فِي الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ، فَلَمْ
يَكُنْ إِيَّاهُ، وَلَا تَمَّ لَهُ مَا تَمَنَّاهُ.
وَقَدِ ارْتَحَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْلَةَ دَخَلَهَا ابْنُ حَسَنٍ،
فَطَوَى الْمَرَاحِلَ الْبَعِيدَةَ إِلَى الْمَنْصُورِ فِي سَبْعِ لَيَالٍ، فَوَرَدَ
عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا فِي اللَّيْلِ، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ الْحَاجِبِ:
اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى الْخَلِيفَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُوقَظُ فِي هَذِهِ
السَّاعَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ الْخَلِيفَةَ،
فَخَرَجَ فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ خَرَجَ ابْنُ حَسَنٍ
بِالْمَدِينَةِ. فَلَمْ يُظْهِرْ لِذَلِكَ اكْتِرَاثًا وَلَا انْزِعَاجًا، بَلْ
قَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلَكَ وَاللَّهِ، وَأَهْلَكَ
مَنِ اتَّبَعَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّجُلِ فَسُجِنَ، ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ
بِذَلِكَ وَتَوَاتَرَتْ، فَأَطْلَقَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَطْلَقَ لَهُ عَنْ كُلِّ
لَيْلَةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمَنْصُورُ الْأَمْرَ مِنْ خُرُوجِهِ ضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ،
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا عَلَيْكَ
مِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ مَلَكَ الْأَرْضَ بِحَذَافِيرِهَا فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُ
أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَوْمًا.
ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ جَمِيعَ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى
السِّجْنِ، فَيَجْتَمِعُوا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَيُخْبِرُوهُ بِمَا
وَقَعَ وَبِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ، وَيَسْمَعُوا مَا يَقُولُ لَهُمْ، فَلَمَّا
دَخَلُوا عَلَيْهِ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ ابْنَ سَلَامَةَ
فَاعِلًا؟ - يَعْنِي الْمَنْصُورَ - قَالُوا: لَا نَدْرِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَقَدْ قَتَلَ صَاحِبَكُمُ الْبُخْلُ، يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنْفِقَ الْأَمْوَالَ،
وَيَسْتَخْدِمَ الرِّجَالَ، فَإِنْ ظَهَرَ فَاسْتِرْجَاعُ مَا أَنْفَقَ مِنَ
الْأَمْوَالِ عَلَيْهِ سَهْلٌ،
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِكُمْ
شَيْءٌ فِي الْخَزَائِنِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ.
وَأَشَارَ النَّاسُ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِمُنَاجَزَتِهِ، وَاسْتَدْعَى عِيسَى بْنَ
مُوسَى، فَنَدَبَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي سَأَكْتُبُ إِلَيْهِ
كِتَابًا أُنْذِرُهُ بِهِ قَبْلَ قِتَالِهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ
خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْمَائِدَةِ:
33، 34 ]. ثُمَّ قَالَ: فَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ
رَسُولِهِ، لَئِنْ أَقْلَعْتَ وَرَجَعْتَ إِلَى الطَّاعَةِ لَأُؤَمِّنَنَّكَ
وَمَنِ اتَّبَعَكَ، وَلَأُعْطِيَنَّكَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَأَدَعَنَّكَ
تُقِيمُ فِي أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ، وَلَأَقْضِيَنَّ جَمِيعَ حَوَائِجِكَ.
فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: طسم تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ
بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [ الْقِصَصِ: 1 - 5 ]. ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي
أَعْرِضُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَمَانِ مِثْلَ مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ، فَأَنَا أَحَقُّ
بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ إِنَّمَا وَصَلْتُمْ إِلَيْهِ بِنَا،
فَإِنَّ عَلِيًّا كَانَ الْوَصِيَّ، وَكَانَ الْإِمَامَ، فَكَيْفَ وَرَثْتُمْ
وِلَايَتَهُ وَوَلَدُهُ أَحْيَاءٌ؟ وَنَحْنُ أَشْرَفُ أَهْلِ الْأَرْضِ نَسَبًا، فَرَسُولُ
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَيْرُ النَّاسِ، وَهُوَ جَدُّنَا، وَجَدَّتُنَا خَدِيجَةُ، وَهِيَ أَفْضَلُ
زَوْجَاتِهِ، وَفَاطِمَةُ أُمُّنَا، وَهِيَ أَكْرَمُ بَنَاتِهِ، وَإِنَّ هَاشِمًا
وَلَدَ عَلِيًّا مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ حَسَنًا وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ
مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ وَأَخُوهُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدَنِي مَرَّتَيْنِ،
فَإِنِّي أَوْسَطُ بَنِي هَاشِمٍ نَسَبًا، وَأَصْرَحُهُمْ نَسَبًا، فَأَنَا ابْنُ
أَرْفَعِ النَّاسِ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، وَأَخَفِّهِمْ عَذَابًا فِي النَّارِ،
فَأَنَا أَوْلَى بِالْأَمْرِ مِنْكَ، وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ، فَإِنَّكَ أَعْطَيْتَ
ابْنَ هُبَيْرَةَ الْعَهْدَ وَنَكَثْتَهُ، وَكَذَلِكَ بِعَمِّكَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَلِيٍّ، وَبِأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ جَوَابَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ طَوِيلٍ، حَاصِلُهُ:
أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي كَلَامُكَ، وَقَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَإِذَا جَلَّ
فَخْرُكَ بِقَرَابَةِ النِّسَاءِ لِتُضِلَّ بِهِ الْجُفَاةَ وَالْغَوْغَاءَ،
وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ النِّسَاءَ كَالْعُمُومَةِ وَالْآبَاءِ، وَلَا
كَالْعَصْبَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 214 ]. وَكَانَ لَهُ حِينَئِذٍ
أَرْبَعَةُ أَعْمَامٍ، فَاسْتَجَابَ لَهُ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا أَبِي وَكَفَرَ
اثْنَانِ أَحَدُهُمَا أَبُوكَ فَقَطَعَ اللَّهُ وِلَايَتَهُمَا مِنْهُ، وَلَمْ
يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ
وَجَلَّ، فِي عَدَمِ إِسْلَامِ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ
أَحْبَبْتَ [ سُورَةِ الْقَصَصِ: 56 ]. وَقَدْ فَخَرْتَ بِهِ; لِأَنَّهُ أَخَفُّ
أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا، وَلَيْسَ فِي الشَّرِّ خِيَارٌ، وَلَا يَنْبَغِي
لِمُؤْمِنٍ الْفَخْرُ بِأَهْلِ النَّارِ، وَفَخَرْتَ بِأَنَّ عَلِيًّا وَلَدَهُ
هَاشِمٌ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّ حَسَنًا وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَرَّتَيْنِ،
فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخَرِينَ، إِنَّمَا
وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهَاشِمٌ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَوْلُكَ: إِنَّكَ لَمْ تَلِدْكَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ. فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَارِيَةَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَكَذَلِكَ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَدَّتُهُمَا أُمُّ وَلَدٍ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْكَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّكُمْ بَنُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [ سُورَةِ الْأَحْزَابِ: 40 ]. وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْأُمِّ وَالْخَالَ وَالْخَالَةَ لَا يُوَرَّثُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لِفَاطِمَةَ مِيرَاثٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُوكَ حَاضِرٌ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، بَلْ أَمَرَ غَيْرَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْدِلِ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ; ثُمَّ قَدَّمُوا عَلَيْهِ عُثْمَانَ فِي الشُّورَى; ثُمَّ وَلَّوْهُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِهِ، وَقَاتَلَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَامْتَنَعَ سَعْدٌ مِنْ مُبَايَعَتِهِ، ثُمَّ بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُوكَ، وَقَاتَلَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَلَى التَّحْكِيمِ، فَلَمْ يَفِ بِهِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى الْحَسَنِ فَبَاعَهَا بِخِرَقٍ وَدَرَاهِمَ، وَأَقَامَ بِالْحِجَازِ يَأْخُذُ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَتَرَكَ شِيعَتَهُ فِي أَيْدِي مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ فَقَدْ تَرَكْتُمُوهَا وَبِعْتُمُوهَا بِثَمَنِهَا، ثُمَّ خَرَجَ عَمُّكَ حُسَيْنٌ عَلَى ابْنِ مَرْجَانَةَ، فَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجْتُمْ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَتَّلُوكُمْ وَصَلَّبُوكُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَحَرَّقُوكُمْ بِالنِّيرَانِ وَحَمَلُوا نِسَاءَكُمْ عَلَى الْإِبِلِ كَالسَّبَايَا إِلَى الشَّامِ، حَتَّى خَرَجْنَا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذْنَا بِثَأْرِكُمْ، وَأَدْرَكْنَا بِدِمَائِكُمْ، وَأَوْرَثْنَاكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَذَكَرْنَا فَضْلَ سَلَفِكُمْ، فَجَعَلْتَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَظَنَنْتَ أَنَّا إِنَّمَا ذَكَرْنَا فَضْلَهُ تَقْدِمَةً مِنَّا لَهُ عَلَى حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ
كَمَا زَعَمْتَ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ
مَضَوْا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي الْفِتَنِ، وَسَلِمُوا مِنَ الدُّنْيَا،
وَابْتُلِيَ بِذَلِكَ أَبُوكَ، وَكَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ تَلْعَنُهُ كَمَا
تَلْعَنُ الْكَفَرَةَ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، فَذَكَرْنَا فَضْلَهُ
وَعَنَّفْنَاهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَكْرَمَتَنَا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ سِقَايَةُ الْحَجِيجِ الْأَعْظَمِ، وَخِدْمَةُ زَمْزَمَ، وَحَكَمَ
لَنَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَلَمَّا قَحَطَ النَّاسُ زَمَنَ عُمَرَ اسْتَسْقَى بِأَبِينَا الْعَبَّاسِ،
وَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى رَبِّهِ وَأَبُوكَ حَاضِرٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَمْ
يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْعَبَّاسُ فَالسِّقَايَةُ سِقَايَتُهُ،
وَالْوِرَاثَةُ وِرَاثَتُهُ، وَالْخِلَافَةُ فِي وَلَدِهِ، فَلَمْ يَبْقَ شَرَفٌ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا
وَالْعَبَّاسُ وَارِثُهُ وَمُوَرِّثُهُ.
فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ فِيهِ بَحْثٌ وَمُنَاظَرَةٌ وَفَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ. وَقَدِ
اسْتَقْصَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ بِطُولِهِ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
بَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي غُبُونِ ذَلِكَ رُسُلًا
إِلَى أَهْلِ الشَّامِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى بَيْعَتِهِ وَخِلَافَتِهِ، فَأَبَوْا
قَبُولَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَقَالُوا: قَدْ ضَجِرْنَا مِنَ الْحُرُوبِ، وَمَلِلْنَا
مِنَ الْقِتَالِ. وَلَمْ يَكْتَرِثُوا بِأَصْحَابِهِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ بَعْدَ
مَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَجَعَلَ يَسْتَمِيلُ رُءُوسَ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَهُ، وَمِنْهُمْ مَنِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ،
وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ أُبَايِعُكَ وَقَدْ ظَهَرْتَ فِي بَلَدٍ
لَيْسَ فِيهِ مَالٌ
تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى اسْتِخْدَامِ
الرِّجَالِ؟ وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ. وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْحَسَنَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي
سَبْعِينَ رَجُلًا وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ فَوَارِسَ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى
مَكَّةَ إِنْ هُوَ دَخَلَهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَهَا
قُدُومُهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ فِي أُلُوفٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَقَالَ لَهُمُ
الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: عَلَامَ تُقَاتِلُونَ وَقَدْ مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ؟ فَقَالَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ زَعِيمُ أَهْلِ مَكَّةَ:
إِنَّ بُرُدَهُ جَاءَتْنَا مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ،
فَأَنَا أَنْتَظِرُ جَوَابَهُ إِلَى أَرْبَعٍ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا
سَلَّمْتُكُمُ الْبَلَدَ، وَعَلَيَّ مُؤْنَةُ رِجَالِكُمْ وَخَيْلِكُمْ.
فَامْتَنَعَ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ الِانْتِظَارِ وَأَبَى إِلَّا
الْمُنَاجَزَةَ، وَحَلَفَ لَا يَبِيتُ اللَّيْلَةَ إِلَّا بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ
يَمُوتَ. وَأَرْسَلَ إِلَى السَّرِيِّ أَنِ ابْرُزْ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ
حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي الْحَرَمِ. فَلَمْ يَخْرُجْ، فَتَقَدَّمُوا
إِلَيْهِمْ فَصَافُّوهُمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ حَمْلَةَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ سَبْعَةٍ، وَدَخَلُوا
مَكَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَطَبَ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّاسَ،
وَعَزَّاهُمْ فِي أَبِي جَعْفَرٍ، وَدَعَا لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ الْمُلَقَّبِ بِالْمَهْدِيِّ.
خُرُوجُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
وَظَهَرَ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ،
وَجَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى أَخِيهِ
مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ، فَانْتَهَى
إِلَيْهِ لَيْلًا، فَاسْتُؤْذِنَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِدَارِ مَرْوَانَ،
فَطَرَقَ بَابَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ
اللَّيْلِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ. ثُمَّ خَرَجَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ
أَخِيهِ بِذَلِكَ، فَاسْتَبْشَرَ جِدًّا، وَفَرِحَ كَثِيرًا، وَكَانَ يَقُولُ
لِلنَّاسِ بَعْدَ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ: ادْعُوا اللَّهَ
لِإِخْوَانِكُمْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلِلْحَسَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِمَكَّةَ، وَاسْتَنْصِرُوهُ
عَلَى أَعْدَائِكُمْ.
وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ، فَإِنَّهُ جَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى مُحَمَّدٍ صُحْبَةَ
عِيسَى بْنِ مُوسَى أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الشُّجْعَانِ
الْمُنْتَخَبِينَ، مِنْهُمْ; مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ،
وَحُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ، وَكَانَ
الْمَنْصُورُ قَدِ اسْتَشَارَهُ فِيهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ادْعُ
مَنْ شِئْتَ مِمَّنْ تَثِقُ بِهِ مِنْ مَوَالِيكَ، فَيَنْزِلُ وَادِيَ الْقُرَى
فَيَمْنَعُهُ مِيرَةَ الشَّامِ، فَيَمُوتُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ جُوعًا، فَإِنَّهُ
بِبَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ مَالٌ وَلَا رِجَالٌ وَلَا كُرَاعٌ وَلَا سِلَاحٌ.
وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ كُثَيِّرَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْعَبْدِيَّ، وَقَدْ قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى حِينَ وَدَّعَهُ: يَا عِيسَى،
إِنِّي أَبْعَثُكَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ
بِالرَّجُلِ، فَشِمْ سَيْفَكَ، وَنَادِ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَإِنْ
تَغَيَّبَ فَضَمِّنْهُمْ إِيَّاهُ حَتَّى يَأْتُوكَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ
بِمَذَاهِبِهِ. وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ
مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِمْ خُفْيَةً، يَدْعُوهُمْ إِلَى
الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ
عِيسَى بْنُ مُوسَى مِنَ الْمَدِينَةِ
بَعَثَهَا مَعَ رَجُلٍ، فَأَخَذَهُ حَرَسُ مُحَمَّدٍ فَوَجَدُوا مَعَهُ تِلْكَ
الْكُتُبَ، فَدَفَعُوهَا إِلَى مُحَمَّدٍ فَاسْتَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ أُولَئِكَ،
فَعَاقَبَهُمْ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقُيُودًا ثِقَالًا، وَأَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ،
ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ
حَتَّى يَأْتِيَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَيُحَاصِرَهُمْ بِهَا، أَوْ أَنْ يَخْرُجَ
بِمَنْ مَعَهُ فَيُقَاتِلَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِهَذَا،
وَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِذَاكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى الْمُقَامِ
بِالْمَدِينَةِ - لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَأَسَّفَ يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا - وَعَلَى حَفْرِ خَنْدَقٍ
حَوْلَ الْمَدِينَةِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَحَفَرَ مَعَ
النَّاسِ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ لَبِنَةٌ مِنَ الْخَنْدَقِ الَّذِي
كَانَ حَفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرِحُوا
بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا وَكَبَّرُوا وَبَشَّرُوهُ بِالنَّصْرِ. وَكَانَ
مُحَمَّدٌ حَاضِرًا عَلَيْهِ قَبَاءٌ أَبْيَضُ، وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةٌ،
وَكَانَ شَكِلًا ضَخْمًا، أَسْمَرَ عَظِيمَ الْهَامَةِ.
وَلَمَّا نَزَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْأَعْوَصُ، وَاقْتَرَبَ مِنَ الْمَدِينَةِ،
صَعِدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ
النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ - وَكَانُوا
قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ - فَقَالَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: إِنِّي
جَعَلْتُكُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا
فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتْرُكَهَا فَلْيَفْعَلْ. فَتَسَلَّلَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ،
وَخَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
بِأَهْلِيهِمْ مِنْهَا لِئَلَّا
يَشْهَدُوا الْقِتَالَ بِهَا، فَنَزَلُوا الْأَعْرَاضَ وَرُءُوسَ الْجِبَالِ،
وَقَدْ بَعَثَ مُحَمَّدٌ أَبَا الْقَلَمَّسِ لِيَرُدَّهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ،
فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِمْ، وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ. وَقَدْ
قَالَ مُحَمَّدٌ لِرَجُلٍ: أَتَأْخُذُ سَيْفًا وَرُمْحًا وَتَرُدُّ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنْ أَعْطَيْتَنِي
رُمْحًا أَطْعَنُهُمْ بِهِ وَهُمْ بِالْأَعْرَاضِ، وَسَيْفًا أَضْرِبُهُمْ بِهِ
وَهُمْ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَعَلْتُ. فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ قَالَ:
وَيْحَكَ! إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ قَدْ بَيَّضُوا -
يَعْنِي لَبِسُوا الْبَيَاضَ - مُوَافَقَةً لِي وَخَلَعُوا السَّوَادَ. فَقَالَ:
وَمَا يَنْفَعُنِي أَنْ لَوْ بَقِيَتِ الدُّنْيَا زُبْدَةً بَيْضَاءَ وَأَنَا فِي
مِثْلِ صُوفَةِ الدَّوَاةِ، وَهَذَا عِيسَى بْنُ مُوسَى نَازِلٌ بِالْأَعْوَصِ؟ !
ثُمَّ جَاءَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَنَزَلَ بِجَيْشِهِ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ،
عَلَى مِيلٍ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ دَلِيلُهُ ابْنُ الْأَصَمِّ: إِنِّي أَخْشَى
إِذَا كَشَفْتُمُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ سَرِيعًا قَبْلَ أَنْ
تُدْرِكَهُمُ الْخَيْلُ. ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِ فَأَنْزَلَهُ الْجَرْفَ عَلَى
سِقَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ،
وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِصُبْحِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّاجِلَ إِذَا هَرَبَ لَا
يَقْدِرُ عَلَى الْهَرْوَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ،
فَتُدْرِكُهُ الْخَيْلُ.
وَأَرْسَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ فَنَزَلُوا عِنْدَ
الشَّجَرَةِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ
هَرَبَ فَلَيْسَ لَهُ مَلْجَأٌ إِلَّا مَكَّةَ فَاقْتُلُوهُ وَحُولُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ
عِيسَى إِلَى مُحَمَّدٍ يَدْعُوهُ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالرُّجُوعِ
إِلَى الْمُبَايَعَةِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; فَإِنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُ
الْأَمَانَ لَهُ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ إِنْ هُوَ أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ. فَقَالَ
مُحَمَّدٌ لِلرَّسُولِ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ
بَعَثَ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى يَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى كِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْذَرْ أَنْ
تَمْتَنِعَ فَأَقْتُلَكَ فَتَكُونَ شَرَّ قَتِيلٍ، أَوْ تَقْتُلَنِي فَتَكُونَ
قَدْ قَتَلْتَ مَنْ دَعَاكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ جَعَلَتِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَدْعُوهُ فِيهَا عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَجَعَلَ عِيسَى يَقِفُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ عِنْدَ سَلْعٍ
فَيُنَادِي: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ دِمَاءَنَا عَلَيْنَا حَرَامٌ، فَمَنْ
جَاءَ فَوَقَفَ تَحْتَ رَايَتِنَا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ
فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى
سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَلَيْسَ لَنَا فِي قِتَالِكُمْ أَرَبٌ، وَإِنَّمَا
نُرِيدُ مُحَمَّدًا وَحْدَهُ لِنَذْهَبَ بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ. فَجَعَلُوا
يَسُبُّونَهُ وَيَنَالُونَ مِنْ أُمِّهِ، وَيَتَكَلَّمُونَ مَعَهُ بِكَلَامٍ
شَنِيعٍ، وَيُخَاطِبُونَهُ مُخَاطَبَةً فَظِيعَةً، وَقَالُوا: هَذَا ابْنُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَنَا وَنَحْنُ مَعَهُ، وَنُقَاتِلُ
دُونَهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَتَاهُمْ فِي خَيْلٍ وَرِجَالٍ وَسِلَاحٍ
وَرِمَاحٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَنَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ حَتَّى أَدْعُوَكَ إِلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ، فَإِنْ فَعَلْتَ أَمَّنَكَ، وَقَضَى دَيْنَكَ، وَأَعْطَاكَ
أَمْوَالًا وَأَرَاضِيَ، وَإِنْ أَبَيْتَ قَاتَلْتُكَ، فَقَدْ دَعَوْتُكَ غَيْرَ
مَرَّةٍ. فَنَادَاهُ مُحَمَّدٌ: إِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي إِلَّا الْقِتَالُ.
فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ حِينَئِذٍ
بَيْنَهُمْ، وَكَانَ جَيْشُ عِيسَى بْنِ مُوسَى فَوْقَ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ،
عَلَى الْمُقَدِّمَةِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ مُحَمَّدٌ
ابْنُ السَّفَّاحِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ دَاوُدُ بْنُ كَرَّازٍ، وَعَلَى
السَّاقَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمَعَهُمْ عُدَدٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا،
وَفَرَّقَ عِيسَى أَصْحَابَهُ، فِي كُلِّ قُطْرٍ طَائِفَةً، وَكَانَ مُحَمَّدٌ
وَأَصْحَابُهُ عَلَى عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرِ وَاقْتَتَلَ الْفَرِيقَانِ قِتَالًا
شَدِيدًا جِدًّا، وَتَرَجَّلَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْأَرْضِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ
قَتَلَ بِيَدِهِ مِنْ أُولَئِكَ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَأَحَاطَ بِهِمْ أَهْلُ
الْعِرَاقِ، فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حَسَنٍ، وَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِمُ الْخَنْدَقَ الَّذِي كَانُوا حَفَرُوهُ،
وَعَمِلُوا أَبْوَابًا عَلَى قَدْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ رَدَمُوهُ بِحَدَائِجِ
الْإِبِلِ حَتَّى أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجُوزُوهُ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِي
مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَزَلِ الْقِتَالُ نَاشِبًا بَيْنَهُمْ مِنْ بُكْرَةِ النَّهَارِ حَتَّى
صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، فَلَمَّا صَلَّى مُحَمَّدٌ الْعَصْرَ نَزَلَ إِلَى مَسِيلِ
الْوَادِي بِسَلْعٍ، فَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَعَقَرَ فَرَسَهُ، وَفَعَلَ
أَصْحَابُهُ مِثْلَهُ، وَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقِتَالِ وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ
حِينَئِذٍ جِدًّا، فَاسْتَظْهَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَرَفَعُوا رَايَةً سَوْدَاءَ
فَوْقَ سَلْعٍ، ثُمَّ دَنَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلُوهَا وَنَصَبُوا رَايَةً
سَوْدَاءَ فَوْقَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ تَنَادَوْا: دُخِلَتِ الْمَدِينَةُ.
وَهَرَبُوا وَبَقِيَ مُحَمَّدٌ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا. ثُمَّ بَقِيَ
وَحْدَهُ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ صَلْتٌ يَضْرِبُ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَ
إِلَيْهِ، فَلَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ ذُو الْفَقَارِ. ثُمَّ تَكَاثَرَ
عَلَيْهِ النَّاسُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ تَحْتَ
شَحْمَةِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى فَسَقَطَ مُحَمَّدٌ لِرُكْبَتَيْهِ، وَجَعَلَ
يَحْمِي نَفْسَهُ، وَيَقُولُ: وَيْحَكُمُ ابْنُ نَبِيِّكُمْ مَجْرُوحٌ مَظْلُومٌ.
وَجَعَلَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ يَقُولُ: وَيْحَكُمْ دَعُوهُ لَا تَقْتُلُوهُ.
فَأَحْجَمَ عَنْهُ النَّاسُ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ،
فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَوَضَعَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَكَانَ حُمَيْدٌ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ مَتَى رَآهُ، فَمَا
أَدْرَكَهُ إِلَّا كَذَلِكَ.
وَكَانَ مَقْتَلُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
بَعْدَ الْعَصْرِ، لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ مُوسَى لِأَصْحَابِهِ
حِينَ وُضِعَ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ فَنَالَ مِنْهُ
أَقْوَامٌ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ،
لَقَدْ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، وَلَكِنَّهُ خَالَفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَشَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. فَسَكَتُوا حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا سَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ
يَتَوَارَثُونَهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى جَرَّبَهُ بَعْضُهُمْ، فَضَرَبَ بِهِ كَلْبًا،
فَانْقَطَعَ السَّيْفُ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ بَلَغَ الْمَنْصُورَ فِي غُبُونِ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ مُحَمَّدًا فَرَّ
مِنَ الْحَرْبِ، فَقَالَ: لَا، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَفِرُّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَجَّاجِ قَالَ: إِنِّي
لَقَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَنْصُورِ، وَهُوَ مُسَائِلِي عَنْ مَخْرَجِ مُحَمَّدٍ،
إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى قَدْ هُزِمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَضَرَبَ
بِقَضِيبٍ مَعَهُ مُصَلَّاهُ وَقَالَ: كَلَّا، فَأَيْنَ لَعِبُ صِبْيَانِنَا بِهَا
عَلَى الْمَنَابِرِ وَمَشُورَةُ النِّسَاءِ؟ مَا أَنَى لِذَلِكَ بَعْدُ!
وَبَعَثَ عِيسَى بِالْبِشَارَةِ إِلَى الْمَنْصُورِ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ
الْحَسَنِ، وَبِالرَّأْسِ مَعَ ابْنِ أَبِي الْكِرَامِ، ثُمَّ أَذِنَ فِي دَفْنِ
جُثَّةِ مُحَمَّدٍ فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَأَمَرَ بِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ
قُتِلُوا مَعَهُ فَصُلِبُوا صَفَّيْنِ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
ثُمَّ طُرِحُوا عَلَى مَقْبَرَةِ الْيَهُودِ عِنْدَ سَلْعٍ، ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى
خَنْدَقٍ هُنَاكَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ بَنِي حَسَنٍ كُلَّهَا، فَسَوَّغَهَا لَهُ
الْمَنْصُورُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. حَكَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ.
وَنُودِيَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْأَمَانِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي
أَسْوَاقِهِمْ، وَتَرَفَّعَ عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى الْجَرْفِ مِنْ مَطَرٍ
أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَ قَتْلِ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ يَنْتَابُ الْمَسْجِدَ مِنَ
الْجَرْفِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى الْيَوْمِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ
رَمَضَانَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا قَاصِدًا مَكَّةَ، وَكَانَ بِهَا الْحَسَنُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ لِيَقْدَمَ
عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، تَلَقَّتْهُ
الْأَخْبَارُ بِقَتْلِ مُحَمَّدٍ، فَاسْتَمَرَّ فَارًّا إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ بِهَا، ثُمَّ قُتِلَ
بَعْدَ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَلَمَّا جِيءَ الْمَنْصُورُ بِرَأْسِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَمَرَ
فَطِيفَ بِهِ فِي طَبَقٍ أَبْيَضَ، ثُمَّ طِيفَ بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ بَعْدَ
ذَلِكَ. ثُمَّ شَرَعَ الْمَنْصُورُ فِي اسْتِدْعَاءِ مَنْ خَرَجَ مَعَ مُحَمَّدٍ
مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَضْرِبُهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْفُو عَنْهُ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى مَكَّةَ اسْتَنَابَ عَلَى
الْمَدِينَةِ كُثَيِّرَ بْنَ حُصَيْنٍ، فَاسْتَمَرَّ شَهْرًا حَتَّى بَعَثَ الْمَنْصُورُ
عَلَى نِيَابَتِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ فَعَاثَ جُنْدُهُ فِي
الْمَدِينَةِ فَسَادًا، وَاشْتَرَوْا مِنَ النَّاسِ أَشْيَاءَ لَا يُعْطُونَهُمْ
ثَمَنَهَا، وَإِنْ طُولِبُوا بِذَلِكَ ضَرَبُوا الْمُطَالِبَ، وَخَوَّفُوهُ
بِالْقَتْلِ، فَثَارَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ السُّودَانِ; وَاجْتَمَعُوا
وَنَفَخُوا فِي بُوقٍ لَهُمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَى صَوْتِهِ كُلُّ أَسْوَدٍ فِي
الْمَدِينَةِ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى
الْجُمْعَةِ، لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
وَقِيلَ: لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا - فَقَتَلُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً
كَثِيرَةً وَهَرَبَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ،
وَتَرَكَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ السُّودَانِ; وَثِيقٌ،
وَيَعْقِلُ، وَرُمْقَةُ، وَحَدْيَا، وَعُنْقُودٌ، وَمِسْعَرٌ وَأَبُو قَيْسٍ،
وَأَبُو النَّارِ، فَرَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ فِي جُنُودِهِ
وَالْتَقَى مَعَ السُّودَانِ فَهَزَمُوهُ، وَمَضَى فَلَحِقُوهُ بِالْبَقِيعِ،
فَأَلْقَى لَهُمْ دَرَاهِمَ شَغَلَهُمْ بِهَا، حَتَّى نَجَا بِنَفْسِهِ وَمَنِ
اتَّبَعَهُ، فَلَحِقَ بِبَطْنِ نَخْلٍ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ،
وَوَقَعَ السُّودَانُ عَلَى طَعَامٍ لِلْمَنْصُورِ كَانَ
مَخْزُونًا فِي دَارِ مَرْوَانَ قَدْ
قُدِمَ بِهِ فِي الْبَحْرِ لِأَجْلِ الْجُنْدِ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ; مِنْ
دَقِيقٍ وَسَوِيقٍ وَزَيْتٍ وَقَسْبٍ، فَانْتَهَبُوهُ، وَبَاعُوهُ بِأَرْخَصِ
ثَمَنٍ، وَذَهَبَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ
السُّودَانِ، وَخَافَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ مَعَرَّةِ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعُوا
فِي الْمَسْجِدِ وَخَطَبَهُمُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ - وَكَانَ مَسْجُونًا -
فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَفِي رِجْلَيْهِ الْقُيُودُ، فَحَثَّهُمْ عَلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورِ، وَخَوَّفَهُمْ شَرَّ مَا
صَنَعَهُ مَوَالِيهِمْ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَكُفُّوا مَوَالِيَهُمْ
وَيُفَرِّقُوهُمْ وَأَنْ يَذْهَبُوا إِلَى أَمِيرِهِمْ، فَيَرُدُّوهُ إِلَى
عَمَلِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَسَكَنَ الْأَمْرُ، وَهَدَأَ النَّاسُ،
وَانْطَفَأَتِ الشُّرُورُ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَقَطَعَ يَدَ وَثِيقٍ وَأَبِي النَّارِ وَيَعْقِلَ وَمِسْعَرٍ.
ذِكْرُ خُرُوجِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ بِالْبَصْرَةِ
وَكَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ
كَانَ إِبْرَاهِيمُ قَدْ نَزَلَ فِي بَنِي ضُبَيْعَةَ مِنَ الْبَصْرَةِ، فِي دَارِ
الْحَارِثِ بْنِ عِيسَى، وَكَانَ لَا يُرَى بِالنَّهَارِ، وَكَانَ قُدُومُهُ
إِلَيْهَا بَعْدَ أَنْ طَافَ بِلَادًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَجَرَتْ عَلَيْهِ
وَعَلَى أَخِيهِ خُطُوبٌ شَدِيدَةٌ هَائِلَةٌ، وَانْعَقَدَ أَسْبَابُ هَلَاكِهِمَا
فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، ثُمَّ كَانَ آخِرَ مَا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
بِالْبَصْرَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، بَعْدَ
مُنْصَرَفِ الْحَجِيجِ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ قُدُومِهِ إِلَيْهَا كَانَ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ،
سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، بَعَثَهُ أَخُوهُ إِلَيْهَا بَعْدَ
ظُهُورِهِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. قَالَ: وَكَانَ
يَدْعُو فِي السِّرِّ إِلَى أَخِيهِ، فَلَمَّا قُتِلَ أَخُوهُ أَظْهَرَ
الدَّعْوَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَمُخَالَفَةَ الْمَنْصُورِ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَدِمَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ أَظْهَرَ
الدَّعْوَةَ فِي حَيَاةِ أَخِيهِ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا دَخَلَ الْبَصْرَةَ أَوَّلَ قُدُومِهِ إِلَيْهَا نَزَلَ عِنْدَ يَحْيَى
بْنِ زِيَادِ بْنِ حَسَّانَ النَّبَطِيِّ، وَكَانَ مُخْتَفِيًا عِنْدَهُ هَذِهِ
الْمُدَّةَ كُلَّهَا، حَتَّى ظَهَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ أَوَّلُ
ظُهُورِهِ فِي دَارِ أَبِي فَرْوَةَ، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَهُ نُمَيْلَةَ
بْنَ مُرَّةَ، وَعَفْوَ اللَّهِ بْنَ سُفْيَانَ، وَعَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ زِيَادٍ،
وَعَمْرَو بْنَ سَلَمَةَ الْهُجَيْمِيَّ، وَعُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى بْنِ
حُضَيْنٍ الرَّقَاشِيَّ، وَنَدَبُوا النَّاسَ إِلَيْهِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، فَتَحَوَّلَ إِلَى دَارِ أَبِي مَرْوَانَ فِي وَسَطِ الْبَصْرَةِ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَبَايَعَهُ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، وَتَفَاقَمَ
الْخَطْبُ بِهِ، وَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَازْدَادَ
غَمًّا إِلَى غَمِّهِ بِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ قَبْلَ
مَقْتَلِ أَخِيهِ، كَمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا كَانَ السَّبَبُ فِي تَعْجِيلِهِ
الظُّهُورَ بِالْبَصْرَةِ كِتَابَ أَخِيهِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَامْتَثَلَ
أَمْرَهُ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَانْتَظَمَ أَمْرُهُ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ
نَائِبُهَا لِلْمَنْصُورِ سُفْيَانَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مُمَالِئًا لِإِبْرَاهِيمَ
فِي الْبَاطِنِ وَيُبْلِغُهُ أَخْبَارَهُ، فَلَا يَكْتَرِثُ لَهَا، وَيُكَذِّبُ
بِمَا يُخْبَرُ بِهِ مِنْهَا وَيَوَدُّ أَنْ لَوْ صَحَّ أَمْرُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ أَمَدَّهُ الْمَنْصُورُ بِأَمِيرَيْنِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ مَعَهُمَا أَلْفَا فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَأَنْزَلَهُمَا عِنْدَهُ لِيَتَقَوَّى بِهِمَا عَلَى مُحَارَبَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَحَوَّلَ الْمَنْصُورُ مِنْ بَغْدَادَ - وَكَانَ قَدْ شَرَعَ فِي عِمَارَتِهَا - إِلَى الْكُوفَةِ وَجَعَلَ كُلَّمَا اتَّهَمَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ، بَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ فِي اللَّيْلِ فِي مَنْزِلِهِ، وَكَانَ الْفُرَافِصَةُ الْعِجْلِيُّ قَدْ هَمَّ بِالْوُثُوبِ بِالْكُوفَةِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِمَكَانِ الْمَنْصُورِ بِهَا، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقْصِدُونَ الْبَصْرَةَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِمُبَايَعَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَفِدُونَ إِلَيْهَا جَمَاعَاتٍ وَفُرَادًى، وَجَعَلَ الْمَنْصُورُ يَرْصُدُ لَهُمُ الْمَسَالِحَ، فَيَقْتُلُونَهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ، وَيَأْتُونَهُ بِرُءُوسِهِمْ فَيَصْلُبُهَا بِالْكُوفَةِ لِيَتَّعِظَ بِهَا النَّاسُ، وَأَرْسَلَ الْمَنْصُورُ إِلَى حَرْبٍ الرَّاوَنْدِيِّ - وَكَانَ مُرَابِطًا بِالْجَزِيرَةِ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ لِقِتَالِ الْخَوَارِجِ - يَسْتَدْعِيهِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِبَلْدَةٍ بِهَا أَنْصَارٌ لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالُوا لَهُ: لَا نَدَعُكَ تَجْتَازُ; لِأَنَّكَ إِنَّمَا طَلَبَكَ لِيُحَارِبَ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ! دَعُونِي. فَأَبَوْا فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةٍ، وَأَرْسَلَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ الْفَتْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْاِثْنَيْنِ مُسْتَهَلَّ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ فِي اللَّيْلِ إِلَى مَقْبَرَةِ بَنِي يَشْكُرَ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ فَارِسًا، وَقَدِمَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَبُو حَمَّادٍ الْأَبْرَصُ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ مِدَادًا لِسُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَنْزَلَهُمُ الْأَمِيرُ
فِي الْقَصْرِ، وَمَالَ إِبْرَاهِيمُ
وَأَصْحَابُهُ وَمَنِ الْتَفَّ عَلَيْهِ وَصَارَ إِلَيْهِ إِلَى دَوَابِّ
أُولَئِكَ الْعَسْكَرِ وَأَسْلِحَتِهِمْ، فَأَخَذُوهَا جَمِيعًا، فَكَانَ هَذَا
أَوَّلَ مَا أَصَابَ، وَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ إِلَّا وَقَدِ اسْتَظْهَرَ
جِدًّا، فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ،
وَالْتَفَّتِ الْخَلَائِقُ عَلَيْهِ مَا بَيْنَ نَاظِرٍ وَنَاصِرٍ، وَتَحَصَّنَ
سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَائِبُ الْخَلِيفَةِ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَجَلَسَ
عِنْدَهُ الْجُنُودُ، فَحَاصَرَهُمْ إِبْرَاهِيمُ بِمَنْ مَعَهُ، فَطَلَبَ
سُفْيَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْأَمَانَ، فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ، وَدَخَلَ
إِبْرَاهِيمُ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَبُسِطَتْ لَهُ حَصِيرٌ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا
فِي مُقَدَّمِ إِيوَانِ الْقَصْرِ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ، فَقَلَبَتِ الْحَصِيرَ
ظَهْرًا لِبَطْنٍ، فَتَطَيَّرَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّا لَا
نَتَطَيَّرُ. وَجَلَسَ عَلَى ظَهْرِ الْحَصِيرِ، وَأَمَرَ بِحَبْسِ سُفْيَانَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ مُقَيَّدًا، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يُبَرِّئَ سَاحَتَهُ عِنْدَ
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ،
فَإِذَا فِيهِ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ، وَقِيلَ: أَلْفَا أَلْفٍ. فَقَوِيَ بِذَلِكَ
جِدًّا.
وَكَانَ بِالْبَصْرَةِ جَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ،
وَهُمَا ابْنَا عَمِّ الْخَلِيفَةِ الْمَنْصُورِ، فَرَكِبَا فِي سِتِّمِائَةِ
فَارِسٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا إِبْرَاهِيمُ الْمَضَّاءَ بْنَ الْقَاسِمِ فِي
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَارِسًا وَثَلَاثِينَ رَاجِلًا، فَهَزَمَ بِهَؤُلَاءِ
سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، وَأَمَّنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَبَعَثَ إِبْرَاهِيمُ
إِلَى أَهْلِ الْأَهْوَازِ، فَبَايَعُوا لَهُ وَأَطَاعُوهُ، وَأَرْسَلَ إِلَى
نَائِبِهَا مِائَتَيْ فَارِسٍ عَلَيْهِمُ الْمُغِيرَةُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُصَيْنِ نَائِبُ الْبِلَادِ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَهَزَمَهُ
الْمُغِيرَةُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْبِلَادِ، وَبَعَثَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى
بِلَادِ فَارِسَ فَأَخَذَهَا، وَكَذَلِكَ وَاسِطُ وَالْمَدَائِنُ وَالسَّوَادُ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَهُ نَعْيُ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ
انْكَسَرَ جِدًّا، وَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ وَهُوَ مَكْسُورٌ،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ
رَأَيْتُ الْمَوْتَ فِي وَجْهِهِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَنَعَى إِلَى
النَّاسِ أَخَاهُ مُحَمَّدًا، فَازْدَادَ النَّاسُ حَنَقًا عَلَى الْمَنْصُورِ،
وَأَصْبَحَ فَعَسْكَرَ بِالنَّاسِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْبَصْرَةِ نُمَيْلَةَ،
وَخَلَّفَ ابْنَهُ حَسَنًا مَعَهُ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْمَنْصُورَ خَبَرُهُ تَحَيَّرَ فِي أَمْرِهِ، وَجَعَلَ
يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَرَّقَ مِنْ جُنْدِهِ فِي الْمَمَالِكِ، وَكَانَ قَدْ
بَعَثَ مَعَ ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا إِلَى الرَّيِّ، وَبَعَثَ
مُحَمَّدَ بْنَ الْأَشْعَثِ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا،
وَالْبَاقُونَ مَعَ عِيسَى بْنِ مُوسَى بِالْحِجَازِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ فِي
مُعَسْكَرِهِ سِوَى أَلْفَيْ فَارِسٍ فَكَانَ يَأْمُرُ بِالنِّيرَانِ
الْكَثِيرَةِ، فَتُوقَدُ لَيْلًا، فَيَحْسَبُ النَّاظِرُ أَنَّ هُنَاكَ جُنُودًا
كَثِيرَةً، ثُمَّ كَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى وَهُوَ
بِالْحِجَازِ بَعْدَ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: إِذَا
قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا، فَأَقْبِلْ مِنْ فَوْرِكَ، وَدَعْ كُلَّ مَا أَنْتَ
فِيهِ. فَلَمْ يَنْشَبْ أَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ بِالْبَصْرَةِ وَلَا يَهُولَنَّكَ كَثْرَةُ مَنْ مَعَهُ،
فَإِنَّهُمَا جَمَلَا بَنِي هَاشِمٍ الْمَقْتُولَانِ جَمِيعًا، فَابْسُطْ يَدَكَ،
وَثِقْ بِمَا عِنْدَكَ، وَسَتَذْكُرُ مَا أَقُولُ لَكَ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا
قَالَ الْمَنْصُورُ.
وَكَتَبَ الْمَنْصُورُ إِلَى ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ أَنْ يُوَجِّهَ خَازِمَ بْنَ
خُزَيْمَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا،
فَأَخْرَجَ مِنْهَا نَائِبَ إِبْرَاهِيمَ - وَهُوَ الْمُغِيرَةُ - وَأَبَاحَهَا
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَرَجَعَ الْمُغِيرَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَكَذَلِكَ بَعَثَ
إِلَى كُلِّ كُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الْكُوَرِ الَّتِي خَلَعَتْ يَرُدُّونَهُمْ إِلَى
الطَّاعَةِ. قَالُوا: وَلَزِمَ الْمَنْصُورُ مَوْضِعَ مُصَلَّاهُ، فَلَا يَبْرَحُ
فِيهِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فِي بِذْلَةِ ثِيَابٍ عَلَيْهِ قَدِ اتَّسَخَتْ،
فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا هُنَاكَ
بِضْعًا وَخَمْسِينَ يَوْمًا، حَتَّى
فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ فِي غُبُونِ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ نِسَاءَكَ قَدْ خَبُثَتْ أَنْفُسُهُنَّ لِغَيْبَتِكَ
عَنْهُنَّ. فَانْتَهَرَ الْقَائِلَ، وَقَالَ: وَيْحَكَ! لَيْسَتْ هَذِهِ أَيَّامَ
نِسَاءٍ حَتَّى أَرَى رَأْسَ إِبْرَاهِيمَ بَيْنَ يَدَيَّ أَوْ يُحْمَلَ رَأْسِي
إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ مَهْمُومٌ مِنْ
كَثْرَةِ مَا وَقَعَ مِنَ الشُّرُورِ وَالْفُتُوقِ وَالْخُرُوقِ وَهُوَ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُتَابِعَ الْكَلَامَ مِنْ شِدَّةِ كَرْبِهِ وَهَمِّهِ، وَهُوَ
مَعَ ذَلِكَ قَدْ أَعَدَّ لِكُلِّ أَمْرٍ مَا يَسُدُّ خَلَلَهُ، وَقَدْ خَرَجَتْ
عَنْ يَدِهِ الْبَصْرَةُ وَالْأَهْوَازُ وَأَرْضُ فَارِسَ وَوَاسِطُ
وَالْمَدَائِنُ وَأَرْضُ السَّوَادِ، وَفِي الْكُوفَةِ عِنْدَهُ مِائَةُ أَلْفِ
سَيْفٍ مُغْمِدَةٌ، تَنْتَظِرُ بِهِ صَيْحَةً وَاحِدَةً، فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ
مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْرُكُ النَّوَائِبَ وَيَمْرُسُهَا،
وَلَمْ تَقْعُدْ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامَا وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ وَالْإِقْدَامَا
فَصَيَّرَتْهُ مَلِكًا هُمَامَا
وَأَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ قَاصِدًا مَنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ فِي مِائَةِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ عِيسَى بْنَ مُوسَى فِي
خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي
ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ فَنَزَلَ فِي بَاخَمْرَا فِي جَحَافِلَ
عَظِيمَةٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّكَ قَدِ اقْتَرَبْتَ مِنَ
الْمَنْصُورِ، فَلَوْ أَنَّكَ سِرْتَ إِلَيْهِ بِطَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِكَ هَذَا
لَأَخَذْتَ بِقَفَاهُ; فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ الْجُيُوشِ أَحَدٌ
يَرُدُّونَ عَنْهُ. فَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْأَوْلَى أَنْ نُنَاجِزَ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بِإِزَائِنَا، ثُمَّ هُوَ فِي قَبْضَتِنَا. فَثَنَاهُمْ
ذَلِكَ عَنِ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ،
وَلَوْ فَعَلُوهُ لَتَمَّ لَهُمُ الْأَمْرُ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ: خَنْدِقْ
حَوْلَ الْجَيْشِ. فَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ هَذَا الْجَيْشَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى
خَنْدَقٍ حَوْلَهُ. فَتَرَكَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَشَارَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ يُبَيِّتَ
جَيْشَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنَّى لَا أَرَى ذَلِكَ.
فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَشَارَ آخَرُونَ بِأَنْ يَجْعَلَ جَيْشَهُ كَرَادِيسَ، فَإِنْ
غُلِبَ كُرْدُوسٌ ثَبَتَ الْآخَرُ، فَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الْأَوْلَى أَنْ
نُقَاتِلَ صُفُوفًا; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [ الصَّفِّ: 4
].
وَأَقْبَلَ الْجَيْشَانِ، فَتَصَافُّوا فِي بَاخَمْرَا، وَهِيَ عَلَى سِتَّةَ
عَشَرَ فَرْسَخًا مِنَ الْكُوفَةِ فَاقْتَتَلُوا بِهَا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَانْهَزَمَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ،
فَجَعَلَ عِيسَى يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ فِي الرُّجُوعِ وَالْكَرَّةِ، فَلَا
يَلْوِي عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَثَبَتَ عِيسَى بْنُ مُوسَى فِي مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ
أَهْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَنَحَّيْتَ مِنْ مَكَانِكَ هَذَا لِئَلَّا
يَحْطِمَكَ جَيْشُ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزُولُ عَنْهُ حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ لِي أَوْ أُقْتَلَ هَاهُنَا. وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ
تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ; أَنَّ النَّاسَ
يَكُونُ لَهُمْ جَوْلَةٌ مَعَ عِيسَى بْنِ مُوسَى، ثُمَّ يَقُومُونَ إِلَيْهِ
وَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لَهُ، فَاسْتَمَرَّ الْمُنْهَزِمُونَ ذَاهِبِينَ
فَانْتَهَوْا إِلَى نَهْرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ خَوْضُهُ
فَكَّرُوا رَاجِعِينَ بِأَجْمَعِهِمْ، فَكَانَ أَوَّلَ رَاجِعٍ حُمَيْدُ بْنُ
قَحْطَبَةَ الَّذِي كَانَ أَوَّلَ مَنِ انْهَزَمَ، ثُمَّ اجْتَلَدُوا هُمْ
وَأَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنْ كِلَا
الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ إِبْرَاهِيمَ، وَثَبَتَ
هُوَ فِي خَمْسِمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي أَرْبَعِمِائَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَبْعِينَ
رَجُلًا. وَاسْتَظْهَرَ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ، وَقُتِلَ إِبْرَاهِيمُ
فِي جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ، وَاخْتَلَطَ رَأْسُهُ مَعَ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ،
فَجَعَلَ حُمَيْدٌ
يَأْتِي بِالرُّءُوسِ فَيَعْرِضُهَا
عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى حَتَّى عَرَفُوا رَأْسَ إِبْرَاهِيمَ، فَبَعَثُوهُ مَعَ
الْبَشِيرِ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَكَانَ نِيبُخْتُ الْمُنَجِّمُ قَدْ دَخَلَ
قَبْلَ مَجِيءِ الْبَشِيرِ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَبْشِرْ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ مَقْتُولٌ. فَلَمْ يُصَدِّقْهُ،
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ لَمْ تُصَدِّقْنِي فَاحْبِسْنِي،
فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُ لَكَ فَاقْتُلْنِي. فَبَيْنَا هُوَ
عِنْدَهُ إِذْ جَاءَ الْبَشِيرُ بِهَزِيمَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمَّا جِيءَ
بِالرَّأْسِ تَمَثَّلَ الْمَنْصُورُ بِبَيْتِ مُعَقِّرِ بْنِ حِمَارٍ
الْبَارِقِيِّ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا
بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَنْصُورَ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الرَّأْسِ بَكَى حَتَّى
جَعَلَتْ دُمُوعُهُ تَسْقُطُ عَلَى الرَّأْسِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ
لِهَذَا كَارِهًا، وَلَكِنَّكَ ابْتُلِيتَ بِي وَابْتُلِيتُ بِكَ. ثُمَّ أَمَرَ
بِالرَّأْسِ، فَنُصِبَ لِلنَّاسِ بِالسُّوقِ. وَأَقْطَعُ نِيبُخْتَ الْمُنَجِّمَ
أَلْفَيْ جَرِيبٍ.
وَذَكَرَ صَالِحٌ مَوْلَى الْمَنْصُورِ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ إِبْرَاهِيمَ
جَلَسَ الْمَنْصُورُ مَجْلِسًا عَامًّا، وَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ
فَيُهَنِّئُونَهُ، وَيَنَالُونَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ،
وَيُقَبِّحُونَ الْكَلَامَ فِيهِ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الْمَنْصُورِ، وَالْمَنْصُورُ وَاجِمٌ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ
لَا يَتَكَلَّمُ، حَتَّى دَخَلَ جَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ،
فَوَقَفَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي ابْنِ عَمِّكَ، وَغَفَرَ لَهُ مَا فَرَّطَ مِنْ حَقِّكَ.
قَالَ: فَاصْفَرَّ لَوْنُ الْمَنْصُورِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَبَا
خَالِدٍ، مَرْحَبًا وَأَهْلًا، هَاهُنَا؟! فَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ
وَقَعَ مِنْهُ فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ جَاءَ يَقُولُ كَمَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ
حَنْظَلَةَ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: كَانَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ
الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَهْلِ الْبَيْتِ،
مِنْهُمْ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ وَابْنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ،
وَأَخُوهُ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ، وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْمُلَقَّبُ بِالدِّيبَاجِ، وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الَّذِي قَبْلَهُ.
فَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
فَتَابِعِيٌّ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ - وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ; سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ، وَمَالِكٌ. وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُبَجَّلًا، وَكَانَ عَابِدًا كَبِيرَ الْقَدْرِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا. وَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَكْرَمَهُ، وَوَفَدَ عَلَى السَّفَّاحِ فَعَظَّمَهُ وَأَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمَنْصُورُ عَكَسَ هَذَا الْإِكْرَامَ، وَأَخَذَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مُقَيَّدِينَ مَغْلُولِينَ مُهَانِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْهَاشِمِيَّةِ، فَأَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ الضَّيِّقَ كَمَا قَدَّمْنَا، فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَسَنٍ هَذَا أَوَّلَ مَنْ مَاتَ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِ وَلَدِهِ مُحَمَّدٍ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ عَمْدًا. وَقِيلَ: بَلْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
ثُمَّ مَاتَ بَعْدَهُ أَخُوهُ حَسَنٌ،
فَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى
خُرَاسَانَ، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَنَافِعٍ، وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ،
عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كَيْفِيَّةِ الْهُوِيِّ إِلَى
السُّجُودِ، وَحَدَثَّ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ
حِبَّانَ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. وَقَدْ ذُكِرَ
أَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْ بِهِ أَرْبَعَ سِنِينَ. وَكَانَ طَوِيلًا سَمِينًا
أَسْمَرَ ضَخْمًا، مُفَخَّمًا ذَا هِمَّةٍ سَامِيَّةٍ، وَسَطْوَةٍ عَالِيَةٍ،
وَكَانَ مَقْتَلُهُ بِالْمَدِينَةِ فِي مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَدْ حُمِلَ
رَأْسُهُ إِلَى الْمَنْصُورِ، وَطَيْفَ بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ.
وَأَمَّا أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ ظُهُورُهُ بِالْبَصْرَةِ بَعْدَ ظُهُورِ
أَخِيهِ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ فِي الْكُتُبِ
السِّتَّةِ، وَقَدْ حَكَى أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ
أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ
وَأَخُوهُ مُحَمَّدٌ خَارِجِيِّينَ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَبِئْسَمَا قَالَ، هَذَا رَأْيُ الزَّيْدِيَّةِ.
قُلْتُ: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ مَالُوا إِلَى
ظُهُورِهِمَا وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا مِنَ الْمَشَاهِيرِ:
الْأَجْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَإِسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ فِي قَوْلٍ،
وَحَبِيبٌ ابْنُ الشَّهِيدِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَعُمَرُ مَوْلَى عَفْرَةَ، وَيَحْيَى
بْنُ الْحَارِثِ الذِّمَّارِيُّ،
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، وَرُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ
- وَالْعَجَّاجُ لَقَبٌ، وَاسْمُهُ أَبُو الشَّعْثَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
رُؤْبَةَ - أَبُو مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الْبَصْرِيُّ، الرَّاجِزُ ابْنُ
الرَّاجِزِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا دِيوَانُ رَجَزٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَارِعٌ فِي
فَنِّهِ، لَا يُجَارَى وَلَا يُمَارَى، عَالِمٌ بِاللُّغَةِ. وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُقَفَّعِ الْكَاتِبُ الْمُفَوَّهُ، أَسْلَمَ عَلَى يَدِ عِيسَى بْنِ
عَلِيٍّ عَمِّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وَكَتَبَ لَهُ، وَلَهُ رَسَائِلُ
وَأَلْفَاظٌ فَصِيحَةٌ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِالزَّنْدَقَةِ، وَهُوَ الَّذِي
صَنَّفَ كِتَابَ " كَلَيْلَةَ وَدِمْنَةَ "، وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ
الَّذِي عَرَّبَهَا مِنَ الْمَجُوسِيَّةِ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ الْمَهْدِيُّ ابْنُ الْمَنْصُورِ: مَا وَجَدْتُ كِتَابَ زَنْدَقَةٍ إِلَّا
وَأَصْلُهُ مِنِ ابْنِ الْمُقَفَّعِ. قَالَ الْجَاحِظُ: الزَّنَادِقَةُ ثَلَاثَةٌ;
ابْنُ الْمُقَفَّعِ، وَمُطِيعُ بْنُ إِيَاسٍ، وَيَحْيَى بْنُ زِيَادٍ. قَالُوا:
وَنَسِيَ الْجَاحِظُ نَفْسَهُ، وَهُوَ رَابِعُهُمْ. وَكَانَ مَعَ هَذَا فَاضِلًا
بَارِعًا فَصِيحًا.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِابْنِ
الْمُقَفَّعِ: مَنْ أَدَّبَكَ؟ قَالَ: نَفْسِي; إِذَا رَأَيْتُ مِنْ غَيْرِي
قَبِيحًا أَبَيْتُهُ، وَإِذَا رَأَيْتُ حَسَنًا أَتَيْتُهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: شَرِبْتُ مِنَ الْخُطَبِ رَيًّا، وَلَمْ أَضْبُطْ لَهَا
رَوِيًّا، فَغَاضَتْ ثُمَّ فَاضَتْ، فَلَا هِيَ هِيَ نِظَامًا، وَلَيْسَتْ
غَيْرَهَا كَلَامًا.
وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَى يَدِ سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ ابْنِ أَبِي صُفْرَةَ نَائِبِ الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ
يَعْبَثُ بِهِ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يُسَمِّيهِ ابْنَ
الْمُغْتَلِمَةِ، وَكَانَ كَبِيرَ الْأَنْفِ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ
يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمَا. عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. وَقَالَ سُفْيَانُ
مَرَّةً: مَا نَدِمْتُ عَلَى سُكُوتٍ قَطُّ. فَقَالَ: صَدَقْتَ، الْخَرَسُ خَيْرٌ
لَكَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ الْمَنْصُورَ تَغَضَّبَ عَلَى ابْنِ الْمُقَفَّعِ، فَكَتَبَ
إِلَى نَائِبِهِ سُفْيَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ هَذَا أَنْ يَقْتُلَهُ، فَأَخَذَهُ
فَأَحْمَى لَهُ تَنُّورًا، وَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ إِرَبًا إِرَبًا، وَيُلْقِيهِ فِي
ذَلِكَ التَّنُّورِ حَتَّى أَحْرَقَهُ كُلَّهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى أَطْرَافِهِ
كَيْفَ تُقْطَعُ، ثُمَّ تُحْرَقُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ابْنُ الْمُقَفَّعِ نِسْبَةً
إِلَى بَيْعِ الْقِفَاعِ،
وَهِيَ مِنَ الْجَرِيدِ كَالزِّنْبِيلِ
بِلَا آذَانٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ ابْنُ الْمُقَفَّعِ، وَهُوَ أَبُوهُ
دَاذَوَيْهِ، كَانَ الْحَجَّاجُ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْخَرَاجِ، فَخَانَ
فَعَاقَبَهُ حَتَّى تَقَفَّعَتْ يَدَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا خَرَجَتِ التُّرْكُ وَالْخَزَرُ بِبَابِ الْأَبْوَابِ، فَقَتَلُوا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ بِأَرْمِينِيَّةَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ نَائِبُ مَكَّةَ، وَكَانَ
نَائِبَ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيُّ، وَعَلَى
الْكُوفَةِ عِيسَى بْنُ مُوسَى، وَعَلَى الْبَصْرَةِ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ،
وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ مَدِينَةِ السَّلَامِ بَغْدَادَ، وَسَكَنَهَا
الْمَنْصُورُ بَانِيهَا فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مُقِيمًا
قَبْلَ ذَلِكَ بِالْهَاشِمِيَّةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ شَرَعَ
فِي بِنَائِهَا فِي السَّنَةِ الْخَارِجَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ السَّبَبَ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى بِنَائِهَا أَنَّ الرَّاوِنْدِيَّةَ
لَمَّا وَثَبُوا عَلَيْهِ بِالْكُوفَةِ، وَوَقَى اللَّهُ شَرَّهُمْ، فَقَهَرَهُمْ
وَقَتَلَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ، بَقِيَتْ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ، فَخَشِيَ عَلَى
جُنْدِهِ مِنْهُمْ، فَخَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ يَرْتَادُ لَهُمْ مَوْضِعًا
لِبِنَاءِ مَدِينَةٍ، فَسَارَ فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَ الْجَزِيرَةَ، فَلَمْ
يَرَ مَوْضِعًا أَحْسَنَ لِوَضْعِ الْمَدِينَةِ مِنْ مَوْضِعِ بَغْدَادَ الَّذِي
هِيَ فِيهِ الْآنَ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ مَوْضِعٌ يُغْدَى إِلَيْهِ وَيُرَاحُ
بِخَيِّرَاتِ مَا حَوْلَهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَهُوَ مُحَصَّنٌ بِدِجْلَةَ
وَالْفُرَاتِ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَتَوَصَّلَ إِلَى مَوْضِعِ الْخَلِيفَةِ
إِلَّا عَلَى جِسْرٍ، وَقَدْ بَاتَ بِهِ الْمَنْصُورُ قَبْلَ بِنَائِهِ، فَرَأَى
الرِّيَاحَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَطِيبَ الْهَوَاءِ فِي تِلْكَ الْمَحَلَّةِ،
وَقَدْ كَانَ مَوْضِعُهَا قُرًى وَدُيُورَةً لِعُبَّادِ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ
- ذَكَرَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا بِأَسْمَائِهِ وَتَعْدَادِهِ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ
جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ - فَحِينَئِذٍ أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِاخْتِطَاطِهَا،
فَرَسَمُوهَا لَهُ بِالرَّمَادِ، فَمَشَى فِي طُرُقِهَا وَمَسَالِكِهَا،
فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ سَلَّمَ كُلَّ رُبْعٍ مِنْهَا لِأَمِيرٍ يَقُومُ
عَلَى بِنَائِهِ، وَأَحْضَرَ مِنْ
كُلِّ الْبِلَادِ فُعَّالًا وَصُنَّاعًا وَمُهَنْدِسِينَ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ
أُلُوفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ لَبِنَةً فِيهَا
بِيَدِهِ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْأَرْضُ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. ثُمَّ
قَالَ: ابْنُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. وَأَمَرَ بِبِنَائِهَا مُدَوَّرَةً،
سُمْكُ سُورِهَا مِنْ أَسْفَلِهِ خَمْسُونَ ذِرَاعًا، وَمِنْ أَعْلَاهُ عِشْرُونَ
ذِرَاعًا، وَجَعَلَ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ فِي السُّورِ الْبَرَانِيِّ،
وَمِثْلَهَا فِي الْجَوَّانِيِّ، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ تُجَاهَ الْآخَرِ،
وَلَكِنِ أَزْوَرُ عَنِ الَّذِي يُقَابِلُهُ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بَغْدَادُ
الزَّوْرَاءَ، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِازْوِرَارِهَا بِسَبَبِ انْحِرَافِ
دِجْلَةَ عِنْدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبَنَى قَصْرَ الْإِمَارَةِ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ لِيَكُونَ النَّاسُ مِنْهُ
عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَاخْتَطَّ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ إِلَى جَانِبِ الْقَصْرِ،
وَكَانَ الَّذِي وَضَعَ قِبْلَتَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ. وَقَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: وَيُقَالُ: إِنَّ فِي قِبْلَتِهِ انْحِرَافًا يَحْتَاجُ الْمُصَلِّي
فِيهِ أَنْ يَنْحَرِفَ إِلَى نَاحِيَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ
مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْهُ; لِأَنَّهُ بُنِيَ قَبْلَ
الْقَصْرِ، وَجَامِعُ الْمَدِينَةِ بُنِيَ عَلَى الْقَصْرِ. فَاخْتَلَّتْ
قُبْلَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَجَالِدٍ، أَنَّ الْمَنْصُورَ
أَرَادَ أَبَا حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ بْنَ ثَابِتٍ عَلَى الْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ،
فَحَلَفَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَتَوَلَّى لَهُ، وَحَلَفَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ لَا
يَفْعَلَ، فَوَلَّاهُ الْقِيَامَ بِأَمْرِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبِ اللَّبِنَ
وَعَدِّهِ، وَأَخْذِ الرِّجَالِ بِالْعَمَلِ، فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ
الْمُتَوَلِّيَ لِذَلِكَ، حَتَّى فَرَغَ مِنَ اسْتِتْمَامِ حَائِطِ الْمَدِينَةِ
مِمَّا
يَلِي الْخَنْدَقَ، وَكَانَ
اسْتِتْمَامُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ الْمَنْصُورَ
عَرَضَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَضَاءَ وَالْمَظَالِمَ فَامْتَنَعَ، فَحَلَفَ
أَنْ لَا يُقْلِعَ عَنْهُ حَتَّى يَعْمَلَ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ،
فَدَعَا بِقَصَبَةٍ، فَعَدَّ اللَّبِنَ لِيُبِرَّ بِذَلِكَ يَمِينَ أَبِي
جَعْفَرٍ، وَمَاتَ أَبُو حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ.
وَذَكَرَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى الْمَنْصُورِ
بِبِنَائِهَا، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِثًّا فِيهَا، وَقَدْ شَاوَرَ الْمَنْصُورُ
الْأُمَرَاءَ فِي نَقْلِ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ مِنَ الْمَدَائِنِ إِلَى بَغْدَادَ
لِأَجْلِ قَصْرِ الْإِمَارَةِ بِهَا، فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّهُ آيَةٌ فِي
الْعَالَمِ، وَفِيهِ مُصَلَّى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فَخَالَفَهُ وَنَقَلَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَمْ يَفِ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ
بِأُجْرَةِ مَا يُصْرَفُ فِي حَمْلِهِ، فَتَرَكَهُ، وَنَقَلَ أَبْوَابَ وَاسِطَ
إِلَى أَبْوَابِ بَغْدَادَ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ نَقَلَهَا مِنْ مَدِينَةٍ
هُنَاكَ كَانَتْ مِنْ بِنَاءِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَتِ الْجِنُّ قَدْ
عَمِلَتْ تِلْكَ الْأَبْوَابَ.
وَقَدْ كَانَتِ الْأَسْوَاقُ قَرِيبًا مِنْ قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَكَانَتْ
أَصْوَاتُ الْبَاعَةِ وَهَوْشَاتُ الْأَسْوَاقِ تُسْمَعُ مِنْهُ، فَعَابَ ذَلِكَ
بَعْضُ بَطَارِقَةِ النَّصَارَى مِمَّنْ قَدِمَ فِي بَعْضِ الرَّسَائِلِ مِنَ
الرُّومِ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ بِنَقْلِ الْأَسْوَاقِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى
مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأَمَرَ
بِتَوْسِعَةِ الطُّرُقَاتِ أَرْبَعِينَ
ذِرَاعًا، وَمَنْ بَنَى فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هُدِمَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ عَنْ عِيسَى ابْنِ الْمَنْصُورِ أَنَّهُ قَالَ:
وَجَدْتُ فِي خَزَائِنِ الْمَنْصُورِ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى
مَدِينَةِ السَّلَامِ وَمَسْجِدِهَا الْجَامِعِ وَقَصْرِ الذَّهَبِ بِهَا وَالْأَسْوَاقِ
وَالْفُصْلَانِ وَالْخَنَادِقِ وَقِبَابِهَا وَأَبْوَابِهَا أَرْبَعَةَ آلَافِ
أَلْفٍ وَثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَكَانَ أُجْرَةُ
الْأُسْتَاذِ مِنَ الْبَنَّائِينَ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَ فِضَّةٍ،
وَأُجْرَةُ الصَّانِعِ مِنَ الْحَبَّتَيْنِ إِلَى الثَّلَاثِ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ.
وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: أَنْفَقَ عَلَيْهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
أَلْفَ أَلْفٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ نَاقَصَ أَحَدَ الْمُهَنْدِسِينَ
الَّذِي بَنَى لَهُ بَيْتًا حَسَنًا فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَنَقَصَهُ
دِرْهَمًا عَمَّا سَاوَمَهُ، وَأَنَّهُ حَاسَبَ بَعْضَ الْمُسْتَحَثِّينَ عَلَى
الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، فَفَضَلَ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَحَبَسَهُ
حَتَّى أَحْضَرَهَا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي " تَارِيخِ بَغْدَادَ
": وَبَنَاهَا مُدَوَّرَةً،
وَلَا يُعْرَفُ فِي أَقْطَارِ
الدُّنْيَا كُلِّهَا مَدِينَةٌ مُدَوَّرَةٌ سِوَاهَا، وَوَضَعَ أَسَاسَهَا فِي
وَقْتٍ اخْتَارَهُ لَهُ نُوبَخْتُ الْمُنَجِّمُ. ثُمَّ رَوَى عَنْ بَعْضِ
الْمُنَجِّمِينَ قَالَ: قَالَ لِي الْمَنْصُورُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ
بَغْدَادَ: خُذِ الطَّالِعَ. فَنَظَرْتُ فِي طَالِعِهَا، وَكَانَ الْمُشْتَرِي فِي
الْقَوْسِ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّجُومُ مِنْ طُولِ
زَمَانِهَا، وَكَثْرَةِ عِمَارَتِهَا وَانْصِبَابِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَفَقْرِ
النَّاسِ إِلَى مَا فِيهَا. قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: وَأُبَشِّرُكُ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِبِشَارَةٍ أُخْرَى; وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ فِيهَا أَحَدٌ
مِنَ الْخُلَفَاءِ أَبَدًا. قَالَ: فَرَأَيْتُهُ يَبْتَسِمُ ثُمَّ قَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا مِنْهُ:
قَضَى رَبُّهَا أَنْ لَا يَمُوتَ خَلِيفَةٌ بِهَا إِنَّهُ مَا شَاءَ فِي خَلْقِهِ
يَقْضِي
وَقَدْ قَرَّرَهُ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ الْخَطِيبُ، وَسَلَّمَ ذَلِكَ وَلَمْ
يَنْقُضْهُ بِشَيْءٍ، مَعَ اطِّلَاعِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.
قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأَمِينَ قُتِلَ بِدَرْبِ الْأَنْبَارِ
مِنْهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيِّ بْنِ الْمُحْسِنِ
التَّنُوخِيِّ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَيْضًا لَمْ يُقْتَلْ
بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا قَدْ نَزَلَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى دِجْلَةَ لِيَتَنَزَّهَ،
فَقُبِضَ عَلَيْهِ فِي وَسَطِ
دِجْلَةَ، وَقُتِلَ هُنَاكَ، وَذَكَرَ
ذَلِكَ الصُّولِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِ بَغْدَادَ أَنَّهُ قَالَ: اتِّسَاعُ بَغْدَادَ
مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ جَرِيبًا، وَذَلِكَ يَعْدِلُ مِيلَيْنِ فِي مِيلَيْنِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: بَغْدَادُ مِنَ الصَّرَاةِ إِلَى بَابِ التِّبْنِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ بَيْنَ كُلِّ بَابَيْنِ مِنْ
أَبْوَابِهَا الثَّمَانِيَةِ مِيلًا، وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ
الْخَطِيبُ صِفَةَ قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَأَنَّ فِيهِ الْقُبَّةَ الْخَضْرَاءَ
طُولُهَا ثَمَانُونَ ذِرَاعًا، عَلَى رَأْسِهَا تِمْثَالُ فَرَسٍ عَلَيْهِ فَارِسٌ
فِي يَدِهِ رُمْحٌ يَدُورُ بِهِ، فَإِلَى أَيِّ جِهَةٍ اسْتَقْبَلَهَا
وَاسْتَمَرَّ مُسْتَقْبِلَهَا، عُلِمَ أَنَّ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ قَدْ وَقَعَ
حَدَثٌ، فَيَنْظُرُ فِي أَمْرِهِ الْخَلِيفَةُ. وَهَذِهِ الْقُبَّةُ عَلَى
مَجْلِسٍ فِي صَدْرِ إِيوَانِ الْمَحْكَمَةِ، وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا،
وَعَرْضُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ الْقُبَّةُ فِي لَيْلَةِ
بَرْدٍ وَمَطَرٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ
مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ يُبَاعُ فِي أَيَّامِ
الْمَنْصُورِ بِبَغْدَادَ الْكَبْشُ بِدِرْهَمْ، وَالْحَمَلُ بِأَرْبَعَةِ
دَوَانِقَ، وَيُنَادَى عَلَى لَحْمِ الْغَنَمِ كُلُّ سِتِّينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ،
وَلَحْمُ الْبَقَرِ كُلُّ تِسْعِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، وَالتَّمْرُ كُلُّ
سِتِّينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، وَالزَّيْتُ كُلُّ
سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ،
وَالسَّمْنُ كُلُّ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَالْعَسَلُ كُلُّ عَشَرَةِ
أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ.
وَلِهَذَا الْأَمْنِ وَالرُّخْصِ كَثُرَ سَاكِنُوهَا، وَعَظُمَ أَهْلُوهَا، حَتَّى
كَانَ الْمَارُّ فِيهَا لَا يَكَادُ يَجْتَازُ فِي الْأَسْوَاقِ; لِكَثْرَةِ
أَهْلِهَا. قَالَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ وَقَدْ رَجَعَ مِنَ السُّوقِ: طَالَمَا
طَرَدْتُ خَلْفَ الْأَرَانِبِ فِي هَذَا الْمَكَانِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، أَنَّ الْمَنْصُورَ جَلَسَ يَوْمًا فِي
قَصْرِ الْإِمَارَةِ وَعِنْدَهُ بَعْضُ رُسُلِ الرُّومِ، فَسَمِعَ ضَجَّةً
عَظِيمَةً، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ أُخْرَى، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ الْحَاجِبِ: مَا
هَذَا؟ فَكَشَفَ فَإِذَا بَقَرَةٌ قَدْ نَفَرَتْ مِنْ جَازِرِهَا هَارِبَةً فِي
الْأَسْوَاقِ، فَقَالَ الرُّومِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ بَنَيْتَ
بِنَاءً لَمْ يَبْنِهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ عُيُوبِ; بُعْدُهُ مِنَ
الْمَاءِ، وَقُرْبُ الْأَسْوَاقِ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ عِنْدَهُ خُضْرَةٌ،
وَالْعَيْنُ خَضِرَةٌ تُحِبُّ الْخُضْرَةَ. فَلَمْ يَرْفَعْ بِهَا الْمَنْصُورُ
رَأْسًا، ثُمَّ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَسَاقَ إِلَيْهِ
الْمَاءَ، وَبَنَى عِنْدَهُ الْبَسَاتِينَ، وَحَوَّلَ الْأَسْوَاقَ مِنْ ثَمَّ
إِلَى الْكَرْخِ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: كَمُلَ بِنَاءُ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ سِتِّ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ حَوْلَ الْأَسْوَاقِ
إِلَى بَابِ الْكَرْخِ وَبَابِ الشَّعِيرِ وَبَابِ الْمُحَوَّلِ،
وَأَمَرَ بِتَوْسِعَةِ الْأَسْوَاقِ
أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا. وَبَعْدَ شَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ شَرَعَ فِي بِنَاءِ قَصْرِهِ
الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ، فَكَمُلَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، كَمَا
سَيَأْتِي، وَجَعَلَ أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: الْوَضَّاحُ،
فَبَنَى قَصْرَ الْوَضَّاحِ، وَبَنِي لِلْعَامَّةِ جَامِعًا لِصَلَاةِ
الْجُمْعَةِ; لَا يَدْخُلُونَ إِلَى جَامِعِ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ.
فَأَمَّا دَارُ الْخِلَافَةِ الَّتِي كَانَتْ بِبَغْدَادَ فَإِنَّهَا كَانَتْ
أَوَّلًا لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ، فَانْتَقَلَتْ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى ابْنَتِهِ
بَوَرَانَ الَّتِي كَانَ تَزَوَّجَهَا الْمَأْمُونُ، فَطَلَبَهَا مِنْهَا
الْمُعْتَضِدُ - وَقِيلَ: الْمُعْتَمِدُ - فَأَنْعَمَتْ لَهُ بِهَا، وَاسْتَنْظَرَتْهُ
أَيَّامًا حَتَّى تَنْتَقِلَ مِنْهَا، ثُمَّ شَرَعَتْ فِي تَرْمِيمِهَا
وَتَبْيِيضِهَا وَتَحْسِينِهَا، ثُمَّ فَرَشَتْهَا بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ،
وَعَلَّقَتْ فِيهَا أَنْوَاعَ السُّتُورِ، وَأَرْصَدَتْ فِيهَا مَا يَنْبَغِي
لِلْخَلِيفَةِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْخَدَمِ، بِأَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ،
وَجَعَلَتْ فِي الْخَزَائِنِ مَا يَنْبَغِي مِنْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ
وَالْمَآكِلِ، ثُمَّ بَعَثَتْ بِمَفَاتِيحِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
وَجَدَ فِيهَا مَا أَرْصَدَتْهُ بِهَا، فَهَالَهُ ذَلِكَ وَاسْتَعْظَمَهُ جِدًّا،
فَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ سَكَنَهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا سُورًا. ذَكَرَهُ
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ.
وَأَمَّا التَّاجُ فَبَنَاهُ الْمُكْتَفِي عَلَى دِجْلَةَ، وَحَوْلَهُ الْقِبَابُ
وَالْمَجَالِسُ وَالْمَيْدَانُ وَالثُّرَيَّا وَحَيْرُ الْوُحُوشِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ صِفَةَ دَارِ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي زَمَنِ
الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ، وَمَا فِيهَا مِنَ
الْفُرُشِ وَالسُّتُورِ وَالْخَدَمِ وَالْمَمَالِيكِ، وَالْحِشْمَةِ الْبَاذِخَةِ،
وَأَنَّهُ كَانَ بِهَا أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ طَوَاشِيٍّ، وَسَبْعُمِائَةِ حَاجِبٍ،
وَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَأُلُوفٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ
ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ دَارَ الْمُلْكِ الَّتِي بِالْمُخَرَّمِ، وَذَكَرَ
الْجَوَامِعَ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَاتُ، وَذَكَرَ الْأَنْهَارَ
وَالْجُسُورَ الَّتِي بِهَا، وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ فِي زَمَنِ الْمَنْصُورِ،
وَمَا أُحْدِثَ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِهِ. وَأَنْشَدَ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ فِي
جُسُورِ بَغْدَادَ الَّتِي عَلَى دِجْلَةَ:
يَوْمٌ سَرَقْنَا الْعَيْشَ فِيهِ خِلْسَةً فِي مَجْلِسٍ بِفِنَاءِ دِجْلَةَ
مُفْرَدِ
رَقَّ الْهَوَاءُ بِرِقَّةٍ قُدَّامَهُ فَغَدَوْتُ رِقًّا لِلزَّمَانِ الْمُسْعِدِ
فَكَأَنَّ دِجْلَةَ طَيْلَسَانٌ أَبْيَضُ وَالْجِسْرُ فِيهَا كَالطِّرَازِ
الْأَسْوَدِ
وَقَالَ آخَرُ:
أَيَا حَبَّذَا جِسْرٌ عَلَى مَتْنِ دِجْلَةٍ بِإِتْقَانِ تَأْسِيسٍ وَحُسْنٍ
وَرَوْنَقِ
جَمَالٌ وَحَسَنٌ لِلْعِرَاقِ وَنُزْهَةٌ وَسَلْوَةُ مَنْ أَضْنَاهُ فَرْطُ
التَّشَوُّقِ
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْتَهُ
مُتَأَمِّلًا كَسَطْرِ عَبِيرٍ خُطَّ فِي وَسْطِ مُهْرَقِ
أَوِ الْعَاجُ فِيهِ الْآبِنُوسُ مُرَقَّشٌ مِثَالُ فَيُولٍ تَحْتَهَا أَرْضُ
زِئْبَقِ
وَذَكَرَ الصُّولِيُّ قَالَ: ذَكَرَ أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي طَاهِرٍ فِي كِتَابِ
" بَغْدَادَ " أَنَّ ذَرْعَ بَغْدَادَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ثَلَاثَةٌ
وَخَمْسُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَسَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ جَرِيبًا، وَأَنَّ
الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَسَبْعُمِائَةٍ
وَخَمْسُونَ جَرِيبًا، وَأَنَّ عَدَدَ حَمَّامَاتِهَا سِتُّونَ أَلْفَ حَمَّامٍ،
وَأَقَلُّ مَا فِي كُلِّ حَمَّامٍ مِنْهَا خَمْسَةُ نَفَرٍ حَمَّامِيٌّ وَقَيِّمٌ
وَزَبَّالٌ وَوَقَّادٌ وَسَقَّاءٌ، وَأَنَّ بِإِزَاءِ كُلِّ حَمَّامٍ خَمْسَةَ
مَسَاجِدَ، فَذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ مَسْجِدٍ، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ فِي
كُلِّ مَسْجِدٍ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ. يَعْنِي إِمَامًا وَقِيَمًا وَمُؤَذِّنًا
وَمَأْمُومَيْنِ. ثُمَّ تَنَاقَصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ دُثِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ
حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا خَرِبَةٌ; صُورَةً وَمَعْنًى. عَلَى مَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: لَمْ يَكُنْ
لِبَغْدَادَ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ فِي جَلَالَةِ قَدْرِهَا، وَفَخَامَةِ
أَمْرِهَا، وَكَثْرَةِ عُلَمَائِهَا وَأَعْلَامِهَا، وَتَمَيُّزِ خَوَاصِّهَا
وَعَوَامِّهَا، وَعِظَمِ أَقْطَارِهَا، وَسِعَةِ أَطْرَارِهَا، وَكَثْرَةِ
دُورِهَا وَمَنَازِلِهَا، وَدُرُوبِهَا وَشَوَارِعِهَا، وَمَحَالِّهَا
وَأَسْوَاقِهَا، وَسِكَكِهَا وَأَزِقَّتِهَا، وَمَسَاجِدِهَا، وَحَمَّامَاتِهَا،
وَخَانَاتِهَا، وَطِيبِ هَوَائِهَا، وَعُذُوبَةِ مَائِهَا، وَبَرْدِ ظِلَالِهَا
وَأَفْيَائِهَا،
وَاعْتِدَالِ صَيْفِهَا وَشِتَائِهَا،
وَصِحَّةِ رَبِيعِهَا وَخَرِيفِهَا، وَأَكْثَرُ مَا كَانَتْ عِمَارَةً وَأَهْلًا
فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَنَاقُصَ أَحْوَالِهَا بَعْدَ ذَلِكَ،
وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى زَمَانِهِ.
قُلْتُ: وَكَذَا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَلَا سِيَّمَا فِي
أَيَّامِ هُولَاكُو بْنُ تَوْلَى بْنِ جِنْكِزْ خَانَ التُّرْكِيِّ الَّذِي وَضَعَ
مَعَالِمَهَا، وَقَتَلَ خَلِيفَتَهَا وَعَالِمَهَا، وَخَرَّبَ دُورَهَا، وَهَدَمَ
قُصُورَهَا، وَأَبَادَ الْخَوَاصَّ وَالْعَوَامَّ مِنْ أَهْلِهَا فِي ذَلِكَ
الْعَامِ، وَأَخَذَ الْأَمْوَالَ وَالْحَوَاصِلَ، وَنَهَبَ الذَّرَارِيَّ
وَالْأَصَائِلَ، وَأَوْرَثَ بِهَا حُزْنًا يُعَدَّدُ بِهِ فِي الْبَكَرَاتِ
وَالْأَصَائِلِ، وَصَيَّرَهَا مُثْلَةً فِي الْأَقَالِيمِ، وَعِبْرَةً لِكُلِّ
مُعْتَبِرٍ عَلِيمٍ، وَتَذْكِرَةً لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ، وَبُدِّلَتْ
بَعْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، بِالنَّغَمَاتِ وَالْأَلْحَانِ، وَإِنْشَادِ
الْأَشْعَارِ وَكَانَ وَكَانَ، وَبَعْدَ سَمَاعِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ،
بِدَرْسِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ، وَالْمَنَاهِجِ الْكَلَامِيَّةِ،
وَالتَّأْوِيلَاتِ الْقُرْمَطِيَّةِ، وَبَعْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْحُكَمَاءِ،
وَبَعْدَ الْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، بَشَرِّ الْوُلَاةِ مِنَ الْأَنَاسِيِّ،
وَبَعْدَ الرِّيَاسَةِ وَالنَّبَاهَةِ، بِالْخَسَاسَةِ وَالسَّفَاهَةِ، وَبَعْدَ
الْعُبَّادِ بِالْأَنْكَادِ، وَبَعْدَ الطَّلَبَةِ الْمُشْتَغِلِينَ، بِالظَّلَمَةِ
وَالْعَيَّارِينَ، وَبَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِفُنُونِ الْعِلْمِ مِنَ التَّفْسِيرِ
وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا، بِالزَّجَلِ وَالْمُوَشَّحِ
وَدُوبِيتَ وَمَوَالِيَا، وَمَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ،
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
وَالتَّحَوُّلُ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ - لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ
الْمُنْكَرَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ - وَالِانْتِقَالُ عَنْهَا إِلَى
بِلَادِ الشَّامِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ بِأَهْلِهِ، أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ وَأَجْمَلُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي
" مَسْنَدِهِ " عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا
تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَحَوَّلَ خِيَارُ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ،
وَشِرَارُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ.
ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي ذِكْرِ مَدِينَةِ بَغْدَادَ مِنَ الْآثَارِ، وَالتَّنْبِيهُ
عَلَى ضَعْفِ مَا رُوِيَ فِيهَا مِنَ الْأَخْبَارِ
فِيهَا أَرْبَعُ لُغَاتٍ، بَغْدَادُ وَبَغْدَاذُ بِإِهْمَالِ الذَّالِ
الثَّانِيَةِ وَإِعْجَامِهَا، وَبَغْدَانُ بِالنُّونِ آخِرَهُ، وَبِالْمِيمِ مَعَ
ذَلِكَ أَوَّلًا مَغْدَانُ، وَهِيَ كَلِمَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ، قِيلَ: إِنَّهَا
مُرَكَّبَةٌ مِنْ بَغْ وَدَاذَ، فَقِيلَ: بَغْ بُسْتَانٌ، وَدَاذُ اسْمُ رَجُلٍ.
وَقِيلَ: بَغِ اسْمُ صَنَمٍ - وَقِيلَ: شَيْطَانٌ - وَدَاذُ: عَطِيَّةٌ. أَيْ
عَطِيَّةُ الصَّنَمِ، وَلِهَذَا كَرِهَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
وَالْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا تَسْمِيَتَهَا بَغْدَاذَ، وَإِنَّمَا يُقَالُ
لَهَا: مَدِينَةُ السَّلَامِ. وَكَذَا سَمَّاهَا بَانِيهَا أَبُو جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ; لِأَنَّ دِجْلَةَ كَانَ يُقَالُ لَهَا: وَادِي السَّلَامِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّيهَا الزَّوْرَاءَ، وَهُوَ لَقَبٌ لَهَا.
فَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ - وَهُوَ
مُتَّهَمٌ - قَالَ:
سَمِعْتُ عَاصِمًا الْأَحْوَلَ
يُحَدِّثُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
تُبْنَى مَدِينَةٌ بَيْنَ دِجْلَةَ وَدُجَيْلٍ وَقُطْرَبُّلَ وَالصَّرَاةِ;
تُجْبَى إِلَيْهَا خَزَائِنُ الْأَرْضِ وَجَبَابِرَتُهَا، لَهِيَ أَسْرَعُ
ذَهَابًا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْوَتِدِ الْحَدِيدِ فِي الْأَرْضِ الرَّخْوَةِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ
ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَهُوَ أَخُو عَمَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ -
قُلْتُ: وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ مُتَّهَمٌ يُرْمَى بِالْكَذِبِ - وَمُحَمَّدُ بْنُ
جَابِرٍ الْيَمَامِيُّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا - وَأَبُو شِهَابٍ الْحِنَّاطُ،
وَرَوَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَاصِمٍ. ثُمَّ أَسْنَدَ ذَلِكَ
كُلَّهُ.
وَأَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنْ يَحْيَى ابْنِ أَبِي
بُكَيْرٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَاصِمٍ،
عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ جَرِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ
لِهَذَا الْحَدِيثِ أَصْلٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: مَا حَدَّثَ بِهِ إِنْسَانٌ ثِقَةٌ.
وَقَدْ عَلَّلَهُ الْخَطِيبُ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ، وَسَاقَهُ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ عَمَّارِ بْنِ سَيْفٍ، عَنِ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ،
وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا. وَمِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَابْنِ مَسْعُودٍ وَثَوْبَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي بَعْضِهَا ذِكْرُ
السُّفْيَانِيِّ وَأَنَّهُ يُخَرِّبُهَا، وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُ شَيْءٍ مِنْ
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا الْخَطِيبُ بِأَسَانِيدِهَا
وَأَلْفَاظِهَا، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا نَكَارَةٌ، وَأَقْرَبُ مَا فِي ذَلِكَ عَنْ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَقَدْ جَاءَ فِي آثَارٍ عَنْ كُتُبٍ مُتَقَدِّمَةٍ أَنَّ
بَانِيَهَا يُقَالُ لَهُ: مِقْلَاصٌ وَذُو الدَّوَانِيقِ. وَقَدْ كَانَ
الْمَنْصُورُ يُلَقَّبُ بِمِقْلَاصٍ فِي صِغَرِهِ، وَلَمَّا وَلِيَ لُقِّبَ بِذِي
الدَّوَانِيقِ; لِبُخْلِهِ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِ بَغْدَادَ وَمَا رُوِيَ فِيهَا عَنِ الْأَئِمَّةِ
النُّقَّادِ
قَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ: قَالَ لِي
الشَّافِعِيُّ: هَلْ رَأَيْتَ بَغْدَادَ؟ قُلْتُ: لَا. فَقَالَ: لَمْ تَرَ الدُّنْيَا.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ قَالَ: مَا
دَخَلْتُ بَلَدًا قَطُّ إِلَّا عَدَدْتُهُ سَفَرًا، إِلَّا بَغْدَادَ فَإِنِّي
حِينَ دَخَلْتُهَا عَدَدْتُهَا وَطَنًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الدُّنْيَا بَادِيَةٌ، وَبَغْدَادُ حَاضِرَتُهَا.
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ مِنْ
أَهْلِ بَغْدَادَ وَلَا أَحْسَنَ رَغْبَةً.
وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: رَأَيْتُ أَبَا عَمْرٍو ابْنَ الْعَلَاءِ فِي النَّوْمِ
فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ لِي: دَعْنِي مِنْ هَذَا، مَنْ
أَقَامَ بِبَغْدَادَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَاتَ، نُقِلَ مِنْ
جَنَّةٍ إِلَى جَنَّةٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: الْإِسْلَامُ بِبَغْدَادَ، وَإِنَّهَا
لَصَيَّادَةٌ تَصِيدُ الرِّجَالَ، وَمَنْ لَمْ يَرَهَا لَمْ يَرَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: بَغْدَادُ دَارُ دُنْيَا وَآخِرَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ يَوْمُ الْجُمْعَةِ بِبَغْدَادَ،
وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ بِمَكَّةَ، وَيَوْمُ الْعِيدِ بِطَرَسُوسَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: مَنْ شَهِدَ
الْجُمْعَةَ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَظَّمَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ مَحَلَّ
الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ مَشَايِخَنَا كَانُوا يَقُولُونَ: يَوْمُ الْجُمْعَةِ
بِبَغْدَادَ كَيَوْمِ الْعِيدِ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُنْتُ أُوَاظِبُ عَلَى الْجُمْعَةِ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ،
فَعَرَضَ لِي شُغْلٌ فَصَلَّيْتُ فِي غَيْرِهِ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ
قَائِلًا يَقُولُ لِي: تَرَكْتَ الصَّلَاةَ بِالْجَامِعِ وَإِنَّهُ لَيُصَلِّي
بِالْجَامِعِ كُلَّ جُمْعَةٍ سَبْعُونَ وَلِيًّا؟!
وَقَالَ آخَرُ: أَرَدْتُ الِانْتِقَالَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى غَيْرِهَا، فَرَأَيْتُ
كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لِي فِي الْمَنَامِ: أَتَنْتَقِلُ مِنْ بَلَدٍ فِيهِ
عَشَرَةُ آلَافِ وَلِيٍّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟!
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَتَيَا بَغْدَادَ فَقَالَ
أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اقْلِبْ بِهَا فَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَيْهَا.
فَقَالَ الْآخَرُ: كَيْفَ أَقْلِبُ بِبَلَدٍ خُتِمَ فِيهِ الْقُرْآنُ اللَّيْلَةَ
خَمْسَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ؟!
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ مُوسَى قَالَ: إِذَا كَانَ عِلْمُ الرَّجُلِ حِجَازِيًّا، وَخُلُقُهُ
عِرَاقِيًّا، وَطَاعَتُهُ شَامِيَّةً فَقَدْ كَمُلَ.
وَقَالَتْ زُبَيْدَةُ لِمَنْصُورٍ
النَّمَرِيِّ: قُلْ شِعْرًا تُحَبِّبُ فِيهِ بَغْدَادَ إِلَى الرَّشِيدِ، فَقَدِ
اخْتَارَ سُكْنَى الرَّافِقَةِ. فَقَالَ:
مَاذَا بِبَغْدَادَ مِنْ طِيبِ الْأَفَانِينِ وَمِنْ مَنَازِلَ لِلدُّنْيَا
وَلِلدِّينِ تُحْيِي الرِّيَاحُ بِهَا الْمَرْضَى إِذَا نَسَمَتْ
وَجَوَّشَتْ بَيْنَ أَغْصَانِ الرَّيَاحِينِ
قَالَ: فَأَعْطَتْهُ أَلْفَيْ دِينَارٍ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: وَقَرَأْتُ فِي كِتَابِ طَاهِرِ بْنِ مُظَفَّرِ بْنِ طَاهِرٍ
الْخَازِنِ بِخَطِّهِ مِنْ شِعْرِهِ:
سَقَى اللَّهُ صَوْبَ الْغَادِيَاتِ مَحَلَّةً بِبَغْدَادَ بَيْنَ الْكَرْخِ
فَالْخُلْدِ فَالْجِسْرِ
هِيَ الْبَلْدَةُ الْحَسْنَاءُ خُصَّتْ لِأَهْلِهَا بِأَشْيَاءَ لَمْ يُجْمَعْنَ
مُذْ كُنَّ فِي مِصْرِ
هَوَاءٌ رَقِيقٌ فِي اعْتِدَالٍ وَصِحَّةٍ وَمَاءٌ لَهُ طَعْمٌ أَلَذُّ مِنَ
الْخَمْرِ
وَدِجْلَتُهَا شَطَّانِ قَدْ نُظِمَا لَنَا بِتَاجٍ إِلَى تَاجٍ وَقَصْرٍ إِلَى
قَصْرِ
ثَرَاهَا كَمِسْكٍ وَالْمِيَاهُ كَفِضَّةٍ وَحَصْبَاؤُهَا مِثْلُ الْيَوَاقِيتِ
وَالدُّرِّ
وَقَدْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ فِي هَذَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً، وَفِيمَا ذَكَرْنَا
كِفَايَةٌ.
وَقَدْ كَانَ الْفَرَاغُ مِنْ بِنَاءِ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي
سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَةٍ - وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّ سُورَهَا وَخَنْدَقَهَا كَمُلَا فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَلَمْ يَزَلِ الْمَنْصُورُ يَزِيدُ فِيهَا، وَيَتَأَنَّقُ
فِي بِنَائِهَا حَتَّى كَانَ آخَرَ مَا بَنَى فِيهَا قَصْرُ الْخُلْدِ، فَعِنْدَ
كَمَالِهِ تُوُفِّيَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمَنْصُورُ سَلْمَ بْنَ
قُتَيْبَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيٍّ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَتَبَ إِلَى سَلْمٍ يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ بُيُوتِ
الَّذِينَ بَايَعُوا إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، فَتَوَانَى
فِي ذَلِكَ فَعَزَلَهُ، وَبَعَثَ ابْنَ عَمِّهِ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيٍّ فَعَاثَ فِيهَا فَسَادًا، وَهَدَمَ دُورًا كَثِيرَةً، وَعَزَلَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا جَعْفَرَ
بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَزَلَ عَنْ مَكَّةَ السَّرِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
وَوَلَّاهَا عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ: وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ جَعْفَرُ بْنُ
حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: أَشْعَثُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ
الْكَلْبِيُّ، وَهُشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَيَزِيدُ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ فِي قَوْلٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَغَارَ إِسْتَرْخَانَ الْخَوَارِزْمِيُّ فِي جَيْشٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ
عَلَى نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ، فَدَخَلُوا تَفْلِيسَ، وَقَتَلُوا خَلْقًا، وَأَسَرُوا
كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَمِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ
حَرْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّاوَنْدِيُّ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ
الْحَرْبِيَّةُ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُقِيمًا بِالْمَوْصِلِ فِي أَلْفَيْنِ
لِمُقَابَلَةِ الْخَوَارِجِ، فَسَيَّرَهُ الْمَنْصُورُ لِمُسَاعِدَةِ
الْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ أَرْمِينِيَّةَ، فَكَانَ فِي جَيْشِ جَبْرَئِيلَ بْنِ
يَحْيَى، فَهُزِمَ جَبْرَئِيلُ، وَقُتِلَ حَرْبٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَهْلِكُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ عَمِّ الْمَنْصُورِ،
الَّذِي أَخَذَ الشَّامَ، مِنْ أَيْدِي بَنِي أُمَيَّةَ، ثُمَّ كَانَ عَلَيْهَا
حَتَّى مَاتَ السَّفَّاحُ، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْمَنْصُورُ أَبَا مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيَّ، فَهَزَمَهُ، وَهَرَبَ عَبْدُ
اللَّهِ إِلَى عِنْدِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ بِالْبَصْرَةِ، فَاخْتَفَى
عِنْدَهُ مُدَّةً، ثُمَّ ظَهَرَ الْمَنْصُورُ عَلَى أَمْرِهِ، فَاسْتَدْعَاهُ
وَسَجَنَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى
الْحَجِّ، فَطَلَبَ ابْنَ عَمِّهِ عِيسَى بْنَ مُوسَى - وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِ الْمَنْصُورِ عَنْ وَصِيَّةِ السَّفَّاحِ - وَسَلَّمَ إِلَيْهِ
عَمَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا عَدُوِّي
وَعَدُوُّكَ، فَاقْتُلْهُ فِي غَيْبَتِي عَنْكَ وَلَا تَتَوَانَ. وَسَارَ
الْمَنْصُورُ إِلَى الْحَجِّ، وَجَعَلَ يَكْتُبُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّرِيقِ
يَسْتَحِثُّهُ فِي ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ فِيمَا أَوْعَزْتُ
إِلَيْكَ فِيهِ؟ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
وَأَمَّا عِيسَى بْنُ مُوسَى فَإِنَّهُ لَمَّا تَسَلَّمَ عَمَّهُ حَارَ فِي أَمْرِهِ، وَشَاوَرَ بَعْضَ أَهْلِهِ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ أَنَّ الْمُصْلِحَةَ تَقْتَضِي أَنْ لَا تَقْتُلَهُ وَأَخْفِهِ عِنْدَكَ، وَأَظْهِرْ قَتْلَهُ; فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يُطَالِبَكَ بِهِ جَهْرَةً، فَتَقُولَ: قَتَلْتُهُ. فَيَأْمُرُ بِالْقَوْدِ، فَتَدَّعِي أَنَّهُ أَمَرَكَ بِقَتْلِهِ فِي السِّرِّ، فَتَعْجِزُ عَنْ إِثْبَاتِ ذَلِكَ فَيَقْتُلُكَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمَنْصُورُ قَتْلَهُ وَقَتْلَكَ لِيَسْتَرِيحَ مِنْكُمَا مَعًا. فَتَبَصَّرَ عِيسَى بْنُ مُوسَى عِنْدَ ذَلِكَ، وَأَخْفَى عَمَّهُ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ الْمَنْصُورُ مِنَ الْحَجِّ أَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَيَشْفَعُوا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَاءُوا كُلُّهُمْ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَشَفَعُوا فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَلَحُّوا فِي ذَلِكَ، فَأَجَابَهُمْ إِلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى عِيسَى بْنَ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ شَفَعُوا عَلَيَّ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَقَدْ أَجَبْتُهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا، فَسَلِّمْهُ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ عِيسَى: وَأَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ؟ ذَاكَ قَتَلْتُهُ مُنْذُ أَمَرْتَنِي. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: لَمْ آمُرْكَ بِذَلِكَ. وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ مِنْهُ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ، فَأَحْضَرَ عِيسَى الْكُتُبَ بِاسْتِحْثَاثِهِ فِي ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ذَلِكَ، وَصَمَّمَ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَصَمَّمَ عِيسَى بْنُ مُوسَى أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِ قِصَاصًا بِعَبْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ بِهِ بَنُو هَاشِمٍ لِيَقْتُلُوهُ، فَلَمَّا جَاءُوا بِالسَّيْفِ قَالَ: رَدُّونِي إِلَى الْخَلِيفَةِ. فَرَدُّوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَمَّكَ حَاضِرٌ، وَلَمْ أَقْتُلْهُ. فَقَالَ: هَلُمَّ بِهِ. فَأَحْضُرُهُ، فَسُقِطَ فِي يَدِ الْخَلِيفَةِ، وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ فِي دَارٍ جُدْرَانُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مِلْحٍ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ أُرْسِلَ عَلَى جُدْرَانِهَا الْمَاءُ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، فَهَلَكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ إِنَّ الْمَنْصُورَ خَلَعَ
عِيسَى بْنَ مُوسَى عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَقَدَّمَ عَلَيْهِ ابْنَهُ
الْمَهْدِيَّ، فَكَانَ يُجْلِسُهُ فَوْقَ عِيسَى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ كَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَيُهِينُهُ فِي
الْإِذْنِ وَالْمَشُورَةِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ عِنْدِهِ،
بَعْدَ مَا كَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ قَبْلَ ذَلِكَ جِدًّا، ثُمَّ مَا زَالَ يُقْصِيهِ
وَيُبْعِدُهُ وَيَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ، حَتَّى خَلَعَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ
وَبَايَعَ لِمُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَنْصُورِ، وَأَعْطَاهُ الْمَنْصُورُ عَلَى ذَلِكَ
نَحْوًا مِنَ اثَّنَى عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَانْصَلَحَ أَمْرُ عِيسَى
بْنِ مُوسَى وَبَنِيهِ عِنْدَ الْمَنْصُورِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا كَانَ
قَدْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَكَانَ قَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمَا مُكَاتَبَاتٌ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، وَمُرَاوِضَاتٌ فِي تَمْهِيدِ الْبَيْعَةِ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ
وَخَلْعِ عِيسَى نَفْسَهُ، وَأَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَعْدِلُونَ بِالْمَهْدِيِّ
أَحَدًا، وَكَذَلِكَ الْأُمَرَاءُ وَالْخَوَاصُّ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى
أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ مُكْرَهًا، فَعَوَّضَهُ عَنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا،
وَسَارَتْ بَيْعَةُ الْمَهْدِيِّ فِي الْآفَاقِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَبُعْدًا وَقُرْبًا،
وَفَرِحَ الْمَنْصُورُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ
فِي ذُرِّيَّتِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ خَلِيفَةٌ مِنْ بَنِي
الْعَبَّاسِ إِلَّا مِنْ سُلَالَتِهِ، ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، وَهَاشِمُ بْنُ
هَاشِمٍ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ صَاحِبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا بَعَثَ الْمَنْصُورُ حُمَيْدَ بْنَ قَحْطَبَةَ لِغَزْوِ التُّرْكِ الَّذِينَ
كَانُوا قَدْ عَاثُوا بِبِلَادِ تَفْلِيسَ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُمْ أَحَدًا;
لِأَنَّهُمُ انْشَمَرُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا جَعْفَرٌ
ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ فِيهَا هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، مِنْهُمْ; جَعْفَرُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ كِتَابُ " اخْتِلَاجِ
الْأَعْضَاءِ " وَهُوَ مَكْذُوبٌ عَلَيْهِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ
الْأَعْمَشُ أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا،
وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَالْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَالزُّبَيْدِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا فُرِغَ مِنْ بِنَاءِ سُورِ بَغْدَادَ وَخَنْدَقِهَا. وَفِيهَا غَزَا
الصَّائِفَةَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ وَمَعَهُ
الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَمَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْأَشْعَثِ فِي الطَّرِيقِ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَوَلَّاهُ الْمَنْصُورُ عَلَى مَكَّةَ
وَالْحِجَازِ عِوَضًا عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَعُمَّالُ
الْأَمْصَارِ فِيهَا هُمُ الَّذِينَ فِيمَا قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَكَهَمْسُ بْنُ الْحَسَنِ،
وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ أَبُو عُمَرَ الثَّقَفِيُّ
الْبَصْرِيُّ النَّحْوِيُّ شَيْخُ سِيبَوَيْهِ، يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي ثَقِيفٍ، فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ.
كَانَ
إِمَامًا كَبِيرًا جَلِيلًا فِي
اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالْقِرَاءَاتِ، أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَسَمِعَ
الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْهُ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ،
وَالْأَصْمَعِيُّ، وَسِيبَوَيْهِ، وَلَزِمَهُ وَعُرِفَ بِهِ وَانْتَفَعَ بِهِ،
وَأَخَذَ كِتَابَهُ الَّذِي صَنَّفَهُ وَسَمَّاهُ " الْجَامِعَ "
فَزَادَ عَلَيْهِ وَبَسَطَهَ، فَهُوَ " كِتَابُ سِيبَوَيْهِ " الْيَوْمَ،
وَكَانَ يَسْأَلُ عَمَّا أَشْكَلَ فِيهِ عَلَيْهِ شَيْخَهُ الْخَلِيلَ بْنَ
أَحْمَدَ، وَقَدْ سَأَلَ الْخَلِيلُ يَوْمًا سِيبَوَيْهِ عَمَّا صَنَّفَ عِيسَى
بْنُ عُمَرَ فَقَالَ: جَمَعَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ كِتَابًا، ذَهَبَتْ كُلُّهَا
إِلَّا كِتَابَهُ " الْإِكْمَالَ "، وَهُوَ بِأَرْضِ فَارِسَ
وَكِتَابَهُ " الْجَامِعَ "، وَهُوَ الَّذِي أَشْتَغِلُ فِيهِ
وَأَسْأَلُكَ عَنْ غَوَامِضِهِ. فَأَطْرَقَ الْخَلِيلُ سَاعَةً ثُمَّ أَنْشَدَ:
ذَهَبَ النَّحْوُ جَمِيعًا كُلُّهُ غَيْرَ مَا أَحْدَثَ عِيسَى بْنُ عُمَرْ ذَاكَ
إِكْمَالٌ وَهَذَا جَامِعٌ
وَهُمَا لِلنَّاسِ شَمْسٌ وَقَمَرْ
وَقَدْ كَانَ عِيسَى يُغْرِبُ وَيَتَقَعَّرُ فِي عِبَارَتِهِ جِدًّا، وَقَدْ حَكَى
الْجَوْهَرِيُّ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ سَقَطَ يَوْمًا عَنْ حِمَارِهِ،
فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَقَالَ: مَا لَكُمْ تَكَأْكَأْتُمْ عَلَيَّ
تَكَأْكُؤَكُمْ عَلَى ذِي جِنَّةٍ؟! افْرَنْقِعُوا عَنِّي. مَعْنَاهُ: مَا لَكُمْ
تَجَمَّعْتُمْ عَلَيَّ تَجَمُّعَكُمْ عَلَى مَجْنُونٍ؟! انْكَشِفُوا عَنِّي.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ بِهِ ضِيقُ النَّفَسِ، فَسَقَطَ بِسَبَبِهِ، فَاعْتَقَدَ
النَّاسُ أَنَّهُ مَصْرُوعٌ، فَجَعَلُوا يُعَوِّذُونَهُ وَيَقْرَءُونَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا أَفَاقَ مِنْ غَشِيَتِهِ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: إِنَّ جِنِّيَّتَهُ
تَتَكَلَّمُ بِالْفَارِسِيَّةِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي عَمْرِو بْنِ
الْعَلَاءِ، وَأَنَّ عِيسَى بْنَ عُمَرَ قَالَ يَوْمًا لِأَبِي عَمْرِو بْنِ
الْعَلَاءِ: أَنَا أَفْصَحُ مِنْ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو
عَمْرٍو: كَيْفَ تُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ:
قَدْ كُنْ يَخْبَأْنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّرًا فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَأْنَ
لِلنُّظَّارِ
أَوْ " بَدَيْنَ " ؟ فَقَالَ: بَدَيْنَ. فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو:
أَخْطَأْتَ. وَلَوْ قَالَ: بَدَأْنَ. لَأَخْطَأَ أَيْضًا، وَإِنَّمَا أَرَادَ
أَبُو عَمْرٍو تَغْلِيطَهُ، وَإِنَّمَا الصَّوَابُ: بَدَوْنَ، مِنْ بَدَا يَبْدُو
إِذَا ظَهَرَ. وَبَدَأَ يَبْدَأُ إِذَا شَرَعَ فِي الشَّيْءِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ
وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الْكَفَرَةِ يُقَالُ لَهُ: أُسْتَاذِسِيسُ. فِي بِلَادِ
خُرَاسَانَ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِهَا، وَالْتَفَّ مَعَهُ نَحْوُ
ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَالِكَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَهَزَمُوا الْجُيُوشَ الَّتِي فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَسَبَوْا
خَلْقًا، وَاسْتَحْكَمَ الْفَسَادُ بِسَبَبِهِمْ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ،
فَوَجَّهَ الْمَنْصُورُ خَازِمَ بْنَ خُزَيْمَةَ إِلَى ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ
لِيُوَلِّيَهُ حَرْبَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَيَضُمَّ إِلَيْهِ مِنَ الْأَجْنَادِ
مَا يُقَاوِمُ أُولَئِكَ، فَنَهَضَ الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ نَهْضَةَ رَجُلٍ
هَاشِمِيٍّ، وَجَمَعَ لِخَازِمِ بْنِ خُزَيْمَةَ الْإِمْرَةَ عَلَى تِلْكَ
الْجُيُوشِ، وَبَعَثَهُ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَسَارَ إِلَيْهِمْ،
وَمَا زَالَ يُرَاوِغُهُمْ وَيُمَاكِرُهُمْ، وَيَعْمَلُ الْخَدِيعَةَ حَتَّى
فَاجَأَهُمْ بِالْحَرْبِ، وَوَاجَهَهُمْ بِالضَّرْبِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا
مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَهَرَبَ مَلِكُهُمْ
أُسَتَاذْسِيسُ، فَتَحَرَّزَ فِي جَبَلٍ، فَجَاءَ خَازِمٌ إِلَى تَحْتِ الْجَبَلِ،
وَقَتَلَ أُولَئِكَ الْأَسَارَى كُلَّهُمْ; ضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ
يُحَاصِرُهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى حُكْمِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ، فَحَكَمَ أَنْ
يُقَيَّدَ بِالْحَدِيدِ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَأَنْ يُعْتَقَ مَنْ مَعَهُ مِنَ
الْأَجْنَادِ; وَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَفَعَلَ خَازِمٌ ذَلِكَ كُلَّهُ،
وَأَطْلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَ أُسْتَاذِسِيسَ ثَوْبَيْنِ،
وَكَتَبَ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْفَتْحِ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَكَتَبَ الْمَهْدِيُّ
بِذَلِكَ إِلَى أَبِيهِ الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ جَعْفَرَ بْنَ
سُلَيْمَانَ، وَوَلَّاهَا الْحَسَنَ بْنَ
زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ
عَمُّ الْخَلِيفَةِ.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا جَعْفَرٌ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ، وَدُفِنَ لَيْلًا بِمَقَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ بَغْدَادَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ أَحَدُ
أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ السُّنَنَ.
وَعُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَعُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ.
ذِكْرُ تَرْجَمَتِهِ
هُوَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَاسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ
التَّيْمِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ،
فَقِيهُ الْعِرَاقِ، وَأَحَدُ
أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّادَةِ الْأَعْلَامِ، وَأَحَدُ أَرْكَانِ
الْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ
الْمُتَّبَعَةِ، وَهُوَ أَقْدَمُهُمْ وَفَاةً; لِأَنَّهُ أَدْرَكَ عَصْرَ
الصَّحَابَةِ، وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قِيلَ: وَغَيْرَهُ. وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَوَى عَنْ سَبْعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُنَيْسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَوَاثِلَةُ
بْنُ الْأَسْقَعِ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ عَجْرَدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ
رُوِّينَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، فِي
صِحَّتِهَا إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ نَظَرٌ; فَإِنَّ فِي الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ مَنْ
لَا يُعْرَفُ، وَفِي مَتْنِ بَعْضِهَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الرُّحْلَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحَجَّارُ، عَنِ
الزُّبَيْدِيِّ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمُبَارَكِ الْبَغْدَادِيُّ، عَنْ
وَالِدِهِ، عَنْ أَبِي الْمَكَارِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ
الشِّعْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْخَطِيبِ أَبِي الْحَسَنِ
عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنِ الْقَاضِي أَبِي سَعِيدٍ صَاعِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ أَبِي مَالِكٍ نَصْرَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ الْبَلْخِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْعِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ عَلِيٍّ بْنِ الْخَطِيبِ،
عَنْ أَبِي الْحَصِرِ عَلِيِّ بْنِ بَدْرٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ. خَالِصًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَلَوْ
تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ
الطَّيْرَ; تَغْدُو خِمَاصًا وَتَعُودُ بِطَانًا.
وَعَنْ جَابِرٍ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ
وَمُسْلِمَةٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ مَرْفُوعًا: رَأَيْتُ فِي عَارِضَتَيِ
الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا ثَلَاثَةُ أَسْطُرٍ بِالذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، لَا بِمَاءِ
الذَّهَبِ; السَّطْرُ الْأَوَّلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ. الثَّانِي: الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ، فَأَرْشَدَ
اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وَغَفَرَ لِلْمُؤَذِّنِينَ. الثَّالِثُ: وَجَدْنَا مَا
عَمِلْنَا، رَبِحْنَا مَا قَدَّمْنَا، خَسِرْنَا مَا خَلَّفْنَا، قَدِمْنَا عَلَى
رَبٍّ غَفُورٍ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حُبُّكَ لِلشَّيْءِ يُعْمِي وَيُصِمُّ،
وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِغَاثَةَ
الْمَلْهُوفِ. وَفِي لَفْظٍ: " اللَّهْفَانِ ".
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ مَرْفُوعًا: إِغَاثَةُ
الْمَلْهُوفِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَمَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ
كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّهُ، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.
وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ مَرْفُوعًا: عَلَامَةُ الْمُؤْمِنِ ثَلَاثٌ; إِذَا
قَالَ صَدَقَ، وَإِذَا وَعَدَ وَفَى، وَإِذَا حَدَّثَ لَمْ يَخُنْ.
وَعَنْ وَاثِلَةَ مَرْفُوعًا: لَا يَظْنُنَّ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَى
اللَّهِ بِأَقْرَبَ مِنْ هَذِهِ الرَّكَعَاتِ. يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.
وَعَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ عَجْرَدٍ مَرْفُوعًا: الْجَرَادُ أَكْثَرُ جُنُودِ
اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، لَا آكُلُهُ.
وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْهُمْ; الْحَكَمُ، وَحَمَّادُ بْنُ
أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَسَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَعَامِرٌ
الشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَنَافِعٌ
مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيُّ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ; ابْنُهُ حَمَّادٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
طَهْمَانَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ، وَأَسَدُ بْنُ عَمْرٍو
الْقَاضِي، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ، وَحَمْزَةُ الزَّيَّاتُ،
وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَزُفَرُ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، وَهُشَيْمٌ، وَوَكِيعٌ، وَأَبُو
يُوسُفَ الْقَاضِي.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَلَمْ
يُتَّهَمْ بِالْكَذِبِ، وَلَقَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ عَلَى الْقَضَاءِ
فَأَبَى أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا. قَالَ: وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
يَخْتَارُ قَوْلَهُ فِي الْفَتْوَى، وَكَانَ يَحْيَى يَقُولُ: لَا نَكْذِبُ
اللَّهَ، مَا سَمِعْنَا أَحْسَنَ مِنْ رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ أَخَذَ
بِأَكْثَرِ أَقْوَالِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَغَاثَنِي
بِأَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ لَكُنْتُ كَسَائِرِ النَّاسِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ: رَأَيْتُ رَجُلًا لَوْ كَلَّمَكَ فِي هَذِهِ
السَّارِيَةِ أَنْ يَجْعَلَهَا ذَهَبًا لَقَامَ بِحُجَّتِهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ أَرَادَ
الْفِقْهَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَنْ أَرَادَ السِّيرَةَ
فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَمَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ فَهُوَ
عِيَالٌ عَلَى مَالِكٍ، وَمَنْ أَرَادَ التَّفْسِيرَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُقَاتِلِ
بْنِ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ: يَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ
يَدْعُوا فِي صَلَاتِهِمْ لِأَبِي حَنِيفَةَ; لِحِفْظِهِ الْفِقْهَ وَالسُّنَنَ
عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ أَبُو
حَنِيفَةَ أَفْقَهَ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: كَانَ صَاحِبَ غَوْصٍ فِي الْمَسَائِلِ.
وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: كَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ أَسَدِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ، وَيَبْكِي حَتَّى يَرْحَمَهُ جِيرَانُهُ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يُصَلِّي الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ، وَأَنَّهُ خَتَمَ الْقُرْآنَ فِي الْمَوْضِعِ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ سَبْعَةَ آلَافِ مَرَّةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
خَمْسِينَ وَمِائَةٍ - وَعَنِ ابْنِ
مَعِينَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانِينَ، فَتَمَّ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعُونَ
سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ سِتَّ مَرَّاتٍ; لِكَثْرَةِ الزِّحَامِ،
وَقَبْرُهُ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمَنْصُورُ عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ عَنِ السِّنْدِ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو التَّغْلِبِيَّ، وَكَانَ سَبَبَ عَزْلِهِ
عُمَرَ بْنَ حَفْصٍ عَنْ السِّنْدِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ لَمَّا ظَهَرَ كَانَ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُلَقَّبَ
بِالْأَشْتَرِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ بِهَدِيَّةٍ; خُيُولٍ عِتَاقٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ
حَفْصٍ بِالسِّنْدِ، فَقَبِلَهَا، فَدَعَوْهُ إِلَى دَعْوَةِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي السِّرِّ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَبَايَعَ
لَهُ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ الْأُمَرَاءِ سِرًّا، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ
أَيْضًا، وَلَبِسُوا الْبَيَاضَ. فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ بِمَقْتَلِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ أُسْقِطَ فِي يَدِ عُمَرَ بْنِ
حَفْصٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَخَذَ فِي الِاعْتِذَارِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: إِنِّي أَخْشَى عَلَى نَفْسِي. فَقَالَ:
إِنِّي سَأَبْعَثُكَ إِلَى مَلِكٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي جِوَارِ أَرْضِنَا،
وَإِنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّهُ مَتَى عَرَفَكَ أَنَّكَ مِنْ سُلَالَتِهِ
أَحَبَّكَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَكَانَ عِنْدَهُ آمِنًا، وَصَارَ عَبْدُ اللَّهِ
يَرْكَبُ فِي مَوْكِبٍ مِنَ النَّاسِ، وَيَتَصَيَّدُ فِي جَحْفَلٍ مِنَ
الْجُنُودِ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ وَوَفَدَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ مِنَ
الزَّيْدِيَّةِ.
وَأَمَّا الْمَنْصُورُ فَإِنَّهُ بَعَثَ يَعْتِبُ عَلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصِ
نَائِبِ السِّنْدِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ: ابْعَثْنِي إِلَيْهِ،
وَاجْعَلِ الْقَضِيَّةَ مُسْنَدَةً إِلَيَّ، فَإِنِّي سَأَعْتَذِرُ إِلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ،
فَإِنْ سَلِمْتُ وَإِلَّا كُنْتُ
فِدَاءَكَ وَفِدَاءَ مَنْ عِنْدَكَ مِنَ الْأُمَرَاءِ. فَأَرْسَلَهُ سَفِيرًا فِي
الْقَضِيَّةِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ أَمَرَ بِضَرْبِ
عُنُقِهِ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ بِعَزْلِهِ عَنِ السَّنَدِ،
وَوَلَّاهُ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ عِوَضًا عَنْ أَمِيرِهَا. وَلَمَّا وَجَّهَ
الْمَنْصُورُ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو إِلَى السِّنْدِ أَمَرَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي
تَحْصِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَجَعَلَ يَتَوَانَى فِي ذَلِكَ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ يَسْتَحِثُّهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ
سَفَنَّجًا أَخَا هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ فِي
بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ
جَمِيعًا، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَكَانُهُ فِي الْقَتْلَى، فَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ. فَكَتَبَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى الْمَنْصُورِ يُعْلِمُهُ
بِقَتْلِهِ، فَبَعَثَ يَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُ بِقِتَالِ الْمَلِكِ
الَّذِي آوَاهُ، وَيُعْلِمُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ قَدْ تَسَرَّى
بِجَارِيَةٍ هُنَالِكَ، وَأَوْلَدَهَا وَلَدًا أَسْمَاهُ مُحَمَّدًا، فَإِذَا
ظَفِرْتَ بِالْمَلِكِ فَاحْتَفِظْ بِالْغُلَامِ. فَنَهَضَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو
إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ، فَقَاتَلَهُ فَغَلَبَهُ وَقَهَرَهُ عَلَى بِلَادِهِ
وَأَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَبَعَثَ بِالْفَتْحِ وَالْأَخْمَاسِ وَبِذَلِكَ
الْغُلَامِ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَفَرِحَ الْمَنْصُورُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ
بِذَلِكَ الْغُلَامِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهَا يُعْلِمُهُ
بِصِحَّةِ نَسَبِهِ، وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُلْحِقَهُ بِأَهْلِهِ يَكُونُ
عِنْدَهُمْ لِئَلَّا يَضِيعَ نَسَبُهُ، فَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَبُو
الْحَسَنِ ابْنُ الْأَشْتَرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ الْمَهْدِيُّ عَلَى أَبِيهِ مِنْ بِلَادِ
خُرَاسَانَ، فَتَلَقَّاهُ أَبُوهُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَكَابِرُ إِلَى أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ، وَقَدِمَ نُوَّابُ الْبِلَادِ مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهَا لِلسَّلَامِ
عَلَيْهِ وَتَهْنِئَتِهِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّصْرِ.
بِنَاءُ الرُّصَافَةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ شَرَعَ الْمَنْصُورُ
فِي بِنَاءِ الرُّصَافَةِ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ مَقْدِمِهِ مِنْ
خُرَاسَانَ، وَالرُّصَافَةُ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ، وَجَعَلَ
لَهَا سُورًا وَخَنْدَقًا، وَعَمِلَ عِنْدَهَا مَيْدَانًا وَبُسْتَانًا، وَأَجْرَى
إِلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ نَهْرِ الْمَهْدِيِّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا جَدَّدَ الْمَنْصُورُ لِنَفْسِهِ الْبَيْعَةَ،
وَلِوَلَدِهِ الْمَهْدِيِّ مِنْ بَعْدِهِ، وَلِعِيسَى بْنِ مُوسَى مِنْ
بَعْدِهِمَا، وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ وَالْخَوَاصُّ فَبَايَعُوا وَجَعَلُوا
يُقَبِّلُونَ يَدَ الْمَنْصُورِ وَيَدَ ابْنِهِ الْمَهْدِيِّ، وَيَلْمَسُونَ يَدَ
عِيسَى بْنِ مُوسَى، وَيُشِيرُونَ بِالتَّقْبِيلِ إِلَيْهَا وَلَا
يُقَبِّلُونَهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَوَلَّى الْمَنْصُورُ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ سِجِسْتَانَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ، وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ الْحَسَنُ
بْنُ زَيْدٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ
جَابِرُ بْنُ تَوْبَةَ الْكِلَابِيُّ، وَعَلَى مِصْرَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ.
وَنَائِبُ خُرَاسَانَ
حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَنَائِبُ
سِجْسْتَانَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، صَاحِبُ
" السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ " الَّتِي جَمَعَهَا فَجَعَلَهَا عِلْمًا
يُهْتَدَى بِهِ، وَفَجْرًا يُسْتَجْلَى بِهِ، وَالنَّاسَ كُلُّهُمْ عِيَالٌ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ،
وَوَلَّاهَا مُحَمَّدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَبَعَثَ إِلَى نَائِبِ إِفْرِيقِيَّةَ،
وَكَانَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّهُ عَصَى وَخَالَفَ، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ أَمَرَ
بِضَرْبِ عُنُقِهِ. وَعَزَلَ عَنِ الْبَصْرَةِ جَابِرَ بْنَ تَوْبَةَ
الْكِلَابِيَّ، وَوَلَّاهَا يَزِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ.
وَفِيهَا قَتَلَتِ الْخَوَارِجُ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ بِسِجِسْتَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ
الْأَيْلِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَضِبَ الْمَنْصُورُ عَلَى كَاتِبِهِ أَبِي أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيِّ
وَسَجَنَهُ، وَسَجَنَ أَخَاهُ خَالِدًا وَبَنِي أَخِيهِ الْأَرْبَعَةَ; سَعِيدًا
وَمَسْعُودًا وَمَخْلَدًا وَمُحَمَّدًا، وَطَالَبَهُمْ بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ شَبِيبَتِهِ قَدْ
وَرَدَ الْمَوْصِلَ وَهُوَ فَقِيرٌ لَا شَيْءَ لَهُ، وَلَا مَعَهُ، فَأَجَّرَ
نَفْسَهُ مِنْ بَعْضِ الْمَلَّاحِينَ حَتَّى اكْتَسَبَ شَيْئًا تَزَوَّجَ بِهِ
امْرَأَةً، ثُمَّ جَعَلَ يَعِدُهَا وَيُمَنِّيهَا أَنَّهُ مِنْ بَيْتٍ سَيَصِيرُ
إِلَيْهِمُ الْمْلُكُ سَرِيعًا، فَاتَّفَقَ حَبَلُهَا مِنْهُ، ثُمَّ تَطَلَّبَهُ
بَنُو أُمَيَّةَ، فَهَرَبَ عَنْهَا، وَتَرَكَهَا حَامِلًا، وَوَضَعَ عِنْدَهَا
رُقْعَةً فِيهَا نَسَبُهُ; أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَرَهَا إِذَا بَلَغَهَا أَمْرُهُ أَنْ
تَأْتِيَهُ، وَإِذَا وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ تُسَمِّيَهُ جَعْفَرًا، فَوَلَدَتْ
غُلَامًا فَسَمَّتْهُ جَعْفَرًا، وَنَشَأَ الْغُلَامُ فَتَعَلَّمَ الْكِتَابَةَ،
وَغَوَى الْعَرَبِيَّةَ وَالْأَدَبَ، وَأَتْقَنَ ذَلِكَ إِتْقَانًا جَيِّدًا،
ثُمَّ آلَ الْأَمْرُ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَسَأَلَتْ عَنِ السِّفَاحِ،
فَإِذَا هُوَ لَيْسَ صَاحِبَهَا، ثُمَّ قَامَ الْمَنْصُورُ، وَسَافَرَ الْوَلَدُ
إِلَى بَغْدَادَ فَاخْتَلَطَ بِكُتَّابِ الرَّسَائِلِ، فَأُعْجِبَ بِهِ أَبُو
أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيِّ صَاحِبُ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ لِلْمَنْصُورِ، وَحَظِيَ
عِنْدَهُ وَقَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَاتَّفَقَ حُضُورُهُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ، فَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ يُلَاحِظُهُ، ثُمَّ بَعَثَ يَوْمًا
الْخَادِمَ لِيَأْتِيَهُ
بِكَاتِبٍ، فَدَخَلَ وَمَعَهُ ذَلِكَ
الْغُلَامُ، فَكَتَبَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ كِتَابًا، وَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ
يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَتَأَمَّلُهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنِ اسْمِهِ، فَأَخْبَرَهُ
أَنَّهُ جَعْفَرٌ، فَقَالَ: ابْنُ مَنْ؟ فَسَكَتَ الْغُلَامُ، فَقَالَ: مَا لَكَ
لَا تَتَكَلَّمُ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ خَبَرِي كَيْتَ
وَكَيْتَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ أُمِّهِ
فَأَخْبَرَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَحْوَالِ بَلَدِ الْمَوْصِلِ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهُ
وَالْغُلَامُ يَتَعَجَّبُ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، فَاحْتَضَنَهُ
وَقَالَ: أَنْتَ ابْنِي. ثُمَّ بَعَثَهُ بِعِقْدٍ ثَمِينٍ وَمَالٍ جَزِيلٍ
وَكِتَابٍ إِلَى أُمِّهِ يُعْلِمُهَا بِحَقِيقَةِ حَالِ الزَّوْجِ.
وَخَرَجَ الْغُلَامُ وَمَعَهُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ سِرِّ الْخَلِيفَةِ، فَأَحْرَزَ
ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ، فَقَالَ: مَا أَبْطَأَ بِكَ عِنْدَ
الْخَلِيفَةِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ اسْتَكْتَبَنِي فِي رَسَائِلَ كَثِيرَةٍ. ثُمَّ
تَقَاوَلَا، ثُمَّ فَارَقَهُ الْغُلَامُ مُغْضَبًا، وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ،
فَاسْتَأْجَرَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيُعْلِمَ أُمَّهُ، وَيَحْمِلَهَا وَأَهْلَهَا
إِلَى بَغْدَادَ إِلَى مَكَانٍ مِنْهَا أَمَرَ بِهِ الْخَلِيفَةُ. فَسَارَ
مَرَاحِلَ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ أَبُو أَيُّوبَ، فَقِيلَ: سَافَرَ. فَظَنَّ أَبُو
أَيُّوبَ أَنَّ هَذَا قَدْ أَفْشَى شَيْئًا مِنْ أَسْرَارِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ
وَفَرَّ مِنْهُ، فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِ رَسُولًا وَقَالَ: حَيْثُ وَجَدْتَهُ
فَرُدَّهُ عَلَيَّ. فَسَارَ الرَّسُولُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَهُ فِي بَعْضِ
الْمَنَازِلِ، فَخَنَقَهُ وَأَلْقَاهُ فِي بِئْرٍ، وَأَخَذَ مَا كَانَ مَعَهُ،
فَرَجَعَ بِهِ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ، فَلَمَّا وَقَفَ أَبُو أَيُّوبَ عَلَى
الْكِتَابِ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَنَدِمَ عَلَى بَعْثِهِ خَلْفَهُ، وَانْتَظَرَ
الْخَلِيفَةُ عَوْدَ وَلَدِهِ إِلَيْهِ وَاسْتَبْطَأَهُ، فَبَعَثَ مَنْ كَشَفَ
خَبَرَهُ، فَإِذَا رَسُولُ أَبِي أَيُّوبَ قَدْ لَحِقَهُ وَقَتَلَهُ، فَحِينَئِذٍ
اسْتَحْضَرَ أَبَا أَيُّوبَ، وَأَلْزَمَهُ بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ، وَمَا زَالَ
تَحْتَ الْعُقُوبَةِ حَتَّى اسْتَصْفَى جَمِيعَ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، ثُمَّ
قَتَلَهُ، وَقَالَ: هَذَا قَتَلَ حَبِيبِي. وَكَانَ الْمَنْصُورُ كُلَّمَا ذَكَرَ
وَلَدَهُ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا.
وَفِيهَا خَرَجَتِ الْخَوَارِجُ مِنَ
الصُّفْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ
ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفًا، مَا بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ،
وَعَلَيْهِمْ أَبُو حَاتِمٍ الْإِبَاضِيُّ، وَأَبُو عَادٍ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِمْ
أَبُو قُرَّةَ الصُّفْرِيُّ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَاتَلُوا نَائِبَ
إِفْرِيقِيَّةَ، فَهَزَمُوا جَيْشَهُ وَقَتَلُوهُ، وَهُوَ عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ
عُثْمَانَ ابْنِ أَبِي صُفْرَةَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ السِّنْدِ فَعَزَلَهُ
الْمَنْصُورُ عَنْهَا بِسَبَبِ مُبَايَعَتِهِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ، وَوَلَّاهُ هَذِهِ الْبِلَادَ فَقَتَلَتْهُ الْخَوَارِجُ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَأَكْثَرَتِ الْخَوَارِجُ الْفَسَادَ فِي الْبِلَادِ، وَقَتَلُوا
الْحَرِيمَ وَالْأَوْلَادَ، وَآذَوْا عَامَّةَ الْعِبَادِ.
وَفِيهَا أَلْزَمَ الْمَنْصُورُ النَّاسَ بِلَبْسِ قَلَانِسَ سُودٍ طِوَالٍ
جِدًّا، حَتَّى كَانُوا يَسْتَعِينُونَ عَلَى رَفْعِهَا مِنْ دَاخِلِهَا
بِالْقَصَبِ، فَقَالَ أَبُو دُلَامَةَ الشَّاعِرُ فِي ذَلِكَ:
وَكُنَّا نُرَجِّي مِنْ إِمَامٍ زِيَادَةً فَزَادَ الْإِمَامُ الْمُصْطَفَى فِي
الْقَلَانِسِ تَرَاهَا عَلَى هَامِ الرِّجَالِ كَأَنَّهَا
دِنَانُ يَهُودٍ جُلِّلَتْ بِالْبَرَانِسِ
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى الْحُجُورِيُّ، فَأَسَرَ
خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الرُّومِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى سِتَّةِ آلَافِ أَسِيرٍ،
وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْمَهْدِيُّ ابْنُ الْمَنْصُورِ. وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ
مَكَّةَ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ،، وَعَلَى الْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ يَزِيدَ
بْنَ مَنْصُورٍ كَانَ وَلَّاهُ الْمَنْصُورُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْيَمَنَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبَانُ بْنُ صَمْعَةَ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ،
وَثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ الْحِمْصِيُّ، وَالْحُسْنُ بْنُ عُمَارَةَ، وَفِطْرُ بْنُ
خَلِيفَةَ، وَمَعْمَرٌ، وَهِشَامُ بْنُ الْغَازِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ الْمَنْصُورُ بِلَادَ الشَّامِ، وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ،
وَجَهَّزَ يَزِيدَ بْنَ حَاتِمٍ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، وَوَلَّاهُ بِلَادَ
إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَمَرَهُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَأَنْفَقَ عَلَى هَذَا
الْجَيْشِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ زُفَرُ بْنُ عَاصِمٍ الْهِلَالِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
وَنُوَّابُ الْأَقَالِيمِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى
الْبَصْرَةِ فَعَلَيْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ ظَبْيَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَيُّوبَ الْمُورِيَانِيُّ الْكَاتِبُ وَأَخُوهُ
خَالِدٌ، فَأَمَرَ الْمَنْصُورُ فِي بَنِي أَخِيهِ أَنْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ، ثُمَّ تُضْرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ أَعْنَاقُهُمْ، فَفُعِلَ ذَلِكَ.
أَشْعَبُ الطَّامِعُ
، هُوَ ابْنُ جُبَيْرٍ أَبُو الْعَلَاءِ، وَيُقَالُ: أَبُو إِسْحَاقَ
الْمَدَنِيُّ. وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أُمِّ حُمَيْدَةَ. وَكَانَ أَبُوهُ مَوْلًى
لِابْنِ الزُّبَيْرِ، قَتَلَهُ الْمُخْتَارُ، وَهُوَ خَالُ الْوَاقِدِيِّ.
رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَتَخَتَّمُ فِي الْيَمِينِ. وَرَوَى عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانِ، وَسَالِمٍ،
وَعِكْرِمَةَ.
وَكَانَ ظَرِيفًا مَاجِنًا يُحِبُّهُ أَهْلُ زَمَانِهِ لِخَلَاعَتِهِ وَطَمَعِهِ،
وَكَانَ يُجِيدُ الْغِنَاءَ.
وَقَدْ وَفَدَ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ دِمَشْقَ. فَتَرْجَمَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ بِتَرْجَمَةٍ فِيهَا أَشْيَاءُ مُضْحِكَةٌ، وَأَسْنَدَ عَنْهُ
حَدِيثِينَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ يَوْمًا أَنْ يُحَدِّثَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي
عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: خَصْلَتَانِ مَنْ عَمِلَ بِهِمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ثُمَّ
سَكَتَ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُمَا؟ فَقَالَ: نَسِيَ عِكْرِمَةُ الْوَاحِدَةَ،
وَنَسِيتُ أَنَا الْأُخْرَى.
وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَسْتَخِفُّهُ وَيَسْتَخْلِيهِ،
وَيَضْحَكُ مِنْهُ، وَيَأْخُذُهُ مَعَهُ إِلَى الْغَابَةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ
غَيْرُهُ مِنْ أَكَابِرِ النَّاسِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَبَثَ الْوُلْدَانُ يَوْمًا بِأَشْعَبَ، فَقَالَ: إِنَّ
هَاهُنَا أُنَاسًا يُفَرِّقُونَ الْجَوْزَ. فَتَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا
رَآهُمْ مُسْرِعِينَ قَالَ: لَعَلَّهُ حَقٌّ. فَتَبِعَهُمْ.
وَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: مَا بَلَغَ
مِنْ طَمَعِكَ؟ فَقَالَ. مَا زُفَّتْ عَرُوسٌ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا رَجَوْتُ أَنْ
تُزَفَّ إِلَيَّ فَكَسَحْتُ دَارِي وَنَظَّفَتْ ثِيَابِي.
وَاجْتَازَ يَوْمًا بِرَجُلٍ يَصْنَعُ طَبَقًا مِنْ قَشٍّ، فَقَالَ: زِدْ فِيهِ
طَوْرًا أَوْ طَوْرَيْنِ لَعَلَّهُ يُهْدَى لَنَا فِيهِ يَوْمًا هَدِيَّةٌ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ أَشْعَبَ غَنَّى يَوْمًا لِسَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَوْلَ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
مُغِيرِيَّةٌ كَالْبَدْرِ سُنَّةُ وَجْهِهَا مُطَهَّرَةُ الْأَثْوَابِ وَالدِّينُ
وَافِرُ لَهَا حَسَبٌ زَاكٍ وَعِرْضٌ مُهَذَّبٌ
وَعَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مِنَ الْأَمْرِ زَاجِرُ مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيضِ لَمْ
تَلْقَ رِيبَةً
وَلَمْ يَسْتَمِلْهَا عَنْ تُقَى اللَّهِ شَاعِرُ
فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: أَحْسَنْتَ، زِدْنَا. فَغَنَّاهُ:
أَلَمَّتْ بِنَا وَاللَّيْلُ دَاجٍ كَأَنَّهُ جَنَاحُ غُرَابٍ عَنْهُ قَدْ نَفَضَ
الْقَطْرَا
فَقُلْتُ أَعَطَّارٌ ثَوَى فِي رِحَالِنَا وَمَا حَمَلَتْ لَيْلَى سِوَى رِيحِهَا
عِطْرًا
فَقَالَ لَهُ: أَحْسَنْتَ، وَلَوْلَا أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ لَأَجْزَلْتُ لَكَ
الْجَائِزَةَ، وَإِنَّكَ مِنَ الْأَمْرِ بِمَكَانٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ
يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، وَقُرَّةُ بْنُ
خَالِدٍ، وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ،
وَاسْمُهُ كُنْيَتُهُ، وَقِيلَ: اسْمُهُ زَبَّانُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
وَهُوَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ الْعُرْيَانِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُصَيْنِ التَّمِيمِيُّ الْمَازِنِيُّ الْبَصَرِيُّ،
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، كَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ فِي اللُّغَةِ
وَالنَّحْوِ وَعِلْمِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ،
يُقَالُ: إِنَّهُ كَتَبَ مِلْءَ بَيْتٍ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَزَهَّدَ،
فَأَحْرَقَهُ ثُمَّ رَاجَعَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ سِوَى
مَا كَانَ يَحْفَظُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَكَانَ قَدْ لَقِيَ خَلْقًا مِنْ
أَعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا أَيَّامَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَبَعْدَهُ.
وَمِنِ اخْتِيَارَاتِهِ الْغَرِيبَةِ قَوْلُهُ فِي تَفْسِيرِ الْغُرَّةِ فِي
الْجَنِينِ: إِنَّهَا لَا يُقْبَلُ فِيهَا إِلَّا أَبْيَضُ غُلَامًا كَانَ أَوْ
جَارِيَةً. وَفَهِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ قَالَ: وَلَوْ أُرِيدَ أَيُّ عَبْدٍ كَانَ أَوْ
جَارِيَةٍ لَمَا قَيَّدَهُ بِالْغُرَّةِ، وَإِنَّمَا الْغُرَّةُ الْبَيَاضُ. قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَهَذَا غَرِيبٌ، وَلَا أَعْلَمُ هَلْ يُوَافِقُ
قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ أَمْ لَا.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ
شَهْرُ رَمَضَانَ لَا يُنْشِدُ فِيهِ بَيْتًا مِنَ الشِّعْرِ حَتَّى يَنْسَلِخَ،
وَأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي لَهُ كُلَّ يَوْمٍ كُوزًا جَدِيدًا وَرَيْحَانًا
طَرِيًّا، وَقَدْ صَحِبَهُ الْأَصْمَعِيُّ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ.
وَقِيلَ: سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَبْرُهُ
بِالشَّامِ. وَقِيلَ: بِالْكُوفَةِ. وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ جَاوَزَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، مَرْفُوعًا:لَأَنْ يُرَبِّي أَحَدُكُمْ بَعْدَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ
وَمِائَةٍ جِرْوَ كَلْبٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُرَبِّيَ وَلَدًا لِصُلْبِهِ.
وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. ذَكَرَهُ مِنْ فَوَائِدِ
تَمَّامٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَوْفٍ
الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السِّمْطِ، عَنْ
صَالِحٍ، بِهِ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السِّمْطِ هَذَا لَا أَعْرِفُهُ، وَقَدْ
ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْمِيزَانِ
"، وَقَالَ: رَوَى عَنْ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ حَدِيثًا مَوْضُوعًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَافْتَتَحَهَا
عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَقَتَلَ مَنْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا مِنَ
الْخَوَارِجِ، وَقَتَلَ أُمَرَاءَهُمْ، وَأَصْغَرَ كُبَرَاءَهُمْ، وَأَذَلَّ
أَشْرَافَهُمْ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَبَدَّدَ آلَافَهُمْ، وَاسْتَبْدَلَ
أَهْلُ الْبِلَادِ هُنَاكَ بِالْخَوْفِ سَلَامَةً، وَبِالْإِهَانَةِ كَرَامَةً،
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَ مِنْ أُمَرَائِهِمْ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عَبَّادٍ
الْخَارِجِيَّانِ. ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَامَتْ لَهُ وَبِهِ الْأُمُورُ فِي
الْبُلْدَانِ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَادَ الْقَيْرَوَانِ، فَمَهَّدَهَا
وَأَطَّدَهَا، وَأَقَرَّ أَهْلَهَا، وَقَرَّرَ أُمُورَهَا، وَأَزَالَ
مَحْذُورَهَا.
بِنَاءُ الرَّافِقَةِ الْمَدِينَةِ الْمَشْهُورَةِ
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَنْصُورُ وَلَدَهُ الْمَهْدِيَّ بِبِنَاءِ الرَّافِقَةِ عَلَى
مِنْوَالِ بِنَاءِ بَغْدَادَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ هَذِهِ السَّنَةَ الْمُبَارَكَةَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَنْصُورُ بِبِنَاءِ سُورٍ، وَعَمَلِ خَنْدَقٍ حَوْلَ الْكُوفَةِ،
وَأَخَذَ مَا غَرِمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِهَا; مِنْ كُلِّ إِنْسَانٍ
مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. وَكَانَ قَدْ فَرَضَهَا أَوَّلًا
خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَجُبِيَتْ أَرْبَعِينَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ
بَعْضُهُمْ:
يَا لَقَوْمِي مَا لَقِينَا مِنْ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَا قَسَمَ الْخَمْسَةَ فِينَا
وَجَبَانَا الْأَرْبَعِينَا
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أَسَدٍ السُّلَمِيُّ.
وَفِيهَا طَلَبَ مَلِكُ الرُّومِ الصُّلْحَ مِنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
عَلَى أَنْ يَحْمِلَ إِلَى الْمَنْصُورِ الْجِزْيَةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ
الْجَزِيرَةِ، وَغَرَّمَهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَفِيهَا عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إِمْرَةِ
الْكُوفَةِ، فَقِيلَ: لِأُمُورٍ بَلَغَتْهُ عَنْهُ فِي تَعَاطِي مُنْكِرَاتٍ
وَأُمُورٍ لَا تَلِيقُ بِالْعُمَّالِ. وَقِيلَ: لِقَتْلِهِ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ
أَبِي الْعَوْجَاءِ. وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ هَذَا زِنْدِيقًا،
يُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ
بِوَضْعِ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ يُحِلُّ فِيهَا الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُ
فِيهَا الْحَلَالَ، وَيُصَوِّمُ النَّاسَ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيُفَطِّرُهُمْ
فِي أَيَّامِ الصِّيَامِ، فَأَرَادَ الْمَنْصُورُ أَنْ يَجْعَلَ قَتْلَهُ لَهُ
ذَنْبًا، فَعَزَلَهُ بِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقِيدَهُ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى
بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَعْزِلْهُ بِهَذَا، فَإِنَّهُ
إِنَّمَا قَتَلَهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَمَتَّى عَزَلْتَهُ بِهَذَا شَكَرَتْهُ
الْعَامَّةُ وَذَمُّوكَ. فَتَرَكَهُ حِينًا، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ
بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ زُهَيْرٍ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ عَنِ الْمَدِينَةِ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ، وَوَلَّى
عَلَيْهَا عَمَّهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ، وَجَعَلَ مَعَهُ فُلَيْحَ بْنَ
سُلَيْمَانَ مُشْرِفًا عَلَيْهِ.
وَعَلَى إِمْرَةِ مَكَّةَ مُحَمَّدُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ،
وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعِيدٍ، وَعَلَى إِفْرِيقِيَّةَ يَزِيدُ بْنُ حَاتِمٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ
الدِّمَشْقِيَّانِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ.
وَحَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ
، وَهُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى مَيْسَرَةُ - وَيُقَالُ: سَابُورُ - بْنِ
الْمُبَارَكِ بْنِ عُبَيْدٍ الدَّيْلِمِيُّ الْكُوفِيُّ، مَوْلَى مُكْنِفِ بْنِ
زَيْدِ الْخَيْلِ الطَّائِيِّ، كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ
وَأَخْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَلُغَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ السَّبْعَ
الْمُعَلَّقَاتِ الطِّوَالَ، وَإِنَّمَا سُمِّي الرَّاوِيَةَ; لِكَثْرَةِ
رِوَايَتِهِ الشِّعْرَ عَنِ الْعَرَبِ، اخْتَبَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْشَدَهُمْ تِسْعًا وَعِشْرِينَ
قَصِيدَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، كُلُّ قَصِيدَةٍ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ
بَيْتٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَاعِرٌ مِنْ شُعَرَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا
أَنْشَدَ لَهُ مَا لَا
يَحْفَظُهُ غَيْرُهُ، فَأَطْلَقَ لَهُ
مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَرِيرِيُّ فِي كِتَابِهِ " دُرَّةِ الْغَوَّاصِ
"، أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ اسْتَدْعَاهُ مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ
نَائِبِهِ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ فِي دَارٍ
قَوْرَاءَ مُرَخَّمَةٍ بِالرُّخَامِ وَالذَّهَبِ، وَإِذَا عِنْدَهُ جَارِيَتَانِ
حَسْنَاوَانِ جِدًّا، فَاسْتَنْشَدَهُ شَيْئًا فَأَنْشَدَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ
حَاجَتَكَ. فَقَالَ: كَائِنَةً مَا كَانَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ:
وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تُطْلِقُ لِي إِحْدَى هَاتَيْنِ الْجَارِيَتَيْنِ. فَقَالَ:
هُمَا لَكَ وَمَا عَلَيْهِمَا. وَأَخْلَاهُ فِي بَعْضِ دَارِهِ، وَأَطْلَقَ لَهُ
أَلْفَ دِرْهَمٍ. هَذَا مُلَخَّصُ الْحِكَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا
الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ أَنَّهُ
شَرِبَ مَعَهُ، وَهِشَامٌ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ، وَلَمْ يَكُنْ نَائِبَهُ عَلَى
الْعِرَاقِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَإِنَّمَا كَانَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْقَسْرِيَّ، وَبَعْدَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ. وَكَانَتْ وَفَاةُ حَمَّادٍ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَقِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ أَوَّلَ خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ
فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا قُتِلَ حَمَّادُ عَجْرَدٍ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، وَهُوَ حَمَّادُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ كُلَيْبٍ الْكُوفِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَاسِطِيٌّ.
مَوْلَى بَنِي سُوَاءَةَ، وَكَانَ شَاعِرًا مَاجِنًا ظَرِيفًا خَلِيعًا، لَكِنَّهُ
كَانَ مُتَّهَمًا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الدَّوْلَتَيْنِ
الْأُمَوِيَّةَ
وَالْعَبَّاسِيَّةَ، وَلَكِنَّهُ مَا اشْتُهِرَ إِلَّا فِي أَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ مُهَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمَّا قُتِلَ بِشَّارٌ عَلَى الزَّنْدَقَةِ أَيْضًا، دُفِنَ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ حَمَّادَ عَجْرَدٍ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا ظَفِرَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَائِبُ الْمَنْصُورِ بِعَمْرِو بْنِ
شَدَّادٍ الَّذِي كَانَ عَامِلًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى
فَارِسَ، فَقُتِلَ بِالْبَصْرَةِ; قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، وَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ، ثُمَّ صُلِبَ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَنْصُورُ الْهَيْثَمَ بْنَ مُعَاوِيَةَ عَنِ الْبَصْرَةِ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا قَاضِيَهَا سَوَّارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَجَمَعَ لَهُ
بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالصَّلَاةِ، وَجَعَلَ عَلَى شُرْطَتِهَا وَأَحْدَاثِهَا
سَعِيدَ بْنَ دَعْلَجٍ، وَرَجَعَ الْهَيْثَمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى بَغْدَادَ،
فَمَاتَ فِيهَا فَجْأَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ عَلَى بَطْنِ جَارِيَةٍ
لَهُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَنْصُورُ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخُو
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا. وَعَلَى فَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَكُوَرِ دِجْلَةَ عُمَارَةُ بْنُ
حَمْزَةَ، وَعَلَى كَرْمَانَ وَالسِّنْدِ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ فِي قَوْلٍ، وَهُوَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ
الْمَشْهُورِينَ وَالْعُبَّادِ
الْمَذْكُورِينَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمُدُودُ الطَّوِيلَةُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ. وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ السُّنَنَ، فِي قَوْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَوْذَبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ الْإِفْرِيقِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ ذَرٍّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا بَنَى الْمَنْصُورُ قَصْرَهُ الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ فِي بَغْدَادَ،
وَكَانَ الْمُسْتَحِثَّ فِي عِمَارَتِهِ أَبَانُ بْنُ صَدَقَةَ، وَالرَّبِيعُ
مَوْلَى الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا حَوَّلَ الْمَنْصُورُ الْأَسْوَاقَ مِنْ قُرْبِ دَارِ الْإِمَارَةِ إِلَى
بَابِ الْكَرْخِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ سَبَبَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ بِتَوْسِعَةِ الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا أَمَرَ بِعَمَلِ جِسْرٍ عِنْدَ بَابِ الشَّعِيرِ.
وَفِيهَا اسْتَعْرَضَ الْمَنْصُورُ جُنْدَهُ وَهُمْ مُلْبَسُونَ السِّلَاحَ،
وَهُوَ أَيْضًا لَابِسٌ سِلَاحًا عَظِيمًا، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ دِجْلَةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ عَنِ السِّنْدِ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو، وَوَلَّى عَلَيْهَا
مَعْبَدَ بْنَ الْخَلِيلِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ يَزِيدُ بْنُ أَسِيدٍ السُّلَمِيُّ، فَأَوْغَلَ فِي
بِلَادِ الرُّومِ، وَبَعَثَ سِنَانًا مَوْلَى الْبَطَّالِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَفَتَحَ بَعْضَ الْحُصُونِ وَسَبَى وَغَنِمَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ. وَنُوَّابُ الْبِلَادِ
فِيهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، وَالْإِمَامُ أَبُو عَمْرٍو عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، فَقِيهُ أَهْلِ الشَّامِ، وَقَدْ
بَقِيَ أَهْلُ الشَّامِ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ عَلَى مَذْهَبِهِ نَحْوًا
مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ.
وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَحْمَدَ أَبُو عَمْرٍو
الْأَوْزَاعِيُّ. وَالْأَوْزَاعُ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، وَهُوَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،
قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،
وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي مَحَلَّةِ الْأَوْزَاعِ، وَكَانَتْ قَرْيَةً خَارِجَ بَابِ
الْفَرَادِيسِ مِنْ دِمَشْقَ، وَهُوَ
ابْنُ عَمِّ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ:
وَأَصْلُهُ مِنْ سِبَاءِ السِّنْدِ فَنَزَلَ الْأَوْزَاعَ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ
النِّسْبَةُ إِلَيْهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: وُلِدَ بِبَعْلَبَكَّ، وَنَشَأَ
بِالْبِقَاعِ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أُمِّهِ، وَكَانَتْ تَنْتَقِلُ بِهِ مِنْ بَلَدٍ
إِلَى بَلَدٍ، وَتَأَدَّبَ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ
وَالْوُزَرَاءِ أَعْقَلُ مِنْهُ، وَلَا أَوْرَعُ، وَلَا أَعْلَمُ، وَلَا أَفْصَحُ،
وَلَا أَوْقَرُ، وَلَا أَحْلُمُ، وَلَا أَكْثَرُ صَمْتًا مِنْهُ، وَمَا تَكَلَّمَ
بِكَلِمَةٍ إِلَّا كَانَ الْمُتَعَيَّنَ عَلَى مَنْ يُجَالِسُهُ أَنْ يَكْتُبَهَا;
مِنْ حُسْنِهَا، وَكَانَ يُعَانِي الرَّسَائِلَ وَالْكِتَابَةَ.
وَقَدِ اكْتُتِبَ فِي بَعْثٍ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، وَانْقَطَعَ إِلَيْهِ، فَأَرْشَدَهُ إِلَى
الرِّحْلَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ لِيَسْمَعَ مِنَ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ،
فَسَارَ إِلَيْهَا فَوَجَدَ الْحَسَنَ قَدْ تُوُفِّيَ مِنْ شَهْرَيْنِ، وَوَجَدَ
ابْنَ سِيرِينَ مَرِيضًا، فَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ لِعِيَادَتِهِ، فَقَوِيَ الْمَرَضُ
بِهِ، وَمَاتَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ شَيْئًا، وَجَاءَ فَنَزَلَ
دِمَشْقَ بِمَحَلَّةِ الْأَوْزَاعِ خَارِجَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَسَادَ
أَهْلَهَا فِي زَمَانِهِ وَسَائِرَ الْبِلَادِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ
وَالْمَغَازِي وَعُلُومِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ أَدْرَكَ خَلْقًا مِنَ
التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ سَادَاتِ
الْمُسْلِمِينَ، كَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَهُوَ
مِنْ شُيُوخِهِ.
وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ
عَلَى عَدَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ; قَالَ
مَالِكٌ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ
إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُهُ: كَانَ إِمَامَ أَهْلِ زَمَانِهِ.
وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً، فَدَخَلَ مَكَّةَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ آخِذٌ بِزِمَامِ
جَمَلِهِ، وَمَالِكٌ يَسُوقُ بِهِ، وَالثَّوْرِيُّ يَقُولُ: افْسَحُوا لِلشَّيْخِ.
وَقَدْ تَذَاكَرَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الظُّهْرِ حَتَّى
صَلَّيَا الْعَصْرَ، وَمِنَ الْعَصْرِ حَتَّى صَلَّيَا الْمَغْرِبَ، فَغَمَرَهُ
الْأَوْزَاعِيُّ فِي الْمَغَازِي، وَغَمَرَهُ مَالِكٌ فِي الْفِقْهِ.
وَتَنَاظَرَ هُوَ وَالثَّوْرِيُّ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فِي مَسْأَلَةِ رَفْعِ
الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، فَاحْتَجَّ الْأَوْزَاعِيُّ بِمَا
رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ
وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَاحْتَجَّ الثَّوْرِيُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ
أَبِي زِيَادٍ، فَغَضِبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَقَالَ: أَتُعَارِضُ حَدِيثَ
الزُّهْرِيِّ بِحَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ رَجُلٌ ضَعِيفٌ؟! فَاحْمَارَّ
وَجْهُ الثَّوْرِيِّ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَعَلَّكَ كَرِهْتَ مَا قُلْتُ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقُمْ بِنَا حَتَّى نَلْتَعِنَ عِنْدَ الرُّكْنِ أَيُّنَا
عَلَى الْحَقِّ. فَسَكَتَ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ: أَفْتَى
الْأَوْزَاعِيُّ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: رُوِيَ عَنْهُ سِتُّونَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُمَا: أَفْتَى فِي سَنَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ
إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يُفْتِي حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ عَنْ مَالِكٍ: اجْتَمَعَ عِنْدِي الْأَوْزَاعِيُّ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. فَقُلْتُ: أَيُّهُمْ أَرْجَحُ؟ قَالَ:
الْأَوْزَاعِيُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَنْصَحَ لِلْمُسْلِمِينَ
مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا رُئِيَ الْأَوْزَاعِيُّ ضَاحِكًا مُقَهْقِهًا قَطُّ،
وَلَقَدْ كَانَ يَعِظُ النَّاسَ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي مَجْلِسِهِ إِلَّا بَكَى
بِعَيْنِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ، وَمَا رَأَيْنَاهُ يَبْكِي فِي مَجْلِسِهِ قَطُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ; الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو
حَنِيفَةَ، وَمَالُكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ.
وَالْأَوْزَاعِيُّ ثِقَةٌ، وَلَيْسَ
هُوَ فِي الزُّهْرِيِّ بِذَاكَ. أَخَذَ كِتَابَ الزُّبَيْدِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَمَا أَقَلَّ مَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: كَانَ ثِقَةً مُتَّبِعًا لِمَا سَمِعَ. قَالُوا: وَكَانَ
الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ تَرِدُ عَلَى
الْمَنْصُورِ، فَيَنْظُرُ فِيهَا وَيَتَأَمَّلُهَا، وَيَتَعَجَّبُ مِنْ
فَصَاحَتِهَا وَحَلَاوَتِهَا، فَقَالَ يَوْمًا لِأَحْظَى كُتَّابِهِ عِنْدَهُ
وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ: يَنْبَغِي أَنْ تُجِيبَ الْأَوْزَاعِيَّ عَنْ
كُتُبِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّا لَنَسْتَعِينُ بِكَلَامِهِ فِيمَا
نُكَاتِبُ بِهِ أَهْلَ الْآفَاقِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ كَلَامَ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ
جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيَأْثُرُ
عَنِ السَّلَفِ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ يَقُومُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فِي الْفِقْهِ
وَالْحَدِيثِ.
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ،
فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقُلْتُ:
بِفَضْلِكَ يَا رَبِّ. قُلْتُ: يَا رَبِّ أَمِتْنِي عَلَى الْإِسْلَامِ. فَقَالَ:
وَعَلَى السُّنَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ شَابُورَ: قَالَ لِي شَيْخٌ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ: أَنَا مَيِّتٌ
فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا
كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ رَأَيْتُهُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ يَتَفَلَّى، فَقَالَ
لِي: اذْهَبْ إِلَى سَرِيرِ الْمَوْتَى فَأَحْرِزْهُ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ أَنْ
تُسْبَقَ إِلَيْهِ. فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ؟! فَقَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ لَكَ;
إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: فَلَانٌ قَدَرِيٌّ، وَفُلَانٌ كَذَا،
وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ نِعْمَ الرَّجُلُ، وَأَبُو عَمْرٍو
الْأَوْزَاعِيُّ خَيْرُ مِنْ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَنْتَ مَيِّتٌ
فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ: فَمَا جَاءَ الظُّهْرُ
حَتَّى مَاتَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا، وَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ. رَوَاهَا
ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، حَسَنَ
الصَّلَاةِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ أَطَالَ الْقِيَامَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ
هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ طُولَ الْقِيَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكَأَنَّهُ
أَخَذَ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ
فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ
الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [ الْإِنْسَانِ: 26، 27 ].
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ
الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْعِبَادَةِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: حَجَّ فَمَا نَامَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي
صَلَاةٍ، فَإِذَا نَعَسَ اسْتَنَدَ إِلَى الْقَتْبِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنْ
شِدَّةِ الْخُشُوعِ كَأَنَّهُ أَعْمَى.
وَدَخَلَتِ امْرَأَةٌ عَلَى امْرَأَةِ الْأَوْزَاعِيِّ، فَرَأَتِ الْحَصِيرَ
الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ مَبْلُولًا،
فَقَالَتْ لَهَا: لَعَلَّ الصَّبِيَّ
بَالَ هَاهُنَا. فَقَالَتْ: لَا، هَذَا مِنْ أَثَرِ دُمُوعِ الشَّيْخِ فِي
سُجُودِهِ، وَهَكَذَا يُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْكَ بِآثَارِ مَنْ سَلَفَ وَإِنْ رَفَضَكَ
النَّاسُ، وَإِيَّاكَ وَرَأْيَ الرِّجَالِ وَإِنْ زَخْرَفُوهُ بِالْقَوْلِ;
فَإِنَّ الْأَمْرَ يَنْجَلِي وَأَنْتَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: اصْبِرْ عَلَى السُّنَّةِ، وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ،
وَقُلْ مَا قَالُوا، وَكُفَّ عَمَّا كَفُّوا، وَلْيَسَعْكَ مَا وَسِعَهُمْ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْعِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَمَا لَمْ
يَجِئْ عَنْهُمْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَجْتَمِعُ حُبُّ عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ إِلَّا فِي قَلْبٍ
مُؤْمِنٍ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا فَتَحَ عَلَيْهِمْ بَابَ
الْجَدَلِ وَسَدَّ عَنْهُمْ بَابَ الْعَمَلِ.
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ، وَكَانَ لَهُ فِي
بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْخُلَفَاءِ إِقْطَاعٌ، فَصَارَ إِلَيْهِ مِنْ بَنِي
أُمَيَّةَ، وَبَنِي الْعَبَّاسِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَلَمْ
يَقْتَنِ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا تَرَكَ يَوْمَ مَاتَ سِوَى سَبْعَةِ دَنَانِيرَ،
كَانَ يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْفُقَرَاءِ.
وَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ، وَسُلِبَ الْمُلْكُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ تَطَلَّبَ الْأَوْزَاعِيَّ، فَتَغَيَّبَ عَنْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ وَفِي يَدِهِ خَيْزُرَانَةٌ، وَالْمُسَوِّدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، مَعَهُمُ السُّيُوفُ مُصْلَتَةٌ وَالْعُمُدُ الْحَدِيدُ، فَسَلَّمْتُ فَلَمْ يَرُدَّ، وَنَكَتَ بِتِلْكَ الْخَيْزُرَانَةِ الَّتِي فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوْزَاعِيُّ، مَا تَرَى فِيمَا صَنَعْنَا مِنْ إِزَالَةِ أَيْدِي أُولَئِكَ الظَّلَمَةِ أَرِبَاطٌ هُوَ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِىَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَنَكَتَ بِالْخَيْزُرَانَةِ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ يَنْكُتُ، وَجَعَلَ مَنْ حَوْلَهُ يَعَضُّونَ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَوِزَاعِيُّ، مَا تَقُولُ فِي دِمَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ؟ فَقُلْتُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ; النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ. فَنَكَتَ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي أَمْوَالِهِمْ؟ فَقُلْتُ: إِنْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمْ حَرَامًا فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ حَلَالًا فَلَا تَحِلُّ لَكَ إِلَّا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ. فَنَكَتَ أَشَدَّ مِمَّا كَانَ يَنْكُتُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا نُوَلِّيكَ الْقَضَاءَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ أَسْلَافَكَ لَمْ يَكُونُوا
يَشُقُّونَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ،
وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَتِمَّ مَا ابْتَدَءُونِي بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ.
فَقَالَ: كَأَنَّكَ تُحِبُّ الِانْصِرَافَ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ وَرَائِي حُرَمًا،
وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَسَتْرِهِمْ. قَالَ: وَانْتَظَرْتُ
رَأْسِي أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَمَرَنِي بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا
خَرَجْتُ إِذَا رَسُولُهُ مِنْ وَرَائِي، وَإِذَا مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ،
فَقَالَ: يَقُولُ لَكَ الْأَمِيرُ: أَنْفِقْ هَذِهِ. قَالَ: فَتَصَدَّقْتُ بِهَا.
وَكَانَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ صَائِمًا طَاوِيًا، فَيُقَالُ: إِنَّ
الْأَمِيرَ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِفْطَارَ عِنْدَهُ،
فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ عِنْدَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالُوا: ثُمَّ رَحَلَ الْأَوْزَاعِيُّ مِنْ دِمَشْقَ، فَنَزَلَ بَيْرُوتَ مُرَابِطًا
بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ. قَالَ: وَأَعْجَبَنِي فِيهَا أَنِّي مَرَرْتُ
بِقُبُورِهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْنَ الْعِمَارَةُ
يَا هَنْتَاهُ ؟ فَقَالَتْ: إِنْ أَرَدْتَ الْعِمَارَةَ فَهِيَ هَذِهِ، وَإِنْ
كُنْتَ تُرِيدُ الْخَرَابَ فَأَمَامَكَ. وَأَشَارَتْ إِلَى الْبَلَدِ، فَعَزَمْتُ
عَلَى الْإِقَامَةِ بِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ
يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَإِذَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا
شَخْصٌ رَاكِبٌ عَلَى جَرَادَةٍ مِنْهَا وَعَلَيْهِ سِلَاحُ الْحَدِيدِ،
وَكُلَّمَا قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا مَالَ الْجَرَادُ مَعَ يَدِهِ وَهُوَ
يَقُولُ: الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ
بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا، الدُّنْيَا
بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ مَا فِيهَا.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ
إِلَى الصَّيْدِ وَلَا يَنْتَظِرُ الْجُمْعَةَ، فَخُسِفَ بِبَغْلَتِهِ، فَلَمْ
يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا أُذُنُهَا.
وَخَرَجَ الْأَوْزَاعِيُّ يَوْمًا مِنْ بَابِ مَسْجِدِ بَيْرُوتَ، وَهُنَاكَ
دُكَّانٌ فِيهِ نَاطِفٌ، وَإِلَى جَانِبِهِ رَجُلٌ يَبِيعُ الْبَصَلَ وَهُوَ
يَقُولُ: يَا أَحْلَى مِنَ النَّاطِفِ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا يَرَى
هَذَا بِالْكَذِبِ بَأْسًا ؟.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كُنَّا قَبْلَ الْيَوْمِ نَضْحَكُ
وَنَلْعَبُ، أَمَّا إِذْ صِرْنَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِنَا فَيَنْبَغِي أَنْ
نَتَحَفَّطَ.
وَكَتَبَ إِلَى أَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ أُحِيطَ بِكَ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ، وَإِنَّهُ يُسَارُ بِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَاحْذَرِ اللَّهَ وَالْقِيَامَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِكَ بِهِ، وَالسَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ
أَبَا صَالِحٍ كَاتِبَ
اللَّيْثِ يَذْكُرُ عَنِ الْهِقْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، أَنَّهُ وَعَظَ فَقَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، تَقَوَّوْا بِهَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَصْبَحْتُمْ فِيهَا عَلَى الْهَرَبِ مِنْ نَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، فَإِنَّكُمْ فِي دَارٍ الثَّوَاءُ فِيهَا قَلِيلٌ، وَأَنْتُمْ فِيهَا مُرَحَّلُونَ، خَلَائِفُ بَعْدَ الْقُرُونِ الَّتِي اسْتَقْبَلُوا مِنَ الدُّنْيَا أُنُفَهَا وَزَهْرَتَهَا، فَهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَمَدَّ أَجْسَامًا، وَأَعْظَمَ آثَارًا، فَخَدَّدُوا الْجِبَالَ وَجَابُوا الصُّخُورَ، وَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ، مُؤَيَّدِينَ بِبَطْشٍ شَدِيدٍ، وَأَجْسَادٍ كَالْعِمَادِ، فَمَا لَبِثَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي أَنْ طَوَتْ مُدَّتَهُمْ وَعَفَتْ آثَارَهُمْ، وَأَخْرَبَتْ مَنَازِلَهُمْ، وَأَنْسَتْ ذِكْرَهُمْ، فَمَا تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ وَلَا تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا، كَانُوا بِلَهْوِ الْأَمَلِ آمِنِينَ، وَلِمِيقَاتِ يَوْمٍ غَافِلِينَ، أَوْ لِصَبَاحِ قَوْمٍ نَادِمِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ قَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِي نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ بَيَانًا مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ، فَأَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وَأَصْبَحَ الْبَاقُونَ يَنْظُرُونَ فِي آثَارِ نِقَمِهِ، وَزَوَالِ نِعَمِهِ، وَمَسَاكِنَ خَاوِيَةٍ، وَفِيهَا آيَةٌ لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَخْشَى، وَأَصْبَحْتُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي أَجَلٍ مَنْقُوصٍ، وَدُنْيَا مَقْبُوضَةٍ، فِي زَمَانٍ قَدْ وَلَّى عَفْوُهُ، وَذَهَبَ رَخَاؤُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا حُمَةُ شَرٍّ، وَصُبَابَةُ كَدَرٍ، وَأَهَاوِيلُ غِيَرٍ، وَعُقُوبَاتُ عِبَرٍ، وَإِرْسَالُ فِتَنٍ، وَتَتَابُعُ زَلَازِلَ، وَرُذَالَةُ خَلْفٍ، بِهِمْ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَلَا تَكُونُوا أَشْبَاهًا لِمَنْ
خَدَعَهُ الْأَمَلُ، وَغَرَّهُ طُولُ
الْأَجَلِ، وَتَبَلَّغَ بِالْأَمَانِي، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا
وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ وَعَى نُذُرَهُ وَانْتَهَى، وَعَقَلَ مَثْوَاهُ فَمَهَدَ
لِنَفْسِهِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ الْأَوْزَاعِيُّ بِالْمَنْصُورِ حِينَ دَخَلَ الشَّامَ
وَوَعَظَهُ، وَأَحَبَّهُ الْمَنْصُورُ وَعَظَّمَهُ، وَلَمَّا أَرَادَ
الِانْصِرَافَ اسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ لَا يَلْبَسَ السَّوَادَ فَأَذِنَ لَهُ،
فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ الْمَنْصُورُ لِلرَّبِيعِ الْحَاجِبِ: الْحَقْهُ فَسَلْهُ
لِمَ كَرِهَ لُبْسَ السَّوَادِ؟ وَلَا تُخْبِرْهُ أَنِّي قُلْتُ لَكَ. فَسَأَلَهُ
الرَّبِيعُ فَقَالَ: لِأَنِّي لَمْ أَرَ مُحْرِمًا أَحْرَمَ فِيهِ، وَلَا مَيِّتًا
كُفِّنَ فِيهِ، وَلَا عَرُوسًا جُلِيَتْ فِيهِ، فَلِهَذَا أَكْرَهُهُ.
وَقَدْ كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي الشَّامِ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، أَمْرُهُ
أَعَزُّ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ، وَهَمَّ بِهِ بَعْضُ الْوُلَاةِ،
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: دَعْهُ عَنْكَ فَوَاللَّهِ لَوْ أَمَرَ الشَّامِيِّينَ
أَنْ يَقْتُلُوكَ لَقَتَلُوكَ.
وَلَمَّا مَاتَ جَلَسَ عِنْدَ قَبْرِهِ بَعْضُ الْوُلَاةِ فَقَالَ: رَحِمَكَ
اللَّهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَافُ مِنَ
الَّذِي وَلَّانِي. وَقَدْ قَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: مَا مَاتَ الْأَوْزَاعِيُّ حَتَّى
جَلَسَ وَحْدَهُ، وَسَمِعَ شَتْمَهُ بِأُذُنِهِ.
وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ
قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا
عِنْدَ الثَّوْرِيِّ، فَجَاءَهُ
رَجُلٌ، فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ رَيْحَانَةً مِنَ الْمَغْرِبِ قُلِعَتْ. قَالَ:
إِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكَ فَقَدْ مَاتَ الْأَوْزَاعِيُّ. فَكَتَبُوا ذَلِكَ،
فَجَاءَ مَوْتُ الْأَوْزَاعِيِّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي تِلْكَ
اللَّيْلَةِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: بَلَغَنَا أَنَّ سَبَبَ مَوْتِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ
امْرَأَتَهُ أَغْلَقَتْ عَلَيْهِ بَابَ حَمَّامٍ، فَمَاتَ فِيهِ، وَلَمْ تَكُنْ
عَامِدَةً لِذَلِكَ، فَأَمَرَهَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِعِتْقِ
رَقَبَةٍ. قَالَ: وَمَا خَلَّفَ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً وَلَا عَقَارًا وَلَا
مَتَاعًا، إِلَّا سِتَّةَ دَنَانِيرَ فَضَلَتْ مِنْ عَطَائِهِ. وَكَانَ قَدِ
اكْتُتِبَ فِي دِيوَانِ السَّاحِلِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الَّذِي أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَ الْحَمَّامِ صَاحِبُ
الْحَمَّامِ، وَذَهَبَ إِلَى حَاجَةٍ، ثُمَّ جَاءَ فَفَتَحَ الْحَمَّامَ،
فَوَجَدَهُ مَيِّتًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ وَهُوَ
مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قُلْتُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ مَاتَ بِبَيْرُوتَ مُرَابِطًا، وَاخْتَلَفُوا فِي
سَنَةِ وَفَاتِهِ; فَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ
أَحْمَدُ: قَالَ يَحْيَى: رَأَيْتُ الْأَوْزَاعِيَّ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَمِائَةٍ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْبَيْرُوتِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ، أَوَّلَ
النَّهَارِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ صَفَرٍ، سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَمِائَةٍ. وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي مُسْهِرٍ، وَهِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ -
فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ - وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَدُحَيْمٍ،
وَخَلِيفَةَ بْنِ خَيَّاطٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ: وَلَمْ يَبْلُغْ سَبْعِينَ سَنَةً.
قُلْتُ: وَقَالَ غَيْرُهُ: جَاوَزَ السَّبْعِينَ. وَالصَّحِيحُ تِسْعٌ وَسِتُّونَ
سَنَةً; لِأَنَّهُ كَانَ مِيلَادُهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ عَلَى
الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَهَذَا
ضَعِيفٌ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ
يُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَةً
أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ الْمَحْزُونِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ قَصْرِ الْمَنْصُورِ الْمُسَمَّى بِالْخُلْدِ،
وَسَكَنَهُ أَيَّامًا يَسِيرَةً، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَهُ.
وَفِيهَا مَاتَ طَاغِيَةُ الرُّومِ.
وَفِيهَا وَجَّهَ الْمَنْصُورُ ابْنَهُ الْمَهْدِيَّ إِلَى الرَّقَّةِ، وَأَمَرَهُ
بِعَزْلِ مُوسَى بْنِ كَعْبٍ عَنِ الْمَوْصِلِ، وَأَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهَا
خَالِدَ بْنَ بَرْمَكَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ نُكْتَةٍ غَرِيبَةٍ اتَّفَقَتْ
لِيَحْيَى بْنِ خَالِدٍ; وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُورَ كَانَ قَدْ تَغَضَّبَ عَلَى
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَأَلْزَمَهُ بِحَمْلِ ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ، فَضَاقَ
ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ وَلَا حَالٌ، وَعَجَزَ عَنْ أَكْثَرِ
مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَقَدْ أَجَّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ
ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَدَمُهُ هَدْرٌ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ ابْنَهُ
يَحْيَى إِلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُمْ، فَكَانَ مِنْهُمْ
مَنْ أَعْطَاهُ الْمِائَةَ أَلْفٍ، وَمِنْهُمْ أَقَلَّ وَأَكْثَرَ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ تِلْكَ
الْأَيَّامِ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ، وَأَنَا مَهْمُومٌ فِي تَحْصِيلِ مَا طُلِبَ
مَنَّا وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، إِذْ وَثَبَ إِلَيَّ زَاجِرٌ - يَعْنِي مِنْ
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَكُونُونَ عِنْدَ الْجِسْرِ مِنَ الطُّرُقِيَّةِ - فَقَالَ
لِي: أَبْشِرْ. فَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى أَخَذَ بِلِجَامِ
فَرَسِي، ثُمَّ قَالَ لِي: أَنْتَ مَهْمُومٌ، وَاللَّهِ لَيُفَرِّجَنَّ اللَّهُ
هَمَّكَ، وَلَتَمُرَّنَّ غَدًا فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللِّوَاءُ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَإِنْ كَانَ مَا قُلْتُ حَقًّا
فَلِي عَلَيْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. وَلَوْ قَالَ: خَمْسُونَ
أَلْفًا. لَقُلْتُ: نَعَمْ. لِبُعْدِ ذَلِكَ عِنْدِي. قَالَ: وَذَهَبْتُ
لِشَأْنِي، وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْنَا مِنَ الْحِمْلِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ،
فَوَرَدَ الْخَبَرُ إِلَى الْمَنْصُورِ بِانْتِقَاضِ الْمَوْصِلِ وَانْتِشَارِ
الْأَكْرَادِ بِهَا، فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاءَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْمَوْصِلِ؟
فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِخَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ:
وَيْحَكَ! أَوَيُصْلِحُ لِذَلِكَ بَعْدَمَا فَعَلْنَا بِهِ مَا فَعَلْنَا؟
فَقَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا الضَّامِنُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لَهَا. فَأَمَرَ
بِإِحْضَارِهِ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا، وَوَضَعَ عَنْهُ بَقِيَّةَ مَا كَانَ
عَلَيْهِ، وَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ، وَوَلَّى ابْنَهُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ
أَذْرَبِيجَانَ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي خِدْمَتِهِمَا. قَالَ يَحْيَى: فَمَرَرْنَا
بِالْجِسْرِ، فَثَارَ إِلَيَّ ذَلِكَ الزَّاجِرُ فَطَالَبَنِي بِمَا وَعَدْتُهُ
بِهِ فَأَمَرْتُ لَهُ بِهِ، فَقَبَضَ خَمْسَةَ آلَافٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمَنْصُورُ إِلَى الْحَجِّ، فَسَاقَ الْهَدْيَ
مَعَهُ، فَلَمَّا جَاوَزَ الْكُوفَةَ بِمَرَاحِلَ أَخَذَهُ وَجَعُهُ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ سُوءُ مِزَاجٍ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ
الْحَرِّ وَرُكُوبِهِ فِي الْهَوَاجِرِ، وَأَخَذَهُ إِسْهَالٌ وَأَفْرَطَ بِهِ،
فَقَوِيَ مَرَضُهُ، وَدَخَلَ مَكَّةَ، فَتُوُفِّيَ بِهَا لَيْلَةَ السَّبْتِ
لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَدُفِنَ بِكَدَاءٍ
عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْمُعَلَّى الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عُمْرُهُ
يَوْمَئِذٍ ثَلَاثًا - وَقِيلَ: أَرْبَعًا. وَقِيلَ: خَمْسًا - وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَتَمَ الرَّبِيعُ مَوْتَهُ حَتَّى أَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْمَهْدِيِّ، مِنَ
الْقُوَّادِ وَرُءُوسِ بَنِي هَاشِمٍ، ثُمَّ دُفِنَ. وَكَانَ الَّذِي صَلَّى
عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي
أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ.
وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ، وَأُمُّهُ أُمُّ
وَلَدٍ، اسْمُهَا سَلَّامَةُ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ. أَوْرَدَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السُّلَمِيِّ
عَنِ الْمَأْمُونِ، عَنِ الرَّشِيدِ، عَنِ الْمَهْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ
الْمَنْصُورِ بِهِ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَعُمُرُهُ يَوْمَئِذٍ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً;
لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي صَفَرٍ
مِنْهَا بِالْحُمَيْمَةِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً
إِلَّا أَيَّامًا.
وَكَانَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ، مَوْفُورَ اللِّمَّةِ، خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، رَحْبَ
الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الْأَنْفِ بَيِّنَ الْقَنَا، أَعْيَنَ كَأَنَّ عَيْنَيْهِ
لِسَانَانِ نَاطِقَانِ، تُخَالِطُهُ أُبَّهَةُ الْمُلْكِ، وَتَقْبَلُهُ الْقُلُوبُ
وَتَتْبَعُهُ الْعُيُونُ يُعْرَفُ الشَّرَفُ فِي تَوَاضُعِهِ، وَالْعِتْقُ فِي
صُورَتِهِ، وَاللُّبُّ فِي مِشْيَتِهِ. هَكَذَا وَصَفَهُ بَعْضُ مَنْ رَآهُ.
وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَالَ: مِنَّا السَّفَّاحُ وَالْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ. وَفِي
رِوَايَةٍ: حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا، وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ أُمَّهُ سَلَّامَةَ قَالَتْ: رَأَيْتُ
حِينَ حَمَلْتُ بِهِ كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنِّي أَسَدٌ، فَزَأَرَ وَأَقْعَى عَلَى
يَدَيْهِ، فَمَا بَقِيَ أَسَدٌ حَتَّى جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ.
وَقَدْ رَأَى الْمَنْصُورُ فِي صِغَرِهِ مَنَامًا غَرِيبًا، فَكَانَ يَقُولُ:
يَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ فِي أَلْوَاحِ الذَّهَبِ، وَيُعَلَّقَ فِي أَعْنَاقِ
الصِّبْيَانِ. قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِذَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ
مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهَا، فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُنَادٍ فَنَادَى: أَيْنَ عَبْدُ
اللَّهِ؟ فَقَامَ أَخِي السَّفَّاحُ يَتَخَطَّى الرِّجَالَ حَتَّى جَاءَ بَابَ
الْكَعْبَةِ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَأَدْخَلَهُ إِيَّاهَا، فَمَا لَبِثَ أَنْ خَرَجَ
وَمَعَهُ لِوَاءٌ أَسْوَدُ. ثُمَّ نُودِيَ: أَيْنَ عَبْدُ اللَّهِ؟ فَقُمْتُ أَنَا
وَعَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ نَسْتَبِقُ، فَسَبَقْتُهُ إِلَى بَابِ
الْكَعْبَةِ، فَدَخَلْتُهَا، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَبِلَالٌ، فَعَقَدَ لِي لِوَاءً،
وَأَوْصَانِي بِأُمَّتِهِ، وَعَمَّمَنِي عِمَامَةً كَوَّرَهَا ثَلَاثَةً
وَعِشْرِينَ كَوْرًا، وَقَالَ: خُذْهَا إِلَيْكَ أَبَا الْخُلَفَاءِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ سِجْنُ الْمَنْصُورِ فِي أَيَّامِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَاجْتَمَعَ
بِهِ فِي السِّجْنِ نُوبَخْتُ
الْمُنَجِّمُ، وَتَوَسَّمَ فِيهِ
الرِّيَاسَةَ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ تَكُونُ؟ فَلَمَّا عَرَفَ نَسَبَهُ
وَكُنْيَتَهُ قَالَ: أَنْتَ الْخَلِيفَةُ الَّذِي يَلِي الْأَرْضَ. فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ! مَاذَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ لَكَ، فَضَعْ لِي خَطَّكَ
فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ أَنْ تُعْطِيَنِي شَيْئًا إِذَا وَلِيتَ. فَكَتَبَ لَهُ،
فَلَمَّا وَلِيَ أَكْرَمَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَعْطَاهُ وَأَسْلَمَ نُوبَخْتُ عَلَى
يَدَيْهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَجُوسِيًّا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ
الْمَنْصُورِ عِنْدَهُ.
وَقَدْ حَجَّ الْمَنْصُورُ بِالنَّاسِ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، أَحْرَمَ
مِنَ الْحِيرَةِ، وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَفِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ، وَفِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الَّتِي كَانَتْ فِيهَا وَفَاتُهُ. وَبَنَى مَدِينَةَ السَّلَامِ بَغْدَادَ،
وَالرَّافِقَةَ، وَقَصْرَ الْخُلْدِ.
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ يُونُسَ الْحَاجِبُ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ يَقُولُ:
الْخُلَفَاءُ أَرْبَعَةٌ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ،
وَالْمُلُوكُ أَرْبَعَةٌ; مُعَاوِيَةُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،
وَهِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَالَ لِي الْمَنْصُورُ: مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ.
فَقَالَ: أَصَبْتَ، وَذَلِكَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ الْفِهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْمَنْصُورَ عَلَى مِنْبَرِ
عَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَنَا سُلْطَانُ
اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، أَسُوسُكُمْ بِتَوْفِيقِهِ وَرُشْدِهِ، وَخَازِنُهُ عَلَى
مَالِهِ، أُقَسِّمُهُ بِإِرَادَتِهِ، وَأُعْطِيهِ بِإِذْنِهِ، وَقَدْ جَعَلَنِي
اللَّهُ عَلَيْهِ
قُفْلًا، إِذَا شَاءَ أَنْ يَفْتَحَنِي
لِإِعْطَائِكُمْ وَقَسْمِ أَرْزَاقِكُمْ فَتَحَنِي، وَإِذَا شَاءَ أَنْ
يُقْفِلَنِي عَلَيْهِ أَقْفَلَنِي، فَارْغُبُوا إِلَى اللَّهِ أَيُّهَا النَّاسُ،
وَسَلُوهُ - فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ الَّذِي وَهَبَ لَكُمْ فِيهِ مِنْ
فَضْلِهِ مَا أَعْلَمَكُمْ بِهِ فِي كِتَابِهِ، إِذْ يَقُولُ: الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلَامَ دِينًا [ الْمَائِدَةِ: 3 ]. أَنْ يُوَفِّقَنِي لِلصَّوَابِ،
وَيُسَدِّدَنِي لِلرَّشَادِ، وَيُلْهِمَنِي الرَّأْفَةَ بِكُمْ، وَالْإِحْسَانَ
إِلَيْكُمْ، وَيَفْتَحَنِي لِإِعْطَائِكُمْ، وَقَسْمِ أَرْزَاقِكُمْ بِالْعَدْلِ
عَلَيْكُمْ، فَإِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَقَدْ خَطَبَ يَوْمًا، فَاعْتَرَضَهُ رَجُلٌ وَهُوَ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اذْكُرْ مَنْ أَنْتَ ذَاكِرُهُ،
وَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا تَأْتِيهِ وَتَذَرُهُ. فَسَكَتَ الْمَنْصُورُ حَتَّى
انْتَهَى كَلَامُ الرَّجُلِ، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِمَّنْ
قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِيهِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [ الْبَقَرَةِ: 206 ]. أَوْ أَنْ أَكُونَ
جَبَّارًا عَصِيًّا، أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْمَوْعِظَةَ عَلَيْنَا نَزَلَتْ،
وَمِنْ عِنْدِنَا بُيِّنَتْ. ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَظُنُّكَ فِي
مَقَالَتِكَ هَذِهِ تُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ:
وَعَظَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا
فَتَفْعَلُوا كَفِعْلِهِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَاحْتُفِظَ بِهِ، وَعَادَ إِلَى
خُطْبَتِهِ فَأَكْمَلَهَا، ثُمَّ قَالَ لِمَنْ هُوَ عِنْدَهُ: اعْرِضْ عَلَيْهِ
الدُّنْيَا فَإِنْ قَبِلَهَا فَأَعْلِمْنِي، وَإِنْ رَدَّهَا فَأَعْلِمْنِي. فَمَا
زَالَ بِهِ الرَّجُلُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ حَتَّى أَخَذَ الْمَالَ
وَالْجَوَارِيَ، وَوَلَّاهُ الْحِسْبَةَ وَالْمَظَالِمَ، وَأَدْخَلَهُ عَلَى
الْخَلِيفَةِ فِي بِزَّةٍ حَسَنَةٍ، وَثِيَابٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكَ! إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ مُحِقًّا لَمَا قَبِلْتَ شَيْئًا
مِمَّا أَرَى، وَلَكِنْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ عَنْكَ: إِنَّكَ وَعَظْتَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَخَرَجْتَ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ.
وَقَدْ قَالَ الْمَنْصُورُ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ لَا
يُصْلِحُهُ إِلَّا التَّقْوَى، وَالسُّلْطَانَ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الطَّاعَةُ،
وَالرَّعِيَّةَ لَا يُصْلِحُهَا إِلَّا الْعَدْلُ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْعَفْوِ
أَقْدَرُهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ، وَأَنْقَصُ النَّاسِ عَقْلًا مَنْ ظَلَمَ مَنْ
هُوَ دُونَهُ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، اسْتَدِمِ النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالْقُدْرَةَ
بِالْعَفْوِ، وَالطَّاعَةَ بِالتَّأْلِيفِ، وَالنَّصْرَ بِالتَّوَاضُعِ
وَالرَّحْمَةِ لِلنَّاسِ، وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَنَصِيبَكَ
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَحَضَرَ عِنْدَهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ يَوْمًا، وَقَدْ أَمَرَ بِرَجُلٍ أَنْ
تُضْرَبَ عُنُقُهُ، وَأَحْضَرَ النِّطْعَ وَالسَّيْفَ، فَقَالَ لَهُ مُبَارَكٌ:
سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: لِيَقُمْ مَنْ
أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا. فَأَمَرَ بِالْعَفْوِ
عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ. ثُمَّ أَخَذَ يُعَدِّدُ عَلَى جُلَسَائِهِ عَظِيمَ جَرَائِمِهِ
وَمَا كَانَ صَنَعَهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: أُتِيَ الْمَنْصُورُ بِرَجُلٍ لِيُعَاقِبَهُ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الِانْتِقَامُ عَدْلٌ، وَالْعَفْوُ فَضْلٌ، وَنُعِيذُ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِأَوْكَسِ النَّصِيبَيْنِ،
دُونَ أَنْ يَبْلُغَ أَرْفَعَ الدَّرَجَتَيْنِ. قَالَ: فَعَفَا عَنْهُ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ
الْمَنْصُورُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: احْمَدِ اللَّهَ يَا أَعْرَابِيُّ
الَّذِي رَفَعَ عَنْكُمُ الطَّاعُونَ بِوِلَايَتِنَا. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا
يَجْمَعُ عَلَيْنَا حَشَفًا وَسُوءَ كَيْلٍ ; وِلَايَتَكُمْ وَالطَّاعُونَ.
وَالْحِكَايَاتُ فِي ذِكْرِ حِلْمِهِ وَعَفْوِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَدَخَلَ بَعْضُ الزُّهَّادِ عَلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا، فَاشْتَرِ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا، وَاذْكُرْ
لَيْلَةً تَبِيتُ فِي الْقَبْرِ لَمْ تَبِتْ قَبْلَهَا لَيْلَةً، وَاذْكُرْ
لَيْلَةً تَمَخَّضُ عَنْ يَوْمٍ لَا لَيْلَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: فَأَفْحَمَ
الْمَنْصُورَ قَوْلُهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ فَقَالَ: لَوِ احْتَجْتُ إِلَى مَالِكَ
لَمَا وَعَظْتُكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى
الْمَنْصُورِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَدْنَاهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ أَهْلِهِ
وَعِيَالِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ، عِظْنِي. فَقَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ سُورَةِ
" الْفَجْرِ " إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
[ الْفَجْرِ: 14 ]. قَالَ: فَبَكَى الْمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى
كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ قَبْلَ تِلْكَ السَّاعَةِ ثُمَّ
قَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا،
فَاشْتَرِ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا، وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ لِمَنْ قَبْلَكَ.
ثُمَّ صَارَ إِلَيْكَ، ثُمَّ هُوَ صَائِرٌ لِمَنْ بَعْدَكَ، وَاذْكُرْ لَيْلَةً
تُسْفِرُ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى الْمَنْصُورُ أَشَدَّ مِنْ بُكَائِهِ
الْأَوَّلِ حَتَّى اخْتَلَفَ جَفْنَاهُ. فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُجَالِدٍ:
رِفْقًا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَمَاذَا عَلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يَبْكِيَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَنْصُورُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ:
لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: وَاللَّهِ لَتَأْخُذَنَّهَا.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا آخُذَنَّهَا. فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ وَهُوَ جَالِسٌ
فِي سَوَادِهِ وَسَيْفِهِ، إِلَى جَنْبِ أَبِيهِ: أَيَحْلِفُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ وَتَحْلِفُ أَنْتَ؟! فَالْتَفَتَ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَقَالَ:
وَمَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا ابْنِي مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ وَلِيُّ الْعَهْدِ
مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ: أَسْمَيْتَهُ اسْمًا لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِعَمَلِهِ هَذَا،
وَأَلْبَسْتَهُ لَبُوسًا مَا هُوَ لَبُوسُ الْأَبْرَارِ، وَلَقَدْ مَهَّدْتَ لَهُ
أَمْرًا أَمْتَعَ مَا يَكُونُ بِهِ، أَشْغَلَ مَا تَكُونُ عَنْهُ. ثُمَّ الْتَفَتَ
إِلَى الْمَهْدِيِّ فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي، إِذَا حَلَفَ أَبُوكَ حَلَفَ عَمُّكَ;
لِأَنَّ أَبَاكَ أَقْدَرُ عَلَى الْكَفَّارَةِ مِنْ عَمِّكَ. ثُمَّ قَالَ
الْمَنْصُورُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ، هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
وَمَا هِيَ؟ قَالَ: لَا تَبْعَثْ إِلَيَّ حَتَّى آتِيَكَ. فَقَالَ: إِذًا
وَاللَّهِ لَا نَلْتَقِي. فَقَالَ: عَنْ حَاجَتِي سَأَلْتَنِي. فَوَدَّعَهُ وَانْصَرَفَ،
فَلَمَّا وَلَّى أَبَدَّهُ بَصَرَهُ وَهُوَ يَقُولُ:
كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيْدْ كُلُّكُمْ يَطْلُبُ صَيْدْ غَيْرَ عَمْرِو بْنِ
عُبَيْدْ
وَيُقَالُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ أَنْشَدَ الْمَنْصُورَ قَصِيدَةً فِي
مَوْعِظَتِهِ إِيَّاهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ:
يَا أَيُّهَذَا الَّذِي قَدْ غَرَّهُ الْأَمَلُ وَدُونَ مَا يَأْمَلُ التَّنْغِيصُ
وَالْأَجَلْ
أَلَا تَرَى أَنَّمَا الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا كَمَنْزِلِ الرَّكْبِ حَلُّوا
ثُمَّتَ ارْتَحَلُوا
حُتُوفُهَا رَصَدٌ وَعَيْشُهَا نَكَدٌ وَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَمُلْكُهَا دُوَلٌ
تَظَلُّ تَقْرَعُ بِالرَّوْعَاتِ سَاكِنَهَا فَمَا يَسُوغُ لَهُ لِينٌ وَلَا
جَدَلُ
كَأَنَّهُ لِلْمَنَايَا وَالرَّدَى
غَرَضٌ تَظَلُّ فِيهِ بَنَاتُ الدَّهْرِ تَنْتَضِلُ
تُدِيرُهُ مَا أَدَارَتْهُ دَوَائِرُهَا مِنْهَا الْمُصِيبُ وَمِنْهَا الْمُخْطِئُ
الزَّلِلُ
وَالنَّفْسُ هَارِبَةٌ وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهَا وَكُلُّ عَثْرَةِ رَجُلٍ عِنْدَهَا
جَلَلُ
وَالْمَرْءُ يَسْعَى بِمَا يَسْعَى لِوَارِثِهِ وَالْقَبْرُ وَارِثُ مَا يَسْعَى
لَهُ الرَّجُلُ
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنِ الرِّيَاشِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ:
رَأَتْ جَارِيَةٌ لِلْمَنْصُورِ ثَوْبَهُ مَرْقُوعًا فَقَالَتْ: خَلِيفَةٌ
وَقَمِيصُهُ مَرْقُوعٌ؟! فَقَالَ: وَيْحَكِ! أَمَا سَمِعْتِ مَا قَالَ ابْنُ
هَرْمَةَ:
قَدْ يُدْرِكُ الشَّرَفَ الْفَتَى وَرِدَاؤُهُ خَلَقٌ وَجَيْبُ قَمِيصِهِ
مَرْقُوعُ
وَمِنْ شَعْرِهِ لَمَّا عَزَمَ عَلَى قَتْلِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ:
إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمَةٍ فَإِنَّ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ
تَتَرَدَّدَا
وَلَا تُمْهِلِ الْأَعْدَاءَ يَوْمًا بِقُدْرَةٍ وَبَادِرْهُمْ أَنْ يَمْلِكُوا
مِثْلَهَا غَدَا
وَلَمَّا قَتَلَهُ وَرَآهُ طَرِيحًا بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ:
قَدِ اكْتَنَفَتْكَ خَلَّاتٌ ثَلَاثٌ جَلَبْنَ عَلَيْكَ مَحْتُومَ الْحِمَامِ
خِلَافُكَ وَامْتِنَاعُكَ مِنْ يَمِينِي وَقَوْدُكَ لِلْجَمَاهِيرِ الْعِظَامِ
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
الْمَرْءُ يَأْمُلُ أَنْ يَعِي شِ وَطُولُ عُمْرٍ قَدْ يَضُرُّهْ
تَبْلَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْ قَى بَعْدَ حُلْوِ الْعَيْشِ مُرُّهْ
وَتَخُونُهُ الْأَيَّامُ حَتَّ ى لَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهْ
كُمْ شَامِتٍ بِي إِنْ هَلَكْ تُ وَقَائِلٍ لِلَّهِ دَرُّهْ
قَالُوا: وَكَانَ الْمَنْصُورُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَتَصَدَّى لِلْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْوِلَايَاتِ وَالْعَزْلِ،
وَالنَّظَرِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ دَخَلَ
مَنْزِلَهُ، وَاسْتَرَاحَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ إِلَى الْعَصْرِ، فَإِذَا صَلَّاهَا
جَلَسَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَصَالِحِهِمُ الْخَاصَّةِ، فَإِذَا صَلَّى الْعَشَاءَ
نَظَرَ فِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ الْوَارِدَةِ مِنَ الْآفَاقِ، وَجَلَسَ
عِنْدَهُ مَنْ يُسَامِرُهُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى أَهْلِهِ،
فَيَنَامُ فِي فِرَاشِهِ إِلَى الثُّلُثِ الْآخِرِ، فَيَقُومُ إِلَى وَضُوئِهِ
وَصَلَاتِهِ حَتَّى يَتَفَجَّرَ الصَّبَاحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي
بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَجْلِسُ فِي إِيوَانِهِ.
وَقَدْ وَلَّى بَعْضَ الْعُمَّالِ عَلَى بَلَدٍ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ تَصَدَّى
لِلصَّيْدِ، وَأَعَدَّ لِذَلِكَ الْكِلَابَ وَالْبُزَاةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
الْمَنْصُورُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَعَدِمَتْكَ عَشِيرَتُكَ، وَيْحَكَ! إِنَّا
إِنَّمَا اسْتَكْفَيْنَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ نَسْتَكْفِكَ أُمُورَ
الْوُحُوشِ، فَسَلِّمْ مَا كُنْتَ تَلِي مِنْ عَمَلِنَا إِلَى فُلَانٍ، وَالْحَقْ
بِأَهْلِكَ مَلُومًا مَدْحُورًا.
وَأُتِيَ يَوْمًا بِخَارِجِيٍّ قَدْ هَزَمَ جُيُوشَ الْمَنْصُورِ غَيْرَ مَرَّةٍ،
فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: وَيْحَكَ!
يَا ابْنَ الْفَاعِلَةِ، مِثْلُكُ يَهْزِمُ الْجُيُوشَ؟ فَقَالَ الْخَارِجِيُّ:
وَيْلَكَ، سَوْءَةٌ لَكَ! بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْسِ السَّيْفُ وَالْقَتْلُ،
وَالْيَوْمَ الْقَذْفُ وَالسَّبُّ! وَمَا يُؤَمِّنُكَ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ
وَقَدْ يَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ، فَلَا تَسْتَقِيلُهَا أَبَدًا؟! قَالَ:
فَاسْتَحْيَا مِنْهُ الْمَنْصُورُ وَأَطْلَقَهُ. فَمَا رَأَى لَهُ وَجْهًا إِلَى
الْحَوْلِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، لَيْسَ الْعَاقِلُ مَنْ يَحْتَالُ لِلْأَمْرِ
الَّذِي وَقَعَ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَحْتَالُ
لِلْأَمْرِ الَّذِي غَشِيَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ فِيهِ.
وَقَالَ الْمَنْصُورُ أَيْضًا يَوْمًا لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ: يَا بُنَيَّ، لَا
تَجْلِسْ مَجْلِسًا إِلَّا وَعِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ يُحَدِّثُكَ;
فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ قَالَ: عِلْمُ الْحَدِيثِ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا ذُكْرَانُ
الرِّجَالِ، وَلَا يَكْرَهُهُ إِلَّا مُؤَنَّثُوهُمْ، وَصَدَقَ أَخُو زُهْرَةَ.
وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ فِي شَبِيبَتِهِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ
وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ، فَنَالَ مِنْ ذَلِكَ جَانِبًا جَيِّدًا، وَطَرَفًا
صَالِحًا، وَقَدْ قِيلَ لَهُ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ
شَيْءٌ مِنَ اللَّذَّاتِ لَمْ تَنَلْهُ؟ قَالَ: لَا، سِوَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.
قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ فَقَالَ: قَوْلُ الْمُحَدَّثِ لِلشَّيْخِ: مَنْ ذَكَرْتَ،
رَحِمَكَ اللَّهُ؟ فَاجْتَمَعَ وُزَرَاؤُهُ وَكُتَّابُهُ، وَجَلَسُوا حَوْلَهُ،
وَقَالُوا: لِيُمْلِ عَلَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ.
فَقَالَ: لَسْتُمْ بِهِمْ، إِنَّمَا هُمُ الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، الْمُشَقَّقَةُ
أَرْجُلُهُمْ، الطَّوِيلَةُ شُعُورُهُمْ، بُرُدُ الْآفَاقِ، وَنَقْلَةُ
الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْمَنْصُورُ يَوْمًا
لِلْمَهْدِيِّ: كَمْ عِنْدَكَ رَايَةً؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: هَذَا هُوَ
التَّقْصِيرُ، أَنْتَ لِأَمْرِ الْخِلَافَةِ أَشَدُّ تَضْيِيعًا، فَاتَّقِ اللَّهَ
يَا بُنَيَّ.
وَقَالَتْ خَالِصَةُ إِحْدَى حَظِيَّاتِ الْمَهْدِيِّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى
الْمَنْصُورِ وَهُوَ يَشْتَكِي ضِرْسَهُ، وَيَدَاهُ عَلَى صُدْغَيْهِ، فَقَالَ
لِي: كَمْ عِنْدَكِ مِنَ الْمَالِ يَا خَالِصَةُ؟ فَقُلْتُ: أَلْفُ دِرْهَمٍ.
فَقَالَ: ضَعِي يَدَكِ عَلَى رَأْسِي وَاحْلِفِي. فَقُلْتُ: عِنْدِي عَشَرَةُ
آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ: اذْهَبِي فَاحْمِلِيهَا إِلَيَّ. قَالَتْ: فَذَهَبْتُ
حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى سَيِّدِي الْمَهْدِيِّ وَهُوَ مَعَ وَزَوْجَتِهِ
الْخَيْزُرَانِ، فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ مَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،
فَرَكَلَنِي بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: وَيْحَكِ! إِنَّهُ لَيْسَ بِهِ وَجَعٌ،
وَلَكِنِّي سَأَلْتُهُ بِالْأَمْسِ مَالًا، فَتَمَارَضَ وَإِنَّهُ لَا يَسَعُكِ
إِلَّا مَا أَمَرَكِ بِهِ. فَذَهَبَتْ إِلَيْهِ خَالِصَةُ وَمَعَهَا عَشَرَةُ
آلَافِ دِينَارٍ، فَاسْتَدْعَى بِالْمَهْدِيِّ، فَقَالَ لَهُ: تَشْكُو الْحَاجَةَ
وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ خَالِصَةَ؟ !
وَقَالَ الْمَنْصُورُ لِخَازِنِهِ: إِذَا عَلِمْتَ بِمَجِيءِ الْمَهْدِيِّ
فَائْتِنِي بِخُلْقَانِ الثِّيَابِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ. فَجَاءَ بِهَا
فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَدَخَلَ الْمَهْدِيُّ وَالْمَنْصُورُ يُقَلِّبُهَا،
فَجَعَلَ الْمَهْدِيُّ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ لَيْسَ لَهُ
خَلَقٌ مَا لَهُ جَدِيدٌ، وَقَدْ حَضَرَ الشِّتَاءُ فَنَحْتَاجُ نُعِينُ
الْعِيَالِ وَالْوَلَدَ. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: عَلَيَّ كُسْوَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
وَعِيَالِهِ. فَقَالَ: دُونَكَ فَافْعَلْ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْهَيْثَمِ، أَنَّ الْمَنْصُورَ أَطْلَقَ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ لِبَعْضِ أَعْمَامِهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ
فَرَّقَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَا يُعْلَمُ
خَلِيفَةٌ فَرَّقَ مِثْلَ هَذَا فِي
يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ عِنْدَ الْمَنْصُورِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [ الْحَدِيدِ: 24 ]. فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَوْلَا أَنَّ الْمَالَ حِصْنٌ لِلسُّلْطَانِ وَدِعَامَةٌ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا
وَعِزُّهُمَا وَزِينَتُهُمَا مَا بِتُّ لَيْلَةً وَاحِدَةً وَأَنَا أُحْرِزُ
مِنْهُ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا; لِمَا أَجِدُ لِبَذْلِ الْمَالِ مِنَ
اللَّذَاذَةِ، وَلِمَا أَعْلَمُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْ جَزِيلِ الْمَثُوبَةِ.
وَقَرَأَ عِنْدَهُ قَارِئٌ آخَرُ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ الْإِسْرَاءِ: 29 ]. فَقَالَ: مَا
أَحْسَنَ مَا أَدَّبَنَا رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ!
وَقَالَ الْمَنْصُورُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي; عَلِيَّ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَادَةُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا الْأَسْخِيَاءُ، وَفِي
الْآخِرَةِ الْأَتْقِيَاءُ.
وَلَمَّا عَزَمَ الْمَنْصُورُ عَلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي
سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ - دَعَا وَلَدَهُ الْمَهْدِيَّ وَلِيَّ
عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَأَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَفِي أَهْلِ بَيْتِهِ
وَبِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَفْعَلُ الْأَشْيَاءَ،
وَيَسُدُّ الثُّغُورَ بِوَصَايَا يَطُولُ بَسْطُهَا، وَحَرَّجَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْتَحَ
شَيْئًا مِنْ خَزَائِنِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ وَفَاتَهُ; فَإِنَّ
بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يُجْبَ إِلَيْهِمْ
مِنَ الْخَرَاجِ دِرْهَمٌ عَشْرَ سِنِينَ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا
عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ قَضَاءَهَا مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ. فَامْتَثَلَ الْمَهْدِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَحْرَمَ
الْمَنْصُورُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مِنَ الرُّصَافَةِ، وَسَاقَ بُدُنَهُ، وَقَالَ:
يَا بُنَيَّ، إِنِّي وُلِدْتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ وَقَعَ لِي أَنِّي
أَمُوتُ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَدَانِي عَلَى الْحَجِّ عَامِي
هَذَا. وَوَدَّعَهُ وَسَارَ، وَاعْتَرَاهُ مَرَضُ الْمَوْتِ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ، فَمَا دَخَلَ مَكَّةَ إِلَّا وَهُوَ مُثْقَلٌ جِدًّا، فَلَمَّا كَانَ
بِآخِرِ مَنْزِلٍ نَزَلَهُ دُونَ مَكَّةَ إِذَا فِي صَدْرِ مَنْزِلِهِ مَكْتُوبٌ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
أَبَا جَعْفَرٍ حَانَتْ وَفَاتُكَ وَانْقَضَتْ سُنُوكَ وَأَمْرُ اللَّهِ لَا بُدَّ
وَاقِعُ
أَبَا جَعْفَرٍ هَلْ كَاهِنٌ أَوْ مُنَجِّمٌ لَكَ الْيَوْمَ مِنْ كَرْبِ
الْمَنِيَّةِ مَانِعُ
فَدَعَا بِالْحَجَبَةِ، فَأَمَرَهُمْ بِقِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا،
فَعَرَفَ أَنَّ أَجْلَهُ قَدْ نُعِيَ إِلَيْهِ.
قَالُوا: وَرَأَى الْمَنْصُورُ فِي مَنَامِهِ، وَيُقَالُ: بَلْ هَتَفَ بِهِ
هَاتِفٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكْ إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكْ
عَلَيْكِ يَا نَفْسُ إِنْ أَسَأْتِ وَإِنْ أَحْسَنْتِ يَا نَفْسُ كَانَ ذَاكَ لَكْ
مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي
الْفَلَكْ
إِلَّا بِنَقْلِ السُّلْطَانِ عَنْ مَلِكٍ إِذَا انْقَضَى مُلْكُهُ إِلَى مَلِكْ
حَتَّى يَصِيرَا بِهِ إِلَى مَلِكٍ مَا عَزَّ سُلْطَانُهُ بِمُشْتَرَكِ
ذَاكَ بَدِيعُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
وَاَلْ مُرْسِي الْجِبَالَ الْمُسَخِّرُ الْفَلَكِ
فَقَالَ الْمَنْصُورُ: هَذَا وَاللَّهِ أَوَانُ حُضُورِ أَجَلِي وَانْقِضَاءِ
عُمْرِي.
وَكَانَ قَدْ رَأَى قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَصْرِهِ الْخُلْدِ الَّذِي بَنَاهُ
وَتَأَنَّقَ فِيهِ، مَنَامًا أَفْزَعَهُ، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ: وَيْحَكَ يَا
رَبِيعُ! لَقَدْ رَأَيْتُ مَنَامًا هَالَنِي; رَأَيْتُ قَائِلًا وَقَفَ فِي بَابِ
هَذَا الْقَصْرِ، وَهُوَ يَقُولُ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَعُرِّيَ مِنْهُ أَهْلُهُ
وَمَنَازِلُهُ
وَصَارَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ إِلَى جَدَثٍ تُبْنَى عَلَيْهِ
جَنَادِلُهُ
فَمَا أَقَامَ فِي الْخُلْدِ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ حَتَّى خَرَجَ إِلَى
الْحَجِّ عَامَهُ هَذَا، وَمَرِضَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَدَخَلَهَا مُدْنَفًا
ثَقِيلًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِسِتٍّ - وَقِيلَ: لِسَبْعٍ -
مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.
وَكَانَ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِي فِي
لِقَائِكَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنْ كُنْتُ عَصَيْتُكَ فِي
أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَقَدْ أَطَعْتُكَ فِي أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْكَ;
شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا. ثُمَّ مَاتَ.
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: اللَّهُ ثِقَةُ عَبْدِ اللَّهِ، وَبِهِ يُؤْمِنُ.
وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ وَفَاتِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً عَلَى
الْمَشْهُورِ; مِنْهَا ثِنْتَانِ وَعِشْرُونَ
سَنَةً فِي الْخِلَافَةِ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الْمُعَلَّى، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِمَّا رُثِيَ بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُ سَلْمٍ الْخَاسِرِ الشَّاعِرِ:
عَجَبًا لِلَّذِي نَعَى النَّاعِيَانِ كَيْفَ فَاهَتْ بِمَوْتِهِ الشَّفَتَانِ
مَلِكٌ إِنْ غَدَا عَلَى الدَّهْرِ يَوْمًا أَصْبَحَ الدَّهْرُ سَاقِطًا
لِلْجِرَانِ
لَيْتَ كَفًّا حَثَتْ عَلَيْهِ تُرَابًا لَمْ تَعُدْ فِي يَمِينِهَا بَبَنَانُ
حِينَ دَانَتْ لَهُ الْبِلَادُ عَلَى الْعَسْ فِ وَأَغْضَى مِنْ خَوْفِهِ
الثَّقَلَانِ
أَيْنَ رَبُّ الزَّوْرَاءِ قَدْ قَلَّدَتْهُ الْ مُلْكَ عِشْرُونَ حِجَّةً
وَاثْنَتَانِ
إِنَّمَا الْمَرْءُ كَالزِّنَادِ إِذَا مَا أَخَذَتْهُ قَوَادِحُ النِّيرَانِ
لَيْسَ يَثْنِي هَوَاهُ زَجْرٌ وَلَا يَقْ دَحُ فِي حَبْلِهِ ذَوُو الْأَذْهَانِ
قَلَّدَتْهُ أَعِنَّةَ الْمُلْكِ حَتَّى قَادَ أَعْدَاءَهُ بِغَيْرِ عَنَانٍ
يُكْسَرُ الطَّرْفُ دُونَهُ وَتُرَى الْأَيْ دِي مِنْ خَوْفِهِ إِلَى الْأَذْقَانِ
ضَمَّ أَطْرَافَ مُلْكِهِ ثُمَّ أَضْحَى خَلْفَ أَقْصَاهُمْ وَدُونَ الدَّانِي
هَاشِمِيُّ التَّشْمِيرِ لَا يَحْمِلُ الثِّقْ لَ عَلَى غَارِبِ الشَّرُودِ
الْهِدَانِ
ذُو أَنَاةٍ يَنْسَى لَهَا الْخَائِفُ الْخَوْ فَ وَعَزْمٍ يَلْوِي بِكُلِّ
جَنَانِ
ذَهَبَتْ دُونَهُ النُّفُوسُ حِذَارًا غَيْرَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي الْأَبْدَانِ
وَقَدْ دُفِنَ الْمَنْصُورُ بِثَنِيَّةِ الْمُعَلَّى عِنْدَ بَابِ مَكَّةَ، وَلَا
يُعْرَفُ قَبْرُهُ; لِأَنَّهُ عُمِّيَ قَبْرُهُ; فَإِنَّ الرَّبِيعَ حَفَرَ
مِائَةَ قَبْرٍ، وَدَفَنَهُ فِي غَيْرِهَا لِئَلَّا يُعْرَفَ.
ذِكْرُ أَوْلَادِ الْمَنْصُورِ
مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، وَكَانَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَجَعْفَرٌ
الْأَكْبَرُ، مَاتَ فِي حَيَاتِهِ، وَأُمُّهُمَا أَرْوَى بِنْتُ مَنْصُورٍ،
وَعِيسَى، وَيَعْقُوبُ، وَسُلَيْمَانُ، وَأُمُّهُمْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ،
مِنْ وَلَدِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَجَعْفَرٌ الْأَصْغَرُ مِنْ أُمِّ
وَلَدٍ كُرْدِيَّةٍ، وَصَالِحٌ الْمِسْكِينُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ رُومِيَّةٍ يُقَالُ
لَهَا: قَالِي الْفَرَّاشَةُ. وَالْقَاسِمُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ أَيْضًا.
وَالْعَالِيَةُ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمَهْدِيِّ ابْنِ الْمَنْصُورِ
لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ الْمَنْصُورُ بِمَكَّةَ لِسِتٍّ - وَقِيلَ: لِسَبْعٍ -
مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ،
أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِمَكَّةَ مِنْ رُءُوسِ بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُوَّادِ
الَّذِينَ هُمْ مَعَ الْمَنْصُورِ فِي الْحَجِّ قَبْلَ دَفْنِهِ، وَبُعِثَ
بِالْبَيْعَةِ وَبِالْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ مَعَ الْبَرِيدِ إِلَى الْمَهْدِيِّ
وَهُوَ بِبَغْدَادَ، فَوَصَلَهُ الْبَرِيدُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَأَعْطَاهُ الْكُتُبَ
بِالْبَيْعَةِ، وَبَايَعَهُ أَهْلُ مَدِينَةِ السَّلَامِ، وَنَفَذَتِ الْبَيْعَةُ
إِلَى سَائِرِ الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ، وَقَدْ كَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ أَبِيهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَوْمٍ تَحَامَلَ
وَتَسَانَدَ، وَاسْتَدْعَى
بِالْأُمَرَاءِ، فَجَدَّدَ لَهُمُ
الْبَيْعَةَ لِابْنِهِ الْمَهْدِيِّ، فَتَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ وَتَبَادَرُوا
إِلَيْهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ وَصِيَّةِ
عَمِّهِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إِنَّ
الَّذِي صَلَّى عَلَى الْمَنْصُورِ عِيسَى بْنُ مُوسَى وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ الْمَهْدِيِّ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ; لِأَنَّهُ كَانَ نَائِبَ مَكَّةَ
وَالطَّائِفِ.
وَعَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
عَمْرُو بْنُ زُهَيْرٍ الضَّبِّيُّ، أَخُو الْمُسَيِّبِ بْنِ زُهَيْرٍ أَمِيرِ
الشُّرْطَةِ لِلْخَلِيفَةِ، وَعَلَى خُرَاسَانَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى
خَرَاجِ الْبَصْرَةِ وَأَرْضِهَا عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى صَلَاتِهَا
وَقَضَائِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، وَعَلَى
أَحْدَاثِهَا سَعِيدُ بْنُ دَعْلَجٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَصَابَ النَّاسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ.
فَتُوُفِّيَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، مِنْهُمْ أَفْلَحُ بْنُ
حُمَيْدٍ، وَحَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ بِمَكَّةَ،
وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مُكَمِّلِ
بْنِ ذُهْلِ بْنِ ذُؤَيْبِ بْنِ جُذَيْمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُنْجُودِ بْنِ
جُنْدَبِ بْنِ الْعَنْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمِ بْنِ
مُرِّ بْنِ أُدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسِ بْنِ مُضَرِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ التَّمِيمِيُّ الْعَنْبَرِيُّ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ. أَقْدَمُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفَاةً، وَأَكْثَرَهُمُ اسْتِعْمَالًا لِلْقِيَاسِ، وَكَانَ عَابِدًا اشْتَغِلْ أَوَّلًا بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْفِقْهُ وَالْقِيَاسُ. وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَتُوَفِّي سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَخَلِيفَةُ النَّاسِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَهْدِيُّ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَبَعَثَ فِي أَوَّلِهَا
الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، وَرَكِبَ
مَعَهُمْ مُشَيِّعًا لَهُمْ، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَافْتَتَحُوا مَدِينَةً
عَظِيمَةً لِلرُّومِ وَمَطْمُورَةَ، وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَرَجَعُوا
سَالِمِينَ، لَمْ يُفْقَدْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ نَائِبُ خُرَاسَانَ، فَوَلَّى
الْمَهْدِيُّ مَكَانَهُ أَبَا عَوْنٍ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَزِيدَ، وَوَلَّى
حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ سِجِسْتَانَ، وَوَلَّى جَبْرَئِيلَ بْنَ يَحْيَى
سَمَرْقَنْدَ.
وَفِيهَا بَنَى الْمَهْدِيُّ مَسْجِدَ الرُّصَافَةِ وَخَنْدَقَهَا.
وَفِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ جَيْشًا كَثِيفًا إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ،
فَوَصَلُوا إِلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا
سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ نَائِبُ السِّنْدِ مَعْبَدُ بْنُ الْخَلِيلِ، فَوَلَّى
الْمَهْدِيُّ مَكَانَهُ رَوْحَ بْنَ حَاتِمٍ بِمَشُورَةِ وَزِيرِهِ أَبِي عُبَيْدِ
اللَّهِ.
وَفِيهَا أَطْلَقَ الْمَهْدِيُّ مَنْ كَانَ فِي السُّجُونِ إِلَّا مَنْ كَانَ
مَحْبُوسًا عَلَى
دَمٍ، أَوْ مِمَّنْ يَسْعَى فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا، أَوْ عِنْدَهُ حَقٌّ لِأَحَدٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ
أَخْرَجَ مِنَ الْمُطْبِقِ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ،
وَالْحُسْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِصَيْرُورَةِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى نُصَيْرٍ
الْخَادِمِ لِيَحْتَرِزَ عَلَيْهِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ مِنَ السِّجْنِ قَبْلَ خُرُوجِهِ
مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ مِنَ السِّجْنِ، نَاصَحَ
الْخَلِيفَةَ بِمَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
فَنَقَلَهُ الْخَلِيفَةُ مِنَ السِّجْنِ، وَأَوْدَعَهُ عِنْدَ نُصَيْرٍ الْخَادِمِ
لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، وَحَظِيَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ عِنْدَ الْمَهْدِيِّ
جَدًّا حَتَّى صَارَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ بِلَا اسْتِئْذَانٍ،
وَجَعَلَهُ الْخَلِيفَةُ عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فَوَّضَهَا إِلَيْهِ، وَأَطْلَقَ
لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَا زَالَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ حَتَّى تَمَكَّنَ
الْمَهْدِيُّ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَسَقَطَتْ مَنْزِلَةُ يَعْقُوبَ
عِنْدَ الْمَهْدِيِّ. وَقَدْ عَزَلَ الْمَهْدِيُّ نُوَّابًا كَثِيرَةً عَنِ
الْبِلَادِ، وَوَلَّى بَدَلَهُمْ عَلَيْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْمَهْدِيُّ بِابْنَةِ عَمِّهِ أُمِّ عَبْدِ
اللَّهِ بِنْتِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَعْتَقَ جَارِيَتَهُ الْخَيْزُرَانَ،
وَتَزَوَّجَهَا أَيْضًا، وَهِيَ أُمُّ الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا وَقَعُ حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي السُّفُنِ الَّتِي بِدِجْلَةَ بَغْدَادَ.
وَلَمَّا وَلِيَ الْمَهْدِيُّ سَأَلَ عِيسَى بْنَ مُوسَى - وَكَانَ وَلِيَّ
الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمَهْدِيِّ - أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَامْتَنَعَ
عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَسَأَلَ أَنْ يُقِيمَ بِأَرْضِ الْكُوفَةِ فِي ضَيْعَةٍ
لَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ رَوْحُ
بْنُ حَاتِمٍ، فَكَتَبَ إِلَى الْمَهْدِيِّ: إِنَّ عِيسَى بْنَ مُوسَى لَا يَأْتِي
الْجُمْعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ مَعَ النَّاسِ إِلَّا
شَهْرَيْنِ مِنَ السَّنَةِ، وَإِنَّهُ
إِذَا جَاءَ يَدْخُلُ بِدَوَابِّهِ إِلَى دَاخِلِ بَابِ الْمَسْجِدِ، فَتَرُوثُ
دَوَابُّهُ حَيْثُ يُصَلِّي النَّاسُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ أَنْ
يَعْمَلَ خَشَبًا عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ; حَتَّى لَا يَصِلَ النَّاسُ إِلَى
الْجَامِعِ إِلَّا مُشَاةً، فَعَلِمَ بِذَلِكَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَاشْتَرَى
قَبْلَ الْجُمْعَةِ دَارَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ وَرَثَتِهِ،
وَكَانَتْ مُلَاصِقَةَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ يَأْتِي إِلَيْهَا مِنْ يَوْمِ
الْخَمِيسِ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ الْجُمْعَةِ رَكِبَ حِمَارًا إِلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ عَنْهُ، وَشَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَ النَّاسِ، وَأَقَامَ
بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْكُوفَةِ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ أَلَحَّ الْمَهْدِيُّ عَلَى
عِيسَى بْنِ مُوسَى فِي أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ،
وَتَوَعَّدَهُ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَوَعَدَهُ إِنْ فَعَلَ، فَأَجَابَهُ إِلَى
ذَلِكَ، فَأَعْطَاهُ أَقْطَاعًا عَظِيمَةً، وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الْمَالِ عَشَرَةَ
آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ. وَبَايَعَ
الْمَهْدِيُّ لِوَلَدَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ; مُوسَى الْهَادِي، ثُمَّ لِهَارُونَ
الرَّشِيدِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَزِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ خَالُ
الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى الْيَمَنِ، فَوَلَّاهُ الْمَوْسِمَ،
وَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ شَوْقًا إِلَيْهِ.
وَغَالِبُ نُوَّابِ الْبِلَادِ قَدْ تَغَيَّرُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، غَيْرَ
أَنَّ إِفْرِيقِيَّةَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ حَاتِمٍ، وَعَلَى مِصْرَ مُحَمَّدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ أَبُو ضَمْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ أَبُو عَوْنٍ، وَعَلَى السِّنْدِ
بِسِطَامُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَلَى الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ،
وَعَلَى الْيَمَنِ رَجَاءُ بْنُ رَوْحٍ، وَعَلَى الْيَمَامَةِ بِشْرُ بْنُ
الْمُنْذِرِ، وَعَلَى الْجَزِيرَةِ الْفَضْلُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ الْجُمَحِيُّ، وَعَلَى مَكَّةَ وَالطَّائِفِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ
الْجُمَحِيُّ، وَعَلَى أَحْدَاثِ الْكُوفَةِ إِسْحَاقُ بْنُ الصَّبَّاحِ
الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى خَرَاجِهَا ثَابِتُ بْنُ مُوسَى، وَعَلَى قَضَائِهَا
شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِيُّ، وَعَلَى أَحْدَاثِ الْبَصْرَةِ
عُمَارَةُ بْنُ حَمْزَةَ، وَعَلَى صَلَاتِهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَيُّوبَ بْنِ ظَبْيَانَ
النُّمَيْرِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
الْعَنْبَرِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَبِي رَوَّادٍ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، وَمَالِكُ
بْنُ مِغْوَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ
الْمَدَنِيُّ، نَظِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي الْفِقْهِ، وَرُبَّمَا أَنْكَرَ
عَلَى مَالِكٍ فِي تَرْكِهِ الْأَخْذَ بِبَعْضِ الْأَحَادِيثِ; لِمَآخِذَ كَانَ
يَرَاهَا مَالِكٌ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمَسَالِكِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ
وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِخُرَاسَانَ عَلَى الْمَهْدِيِّ مُنْكِرًا عَلَيْهِ
أَحْوَالَهُ وَسِيرَتَهُ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ الْبَرْمُ. وَالْتَفَّ عَلَيْهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِ، فَتَوَجَّهَ
إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ، فَلَقِيَهُ فَاقْتَتَلَا حَتَّى تَنَازَلَا
وَتَعَانَقَا، فَأَسَرَ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ يُوسُفَ هَذَا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً
مِنْ أَصْحَابِهِ، فَبَعَثَهُ وَبَعَثَهُمْ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأُدْخِلُوا
عَلَيْهِ وَقَدْ حُمِلُوا عَلَى جِمَالٍ، مُحَوَّلَةً وُجُوهُهُمْ إِلَى نَاحِيَةِ
أَذْنَابِ الْإِبِلِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ أَنْ
يَقْطَعَ يَدَيْ يُوسُفَ وَرِجْلَيْهِ، ثُمَّ تُضْرَبَ عُنُقُهُ وَأَعْنَاقُ مَنْ
مَعَهُ، وَصَلَبَهُمْ عَلَى جِسْرِ دِجْلَةَ الْأَكْبَرِ مِمَّا يَلِي عَسْكَرَ
الْمَهْدِيَّ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَائِرَتَهُمْ، وَكَفَى شَرَّهُمْ.
ذِكْرُ الْبَيْعَةِ لِمُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ
كَانَ الْخَلِيفَةُ الْمَهْدِيُّ قَدْ أَلَحَّ عَلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى فِي أَنْ
يَخْلَعَ نَفْسَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
يَمْتَنِعُ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْكُوفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ
أَحَدَ الْقُوَّادِ الْكِبَارِ، وَهُوَ
أَبُو هُرَيْرَةَ مُحَمَّدُ بْنُ فَرُّوخَ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
لِإِحْضَارِهِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ طَبْلًا، فَإِذَا وَاجَهُوا الْكُوفَةَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ
ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَبْلِهِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَارْتَجَّتِ
الْكُوفَةُ، وَخَافَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ دَعَوْهُ
إِلَى حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، فَأَظْهَرَ التَّشَكِّي، فَلَمْ يَقْبَلُوا،
وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا بَغْدَادَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ
خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ وُجُوهُ
بَنِي هَاشِمٍ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَسَأَلُوهُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ
يَمْتَنِعُ، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ النَّاسُ بِهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ حَتَّى
أَجَابَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ
الْعَصْرِ يَوْمَئِذٍ. وَبُويِعَ لِوَلَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; مُوسَى
وَهَارُونَ الرَّشِيدِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ، فَجَلَسَ الْمَهْدِيُّ فِي قُبَّةٍ عَظِيمَةٍ فِي إِيوَانِ
الْخِلَافَةِ، وَدَخَلَ الْأُمَرَاءُ فَبَايَعُوا، ثُمَّ نَهَضَ الْمَهْدِيُّ
فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ ابْنُهُ مُوسَى الْهَادِي تَحْتَهُ، وَقَامَ عِيسَى
بْنُ مُوسَى عَلَى أَوَّلِ دَرَجَةٍ مِنْهُ، وَخَطَبَ الْمَهْدِيُّ،
فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا وَقَعَ مِنْ خَلْعِ عِيسَى بْنِ مُوسَى نَفْسَهُ، وَأَنَّهُ
قَدْ حَلَّلَ النَّاسَ مِنَ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَهُ فِي أَعْنَاقِهِمْ،
وَجَعَلَ ذَلِكَ إِلَى مُوسَى الْهَادِي، فَصَدَّقَ عِيسَى بْنُ مُوسَى ذَلِكَ،
وَبَايَعَ الْمَهْدِيَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَهَضَ النَّاسُ فَبَايَعُوا
الْخَلِيفَةَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ وَأَسْنَانِهِمْ، وَكَتَبَ عَلَى عِيسَى
بْنِ مُوسَى مَكْتُوبًا مُؤَكَّدًا بِالْأَيْمَانِ الْبَالِغَةِ مِنَ الطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ
وَأَعْيَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِيهَا وَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شِهَابٍ الْمِسْمَعِيُّ مَدِينَةَ بَارْبَدَ
مِنَ الْهِنْدِ فِي جَحْفَلٍ
كَثِيرٍ مَعَهُ، فَحَاصَرُوهَا
وَنَصَبُوا عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، وَرَمَوْهَا بِالنِّفْطِ، فَأَحْرَقُوا
مِنْهَا طَائِفَةً، وَهَلَكَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَفَتَحُوهَا
عَنْوَةً وَأَرَادُوا الِانْصِرَافَ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ; لِاغْتِلَامِ
الْبَحْرِ، فَأَقَامُوا هُنَالِكَ، فَأَصَابَهُمْ دَاءٌ فِي أَفْوَاهِهِمْ يُقَالُ
لَهُ: حُمَامُ قُرٍّ. فَمَاتَ مِنْهُمْ أَلْفُ نَفْسٍ، مِنْهُمُ الرَّبِيعُ بْنُ
صُبَيْحٍ، فَلَمَّا أَمْكَنَهُمُ الْمَسِيرُ رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ، فَهَاجَتْ
عَلَيْهِمْ رِيحٌ، فَغَرِقَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ أَيْضًا، وَوَصَلَ بَقِيَّتُهُمْ
إِلَى الْبَصْرَةِ وَمَعَهُمْ سَبْيٌّ كَثِيرٌ، فِيهِمْ بِنْتُ مَلِكِهِمْ.
وَفِيهَا حَكَمَ الْمَهْدِيُّ بِإِلْحَاقِ نَسَبِ وَلَدِ أَبِي بَكْرَةَ
الثَّقَفِيِّ إِلَى وَلَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَقَطَعَ نَسَبَهُمْ مِنْ ثَقِيفٍ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ كِتَابًا إِلَى وَالِي
الْبَصْرَةِ، وَقَطَعَ نَسَبَهُ مِنْ زِيَادٍ وَمِنْ نَسَبِ نَافِعٍ، فَفِي ذَلِكَ
يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ خَالِدٌ النَّجَّارُ:
إِنَّ زِيَادًا وَنَافِعًا وَأَبَا بَكْرَةَ عِنْدِي مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ ذَا
قُرَشِيٌّ كَمَا يَقُولُ وَذَا
مَوْلًى وَهَذَا بِزَعْمِهِ عَرَبِيٌّ
فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ نَائِبَ الْبَصْرَةِ لَمْ يُنَفِّذْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ
ابْنَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ وَخَلْقًا مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ يَعْقُوبُ
بْنُ دَاوُدَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَمَكَانَتِهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الْخَادِمِ، فَلَحِقَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ،
فَاسْتَأْمَنَ لَهُ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ، فَأَحْسَنَ الْمَهْدِيُّ
صِلَتَهُ، وَأَجْزَلَ جَائِزَتَهُ،
وَفَرَّقَ الْمَهْدِيُّ فِي أَهْلِ مَكَّةَ مَالًا عَظِيمًا جِدًّا، وَكَانَ قَدْ
قَدِمَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمِائَةِ أَلْفِ ثَوْبٍ،
وَجَاءَ مِنْ مِصْرَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْيَمَنِ مِائَتَا
أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَشَكَتِ الْحَجَبَةُ إِلَى الْمَهْدِيِّ أَنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى الْكَعْبَةِ
أَنْ تَنْهَدِمَ مِنْ كَثْرَةِ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْكَسَاوِي، فَأَمَرَ
بِتَجْرِيدِهَا مِنَ الْكُسْوَةِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى كَسَاوِي هِشَامِ
بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَجَدَهَا مِنْ دِيبَاجٍ ثَخِينٍ جِدًّا، وَبَقِيَّةُ
كَسَاوِي الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْيَمَنِ،
فَلَمَّا جَرَّدَهَا طَلَاهَا بِالْخَلُوقِ، وَكَسَاهَا كُسْوَةً حَسَنَةً جِدًّا،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَفْتَى مَالِكًا فِي إِعَادَةِ الْكَعْبَةِ إِلَى مَا
كَانَ بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ مَوْضِعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ
يَوَدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَالِكٌ:
دَعْهَا عَلَى حَالِهَا; فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ
مَلْعَبَةً. فَتَرَكَهَا كَمَا كَانَتْ.
وَحَمَلَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ الثَّلْجَ إِلَى
مَكَّةَ، فَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ حُمِلَ لَهُ الثَّلْجُ إِلَيْهَا. وَلَمَّا
دَخَلَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ وَسَّعَ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيِّ، وَكَانَ
فِيهِ مَقْصُورَةٌ، فَأَزَالَهَا. وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الْمِنْبَرِ مَا
كَانَ زَادَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: إِنَّهُ
يَخْشَى أَنْ يَنْكَسِرَ الْخَشَبُ الْعَتِيقُ إِذَا زُعْزِعَ. فَتَرَكَهُ فَلَمْ
يَتَعَرَّضْ لَهُ.
وَتَزَوَّجَ مِنَ الْمَدِينَةِ رُقَيَّةَ بِنْتَ عَمْرٍو الْعُثْمَانِيَّةَ،
وَانْتَخَبَ مِنْ أَهْلِهَا مِنَ الْأَنْصَارِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ أَعْيَانِهَا
لِيَكُونُوا حَوْلَهُ حَرَسًا بِالْعِرَاقِ وَأَنْصَارًا لَهُ، وَأَجْرَى
عَلَيْهِمْ أَرْزَاقًا غَيْرَ أُعْطِيَاتِهِمْ، وَأَقْطَعَهُمْ أَقْطَاعًا
مَعْرُوفَةً بِهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، وَسُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، أَحَدُ أَصْحَابِ
الزُّهْرِيِّ، وَشُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ الْوَرْدِ الْعَتَكِيُّ
الْأَزْدِيُّ أَبُو بِسِطَامٍ الْوَاسِطِيُّ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
رَأَى شُعْبَةُ الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ، وَرَوَى عَنْ أُمَمٍ مِنَ
التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنْ مَشَايِخِهِ وَأَقْرَانِهِ
وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ شَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ الْمُلَقَّبُ فِيهِمْ
بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَهُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ. وَكَانَ فِي غَايَةِ
الْوَرَعِ وَالزُّهْدِ وَالتَّقَشُّفِ وَالْحِفْظِ وَحُسْنِ الطَّرِيقَةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَاهُ مَا عُرِفَ الْحَدِيثُ بِالْعِرَاقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: كَانَ أُمَّةً وَحْدَهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَمْ
يَكُنْ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا حُجَّةً، صَاحِبَ
حَدِيثٍ.
وَقَالَ وَكِيعٌ: إِنِّي لَأَرْجُو
أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ لِشُعْبَةَ فِي الْجَنَّةِ دَرَجَاتٍ بِذَبِّهِ عَنْ
حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ: كَانَ شُعْبَةُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ
فِي الرِّجَالِ، وَتَبِعَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ، ثُمَّ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْ مَالِكٍ، وَلَا أَشَدَّ
تَقَشُّفًا مِنْ شُعْبَةَ، وَلَا أَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ مِنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ،
وَلَا أَحْفَظَ لِلْحَدِيثِ مِنَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: مَا دَخَلْتُ عَلَى شُعْبَةَ فِي وَقْتِ
صَلَاةٍ إِلَّا وَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي، وَكَانَ أَبَا الْفُقَرَاءِ وَأُمَّهُمْ.
وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: مَا رَأَيْتُ أَرْحَمَ بِمِسْكِينٍ مِنْهُ،
كَانَ إِذَا رَأَى مِسْكِينًا لَا يَزَالُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى يَغِيبَ
عَنْهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ مِنْهُ; لَقَدْ عَبَدَ اللَّهَ حَتَّى
لَصِقَ جِلْدُهُ بِعَظْمِهِ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ: مَا رَأَيْتُ أَرَقَّ لِلْمِسْكِينِ مِنْهُ، كَانَ
يُدْخِلُ الْمِسْكِينَ مَنْزِلَهُ فَيُعْطِيهِ مَا أَمْكَنَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ بِالْبَصْرَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ ثُمَامَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَنَزَلَ دَابِقَ،
وَجَاشَتِ الرُّومُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الدُّخُولِ
إِلَيْهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِحَفْرِ الرَّكَايَا وَعَمَلِ الْمَصَانِعِ
وَبِنَاءِ الْقُصُورِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ يَقْطِينَ بْنَ
مُوسَى، فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ فِي ذَلِكَ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَمِائَةٍ، حَتَّى صَارَتْ طَرِيقُ الْحِجَازِ مِنْ أَرْفَقِ الطُّرُقَاتِ
وَآمَنِهَا وَأَطْيَبِهَا.
وَفِيهَا وَسَّعَ الْمَهْدِيُّ جَامِعَ الْبَصْرَةِ مِنْ قِبْلَتِهِ وَغَرْبِهِ.
وَفِيهَا كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ أَنْ لَا تَبْقَى مَقْصُورَةٌ فِي مَسْجِدِ
جَمَاعَةٍ، وَأَنْ تُقَصَّرَ الْمَنَابِرُ إِلَى مِقْدَارِ مَا كَانَ مِنْبَرُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفُعِلَ ذَلِكَ فِي
الْمَدَائِنِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا اتَّضَعَتْ مَنْزِلَةُ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ وَزِيرِ الْمَهْدِيِّ
عِنْدَهُ، وَظَهَرَتْ عِنْدَهُ خِيَانَتُهُ، فَضَمَّ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ مَنْ
يُشْرِفُ عَلَيْهِ، فَكَانَ مِمَّنْ ضُمَّ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ،
ثُمَّ أَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مُعَسْكَرِهِ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ الْأَزْدِيُّ، فَكَانَ
يَحْكُمُ هُوَ وَابْنُ عُلَاثَةَ فِي عَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ بِالرُّصَافَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
الْمُقَنَّعُ. بِخُرَاسَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مَرْوَ، وَكَانَ يَقُولُ
بِالتَّنَاسُخِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ضَلَالَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَجَهَّزَ لَهُ
الْمَهْدِيُّ عِدَّةً مِنْ أُمَرَائِهِ، وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ جُيُوشًا كَثِيرَةً،
مِنْهُمْ مُعَاذُ بْنُ مُسْلِمٍ أَمِيرُ خُرَاسَانَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ
وَأَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُوسَى الْهَادِي ابْنُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِ أَبِيهِ، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيُّ، وَزَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
مَسْرُوقٍ الثَّوْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُبَّادِهِ
وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيُّ، رَوَى عَنْ غَيْرِ
وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ
وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو عَاصِمٍ وَيَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفٍ وَمِائَةِ شَيْخٍ، هُوَ
أَفْضَلُهُمْ.
وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا رَأَيْتُ
كُوفِيًّا أُفَضِّلُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: سَادَ فِي النَّاسِ بِالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ; ابْنُ
عَبَّاسٍ فِي زَمَانِهِ، وَالشَّعْبِيُّ فِي زَمَانِهِ، وَالثَّوْرِيُّ فِي
زَمَانِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَا يَتَقَدَّمُهُ فِي قَلْبِي أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ:
أَتَدْرِي مَنِ الْإِمَامُ؟ الْإِمَامُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَا اسْتَوْدَعْتُ
قَلْبِي شَيْئًا قَطُّ فَخَانَنِي.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَأَنْ أَتْرُكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ يُحَاسِبُنِي
اللَّهُ عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْتَاجَ إِلَى النَّاسِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَجْمَعُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، سَنَةَ
إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ.
وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
أَرْبَعًا وَسِتِّينَ سَنَةً. وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ يَطِيرُ فِي
الْجَنَّةِ مِنْ نَخْلَةٍ إِلَى نَخْلَةٍ، وَهُوَ يَقْرَأُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ
حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [ الزُّمَرِ: 74 ].
أَبُو دُلَامَةَ
زَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، أَحَدُ الظُّرَفَاءِ، أَصْلُهُ
مِنَ الْكُوفَةِ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَحَظِيَ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ; لِأَنَّهُ كَانَ يُضْحِكُهُ، وَيُنْشِدُهُ وَيَمْدَحُهُ; حَضَرَ
يَوْمًا جِنَازَةَ امْرَأَةِ الْمَنْصُورِ وَابْنَةِ عَمِّهِ حَمَّادَةَ بِنْتِ
عِيسَى، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدْ وَجِدَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا شَهِدَ الْقَبْرَ
نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَنْصُورُ ثُمَّ قَالَ لِأَبِي دُلَامَةَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا
دُلَامَةَ ! مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا؟ فَقَالَ: ابْنَةَ عَمِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَضَحِكَ الْمَنْصُورُ حَتَّى اسْتَلْقَى، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! فَضَحْتَنَا
بَيْنَ النَّاسِ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ يُهَنِّئُهُ بِقُدُومِهِ مِنْ سَفَرِهِ
وَأَنْشَدَهُ:
إِنِّي حَلَفْتُ لَئِنْ رَأَيْتُكُ سَالِمًا بِقُرَى الْعِرَاقِ وَأَنْتَ ذُو
وَفْرِ لَتُصَلِّيَنَّ عَلَى النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ
وَلَتَمْلَأَنَّ دَرَاهِمًا حِجْرِي
فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا.
فَقَالَ: هُمَا كَلِمَتَانِ فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا. فَمَلَأَ حِجْرَهُ
دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: قُمْ. فَقَالَ: إِذًا يَنْخَرِقُ قَمِيصِي.
فَأُفْرِغَتْ فِي أَكْيَاسِهَا، ثُمَّ قَامَ وَأَخَذَهَا.
وَذَكَرَ عَنْهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
أَنَّهُ مَرِضَ ابْنُهُ فَدَاوَاهُ طَبِيبٌ، فَلَمَّا عُوفِيَ قَالَ لَهُ: لَيْسَ
عِنْدَنَا مَا نُعْطِيكَ، وَلَكِنِ ادَّعِ عَلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ بِمَبْلَغِ
مَا تَسْتَحِقُّهُ; حَتَّى أَشْهَدَ أَنَا وَوَلَدِي عَلَيْهِ. فَادَّعَى عَلَيْهِ
عِنْدَ قَاضِي الْكُوفَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى
- وَقِيلَ: ابْنُ شُبْرُمَةَ - فَأَنْكَرَ الْيَهُودِيُّ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَبُو
دُلَامَةَ وَابْنُهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ شَهَادَتَهُمَا،
وَخَافَ مِنْ طَلَبِ التَّزْكِيَةِ، فَأَعْطَى الْمُدَّعِي الْمَالَ مِنْ
عِنْدِهِ، وَأَطْلَقَ الْيَهُودِيَّ، وَجَمَعَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمَصَالِحِ.
تُوُفِّيَ أَبُو دُلَامَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ
خِلَافَةَ الرَّشِيدِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ هَاشِمٍ الْيَشْكُرِيُّ بِأَرْضِ
قِنِّسْرِينَ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، فَقَاتَلَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَجَهَّزَ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ جُيُوشًا، وَأَنْفَقَ
فِيهِمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَهَزَمَ الْخَارِجِيُّ الْجُيُوشَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ
إِنَّهُ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا
مِنَ الْمُرْتَزِقَةِ سِوَى الْمُطَّوِّعَةِ، فَقَهَرَ الرُّومَ، وَحَرَقَ
بُلْدَانًا كَثِيرَةً وَخَرَّبَهَا، وَأَسَرَ خَلْقًا مِنَ الذَّرَارِي.
وَكَذَلِكَ غَزَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ
بَابِ قَالِيقَلَا، فَغَنَمَ وَسَلِمَ وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا خَرَجَتْ طَائِفَةٌ بِجُرْجَانَ، فَلَبِسُوا الْحُمْرَةَ; وَلِهَذَا
يُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ. مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْقَهَّارِ.
فَغَزَاهُ عُمَرُ بْنُ الْعَلَاءِ مِنْ طَبَرِسْتَانَ، فَقَهَرَ عَبْدَ
الْقَهَّارِ، فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ.
وَفِيهَا أَجْرَى الْمَهْدِيُّ الْأَرْزَاقَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ
وَالْآفَاقِ عَلَى الْمُجَذَّمِينَ
وَالْمُحْبَسِينَ، وَهَذِهِ مَثُوبَةٌ
عَظِيمَةٌ وَمَكْرُمُةٌ جَسِيمَةٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْعُبَّادِ، وَمِنْ أَكَابِرِ
مَنْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ مِنَ الْعُبَّادِ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، أَحَدُ
أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَيَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
التُّسْتَرِيُّ.
فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ،
أَبُو إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ، وَيُقَالُ: الْعِجْلِيُّ. فَهُوَ أَحَدُ
الزُّهَّادِ، أَصْلُهُ مِنْ بَلْخَ. وَسَكَنَ الشَّامَ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ،
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَعْمَشِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ
صَاحِبِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، وَخَلْقٍ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنْهُمْ; بَقِيَّةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ
الْفَزَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرٍ، وَحَكَى عَنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْجَزَرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي جَالِسًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، إِنَّكَ تُصَلِّي جَالِسًا، فَمَا أَصَابَكَ؟ قَالَ: " الْجُوعُ يَا
أَبَا هُرَيْرَةَ ". قَالَ: فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: " لَا تَبْكِ; فَإِنَّ
شِدَّةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُصِيبُ الْجَائِعَ إِذَا احْتَسَبَ فِي دَارِ
الدُّنْيَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، حَدَّثَنِي أَبُو
إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الْفِتْنَةَ تَجِيءُ فَتَنْسِفُ الْعِبَادَ نَسْفًا، وَيَنْجُو الْعَالِمُ مِنْهَا
بِعِلْمِهِ.
قَالَ النَّسَائِيُّ: هُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ، أَحَدُ الزُّهَّادِ.
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي " رِسَالَتِهِ
" أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ،
فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَصَيَّدُ إِذْ أَتْبَعَ ثَعْلَبًا أَوْ أَرْنَبًا، فَهَتَفَ
بِهِ هَاتِفٌ مِنْ قَرَبُوسِ سَرْجِهِ: أَلِهَذَا خُلِقْتَ أَمْ بِهَذَا أُمِرْتَ؟
فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَجَاءَ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ لِأَبِيهِ، فَأَخَذَ جُبَّةً
مِنْ صُوفٍ فَلَبِسَهَا، وَأَعْطَاهُ فَرَسَهُ وَلِبَاسَهُ وَمَا كَانَ مَعَهُ، وَذَهَبَ
فِي الْبَادِيَةِ، فَدَخَلَ مَكَّةَ، وَصَحِبَ الثَّوْرِيَّ، وَالْفُضَيْلَ بْنَ
عِيَاضٍ، وَدَخَلَ الشَّامَ وَمَاتَ
بِهَا.
وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، مِثْلَ الْحَصَادِ، وَحِفْظِ الْبَسَاتِينِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَإِنَّهُ رَأَى فِي الْبَادِيَةِ رَجُلًا عَلَّمَهُ اسْمَ
اللَّهِ الْأَعْظَمَ، فَدَعَا بِهِ بَعْدَهُ، فَرَأَى الْخَضِرَ، فَقَالَ:
إِنَّمَا عَلَّمَكَ أَخِي دَاوُدُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ. ثُمَّ سَاقَهُ
الْقُشَيْرِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ لَا يَصِحُّ. وَرَوَاهَا ابْنُ عَسَاكِرَ
أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ إِلْيَاسَ هُوَ
عَلَّمَكَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ كَبِيرَ الشَّأْنِ فِي
بَابِ الْوَرِعِ، وَيُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَطِبْ مَطْعَمَكَ، وَلَا
عَلَيْكَ أَنْ لَا تَقُومَ اللَّيْلَ، وَتَصُومَ النَّهَارَ.
وَقِيلَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ انْقُلْنِي مِنْ ذُلِّ
مَعْصِيَتِكَ إِلَى عِزِّ طَاعَتِكَ.
وَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: إِنَّ اللَّحْمَ قَدْ غَلَا. فَقَالَ:
أَرْخِصُوهُ. أَيْ لَا تَشْتَرُوهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَتَفَ بِهِ الْهَاتِفُ قَائِلًا لَهُ مِنْ فَوْقِهِ: يَا
إِبْرَاهِيمُ، مَا هَذَا
الْعَبَثُ؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ:
115 ]. اتَّقِ اللَّهَ، وَعَلَيْكَ بِالزَّادِ لِيَوْمِ الْفَاقَةِ. قَالَ:
فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ، وَرَفَضَ الدُّنْيَا، وَأَخَذَ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ - بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ - عَنِ ابْتِدَاءِ أَمْرِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا يَوْمًا فِي مَنْظَرَةٍ لِي
بِبَلْخَ، وَإِذَا بِشَيْخٍ حَسَنٍ قَدِ اسْتَظَلَّ بِفَيْئِهَا، فَأَخَذَ
بِمَجَامِعِ قَلْبِي، فَأَمَرْتُ غُلَامِي، فَطَلَبَهُ فَدَخَلَ، فَعَرَضْتُ
عَلَيْهِ الطَّعَامَ، فَأَبَى، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ
وَرَاءِ النَّهْرِ. قُلْتُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْحَجَّ. قُلْتُ: فِي هَذَا
الْوَقْتِ؟ - وَكَانَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ ثَانِيَهُ -
فَقَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. فَقُلْتُ: الصُّحْبَةَ. قَالَ: إِنْ
أَحْبَبْتَ ذَلِكَ فَمَوْعِدُكَ اللَّيْلُ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَنِي
فَقَالَ: قُمْ بِسْمِ اللَّهِ. فَأَخَذْتُ ثِيَابَ سَفَرِي، وَسِرْنَا نَمْشِي
كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُجْذَبُ مِنْ تَحْتِنَا، وَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَى
الْبُلْدَانِ، وَنَقُولُ هَذِهِ فُلَانَةُ، هَذِهِ فُلَانَةُ. فَإِذَا كَانَ
الصَّبَاحُ فَارَقَنِي وَيَقُولُ: مَوْعِدُكَ اللَّيْلُ. فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ
جَاءَنِي، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَزُرْنَا قَبْرَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ سِرْنَا إِلَى مَكَّةَ،
فَجِئْنَاهَا لَيْلًا، فَقَضَيْنَا الْحَجَّ مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى
الشَّامِ، فَزُرْنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ: إِنِّي عَازِمٌ عَلَى
الْمُقَامِ بِالشَّامِ. وَرَجَعْتُ أَنَا إِلَى بَلَدِي بَلْخَ أَسِيرُ سَيْرَ
الضُّعَفَاءِ، حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْهَا، وَلَمْ أَسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ،
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ أَمْرِي. وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِيهِ نَظَرٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ قَالَ: كَانَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يُشْبِهُ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، وَلَوْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ لَكَانَ رَجُلًا
فَاضِلًا.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ رَجُلًا فَاضِلًا،
لَهُ سَرَائِرُ، وَمَا رَأَيْتُهُ يُظْهِرُ تَسْبِيحًا وَلَا شَيْئًا مِنْ
عَمَلِهِ، وَلَا أَكَلَ مَعَ أَحَدٍ طَعَامًا إِلَّا كَانَ آخِرَ مَنْ يَرْفَعُ
يَدَهُ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: أَرْبَعَةٌ رَفَعَهُمُ اللَّهُ بِطِيبِ
الْمَطْعَمِ; إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، وَسُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ، وَوُهَيْبُ
بْنُ الْوَرْدِ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: إِنَّمَا
سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مِنْ مَنْصُورٍ حَدِيثًا، فَأَخَذَ بِهِ،
فَسَادَ أَهْلَ زَمَانِهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ
حِرَاشٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُحِبُّنِي
اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّنِي النَّاسُ. قَالَ: " إِذَا أَرَدْتَ أَنْ
يُحِبَّكَ اللَّهُ فَأَبْغِضِ الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ يُحِبَّكَ
النَّاسُ فَمَا كَانَ عِنْدَكَ مِنْ فُضُولِهَا فَانْبِذْهُ إِلَيْهِمْ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ
إِدْرِيسَ قَالَ: جَلَسَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ إِلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ
فَجَعَلُوا يَتَذَاكَرُونَ الْحَدِيثَ وَإِبْرَاهِيمُ سَاكِتٌ، ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ. ثُمَّ سَكَتَ، فَلَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ حَتَّى قَامَ مِنْ
ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي
لَأَخْشَى مَضَرَّةَ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ
فِي قَلْبِي إِلَى هَذَا الْيَوْمِ.
وَقَالَ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ: مَرَّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ
بِالْأَوْزَاعِيِّ، وَحَوْلَهُ حَلْقَةٌ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ هَذِهِ الْحَلْقَةَ
عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ لَعَجَزَ عَنْهُمْ. فَقَامَ الْأَوْزَاعِيُّ وَتَرَكَهُمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ: قِيلَ لِابْنِ أَدْهَمَ: لِمَ لَا تَكْتُبُ
الْحَدِيثَ؟ فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِثَلَاثٍ; بِالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ،
وَبِالِاسْتِغْفَارِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَبِالِاسْتِعْدَادِ لِلْمَوْتِ. ثُمَّ
صَاحَ وَغُشِيَ عَلَيْهِ، فَسَمِعُوا هَاتِفًا يَقُولُ: لَا تَدْخُلُوا بَيْنِي
وَبَيْنَ أَوْلِيَائِي.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَوْمًا لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: قَدْ رُزِقْتَ
مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْئًا صَالِحًا، فَلْيَكُنِ الْعِلْمُ مِنْ بَالِكَ;
فَإِنَّهُ رَأَسُ الْعِبَادَةِ وَقِوَامُ الدِّينِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَاذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ!
لَا يَسْأَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ زَكَاةٍ، وَلَا عَنْ حَجٍّ، وَلَا عَنْ
جِهَادٍ، وَلَا عَنْ صِلَةِ رَحِمٍ، إِنَّمَا يَسْأَلُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ.
يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ.
وَقَالَ شَقِيقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: لَقِيتُ ابْنَ أَدْهَمَ بِالشَّامِ، وَقَدْ
كُنْتُ رَأَيْتُهُ بِالْعِرَاقِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثُونَ شَاكِرِيًّا.
فَقُلْتُ لَهُ: تَرَكْتَ خُرَاسَانَ، وَخَرَجْتَ مِنْ
نِعْمَتِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ تَهَنَّيْتُ
بِالْعَيْشِ هَاهُنَا، أَفِرُّ بِدِينِي مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، فَمَنْ
يَرَانِي يَقُولُ: مُوَسْوَسٌ. أَوْ: حَمَّالٌ. أَوْ: مَلَّاحٌ. ثُمَّ قَالَ:
بَلَغَنِي أَنَّهُ يُؤْتَى بِالْفَقِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُوقَفُ بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا عَبْدِي، مَا لَكَ لَمْ
تَحُجَّ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَمْ تُعْطِنِي شَيْئًا أَحُجُّ بِهِ. فَيَقُولُ
اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عَبْدِي، اذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: أَقَمْتُ بِالشَّامِ أَرْبَعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً لَمْ أَجِئْ لِجِهَادٍ وَلَا رِبَاطٍ، إِنَّمَا جِئْتُ
لِأَشْبَعَ مِنْ خُبْزِ الْحَلَالِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: الْحُزْنُ حُزْنَانِ; حُزْنٌ لَكَ وَحُزْنٌ
عَلَيْكَ; فَحُزْنُكَ عَلَى الْآخِرَةِ وَخَيْرِهَا لَكَ، وَحُزْنُكَ عَلَى
الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا عَلَيْكَ.
وَقَالَ: الزُّهْدُ ثَلَاثَةٌ، وَاجِبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ، وَزُهْدُ سَلَامَةٍ،
فَالزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَالزُّهْدُ عَنِ الشَّهَوَاتِ الْحَلَالِ
مُسْتَحَبٌّ، وَالزُّهْدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ سَلَامَةٌ.
وَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمُ الْحَمَّامَ وَالْمَاءَ
الْبَارِدَ وَالْحِذَاءَ، وَلَا يَجْعَلُونَ فِي مِلْحِهِمْ أَبْزَارًا.
وَكَانَ إِذَا جَلَسَ عَلَى سُفْرَةٍ فِيهَا طَعَامٌ طَيِّبٌ رَمَى بِطَيِّبِهَا
إِلَى أَصْحَابِهِ، وَأَكَلَ
هُوَ الْخَبْزَ وَالزَّيْتُونَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: قِلَّةُ الْحِرْصِ وَالطَّمَعُ تُوَرِّثُ
الصِّدْقَ وَالْوَرَعَ، وَكَثْرَةُ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ تُوَرِّثُ الْغَمَّ
وَالْجَزَعَ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: هَذِهِ جُبَّةٌ أُحِبُّ أَنْ تَقْبَلَهَا مِنِّي. فَقَالَ:
إِنْ كُنْتَ غَنِيًّا قَبِلْتُهَا، وَإِنْ كُنْتَ فَقِيرًا لَمْ أَقْبَلْهَا.
قَالَ: أَنَا غَنِيٌّ. قَالَ: كَمْ عِنْدَكَ؟ قَالَ: أَلْفَانِ. قَالَ: تَوَدُّ
أَنْ تَكُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ فَقِيرٌ لَا
أَقْبَلُهَا.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: لَوْ تَزَوَّجْتَ؟! فَقَالَ: لَوْ أَمْكَنَنِي أَنْ
أُطَلِّقَ نَفْسِي لَطَلَّقْتُهَا.
وَمَكَثَ بِمَكَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا شَيْءَ مَعَهُ، فَلَمْ يَكُنْ
لَهُ زَادٌ سِوَى الرَّمْلِ بِالْمَاءِ.
وَصَلَّى بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ خَمْسَ عَشْرَةَ صَلَاةً.
وَأَكَلَ يَوْمًا عَلَى حَافَّةِ الشَّرِيعَةِ كُسَيْرَاتٍ مَبْلُولَةً، وَضَعَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو يُوسُفَ الْغَسُولِيُّ، ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ مِنَ
الشَّرِيعَةِ، ثُمَّ جَاءَ فَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَقَالَ: يَا أَبَا
يُوسُفَ، لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ
النَّعِيمِ لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ عَلَى مَا نَحْنُ
فِيهِ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ. فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: طَلَبَ الْقَوْمُ
الرَّاحَةَ
وَالنَّعِيمَ فَأَخْطَئُوا الطَّرِيقَ
الْمُسْتَقِيمَ. فَتَبَسَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا
الْكَلَامُ؟
وَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا بِالْمِصِّيصَةِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ
جَاءَهُ رَاكِبٌ فَقَالَ: أَيُّكُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ؟ فَأُرْشِدَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، أَنَا غُلَامُكَ، وَإِنَّ أَبَاكَ قَدْ مَاتَ
وَتَرَكَ مَالًا هُوَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَقَدْ جِئْتُكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ
دِرْهَمٍ لِتُنْفِقَهَا عَلَيْكَ إِلَى بَلْخَ، وَفَرَسٍ وَبَغْلَةٍ. فَسَكَتَ
إِبْرَاهِيمُ طَوِيلًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ صَادِقًا
فَالدَّرَاهِمُ وَالْفَرَسُ وَالْبَغْلَةُ لَكَ، وَلَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا.
وَيُقَالُ إِنَّهُ ذَهَبَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى بَلْخَ، وَأَخَذَ الْمَالَ مِنَ
الْحَاكِمِ، وَجَعَلَهُ كُلَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَكَانَ مَعَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَمَكَثُوا شَهْرَيْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ
شَيْءٌ يَأْكُلُونَهُ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: ادْخُلْ إِلَى هَذِهِ
الْغَيْضَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ. قَالَ: فَدَخَلْتُ فَوَجَدْتُ
شَجَرَةً عَلَيْهَا خَوْخٌ كَثِيرٌ، فَمَلَأْتُ مِنْهُ جِرَابِي، ثُمَّ خَرَجْتُ،
فَقَالَ: مَا مَعَكَ؟ فَقُلْتُ: خَوْخٌ. فَقَالَ: يَا ضَعِيفَ الْيَقِينِ، لَوْ
صَبَرْتَ لَوَجَدْتَ رُطَبًا جَنِيًّا، كَمَا رُزِقَتْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ.
وَشَكَا إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ الْجُوعَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا
حَوْلَهُ دَنَانِيرُ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: خُذْ مِنْهَا دِينَارًا.
فَأَخَذَهُ وَاشْتَرَى لَهُمْ بِهِ طَعَامًا.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِالْفَاعِلِ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَشْتَرِي
الْخَبْزَ الْأَبْيَضَ وَالزُّبْدَ، وَتَارَةً الشِّوَاءَ وَالْجُوذَابَاتِ، وَالْخَبِيصَ
فَيُطْعِمُهُ أَصْحَابَهُ وَهُوَ صَائِمٌ، فَإِذَا أَفْطَرَ
يَأْكُلُ مِنْ رَدِيءِ الطَّعَامِ،
وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ الْمَطْعَمَ الطَّيِّبَ لِيُؤْثِرَ بِهِ النَّاسَ; تَأْلِيفًا
لَهُمْ وَتَحَبُّبًا وَتَوَدُّدًا إِلَيْهِمْ.
وَأَضَافَ الْأَوْزَاعِيُّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ، فَقَصَّرَ إِبْرَاهِيمُ
فِي الْأَكْلِ، فَقَالَ: مَا لَكَ قَصَّرْتَ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ قَصَّرْتَ فِي
الطَّعَامِ. ثُمَّ عَمِلَ إِبْرَاهِيمُ طَعَامًا كَثِيرًا، وَدَعَا
الْأَوْزَاعِيَّ، فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَكُونَ سَرَفًا؟
فَقَالَ: لَا، إِنَّمَا السَّرَفُ مَا كَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا
أَنْفَقَهُ الرَّجُلُ عَلَى إِخْوَانِهِ، فَهُوَ مِنَ الدِّينِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ حَصَدَ مَرَّةً بِعِشْرِينَ دِينَارًا، فَجَلَسَ مَرَّةً عِنْدَ
حَجَّامٍ هُوَ وَصَاحِبٌ لَهُ لِيَحْلِقَ رُءُوسَهُمْ وَيَحْجِمَهُمْ، فَكَأَنَّهُ
تَبَرَّمَ بِهِمْ، وَاشْتَغَلَ عَنْهُمْ بِغَيْرِهِمْ، فَتَأَذَّى صَاحِبُهُ مِنْ
ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمُ الْحَجَّامُ فَقَالَ: مَاذَا تُرِيدُونَ؟ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ: أُرِيدُ أَنْ تَحْلِقَ رَأْسِي وَتَحْجِمَنِي. فَفَعَلَ ذَلِكَ،
فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ تِلْكَ الْعِشْرِينَ دِينَارًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنْ
لَا تُحَقِّرَ بَعْدَهَا فَقِيرًا أَبَدًا.
وَقَالَ مَضَاءُ بْنُ عِيسَى: مَا فَاقَ إِبْرَاهِيمُ أَصْحَابَهُ بِصَوْمٍ وَلَا
صَلَاةٍ، وَلَكِنْ بِالصَّدَقَةِ وَالسَّخَاءِ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يَقُولُ: فِرُّوا مِنَ النَّاسِ كَفِرَارِكُمْ
مِنَ الْأَسَدِ الضَّارِي، وَلَا تَخَلَّفُوا عَنِ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَكَانَ إِذَا سَافَرَ مَعَ أَحَدٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ يَخْدِمُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَكَانَ إِذَا حَضَرَ فِي مَجْلِسٍ
فَكَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ; هَيْبَةً لَهُ وَإِجْلَالًا.
وَرُبَّمَا تَسَامَرَ هُوَ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي اللَّيْلَةِ التَّامَّةِ
إِلَى الصَّبَاحِ، وَكَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَحَرَّزُ مَعَهُ فِي الْكَلَامِ.
وَرَأَى رَجُلًا، فَقِيلَ لَهُ: هَذَا قَاتِلُ خَالِكَ. فَذَهَبَ إِلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَهْدَى لَهُ، وَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ لَا
يَبْلُغُ دَرَجَةَ الْيَقِينِ حَتَّى يَأْمَنَهُ عَدُوُّهُ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: طُوبَى لَكَ; أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ فِي الْعِبَادَةِ،
وَتَرَكْتَ الدُّنْيَا وَالزَّوْجَاتِ. فَقَالَ: أَلَكَ عِيَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: لَرَوْعَةُ الرَّجُلِ بِعِيَالِهِ - يَعْنِي فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
مِنَ الْفَاقَةِ - أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ كَذَا وَكَذَا سَنَةً.
وَرَآهُ الْأَوْزَاعِيُّ بِبَيْرُوتَ وَعَلَى عُنُقِهِ حِزْمَةُ حَطَبٍ فَقَالَ:
يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّ إِخْوَانَكَ يَكْفُونَكَ هَذَا. فَقَالَ لَهُ: اسْكُتْ
يَا أَبَا عَمْرٍو، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ إِذَا وَقَفَ الرَّجُلُ مَوْقِفَ
مَذَلَّةٍ فِي طَلَبِ الْحَلَالِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
وَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ
بِطَبَرِيَّةَ، فَأَخَذَتْهُ الْمَسْلَحَةُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالُوا: أَنْتَ
عَبْدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: آبِقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَسَجَنُوهُ. فَبَلَغَ
أَهْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَبَرُهُ، فَجَاءُوا بِرُمَّتِهِمْ إِلَى نَائِبِ
طَبَرِيَةَ فَقَالُوا: عَلَامَ
سَجَنْتَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ؟
قَالَ: مَا سَجَنْتُهُ. قَالُوا: بَلَى، هُوَ فِي سِجْنِكَ. فَاسْتَحْضَرَهُ،
فَقَالَ: عَلَامَ حُبِسْتَ؟ فَقَالَ: سَلِ الْمَسْلَحَةَ، قَالُوا: أَنْتَ عَبْدٌ؟
قُلْتُ: نَعَمْ، وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ. قَالُوا: وَأَنْتَ آبِقٌ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ، وَأَنَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنْ ذُنُوبِي. فَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ مَرَّ مَعَ رُفْقَةٍ، فَإِذَا الْأَسَدُ عَلَى الطَّرِيقِ،
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فَقَالَ لَهُ: يَا قَسْوَرَةُ،
إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ فِينَا بِشَيْءٍ فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ، وَإِلَّا
فَعَوْدَكَ عَلَى بَدْئِكَ. قَالُوا: فَوَلَّى السَّبُعُ ذَاهِبًا يَضْرِبُ
بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ
احْرُسْنَا بِعَيْنِكَ الَّتِي لَا تَنَامُ، وَاكْنُفْنَا بِرُكْنِكَ الَّذِي لَا
يُرَامُ، وَارْحَمْنَا بِقُدْرَتِكَ عَلَيْنَا، وَلَا نَهْلِكُ وَأَنْتَ
رَجَاؤُنَا، يَا اللَّهُ، يَا اللَّهُ، يَا اللَّهُ. قَالَ خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ:
فَمَا زِلْتُ أَقُولُهَا مُنْذُ سَمِعْتُهَا فَمَا عَرَضَ لِي لِصٌّ وَلَا
غَيْرُهُ.
وَقَدْ رُوِيَ لِهَذَا شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَجَاءَهُ أُسْدٌ ثَلَاثَةٌ،
فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، فَشَمَّ ثِيَابَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ، فَرَبَضَ
قَرِيبًا مِنْهُ، وَجَاءَ الثَّانِي فَفَعَلَ مِثْلَ كَذَلِكَ، وَجَاءَ الثَّالِثُ
فَفَعَلَ كَذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ إِبْرَاهِيمُ فِي صِلَاتِهِ، فَلَمَّا كَانَ
وَقْتُ السَّحَرِ قَالَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ أُمِرْتُمْ بِشَيْءٍ فَهَلُمَّ،
وَإِلَّا فَانْصَرِفُوا. فَانْصَرَفُوا.
وَصَعِدَ مَرَّةً جَبَلًا بِمَكَّةَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ
أَنَّ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ
قَالَ لِجَبَلٍ: زُلْ. لَزَالَ.
فَتَحَرَّكَ الْجَبَلُ تَحْتَهُ، فَرَكَلَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: اسْكُنْ،
فَإِنَّمَا ضَرَبْتُكَ مَثَلًا لِأَصْحَابِي. وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ الْجَبَلُ
أَبَا قُبَيْسٍ.
وَرَكِبَ مَرَّةً سَفِينَةً، فَأَخَذَهُمُ الْمَوْجُ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ، فَلَفَّ إِبْرَاهِيمُ رَأْسَهُ بِكِسَائِهِ، وَاضْطَجَعَ، وَعَجَّ أَصْحَابُ
السَّفِينَةِ بِالضَّجِيجِ، وَأَيْقَظُوهُ، وَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ
فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ هَذِهِ شِدَّةً، إِنَّمَا الشِّدَّةُ
الْحَاجَةُ إِلَى النَّاسِ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَرَيْتَنَا قُدْرَتَكَ
فَأَرِنَا عَفْوَكَ. فَصَارَ الْبَحْرُ كَأَنَّهُ قَدَحُ زَيْتٍ.
وَكَانَ قَدْ طَالَبَهُ صَاحِبُ السَّفِينَةِ بِأُجْرَةِ حَمْلِهِ دِينَارَيْنِ،
وَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ مَعَهُ مَرَّةً إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ،
فَقَالَ: أَيْنَ الدِّينَارَانِ. فَتَوَضَّأَ إِبْرَاهِيمُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ
وَدَعَا، فَإِذَا مَا حَوْلَهُ قَدْ مُلِئَ دَنَانِيرَ، فَقَالَ لَهُ خُذْ
حَقَّكَ، وَلَا تَزِدْ، وَلَا تَذْكُرْ هَذَا لِأَحَدٍ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ الْمَرْعَشِيِّ قَالَ: أَوَيْتُ أَنَا وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
أَدْهَمَ إِلَى مَسْجِدٍ خَرَابٍ بِالْكُوفَةِ، وَكَانَ قَدْ مَضَى عَلَيْنَا
أَيَّامٌ لَمْ نَأْكُلْ فِيهَا شَيْئًا، فَقَالَ لِي: كَأَنَّكَ جَائِعٌ. قُلْتُ:
نَعَمْ. فَأَخَذَ رُقْعَةً فَكَتَبَ فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ، أَنْتَ الْمَقْصُودُ إِلَيْهِ بِكُلِّ حَالٍ، الْمُشَارُ إِلَيْهِ
بِكُلِّ مَعْنًى:
أَنَا حَامِدٌ أَنَا شَاكِرٌ أَنَا ذَاكِرٌ أَنَا جَائِعٌ أَنَا نَائِعٌ أَنَا
عَارِي
هِيَ سِتَّةٌ وَأَنَا الضَّمِينُ
لِنِصْفِهَا
فَكُنِ الضَّمِينَ لِنِصْفِهَا يَا بَارِي مَدْحِي لِغَيْرِكَ وَهْجُ نَارٍ
خُضْتُهَا
فَأَجِرْ عُبَيْدَكَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ
ثُمَّ قَالَ لِي: اخْرُجْ وَلَا تُعَلِّقْ قَلْبَكَ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَادْفَعْ
هَذِهِ الرُّقْعَةَ لِأَوَّلِ رَجُلٍ تَلْقَاهُ. فَخَرَجْتُ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى
بَغْلَةٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا بَكَى، وَدَفَعَ إِلَيَّ
سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ وَانْصَرَفْتُ فَسَأَلْتُ رَجُلًا: مَنْ هَذَا الَّذِي
عَلَى الْبَغْلَةِ؟ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ. فَجِئْتُ إِبْرَاهِيمَ،
فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: الْآنَ يَجِيءُ فَيُسْلِمُ. فَمَا كَانَ غَيْرَ قَرِيبٍ
حَتَّى جَاءَ، فَأَكَبَّ عَلَى رَأْسِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَسْلَمَ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: دَارُنَا أَمَامَنَا، وَحَيَاتُنَا بَعْدَ
وَفَاتِنَا، فَإِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ: مَثِّلْ لِبَصَرِ قَلْبِكَ حُضُورَ مَلَكِ
الْمَوْتِ وَأَعْوَانِهِ لَقَبْضِ رُوحِكَ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ، وَمَثِّلْ
لَهُ هَوْلَ الْمَطْلَعِ وَمُسَاءَلَةَ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَانْظُرْ كَيْفَ
تَكُونُ، وَمَثِّلْ لَهُ الْقِيَامَةَ وَأَهْوَالَهَا وَأَفْزَاعَهَا وَالْعَرْضَ
وَالْحِسَابَ، وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ. ثُمَّ صَرَخَ صَرْخَةً خَرَّ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ.
وَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يَضْحَكُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَطْمَعْ
فِيمَا لَا يَكُونُ، وَلَا تَيْأَسْ مِمَّا يَكُونُ. فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ هَذَا
يَا أَبَا إِسْحَاقَ؟ فَقَالَ: لَا تَطْمَعْ فِي الْبَقَاءِ وَالْمَوْتُ
يَطْلُبُكَ، فَكَيْفَ يَضْحَكُ مَنْ يَمُوتُ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ; إِلَى
جَنَّةٍ أَمْ إِلَى نَارٍ؟! وَلَا
تَيْأَسْ مِمَّا يَكُونُ، الْمَوْتُ يَأْتِيكَ صَبَاحًا أَوْ مَسَاءً. ثُمَّ
قَالَ: أَوَّهْ أَوَّهْ. ثُمَّ خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: مَا لَنَا نَشْكُو فَقْرَنَا إِلَى مِثْلِنَا، وَلَا نَسْأَلُ
كَشْفَهُ مِنْ رَبِّنَا. ثُمَّ يَقُولُ: ثَكِلَتْ عَبْدًا أَمُّهُ أَحَبَّ
الدُّنْيَا، وَنَسِيَ مَا فِي خَزَائِنِ مَوْلَاهُ.
وَقَالَ: إِذَا كُنْتَ بِاللَّيْلِ نَائِمًا، وَبِالنَّهَارِ هَائِمًا،
وَبِالْمَعَاصِي دَائِمًا، فَكَيْفَ يَرْضَى مَنْ هُوَ بِأَمْرِكَ قَائِمًا.
وَرَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِمَسْجِدِ بَيْرُوتَ وَهُوَ يَبْكِي، وَيَضْرِبُ
بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ ذَكَرْتُ يَوْمًا
تَنْقَلِبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ.
وَقَالَ: إِنَّكَ كُلَّمَا أَمْعَنْتَ النَّظَرَ فِي مِرْآةِ التَّوْبَةِ بَانَ
لَكَ قُبْحُ شَيْنِ الْمَعْصِيَةِ.
وَكَتَبَ إِلَى الثَّوْرِيِّ: مَنْ عَرَفَ مَا يَطْلُبُ هَانَ عَلَيْهِ مَا
يَبْذُلُ، وَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ طَالَ أَسَفُهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ أَمَلَهُ
سَاءَ عَمَلُهُ، وَمَنْ أَطْلَقَ لِسَانَهُ قَتَلَ نَفْسَهُ.
وَسَأَلَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ: مِنْ أَيْنَ مَعِيشَتُكَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا فَلَا دِينُنَا يَبْقَى وَلَا مَا
نُرَقِّعُ
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
لِمَا تُوعِدُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ
شُرُورِهَا يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُوضَعُ
وَإِلَّا فَمَا يُبْكِيهِ مِنْهَا وَإِنَّهَا لَأَرْوَحُ مِمَّا كَانَ فِيهِ
وَأَوْسَعُ
إِذَا أَبْصَرَ الدُّنْيَا اسْتَهَلَّ كَأَنَّمَا يَرَى مَا سَيَلْقَى مِنْ
أَذَاهَا وَيَسْمَعُ
وَكَانَ يَتَمَثَّلُ أَيْضًا بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ وَيُتْبِعُهَا الذَّلَ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُو بِ وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيَانُهَا
وَمَا أَهْلَكَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
وَبَاعُوا النُّفُوسَ فَلَمْ يَرْبَحُوا وَلَمْ يَغْلُ بِالْبَيْعِ أَثْمَانُهَا
لَقَدْ وَقَعَ الْقَوْمِ فِي جِيفَةٍ تَبِينُ لِذِي اللُّبِ أَنْتَانُهَا
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: إِنَّمَا يَتِمُّ الْوَرَعُ بِتَسْوِيَةِ
كُلِّ الْخَلْقِ فِي قَلْبِكَ، وَالِاشْتِغَالِ عَنْ عُيُوبِهِمْ بِذَنْبِكَ،
وَعَلَيْكَ بِاللَّفْظِ الْجَمِيلِ مِنْ قَلْبٍ ذَلِيلٍ لِرَبٍّ جَلِيلٍ، فَكِّرْ
فِي ذَنْبِكَ، وَتُبْ إِلَى رَبِّكَ يَثْبُتُ الْوَرَعُ فِي قَلْبِكَ، وَاقْطَعِ
الطَّمَعَ إِلَّا مِنْ رَبِّكَ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَيْسَ مِنْ أَعْلَامِ الْحُبِّ أَنْ تُحِبَّ مَا يُبْغِضُهُ
حَبِيبُكَ، ذَمَّ مَوْلَانَا
الدُّنْيَا فَمَدَحْنَاهَا،
وَأَبْغَضَهَا فَأَحْبَبْنَاهَا، وَزَهَّدَنَا فِيهَا فَآثَرْنَاهَا، وَرَغَّبَنَا
فِي طَلَبِهَا، وَوَعَدَكُمْ خَرَابَ الدُّنْيَا فَحَصَّنْتُمُوهَا، وَنَهَاكُمْ
عَنْ طَلَبِهَا فَطَلَبْتُمُوهَا، وَأَنْذَرَكُمُ الْكُنُوزَ فَكَنَزْتُمُوهَا،
دَعَتْكُمْ إِلَى هَذِهِ الْغَرَّارَةِ دَوَاعِيهَا، فَأَجَبْتُمْ مُسْرِعِينَ
مُنَادِيَهَا، خَدَعَتْكُمْ بِغُرُورِهَا، وَمَنَّتْكُمْ فَأَقْرَرْتُمْ
خَاضِعِينَ لِأَمَانِيِّهَا، تَتَمَرَّغُونَ فِي زَهَرَاتِهَا، وَتَتَنَعَّمُونَ
فِي لَذَّاتِهَا، وَتَتَقَلَّبُونَ فِي شَهَوَاتِهَا، وَتَتَلَوَّثُونَ
بِتَبِعَاتِهَا، تَنْبُشُونَ بِمَخَالِبِ الْحِرْصِ عَنْ خَزَائِنِهَا،
وَتَحْفِرُونَ بِمَعَاوِلِ الطَّمَعِ فِي مَعَادِنِهَا.
وَشَكَى رَجُلٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ كَثْرَةَ الْعِيَالِ فَقَالَ:
ابْعَثْ إِلَيَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا رِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: مَرَرْتُ فِي بَعْضِ جِبَالِ الشَّامِ
فَإِذَا بِحَجَرٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ:
كُلُّ حَيٍّ وَإِنْ بَقِيَ فَمِنَ الْعُمْرِ يَسْتَقِي
فَاعَمَلِ الْيَوْمَ وَاجْتَهِدْ وَاحْذَرِ الْمَوْتَ يَا شَقِي
فَبَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ أَقْرَأُ وَأَبْكِي، إِذَا بِرَجُلٍ أَشْعَثَ أَغْبَرَ
عَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ شَعْرٍ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: مِمَّ تَبْكِي؟ فَقُلْتُ:
مِنْ هَذَا. فَأَخَذَ بِيَدِي وَمَضَى غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ
مِثْلُ الْمِحْرَابِ فَقَالَ: اقْرَأْ وَابْكِ، وَلَا تُقَصِّرْ. وَقَامَ هُوَ
يُصَلِّي فَإِذَا فِي أَعْلَاهُ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
لَا تَبْتَغِي جَاهًا وَجَاهُكَ
سَاقِطٌ عِنْدَ الْمَلِيكِ وَكُنْ لِجَاهِكَ مُصْلِحًا
وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ نَقْشٌ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
مَنْ لَمْ يَثِقْ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ لَاقَى هُمُومًا كَثِيرَةَ الضَّرَرْ
وَفِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْهُ نَقْشُ بَيِّنٌ عَرَبِيٌّ:
مَا أَزْيَنَ التُّقَى، وَمَا أَقْبَحَ الْخَنَا
، وَكُلٌّ مَأْخُوذٌ بِمَا جَنَى، وَعِنْدَ اللَّهِ الْجَزَا
.
وَفِي أَسْفَلِ الْمِحْرَابِ فَوْقَ الْأَرْضِ بِذِرَاعٍ أَوْ أَكْثَرَ:
إِنَّمَا الْفَوْزُ وَالْغِنَى فِي تُقَى اللَّهِ وَالْعَمَلْ
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْتَفَتُّ فَإِذَا لَيْسَ الرَّجُلُ
هُنَاكَ، فَمَا أَدْرِي انْصَرَفَ أَوْ حُجِبَ عَنِّي؟
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: أَثْقَلُ الْأَعْمَالِ فِي الْمِيزَانِ
أَثْقَلُهَا عَلَى الْأَبْدَانِ، وَمَنْ وَفَّى الْعَمَلَ وُفِّيَ لَهُ الْأَجْرُ،
وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ رَحَلَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ بِلَا قَلِيلٍ
وَلَا كَثِيرٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: كُلُّ سُلْطَانٍ لَا يَكُونُ عَادِلًا فَهُوَ وَاللِّصُّ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ عَالَمٍ لَا يَكُونُ وَرِعًا فَهُوَ وَالذِّئْبُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ مَنْ خَدَمَ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ وَالْكَلْبُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: أَعْرَبْنَا فِي
الْمَقَالِ حَتَّى لَمْ نَلْحَنْ، وَلَحَنَّا فِي الْفِعَالِ حَتَّى لَمْ
نُعْرِبُ.
وَقَالَ: كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الشَّابَّ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَجْلِسِ أَيِسْنَا
مِنْ خَيْرِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَصْحَابِهِ: جَانِبُوا النَّاسَ، وَلَا تَنْقَطِعُوا عَنْ
جُمْعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو
مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رَامِينَ
الْإِسْتَرَابَاذِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُمَيْدِيُّ
الشِّيرَازِيُّ، أَنْبَأَنَا الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُرَّزَادَ
الْأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ، سَمِعْتُ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ يَقُولُ:
سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ الْحَافِي يَقُولُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ:
وَقَفْتُ عَلَى رَاهِبٍ فِي جَبَلِ لُبْنَانَ، فَأَشْرَفَ عَلَيَّ فَقُلْتُ لَهُ:
عِظْنِي. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
خُذْ عَنِ النَّاسِ جَانِبًا كَيْ يَعُدُّوكَ رَاهِبًا
إِنَّ دَهْرًا أَظَلَّنِي قَدْ أَرَانِي الْعَجَائِبَا
قَلِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْ تَ تَجِدْهُمْ
عَقَارِبًا
قَالَ بِشْرٌ: فَقُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الرَّاهِبِ لَكَ،
فَعِظْنِي أَنْتَ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَوَحَّشْ مِنَ الْإِخْوَانِ لَا تَبْغِ مُؤْنِسًا وَلَا تَتَّخِذْ خِلًّا وَلَا
تَبْغِ صَاحِبًا
وَكُنْ سَامِرِيَّ الْفِعْلِ مِنْ نَسْلِ آدَمِ وَكُنْ أَوْحَدِيًّا مَا قَدَرْتَ
مُجَانِبَا
فَقَدْ فَسَدَ الْإِخْوَانُ وَالْحُبُّ وْالْإِخَا فَلَسْتَ تَرَى إِلَّا مَذُوقًا
وَكَاذِبَا
فَقُلْتُ وَلَوْلَا أَنْ يُقَالَ مُدَهْدَهٌ وَتُنْكَرُ حَالَاتِي لَقَدْ صِرْتُ
رَاهِبًا
قَالَ سَرِيٌّ: فَقُلْتُ لِبِشْرٍ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ إِبْرَاهِيمَ لَكَ،
فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِلُزُومِ بَيْتِكِ. فَقُلْتُ: بَلَغَنِي
عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا اللَّيْلُ وَمُلَاقَاةُ الْإِخْوَانِ مَا
كُنْتُ أُبَالِي مَتَى مُتُّ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا مَنْ يُسَرُّ بِرُؤْيَةِ الْإِخْوَانِ مَهْلًا أَمِنْتَ مَكَائِدَ
الشَّيْطَانِ
خَلَتِ الْقُلُوبُ مِنَ الْمَعَادِ وَذِكْرِهِ وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ
وَالْخُسْرَانِ
صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثُهُمْ فِي هَتْكِ مَسْتُورٍ وَخَلْقِ
قُرَانِ
قَالَ الْحَلَبِيُّ: فَقُلْتُ لِسَرِيٍّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ بِشْرٍ لَكَ،
فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْإِخْمَالِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ
ذَاكَ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا مَنْ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ إِخْمَالَا إِنْ كَانَ حَقًا فَاسْتَعِدَّ خِصَالَا
تَرْكُ الْمَجَالِسِ وَالتَّذَاكُرِ يَا أَخِي وَاجْعَلْ خُرُوجَكَ لِلصَّلَاةِ
خَيَالَا
بَلْ كُنْ بِهَا حَيًّا كَأَنَّكَ
مَيَّتٌ لَا يَرْتَجِي مِنْهُ الْقَرِيبُ وِصَالَا
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَصْرِيُّ: قُلْتُ لِلْحَلَبِيِّ: هَذِهِ
مَوْعِظَةُ سَرِيٍّ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: يَا أَخِي، أَحَبُّ
الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا أُصْدِرَ إِلَيْهِ مِنْ قَلْبٍ زَاهِدٍ فِي
الدُّنْيَا، فَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَنْتَ فِيِ دَارِ شَتَاتٍ فَتَأَهَّبْ لِشَتَاتِكَ
وَاجْعَلِ الدُّنْيَا كَيَوْمٍ صُمْتَهُ عَنْ شَهَوَاتِكَ
وَاجْعَلِ الْفِطْرَ إِذَا مَا صُمْتَهُ يَوْمَ وَفَاتِكَ
قَالَ ابْنُ خُرَّزَادَ: فَقُلْتُ لِعَلِيٍّ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الْحَلَبِيِّ
لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ لِي: احْفَظْ وَقْتَكَ وَاسْخُ بِنَفْسِكَ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، وَانْزِعْ قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ عَنْ قَلْبِكَ يَصْفُ لَكَ
بِذَلِكَ سِرُّكَ، وَيَزْكُ بِهِ ذِكْرُكَ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
حَيَاتُكَ أَنْفَاسٌ تُعَدُّ فَكُلَّمَا مَضَى نَفَسٌ مِنْهَا انْتُقِصْتَ بِهِ
جُزْءًا
فَتُصْبحُ فِي نَقْصٍ وَتُمْسِي بِمِثْلِهِ وَمَا لَكَ مَعْقُولٌ تُحِسُّ بِهِ
رُزْءًا
يُمِيتُكَ مَا يُحْيِيكَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَيَحْدُوكَ حَادٍ مَا يُرِيدُ بِكَ
الْهُزْءَا
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ عَلِيٍّ لَكَ،
فَعِظْنِي. فَقَالَ: يَا أَخِي، عَلَيْكَ بِلُزُومِ الطَّاعَةِ، وَإِيَّاكَ أَنْ
تَبْرَحَ بَابَ الْقَنَاعَةِ، وَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلَا تُؤْثِرْ هَوَاكَ،
وَلَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَاشْتَغِلْ بِمَا يَعْنِيكَ بِتَرْكِ مَا
لَا يَعْنِيكَ. ثُمَّ أَنْشَدَنِي:
نَدِمْتُ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي نَدَامَةً وَمَنْ يَتْبَعْ مَا تَشْتَهِي
النَّفْسُ يَنْدَمِ
فَخَافُوا لِكَيْمَا تَأْمَنُوا بَعْدَ
مَوْتِكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبًّا عَادِلًا لَيْسَ يَظْلِمْ
فَلَيْسَ لِمَغْرُورٍ بِدُنْيَاهُ زَاجِرٌ سَيَنْدَمُ إِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ
فَاعْلَمْ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ رَامِينَ فَقُلْتُ لِأَبِي مُحَمَّدٍ:
هَذِهِ مَوْعِظَةُ أَحْمَدَ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: اعْلَمْ، رَحِمَكَ
اللَّهُ، أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يُنْزِلُ الْعَبِيدَ حَيْثُ نَزَلَتْ
قُلُوبُهُمْ بِهُمُومِهَا، فَانْظُرْ أَيْنَ أَنْزَلَتْ قَلْبَكَ، وَاعْلَمْ
أَنَّهُ تُقَرَّبُ الْقُلُوبُ عَلَى حَسَبِ مَا قَرُبَ إِلَيْهَا، فَانْظُرْ مَنِ
الْقَرِيبُ مِنْ قَلْبِكَ. وَأَنْشَدَنِي:
قُلُوبُ رِجَالٍ فِي الْحِجَابِ نُزُولُ وَأَرْوَاحُهُمْ فِيمَا هُنَاكَ حُلُولُ
بِرَوْحِ نَعِيمِ الْأُنْسِ فِي عِزِّ قُرْبِهِ بِإِفْرَادِ تَوْحِيدِ الْمَلِيكَ
تَحُولُ
لَهُمْ بِفِنَاءِ الْقُرْبِ مِنْ مَحْضِ بِرِّهِ عَوَائِدُ بَذْلٍ خَطْبُهُنَّ
جَلِيلُ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: فَقُلْتُ لِلْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ
بْنِ رَامِينَ: هَذِهِ مَوْعِظَةُ الْحُمَيْدِيِّ لَكَ، فَعِظْنِي. فَقَالَ:
اتَّقِ اللَّهَ، وَثِقْ بِهِ وَلَا تَتَّهِمْهُ; فَإِنَّ اخْتِيَارَهُ لَكَ خَيْرٌ
مِنَ اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ. وَأَنْشَدَنِي:
اتَّخِذِ اللَّهَ صَاحِبًا وَذَرِ النَّاسَ جَانِبًا
جَرِّبِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْ تَ تَجِدْهُمُ عَقَارِبًا
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ غَيْثٌ الصُّورِيُّ: فَقُلْتُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ:
هَذِهِ مَوْعِظَةُ ابْنِ رَامِينَ لَكَ، فَعِظْنِي أَنْتَ. فَقَالَ: احْذَرْ
نَفْسَكَ الَّتِي هِيَ أَعْدَى أَعْدَائِكَ أَنْ تُتَابِعَهَا عَلَى هَوَاهَا،
فَذَاكَ أَعْضَلُ دَائِكَ، وَاسْتَشْعِرِ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ بِخِلَافِهَا،
وَكَرِّرْ عَلَى قَلْبِكَ ذِكْرَ
نُعُوتِهَا وَأَوْصَافِهَا، فَإِنَّهَا الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ،
وَالْمُورِدَةُ مَنْ أَطَاعَهَا مَوَارِدَ الْعَطَبِ وَالْبَلَاءِ، وَاعْمِدْ فِي
جَمِيعِ أُمُورِكَ إِلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ، وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنْ خَالَفَ هَوَاهُ
أَنْ يَجْعَلَ دَارَ الْخُلْدِ قَرَارَهُ وَمَأْوَاهُ. ثُمَّ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
إِنْ كُنْتَ تَبْغِي الرَّشَادَ مَحْضًا فِي أَمْرِ دُنْيَاكَ وَالْمَعَادِ
فَخَالِفِ النَّفْسَ فِي هَوَاهَا إِنَّ الْهَوَى جَامِعُ الْفَسَادِ
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: الْمَحْفُوظُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ
إِحْدَى. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ،
كَمَا ذَكَرْنَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِجَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ بَحْرِ الرُّومِ وَهُوَ
مُرَابِطٌ، وَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْخَلَاءِ لَيْلَةَ وَفَاتِهِ نَحْوًا مِنْ
عِشْرِينَ مَرَّةً، وَكُلُّ مَرَّةٍ يُجَدِّدُ الْوُضُوءَ بَعْدَهَا، فَلَمَّا
غَشِيَهُ الْمَوْتُ قَالَ: أَوْتِرُوا لِي قَوْسِي. وَقَبَضَ عَلَى الْقَوْسِ،
وَمَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سَمِعَتْ
السِّرِيَّ بْنَ حَيَّانَ يَقُولُ - وَكَانَ سُفْيَانُ مُعْجَبًا بِهِ -:
أَجَاعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَجَاعُوا
وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ ذُو التَّقْوَى عَنِ الْعَيْشِ مُلْجَمًا
أَخُو طَيِّئٍ دَاوُدُ مِنْهِمُ وَمِسْعَرٌ وَمِنْهُمْ وُهَيْبٌ وَالْغَرِيبُ
ابْنُ أَدْهَمَا
وَفِي ابْنِ سَعِيدٍ قُدْوَةَ الْبِرِّ وَالنُّهَى وَفِي الْوَارِثِ الْفَارُوقِ
صِدْقًا مُقَدَّمًا
وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ بِالْفُضَيْلِ مَعَ ابْنِهِ وَيُوسُفُ إِنْ لَمْ يَأْلُ أَنْ
يَتَسَلَّمَا
أُولَئِكَ أَصْحَابِي، وَأَهْلُ مَوَدَّتِي فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ذُو الْجَلَالِ
وَسَلِّمَا
فَمَا ضَرَّ ذَا التَّقْوَى نِصَالُ أَسِنَّةٍ وَمَا زَالَ ذُو التَّقْوَى أَعَزَّ
وَأَكْرَمَا
وَمَا زَالَتِ التَّقْوَى تُرِيكَ عَلَى الْفَتَى إِذَا مَحَّضَ التَّقْوَى مِنَ
الْعِزِّ مِيسَمَا
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَدَبِ " عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ أَدْهَمَ، وَأَخْرَجَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ "
حَدِيثًا مُعَلَّقًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَأَمَّا دَاوُدُ الطَّائِيُّ فَهُوَ دَاوُدُ بْنُ نُصَيْرٍ الطَّائِيُّ، أَبُو
سُلَيْمَانَ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: ثُمَّ تَرَكَ طَلَبَ الْفِقْهِ، وَأَقْبَلَ
عَلَى الْعِبَادَةِ، وَدَفَنَ كُتُبَهُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ: وَهَلِ الْأَمْرُ إِلَّا مَا كَانَ عَلَيْهِ دَاوُدُ الطَّائِيُّ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ:
تَرَكَ الْفِقْهَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ حَتَّى مَاتَ، وَقَدْ قَدِمَ
عَلَى الْمَهْدِيِّ بَغْدَادَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ.
مَاتَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَةٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي "
تَارِيخِهِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا حُصِرَ الْمُقَنَّعُ الزِّنْدِيقُ الَّذِي كَانَ قَدْ نَبَغَ بِخُرَاسَانَ
وَقَالَ بِالتَّنَاسُخِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى جَهَالَتِهِ وَضَلَالَتِهِ خَلْقٌ
مِنَ الطَّغَامِ وَسُفَهَاءِ الْأَنَامِ، وَالسَّفِلَةِ مِنَ الْعَوَامِّ،
وَمَنَعُوهُ مِنَ الْجُنُودِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ لَجَأَ إِلَى قَلْعَةِ كَشٍّ، فَحَاصَرَهُ سَعِيدٌ الْحَرِشِيُّ
فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي الْحِصَارِ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِالْغَلَبَةِ تَحَسَّى
سُمًّا وَسَمَّ نِسَاءَهُ، فَمَاتُوا جَمِيعًا، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ.
وَدَخَلَ الْجَيْشُ الْإِسْلَامِيُّ قَلْعَتَهُ، فَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ،
وَبَعَثُوا بِهِ إِلَى الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ حِينَ جَاءَهُ رَأْسُ
الْمُقَنَّعِ بِحَلَبَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: الْمُقَنَّعُ الْخُرَاسَانِيُّ قِيلَ: اسْمُهُ عَطَاءٌ.
وَقِيلَ: حَكِيمٌ. وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ، وَكَانَ أَوَّلًا قَصَّارًا، ثُمَّ
ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ أَعْوَرَ قَبِيحَ الْمَنْظَرِ،
وَكَانَ يَتَّخِذُ لَهُ وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى جَهَالَتِهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْجَهَلَةِ، وَكَانَ يُرِي النَّاسَ
قَمَرًا يُرَى مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ يَغِيبُ، فَعَظُمَ اعْتِقَادُهُمْ
فِيهِ، وَمَنَعُوهُ بِالسِّلَاحِ، وَكَانَ يَزْعُمُ - لَعَنَهُ اللَّهُ،
وَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - أَنَّ
اللَّهَ ظَهَرَ فِي صُورَةِ آدَمَ، وَلِهَذَا سَجَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ، ثُمَّ
فِي نُوحٍ، ثُمَّ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدًا وَاحِدًا، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى
أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا حَاصَرَهُ
الْمُسْلِمُونَ فِي قَلْعَتِهِ الَّتِي كَانَ جَدَّدَهَا بِنَاحِيَةِ كَشٍّ مِمَّا
وَرَاءَ النَّهْرِ، وَيُقَالُ لَهَا: سَنَامُ. سَقَى نِسَاءَهُ وَأَهْلَهُ سُمًّا،
وَتَحَسَّى هُوَ أَيْضًا مِنْهُ، فَمَاتُوا كُلُّهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ
أَجْمَعِينَ - وَاسْتَحْوَذَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ
كُلِّهَا.
وَفِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ الْبُعُوثَ مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ لِغَزْوِ الرُّومِ، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ وَلَدَهُ هَارُونَ
الرَّشِيدَ، وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ مُشَيِّعًا لَهُ، فَسَارَ مَعَهُ مَرَاحِلَ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ وَلَدَهُ مُوسَى الْهَادِي، وَكَانَ فِي هَذَا
الْجَيْشِ الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَالرَّبِيعُ الْحَاجِبُ، وَخَالِدُ بْنُ
بَرْمَكَ، وَهُوَ مِثْلُ الْوَزِيرِ لِلرَّشِيدِ وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَيَحْيَى
بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ كَاتِبُهُ وَإِلَيْهِ النَّفَقَاتُ. وَمَا زَالَ
الْمَهْدِيُّ مَعَ وَلَدِهِ مُشَيِّعًا لَهُ حَتَّى بَلَغَ دَرْبَ الرُّومِ عِنْدَ
جَيْحَانَ، وَارْتَادَ هُنَاكَ الْمَدِينَةَ الْمُسَمَّاةَ بِالْمَهْدِيَّةِ فِي
بِلَادِ الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّامِ، وَزَارَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ،
فَسَارَ الرَّشِيدُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ، فَفَتَحَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً، وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً
جِدًّا، وَكَانَ لِخَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ جَمِيلٌ لَمْ يَكُنْ
لِغَيْرِهِ، وَبَعَثُوا
بِالْبِشَارَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ
بَرْمَكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَكْرَمَهُ الْمَهْدِيُّ وَأَجْزَلَ عَطَاءَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ عَمَّهُ عَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ عَنِ
الْجَزِيرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا زُفَرَ بْنَ عَاصِمٍ الْهِلَالِيَّ، ثُمَّ
عَزَلَهُ وَوَلَّى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِلَادَ الْمَغْرِبِ
وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ، وَجَعَلَ عَلَى رَسَائِلِهِ يَحْيَى بْنَ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَوَلَّى وَعَزَلَ جَمَاعَةً مِنَ النُّوَّابِ، وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيٌّ ابْنُ الْمَهْدِيِّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَحَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ
الرَّحَبِيُّ الْحِمْصِيُّ، وَمُوسَى بْنُ عَلِيٍّ اللَّخْمِيُّ الْمِصْرِيُّ،
وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، وَعِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ قَصْرُ عِيسَى،
وَنَهْرُ عِيسَى بِبَغْدَادَ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ لَهُ مَذْهَبٌ
جَمِيلٌ، وَكَانَ مُعْتَزِلًا لِلسُّلْطَانِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى،
وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمِصْرِيُّ. وَعُبَيْدَةُ بِنْتُ أَبِي كِلَابٍ الْعَابِدَةُ، بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى عَمِيَتْ. وَكَانَتْ تَقُولُ: أَشْتَهِي الْمَوْتَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أَجْنِيَ عَلَى نَفْسِي جِنَايَةً تَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، بِلَادَ الرُّومِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ مِيخَائِيلُ
الْبِطْرِيقُ فِي نَحْوِ تِسْعِينَ أَلْفًا، فِيهِمْ طَازَاذُ الْأَرْمَنِيُّ
الْبِطْرِيقُ، فَفَشَلَ عَنْهُ عَبْدُ الْكَبِيرِ، وَمَنَعَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ
الْقِتَالِ، وَانْصَرَفَ، فَأَرَادَ الْمَهْدِيُّ ضَرْبَ عُنُقِهِ، فَكُلِّمَ فِيهِ،
فَحَبَسَهُ فِي الْمُطْبِقِ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ فِي أَوَاخِرِ ذِي
الْقِعْدَةِ أَسَّسَ الْمَهْدِيُّ قَصْرًا مِنْ لَبِنٍ بِعِيسَابَاذْ، ثُمَّ
عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى الْحَجِّ، فَقَلَّ الْمَاءُ، وَأَصَابَهُ حُمًّى،
فَرَجَعَ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَعَطِشَ النَّاسُ فِي الرَّجْعَةِ حَتَّى
كَادَ بَعْضُهُمْ يَهْلَكُ، فَغَضِبَ الْمَهْدِيُّ عَلَى يَقْطِينَ صَاحِبِ
الْمَصَانِعِ، وَبَعَثَ مِنْ حَيْثُ رَجَعَ صَالِحَ ابْنَ أَبِي جَعْفَرٍ
لِيَحُجَّ بِالنَّاسِ، فَحَجَّ بِهِمْ عَامَئِذٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ - فِي قَوْلٍ - وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ
النَّاسِ بِأَيَّامِ النَّاسِ وَالشِّعْرِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَدَبِ، وَقَدْ
كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ تُعَظِّمُهُ وَتُسْنِي جَائِزَتَهُ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى
الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ.... وَشَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّحْوِيُّ.
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، وَمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ صَاحِبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا جَهَّزَ الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ هَارُونَ الرَّشِيدَ لِغَزْوِ الصَّائِفَةِ،
وَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ
وَثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ مِائَةُ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَرْبَعَةٌ وَتِسْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ
وَخَمْسُونَ دِينَارًا، وَمِنَ الْفِضَّةِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفٍ
وَأَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةِ
دِرْهَمٍ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. فَبَلَغَ بِجُنُودِهِ خَلِيجَ الْبَحْرِ الَّذِي
عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَصَاحِبُ الرُّومِ يَوْمَئِذٍ أُغَسْطَةُ امْرَأَةُ
أَلْيُونَ، وَمَعَهَا ابْنُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الْمَلِكِ الَّذِي تُوُفِّيَ
عَنْهَا، فَطَلَبَتِ الصُّلْحَ مِنَ الرَّشِيدِ عَلَى أَنْ تَدْفَعَ لَهُ
سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهَا، وَذَلِكَ
بَعْدَ مَا قَتَلَ مِنَ الرُّومِ فِي الْوَقَائِعِ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ
أَلْفًا، وَأَسَرَ مِنَ الذَّرَارِيِّ خَمْسَةَ آلَافِ رَأْسٍ وَسِتَّمِائَةٍ
وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ رَأْسًا، وَقَتَلَ مِنَ الْأَسْرَى أَلْفَيْ أَسِيرٍ
صَبْرًا، وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ بِأَدَوَاتِهَا عِشْرِينَ أَلْفَ فَرَسٍ،
وَذَبَحَ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ، وَبِيعَ
الْبِرْذَوْنُ بِدِرْهَمٍ، وَالْبَغْلُ بِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ،
وَالدِّرْعُ بِأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَعِشْرُونَ سَيْفًا بِدِرْهَمٍ،
فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَرْوَانُ بْنُ
أَبِي حَفْصَةَ
أَطُفْتَ بِقُسْطَنْطِينَةِ الرُّومِ مُسْنِدًا إِلَيْهَا الْقَنَا حَتَّى
اكْتَسَى الذُّلَّ سُورُهَا وَمَا رُمْتَهَا حَتَّى أَتَتْكَ مُلُوكُهَا
بِجِزْيَتِهَا وَالْحَرْبُ تَغْلِي قُدُورُهَا
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ،
وَوُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَدِمَ الرَّشِيدُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَدَخَلَ
بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الرُّومُ يَحْمِلُونَ الْجِزْيَةَ
مِنَ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ.
وَفِيهَا أَخَذَ الْمَهْدِيُّ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ هَارُونَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
الْهَادِي، وَلَقَّبَ هَارُونَ بِالرَّشِيدِ.
وَفِيهَا سَخِطَ الْمَهْدِيُّ عَلَى يَعْقُوبَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ قَدْ حَظِيَ
عِنْدَهُ حَتَّى اسْتَوْزَرَهُ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْوِزَارَةِ
حَتَّى فُوِّضَ إِلَيْهِ جَمِيعُ أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ
بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
بَنِي أُمَيَّةَ هُبُّوا طَالَ نَوْمُكُمُ إِنَّ الْخَلِيفَةَ يَعْقُوبُ بْنُ
دَاوُدَ ضَاعَتْ خِلَافَتُكُمْ يَا قَوْمُ فَاطَّلِبُوا
خَلِيفَةَ اللَّهِ بَيْنَ الدُّفِّ وَالْعُودِ
فَلَمْ تَزَلِ السُّعَاةُ وَالْوُشَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ حَتَّى
أَخْرَجُوهُ عَلَيْهِ، وَكُلَّمَا سَعَوْا بِهِ إِلَيْهِ، دَخَلَ إِلَيْهِ
فَأَصْلَحَ أَمْرَهُ عِنْدَهُ، حَتَّى وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَأَذْكُرُهُ;
وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي مَجْلِسٍ عَظِيمٍ قَدْ
فُرِشَ بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ وَأَلْوَانِ الْحَرِيرِ، وَحَوْلَ ذَلِكَ الْمَكَانِ
أَشْجَارٌ مُزْهِرَةٌ بِأَنْوَاعِ الْأَزَاهِيرِ، فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ،
كَيْفَ رَأَيْتَ مَجْلِسَنَا هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. فَقَالَ: هُوَ لَكَ بِمَا فِيهِ، وَهَذِهِ الْجَارِيَةُ لِيَتِمَّ بِهَا سُرُورُكَ، وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَهَا لِي. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: حَتَّى تَقُولَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: يَأْمُرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَيَّ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ. فَقَالَ: آللَّهِ؟ فَقُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: وَحَيَاةُ رَأْسِي. قُلْتُ: وَحَيَاةُ رَأْسِكَ. فَقَالَ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي وَقُلْ ذَلِكَ. فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ أُحِبُّ أَنْ تَكْفِيَنِيهِ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: وَعَجَّلَ عَلَيَّ. ثُمَّ أَمَرَ بِتَحْوِيلِ مَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ إِلَى مَنْزِلِي، وَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَتِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِهَا، فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى مَنْزِلِي حَجَبْتُهَا مِنْ جَانِبِ الدَّارِ فِي الْخِدْرِ، فَأَمَرْتُ بِذَلِكَ الْعَلَوِيِّ فَجِيءَ بِهِ، فَجَلَسَ إِلَيَّ فَتَكَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْهُ وَلَا أَفْهَمَ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا يَعْقُوبُ، تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِي وَأَنَا رَجُلٌ مَنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنِ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: إِنِّي أَخْتَارُ بِلَادَ كَذَا وَكَذَا. فَقُلْتُ: اذْهَبْ كَيْفَ شِئْتَ، وَلَا يَظْهَرَنَّ عَلَيْكَ الْمَهْدِيُّ فَتَهْلِكُ وَأَهْلِكُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِي وَجَهَّزْتُ مَعَهُ رَجُلَيْنِ يُسَفِّرَانِهِ وَيُوَصِّلَانِهِ بَعْضَ الْبِلَادِ، وَلَمْ أَشْعُرْ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ قَدْ أَحَاطَتْ عِلْمًا بِمَا جَرَى، وَبَعَثَتْ بِخَادِمِهَا إِلَى الْمَهْدِيِّ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، وَقَالَتْ لَهُ: هَذَا الَّذِي آثَرْتَهُ بِي قَدْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَغَضِبَ الْمَهْدِيُّ وَبَعَثَ إِلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَدُّوا الْعَلَوِيَّ، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَيَّ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي، فَذَهَبْتُ وَأَنَا لَا أَسْتَشْعِرُ أَمْرَ الْعَلَوِيِّ،
فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ قَالَ: مَا فَعَلَ الْعَلَوِيُّ؟ قُلْتُ: مَاتَ.
قَالَ: آللَّهِ؟ قُلْتُ: آللَّهِ. قَالَ: فَضَعْ يَدَكَ عَلَى رَأْسِي، وَاحْلِفْ
بِحَيَاتِهِ. فَفَعَلْتُ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ أَخْرِجْ مَا فِي هَذَا الْبَيْتِ.
فَخَرَجَ الْعَلَوِيُّ، فَأُسْقِطَ فِي يَدِي، فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: دَمُكَ لِي
حَلَالٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ فِي بِئْرٍ فِي الْمُطْبِقِ. قَالَ
يَعْقُوبُ: فَكُنْتُ فِي مَكَانٍ لَا أَسْمَعُ فِيهِ وَلَا أُبْصِرُ، فَذَهَبَ
بَصَرِي، وَطَالَ شَعْرِي حَتَّى صِرْتُ مِثْلَ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ مَضَتْ
عَلَيَّ مُدَدٌ مُتَطَاوِلَةٌ، فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دُعِيتُ
فَخَرَجْتُ مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي فِي ذَلِكَ الْمُطْبِقِ، فَقِيلَ لِي: سَلِّمْ
عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَسَلَّمْتُ وَأَنَا أَظُنُّهُ الْمَهْدِيَّ،
فَلَمَّا ذَكَرْتُ الْمَهْدِيَّ فِي كَلَامِي، قَالَ رَحِمَ اللَّهُ الْمَهْدِيَّ.
فَقُلْتُ: الْهَادِي؟ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْهَادِي. فَقُلْتُ: الرَّشِيدُ؟
قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ رَأَيْتَ مَا حَلَّ
بِي مِنَ الضَّعْفِ وَالْعِلَّةِ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُطْلِقَنِي. فَقَالَ:
أَيْنَ تُرِيدُ تَذْهَبُ؟ قُلْتُ: مَكَّةُ. فَقَالَ: اذْهَبْ رَاشِدًا. فَسَارَ
إِلَى مَكَّةَ، فَمَا لَبِثَ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ كَانَ يَعْقُوبُ هَذَا يَعِظُ الْمَهْدِيَّ فِي تَعَاطِيهِ شُرْبَ
النَّبِيذِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَثْرَةِ سَمَاعِ الْغِنَاءِ، وَيَلُومُهُ عَلَى
ذَلِكَ وَيَقُولُ: مَا عَلَى هَذَا اسْتَوْزَرْتَنِي، وَلَا عَلَى هَذَا
صَحِبْتُكَ، أَبَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُشْرَبُ
عِنْدَكَ النَّبِيذُ وَيُسْمَعُ السَّمَاعُ بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: فَقَدْ
سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ. فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ
حَسَنَاتِهِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا قُرْبَةً لَكَانَ كُلَّمَا دَاوَمَ عَلَيْهِ
الْعَبْدُ كَانَ
أَفْضَلَ لَهُ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
فَدَعْ عَنْكَ يَعْقُوبَ بْنَ دَاوُدَ جَانِبًا وَأَقْبِلْ عَلَى صَهْبَاءَ
طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وَفِيهَا ذَهَبَ الْمَهْدِيُّ إِلَى قَصْرِهِ الْمُسَمَّى بِقَصْرِ السَّلَامِ
بِعِيسَابَاذْ - بُنِيَ لَهُ بِالْآجُرِّ بَعْدَ الْقَصْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي
بَنَاهُ بِاللَّبِنِ - فَسَكَنَهُ وَضَرَبَ هُنَاكَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِإِقَامَةِ الْبَرِيدِ بَيْنَ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ، وَلَمْ يُفْعَلْ هَذَا قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ مُوسَى الْهَادِي إِلَى جُرْجَانَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى
الْقَضَاءِ أَبَا يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ عَامِلُ
الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَائِفَةٌ; لِلْهُدْنَةِ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَ الرَّشِيدِ وَبَيْنَ الرُّومِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَدَقَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّمِينُ، وَأَبُو الْأَشْهَبِ الْعُطَارِدِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ النَّهْشَلِيُّ، وَعُفَيْرُ بْنُ مَعْدَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَجَّهَ الْمَهْدِيُّ ابْنَهُ مُوسَى الْهَادِي إِلَى جُرْجَانَ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَجَعَلَ عَلَى رَسَائِلِهِ أَبَانَ بْنَ صَدَقَةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الَّذِي كَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ الْمَهْدِيِّ فَخُلِعَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْكُوفَةِ، فَأَشْهَدَ
نَائِبُهَا رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ عَلَى وَفَاتِهِ الْقَاضِي وَجَمَاعَةً مِنَ
الْأَعْيَانِ، ثُمَّ دُفِنَ، وَكَانَ قَدِ امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَبَلَغَ
ذَلِكَ الْمَهْدِيَّ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ أَشَدَّ التَّعْنِيفِ
وَأَمَرَ بِمُحَاسَبَتِهِ عَلَى عَمَلِهِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمَهْدِيُّ أَبَا عُبَيْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ دِيوَانِ الرَّسَائِلِ، وَوَلَّاهُ الرَّبِيعَ بْنَ يُونُسَ
الْحَاجِبَ، فَاسْتَخْلَفَ فِيهِ سَعِيدَ بْنَ وَاقِدٍ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدِ
اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَى مَرْتَبَتِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ وَسُعَالٌ كَثِيرٌ بِبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ
وَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا فَكَانَتْ كَاللَّيْلِ حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ،
وَكَانَ ذَلِكَ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تَتَبَّعَ الْمَهْدِيُّ جَمَاعَةً مِنَ الزَّنَادِقَةِ فِي سَائِرِ
الْآفَاقِ، فَاسْتَحْضَرَهُمْ وَقَتَلَهُمْ
صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ
الْمُتَوَلِّيَ أَمْرَ الزَّنَادِقَةِ عُمَرُ الْكَلْوَاذِيُّ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِزِيَادَةٍ كَبِيرَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَوَلَّى ذَلِكَ يَقْطِينَ بْنَ مُوسَى
الْمُوَكَّلَ بِأَمْرِ الْحَرَمَيْنِ وَمَصَالِحِهِمَا، فَلَمْ يَزَلْ فِي
عِمَارَةِ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ الْمَهْدِيُّ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَمْ يَكُنْ
لِلنَّاسِ صَائِفَةٌ; لِلْهُدْنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
وَتُوُفِّيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْحَجِّ بِأَيَّامٍ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ
إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ، أَبُو مُعَاذٍ الشَّاعِرُ مَوْلَى عُقَيْلٍ، وُلِدَ
أَعْمًى، وَقَالَ الشِّعْرَ وَهُوَ دُونَ عَشْرِ سِنِينَ، وَلَهُ التَّشْبِيهَاتُ
الَّتِي لَمْ يَهْتَدِ إِلَيْهَا الْبُصَرَاءُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
الْأَصْمَعِيُّ وَالْجَاحِظُ وَأَبُو تَمَّامٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَقَالَ: لَهُ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ الشِّعْرِ جَيِّدٍ. فَلَمَّا بَلَغَ
الْمَهْدِيَّ أَنَّهُ هَجَاهُ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ،
أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ حَتَّى مَاتَ عَنْ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقَدْ
ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "، فَقَالَ: بَشَّارُ
بْنُ بُرْدِ بْنِ يَرْجُوخَ الْعُقَيْلِيُّ
مَوْلَاهُمْ، وَقَدْ نَسَبَهُ صَاحِبُ
الْأَغَانِي فَأَطَالَ نَسَبَهُ، وَهُوَ بَصْرِيٌّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَأَصْلُهُ
مِنْ طَخَارِسْتَانَ، وَكَانَ ضَخْمًا عَظِيمَ الْخَلْقِ، وَشِعْرُهُ فِي أَوَّلِ
طَبَقَاتِ الْمُوَلَّدِينَ، وَمِنْ شِعْرِهِ الْبَيْتُ الْمَشْهُورُ:
هَلْ تَعْلَمِينَ وَرَاءَ الْحُبِّ مَنْزِلَةً تُدْنِي إِلَيْكِ فَإِنَّ الْحُبَّ
أَقْصَانِي
وَقَوْلُهُ:
أَنَا وَاللَّهِ أَشْتَهِي سِحْرَ عَيْنَيْ كِ وَأَخْشَى مَصَارِعَ الْعُشَّاقِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يَا قَوْمُ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ
الْعَيْنِ أَحْيَانَا
قَالُوا بِمَنْ لَا تَرَى تَهْذِي فَقُلْتُ لَهُمْ الْأُذُنُ كَالْعَيْنِ تُولِي
الْقَلْبَ مَا كَانَا
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِحَزْمِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ
حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً فَرِيشُ الْخَوَافِي تَابِعٌ
لِلْقَوَادِمِ
وَمَا خَيْرُ كَفٍّ أَمْسَكَ الْغُلُّ
أُخْتَهَا وَمَا خَيْرُ سَيْفٍ لَمْ يُؤَيَّدْ بِقَائِمِ
كَانَ بَشَّارٌ يَمْدَحُ الْمَهْدِيَّ حَتَّى وَشَى إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَنَّهُ
هَجَاهُ وَقَذَفَهُ، وَنُسِبَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الزَّنْدَقَةِ، وَأَنَّهُ يَقُولُ
بِتَفْضِيلِ النَّارِ عَلَى التُّرَابِ، وَعُذْرِ إِبْلِيسَ فِي تَرْكِ السُّجُودِ
لِآدَمَ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ:
الْأَرْضُ مُظْلِمَةٌ وَالنَّارُ مُشْرِقَةٌ وَالنَّارُ مَعْبُودَةٌ مُذْ كَانَتِ
النَّارُ
فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِضَرْبِهِ، فَضُرِبَ حَتَّى مَاتَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ
غُرِّقَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حُيَيٍّ، وَحَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، وَالرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مُسْلِمٍ، وَعُتْبَةُ
الْغُلَامُ; وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ أَبَانِ بْنِ صَمْعَةَ، أَحَدُ الْعُبَّادِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ فِي الْخُوصِ، وَيَصُومُ الدَّهْرَ وَيُفْطِرُ عَلَى الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ. وَالْقَاسِمُ الْحُدَّانِيُّ، وَأَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، وَأَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، نَقَضَتِ الرُّومُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصُّلْحِ الَّذِي عَقَدَهُ لَهُمْ هَارُونُ الرَّشِيدُ عَنْ
أَمْرِ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ، وَلَمْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى الصُّلْحِ إِلَّا
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا، فَبَعَثَ نَائِبُ الْجَزِيرَةِ خَيْلًا إِلَى
الرُّومِ، فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا وَغَنِمُوا وَسَلِمُوا.
وَفِيهَا اتَّخَذَ الْمَهْدِيُّ دَوَاوِينَ الْأَزِمَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ بَنُو
أُمَيَّةَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيُّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ رَيْطَةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَّاهُ
الْمَنْصُورُ الْمَدِينَةَ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ، فَعَزَلَهُ
وَحَبَسَهُ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَالِهِ. وَحَمَّادُ عَجْرَدٍ، كَانَ ظَرِيفًا
مَاجِنًا شَاعِرًا، وَكَانَ مِمَّنْ يُعَاشِرُ الْوَلِيدَ بْنَ يَزِيدَ،
وَيُهَاجِي بَشَّارَ بْنَ بُرْدٍ، وَقَدِمَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَنَزَلَ
الْكُوفَةَ، وَاتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي "
طَبَقَاتِ الشُّعَرَاءِ ": ثَلَاثَةٌ حَمَّادُونَ بِالْكُوفَةِ يُرْمَوْنَ
بِالزَّنْدَقَةِ; حَمَّادٌ الرَّاوِيَةُ، وَحَمَّادُ عَجْرَدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ
الزِّبْرِقَانِ النَّحْوِيُّ، وَكَانُوا يَتَعَاشَرُونَ وَيَتَمَاجَنُونَ.
وَخَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُصَيْنِ
بْنِ أَبِي الْحُرِّ الْعَنْبَرِيُّ، قَاضِي الْبَصْرَةِ بَعْدَ سَوَّارٍ، سَمِعَ
خَالِدًا الْحَذَّاءَ، وَدَاوُدَ بْنَ أَبِي هِنْدٍ، وَسَعِيدًا الْجُرَيْرِيَّ،
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ. وَكَانَ ثِقَةً فَقِيهًا، لَهُ اخْتِيَارَاتٌ
تُعْزَى إِلَيْهِ غَرِيبَةٌ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَقَدْ سُئِلَ مَرَّةً
عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَأَخْطَأَ فِي الْجَوَابِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: الْحُكْمُ
فِيهَا كَذَا وَكَذَا. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: إِذًا أَرْجِعُ، وَأَنَا
صَاغِرٌ، لَأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ
رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقِيلَ: بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشْرِ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
غَوْثُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نُعَيْمٍ أَبُو يَحْيَى
الْحَضْرَمِيُّ،
قَاضِي مِصْرَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ
الْحُكَّامِ، وَلِيَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي أَيَّامِ
الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ. وَفُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَقَيْسُ بْنُ
الرَّبِيعِ، فِي قَوْلٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلَاثَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَالِكٍ
أَبُو الْيَسِيرِ الْعُقَيْلِيُّ، قَاضِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ
لِلْمَهْدِيِّ، هُوَ وَعَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ. وَكَانَ يُقَالُ لِابْنِ
عُلَاثَةَ: قَاضِي الْجِنِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ بِئْرٌ يُصَابُ مَنْ أَخَذَ
مِنْهَا شَيْئًا فَقَالَ: أَيُّهَا الْجِنُّ إِنَّا حَكَمْنَا أَنَّ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَلَنَا النَّهَارَ. فَكَانَ مَنْ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فِي
النَّهَارِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ ثِقَةً. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيُّ ابْنُ
الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
مَاسَبَذَانُ. بِالْحُمَّى، وَقِيلَ: مَسْمُومًا. وَقِيلَ: بِعَضَّةِ فَرَسٍ،
فَمَاتَ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَهْدِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِالْمَهْدِيِّ طَمَعًا
أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ، فَلَمْ يَكُنْ بِهِ،
وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ; لِأَنَّهُ لَمْ يُشْبِهْهُ فِي الْفِعْلِ، ذَاكَ
يَأْتِي آخِرَ الزَّمَانِ وَعِنْدَ فَسَادِهِ، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا كَمَا
مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي أَيَّامِهِ يَنْزِلُ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ بِدِمَشْقَ. كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثِ
الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ وَذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ الْمَهْدِيَّ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ جَاءَ
مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَلَا يَصِحُّ
ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي
حَدِيثٍ آخَرَ: الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ " فَهُوَ يُعَارِضُ
هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمُّهُ أُمُّ مُوسَى بِنْتُ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْحِمْيَرِيِّ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَهَرَ بِ
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ". رَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى
بْنُ حَمْزَةَ الْبَتْلَهِيُّ قَاضِي دِمَشْقَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ
الْمَهْدِيِّ حِينَ قَدِمَ دِمَشْقَ فَجَهَرَ فِي السُّورَتَيْنِ بِالْبَسْمَلَةِ،
وَأَسْنَدَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ. وَرَوَى الْمَهْدِيُّ عَنِ
الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ. وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الضُّبَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ، وَأَبُو سُفْيَانَ
سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَهْدِيٍّ.
وَكَانَ مَوْلِدُ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ - وَقِيلَ: سَنَةَ
إِحْدَى - وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، بِالْحُمَيْمَةِ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ،
وَاسْتُخْلِفَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً،
وَتُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ
سِنِينَ وَشَهْرًا وَبَعْضَ شَهْرٍ،
وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، جَعْدَ الشَّعْرِ، عَلَى إِحْدَى عَيْنَيْهِ نُكْتَةٌ
بَيْضَاءُ، فَقِيلَ: عَيْنُهُ الْيُمْنَى. وَقِيلَ: الْيُسْرَى.
قَالَ الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ: رَأَيْتُ الْمَهْدِيَّ يُصَلِّي فِي لَيْلَةٍ
مُقْمِرَةٍ فِي بَهْوٍ لَهُ، عَلَيْهِ ثِيَابٌ حِسَانٌ، فَمَا أَدْرِي هُوَ
أَحْسَنُ أَمِ الْقَمَرُ، أَمْ بَهْوُهُ، أَمْ ثِيَابُهُ. فَقَرَأَ: فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ [ مُحَمَّدٍ: 22 ]. ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْضَرْتُ رَجُلًا مِنْ
قَرَابَتِهِ كَانَ مَسْجُونًا، فَأَطْلَقَهُ.
وَلَمَّا جَاءَهُ خَبَرُ مَوْتِ أَبِيهِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ بِبَغْدَادَ مَعَ
مَنَارَةَ الْبَرْبَرِيِّ مَوْلَاهُ، فِي السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ أَبِيهِ، كَتَمَ الْأَمْرَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ يَوْمَ
الْخَمِيسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَأَعْلَمَهُمْ
بِمَوْتِ أَبِيهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ دُعِيَ فَأَجَابَ،
وَقَدْ قُلِّدْتُ بَعْدَهُ جَسِيمًا، فَعِنْدَ اللَّهِ أَحْتَسِبُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى خِلَافَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَبَايَعَهُ
النَّاسُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمئِذٍ، وَقَدْ عَزَّاهُ أَبُو دُلَامَةَ وَهَنَّأَهُ
فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
عَيْنَايَ وَاحِدَةٌ تُرَى مَسْرُورَةً بِأَمِيرِهَا جَذْلَى وَأُخْرَى تَذْرِفُ
تَبْكِي وَتَضْحَكُ تَارَةً وَيَسُوءُهَا
مَا أَنْكَرَتْ وَيَسُرُّهَا مَا تَعْرِفُ فَيَسُوءُهَا مَوْتُ الْخَلِيفَةِ مُحْرِمًا
وَيَسُرُّهَا أَنْ قَامَ هَذَا الْأَرْأَفُ
مَا إِنْ رَأَيْتُ كَمَا رَأَيْتُ
وَلَا أَرَى
شَعْرًا أُرَجِّلُهُ وَآخَرُ يُنْتَفُ هَلَكَ الْخَلِيفَةُ يَالَأُمَّةِ أَحْمَدَ
وَأَتَاكُمْ مِنْ بَعْدِهِ مَنْ يَخْلُفُ أَهْدَى لِهَذَا اللَّهُ فَضْلَ
خِلَافَةٍ
وَلِذَاكَ جنَاتِ النَّعِيمِ تُزَخْرَفُ
وَقَدْ قَالَ الْمَهْدِيُّ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَسِرُّوا
مِثْلَمَا تُعْلِنُونَ مِنْ طَاعَتِنَا تَهْنِكُمُ الْعَافِيَةُ، وَتَحْمَدُوا
الْعَاقِبَةَ، وَاخْفِضُوا جَنَاحَ الطَّاعَةِ لِمَنْ نَشَرَ مِعْدِلَتَهُ
فِيكُمْ، وَطَوَى ثَوْبَ الْإِصْرِ عَنْكُمْ، وَأَهَالَ عَلَيْكُمُ السَّلَامَةَ
وَلِينَ الْمَعِيشَةِ مِنْ حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، مُقَدِّمًا ذَلِكَ فِعْلَ مَنْ
تَقَدَّمَهُ، وَاللَّهِ لَأُفْنِيَنَّ عُمْرِي بَيْنَ عُقُوبَتِكُمْ
وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكُمْ. قَالَ: فَأَشْرَقَتْ وُجُوهُ النَّاسِ مِنْ حُسْنِ
كَلَامِهِ.
ثُمَّ اسْتَخْرَجَ الْمَهْدِيُّ حَوَاصِلَ أَبِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
الَّتِي كَانَتْ لَا تُحَدُّ وَلَا تُوصَفُ كَثْرَةً، فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ،
وَلَمْ يُعْطِ أَهْلَهُ وَمَوَالِيَهُ مِنْهَا، بَلْ أَجْرَى لَهُمْ أَرْزَاقًا
بِحَسَبِ كِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُمِائَةٍ فِي
الشَّهْرِ غَيْرَ الْأُعْطِيَّاتِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الْمَنْصُورُ حَرِيصًا
عَلَى تَوْفِيرِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُنْفِقُ فِي السَّنَةِ
أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مَنْ مَالِ الشَّرَاةِ، وَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ بِبِنَاءِ
مَسْجِدِ الرُّصَافَةِ وَعَمَلِ خَنْدَقٍ وَسُورٍ حَوْلَهَا، وَبَنَى مُدُنًا قَدْ
ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَرَى
الصَّلَاةَ خَلْفَهُ، فَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ فَتَكَلَّمَ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ
الْمَهْدِيُّ فِي كَلَامٍ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ. فَقَالَ: مَهْ مَهْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَقَدْ كَانَتْ صَوَّامَةً قَوَّامَةً. فَقَالَ لَهُ: يَا
زِنْدِيقُ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَضَحِكَ
شَرِيكٌ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِلزَّنَادِقَةِ عَلَامَاتٍ يُعْرَفُونَ بِهَا; شُرْبُهُمُ
الْقَهَوَاتِ، وَاتِّخَاذُهُمُ الْقَيْنَاتِ. فَأَطْرَقَ الْمَهْدِيُّ، وَخَرَجَ
شَرِيكٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ فَدَخَلَ
الْمَهْدِيُّ بَيْتًا فِي دَارِهِ، فَأَلْزَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ أَنَا الْمَطْلُوبَ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ دُونَ النَّاسِ
فَهَا أَنَا ذَا بَيْنِ يَدَيْكَ، اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ مِنْ
أَهْلِ الْأَدْيَانِ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى انْجَلَتْ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَوْمًا وَمَعَهُ نَعْلٌ، فَقَالَ: هَذِهِ نَعْلُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهْدَيْتُهَا لَكَ.
فَقَالَ: هَاتِهَا. فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا، فَقَبَّلَهَا وَوَضَعَهَا عَلَى
عَيْنَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ الْآفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا انْصَرَفَ
الرَّجُلُ قَالَ الْمَهْدِيُّ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ هَذِهِ النَّعْلَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَلْبَسَهَا، وَلَكِنْ لَوْ رَدَدْتُهُ لَذَهَبَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: أَعْطَيْتُهُ
نَعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهَا عَلَيَّ.
فَيُصَدِّقُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ; لِأَنَّ الْعَامَّةَ تَمِيلُ إِلَى
أَمْثَالِهَا، وَمِنْ شَأْنِهِمْ نَصْرُ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ وَإِنْ كَانَ
ظَالِمًا، فَاشْتَرَيْنَا لِسَانَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَرَأَيْنَا
هَذَا أَرْجَحَ وَأَنْجَحَ.
وَاشْتُهِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْحَمَامَ وَالسِّبَاقَ بَيْنَهَا،
فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، فِيهِمْ غِيَاثُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا سَبْقَ إِلَّا فِي
خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ ". وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: " أَوْ
جَنَاحٍ ". فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ
آلَافٍ. وَلَمَّا خَرَجَ قَالَ:
وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى قَفَاكَ قَفَا كَذَّابٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَمَرَ بِالْحَمَامِ فَذُبِحَ، وَلَمْ يَذْكُرْ
غِيَاثًا بَعْدَهَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَحَدَّثْتُهُ
بِأَحَادِيثَ، فَكَتَبَهَا عَنِّي ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بُيُوتَ نِسَائِهِ، ثُمَّ
خَرَجَ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ غَيْظًا، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْخَيْزُرَانِ، فَقَامَتْ إِلَيَّ،
وَمَزَّقَتْ ثَوْبِي، وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا. وَإِنِّي وَاللَّهِ
يَا وَاقَدِيُّ إِنَّمَا اشْتَرَيْتُهَا مِنْ نَخَّاسٍ، وَقَدْ نَالَتْ عِنْدِي
مَا نَالَتْ، وَقَدْ بَايَعْتُ لِوَلَدَيْهَا بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
بَعْدِي. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهُنَّ يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ
وَيَغْلِبُهُنَّ اللِّئَامُ. وَقَالَ خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ، وَأَنَا
خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي. وَقَالَ خُلِقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ إِنْ
قَوَّمْتَهُ كَسَرْتَهُ. وَحَدَّثْتُهُ فِي هَذَا الْبَابِ بِكُلِّ مَا حَضَرَنِي،
فَأَمَرَ لِي بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، فَلَمَّا وَافَيْتُ الْمَنْزِلَ إِذَا رَسُولُ
الْخَيْزُرَانِ قَدْ لَحِقَنِي بِأَلْفَيْ دِينَارٍ إِلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ،
وَإِذَا مَعَهُ أَثْوَابٌ أُخَرُ، وَبَعَثَتْ تَتَشَكَّرُ لِي وَتُثْنِي عَلَيَّ
مَعْرُوفًا.
وَذَكَرُوا أَنَّ الْمَهْدِيَّ كَانَ قَدْ أَهْدَرَ دَمَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ
الْكُوفَةِ وَجَعَلَ لِمَنْ جَاءَ
بِهِ مِائَةَ أَلْفٍ، فَدَخَلَ
الرَّجُلُ بَغْدَادَ مُتَنَكِّرًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ
بَغْدَادَ إِذْ لَقِيَهُ رَجُلٌ، فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَنَادَى: هَذَا
طِلْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَجَعَلَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَلِتَ
مِنْهُ فَلَا يَقْدِرُ، فَبَيْنَا هُمَا كَذَلِكَ إِذَا أَمِيرٌ فِي مَوْكِبِهِ
قَدْ أَقْبَلَ وَإِذَا هُوَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَبَا
الْوَلِيدِ، خَائِفٌ مُسْتَجِيرٌ. فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَا لَكَ وَلَهُ؟ فَقَالَ
هَذَا طِلَبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، جَعَلَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ مِائَةَ أَلْفٍ.
قَالَ مَعْنٌ: وَيْحَكَ! أَوَمَا عَلِمْتَ أَنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ؟ أَرْسِلْهُ
مِنْ يَدِكَ. ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ غِلْمَانِهِ فَتَرَجَّلَ وَأَرْكَبَهُ، وَذَهَبَ
بِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَانْطَلَقَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى بَابِ الْخَلِيفَةِ
فَأَنْهَى إِلَيْهِ الْخَبَرَ، فَبَلَغَ الْمَهْدِيَّ. فَأَرْسَلَ إِلَى مَعْنِ
بْنِ زَائِدَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ الْمَهْدِيُّ.
وَقَالَ: يَا مَعْنُ، أَبَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ تُجِيرَ عَلَيَّ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: وَنَعَمْ أَيْضًا. قَالَ: نَعْمَ، قَدْ قَتَلْتُ فِي دَوْلَتِكُمْ
أَرْبَعَةَ آلَافِ مُصَلٍّ، أَفَلَا يُجَارُ لِي رَجُلٌ وَاحِدٌ؟! فَأَطْرَقَ
الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ
أَجْرْتَ يَا مَعْنُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الرَّجُلَ
ضَعِيفٌ. فَأَمَرَ لَهُ الْمَهْدِيُّ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا. فَقَالَ: إِنَّ
جَرِيمَتَهُ عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ جَوَائِزَ الْخُلَفَاءِ عَلَى قَدْرِ ذُنُوبِ
الرَّعِيَّةِ. فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَحُمِلَتْ بَيْنَ يَدَيْ مَعْنٍ
إِلَى الرَّجُلِ، فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: ادْعُ لِلْخَلِيفَةِ وَأَصْلِحْ نِيَّتَكَ
فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَقَدِمَ الْمَهْدِيُّ مَرَّةً الْبَصْرَةَ، فَخَرَجَ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ،
فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مُرْ هَؤُلَاءِ
فَلْيَنْتَظِرُونِي حَتَّى أَتَوَضَّأَ. فَأَمَرَهُمُ الْمَهْدِيُّ
بِانْتِظَارِهِ، وَوَقَفَ الْمَهْدِيُّ فِي الْمِحْرَابِ حَتَّى قِيلَ لَهُ: هَذَا
الْأَعْرَابِيُّ قَدْ جَاءَ، فَكَبَّرَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ سَمَاحَةِ
أَخْلَاقِهِ.
وَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ وَمَعَهُ
كِتَابٌ مَخْتُومٌ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الرَّبِيعُ؟ فَدَلُّوهُ عَلَى الرَّبِيعِ
الْحَاجِبِ، فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَجَاءَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَوْقَفَ الْأَعْرَابِيَّ، وَفَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا هُوَ قِطْعَةُ أَدِيمٍ،
فِيهَا كِتَابَةٌ ضَعِيفَةٌ، وَالْأَعْرَابِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ هَذَا خَطُّ
الْخَلِيفَةِ، فَتَبَسَّمَ الْمَهْدِيُّ وَقَالَ: صَدَقَ الْأَعْرَابِيُّ هَذَا
خَطِّي، إِنِّي خَرَجْتُ يَوْمًا إِلَى الصَّيْدِ، فَضِعْتُ مِنَ الْجَيْشِ، وَأَقْبَلَ
اللَّيْلُ، فَتَعَوَّذْتُ بِتَعَوُّذِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَرُفِعُ لِي نَارٌ مِنْ بُعْدٍ، فَقَصَدْتُهَا فَإِذَا هُوَ الشَّيْخُ
وَامْرَأَتُهُ فِي خِبَاءٍ يُوقِدَانِ نَارًا، فَسَلَّمْتُ، فَرَدَّ السَّلَامَ،
وَفَرَشَ لِي كِسَاءً، وَسَقَانِي مِنْ مَذْقَةٍ مِنْ لَبَنٍ مَشُوبٍ بِمَاءٍ،
فَمَا شَرِبْتُ شَيْئًا إِلَّا وَهِيَ أَطْيَبُ مِنْهُ، وَنِمْتُ نَوْمَةً عَلَى
تِلْكَ الْعَبَاءَةِ مَا أَذْكُرُ أَنِّي نِمْتُ نَوْمَةً أَحْلَى مِنْهَا.
فَقَامَ إِلَى شُوَيْهَةٍ لَهُ فَذَبَحَهَا، فَسَمِعْتُ امْرَأَتَهُ تَقُولُ لَهُ:
عَمَدْتَ إِلَى مَعِيشَتِكَ وَمَعِيشَةِ أَوْلَادِكَ فَذَبَحْتَهَا؟! أَهْلَكْتَ
نَفْسَكَ وَعِيَالِكَ. فَمَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا، وَاسْتَيْقَظْتُ مِنَ النَّوْمِ
فَاشْتَوَيْتُ مِنْ تِلْكَ الشُّوَيْهَةِ، وَقُلْتُ لَهُ: أَعْنَدَكَ شَيْءٌ
أَكْتُبُ لَكَ فِيهِ كِتَابًا؟ فَأَتَانِي بِهَذِهِ الرُّقْعَةِ مِنَ الْأَدِيمِ
فَكَتَبْتُ لَهُ بِعُودٍ مِنْ ذَلِكَ الرَّمَادِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ، وَإِنَّمَا
أَرَدْتُ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَاللَّهِ لَأُنْفِذَنَّهَا لَهُ كُلَّهَا وَلَوْ
لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ سِوَاهَا. فَقَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ،
وَاسْتَمَرَّ مُقِيمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُوَ فِي طَرِيقِ الْحَاجِّ مِنْ
نَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ فَجَعَلَ يُقْرِي النَّاسَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ،
فَعُرِفَ بِمَنْزِلِ مُضِيفِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ.
وَعَنْ سَوَّارٍ - صَاحِبِ رَحْبَةِ سَوَّارٍ - قَالَ: انْصَرَفْتُ يَوْمًا مِنْ
عِنْدِ الْمَهْدِيِّ، فَجِئْتُ مَنْزِلِي فَوُضِعَ لِيَ الْغَدَاءُ، فَلَمْ
تُقْبِلْ نَفْسِي عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ خَلْوَتِي لِأَنَامَ
فِي الْقَائِلَةِ، فَلَمْ يَأْخُذْنِي نَوْمٌ، فَاسْتَدْعَيْتُ بِبَعْضَ حَظَايَايَ لِأَتَلَهَّى بِهَا، فَلَمْ يَقِرَّ لِي قَرَارٌ، فَنَهَضْتُ فَخَرَجْتُ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَرَكِبْتُ بَغْلَتِي، فَمَا جَاوَزْتُ الدَّارَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى لَقِيَنِي رَجُلٌ وَمَعَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ، فَقُلْتُ: مَنْ أَيْنَ هَذِهِ؟ فَقَالَ: مِنْ مُلْكِكَ الْجَدِيدِ. فَاسْتَصْحَبْتُهُ مَعِي، وَسِرْتُ فِي أَزِقَّةِ بَغْدَادَ أَتَشَاغَلُ مِمَّا أَنَا فِيهِ مِنَ الضَّجَرِ، فَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ عِنْدَ مَسْجِدٍ فِي بَعْضِ الْحَارَاتِ، فَنَزَلْتُ لِأُصَلِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ إِذَا بِرَجُلٍ أَعْمَى قَدْ أَخَذَ بِثِيَابِي فَقَالَ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقُلْتُ: مَا حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرٌ، وَلَكِنَّنِي لَمَّا شَمَمْتُ رَائِحَةَ طِيبِكَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ وَالثَّرْوَةِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُفْضِيَ بِحَاجَتِي إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَصْرَ الَّذِي تُجَاهَ الْمَسْجِدِ كَانَ لِأَبِي، فَسَافَرَ مِنْهُ إِلَى خُرَاسَانَ، وَبَاعَهَ وَأَخَذَنِي مَعَهُ وَأَنَا صَغِيرٌ، فَافْتَرَقْنَا هُنَاكَ، وَأَصَابَنِي الضَّرَرُ، فَرَجَعْنَا إِلَى بَغْدَادَ، فَجِئْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ أَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا أَتَبَلَّغُ بِهِ لَعَلِّي أَجْتَمِعُ بِسَوَّارٍ، فَإِنَّهُ كَانَ صَاحِبًا لِأَبِي، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ سِعَةٌ يَجُودُ مِنْهَا عَلَيَّ. فَقُلْتُ: وَمَنْ أَبُوكَ؟ فَذَكَرَ رَجُلًا كَانَ أَصْحَبَ النَّاسَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَنَا سَوَّارٌ صَاحِبُ أَبِيكَ، وَقَدْ مَنَعَنِي اللَّهُ فِي يَوْمِكَ هَذَا النَّوْمَ وَالْقَرَارَ وَالْأَكْلَ وَالرَّاحَةَ، حَتَّى أَخْرَجَنِي مِنْ مَنْزِلِي لِأَجْتَمِعَ بِكَ، وَأَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَأَمَرْتُ وَكِيلِي، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْأَلْفَيْنِ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ، وَقُلْتُ: إِذَا كَانَ الْغَدُ فَأْتِ مَنْزِلِي فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. وَرَكِبْتُ فَجِئْتُ دَارَ الْخِلَافَةِ وَقُلْتُ: مَا أُتْحِفَ الْمَهْدِيَّ اللَّيْلَةَ فِي السَّمَرِ بِأَغْرَبَ مِنْ هَذَا. فَلَمَّا قَصَصْتُ عَلَيْهِ
الْقِصَّةَ تَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ
جِدًّا، وَأَمَرَ لِلْأَعْمَى بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، وَقَالَ لِي: عَلَيْكَ دَيْنٌ؟
قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَمْ؟ قُلْتُ: خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَسَكَتَ
وَحَادَثَنِي سَاعَةً، فَلَمَّا قُمْتُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَوَصَلْتُ
الْمَنْزِلَ إِذَا الْحَمَّالُونَ قَدْ سَبَقُونِي إِلَى الْمَنْزِلِ بِخَمْسِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ دِينَارٍ لِلْأَعْمَى، فَانْتَظَرْتُ الْأَعْمَى أَنْ
يَجِيءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَأَخَّرَ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ جَلَسْتُ إِلَى
الْمَهْدِيُّ فَقَالَ: قَدْ فَكَّرْتُ فِي أَمْرِكَ، فَوَجَدْتُكَ إِذَا قَضَيْتَ
دَيْنَكَ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ شَيْءٌ، وَقَدْ أَمَرْتُ لَكَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ أُخْرَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ جَاءَنِي الْمَكْفُوفُ
فَقُلْتُ: قَدْ رَزَقَ اللَّهُ بِسَبَبِكَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَدَفَعْتُ إِلَيْهِ
الْأَلْفَيْ دِينَارٍ الَّتِي مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَزِدْتُهُ أَلْفَيْ
دِينَارٍ مِنْ مَالِي أَيْضًا.
وَوَقَفَتِ امْرَأَةٌ لِلْمَهْدِيُّ فَقَالَتْ: يَا عَصَبَةَ رَسُولِ اللَّهِ،
اقْضِ حَاجَتِي. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ: مَا سَمِعْتُهَا مِنْ غَيْرِهَا، اقْضُوا
حَاجَتَهَا وَأَعْطُوهَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَدَخَلَ ابْنُ الْخَيَّاطِ عَلَى الْمَهْدِيِّ، وَامْتَدَحَهُ فَأَمَرَ لَهُ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا ابْنُ الْخَيَّاطِ، وَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَخَذْتُ بِكَفِّي كَفَّهُ أَبْتَغِي الْغِنَى وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الْجُودَ مِنْ
كَفِّهِ يُعْدِي
فَلَا أَنَا مِنْهُ مَا أَفَادَ ذَوُو الْغِنَى أَفَدْتُ وَأَعْدَانِي فَبَدَّدْتُ
مَا عِنْدِي
قَالَ: فَنَمَّى ذَلِكَ إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَأَعْطَاهُ بَدَلَ كُلِّ دِرْهَمٍ
دِينَارًا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَهُ مَآثِرُ وَمَحَاسِنُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ
بِمَاسَبَذَانَ،
كَانَ قَدْ خَرَجَ إِلَيْهَا
لِيَبْعَثَ إِلَى ابْنِهِ الْهَادِي لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ مِنْ جُرْجَانَ حَتَّى
يَخْلَعَهُ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ، وَيَجْعَلَهُ بَعْدَ هَارُونَ الرَّشِيدِ،
فَامْتَنَعَ الْهَادِي مِنْ ذَلِكَ، فَرَكِبَ الْمَهْدِيُّ مِنْ بَغْدَادَ
قَاصِدًا إِحْضَارَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِمَاسَبَذَانَ مَاتَ بِهَا عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ.
وَكَانَ قَدْ رَأَى فِي النَّوْمِ وَهُوَ بِقَصْرِهِ بِبَغْدَادَ - وَأَظُنُّهُ
الْمُسَمَّى بِقَصْرِ السَّلَامَةِ - كَأَنَّ شَيْخًا وَقَفَ بِبَابِ الْقَصْرِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ:
كَأَنِي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَأَوْحَشَ مِنْهُ أَهْلُهُ
وَمَنَازِلُهُ
وَصَارَ عَمِيدُ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ وَمُلْكٍ إِلَى قَبْرٍ عَلَيْهِ
جَنَادِلُهُ
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا ذِكْرُهُ وَحَدِيثُهُ يُنَادِي بِلَيْلٍ مُعْوِلَاتٍ حَلَائِلُهُ
فَمَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلَّا عَشْرًا حَتَّى تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَسَامَحَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ الْهَاتِفَ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ آهِلُهُ وَقَدْ دَرَسَتْ أَعْلَامُهُ وَمَنَازِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ يَبْلَى جَدِيدُهَا وُكُلُّ فَتًى يَوْمًا سَتَبْلَى
فَعَائِلُهُ
فَقَالَ الْهَاتِفُ:
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّكَ مَسْئُولٌ فَمَا أَنْتَ
قَائِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
أَقُولُ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ شَهِدْتُهُ فَذَلِكَ قَوْلٌ لَيْسَ تُحْصَى
فَضَائِلُهُ
فَقَالَ الْهَاتِفُ
تَزَوَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ رَاحِلٌ وَقَدْ أَزَفَ الْأَمْرُ الَّذِي
بِكَ نِازِلُهُ
فَأَجَابَهُ الْمَهْدِيُّ:
مَتَى ذَاكَ خَبِّرْنِي هُدِيتَ فَإِنَّنِي سَأَفْعَلُ مَا قَدْ قُلْتَ لِي
وَأُعَاجِلُهُ
فَقَالَ الْهَاتِفُ:
تَلَبَّثْ ثَلَاثًا بَعْدَ عِشْرِينَ لَيْلَةً إِلَى مُنْتَهَى شَهْرٍ وَمَا
أَنْتَ كَامِلُهُ
قَالُوا: فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا إِلَّا تِسْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى
مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ اخْتِلَافًا فِي سَبَبِ مَوْتِهِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ
سَاقَ خَلْفَ ظَبْيٍ وَالْكِلَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَخَلَ الظَّبْيُ إِلَى
خَرِبَةٍ، فَدَخَلَتِ الْكِلَابُ وَرَاءَهُ، وَجَاءَ الْفَرَسُ، فَحَمَلَ بِهِ فِي
مِشْوَارِهِ، فَدَخَلَ الْخَرِبَةَ، فَكُسِرَ ظَهْرُ الْخَلِيفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبَ وَفَاتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ حَظَايَاهُ بَعَثَتْ إِلَى أُخْرَى
لَبَنًا مَسْمُومًا، فَمَرَّ الرَّسُولُ بِالْمَهْدِيِّ، فَأَكَلَ مِنْهُ فَمَاتَ.
وَقِيلَ: بَلْ بَعَثَتْ إِلَيْهَا بِصِينِيَّةٍ فِيهَا كُمِّثْرَى، وَفِي
أَعْلَاهَا وَاحِدَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا
سُمٌّ، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ يُعْجِبُهُ الْكُمِّثْرَى، فَمَرَّتِ الْجَارِيَةُ
تَحْمِلُ تِلْكَ الصِّينِيَّةَ فَرَآهَا فَاسْتَدْعَاهَا، فَأَخَذَ الَّتِي فِي
أَعْلَاهَا، فَأَكَلَهَا فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَجَعَلَتِ الْحَظِيَّةُ
تَنْدُبُهُ، وَتَقُولُ: وَاأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَاهُ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي
وَحْدِي، فَقَتَلْتُكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ - وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ عَشْرَ سِنِينَ وَشَهْرًا
وَكُسُورًا، وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ قَدْ أَوْرَدَ
مِنْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ طَرَفًا وَكَذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ
جَرِيرٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، وَنَافِعُ بْنُ عُمَرَ
الْجُمَحِيُّ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئُ.
خِلَافَةُ مُوسَى الْهَادِي ابْنِ
الْمَهْدِيِّ
تُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَةٍ، وَكَانَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، لَكِنْ كَانَ أَبُوهُ
قَدْ عَزَمَ عَلَى تَقْدِيمِ أَخِيهِ هَارُونَ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ فِي وِلَايَةِ
الْعَهْدِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ بِمَاسَبَذَانَ فِي
شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ الْهَادِي إِذْ ذَاكَ بِجُرْجَانَ، فَهَمَّ
بَعْضُ الدَّوْلَةِ مِنْهُمُ; الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ
عَلَى تَقْدِيمِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ وَالْمُبَايَعَةِ لَهُ، وَكَانَ حَاضِرًا
بِبَغْدَادَ، وَعَزَمُوا عَلَى النَّفَقَةِ فِي الْجُنْدِ لِذَلِكَ تَنْفِيذًا
لِمَا رَامَهُ الْمَهْدِيُّ مِنْ ذَلِكَ. فَأَسْرَعَ الْهَادِي السَّيْرَ مِنْ
جُرْجَانَ إِلَى بَغْدَادَ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَسَاقَ مِنْهَا إِلَيْهَا
فِي عِشْرِينَ يَوْمًا فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا،
وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنْهُمْ فَبَايَعُوهُ، وَتَغَيَّبَ الرَّبِيعُ الْحَاجِبُ،
فَتَطَلَّبَهُ الْهَادِي حَتَّى حَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَعَفَا عَنْهُ
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَقَرَّهُ عَلَى وَظِيفَةِ الْحُجُوبِيَّةِ، وَزَادَهُ
الْوِزَارَةَ وَوِلَايَاتٍ أُخَرَ، وَشَرَعَ الْهَادِي فِي تَطَلُّبِ
الزَّنَادِقَةِ مِنَ الْآفَاقِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً،
وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِأَبِيهِ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى الْهَادِي مِنْ أَفْكَهِ
النَّاسِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي الْخَلْوَةِ، فَإِذَا جَلَسَ فِي مَقَامِ
الْخِلَافَةِ لَا يَسْتَطِيعُونَ النَّظَرَ إِلَيْهِ; لِمَا يَعْلُوهُ مِنَ
الْمَهَابَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَكَانَ شَابًّا حَسَنًا وَقُورًا مَهِيبًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ - خَرَجَ
بِالْمَدِينَةِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصْبَحَ
يَوْمًا وَقَدْ لَبِسَ الْبَيَاضَ،
وَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَجَاءَ النَّاسُ إِلَى الصَّلَاةِ
فَلَمَّا رَأَوْهُ وَلَّوْا رَاجِعِينَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ،
فَبَايَعُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرِّضَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ
أَنَّ مُتَوَلِّيَهَا خَرَجَ مِنْهَا إِلَى بَغْدَادَ لِتَلَقِّي أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ وَتَهْنِئَتِهِ بِالْوِلَايَةِ، وَتَعْزِيَتِهِ فِي أَبِيهِ
الْمَهْدِيِّ، فَجَرَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ خَرَجَ حُسَيْنٌ هَذَا، وَالْتَفَّ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، وَجَعَلُوا مَأْوَاهُمُ الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ، وَمَنَعُوا
النَّاسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَلَمْ يُجِبْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلُوا
يَدْعُونَ عَلَيْهِ لِامْتِهَانِهِمُ الْمَسْجِدَ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُمْ
كَانُوا يُقَذِّرُونَ فِي جَنْبَاتِ الْمَسْجِدِ، وَقَدِ اقْتَتَلُوا مَعَ
الْمُسَوِّدَةِ مَرَّاتٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَقُتِلَ مِنْهُمْ، ثُمَّ ارْتَحَلَ
إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى زَمَنِ الْحَجِّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْهَادِي جَيْشًا، فَقَاتَلُوهُ بَعْدَ فَرَاغِ النَّاسِ مِنَ الْمَوْسِمِ،
فَقَتَلُوهُ وَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ،
وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، فَكَانَ مُدَّةُ خُرُوجِهُ إِلَى أَنْ قُتِلَ
تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ; دَخَلَ يَوْمًا عَلَى
الْمَهْدِيِّ، فَأَطْلَقَ لَهُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا فِي
أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ، وَمَا خَرَجَ
مِنْهَا وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ، إِنَّمَا عَلَيْهِ فَرْوَةٌ لَيْسَ دُونَهَا قَمِيصٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَمُّ الْخَلِيفَةِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ طَرِيقِ دَرْبِ الرَّاهِبِ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى فِي
جَحْفَلٍ كَثِيفٍ، وَقَدْ أَقْبَلَتِ الرُّومُ مَعَ بَطْرِيقِهَا فَبَلَغُوا
الْحَدَثَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، قُتِلَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَمَا ذَكَرْنَا. الرَّبِيعُ
بْنُ يُونُسَ الْحَاجِبُ، مَوْلَى الْمَنْصُورِ وَحَاجِبُهُ وَوَزِيرُهُ، وَقَدْ
وَزَرَ أَيْضًا لِلْهَادِي. وَقِيلَ: إِنَّهُ وَزَرَ أَيْضًا لِلْمَهْدِيِّ.
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَطْعَنُ فِي نَسَبِهِ. وَقَدْ أَوْرَدَ الْخَطِيبُ فِي
تَرْجَمَتِهِ حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِهِ، وَلَكِنَّهُ مُنْكَرٌ، فِي صِحَّتِهِ
عَنْهُ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَلِيَ الْحُجُوبِيَّةَ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا الْخَلِيفَةُ الْهَادِي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ
وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا عَزَمَ الْهَادِي عَلَى خَلْعِ أَخِيهِ هَارُونَ مِنَ الْخِلَافَةِ،
وَوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ وَمُبَايَعَةِ ابْنِهِ جَعْفَرٍ ابْنِ
الْهَادِي، فَانْقَادَ هَارُونُ لِذَلِكَ، وَلَمْ يُظْهِرِ الْمُنَازَعَةَ بَلِ
الْمُطَاوَعَةَ، وَاسْتَدْعَى الْهَادِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ،
فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَبَتْ ذَلِكَ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْخَيْزُرَانُ، وَكَانَتْ أَمْيَلَ إِلَى ابْنِهَا هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ
الْهَادِي قَدْ مَنَعَهَا التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَمْلَكَةِ، بَعْدَ مَا
كَانَتْ قَدِ اسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ وِلَايَتِهِ، وَانْقَلَبَتِ
الدُّوَلُ إِلَى بَابِهَا، وَالْأُمَرَاءُ إِلَى جَانِبِهَا فَحَلَفَ الْهَادِي
لَئِنْ عَادَ أَمِيرٌ يَلُوذُ بِبَابِهَا لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ، وَلَا يَقْبَلُ
لَهَا شَفَاعَةً أَبَدًا، فَامْتَنَعَتْ مِنَ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ، وَحَلَفَتْ
لَا تُكَلِّمُهُ أَبَدًا، وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَأَلَحَّ
هُوَ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ فِي الْخَلْعِ، وَبَعَثَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ
بْنِ بَرْمَكَ - وَكَانَ مِنْ أَكَابِرَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَفِّ
الرَّشِيدِ - فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تَرَى فِيمَا أُرِيدُ مَنْ خَلْعِ الرَّشِيدِ،
وَتَوْلِيَةِ ابْنِي جَعْفَرٍ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي
أَخْشَى أَنْ تَهُونَ الْأَيْمَانُ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ
أَنْ تَجْعَلَ جَعْفَرًا وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ هَارُونَ، وَأَيْضًا يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ لَا يُجِيبَ أَكْثَرُ النَّاسِ
إِلَى الْبَيْعَةِ لِجَعْفَرٍ; وَهُوَ دُونُ الْبُلُوغِ، فَيَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ
وَيَخْتَلِفَ النَّاسُ فَيَنَالَهَا بَعْضُ أَهْلِكَ، لَا هَذَا وَلَا هَذَا.
فَأَطْرَقَ مَلِيًّا - وَكَانَ ذَلِكَ
لَيْلًا - ثُمَّ أَمَرَ بِسَجْنِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ.
وَجَاءَ يَوْمًا إِلَيْهِ أَخُوهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِهِ
بَعِيدًا عَنْهُ، فَجَعَلَ الْهَادِي يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ: يَا
هَارُونُ، أَتَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ رُؤْيَا الْمَهْدِيِّ حَقًّا؟ فَقَالَ: إِي
وَاللَّهِ، وَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لَأَصِلَنَّ مَنْ قَطَعْتَ،
وَلَأُنْصِفَنَّ مَنْ ظَلَمْتَ، وَلَأُزَوِّجَنَّ بَنِيكَ مِنْ بَنَاتِي. فَقَالَ:
ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ. فَقَامَ إِلَيْهِ هَارُونُ لِيُقَبِّلَ يَدَهُ، فَحَلَفَ
الْهَادِي لَيَجْلِسَنَّ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَجَلَسَ مَعَهُ، ثُمَّ أَمَرَ
لَهُ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يَدْخُلَ الْخَزَائِنَ فَيَأْخُذَ مِنْهَا
مَا أَرَادَ، وَإِذَا جَاءَ الْخَرَاجُ فَلْيُدْفَعْ إِلَيْهِ نِصْفُهُ. فَفُعِلَ
ذَلِكَ كُلُّهُ، وَرَضِيَ الْهَادِي عَنِ الرَّشِيدِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَى
حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ مِنْهَا، فَمَاتَ بِعِيسَابَاذَ
لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ - وَقِيلَ: الْآخَرُ -
سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً،
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَةً وَشَهْرًا وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَكَانَ
طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ بِشَفَتِهِ الْعُلْيَا تَقَلُّصٌ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الْهَادِي، وَوَلِيَ
خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الرَّشِيدُ، وَوُلِدَ خَلِيفَةٌ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ ابْنُ
الرَّشِيدِ. وَقَدْ كَانَتِ الْخَيْزُرَانُ أُمُّ الْخَلِيفَةِ قَالَتْ فِي
أَوَّلِ اللَّيْلِ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ يُولَدُ اللَّيْلَةَ خَلِيفَةٌ،
وَيَمُوتُ خَلِيفَةٌ، وَيَتَوَلَّى خَلِيفَةٌ. يُقَالُ: إِنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ
مِنَ الْأَوْزَاعِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَقَدْ سَرَّهَا ذَلِكَ جِدًّا.
وَيُقَالُ: إِنَّهَا سَمَّتِ وَلَدَهَا الْهَادِيَ خَوْفًا عَلَى ابْنِهَا
الرَّشِيدِ مِنْهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ
كَانَ قَدْ أَبْعَدَهَا وَأَقْصَاهَا،
وَقَرَّبَ حَظِيَّتَهُ خَالِصَةَ وَأَدْنَاهَا. فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَةِ الْهَادِي
هُوَ مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْهَادِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
ابْنُ الْمَهْدِيِّ ابْنِ الْمَنْصُورِ. وَلِيَ الْخِلَافَةَ - كَمَا ذَكَرْنَا -
فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَوِ الْآخِرِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ
مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ - وَقِيلَ أَرْبَعٌ. وَقِيلَ: سِتٌّ - وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ أَحَدٌ
قَبْلَهُ فِي سِنِّهِ. وَكَانَ حَسَنًا جَمِيلًا طَوِيلًا أَبْيَضَ، فِي شَفَتِهِ
الْعُلْيَا تَقَلُّصٌ، وَكَانَ قَوِيَّ الْبَأْسِ يَثِبُ عَلَى الدَّابَّةِ
وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ، وَكَانَ أَبُوهُ يُسَمِّيهِ رَيْحَانَتِي.
وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ دَأَبٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْهَادِي، إِذْ جِيءَ
بِطَسْتٍ فِيهِ رَأْسَا جَارِيَتَيْنِ، لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهُمَا، وَلَا
مِثْلَ شُعُورِهِمَا، وَفِي شُعُورِهِمَا اللَّآلِئُ وَالْجَوَاهِرُ مُنَضَّدَةً،
وَلَا مِثْلَ طِيبِ رِيحِهِمَا، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا شَأْنُ هَاتَيْنِ؟
قُلْنَا: لَا. فَقَالَ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِي عَنْهُمَا أَنَّهُمَا يَرْتَكِبَانِ
الْفَاحِشَةَ، فَأَمَرْتُ الْخَادِمَ، فَرَصَدَهُمَا ثُمَّ جَاءَنِي فَقَالَ:
إِنَّهُمَا مُجْتَمِعَتَانِ. فَجِئْتُ فَوَجَدْتُهُمَا فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ
وَهُمَا عَلَى
الْفَاحِشَةِ، فَأَمَرْتُ بِحَزِّ
رِقَابِهِمَا. ثُمَّ أَمَرَ بِرَفْعِ رُءُوسِهِمَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَرَجَعَ
إِلَى حَدِيثِهِ الْأَوَّلِ، كَأَنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا. وَكَانَ شَهْمًا
خَبِيرًا بِالْمُلْكِ كَرِيمًا.
وَمِنْ كَلَامِهِ: مَا أُصْلِحَ الْمُلْكُ بِمِثْلِ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ
لِلْجَانِي، وَالْعَفْوِ عَنِ الزَّلَّاتِ الْقَرِيبَةِ، لِيَقِلَّ الطَّمَعُ عَنِ
الْمُلْكِ.
وَغَضِبَ يَوْمًا مِنْ رَجُلٍ، فَاسْتُرْضِيَ عَنْهُ فَرَضِيَ، فَشَرَعَ الرَّجُلُ
يَعْتَذِرُ، فَقَالَ الْهَادِي: إِنَّ الرِّضَا قَدْ كَفَاكَ مُؤْنَةَ
الِاعْتِذَارِ.
وَعَزَّى الْهَادِي رَجُلًا فِي وَلَدٍ لَهُ تُوُفِّيَ: فَقَالَ لَهُ: أَسَرَّكَ
وَهُوَ عَدُوٌّ وَفِتْنَةٌ، وَأَحْزَنَكَ وَهُوَ صَلَاةٌ وَرَحْمَةٌ.
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ أَنْشَدَ
الْهَادِي قَصِيدَةً لَهُ، مِنْهَا:
تَشَابَهَ يَوْمًا بَأْسُهُ وَنَوَالُهُ فَمَا أَحَدٌ يَدْرِي لِأَيِّهِمَا
الْفَضْلُ
فَقَالَ لَهُ الْهَادِي: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ ثَلَاثُونَ أَلْفًا
مُعَجَّلَةً أَوْ مِائَةُ أَلْفٍ تَدُورُ فِي الدَّوَاوِينِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَوَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَكُونُ
ثَلَاثُونَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً وَمِائَةُ أَلْفٍ تَدُورُ بِالدَّوَاوِينِ.
فَقَالَ الْهَادِي: أَوْ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ; نُعَجِّلُ الْجَمِيعَ لَكَ.
فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا مُعَجَّلَةً.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ:
حَدَّثَنِي الْأَزْهَرِيُّ، ثَنَا سَهْلُ بْنُ أَحْمَدَ الدِّيبَاجِيُّ، ثَنَا
الصُّولِيُّ، ثَنَا الْغَلَابِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
التَّيْمِيُّ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عُكَّاشَةَ الْمُزَنِيُّ
قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْهَادِي شُهُودًا عَلَى رَجُلٍ مِنَّا
شَتَمَ قُرَيْشًا، وَتَخَطَّى إِلَى ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ لَنَا مَجْلِسًا أَحْضَرَ فِيهِ فُقَهَاءَ أَهْلِ
زَمَانِهِ، وَمَنْ كَانَ بِالْحَضْرَةِ عَلَى بَابِهِ، وَأَحْضَرَ الرَّجُلَ وَأَحْضَرَنَا،
فَشَهِدْنَا عَلَيْهِ بِمَا سَمِعْنَا مِنْهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ الْهَادِي،
ثُمَّ نَكَّسَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي
الْمَهْدِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ
أَرَادَ هَوَانَ قُرَيْشٍ أَهَانَهُ اللَّهُ، وَأَنْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ لَمْ
تَرْضَ بِأَنْ أَرَدْتَ ذَلِكَ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى تَخَطَّيْتَ إِلَى ذِكْرِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَمَا
بَرِحْنَا حَتَّى قُتِلَ.
تُوُفِّيَ الْهَادِي فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَخُوهُ هَارُونُ وَلِيُّ الْعَهْدِ، وَدُفِنَ فِي قَصْرٍ بَنَاهُ
وَسَمَّاهُ الْأَبْيَضَ بِعِيسَابَاذَ مِنَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ
بَغْدَادَ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ تِسْعَةٌ; سَبْعَةٌ ذُكُورٌ وَابْنَتَانِ،
فَالذُّكُورُ; جَعْفَرٌ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ رَشَّحَهُ لِلْخِلَافَةِ -
وَعَبَّاسٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَسُلَيْمَانُ وَمُوسَى
الْأَعْمَى الَّذِي وُلِدَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَسُمِّيَ بِاسْمِ أَبِيهِ،
وَالْبِنْتَانِ هُمَا أُمُّ عِيسَى الَّتِي تَزَوَّجَهَا الْمَأْمُونُ،
وَالْأُخْرَى أُمُّ
الْعَبَّاسِ تُلَقَّبُ نُوتَةَ.
خِلَافَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَيْلَةَ مَاتَ أَخُوهُ الْهَادِي، وَذَلِكَ لَيْلَةَ
الْجُمْعَةِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ،
وَكَانَ عُمْرُ الرَّشِيدِ يَوْمَئِذٍ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَبَعَثَ
إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ السِّجْنِ، وَقَدْ
كَانَ الْهَادِي عَزَمَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى قَتْلِهِ وَقَتْلِ هَارُونَ
الرَّشِيدِ، فَأَخْرَجَهُ الرَّشِيدُ، وَكَانَ ابْنَهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ،
وَوَلَّاهُ حِينَئِذٍ الْوِزَارَةَ، وَوَلَّى يُوسُفَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ
صُبَيْحٍ كِتَابَةَ الْإِنْشَاءِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي قَامَ خَطِيبًا بَيْنَ
يَدَيْهِ حِينَ أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِعِيسَابَاذَ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لِمَا مَاتَ الْهَادِي فِي اللَّيْلِ جَاءَ يَحْيَى بْنُ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ إِلَى الرَّشِيدِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَقَالَ لَهُ: قُمْ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: كَمْ تُرَوِّعُنِي، وَلَوْ سَمِعَ بِهَذَا
الْكَلَامِ هَذَا الرَّجُلُ لَكَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ ذُنُوبِي عِنْدَهُ. فَقَالَ
لَهُ يَحْيَى: قَدْ مَاتَ الرَّجُلُ. فَجَلَسَ هَارُونُ فَقَالَ: أَشِرْ عَلَيَّ.
فَجَعَلَ يَذْكُرُ لَهُ وِلَايَاتِ الْأَقَالِيمِ لِرِجَالٍ يُسَمِّيهِمْ،
فَيُوَلِّيهِمُ الرَّشِيدُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ:
أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ; فَقَدْ وُلِدَ لَكَ السَّاعَةَ غُلَامٌ.
فَقَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَهُوَ الْمَأْمُونُ ثُمَّ أَصْبَحَ فَصَلَّى عَلَى
أَخِيهِ الْهَادِي، وَدَفَنَهُ بِعِيسَابَاذَ، وَحَلَفَ لَا يُصَلِّي الظُّهْرَ
إِلَّا بِبَغْدَادَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْجِنَازَةِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ
أَبِي عِصْمَةَ الْقَائِدِ; لِأَنَّهُ
كَانَ مَعَ جَعْفَرٍ ابْنِ الْهَادِي
فَزَاحَمُوا هَارُونَ عَلَى جِسْرٍ، فَقَالَ أَبُو عِصْمَةَ: قِفْ حَتَّى يَجُوزَ
وَلِيُّ الْعَهْدِ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلْأَمِيرِ.
فَجَازَ جَعْفَرٌ وَوَقَفَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا وَلِيَ أَمَرَ بِقَتْلِ أَبِي
عِصْمَةَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى جِسْرِ بَغْدَادَ
اسْتَدْعَى بِالْغَوَّاصِينَ فَقَالَ: إِنِّي سَقَطَ مِنِّي هَاهُنَا خَاتَمٌ،
كَانَ وَالِدِي الْمَهْدِيُّ قَدِ اشْتَرَاهُ لِي بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا
كَانَ مِنْ أَيَّامٍ بَعَثَ وَرَائِي الْهَادِي يَطْلُبُهُ، فَأَلْقَيْتُهُ إِلَى
الرَّسُولِ، فَسَقَطَ هَاهُنَا. فَغَاصُوا وَرَاءَهُ فَوَجَدُوهُ، فَسُرَّ بِهِ
الرَّشِيدُ سُرُورًا كَثِيرًا.
وَلَمَّا وَلَّى الرَّشِيدُ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ الْوِزَارَةَ قَالَ لَهُ: قَدْ
فَوَّضْتُ إِلَيْكَ أَمْرَ الرَّعِيَّةِ، وَخَلَعْتُ ذَلِكَ مِنْ عُنُقِي،
وَجَعَلْتُهُ فِي عُنُقِكَ، فَوَلِّ مَنْ رَأَيْتَ، وَاعْزِلْ مَنْ رَأَيْتَ.
فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ سَقِيمَةً فَلَمَّا وَلِيَ هَارُونُ أَشْرَقَ
نُورُهَا بِيُمْنِ أَمِينِ اللَّهِ هَارُونَ ذِي النَّدَى
فَهَارُونُ وَالِيهَا وَيَحْيَى وَزِيرُهَا
وَكَانَتِ الْخَيْزُرَانُ هِيَ الْمُشَاوَرَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، لَا
يَقْطَعُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَمْرًا حَتَّى يُشَاوِرَهَا فِيمَا يُبْرِمُهُ
وَيَحِلُّهُ وَيُمْضِيهِ وَيُحْكُمُهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ بِسَهْمِ ذِي الْقُرْبَى أَنْ يُقَسَّمَ فِي بَنِي
هَاشِمٍ عَلَى السَّوَاءِ.
وَفِيهَا تَتَبَّعَ الرَّشِيدُ خَلْقًا مِنَ الزَّنَادِقَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
طَائِفَةً كَثِيرَةً.
وَفِيهَا خَرَجَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْبَيْتِ.
فِيهَا وُلِدَ الْأَمِينُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الرَّشِيدِ مِنْ زُبَيْدَةَ، وَذَلِكَ
يَوْمَ الْجُمْعَةِ لِسِتَّ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ
شَوَّالَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَمُلَ بِنَاءُ مَدِينَةِ طَرَسُوسَ عَلَى يَدَيْ فَرَجٍ الْخَادِمِ
التُّرْكِيِّ، وَنَزَلَهَا النَّاسُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَأَعْطَى
أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ غَزَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا. وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ رَزِينٍ الشَّاعِرُ:
بِهَارُونَ لَاحَ النُّورُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَقَامَ بِهِ فِي عَدْلِ سِيرَتِهِ
النَّهْجُ
إِمَامٌ بِذَاتِ اللَّهِ أَصْبَحَ شُغْلُهُ وَأَكْثَرُ مَا يُعْنَى بِهِ الْغَزْوُ
وَالْحَجُّ
تَضِيقُ عُيُونُ النَّاسِ عَنْ نُورِ وَجْهِهِ إِذَا مَا بَدَا لِلنَّاسِ
مَنْظَرُهُ الْبَلْجُ
وَإِنَّ أَمِينَ اللَّهِ هَارُونَ ذَا النَّدَى يُنِيلُ الَّذِي يَرْجُوهُ
أَضْعَافَ مَا يَرْجُو
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَكَّائِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْفَرَاهِيدِيُّ - وَيُقَالُ الْفُرْهُودِيُّ - الْأَزْدِيُّ الْيَحْمَدِيُّ،
شَيْخُ النُّحَاةِ، وَعَنْهُ أَخَذَ سِيبَوَيْهِ وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَرَعَ عِلْمَ
الْعَرُوضِ، قَسَّمَهُ إِلَى
خَمْسِ دَوَائِرَ، وَفَرَّعَهُ إِلَى
خَمْسَةَ عَشَرَ بَحْرًا، وَزَادَ الْأَخْفَشُ فِيهِ بَحْرًا آخَرَ، وَهُوَ
الْخَبَبُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ كَانَ شِعْرُ الْوَرَى صَحِيحًا مِنْ قَبْلُ أَنْ يُخْلَقَ الْخَلِيلُ
وَقَدْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِعِلْمِ النَّغَمِ، وَلَهُ فِيهِ تَصْنِيفٌ
أَيْضًا، وَلَهُ كِتَابُ " الْعَيْنِ " فِي اللُّغَةِ، ابْتَدَأَهُ
وَأَكْمَلَهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ وَأَضْرَابُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ،
كَمُؤَرِّجٍ السَّدُوسِيِّ، وَنَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ. فَلَمْ
يُنَاسِبُوا مَا وَضَعَهُ الْخَلِيلُ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ
دَرَسْتَوَيْهِ كِتَابًا بَيَّنَ فِيهِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْخَلَلِ،
فَأَفَادَ.
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيلُ رَجُلًا صَالِحًا عَاقِلًا كَامِلًا حَلِيمًا وَقُورًا،
وَكَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، صَبُورًا عَلَى الْعَيْشِ الْخَشِنِ
الضَّيِّقِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يُجَاوِزُ هَمِّي مَا وَرَاءَ بَابِي. وَكَانَ
ظَرِيفًا حَسَنَ الْخُلُقِ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الْعُرُوضِ، قَالَ: وَكَانَ
بَعِيدَ الْفَهْمِ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ يَوْمًا: كَيْفَ تُقَطِّعُ هَذَا
الْبَيْتَ؟
إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ شَيْئًا فَدَعْهُ وَجَاوِزْهُ إِلَى مَا تَسْتَطِيعُ
فَشَرَعَ مَعِي فِي تَقْطِيعِهِ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَضَ
مِنْ عِنْدِي فَلَمْ يَعُدْ إِلَيَّ، وَكَأَنَّهُ فَهِمَ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَحْمَدَ سِوَى أَبِيهِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
أَبِي خَيْثَمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وُلِدَ الْخَلِيلُ سَنَةَ مِائَةٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ، وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ عَلَى
الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: سَنَةَ سِتِّينَ، وَزَعَمَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ
" شُذُورِ الْعُقُودِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ،
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ كَامِلٍ الْمُرَادِيُّ
مَوْلَاهُمُ، الْمِصْرِيُّ الْمُؤَذِّنُ، رَاوِيَةُ الشَّافِعِيِّ، وَآخِرُ مَنْ
رَوَى عَنْهُ. وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا تَفَرَّسَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ، وَفِي
الْبُوَيْطِيِّ وَالْمُزَنِيِّ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ مَا
وَقَعَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ شِعْرِ الرَّبِيعِ هَذَا:
صَبْرًا جَمِيلًا مَا أَسْرَعَ الْفَرَجَا مَنْ صَدَقَ اللَّهَ فِي الْأُمُورِ
نَجَا
مَنْ خَشِيَ اللَّهَ لَمْ يَنَلْهُ أَذَى وَمَنْ رَجَا اللَّهَ كَانَ حَيْثُ رَجَا
فَأَمَّا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْجِيزِيُّ، فَإِنَّهُ رَوَى
عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا. وَقَدْ مَاتَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَمِائَتَيْنِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَضَافَ الرَّشِيدُ الْخَاتَمَ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مَعَ
الْوِزَارَةِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ أَبَا هُرَيْرَةَ مُحَمَّدَ بْنَ فَرُّوخٍ نَائِبَ
الْجَزِيرَةِ صَبْرًا فِي قَصْرِ الْخُلْدِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرُورِيُّ فَقُتِلَ.
وَفِيهَا قَدِمَ رَوْحُ بْنُ حَاتِمٍ إِفْرِيقِيَّةَ. وَخَرَجَتْ أُمُّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْزُرَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَقَامَتْ بِهَا حَتَّى شَهِدَتِ
الْحَجَّ، وَكَانَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ عَمُّ الْخُلَفَاءِ عَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَهُ،
وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَضَعَ الرَّشِيدُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ الْعُشْرَ الَّذِي كَانَ
يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ النِّصْفِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ مِنْ بَغْدَادَ يَرْتَادُ لَهُ مَوْضِعًا يَسْكُنُهُ
غَيْرَهَا، فَلَمْ يَبْرَحْ إِلَّا أَنْ تَشَوَّشَ فِيهَا ثُمَّ رَجَعَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ يَعْقُوبُ ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَمُّ
هَارُونَ الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِالْبَصْرَةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ
بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى حَوَاصِلِهِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْخُلَفَاءِ، فَوَجَدُوا
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، فَقَبَضُوهُ; مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْأَمْتِعَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى الْحَرْبِ وَعَلَى تَقَوِّي
الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعُدَدِ وَالْبِرَكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ حَسَنٍ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ، وَكَانَ مِنْ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ وَشُجْعَانِهِمْ. جَمَعَ لَهُ
الْمَنْصُورُ بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَزَوَّجَهُ الْمَهْدِيُّ
ابْنَتَهُ الْعَبَّاسَةَ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ
دَخْلُهُ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ. وَكَانَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ يَاقُوتٍ
أَحْمَرَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ.
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ الْأَكْبَرِ - وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ
- حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي مَسْحِ رَأْسِ الْيَتِيمِ إِلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ،
وَمَسْحِ رَأْسِ مَنْ لَهُ أَبٌ إِلَى مُؤَخَّرِهِ.
وَقَدْ وَفَدَ عَلَى الرَّشِيدِ،
فَهَنَّأَهُ بِالْخِلَافَةِ، فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَزَادَهُ فِي عَمَلِهِ
شَيْئًا كَثِيرًا. وَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ خَرَجَ مَعَهُ الرَّشِيدُ
يُشَيِّعُهُ إِلَى كَلْوَاذَى.
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَقَدْ أَرْسَلَ الرَّشِيدُ مَنِ اصْطَفَى مِنْ مَالِهِ الصَّامِتِ، فَوَجَدَ لَهُ
مِنَ الذَّهَبِ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفٍ دِينَارٍ، وَمِنَ الدَّرَاهِمِ سِتِّينَ
أَلْفَ أَلْفٍ، خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ وَالْجَوَاهِرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ وَفَاتَهُ وَوَفَاةَ الْخَيْزُرَانِ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ.
وَقَدْ وَقَفَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ عَلَى قَبْرِهِ، فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
أَمْسَى التُّرَابُ لِمَنْ هَوِيتُ مَبِيتَا الْقَ التُّرابَ فَقُلْ لَهُ
حُيِّيتَا إِنَّا نُحِبُّكَ يَا تُرَابُ وَمَا بِنَا
إِلَّا كَرَامَةُ مَنْ عَلَيْهِ حُثِيتَا
وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ الْخَيْزُرَانُ جَارِيَةُ الْمَهْدِيِّ وَأُمُّ أَمِيرَيِ
الْمُؤْمِنِينَ الْهَادِي وَالرَّشِيدِ، اشْتَرَاهَا الْمَهْدِيُّ وَحَظِيَتْ
عِنْدَهُ جَدَّا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، وَوَلَدَتْ لَهُ
خَلِيفَتَيْنِ; مُوسَى الْهَادِي وَالرَّشِيدَ، وَلَمْ يَتَّفِقْ هَذَا
لِغَيْرِهَا مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا لِوَلَّادَةَ بِنْتِ الْعَبَّاسِ
الْعَبْسِيَّةِ، زَوْجَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهِيَ أُمُّ
الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ. وَإِلَّا لِشَاهِفِرِنْدَ
بِنْتِ فَيْرُوزَ بْنِ يَزْدَجِرْدَ،
وَلَدَتْ لِمَوْلَاهَا الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، يَزِيدَ
وَإِبْرَاهِيمَ، وَكِلَاهُمَا وَلِيَ الْخِلَافَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْخَيْزُرَانِ، عَنْ مَوْلَاهَا الْمَهْدِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَقَاهُ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا عُرِضَتْ عَلَى الْمَهْدِيِّ لِيَشْتَرِيَهَا أَعْجَبَتْهُ إِلَّا
دِقَّةَ سَاقَيْهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا جَارِيَةُ، إِنَّكِ لَعَلَى غَايَةِ
الْمُنَى لَوْلَا خُمُوشَةٌ فِي سَاقَيْكَ. فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ أَحْوَجُ مَا تَكُونُ إِلَيْهِمَا لَا تَرَاهُمَا.
فَاسْتَحْسَنَ جَوَابَهَا وَاشْتَرَاهَا، وَحَظِيَتْ عِنْدَهُ جِدًّا.
وَقَدْ حَجَّتِ الْخَيْزُرَانُ مَرَّةً فِي حَيَاةِ الْمَهْدِيِّ، فَكَتَبَ
إِلَيْهَا وَهِيَ بِمَكَّةَ يَسْتَوْحِشُ لَهَا، وَيَتَشَوَّقُ إِلَيْهَا،
يَقُولُ:
نَحْنُ فِي غَايَةِ السُّرُورِ وَلَكِنْ لَيْسَ إِلَّا بِكُمْ يَتِمُّ السُّرُورُ
عَيْبُ مَا نَحْنُ فِيهِ يَا أَهْلَ وُدِّي أَنَّكُمْ غُيَّبٌ وَنَحْنُ حُضُورُ
فَأَجِدُّوا فِي السَّيْرِ بَلْ إِنْ قَدَرْتُمْ أَنْ تَطِيرُوا مَعَ الرِّيَاحِ
فَطِيرُوا
فَأَجَابَتْهُ أَوْ قَالَتْ لِمَنْ أَجَابَهُ:
قَدْ أَتَانَا الَّذِي وَصَفْتَ مِنَ الشَّوْ قِ فَكَدِنْا وَمَا فَعَلْنَا
نَطِيرُ
لَيْتَ أَنَّ الرِّيَاحَ كُنَّ
يُؤَدِّي نَ إِلَيْكُمْ مَا قَدْ يُجِنُّ الضَّمِيرُ
لَمْ أَزَلْ صَبَّةً فَإِنْ كُنْتَ بَعْدِي فِي سُرُورٍ فَدَامَ ذَاكَ السُّرُورُ
وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَهْدَى إِلَيْهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ نَائِبُ
الْبَصْرَةِ مِائَةَ وَصَيْفٍ، مَعَ كُلِّ وَصَيْفٍ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ مَمْلُوءٌ
مِسْكًا. فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ: إِنْ كَانَ مَا بَعَثْتَهُ ثَمَنًا عَنْ ظَنِّنَا
فِيكَ فَظَنُّنَا فِيكَ أَكْثَرُ مِمَّا بَعَثْتَ، وَقَدْ بَخَسْتَنَا فِي
الثَّمَنِ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ زِيَادَةَ الْمَوَدَّةِ فَقَدِ
اتَّهَمْتَنِي فِي الْمَوَدَّةِ. وَرَدَّتْهَا عَلَيْهِ.
وَقَدِ اشْتَرَتِ الدَّارَ الْمَشْهُورَةَ بِهَا بِمَكَّةَ الْمَعْرُوفَةَ بِدَارِ
الْخَيْزُرَانِ، فَزَادَتْهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَكَانَ مُغَلُّ ضِيَاعِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا.
وَاتَّفَقَ مَوْتُهَا بِبَغْدَادَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَخَرَجَ ابْنُهَا الرَّشِيدُ فِي
جِنَازَتِهَا وَهُوَ حَامِلٌ سَرِيرَهَا يَخُبُّ فِي الطِّينِ، فَلَمَّا انْتَهَى
إِلَى الْمَقْبَرَةِ أُتِيَ بِمَاءٍ، فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَلَبِسَ خُفًّا،
وَصَلَّى عَلَيْهَا، وَنَزَلَ فِي لَحْدِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ
أُتِيَ بِسَرِيرٍ، فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى بِالْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ،
فَوَلَّاهُ الْخَاتَمَ وَالنَّفَقَاتِ. وَأَنْشَدَ الرَّشِيدُ قَوْلَ مُتَمِّمِ
بْنِ نُوَيْرَةَ حِينَ دَفَنَ أُمَّهُ الْخَيْزُرَانَ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ
بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ
لَيْلَةً مَعَا
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَادِرُ جَارِيَةٌ كَانَتْ لِمُوسَى
الْهَادِي، وَكَانَ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا جِدًّا، وَكَانَتْ تُحْسِنُ
الْغِنَاءَ جَيِّدًا، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُغَنِّيهِ إِذْ أَخَذَتْهُ
فِكْرَةٌ غَيَّبَتْهُ عَنْهَا، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَسَأَلَهُ بَعْضُ
الْحَاضِرِينَ: مَا هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَخَذَتْنِي
فِكْرَةٌ; أَنِّي أَمُوتُ، وَأَنَّ أَخِي هَارُونَ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ
بَعْدِي، وَيَتَزَوَّجُ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَفَدَاهُ الْحَاضِرُونَ، وَدَعَوْا
لَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ، فَاسْتَدْعَى أَخَاهُ هَارُونَ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا
وَقَعَ فِي فِكْرِهِ، فَعَوَّذَهُ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْتَحْلَفَهُ
الْهَادِي بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْحَجِّ
مَاشِيًا حَافِيًا أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا، فَحَلَفَ لَهُ، وَاسْتَحْلَفَ
الْجَارِيَةَ بِالْحَجِّ وَالْعَتَاقِ، فَحَلَفَتْ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا
أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعَثَ
الرَّشِيدُ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ بِالْأَيْمَانِ الَّتِي
حَلَفْتُهَا وَحَلَفْتَهَا؟ فَقَالَ: أَنَا أُكَفِّرُ عَنْكِ وَعَنِّي.
وَتَزَوَّجَهَا فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ أَيْضًا جِدًّا حَتَّى كَانَتْ تَنَامُ فِي
حِجْرِهِ فَلَا يَتَحَرَّكُ خَشْيَةَ أَنْ يُزْعِجَهَا مِنْ مَنَامِهَا،
فَبَيْنَمَا هِيَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمَةٌ مَعَهُ إِذِ انْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً
تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
رَأَيْتُ الْهَادِي مَوْلَايَ فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ:
أَخْلَفْتِ عَهْدِي بَعْدَ مَا جَاوَرْتُ سُكَّانَ الْمَقَابِرْ
وَنَسِيتِنِي وَحَنَثْتِ فِي أَيْمَانِكَ الْكُذُبِ الْفَوَاجِرْ
وَنَكَحْتِ غَادِرَةً أَخِي صَدَقَ الَّذِي سَمَّاكِ غَادِرْ
أَمْسَيْتُ فِي أَهْلِ الْبِلَى
وَغَدَوْتِ فِي الْحُورِ الْغَرَائِرْ
لَا يَهْنِكِ الْإِلْفُ الْجَدِي دُ وَلَا تَدُرْ عَنْكِ الدَّوَائِرْ
وَلَحِقْتِ بِي قَبْلَ الصَّبَا حِ وَصِرْتِ حَيْثُ غَدَوْتُ صَائِرْ
فَقَالَ لَهَا الرَّشِيدُ: إِنَّمَا هَذَا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. فَقَالَتْ: كَلَّا
وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَكَأَنَّمَا كُتِبَتٍ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ
فِي قَلْبِي. ثُمَّ مَا زَالَتْ تَضْطَرِبُ وَتَرْتَعِدُ حَتَّى مَاتَتْ قَبْلَ
الصَّبَاحِ.
هَيْلَانَةُ جَارِيَةُ الرَّشِيدِ، وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهَا هَيْلَانَةَ لِكَثْرَةِ
قَوْلِهَا: هِيَ لَانَةُ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَكَانَ لَهَا مُحِبًّا، وَكَانَتْ قَبْلَهُ لِيَحْيَى بْنِ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، فَدَخَلَ الرَّشِيدُ يَوْمًا مَنْزِلَهُ قَبْلَ
الْخِلَافَةِ، فَاعْتَرَضَتْهُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَتْ: أَمَا لَنَا مِنْكَ نَصِيبٌ؟
فَقَالَ لَهَا؟ وَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: اسْتَوْهِبْنِي مِنْ
هَذَا الشَّيْخِ. فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَوَهَبَهَا لَهُ
فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ، وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ،
فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا وَرَثَاهَا وَاسْتَرْثَاهَا، وَكَانَ مِنْ
قَوْلِهِ فِيهَا:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا ضَمَّنُوكِ الثَّرَى وَجَالَتِ الْحَسْرَةُ فِي صَدْرِي
اذْهَبْ فَلَا وَاللَّهِ لَا سَرَّنِي بَعْدَكِ شَيْءٌ آخِرَ الدَّهْرِ
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِي مَوْتِهَا:
يَا مَنْ تَبَاشَرَتِ الْقُبُورُ
بِمَوْتِهَا قَصَدَ الزَّمَانُ مَسَاءَتِي فَرَمَاكِ
أَبْغِي الْأَنِيسَ فَمَا أَرَى لِي مُؤْنِسًا إِلَّا التَّرَدُّدَ حَيْثُ كُنْتُ
أَرَاكِ
مَلِكٌ بَكَاكِ وَطَالَ بَعْدَكِ حُزْنُهُ لَوْ يَسْتَطِيعُ بِمُلْكِهِ لَفَدَاكِ
تَحْمِي الْفُؤَادَ عِنِ النِّسَاءِ حَفِيظَةٌ كَيْلَا يَحِلَّ حِمَى الْفُؤَادِ
سِوَاكِ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ الرَّشِيدُ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا; لِكُلِّ بَيْتٍ عَشَرَةُ
آلَافٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتْ عَصَبِيَّةٌ بِالشَّامِ وَتَخْبِيطٌ بَيْنَ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا اسْتَقْضَى الرَّشِيدُ يُوسُفَ ابْنَ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ وَأَبُوهُ
حَيٌّ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، فَدَخَلَ بِلَادَ
الرُّومِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ
مِنْ مَكَّةَ بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا وَبَاءً، فَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ حَتَّى كَانَ
وَقْتُ الْوُقُوفِ فَوَقَفَ، ثُمَّ جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ، ثُمَّ مِنًى، ثُمَّ
دَخَلَ مَكَّةَ، فَطَافَ وَسَعَى، وَارْتَحَلَ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الرَّشِيدُ الْبَيْعَةَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ
لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ، وَسَمَّاهُ الْأَمِينَ، وَعُمْرُهُ إِذْ
ذَاكَ خَمْسُ سِنِينَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ سَلْمٌ الْخَاسِرُ:
قَدْ وَفَّقَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ إِذْ بَنَى بَيْتَ الْخِلَافَةِ لِلْهِجَانِ
الْأَزْهَرِ فَهُوَ الْخَلِيفَةُ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ
شَهِدَا عَلَيْهِ بِمَنْظَرٍ وِبَمَخْبَرِ قَدْ بَايَعَ الثَّقَلَانِ فِي مَهْدِ
الْهُدَى
لِمُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ ابْنَةِ جَعْفَرِ
وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ يَتَوَسَّمُ النَّجَابَةَ وَالرَّجَاحَةَ فِي عَبْدِ
اللَّهِ الْمَأْمُونِ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ فِيهِ حَزْمَ الْمَنْصُورِ،
وَنُسُكَ الْمَهْدِيِّ، وَعِزَّةَ نَفْسِ الْهَادِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ
الرَّابِعَةَ مِنِّي لَقُلْتُ، وَإِنِّي لَأُقَدِّمُ مُحَمَّدًا ابْنَ زُبَيْدَةَ
عَلَيْهِ وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ هَوَاهُ، وَلَكِنْ لَا
أَسْتَطِيعُ غَيْرَ ذَلِكَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَقَدْ بَانَ وَجْهُ الرَّأْيِ لِي غَيْرَ أَنَّنِي غُلِبْتُ عَلَى الْأَمْرِ
الَّذِي كَانَ أَحْزَمَا
وَكَيْفَ يُرَدُّ الدَّرُّ فِي الضَّرْعِ بَعْدَمَا تَوَزَّعَ حَتَّى صَارَ
نَهْبًا مُقَسَّمًا
أَخَافُ الْتَوَاءَ الْأَمْرِ بَعْدَ اسْتِوَائِهِ وَأَنْ يُنْقَضَ الْأَمْرُ
الَّذِي كَانَ أُبْرِمَا
وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ، فِي قَوْلِ الْوَاقِدِيِّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدُ.
وَفِيهَا سَارَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَتَحَرَّكَ هُنَالِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَعْوَانَةُ الْعَابِدَةُ الزَّاهِدَةُ، كَانَتْ أَمَةً سَوْدَاءَ، كَثِيرَةَ
الْعِبَادَةِ، رُوِيَ عَنْهَا كَلِمَاتٌ حَسَّانٌ، وَقَدْ سَأَلَهَا الْفُضَيْلُ
بْنُ عِيَاضٍ الدُّعَاءَ، فَقَالَتْ: أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَا إِنْ
دَعَوْتَهُ اسْتَجَابَ لَكَ؟ فَشَهِقَ الْفُضَيْلُ، وَوَقَعَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَهْمِيُّ مَوْلَاهُمْ، قَالَ
ابْنُ خِلِّكَانَ: كَانَ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ رَفَاعَةَ، وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مُسَافِرٍ الْفَهْمِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وُلِدَ بِقَرْقَشَنْدَةَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَنَشَأَ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: أَصْلُهُ مِنْ قَلْقَلَشَنْدَةَ، وَضَبَطَهُ
بِلَامَيْنِ، الثَّانِيَةُ مُتَحَرِّكَةٌ.
وَحَكَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ
حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ، وَأَنَّهُ وُلِدَ
فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسَةُ
آلَافِ دِينَارٍ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَدْخُلُ لَهُ مِنَ الْغَلَّةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ
ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ اللَّيْثُ أَفْقَهَ مِنْ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّهُ
ضَيَّعَهُ أَصْحَابُهُ.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَالِكٌ يَسْتَهْدِيهِ شَيْئًا مِنَ الْعُصْفُرِ لِأَجْلِ
جِهَازِ ابْنَتِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ حِمْلًا، فَاسْتَعْمَلَ مِنْهُ
مَالِكٌ حَاجَتَهُ، وَبَاعَ مِنْهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ
بَقِيَّةٌ.
وَحَجَّ مَرَّةً فَأَهْدَى لَهُ مَالِكٌ طَبَقًا فِيهِ رُطَبٌ، فَرَدَّ الطَّبَقَ
وَفِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ.
وَكَانَ يَهَبُ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ
الْأَلْفَ دِينَارٍ وَمَا يُقَارِبُ ذَلِكَ.
وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي الْبَحْرِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
فِي مَرْكَبٍ، وَمَطْبَخُهُ
فِي مَرْكَبٍ. وَمَنَاقِبُهُ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " التَّكْمِيلِ ".
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ سُمِعَ قَائِلٌ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ اللَّيْثُ:
ذَهَبَ اللَّيْثُ فَلَا لَيْثَ لَكُمْ وَمَضَى الْعِلْمُ غَرِيبًا وَقُبِرْ
فَالْتَفَتُوا فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا.
الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْقُرَشِيُّ، عَرَضَ عَلَيْهِ
الْمَهْدِيُّ أَنْ يَلِيَ الْقَضَاءَ وَيُعْطِيَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِائَةَ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ عَاهَدْتُ اللَّهَ أَنْ لَا أَلِيَ
شَيْئًا، وَأُعِيذُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ أَنْ أَخِيسَ بِعَهْدِي.
فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِيُّ: آللَّهِ؟ قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: انْطَلِقْ فَقَدْ
أَعْفَيْتُكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ ظُهُورُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ
وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَارْتَحَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ
الْكُوَرِ وَالْأَمْصَارِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ الرَّشِيدُ، وَقَلِقَ مِنْ
أَمْرِهِ، فَنَدَبَ إِلَيْهِ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ
فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، وَوَلَّاهُ كُوَرَ الْجَبَلِ وَالرَّيَّ وَجُرْجَانَ
وَطَبَرِسْتَانَ وَقُومَسَ وَالرُّويَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَسَارَ الْفَضْلُ
بْنُ يَحْيَى إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَكُتُبُ
الرَّشِيدِ تَلْحَقُهُ مَعَ الْبُرُدِ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ، وَأَنْوَاعُ
التُّحَفِ وَالْبِرِّ، وَكَاتَبَ الْفَضْلُ صَاحِبَ الدَّيْلَمِ، وَوَعَدَهُ
بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إِنْ هُوَ سَهَّلَ خُرُوجَ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
إِلَيْهِمْ، وَكَتَبَ الْفَضْلُ إِلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَعِدُهُ
وَيُمَنِّيهِ وَيُؤَمِّلُهُ وَيُرَجِّيهِ وَيَبْسُطُ أَمَلَهُ، إِنْ هُوَ خَرَجَ
إِلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ لَهُ الْعُذْرَ عِنْدَ الرَّشِيدِ، فَامْتَنَعَ يَحْيَى
أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَكْتُبَ لَهُ الرَّشِيدُ كِتَابَ أَمَانٍ
بِيَدِهِ، فَكَتَبَ الْفَضْلُ إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ الرَّشِيدُ،
وَوَقَعَ مِنْهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا، وَكَتَبَ الْأَمَانَ بِيَدِهِ، وَأَشْهَدَ
عَلَيْهِ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَمَشْيَخَةَ بَنِي هَاشِمٍ، مِنْهُمْ عَبْدُ
الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، وَبَعَثَ الْأَمَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَهُ جَوَائِزَ
وَتُحَفًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الْفَضْلِ بَعَثَهَا
بِكَمَالِهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَسَارَ بِهِ الْفَضْلُ، فَدَخَلَ بِهِ بَغْدَادَ
وَتَلْقَّاهُ الرَّشِيدُ، وَأَكْرَمَهُ وَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَاءَ، وَخَدَمَهُ
آلُ بَرْمَكَ خِدْمَةً عَظِيمَةً، بِحَيْثُ إِنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ كَانَ
يَتَوَلَّى
خِدْمَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَعَظُمَ
الْفَضْلُ عِنْدَ الرَّشِيدِ جَدًّا بِهَذِهِ الْفِعْلَةِ; حَيْثُ سَعَى فِي الْإِصْلَاحِ
بَيْنَ الْعَبَّاسِيِّينَ وَالْفَاطِمِيِّينَ.
فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مَرْوَانُ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ يَمْدَحُ الْفَضْلَ بْنَ
يَحْيَى، وَيَشْكُرُهُ عَلَى سَعْيِهِ هَذَا:
ظَفِرْتَ فَلَا شُلَّتْ يَدٌ بَرْمَكِيَّةٌ رَتَقْتَ بِهَا الْفَتْقَ الَّذِي
بَيْنَ هَاشِمٍ عَلَى حِينِ أَعْيَا الرَّاتِقينَ الْتِئَامُهُ
فَكَفُّوا وَقَالُوا لَيْسَ بِالْمُتَلَائِمِ فَأَصْبَحَتْ قَدْ فَازَتْ يَدَاكَ
بِخُطَّةٍ
مِنَ الْمَجْدِ بَاقٍ ذِكْرُهَا فِي الْمَوَاسِمِ وَمَا زَالَ قِدْحُ الْمُلِكِ
يَخْرُجُ فَائِزًا
لَكُمْ كُلَّمَا ضُمَّتْ قِدَاحُ الْمُسَاهِمِ
قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ تَنَكَّرَ لِيَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَسَنٍ، وَتَغَيَّرَ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَجَنَهُ، ثُمَّ اسْتَحْضَرَهُ
الرَّشِيدُ وَعِنْدَهُ الْقَاضِيَانِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ،
وَعِنْدَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحْضَرَ الْأَمَانَ
الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ، فَسَأَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ
هَذَا الْأَمَانِ أَصَحِيحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَغَيَّظَ الرَّشِيدُ
عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، فَاحْكُمْ فِيهِ
بِمَا شِئْتَ. وَمَزَّقَ الْأَمَانَ، وَبَصَقَ فِيهِ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ،
وَأَقْبَلَ الرَّشِيدُ عَلَى يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: هِيهِ هِيهِ.
وَهُوَ يَتَبَسَّمُ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، وَقَالَ إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ
أَنَّا سَمَمْنَاكَ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ
لَنَا قَرَابَةً وَرَحِمًا وَحَقًّا، فَعَلَامَ تُعَذِّبُنِي وَتَحْبِسُنِي؟
فَرَقَّ لَهُ الرَّشِيدُ، فَاعْتَرَضَ بَكَّارُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: لَا
يُغْرُنَّكَ كَلَامُ هَذَا، فَإِنَّهُ عَاصٍ شَاقٌّ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ
مَكْرٌ وَخُبْثٌ، وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَيْنَا مَدِينَتَنَا، وَأَظْهَرَ فِيهَا
الْعِصْيَانَ. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى:
وَمَنْ أَنْتُمْ عَافَاكُمُ اللَّهُ؟ وَإِنَّمَا هَاجَرَ أَبُوكَ إِلَى
الْمَدِينَةِ بِآبَائِي، وَآبَاءِ هَذَا. ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا النَّاسُ نَحْنُ وَأَنْتُمْ، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ جَاءَ إِلَيَّ هَذَا حِينَ قُتِلَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ قَاتِلَهُ. وَأَنْشَدَنِي فِيهِ
مَرْثِيَّةً نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ بَيْتًا، وَقَالَ: إِنْ تَحَرَّكْتَ فِي هَذَا
الْأَمْرِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُبَايِعُكَ، وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَلْحَقَ
بِالْبَصْرَةِ وَأَيْدِينَا مَعَ يَدِكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ
الزُّبَيْرِيِّ، وَأَنْكَرَ وَشَرَعَ يَحْلِفُ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ:
إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِي ذَلِكَ. وَتَنَمَّرَ الرَّشِيدُ، وَقَالَ لِيَحْيَى:
أَتَحْفَظُ شَيْئًا مِنَ الْمَرْثِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَأَنْشَدَهُ مِنْهَا
جَانِبًا. فَازْدَادَ الزُّبَيْرِيُّ فِي الْإِنْكَارِ، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ: فَقُلْ: إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْ حَوْلِ
اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَوَكَلَنِي اللَّهُ إِلَى حَوْلِي وَقُوَّتِي. فَامْتَنَعَ
مِنَ الْحَلِفِ بِذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ، وَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ،
فَحَلَفَ بِذَلِكَ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الرَّشِيدِ
فَرَمَاهُ اللَّهُ بِالْفَالِجِ فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ امْرَأَتَهُ
غَمَّتْ وَجْهَهُ بِمِخَدَّةٍ، فَقَتَلَتْهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الرَّشِيدَ أَطْلَقَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ،
وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَيُقَالُ: إِنَّمَا حَبَسَهُ بَعْضَ
يَوْمٍ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَا وَصَلَهُ مِنَ الْمَالِ مِنَ الرَّشِيدِ
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
كُلِّهِ شَهْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِالشَّامِ بَيْنَ
النِّزَارِيَّةِ - وَهُمْ قِيسٌ - وَالْيَمَانِيَّةِ، وَهَذَا كَانَ أَوَّلَ
بَدُوِّ أَمْرِ الْعِشْرَيْنِ بِحُورَانَ، وَهُمْ قَيْسٌ وَيَمَنٌ، أَعَادُوا
مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ فِي هَذَا الْأَوَانِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ
عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ كُلِّهَا مِنْ جِهَةِ الرَّشِيدِ ابْنُ عَمِّهِ مُوسَى
بْنُ عِيسَى، وَقِيلَ: عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ بِخُصُوصِهَا سِنْدِيُّ بْنُ شَاهَكَ أَحَدُ
مَوَالِي أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَقَدْ هَدَمَ سُورَ دِمَشْقَ حِينَ
هَاجَتْ هَذِهِ الْفِتْنَةُ; خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا أَبُو
الْهَيْذَامِ الْمُرِّيُّ رَأْسُ الْقَيْسِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ سِنْدِيٌّ هَذَا
دَمِيمَ الْخَلْقِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَكَانَ لَا يُحَلِّفُ الْمُكَارِي وَلَا
الْمَلَّاحَ وَلَا الْحَائِكَ، يَقُولُ: الْقَوْلُ قَوْلُهُمْ. وَيَسْتَخِيرُ
اللَّهَ فِي الْجَمَّالِ وَمُعَلِّمِ الْكُتَّابِ. وَقَدْ تُوُفِّيَ سِنْدِيٌّ
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ.
فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ بَعَثَ الرَّشِيدُ مِنْ جِهَتِهِ مُوسَى بْنَ
يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَرُءُوسِ الْكُتَّابِ
فَأَصْلَحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَهَدَأَتِ الْفِتْنَةُ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُ
الشَّامِ، وَحَمَلُوا جَمَاعَاتٍ مِنْ رُءُوسِ الْفِتْنَةِ إِلَى مَدِينَةِ
السَّلَامِ، فَرَدَّ الرَّشِيدُ أَمْرَهُمْ إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَعَفَا
عَنْهُمْ وَأَطَلْقَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ هَاجَتِ الشَّامُ هَيْجًا يُشِيبُ رَاسَ وَلِيدِهِ
فَصَبَّ مُوسَى عَلَيْهَا بِخَيْلِهِ وَجُنُودِهِ
فَدَانَتِ الشَّامُ لَمَّا أَتَى
نَسِيجُ وَحِيدِهِ
هَذَا الْجَوَادُ الَّذِي بَذَّ كُلَّ جُودٍ بِجُودِهِ
أَعْدَاهُ جُودُ أَبِيهِ يَحْيَى وَجُودُ جُدُودِهِ
فَجَادَ مُوسَى بْنُ يَحْيَى بِطَارِفٍ وَتَلِيدِهِ
وَنَالَ مُوسَى ذُرَى الْمَجْ دِ وَهُوَ حَشْوُ مُهُودِهِ
خَصَصْتُهُ بِمَدِيحِي مَنْثُورِهِ وَقَصِيدِهِ
مِنَ الْبَرَامِكِ عُودٌ لَهُ فَأَكْرِمْ بَعُودِهِ
حَوَوْا عَلَى الشِّعْرِ طُرًّا خَفِيفِهِ وَمَدِيدِهِ
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ الْغِطْرِيفَ بْنَ عَطَاءٍ عَنْ خُرَاسَانَ،
وَوَلَّاهَا حَمْزَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيَّ الْمُلَقَّبَ
بِالْعَرُوسِ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ
نِيَابَةَ مِصْرَ، فَاسْتَنَابَ جَعْفَرٌ عَلَيْهَا عُمَرَ بْنَ مِهْرَانَ،
وَكَانَ شَنِيعَ الشَّكْلِ، زَرِيَّ الْخَلْقِ، بَيِّنَ الْكِنْبَةِ، أَحْوَلَ،
وَمَا كَانَ سَبَبَ وِلَايَةِ الرَّشِيدِ إِيَّاهُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
إِلَّا أَنَّ نَائِبَهَا مُوسَى بْنَ عِيسَى كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى خَلْعِ
الرَّشِيدِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَعْزِلَنَّهُ وَلَأُوَلِّيَنَّ عَلَيْهَا
أَخَسَّ النَّاسِ. فَاسْتَدْعَى عُمَرَ بْنَ مَهْرَانَ هَذَا، وَوَلَّاهُ
عَلَيْهَا نِيَابَةً عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ،
فَسَارَ إِلَيْهَا عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ عَلَى بَغْلٍ وَغُلَامُهُ أَبُو دُرَّةَ
عَلَى بَغْلٍ آخَرَ، فَدَخَلَهَا كَذَلِكَ، فَانْتَهَى إِلَى مَجْلِسِ نَائِبِهَا
مُوسَى بْنِ عِيسَى، فَجَلَسَ فِي
أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَلَمَّا
انْفَضَّ النَّاسُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ عِيسَى وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَنْ
هُوَ، فَقَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ يَا شَيْخُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَصْلَحَ اللَّهُ
الْأَمِيرَ. ثُمَّ قَامَ بِالْكُتُبِ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا
قَالَ: أَنْتَ عُمَرُ بْنُ مِهْرَانَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ
فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [ الزُّخْرُفِ: 51 ]. ثُمَّ
سَلَّمَ إِلَيْهِ الْعَمَلَ، وَارْتَحَلَ عَنْهَا، وَأَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ
مِهْرَانَ عَلَى عَمَلِهِ، فَكَانَ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا مِنَ الْهَدَايَا إِلَّا
مَا كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ قُمَاشًا، وَيَكْتُبُ عَلَى ذَلِكَ اسْمَ
مُهْدِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ طَالَبَ بِالْخَرَاجِ وَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ،
فَشَرَعَ بَعْضُهُمْ فِي مُمَاطَلَتِهِ، فَأَقْسَمَ لَا يُمَاطِلُهُ أَحَدٌ
فَيَقْبِضَ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَبْعَثُهُ إِلَى بَغْدَادَ وَيَزِنُ
خَرَاجَهُ بِهَا، وَيَأْتِي بِوَرَقَةِ الْقَبْضِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِبَعْضِ
النَّاسِ فَتَأَدَّبَ بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ جَبَاهُمُ الْقِسْطَ الثَّانِي،
فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثُ عَجَزَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنِ الْأَدَاءِ، فَجَعَلَ
يَسْتَحْضِرُ مَا كَانُوا أَهْدَوْا إِلَيْهِ; فَإِنْ كَانَ نَقْدًا أَدَّاهُ
عَنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ بُرًّا بَاعَهُ وَاعْتَدَّ بِهِ عَنْهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي
إِنَّمَا ادَّخَرْتُ هَذَا لَكْمْ إِلَى وَقْتِ حَاجَتِكُمْ. ثُمَّ أَكْمَلَ
اسْتِخْرَاجَ جَمِيعَ الْخَرَاجِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدٌ
قَبْلَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَرَطَ عَلَى الرَّشِيدِ
أَنَّهُ إِذَا مَهَّدَ الْبِلَادَ وَجَبَى الْخَرَاجَ، فَذَاكَ إِذْنُهُ فِي
الِانْصِرَافِ. وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سِوَى مَوْلَاهُ
أَبِي دُرَّةَ وَهُوَ حَاجِبُهُ، وَهُوَ مَنْفِذُ أُمُورِهِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَفَتَحَ حِصْنًا.
وَحَجَّتْ زُبَيْدَةُ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهَا
أَخُوهَا. وَكَانَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ ابْنَ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَمُّ الرَّشِيدِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ
أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ، حَكَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ وَهْبٍ.
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَرْمَةَ، الشَّاعِرُ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
سَلَمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَرْمَةَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفِهْرِيُّ الْمَدَنِيُّ،
شَاعِرٌ مُفَلِّقٌ، وَفَدَ عَلَى الْمَنْصُورِ بَغْدَادَ فِي وَفْدٍ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ حِينَ اسْتَوْفَدَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَجَلَسُوا
إِلَى سِتْرٍ دُونَ الْمَنْصُورِ، يَرَى النَّاسَ مِنْ وَرَائِهِ وَلَا
يَرَوْنَهُ، وَأَبُو الْخَصِيبِ الْحَاجِبُ وَاقِفٌ يَقُولُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا فُلَانٌ الْخَطِيبُ. فَيَأْمُرُهُ فَيَخْطُبُ، وَيَقُولُ:
هَذَا فُلَانٌ الشَّاعِرُ. فَيَسْتَنْشِدُهُ، حَتَّى كَانَ مِنْ آخِرِهِمْ ابْنُ
هَرْمَةَ هَذَا، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا، وَلَا
أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَيْنًا. قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذَهَبَتْ وَاللَّهِ نَفْسِي، ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي
فَقُلْتُ: يَا نَفْسُ، هَذَا مَوْقِفٌ إِنْ لَمْ تَشْتَدِّي فِيهِ هَلَكْتِ. ثُمَّ
اسْتَنْشَدَنِي، فَأَنْشَدْتُهُ قَصِيدَتِي الَّتِي أَقُولُ فِيهَا:
سَرَى ثَوْبَهُ عَنْكَ الصِّبَا الْمُتَخَايِلُ وَقَرَّبَ لِلْبَيْنِ الْخَلِيطُ
الْمُزَايِلُ
حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى قَوْلِي:
فَأَمَّا الَّذِي أَمَّنْتَهُ يَأْمِنُ الرَّدَى وَأَمَّا الَّذِي حَاوَلْتَ
بِالثُّكْلِ ثَاكِلُ
قَالَ: فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحِجَابِ، فَإِذَا وَجْهُهُ كَأَنَّهُ فِلْقَةُ
قَمَرٍ، فَاسْتَنْشَدَنِي بَقِيَّةَ الْقَصِيدَةِ، وَأَمَرَنِي بِالْقُرْبِ
إِلَيْهِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ يَا إِبْرَاهِيمُ !
لَوْلَا ذُنُوبٌ بَلَغَتْنِي عَنْكَ لَفَضَّلْتُكَ عَلَى أَصْحَابِكَ، فَأَقِرَّ
عَلَيَّ بِذُنُوبِكَ أَعْفُهَا عَنْكَ. فَقُلْتُ: هَذَا رَجُلٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ،
وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَنِي بِحُجَّةٍ تَجِبُ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كُلُّ ذَنْبٍ بَلَغَكَ مِمَّا عَفَوْتَهُ عَنِّي فَأَنَا
مُقِرٌّ بِهِ. فَتَنَاوَلَ الْمِخْصَرَةَ، فَضَرَبَنِي بِهَا ضَرْبَتَيْنِ
وَأَمَرَ لِي بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخِلْعَةٍ، وَعَفَا عَنِّي
وَأَلْحَقَنِي بِنُظَرَائِي.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَنْقِمُهُ الْمَنْصُورُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَمَهْمَا أُلَامُ عَلَى حُبِّهِمْ فَإِنِّي أُحِبُّ بَنِي فَاطِمَهْ
بَنِي بِنْتِ مَنْ جَاءَ بِالْمُحْكَمَاتِ وَبِالدِّينِ وَالسُّنَّةِ الْقَائِمَهْ
فَلَسْتُ أُبَالِي بِحُبِّي لَهُمْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّعْمِ السَّائِمَهْ
قَالَ الْأَخْفَشُ: قَالَ لَنَا
ثَعْلَبٌ: قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خُتِمَ الشُّعَرَاءُ بِابْنِ هَرْمَةَ، وَهُوَ
آخِرُ الْحُجَجِ.
ذَكَرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
" الْمُنْتَظِمِ ".
وَالْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ، وَالِدُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَسَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَمِيلٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَدِينِيُّ، وَلِيَ قَضَاءَ بَغْدَادَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بِعَسْكَرِ
الْمَهْدِيِّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
صَالِحُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ
وَصَالِحُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُرِّيُّ، أَحَدُ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ، كَانَ
كَثِيرَ الْبُكَاءِ، وَكَانَ يَعِظُ، فَيَحْضُرُ مَجْلِسَهُ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ فَيَقُولُ: هَذَا نَذِيرُ قَوْمٍ. وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الْمَهْدِيُّ
لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ، فَجَاءَ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَدَنَا مِنْ بِسَاطِ
الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ الْمَهْدِيُّ ابْنَيْهِ - وَلِيَّيِ الْعَهْدِ; مُوسَى
الْهَادِيَ وَهَارُونَ الرَّشِيدَ - فَابْتَدَرَا إِلَيْهِ لِيُنْزِلَاهُ عَنْ
دَابَّتِهِ، فَأَقْبَلَ صَالِحٌ عَلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ
إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لِهَذَا الْيَوْمِ. ثُمَّ جَلَسَ إِلَى الْمَهْدِيِّ،
فَوَعَظَهُ فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
خَصَمَ مَنْ خَالَفَهُ فِي أُمَّتِهِ،
وَمَنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصْمَهُ كَانَ اللَّهُ
خَصْمَهُ، فَأَعِدَّ لِمُخَاصَمَةِ اللَّهِ وَمُخَاصَمَةِ رَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَجًا تَضْمَنُ لَكَ النَّجَاةَ، وَإِلَّا
فَاسْتَسْلِمْ لِلْهَلَكَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَبْطَأَ الصَّرْعَى نَهْضَةً
صَرِيعُ هَوًى يَدَّعِي إِلَى اللَّهِ قُرْبَةً، وَأَنَّ أَثْبَتَ النَّاسِ
قَدَمًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، فَبَكَى الْمَهْدِيُّ،
وَأَمَرَ بِكِتَابَةِ ذَلِكَ الْكَلَامِ فِي دَوَاوِينِهِ.
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ، قَدِمَ قَاضِيًا بِالْعِرَاقِ فَمَاتَ فِي هَذَا الْعَامِ.
فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ الْحِمْصِيُّ التَّنُّوخِيُّ، كَانَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ
بِبَغْدَادَ فِي خِلَافَةِ الرَّشِيدِ، فَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ فَمَاتَ وَلَهُ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ
سَنَةً.
وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَنَّ الْمَنْصُورَ دَخَلَ يَوْمًا إِلَى قَصْرِ الذَّهَبِ،
فَقَامَ النَّاسُ إِلَّا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، فَقَالَ لَهُ وَقَدْ غَضِبَ
عَلَيْهِ: لِمَ لَمْ تَقُمْ؟! فَقَالَ: خِفْتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَنْ
ذَلِكَ، وَيَسْأَلَكَ لِمَ رَضِيتَ بِذَلِكَ وَقَدْ كَرِهَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَبَكَى الْمَنْصُورُ، وَقَرَّبَهُ
بِهِ وَقَضَى حَوَائِجَهُ.
الْمُسَيَّبُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ
عَمْرٍو أَبُو مُسْلِمٍ الضَّبِّيُّ، كَانَ وَالِيَ الشُّرْطَةِ بِبَغْدَادَ فِي
أَيَّامِ الْمَنْصُورِ وَالْمَهْدِيِّ وَالرَّشِيدِ، وَوَلِيَ خُرَاسَانَ مَرَّةً
لِلْمَهْدِيِّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ
سَنَةً.
الْوَضَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَوَانَةَ الْيَشْكُرِيُّ مَوْلَاهُمْ،
كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَشَايِخِ فِي الرِّوَايَةِ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى الْبَرْمَكِيَّ عَنْ مِصْرَ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا إِسْحَاقَ بْنَ سُلَيْمَانَ، وَعَزَلَ حَمْزَةَ بْنَ مَالِكٍ
عَنْ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى الْبَرْمَكِيَّ
مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ بِالرَّيِّ وَسِجِسْتَانَ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ أَصَابَ النَّاسَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَظُلْمَةٌ فِي
أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ
مِنْهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي الْكُوفِيُّ النَّخَعِيُّ، سَمِعَ أَبَا
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ وَغَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ مَشْكُورًا فِي حُكْمِهِ
وَتَنْفِيذِهِ وَتَضْمِينِهِ، وَكَانَ لَا يَجْلِسُ لِلْحُكْمِ حَتَّى يَتَغَدَّى،
ثُمَّ يُخْرِجُ وَرَقَةً مِنْ قِمْطَرَةٍ فَيَنْظُرُ فِيهَا، ثُمَّ يَأْمُرُ
بِتَقْدِيمِ الْخُصُومِ إِلَيْهِ،
فَحَرَصَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَا فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ، فَإِذَا
فِيهَا: يَا شَرِيكُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، اذْكُرِ الصِّرَاطَ وَحِدَّتَهُ، يَا
شَرِيكُ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، اذْكُرِ الْمَوْقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ مُسْتَهَلَّ ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْهَا.
وَعَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَمُوسَى بْنُ
أَعْيَنَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا وَثَبَتَ طَائِفَةٌ مِنَ الْحُوفِيَّةِ مِنْ قَيْسٍ وَقُضَاعَةَ بِعَامِلِ
مِصْرَ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَقَاتَلُوهُ وَجَرَتْ بِهَا فِتْنَةٌ
عَظِيمَةٌ، فَبَعَثَ الرَّشِيدُ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ نَائِبَ فِلَسْطِينَ فِي
خَلْقٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَدَدًا لِإِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَقَاتَلُوهُمْ
حَتَّى أَذْعَنُوا بِالطَّاعَةِ، وَأَدَّوْا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْخَرَاجِ
وَالْوَظَائِفِ، وَاسْتَمَرَّ هَرْثَمَةُ نَائِبًا عَلَى مِصْرَ نَحْوًا مِنْ
شَهْرٍ عِوَضًا عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا،
وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ صَالِحٍ.
وَفِيهَا وَثَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَتَلُوا الْفَضْلَ
بْنَ رَوْحِ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ آلِ الْمُهَلَّبِ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّشِيدُ هَرْثَمَةَ، فَرَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ عَلَى
يَدَيْهِ.
وَفِيهَا فَوَّضَ الرَّشِيدُ أُمُورَ الْخِلَافَةِ كُلَّهَا إِلَى يَحْيَى بْنِ
خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْوَلِيدُ بْنُ طَرِيفٍ بِالْجَزِيرَةِ، وَحَكَمَ بِهَا وَقَتَلَ
خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ مَضَى مِنْهَا إِلَى أَرْمِينِيَّةَ، فَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا سَارَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى إِلَى خُرَاسَانَ، فَأَحْسَنَ السِّيرَةَ
بِهَا، وَبَنَى فِيهَا
الرُّبُطَ وَالْمَسَاجِدَ، وَغَزَا مَا
وَرَاءَ النَّهْرِ، وَاتَّخَذَ بِهَا جُنْدًا مِنَ الْعَجَمِ سَمَّاهُمُ
الْعَبَّاسِيَّةَ، وَجَعَلَ وَلَاءَهُمْ لَهُمْ وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ
خَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، وَبَعَثَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا إِلَى
بَغْدَادَ فَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِهَا بِالْكُرُنْبِيَّةِ.
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
مَا الْفَضْلُ إِلَّا شِهَابٌ لَا أُفُولَ لَهُ عِنْدَ الْحُرُوبِ إِذَا مَا
تَأْفُلُ الشُّهُبُ حَامٍ عَلَى مُلْكِ قَوْمٍ عَزَّ سَهْمُهُمُ
مِنَ الْوِرَاثَةِ فِي أَيْدِيهِمُ سَبَبُ أَمْسَتْ يَدٌ لِبَنِي سَاقِي
الْحَجِيجِ بِهَا
كَتَائِبُ مَا لَهَا فِي غَيْرِهِمْ أَرَبُ كَتَائِبُ لِبَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ
عَرَفَتْ
مَا أَلَّفَ الْفَضْلُ مِنْهَا الْعُجْمُ وَالْعَرَبُ أَثْبَتَّ خَمْسَ مِئِينٍ
فِي عِدَادِهِمْ
مِنَ الْأُلُوفِ الَّتِي أَحْصَتْ لَهَا الْكُتُبُ يُقَارِعُونَ عَنِ الْقَوْمِ
الَّذِينُ هُمُ
أَوْلَى بِأَحْمَدَ فِي الْفُرْقَانِ إِنْ نُسِبُوا إِنَّ الْجَوَادَ ابْنَ
يَحْيَى الْفَضْلَ لَا وَرِقٌ
يَبْقَى عَلَى جُودِ كَفَّيْهِ وَلَا ذَهَبُ مَا مَرَّ يَوْمٌ لَهُ مُذْ شَدَّ
مِئْزَرَهُ
إِلَّا تَمَوَّلَ أَقْوَامٌ بِمَا يَهَبُ كَمْ غَايَةٍ فِي النَّدَى وَالْبَأْسِ
أَحْرَزَهَا
لِلطَّالِبِينَ مَدَاهَا دُونَهَا تَعَبُ يُعْطِي اللُّهَى حِينَ لَا يُعْطِي
الْجَوَادُ وَلَا
يَنْبُو إِذَا سُلَّتِ الْهِنْدِيَّةُ الْقُضُبُ وَلَا الرِّضَا وَالرِّضَا لِلَّهِ
غَايَتُهُ
إِلَى سِوَى الْحَقِّ يَدْعُوهُ وَلَا الْغَضَبُ قَدْ فَاضَ عَرْفُكَ حَتَّى مَا
يُعَادِلُهُ
غَيْثٌ مُغِيثٌ وَلَا بَحْرٌ لَهُ حَدَبُ
وَكَانَ قَدْ أَنْشَدَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى خُرَاسَانَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْجُودَ مِنْ
لَدْنِ آدَمَ تَحَدَّرَ حَتَّى صَارَ فِي رَاحَةِ الْفَضْلِ
إِذَا مَا أَبُو الْعَبَّاسِ رَاحَتْ سَمَاؤُهُ فَيَا لَكَ مِنْ هَطِلٍ وَيَا لَكَ
مِنْ وَبْلِ
إِذَا أُمَّ طِفْلٍ رَاعَهَا جُوعُ طِفْلِهَا دَعَتْهُ بِإِسْمِ الْفَضْلِ
فَاسْتَطْعَمَ الطِّفْلُ
لِيَحْيَى بِكَ الْإِسْلَامُ إِنَّكَ عِزُّهُ وَإِنَّكَ مِنْ قَوْمٍ صَغِيرُهُمْ
كَهْلُ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ سَلْمٌ الْخَاسِرُ فِيهِمْ أَيْضًا:
وَكَيْفَ تَخَافُ مِنْ بُؤْسٍ بِدَارٍ تَكَنَّفَهَا الْبَرَامِكَةُ الْبُحُورُ
وَقَوْمٌ مِنْهُمُ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى نَفِيرٌ مَا يُوَازِنُهُ نَفِيرُ
لَهُ يَوْمَانِ يَوْمُ نَدًى وَبَأْسٍ كَأَنَّ الدَّهْرَ بَيْنَهُمَا أَسِيرُ
إِذَا مَا الْبَرْمَكِيُّ غَدَا ابْنَ عَشْرٍ فَهِمَّتُهُ أَمِيرٌ أَوْ وَزِيرُ
وَقَدِ اتَّفَقَ لِلْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ إِلَى خُرَاسَانَ
أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ، وَفَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، مِنْهَا كَابُلُ وَمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ، وَقَهَرَ مَلِكَ التُّرْكِ هُنَاكَ وَكَانَ مُمْتَنِعًا، وَأَطْلَقَ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ وَوُجُوهُ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَقَدِمَ
عَلَيْهِ الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ وَأَكَابِرُ النَّاسِ، فَجَعَلَ يُطْلِقُ
الْأَلْفَ أَلْفٍ، وَالْخَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ وَنَحْوَهَا، فَصَرَفَ مِنَ
الْأَمْوَالِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا
جِدًّا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ إِلَّا
بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَالْبِدَرُ
مَوْضُوعَةٌ مَخْتُومَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَهِيَ تُفَرَّقُ عَلَى النَّاسِ،
فَقَالَ:
كَفَى اللَّهُ بِالْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَجُودِ يَدَيْهِ بُخْلَ
كُلِّ بَخِيلِ
فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ،
وَغَزَا الشَّاتِيَةَ سُلَيْمَانُ بْنُ رَاشِدٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ، كَرَّمَهَا
اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعَبْثَرُ بْنُ الْقَاسِمِ،
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ الْقَاضِي بِبَغْدَادَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الرَّشِيدُ، وَدُفِنَ
بِهَا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ قُدُومُ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى مِنْ خُرَاسَانَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ
عَلَيْهَا عَمْرَو بْنَ شُرَحْبِيلَ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ عَلَيْهَا مَنْصُورَ
بْنَ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيَّ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ عَنِ الْحَجَبَةِ،
وَرَدَّهَا إِلَى الْفَضْلِ بْنِ رَبِيعٍ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِخُرَاسَانَ حَمْزَةُ بْنُ أَتْرَكَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَكَانَ
مِنْ أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ.
وَفِيهَا رَجَعَ الْوَلِيدُ بْنُ طَرِيفٍ الشَّارِي إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَاشْتَدَّتْ
شَوْكَتُهُ، وَكَثُرَ أَتْبَاعُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ يَزِيدَ بْنَ
مَزْيَدٍ الشَّيْبَانِيَّ، فَرَاوَغَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ،
فَقَالَتِ الْفَارِعَةُ أُخْتُ الْوَلِيدِ بْنِ طَرِيفٍ تَرِثِيهِ:
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَكَ مُورِقًا كَأَنَّكَ لَمْ تَجْزَعْ عَلَى ابْنِ
طَرِيفِ فَتًى لَا يُحِبُّ الزَّادَ إِلَّا مِنَ الْتُّقَى
وَلَا الْمَالَ إِلَّا مِنْ قَنًا وَسُيُوفِ
وَفِيهَا خَرَجَ الرَّشِيدُ مِنْ بَغْدَادَ مُعْتَمِرًا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَلَمَّا قَضَى عُمْرَتَهُ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى حَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَشَى مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى، ثُمَّ إِلَى
عَرَفَاتٍ، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ
وَالْمَشَاعِرَ كُلَّهَا مَاشِيًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِ
الْبَصْرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ السَّادَةِ الْأَعْيَانِ
السَّيِّدُ الْحِمْيَرِيُّ الشَّاعِرُ الرَّافِضِيُّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ، أَبُو هَاشِمٍ الْحِمْيَرِيُّ الْمُلَقَّبُ
بِالسَّيِّدِ، كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْمُبَرَّزِينَ فِي
هَذِهِ الصِّنَاعَةِ الْمُفَوَّهِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا خَبِيثًا،
وَشِيعِيًّا غَثِيثًا، كَانَ مِمَّنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَقُولُ
بِالرَّجْعَةِ، أَيْ بِالدَّوْرِ.
قَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ: أَقْرِضْنِي دِينَارًا، وَلَكَ عِنْدِي مِائَةُ دِينَارٍ
إِذَا عُدْنَا إِلَى الدُّنْيَا. فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ
تَعُودَ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا، فَيَذْهَبُ مَالِي.
وَكَانَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، يَسُبُّ الصَّحَابَةَ فِي شِعْرِهِ وَيَشْتُمُ
الْخِيَرَةَ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَدَّمْتُ عَلَيْهِ أَحَدًا فِي
طَبَقَتِهِ. وَلَا سِيَّمَا الشَّيْخَيْنِ وَابْنَيْهِمَا، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَلَعَنَهُ وَأَسْحَقُهُ وَأَبْعَدَهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ كَرِهْتُ كِتَابَتَهُ، وَقَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ
قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَصَابَهُ كَرْبٌ شَدِيدٌ جِدًّا. وَلَمَّا مَاتَ لَمْ
يَدْفِنُوهُ; لِسَبِّهِ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. وَخَالِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ، مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرَى نَفْسَهُ
مِنَ اللَّهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِمَامُ. وَالْهِقْلُ بْنُ زِيَادٍ صَاحِبُ
الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَكُلُّهُمْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي كِتَابِنَا
" التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ بِمَا يُغْنِي عَنْ
ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا، وَلَكِنِ الْإِمَامُ مَالِكٌ هُوَ أَشْهَرُهُمْ، فَإِنَّهُ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُتَّبَعَةِ.
الْإِمَامُ مَالِكٌ
فَهُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ غَيَمَانَ بْنِ خُثَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ
ذُو أَصْبَحَ الْحِمْيَرِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْمَدَنِيُّ، إِمَامُ دَارِ
الْهِجْرَةِ فِي زَمَانِهِ.
رَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ
الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ; السُّفْيَانَانِ، وَشُعْبَةُ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ،
وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَاللَّيْثُ
وَالشَّافِعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ شَيْخُهُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ شَيْخُهُ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَيَحْيَى
بْنُ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى النَّيْسَابُورِيُّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ: مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَا كَانَ أَشَدَّ انْتِقَادِهِ لِلرِّجَالِ!
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كُلُّ مَنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فَهُوَ ثِقَةٌ،
إِلَّا أَبَا أُمَيَّةَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ أَثْبَتُ أَصْحَابِ نَافِعٍ وَالزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَمَالِكٌ النَّجْمُ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مَالِكٍ.
وَمَنَاقِبُهُ وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، وَثَنَاءُ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ يُحْصَرَ فِي هَذَا
الْمَكَانِ.
قَالَ أَبُو مُصْعَبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ
لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَكَانَ إِذَا أَرَادَ التَّحْدِيثَ تَنَظَّفَ وَتَطَيَّبَ، وَلَبِسَ أَحْسَنَ
ثِيَابِهِ، وَكَانَ يَلْبَسُ حَسَنًا. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: حَسْبِيَ=
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَكَانَ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلَهُ يَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ. وَكَانَ مَنْزِلُهُ مَبْسُوطًا بِأَنْوَاعِ الْفُرُشِ. وَمِنْ وَقْتِ
خُرُوجِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ لَزِمَ مَالِكٌ بَيْتَهُ،
فَلَمْ يَكُنْ يَتَرَدَّدُ إِلَى أَحَدٍ لَا لِعَزَاءٍ وَلَا لِهَنَاءٍ، حَتَّى
قِيلَ: وَلَا يَخْرُجُ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَا جُمْعَةٍ. وَيَقُولُ: مَا كَلُّ مَا
=يُعْلَمُ يُقَالُ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى الِاعْتِذَارِ. وَلَمَّا
احْتُضِرَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ
وَمِنْ بَعْدُ. ثُمَّ قُبِضَ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ،
وَقِيلَ: مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ خَمْسٌ
وَثَمَانُونَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: بَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً. وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ رَحِمَهُ
اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رِوَايَةَ: يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَلَا يَجِدُونَ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وَعَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ رِوَايَةٌ أَنَّهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " فَأَطْنَبَ وَأَتَى بِفَوَائِدَ جَمَّةٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ
وَمِائَةٍ
فِيهَا هَاجَتِ الْفِتْنَةُ بِالشَّامِ بَيْنَ النِّزَارِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ،
فَانْزَعَجَ الرَّشِيدُ لِذَلِكَ، فَنَدَبَ جَعْفَرًا الْبَرْمَكِيَّ إِلَى الشَّامِ
فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنُودِ، فَدَخَلَ الشَّامَ، فَانْقَادَ
النَّاسُ لَهُ، وَلَمْ يَدَعْ جَعْفَرٌ بِالشَّامِ فَرَسًا وَلَا سَيْفًا وَلَا
رُمْحًا إِلَّا اسْتَلَبَهُ مِنَ النَّاسِ. وَأَطْفَأَ اللَّهُ بِهِ نَارَ تِلْكَ
الْفِتْنَةِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
لَقَدْ أُوقِدَتْ بِالشَّامِ نِيرَانُ فِتْنَةٍ فَهَذَا أَوَانُ الشَّامِ تُخْمَدُ
نَارُهَا إِذَا جَاشَ مَوْجُ الْبَحْرِ مِنْ آلِ بَرْمَكَ
عَلَيْهَا خَبَتْ شُهْبَانُهَا وَشِرَارُهَا رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بِجَعْفَرٍ
وَفِيهِ تَلَاقَى صَدْعُهَا وَانْجِبَارُهَا رَمَاهَا بِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ
مَاجِدٍ
تَرَاضَى بِهِ قَحْطَانُهَا وَنِزَارُهَا
ثُمَّ كَرَّ جَعْفَرٌ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَى
الشَّامِ عِيسَى ابْنَ الْعَكِّيِّ، وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى الرَّشِيدِ أَكْرَمَهُ
وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَشَرَعَ جَعْفَرٌ يَذْكُرُ كَثْرَةَ وَحْشَتِهِ لَهُ
فِي الشَّامِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِرُجُوعِهِ إِلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُؤْيَتِهِ وَجْهَهُ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ جَعْفَرًا خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، فَاسْتَعْمَلَ
عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدَ
بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَحْطَبَةَ، ثُمَّ
عَزَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَنْ خُرَاسَانَ بَعْدَ عِشْرِينَ لَيْلَةً.
وَفِيهَا هَدَمَ الرَّشِيدُ سُورَ الْمَوْصِلِ ; بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْخَوَارِجِ
هُنَاكَ، وَجَعَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَلَى الْحَرَسِ، وَنَزَلَ الرَّشِيدُ
الرَّقَّةَ وَاسْتَوْطَنَهَا، وَاسْتَنَابَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ الْأَمِينَ
مُحَمَّدًا، وَوَلَّاهُ الْعِرَاقَيْنِ، وَعَزَلَ هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ عَنْ
إِفْرِيقِيَّةَ وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى بَغْدَادَ فَاسْتَنَابَهُ جَعْفَرٌ عَلَى
الْحَرَسِ.
وَفِيهَا كَانَتْ بِمِصْرَ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ سَقَطَ مِنْهَا رَأْسُ مَنَارَةِ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ خُرَاشَةُ الشَّيْبَانِيُّ، فَقَتَلَهُ مُسْلِمُ
بْنُ بَكَّارِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعُقَيْلِيُّ.
وَفِيهَا ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ بِجُرْجَانَ يُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ.
لَبِسُوا الْحُمْرَةَ، وَاتَّبَعُوا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ
الْعَمْرَكِيُّ. وَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، فَبَعَثَ الرَّشِيدُ يَأْمُرُ
بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ بِمَرْوَ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَارَهُمْ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مُعَاوِيَةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ،
قَارِئُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ أَقَامَ
مُدَّةً بِبَغْدَادَ يُؤَدِّبُ
عَلِيًّا ابْنَ الْمَهْدِيِّ، حَتَّى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَهْدِيٍّ، وَقَدْ وَلِيَ إِمْرَةَ
الْحَجِّ غَيْرَ مَرَّةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ الرَّشِيدِ
بِشُهُورٍ.
حَسَّانُ بْنُ سِنَانٍ
حَسَّانُ بْنُ سِنَانِ بْنِ أَوْفَى بْنِ عَوْفٍ التَّنُوخِيُّ الْأَنْبَارِيُّ،
وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَرَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدَعَا لَهُ، فَجَاءَ مِنْ
نَسْلِهِ قُضَاةٌ وَوُزَرَاءُ وَصُلَحَاءُ، وَأَدْرَكَ الدَّوْلَتَيْنِ، وَكَانَ
نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يَكْتُبُ بِالْعَرَبِيَّةِ
وَالْفَارِسِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ، وَكَانَ يُعَرِّبُ الْكُتُبَ بَيْنَ
يَدَيْ رَبِيعَةَ لَمَّا وَلَّاهُ السَّفَّاحُ الْأَنْبَارَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، أَحَدُ
الثِّقَاتِ.
وَعَافِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ، الْقَاضِي لِلْمَهْدِيِّ عَلَى الْجَانِبِ
الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ هُوَ وَابْنُ عُلَاثَةَ، وَكَانَا يَحْكُمَانِ
بِجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ عَافِيَةُ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، دَخَلَ
يَوْمًا عَلَى الْمَهْدِيِّ فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَعْفِنِي. فَقَالَ:
لِمَ؟ أَعْتَرَضَ عَلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ كَانَ بَيْنَ اثْنَيْنِ خُصُومَةٌ عِنْدِي،
فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى رُطَبِ السُّكَّرِ، وَكَأَنَّهُ سَمِعَ أَنِّي
أُحِبُّهُ، فَأَهْدَى إِلَيَّ مِنْهُ طَبَقًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَا وَجَلَسَا
لِلْحُكُومَةِ، لَمْ يَسْتَوِيَا عِنْدِي فِي قَلْبِي وَلَا نَظَرِي، وَمَالَ
قَلْبِي إِلَى الْمُهْدِي مِنْهُمَا، هَذَا وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ، فَكَيْفَ لَوْ
قَبِلْتُ مِنْهُ؟! فَأَعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ.
فَأَعْفَاهُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ يَوْمًا وَعِنْدَهُ عَافِيَةُ
الْقَاضِي، وَقَدْ أَحْضَرَهُ لِأَنَّ قَوْمًا اسْتَعَدَوْا عَلَيْهِ إِلَى
الرَّشِيدِ، فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يُوقِفُهُ عَلَى مَا قِيلَ عَنْهُ، وَهُوَ
يُجِيبُ الْخَلِيفَةَ عَمَّا يَسْأَلُهُ، وَطَالَ الْمَجْلِسُ، فَعَطَسَ
الْخَلِيفَةُ، فَشَمَّتَهُ النَّاسُ وَلَمْ يُشَمِّتْهُ عَافِيَةُ، فَقَالَ لَهُ:
لِمَ لَمْ تُشَمِّتْنِي مَعَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّكَ لَمْ تَحْمَدِ اللَّهَ.
وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: ارْجِعْ إِلَى
عَمَلِكَ، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ مَا قِيلَ عَنْكَ، وَأَنْتَ لَمْ
تُسَامِحْنِي فِي عَطْسَةٍ. وَرَدَّهُ رَدًّا جَمِيلًا إِلَى وِلَايَتِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سِيبَوَيْهِ إِمَامُ النُّحَاةِ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ قَنْبَرٍ أَبُو بِشْرٍ، الْمَعْرُوفُ بِسِيبَوَيْهِ النَّحْوِيِّ،
مَوْلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَقِيلَ: مَوْلَى آلِ الرَّبِيعِ بْنِ
زِيَادٍ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ سِيبَوَيْهِ; لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ تُرَقِّصُهُ
وَتَقُولُ لَهُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى
سِيبَوَيْهِ: رَائِحَةُ التُّفَّاحِ.
وَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ يَصْحَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءَ،
وَكَانَ يَسْتَمْلِي عَلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، فَلَحَنَ يَوْمًا، فَرَدَّ
عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَأَنِفَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَزِمَ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ،
فَبَرَعَ فِي النَّحْوِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَنَاظَرَ الْكِسَائِيَّ.
وَكَانَ سِيبَوَيْهِ شَابًّا جَمِيلًا نَظِيفًا، تَعَلَّقَ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ بِسَبَبٍ،
وَضَرَبَ فِي كُلِّ أَدَبٍ بِسَهْمٍ، مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ وَبَرَاعَتِهِ فِي
النَّحْوِ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي النَّحْوِ كِتَابًا لَا يُلْحَقُ شَأْوُهُ،
وَشَرَحَهُ أَئِمَّةُ النُّحَاةِ بَعْدَهُ، فَانْغَمَرُوا فِي لُجُجِ بَحْرِهِ،
وَاسْتَخْرَجُوا مِنْ جَوَاهِرِ حَاصِلِهِ، وَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَى قَعْرِهِ.
وَقَدْ زَعَمَ ثَعْلَبٌ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِتَصْنِيفِهِ، وَقَدْ تَسَاعَدَ
جَمَاعَةٌ فِي تَصْنِيفِهِ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ نَفَسًا، هُوَ أَحَدُهُمْ.
قَالَ: وَهُوَ أَصُولُ الْخَلِيلِ، فَادَّعَاهُ سِيبَوَيْهِ لِنَفْسِهِ، وَقَدِ
اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ السِّيرَافِيُّ فِي كِتَابِ " طَبَقَاتِ النُّحَاةِ
" قَالَ: وَقَدْ أَخَذَ سِيبَوَيْهِ اللُّغَاتِ عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ
الْأَخْفَشِ وَغَيْرِهِ، وَكِتَابُهُ الْمَشْهُورُ " بِالْكِتَابِ " لَمْ
يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَكَانَ سِيبَوَيْهِ يَقُولُ: سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْعَرُوبَةِ، وَالْعَرُوبَةُ
يَوْمُ الْجُمْعَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ: عَرُوبَةُ. فَقَدْ أَخْطَأَ.
فَذُكِرَ ذَلِكَ لِيُونُسَ فَقَالَ: أَصَابَ، لِلَّهِ دَرُّهُ.
وَقَدِ ارْتَحَلَ إِلَى خُرَاسَانَ
لِيَحْظَى عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ طَاهِرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ النَّحْوَ،
فَمَرِضَ هُنَاكَ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَتَمَثَلَ عِنْدَ الْمَوْتِ:
يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ الْأَمَلْ حَثِيثًا
يَرْوِي أُصُولَ الْفَسِيلِ
فَعَاشَ الْفَسِيلُ وَمَاتَ الرَّجُلْ
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ وَضَعَ رَأْسَهُ فِي حِجْرِ أَخِيهِ،
فَدَمَعَتْ عَيْنُ أَخِيهِ، فَأَفَاقَ فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ:
وَكُنَّا جَمِيعًا فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا إِلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى فَمَنْ
يَأْمَنُ الدَّهَرَا
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ
ثِنْتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ عُفَيْرَةُ الْعَابِدَةُ، كَانَتْ طَوِيلَةَ الْحُزْنِ
كَثِيرَةَ الْبُكَاءِ، قَدِمَ قَرِيبٌ لَهَا مِنْ سَفَرٍ، فَجَعَلَتْ تَبْكِي،
فَقِيلَ لَهَا: لَيْسَ هَذَا وَقْتَ بُكَاءٍ! فَقَالَتْ: لَقَدْ ذَكَّرَنِي
قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، فَمِنْ مَسْرُورٍ
وَمَثْبُورٍ.
وَفِيهَا مَاتَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيِّ، كَانَ
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ لِسُوءِ حِفْظِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ بِلَادَ الرُّومِ،
فَافْتَتَحَ حِصْنًا يُقَالُ لَهُ: الصَّفْصَافُ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَرْوَانُ
بْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصْطَفَى قَدْ تَرَكَ الصَّفْصَافَ قَاعًا
صَفْصَفًا
وَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ بِلَادَ الرُّومِ، فَبَلَغَ
أَنْقَرَةَ وَافْتَتَحَ مَطْمُورَةَ.
وَفِيهَا تَغَلَّبَتِ الْمُحَمِّرَةُ عَلَى جُرْجَانَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يُكْتَبَ فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ الصَّلَاةُ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ وَتَعَجَّلَ فِي النَّفْرِ، وَسَأَلَهُ
يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ الْوِلَايَةِ، فَأَعْفَاهُ وَأَقَامَ
يَحْيَى بِمَكَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ قَحْطَبَةَ أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ الْعَبَّاسِيَّةِ،
وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ خُرَاسَانَ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ.
وَخَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ شَيْخُ
الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَرْوَزِيُّ،
كَانَ أَبُوهُ تُرْكِيًّا مَوْلًى لِرَجُلٍ مِنَ التُّجَّارِ مِنْ بَنِي
حَنْظَلَةَ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ، فَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ إِذَا قَدِمَهَا
أَحْسَنَ إِلَى وَلَدِ مَوْلَاهُمْ، وَكَانَتْ أُمُّهُ خَوَارِزْمِيَّةً، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ،
وَالْأَعْمَشَ، وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ، وَحُمَيْدًا الطَّوِيلَ، وَغَيْرَهُمْ
مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ. وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ
مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْكَرَمِ
وَالشَّجَاعَةِ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْحِسَانُ، وَالشِّعْرُ الْمُتَضَمِّنُ
حِكَمًا جَمَّةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ، وَكَانَ لَهُ رَأْسُ
مَالٍ نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ يَدُورُ يَتَّجِرُ بِهِ فِي الْبُلْدَانِ،
فَحَيْثُ اجْتَمَعَ بِعَالِمِ بَلْدَةٍ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَرْبُو
كَسْبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، يُنْفِقُهَا كُلَّهَا فِي أَهْلِ
الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، وَرُبَّمَا أَنْفَقَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَظَرْتُ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ الصَّحَابَةِ،
فَمَا رَأَيْتُهُمْ يَفْضُلُونَ عَلَيْهِ إِلَّا بِصُحْبَتِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِثْلُهُ، وَمَا
أَعْلَمُ خَصْلَةً مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي ابْنِ
الْمُبَارَكِ، وَلِقَدْ حَدَّثَنِي أَصْحَابِي أَنَّهُمْ صَحِبُوهُ مِنْ
مِصْرَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ
يُطْعِمُهُمُ الْخَبِيصَ، وَهُوَ الدَّهْرَ صَائِمٌ.
وَقَدِمَ مَرَّةً إِلَى الرَّقَّةِ، وَبِهَا هَارُونُ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا
دَخَلَهَا انْجَفَلَ النَّاسُ يُهْرَعُونَ إِلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَازْدَحَمَ
النَّاسُ حَوْلَهُ، فَأَشْرَفَتْ أُمُّ وَلَدٍ لِلرَّشِيدِ مِنْ قَصْرٍ هُنَاكَ
فَقَالَتْ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَقِيلَ لَهَا: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ
خُرَاسَانَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. فَانْجَفَلَ النَّاسُ
إِلَيْهِ. فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: هَذَا هُوَ الْمُلْكُ، لَا مُلْكَ هَارُونَ
الرَّشِيدِ الذى يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا وَالرَّغْبَةِ
وَالرَّهْبَةِ.
وَخَرَجَ مَرَّةً إِلَى الْحَجِّ، فَاجْتَازَ بِبَعْضِ الْبِلَادِ، فَمَاتَ
طَائِرٌ مَعَهُمْ، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَسَارَ أَصْحَابُهُ
أَمَامَهُ وَتَخَلَّفَ هُوَ وَرَاءَهُمْ، فَلَمَّا مَرَّ بِالْمَزْبَلَةِ إِذَا
جَارِيَةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ دَارٍ قَرِيبَةٍ مِنْهَا، فَأَخَذَتْ ذَلِكَ
الطَّائِرَ الْمَيِّتَ، فَكَشَفَ عَنْ أَمْرِهَا وَفَحَصَ، حَتَّى سَأَلَهَا،
فَقَالَتْ: أَنَا وَأُخْتِي هَاهُنَا، لَيْسَ لَنَا شَيْءٌ إِلَّا هَذَا
الْإِزَارَ، وَقَدْ حَلَّتْ لَنَا الْمَيْتَةُ، وَكَانَ أَبُونَا لَهُ مَالٌ=
عَظِيمٌ، فَظُلِمَ وَأُخِذَ مَالُهُ وَقُتِلَ. فَأَمَرَ ابْنُ الْمُبَارَكِ
بِرَدِّ الْأَحْمَالِ، وَقَالَ لِوَكِيلِهِ: كَمْ مَعَكَ مِنَ النَّفَقَةِ؟
فَقَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ. فَقَالَ: عُدَّ مِنْهَا عِشْرِينَ دِينَارًا تَكْفِينَا
إِلَىمَرْوَ، وَأَعْطِهَا الْبَاقِيَ، فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ حَجِّنَا فِي هَذَا
الْعَامِ. ثُمَّ رَجَعَ.
وَكَانَ إِذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ عَزَمَ مِنْكُمْ
عَلَى
الْحَجِّ؟ فَيَأْخُذُ مِنْهُمْ
نَفَقَاتِهِمْ، وَيَكْتُبُ عَلَى كُلِّ صُرَّةٍ اسْمَ صَاحِبِهَا وَيَجْمَعُهَا
فِي صُنْدُوقٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ بِهِمْ فِي أَوْسَعِ مَا يَكُونُ مِنَ النَّفَقَاتِ
وَالرُّكُوبِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَضَوْا
حَجَّتَهُمْ يَقُولُ لَهُمْ: هَلْ أَوْصَاكُمْ أَهْلُوكُمْ بِهَدِيَّةٍ؟
فَيَشْتَرِي لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا وَصَّاهُ أَهْلُهُ مِنَ الْهَدَايَا
الْمَكِّيَّةِ وَالْيَمَنِيَّةِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا جَاءُوا إِلَى الْمَدِينَةَ
اشْتَرَى لَهُمْ مِنْهَا الْهَدَايَا الْمَدَنِيَّةَ، فَإِذَا قَفَلُوا بَعَثَ
مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى بُيُوتِهِمْ فَأُصْلِحَتْ وَبُيِّضَتْ
أَبْوَابُهَا وَرُمِّمَ شَعَثُهَا، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى أَوْطَانِهِمْ عَمِلَ
وَلِيمَةً بَعْدَ قُدُومِهِمْ وَدَعَاهُمْ فَأَكَلُوا وَكَسَاهُمْ، ثُمَّ دَعَا
بِذَلِكَ الصُّنْدُوقِ فَفَتَحَهُ وَأَخْرَجَ مِنْهُ تِلْكَ الصُّرَرَ، ثُمَّ
يُقْسِمُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ نَفَقَتَهُ الَّتِي عَلَيْهَا
اسْمُهُ، فَيَأْخُذُونَهَا وَيَنْصَرِفُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَهُمْ شَاكِرُونَ
نَاشِرُونَ لِوَاءَ الثَّنَاءِ الْجَمِيلِ.
وَكَانَتْ سُفْرَتُهُ تُحْمَلُ عَلَى بَعِيرٍ وَحْدَهَا، وَفِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ
الْمَأْكُولِ مِنَ اللَّحْمِ وَالدَّجَاجِ وَالْحَلْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ،
يُطْعِمُهُ وَهُوَ صَائِمٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ.
وَسَأَلَهُ مَرَّةً سَائِلٌ، فَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ يَأْكُلُونَ فِي غَدَائِهِمُ الشِّوَاءَ
وَالْفَالَوْذَجَ، وَقَدْ كَانَ يَكْفِيهِ قِطْعَةٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
ظَنَنْتُ أَنَّهُ يَأْكُلُ إِلَّا الْبَقْلَ وَالْخُبْزَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ
يَأْكُلُ الشِّوَاءَ وَالْفَالَوْذَجَ فَلَا بُدَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، يَا غُلَامُ:
رُدَّهُ وَأَعْطِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَفَضَائِلُهُ وَمَنَاقِبُهُ وَمَآثِرُهُ
كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِهِ وَجَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ
وَعَدْلِهِ. تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ بِهَيْتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ فِي رَمَضَانِهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَمُفَضَّلُ بْنُ فَضَالَةَ، وَلِيَ قَضَاءَ مِصْرَ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَ دَيِّنًا
ثِقَةً، سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ الْأَمَلَ، فَأَذْهَبَهُ، فَكَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُهَنِّئُهُ عَيْشٌ وَلَا شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا، فَسَأَلَ
اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ فَرَدَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى حَالِهِ.
وَيَعْقُوبُ التَّائِبُ الْعَابِدُ الْكُوفِيُّ، قَالَ عَلِيٌّ ابْنُ
الْمُوَفَّقِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ: خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَأَنَا
أَظُنُّ أَنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ، فَإِذَا عَلَيَّ لَيْلٌ، فَجَلَسْتُ إِلَى بَابٍ
صَغِيرٍ، وَإِذَا شَابٌّ يَبْكِي وَهُوَ يَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا
أَرَدْتُ بِمَعْصِيَتِكَ مُخَالَفَتَكَ، وَلَكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَغَلَبَتْنِي
شِقْوَتِي، وَغَرَّنِي سِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ، فَالْآنَ مِنْ عَذَابِكَ مَنْ
يَسْتَنْقِذُنِي؟ وَبِحَبْلِ مَنْ أَتَّصِلُ إِنْ قَطَعْتَ حَبْلَكَ عَنِّي؟
وَاسَوْأَتَاهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَيَّامِي فِي مَعْصِيَةِ رَبِّي! يَا
وَيْلِي كَمْ أَتُوبُ، وَكَمْ أَعُودُ! قَدْ حَانَ لِي أَنْ أَسْتَحْيِيَ مِنْ
رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ مَنْصُورٌ: فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا
أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التَّحْرِيمِ: 6 ]. قَالَ: فَسَمِعْتُ
صَوْتًا وَاضْطِرَابًا شَدِيدًا، فَذَهَبْتُ لِحَاجَتِي، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ رَجَعْتُ،
فَلَمَّا مَرَرْتُ عَلَى ذَلِكَ الْبَابِ، فَإِذَا جِنَازَةٌ، فَسَأَلْتُ، فَإِذَا
هُوَ قَدْ مَاتَ مِنْ سَمَاعِ هَذِهِ الْآيَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا أَخَذَ الرَّشِيدُ لِوَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ الْبَيْعَةَ
بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ ابْنِ زُبَيْدَةَ
الْأَمِينِ، وَذَلِكَ بِالرَّقَّةِ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ، وَضَمَّ
ابْنَهُ الْمَأْمُونَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ، ثُمَّ
أَرْسَلَهُ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الرَّشِيدِ خَدَمَةً
لَهُ، وَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَسَمَّاهُ الْمَأْمُونَ.
وَفِيهَا رَجَعَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيُّ مِنْ مُجَاوَرَتِهِ
بِمَكَّةَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
صَالِحٍ، فَبَلَغَ مَدِينَةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
وَفِيهَا سَمَلَتِ الرُّومُ عَيْنَيْ مَلِكِهِمْ قُسْطَنْطِينَ بْنِ أَلْيُونَ،
وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أُمَّهُ رِينَى، وَتُلَقَّبُ أُغُسْطَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُوسَى بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ الْحِمْصِيُّ أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ
الشَّامِيِّينَ، وَفِيهِ كَلَامٌ.
وَمَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ،
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ الْمَشْكُورُ، كَانَ يَمْدَحُ الْخُلَفَاءَ
وَالْبَرَامِكَةَ وَمَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ، وَكَانَ قَدْ تَحَصَّلَ لَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَبْخَلِ النَّاسِ،
لَا يَكَادُ يَأْكُلُ اللَّحْمَ مِنْ بُخْلِهِ، وَلَا يُشْعِلُ فِي بَيْتِهِ
سِرَاجًا، وَلَا يَلْبَسُ مِنَ الثِّيَابِ إِلَّا الْكِرْبَاسَ وَالْفَرْوَ
الْغَلِيظَ، وَكَانَ رَفِيقُهُ سَلْمٌ الْخَاسِرُ إِذَا رَكِبَ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ يَأْتِي عَلَى بِرْذَوْنٍ، وَبَدْلَةٍ سَنِيَّةٍ تُسَاوِي أَلْفَ
دِينَارٍ، وَالطِّيبُ يَنْفُحُ مِنْ ثِيَابِهِ، وَيَأْتِي مَرْوَانَ فِي شَرِّ
حَالَةٍ وَأَسْوَئِهَا.
وَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى الْمَهْدِيِّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ: إِنْ
أَطْلَقَ لَكَ الْخَلِيفَةُ شَيْئًا فَاجْعَلْ لِي مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ: إِنْ
أَعْطَانِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَكِ دِرْهَمٌ. فَأَعْطَاهُ سِتِّينَ
أَلْفًا، فَأَعْطَاهَا أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ.
وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ حَبْتَةَ، وَهِيَ أُمُّهُ، وَأَبُوهُ بَحِيرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ،
وَسَعْدٌ هَذَا لَهُ صُحْبَةٌ، اسْتُصْغِرَ يَوْمَ
أُحُدٍ، وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي
هَذَا كَانَ أَكْبَرَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَوَى
الْحَدِيثَ عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِيِنٍ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تُوُفِّيَ أَبِي وَأَنَا
صَغِيرٌ، فَأَسْلَمَتْنِي أُمِّي إِلَى قَصَّارٍ، فَكُنْتُ أَمُرُّ عَلَى حَلْقَةِ
أَبِي حَنِيفَةَ، فَأَجْلِسُ فِيهَا، فَكَانَتْ أُمِّي تَتْبَعُنِي، فَتَأْخُذُ
بِيَدِي مِنَ الْحَلْقَةِ وَتَذْهَبُ بِي إِلَى الْقَصَّارِ، ثُمَّ كُنْتُ
أُخَالِفُهَا فِي ذَلِكَ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ
قَالَتْ أُمِّي لِأَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ هَذَا صَبِيٌّ يَتِيمٌ، لَيْسَ لَهُ
شَيْءٌ إِلَّا مَا أُطْعِمُهُ مِنْ مِغْزَلِي، وَإِنَّكَ قَدْ أَفْسَدْتَهُ
عَلَيَّ. فَقَالَ لَهَا: اسْكُتِي يَا رَعْنَاءُ، هَا هُوَ ذَا يَتَعَلَّمُ
الْعِلْمَ، وَسَيَأْكُلُ الْفَالَوْذَجَ بِدُهْنِ الْفُسْتُقِ. فَقَالَتْ لَهُ:
إِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْتَ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَلَمَّا وَلِيتُ الْقَضَاءَ
- وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ الْهَادِي، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
لُقِّبَ بِقَاضِي الْقُضَاةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: قَاضِي قُضَاةِ الدُّنْيَا.
لِأَنَّهُ كَانَ يَسْتَنِيبُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا
الْخَلِيفَةُ - قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ
الرَّشِيدِ إِذْ أُتِيَ بِفَالَوْذَجَ وَكُنْتُ لَا أَعْرِفُهَا، فَقَالَ لِي:
كُلْ مِنْ هَذَا; فَإِنَّهُ لَا يُصْنَعُ لَنَا كُلَّ وَقْتٍ. فَقُلْتُ: وَمَا
هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا الْفَالَوْذَجُ. قَالَ: فَتَبَسَّمْتُ،
فَقَالَ: مَا لَكَ تَتَبَسَّمُ؟ فَقُلْتُ: لَا شَيْءَ، أَبْقَى اللَّهُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَتُخْبِرَنِّي: فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ مِنْ
أَوَّلِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُ وَيَرْفَعُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ، فَلِقَدْ كَانَ
يَنْظُرُ بِعَيْنِ عَقْلِهِ مَا لَا يَرَاهُ بِعَيْنِ رَأْسِهِ.
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ عَنْ
أَبِي يُوسُفَ: إِنَّهُ أَعْلَمُ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: كَانَ أَبُو يُوسُفَ أَتْبَعَهُمْ لِلْحَدِيثِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: كَانَ صَدُوقًا. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: كَانَ
ثِقَةً. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: كَانَ سَلِيمًا مِنَ التَّجَهُّمِ.
وَقَالَ بَشَّارٌ الْخَفَّافُ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: مَنْ قَالَ:
الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ. فَحَرَامُ كَلَامُهُ، وَفَرْضٌ مُبَايَنَتُهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَنْبَغِي كِتَابَتُهُ بِمَاءِ الذَّهَبِ قَوْلُهُ: مَنْ
طَلَبَ الْمَالَ بِالْكِيمْيَاءِ أَفْلَسَ، وَمَنْ تَتَبَّعَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ
كَذَبَ، وَمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ بِالْكَلَامِ تَزَنْدَقَ.
وَلَمَّا تَنَاظَرَ هُوَ وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ فِي
مَسْأَلَةِ الصَّاعِ وَزَكَاةِ الْخَضْرَاوَاتِ احْتَجَّ مَالِكٌ بِمَا اسْتَدْعَى
بِهِ مِنْ تِلْكَ الصِّيعَانِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ،
وَبِأَنَّهُ لَمْ تَكُنِ الْخَضْرَاوَاتُ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ.
فَقَالَ: لَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْتُ لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْتُ. وَهَذَا
إِنْصَافٌ.
وَقَدْ كَانَ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَبَقَاتِهِمْ،
حَتَّى إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ شَابًّا، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ
فِي أَثْنَاءِ النَّاسِ، فَيَتَنَاظَرُونَ وَيَتَبَاحَثُونَ فِيهِ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ يَحْكُمُ وَيُصَنِّفُ أَيْضًا.
وَقَالَ: وُلِّيتُ هَذَا الْحُكْمَ،
وَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ جَوْرٍ وَلَا مَيْلٍ إِلَى أَحَدٍ
إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا; جَاءَنِي رَجُلٌ فَذَكَرَ أَنَّ لَهُ بُسْتَانًا،
وَأَنَّهُ فِي يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَدَخَلْتُ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ فَأَعْلَمْتُهُ، فَقَالَ: الْبُسْتَانُ لِي، اشْتَرَاهُ لِي
الْمَهْدِيُّ. فَقُلْتُ: إِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُحْضِرَهُ
لِأَسْمَعَ دَعْوَاهُ. فَأَحْضَرَهُ فَادَّعَى بِالْبُسْتَانِ، فَقُلْتُ: مَا
تَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هُوَ بُسْتَانِي. فَقُلْتُ
لِلرَّجُلِ: قَدْ سَمِعْتَ مَا أَجَابَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَحْلِفُ. فَقُلْتُ:
أَتَحْلِفُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: سَأَعْرِضُ
عَلَيْكَ الْيَمِينَ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَلَفْتَ وَإِلَّا حَكَمْتُ عَلَيْكَ.
فَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَامْتَنَعَ، فَحَكَمْتُ بِالْبُسْتَانِ
لِلْمُدَّعِي. قَالَ: فَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ الْخُصُومَةِ أَوَدُّ أَنْ
نَنْفَصِلَ، وَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ أُجْلِسَ الرَّجُلَ مَعَ الْخَلِيفَةِ.
وَبَعَثَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ فِي تَسْلِيمِ الْبُسْتَانِ إِلَى الرَّجُلِ.
وَرَوَى الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ أَبِي
الْأَزْهَرِ، عَنْ حَمَّادِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ - الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا
ذَاتَ لَيْلَةٍ قَدْ نِمْتُ فِي الْفِرَاشِ، إِذَا رَسُولُ الْخَلِيفَةِ يَطْرُقُ
الْبَابَ، فَخَرَجْتُ مُنْزَعِجًا فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكَ.
فَذَهَبْتُ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ وَمَعَهُ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، فَقَالَ لِي
الرَّشِيدُ: إِنَّ هَذَا قَدْ طَلَبْتُ مِنْهُ جَارِيَةً يَهَبُنِيهَا، فَلَمْ
يَفْعَلْ، أَوْ يَبِيعُنِيهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، وَإِنِّي أُشْهِدُكَ إِنْ لَمْ
يُجِبْنِي إِلَى ذَلِكَ قَتَلْتُهُ. فَقُلْتُ لِعِيسَى: لِمَ لَمْ تَفْعَلْ؟
فَقَالَ: إِنِّي حَالِفٌ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَصَدَقَةِ مَالِي كُلِّهِ
أَنْ لَا أَبِيعَهَا وَلَا أَهَبَهَا. فَقَالَ لِي الرَّشِيدُ: فَهَلْ لَهُ مِنْ
مَخْلَصٍ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، يَبِيعُكُ نِصْفَهَا، وَيَهَبُكَ نِصْفَهَا.
فَوَهَبَهُ النِّصْفَ، وَبَاعَهُ النِّصْفَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَبِلَ
مِنْهُ ذَلِكَ،
وَأُحْضِرَتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا
رَآهَا الرَّشِيدُ قَالَ: هَلْ لِي مِنْ سَبِيلٍ عَلَيْهَا اللَّيْلَةَ؟ قُلْتُ:
إِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ، وَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهَا
وَتَتَزَوَّجَهَا، فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَا تُسْتَبْرَأُ. قَالَ: فَأَعْتَقَهَا
وَزَوَّجْتُهَا مِنْهُ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَمَرَ لِي بِمِائَتَيْ
أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعِشْرِينَ تَخْتًا مِنْ ثِيَابٍ، وَأَرْسَلَتْ إِلَيَّ
الْجَارِيَةُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، فَجَاءَتْهُ هَدِيَّةٌ
مِنْ ثِيَابٍ دَبِيقِيٍّ وَطِيبٍ وَتَمَاثِيلَ نِدٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَذَاكَرَنِي رَجُلٌ فِي إِسْنَادِ حَدِيثِ: " مَنْ أُهْدِيَتْ لَهُ
هَدِيَّةٌ وَعِنْدَهُ قَوْمٌ جُلُوسٌ فَهُمْ شُرَكَاؤُهُ ". فَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ: إِنَّمَا ذَاكَ فِي الْأَقِطِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلَمْ تَكُنِ
الْهَدَايَا مَا تَرَوْنَ، يَا غُلَامُ، شِلْ إِلَى الْخَزَائِنِ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ:
صَحِبْتُ أَبَا حَنِيفَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ انْصَبَّتْ عَلَيَّ
الدُّنْيَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَا أَظُنُّ أَجَلِي إِلَّا قَدِ اقْتَرَبَ.
فَمَا كَانَ شُهُورٌ حَتَّى مَاتَ.
وَقَدْ مَاتَ أَبُو يُوسُفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
تِسْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَدْ مَكَثَ فِي الْقَضَاءِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَوَلِيَ الْقَضَاءَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ يُوسُفُ.
وَقَدْ كَانَ نَائِبَهُ عَلَى
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ. وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الرُّوَاةِ أَنَّ
الشَّافِعِيَّ اجْتَمَعَ بِأَبِي يُوسُفَ كَمَا يَقُولُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْبَلَوِيُّ الْكَذَّابُ فِي الرِّحْلَةِ الَّتِي سَاقَهَا
الشَّافِعِيُّ، فَقَدْ أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ إِنَّمَا
وَرَدَ بَغْدَادَ فِي أَوَّلِ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا إِلَيْهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ. وَإِنَّمَا اجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ،
فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَنَآنٌ،
كَمَا قَدْ يَذْكُرُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَذَا الشَّأْنِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَعْقُوبُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ،
مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ السُّلَمِيِّ، اسْتَوْزَرَهُ الْمَهْدِيُّ،
وَسَلَّمَ إِلَيْهِ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ جِدًّا، ثُمَّ لَمَّا
أَمَرَهُ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْعَلَوِيِّ فَأَرْسَلَهُ، وَنَمَّتْ عَلَيْهِ
الْجَارِيَةُ، وَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ، سَجَنَهُ فِي بِئْرٍ،
وَبُنِيَتْ عَلَيْهِ قُبَّةٌ، وَنَبَتَ عَلَيْهِ شَعْرٌ كَمَا يَنْبُتُ شَعْرُ
الْأَنْعَامِ، وَعَمِيَ، وَيُقَالُ: عَشِيَ بَصَرُهُ، وَمَكَثَ نَحْوًا مِنْ
خَمْسَ عَشْرَ سَنَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَرَى شَيْئًا، وَلَا يَسْمَعُ
صَوْتًا إِلَّا حِينَ الصَّلَوَاتِ يُعْلَمُ بِهِ، وَيُدَلَّى إِلَيْهِ فِي كُلِّ
يَوْمٍ رَغِيفٌ وَكُوزُ مَاءٍ، حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُ الْمَهْدِيِّ وَأَيَّامُ
الْهَادِي وَصَدْرٌ مِنْ خِلَافَةِ الرَّشِيدِ، قَالَ يَعْقُوبُ: فَأَتَانِي آتٍ
فِي مَنَامِي فَقَالَ:
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ
فَيَأَمَنَ خَائِفٌ وَيُفَكُّ عَانٍ
وَيَأْتِي أَهْلَهُ النَّائِي الْغَرِيبُ
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ نُودِيتُ
فَظَنَنْتُ أَنِّي أُعْلَمُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَدُلِيَّ إِلَيَّ حَبْلٌ،
وَقِيلَ لِي: ارْبُطْ هَذَا الْحَبْلَ فِي وَسَطِكِ. فَأَخْرَجُونِي، فَلَمَّا
نَظَرْتُ إِلَى الضِّيَاءِ لَمْ أُبْصِرْ شَيْئًا، وَأُوقِفْتُ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ. فَظَنَنْتُهُ الْمَهْدِيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
الْمَهْدِيُّ، فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ. قُلْتُ: فَالْهَادِي؟ فَقَالَ: لَسْتُ بِهِ.
فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدَ. فَقَالَ:
نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمْ يَشْفَعْ فِيكَ عِنْدِي أَحَدٌ،
وَلَكِنِّي الْبَارِحَةَ حَمَلْتُ جَارِيَةً لِي صَغِيرَةً عَلَى عُنُقِي،
فَذَكَرْتُ حَمْلَكَ إِيَّايَ عَلَى عُنُقِكَ، فَرَحِمْتُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ
الضِّيقِ، فَأَخْرَجْتُكَ. ثُمَّ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. فَغَارَ
مِنْهُ يَحْيِي بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى
الْمَنْزِلَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا أَيَّامِ الْمَهْدِيِّ، وَفَهِمَ ذَلِكَ
يَعْقُوبُ، فَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي الذَّهَابِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَذِنَ
لَهُ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ الْعَيْشِيُّ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا
عَابِدًا وَرِعًا، تُوُفِّيَ أَبُوهُ وَكَانَ وَالِيَ الْبَصْرَةِ، وَتَرَكَ مِنَ
الْمَالِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا يَزِيدُ
دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَكَانَ يَعْمَلُ الْخُوصَ، وَيَأْكُلُ مِنْهُ. وَتُوُفِّيَ
بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَتِ الْخَزَرُ عَلَى النَّاسِ مِنْ ثُلْمَةِ أَرْمِينِيَّةَ،
فَعَاثُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَسَادًا، وَسَبَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَأَهْلِ الذِّمَّةِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَقَتَلُوا بَشَرًا كَثِيرًا،
وَانْهَزَمَ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ سَعِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ
إِلَيْهِمْ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ وَيَزِيدَ بْنَ مَزْيَدٍ فِي جُيُوشٍ
كَثِيفَةٍ، إِلَى تِلْكَ الْبِلَادِ فَأَصْلَحُوا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ
الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى الْهَادِي.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ عَلِيُّ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْخَوْفِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ صُبَيْحٍ أَبُو الْعَبَّاسِ، مَوْلَى بَنِي عِجْلٍ،
الْمُذَكِّرُ. وَيُعْرَفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ. رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي خَالِدٍ وَالْأَعْمَشِ وَالثَّوْرِيِّ وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
وَغَيْرِهِمْ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى الرَّشِيدِ، فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ لَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَوْقِفًا،
فَانْظُرْ أَيْنَ مُنْصَرَفُكَ; إِلَى الْجَنَّةِ أَمْ إِلَى النَّارِ؟ فَبَكَى
الرَّشِيدُ حَتَّى كَادَ يَمُوتُ.
وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ:
الْكَاظِمُ. وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ
كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْمُرُوءَةِ، إِذَا بَلَغَهُ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ
يُؤْذِيهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالتُّحَفِ وَالذَّهَبِ، وُلِدَ لَهُ مِنَ
الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَرْبَعُونَ نَسَمَةً. وَأَهْدَى لَهُ مَرَّةً عَبْدٌ
عَصِيدَةً فَاشْتَرَاهُ وَاشْتَرَى الْمَزْرَعَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا بِأَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَعْتَقَهُ، وَوَهَبَهَا لَهُ.
وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى بَغْدَادَ فَحَبَسَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي
بَعْضِ اللَّيَالِي رَأَى الْمَهْدِيُّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَقُولُ
لَهُ: يَا مُحَمَّدُ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [ مُحَمَّدٍ: 22 ]. فَاسْتَيْقَظَ
مَذْعُورًا، وَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ لَيْلًا، فَأَجْلَسَهُ
مَعَهُ، وَعَانَقَهُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا
يَخْرُجَ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
هَذَا مِنْ شَأْنِي. فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ
دِينَارٍ، وَأَمَرَ بِهِ فَرُدَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ
إِلَّا وَهُوَ عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَزَلْ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ
خِلَافَةُ الرَّشِيدِ فَحَجَّ، فَلَمَّا دَخَلَ لِيُسَلِّمَ عَلَى قَبْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ،
فَقَالَ الرَّشِيدُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا ابْنِ عَمِّ.
فَقَالَ مُوسَى: السَّلَامُ عَلَيْكَ
يَا أَبَهْ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: هَذَا
هُوَ الْفَخْرُ يَا أَبَا الْحَسَنِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ
حَتَّى اسْتَدْعَاهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ، وَسَجَنَهُ فَأَطَالَ
سِجْنَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُوسَى رِسَالَةً يَقُولُ فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ، يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَنْ يَنْقَضِيَ عَنِّي يَوْمٌ مِنَ الْبَلَاءِ
إِلَّا انْقَضَى عَنْكَ يَوْمٌ مِنَ الرَّخَاءِ، حَتَّى يُفْضِيَ بِنَا ذَلِكَ
إِلَى يَوْمٍ يَخْسَرُ فِيهِ الْمُبْطِلُونَ. تُوُفِّيَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ
رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ، وَقَبْرُهُ هُنَاكَ مَشْهُورٌ.
هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ الْقَاسِمِ بْنِ دِينَارٍ، أَبُو
مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيُّ الْوَاسِطِيُّ، كَانَ أَبُوهُ طَبَّاخًا لِلْحَجَّاجِ
بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبِيعُ الصَّحْنَاةَ
وَالْكَوَامِخَ، وَكَانَ يَمْنَعُ ابْنَهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ لِيُسَاعِدَهُ
عَلَى صِنَاعَتِهِ، فَيَأْبَى إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ. فَاتَّفَقَ أَنَّ
هُشَيْمًا مَرِضَ، فَجَاءَهُ أَبُو شَيْبَةَ قَاضِي وَاسِطَ لِيَعُودَهُ، وَمَعَهُ
خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَآهُ بَشِيرٌ فَرِحَ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: يَا
بُنَيَّ، أَبَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ أَنْ جَاءَ الْقَاضِي إِلَى مَنْزِلِي؟! لَا
أَمْنَعُكَ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ.
كَانَ مِنْ سَادَاتِ الْعُلَمَاءِ، حَدَّثَ عَنْهُ; مَالِكٌ، وَشُعْبَةُ،
وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، وَكَانَ مِنَ
الصُّلَحَاءِ الْعُبَّادِ. مَكَثَ يُصَلِّي
الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعَشَاءِ قَبْلَ
أَنْ يَمُوتَ عَشْرَ سِنِينَ.
يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، قَاضِي الْمَدَائِنِ كَانَ مِنَ
الْأَئِمَّةِ الثِّقَاتِ.
يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، أَحَدُ النُّحَاةِ النُّجَبَاءِ، وَقَدْ أَخَذَ عَنْ أَبِي
عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ عَنْهُ الْكِسَائِيُّ
وَالْفَرَّاءُ، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ بِالْبَصْرَةِ يَنْتَابُهَا أَهْلُ
الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالْفُصَحَاءُ مِنَ الْحَاضِرِينَ وَالْعَرَبِ. تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى بَغْدَادَ، فَأَخَذَ النَّاسَ
بِأَدَاءِ بَقَايَا الْخَرَاجِ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَوَلَّى رَجُلًا يَضْرِبُ
النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ وَيَحْبِسُ، وَوَلَّى عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ، وَعَزَلَ
وَقَطَعَ وَوَصَلَ.
وَخَرَجَ بِالْجَزِيرَةِ أَبُو عَمْرٍو الشَّارِي، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ
مَنْ قَتَلَهُ بِشَهْرَزُورَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الرَّشِيدِ كَانَ زَاهِدًا عَابِدًا قَدْ
تَنَسَّكَ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ، يَعْمَلُ فِي
الطِّينِ، وَلَيْسَ يَمْلِكُ إِلَّا مَرًّا وَزِنْبِيلًا - أَيْ مِجْرَفَةً
وَقُفَّةً - وَكَانَ أُجْرَتُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَعْمَلُ فِيهِ مِنَ الْجُمْعَةِ
إِلَى الْجُمْعَةِ دِرْهَمًا وَدَانِقًا، وَكَانَ لَا يَعْمَلُ إِلَّا فِي يَوْمِ
السَّبْتِ فَقَطْ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْعِبَادَةِ بَقِيَّةَ أَيَّامِ
الْجُمْعَةِ، وَكَانَ مِنْ زُبَيْدَةَ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ مِنَ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا كَانَ الرَّشِيدُ قَدْ أَحَبَّهَا
فَتَزَوَّجَهَا سِرًّا، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِهَذَا الْغُلَامِ ثُمَّ أَحْدَرَهَا
إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَعْطَاهَا خَاتَمًا مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ، وَأَشْيَاءَ
مَعَهَا
نَفِيسَةً، وَأَمَرَهَا إِذَا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ أَنْ تَأْتِيَهُ. فَلَمَّا صَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ لَمْ تَأْتِهِ وَلَا وَلَدُهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّهُمَا مَاتَا، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَكَانَ هَذَا الشَّابُّ يَعْمَلُ بِيَدِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَدِّهَا، فَاتَّفَقَ مَرَضُهُ فِي دَارِ مَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الطِّينِ، فَمَرَّضَهُ عِنْدَهُ، فَلَمَّا احْتُضِرَ أَخْرَجَ الْخَاتَمَ، وَقَالَ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى الرَّشِيدِ، وَقُلْ لَهُ: صَاحِبُ هَذَا الْخَاتَمِ يَقُولُ لَكَ: إِيَّاكَ أَنْ تَمُوتَ فِي سَكْرَتِكَ هَذِهِ فَتَنْدَمَ فَلَمَّا مَاتَ وَدَفَنَهُ وَطَلَبَ الْحُضُورَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: هَذَا الْخَاتَمُ دَفَعَهُ إِلَيَّ رَجُلٌ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ لَكَ كَلَامًا. فَلَمَّا نَظَرَ عَرَفَهُ فَقَالَ: وَيْحَكَ! وَأَيْنَ صَاحِبُ الْخَاتَمِ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: مَاتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يَقُولُ لَكَ: احْذَرْ أَنْ تَمُوتَ فِي سَكْرَتِكَ فَتَنْدَمَ. قَالَ: فَقَامَ الرَّشِيدُ فَضَرَبَ بِنَفْسِهِ الْبِسَاطَ وَجَعَلَ يَتَقَلَّبُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ نَصَحْتَنِي يَا بُنَيَّ. ثُمَّ قَالَ: أَتَعْرِفُ قَبْرَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا كَانَ الْعَشِيُّ فَأْتِنِي. فَأَتَيْتُهُ، فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي عِنْدَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ أَمَرَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ لَهُ وَلِعِيَالِهِ رِزْقًا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ
ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، أَبُو بَكْرٍ
الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، وَالِدُ بَكَّارٍ. أَلْزَمَهُ الْخَلِيفَةُ الرَّشِيدُ
بِوِلَايَةِ الْمَدِينَةِ، فَقَبِلَهَا بِشُرُوطٍ عِدَّةٍ اشْتَرَطَهَا،
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَضَافَ إِلَيْهِ نِيَابَةَ الْيَمَنِ، وَكَانَ
مِنْ أَعْدَلِ الْوُلَاةِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ نَحْوًا مِنْ
سَبْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعُمَرِيُّ أَدْرَكَ أَبَا طُوَالَةَ،
وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا،
وَعَظَ الرَّشِيدَ يَوْمًا فَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ; قَالَ لَهُ وَهُوَ وَاقِفٌ
عَلَى الصَّفَا: انْظُرْ كَمْ حَوْلَهَا مِنَ النَّاسِ؟ فَقَالَ: بَشَرٌ كَثِيرٌ.
فَقَالَ: كُلٌّ مِنْهُ يُسْأَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ،
وَأَنْتَ تُسْأَلُ عَنْهُمْ كُلِّهِمْ. فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً كَثِيرًا،
وَجَعَلُوا يَأْتُونَهُ بِمَنْدِيلٍ بَعْدَ مَنْدِيلٍ لِلدُّمُوعِ. ثُمَّ قَالَ
لَهُ: يَا هَارُونُ، إِنَّ الرَّجُلَ لِيُسْرِعُ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُّ
الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُسْرِعُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ
كُلِّهِمْ؟! ثُمَّ تَرَكَهُ وَانْصَرَفَوَالرَّشِيدُ يَبْكِي. وَلَهُ مَعَهُ
مَوَاقِفُ مَحْمُودَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. تُوُفِّيَ عَنْ سِتٍّ
وَسِتِّينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مَعْدَانَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْبِهَانِيُّ،
أَدْرَكَ التَّابِعِينَ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالتَّعَبُّدِ وَالزَّهَادَةِ. وَكَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ يُسَمِّيهِ عَرُوسَ الزُّهَّادِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْقَطَّانُ: مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَكَانَ كَأَنَّهُ قَدْ عَايَنَ.
وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ. قَالُوا: وَكَانَ لَا يَشْتَرِي
زَادَهُ مِنْ خَبَّازٍ وَاحِدٍ، وَلَا مِنْ بَقَّالٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَشْتَرِي
إِلَّا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ، يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ يُحَابُونِي فَأَكُونَ
مِمَّنْ يَعِيشُ بِدِينِهِ. وَكَانَ لَا يَضَعُ جَنْبَهُ لِلنَّوْمِ صَيْفًا وَلَا
شِتَاءً. وَمَاتَ وَلَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا قَتَلَ أَهْلُ طَبَرِسْتَانَ مُتَوَلِّيَهُمْ مَهْرَوَيْهِ الرَّازِيَّ،
فَوَلَّى الرَّشِيدُ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ
الْحَرِشِيَّ.
وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَبْنَاوِيُّ أَبَانَ بْنَ قَحْطَبَةَ
الْخَارِجِيَّ بِمَرَجِ الْقَلْعَةِ.
وَفِيهَا عَاثَ حَمْزَةُ الشَّارِي بِبَاذَغِيسَ مِنْ خُرَاسَانَ، فَنَهَضَ عِيسَى
بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى إِلَى عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ جَيْشِ حَمْزَةَ،
فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ وَرَاءَ جَيْشِ حَمْزَةَ إِلَى كَابُلَ وَزَابُلِسْتَانَ.
وَفِيهَا خَرَجَ أَبُو الْخَصِيبِ فَتَغَلَّبَ عَلَى أَبِيوَرْدَ وَطُوسَ
وَنَيْسَابُورَ، وَحَاصَرَ مَرْوَ وَقَوِيَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ يَزِيدُ بْنُ مَزْيَدٍ بِبَرْذَعَةَ، فَوَلَّى الرَّشِيدُ
مَكَانَهُ ابْنَهُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ. وَاسْتَأْذَنَ الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ
خَالِدٍ الْخَلِيفَةَ فِي أَنْ يَعْتَمِرَ فِي رَمَضَانَ، فَأَذِنَ لَهُ،
فَاعْتَمَرَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ رَابَطَ بِجُدَّةَ إِلَى وَقْتِ الْحَجِّ
فَحَجَّ مَعَ النَّاسِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَنْصُورُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيُّ، عَمُّ السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَمِائَةٍ، وَكَانَ ضَخْمَ الْخَلْقِ جَدًّا وَلَمْ يُبَدِّلْ
أَسْنَانَهُ، وَكَانَتْ أُصُولُهَا صَفِيحَةً وَاحِدَةً. وَقَدْ قَالَ
يَوْمًالِلرَّشِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا مَجْلِسٌ اجْتَمَعَ فِيهِ
عَمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَمُّ عَمِّهِ، وَعَمُّ عَمِّ عَمِّهِ. وَذَلِكَ
أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ عَمُّ الرَّشِيدِ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَمُّ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدَ الصَّمَدِ بْنَ عَلِيٍّ عَمُّ
الْعَبَّاسِ، وَتَلْخِيصُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الصَّمَدِ عَمُّ عَمِّ عَمِّ
الرَّشِيدِ، لِأَنَّهُ عَمُّ جَدِّهِ.
رَوَى عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ
الْبَرَّ وَالصِّلَةَ لَيُطِيلَانِ الْأَعْمَارَ، وَيُعَمِّرَانِ الدِّيَارَ،
وَيُثْرِيَانِ الْأَمْوَالَ، وَلَوْ كَانَ الْقَوْمُ فُجَّارًا ". وَبِهِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ
الْبَرَّ وَالصِّلَةَ لَيُخَفِّفَانِ سُوءَ الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ " [ الرَّعْدِ: 21 ]. وَغَيْرَ
ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، الْمَعْرُوفُ
بِالْإِمَامِ، كَانَ يَلِي إِمَارَةَ
الْحَاجِّ وَإِقَامَةَ شَعَائِرِ الْحَجِّ فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ عِدَّةَ
سِنِينَ. تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فَصَلَّى عَلَيْهِ الْأَمِينُ فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْعَبَّاسِيَّةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ ضِمَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
وَعُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ، وَالْمُعَافَى بْنُ
عُمْرَانَ فِي قَوْلٍ، وَيُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ
الْفَزَارِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ بَعْدَ الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْمَغَازِي
وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ.
رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ، هِيَ رَابِعَةُ بِنْتُ إِسْمَاعِيلَ الْعَدَوِيَّةُ
مَوْلَاةُ آلِ عَتِيكٍ، الْبَصَرِيَّةُ الْعَابِدَةُ الْمَشْهُورَةُ. ذَكَرَهَا
الْقُشَيْرِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "
الْحِلْيَةِ "،
وَابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
صِفَةِ الصَّفْوَةِ "، وَالشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي
" الْمَعَارِفِ " وَأَثْنَى عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ
فِيهَا أَبُو دُوَادَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَاتَّهَمَهَا بِالزَّنْدَقَةِ،
فَلَعَلَّهُ بَلَغَهُ عَنْهَا أَمْرٌ. وَأَنْشَدَ لَهَا السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي
" الْمَعَارِفِ ":
إِنِّي جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدِّثِي وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ
جُلُوسِي فَالْجِسْمُ مِنِّى لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ
وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي
وَقَدْ ذُكِرَ لَهَا أَحْوَالٌ وَأَعْمَالٌ صَالِحَةٌ، وَقِيَامُ لَيْلٍ وَصِيَامُ
نَهَارٍ، وَرُؤِيَتْ لَهَا مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ. وَتُوُفِّيَتْ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَقَبْرُهَا
شَرْقِيُّهُ بِالطُّورِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ مِنْ مَرْوَ لِحَرْبِ أَبِي
الْخَصِيبِ إِلَى نَسَا، فَقَاتَلَهُ بِهَا، وَسَبَى نِسَاءَهُ وَذَرَارِيَّهُ،
وَاسْتَقَامَتْ خُرَاسَانُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ، وَمَعَهُ
ابْنَاهُ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ، فَبَلَغَ جُمْلَةُ
مَا أَعْطَى لِأَهْلِ الْحَرَمَيْنِ أَلْفَ أَلْفَ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي، ثُمَّ يَذْهَبُ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ
إِلَى وَلَدِهِ الْأَمِينِ فَيُعْطِي، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إِلَى وَلَدِهِ عَبْدِ
اللَّهِ الْمَأْمُونِ فَيُعْطِي.
وَكَانَ إِلَى الْأَمِينِ وِلَايَةُ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَإِلَى الْمَأْمُونِ
مِنْ هَمَذَانَ إِلَى بِلَادِ الْمَشْرِقِ. ثُمَّ بَايَعَ الرَّشِيدُ لِوَلَدِهِ
الْقَاسِمِ مِنْ بَعْدِ أَخَوَيْهِ، وَلَقَّبَهُ الْمُؤْتَمَنَ، وَوَلَّاهُ
الْجَزِيرَةَ وَالثُّغُورَ وَالْعَوَاصِمَ، وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ
أَنَّ ابْنَهُ الْقَاسِمَ هَذَا كَانَ فِي حِجْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ،
فَلَمَّا بَايَعَ الرَّشِيدُ لِوَلَدَيْهِ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ كَتَبَ
إِلَيْهِ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الَّذِي لَوْ كَانَ نَجْمًا كَانَ سَعْدَا اعْقِدْ
لِقَاسِمِ بَيْعَةً
وَاقْدَحْ لَهُ فِي الْمُلْكِ زَنْدَا اللَّهُ فَرْدٌ وَاحِدٌ
فَاجَعَلْ وُلَاةَ الْعَهْدِ فَرْدَا
فَفَعَلَ الرَّشِيدُ ذَلِكَ، وَقَدْ
حَمِدَهُ قَوْمٌ عَلَى ذَلِكَ، وَذَمَّهُ آخَرُونَ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ لِلْقَاسِمِ
هَذَا أَمْرٌ، بَلِ اخْتَرَمَتْهُ الْأَقْدَارُ عَنْ بُلُوغِ الْأَوْطَارِ.
وَلَمَّا قَضَى الرَّشِيدُ حَجَّهُ وَمَنَاسِكَهُ أَحْضَرَ مِنْ مَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ، وَأَحْضَرَ وَلِيِّيَ الْعَهْدِ; مُحَمَّدًا
الْأَمِينَ وَعَبْدَ اللَّهِ الْمَأْمُونَ، وَأَشْهَدَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا
السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ لِأَخِيهِ، وَأَلَّا يُنَازِعَهُ مَا وَلَّاهُ اللَّهُ
مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ بِمَضْمُونِ ذَلِكَ صَحِيفَةً، وَكَتَبَ فِيهَا
الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ خُطُوطَهُمْ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، وَأَرَادَ
الرَّشِيدُ أَنْ يُعَلِّقَهَا فِي الْكَعْبَةِ فَسَقَطَتْ، فَقِيلَ: هَذَا
الْأَمْرُ سَرِيعٌ انْتِقَاضُهُ. وَكَذَا وَقَعَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ فِي عَقْدِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ فِي
الْكَعْبَةِ:
خَيْرُ الْأُمُورِ مَغَبَّةً وَأَحَقُّ أَمْرٍ بِالتَّمَامِ
أَمْرٌ قَضَى أَحْكَامَهُ الرَّ حْمَنُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ
وَقَدْ أَطَالَ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ
وَتَبِعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ "
أَيْضًا.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَصْبَغُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَبُو زَبَّانَ
فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
وَحَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَاضِي كَرْمَانَ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ.
سَلْمٌ الْخَاسِرُ الشَّاعِرُ، وَهُوَ
سَلْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَمَّادِ بْنِ عَطَاءٍ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ:
الْخَاسِرُ. لِأَنَّهُ بَاعَ مُصْحَفًا وَاشْتَرَى بِهِ دِيوَانَ شِعْرٍ لِامْرِئِ
الْقَيْسٍ. وَقِيلَ لِلْأَعْشَى. وَقِيلَ: طُنْبُورًا: وَقِيلَ: لِأَنَّهُ
أَنْفَقَ مِائَتَيْ أَلْفٍ فِي صِنَاعَةِ الْأَدَبِ. وَقَدْ كَانَ شَاعِرًا
مُطَبِّقًا، لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْإِنْشَاءِ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ لِمُوسَى الْهَادِي:
مُوسَى الْمَطَرْ غَيْثُ بَكَرْ ثُمَّ انْهَمَرْ
كَمِ اعْتَسَرْ ثُمَّ ايْتَسَرْ
وَكَمْ قَدَرْ ثُمَّ غَفَرْ
عَدْلُ السِّيَرْ بَاقِي الْأَثَرْ
خَيْرُ الْبَشَرْ فَرْعُ مُضَرْ
بَدْرٌ بَدَرْ لِمَنْ نَظَرْ
هُوَ الْوَزَرْ لِمَنْ حَضَرْ
وَالْمُفْتَخَرْ لِمَنْ غَبَرْ
وَالْمُجْتَبَرْ لِمَنْ عَثَرْ
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ غَيْرِ
مَرْضِيَّةٍ مِنَ الْمُجُونِ وَالْفِسْقِ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ تَلَامِيذِ
بَشَّارِ بْنِ بُرْدٍ، وَأَنَّ نَظْمَهُ أَحْسَنُ مِنْ نَظْمِ بِشَّارٍ، فَمِمَّا
غَلَبَ
فِيهِ بَشَّارًا قَوْلُ بَشَّارٍ:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ وَفَازَ بِالطَّيِّبَاتِ الْفَاتِكُ
اللَّهِجْ
فَقَالَ سَلْمٌ:
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمًّا وَفَازَ بِاللَّذَّةِ الْجَسُورُ
فَغَضِبَ بَشَّارٌ وَقَالَ: أَخَذَ مَعَانِيَّ فَكَسَاهَا أَلْفَاظًا أَخَفَّ مِنْ
أَلْفَاظِي.
وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَالْبَرَامِكَةِ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا مَاتَ تَرَكَ سِتَّةً
وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَوْدَعَهَا عِنْدَ أَبِي السَّمْرَاءِ
الْغَسَّانِيِّ، فَغَنَّى إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ الرَّشِيدَ يَوْمًا
فَأَطْرَبَهُ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
أَسْأَلُكُ شَيْئًا لَا أَرْزُؤُكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ فَذَكَرَ لَهُ وَدِيعَةَ
سَلْمٍ الْخَاسِرِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا، فَأَمَرَ لَهُ بِهَا.
وَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ،
عَمُّ الرَّشِيدِ، كَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَلِيَ إِمَارَةَ الْجَزِيرَةِ
فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُ الرَّشِيدُ فِي يَوْمٍ خَمْسَةَ
آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْعَبَّاسِيَّةُ، وَبِهَا دُفِنَ
وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْأَمِينُ.
يَقْطِينُ بْنُ مُوسَى، كَانَ أَحَدَ الدُّعَاةِ إِلَى دَوْلَةِ بَنِي
الْعَبَّاسِ، وَكَانَ دَاهِيَةً ذَا رَأْيٍ، وَقَدِ احْتَالَ مَرَّةً حِيلَةً
عَظِيمَةً وَذَلِكَ حِينَ حَبَسَ مَرْوَانُ الْحِمَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
مُحَمَّدٍ بِحَرَّانَ، فَتَحَيَّرَتِ الشِّيعَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ فِيمَنْ يَكُونُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَذَهَبَ يَقْطِينُ هَذَا إِلَى مَرْوَانَ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي صُورَةِ تَاجِرٍ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ بِعْتُ بِضَاعَةً مِنْ رَجُلٍ وَلَمْ أَقْبِضْ ثَمَنَهَا مِنْهُ حَتَّى أَخَذَتْهُ رُسُلُكَ فَحَبَسُوهُ، فَإِنْ رَأَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لِأُطَالِبَهُ بِمَالِي؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ مَعَ غُلَامٍ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِلَى مَنْ تَرَكْتَ بَعْدَكَ آخُذُ مَالِيَ مِنْهُ؟ فَقَالَ: إِلَى ابْنِ الْحَارِثِيَّةِ. يَعْنِي أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ السَّفَّاحَ، فَرَجَعَ يَقْطِينُ إِلَى الدُّعَاةِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا قَالَ، فَبَايَعُوا السَّفَّاحَ، وَكَانَ مَا قَدْ كَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مَهْلِكُ الْبَرَامِكَةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الرَّشِيدِ جَعْفَرَ بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ
الْبَرْمَكِيَّ، وَدَمَارُ دِيَارِهِمْ وَانْدِثَارُ آثَارِهِمْ، وَذَهَابُ
صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ عَلَى أَقْوَالٍ
ذَكَرَهَا أَبُو جَعْفَرٍ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ،
فَمِمَّا قِيلَ: إِنَّ الرَّشِيدَ كَانَ قَدْ سَلَّمَ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ حَسَنٍ إِلَى جَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ فَسَجَنَهُ عِنْدَهُ، فَمَا زَالَ
يَحْيَى يَتَرَقَّقُ لَهُ حَتَّى أَطْلَقَهُ جَعْفَرٌ، فَنَمَّ الْفَضْلُ بْنُ
الرَّبِيعِ عَلَى جَعْفَرٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: وَيْلَكَ لَا
تَدْخُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ جَعْفَرٍ فَلَعَلَّهُ أَطْلَقَهُ عَنْ أَمْرِي وَأَنَا
لَا أَشْعُرُ. ثُمَّ سَأَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا عَنْ ذَلِكَ فَصَدَقَهُ
الْحَالَ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ وَحَلَفَ لَيَقْتُلَنَّهُ وَكَرِهَ
الْبَرَامِكَةَ وَمَقَتَهُمْ وَقَلَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، بَعْدَ مَا كَانُوا
أَحْظَى النَّاسِ عِنْدَهُ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ.
وَكَانَتْ أُمُّ جَعْفَرٍ وَالْفَضْلِ أُمَّهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَحَصَلَ لَهُمْ
مِنَ الرِّفْعَةِ فِي الدُّنْيَا وَكَثْرَةِ الْمَالِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَيْءٌ
كَثِيرٌ لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوُزَرَاءِ وَلَا لِمَنْ
بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ، بِحَيْثُ إِنَّ جَعْفَرًا بَنَى
دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ
جُمْلَةِ مَا نَقَمَهُ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ. وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّشِيدَ
كَانَ لَا يَكَادُ يَمُرُّ بِبَلَدٍ
وَلَا إِقْلِيمٍ فَيَسْأَلُ عَنْ قَرْيَةٍ أَوْ مَزْرَعَةٍ أَوْ بُسْتَانٍ إِلَّا
قِيلَ: هَذَا لِجَعْفَرٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْبَرَامِكَةَ كَانُوا يُرِيدُونَ إِبْطَالَ
خِلَافَةِ الرَّشِيدِ وَإِظْهَارَ الزَّنْدَقَةِ. وَقِيلَ: بِسَبَبِ
الْعَبَّاسَةِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ ابْنُ
جَرِيرٍ قَدْ ذَكَرَهُ.
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الرَّشِيدَ سُئِلَ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ
أَجْلِهِ أَهْلَكَ الْبَرَامِكَةَ فَقَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ قَمِيصِي يَعْلَمُ
ذَلِكَ لَأَحْرَقْتُهُ. وَقَدْ كَانَ جَعْفَرٌ يَدْخُلُ عَلَى الرَّشِيدِ بِغَيْرِ
إِذْنٍ حَتَّى كَانَ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ مَعَ
حَظَايَاهُ، وَهَذِهِ وَجَاهَةٌ عَظِيمَةٌ وَمَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ، وَكَانَ مِنْ
أَحْظَى الْعُشَرَاءِ عَلَى الشَّرَابِ - فَإِنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَسْتَعْمِلُ
فِي أَوَاخِرِ مُلْكِهِ الْمُسْكِرَ، وَكَأَنَّهُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ - وَكَانَ
أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ أُخْتُهُ الْعَبَّاسَةُ بِنْتُ الْمَهْدِيِّ، وَكَانَ
يُحْضِرُهَا مَعَهُ، وَجَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ حَاضِرٌ أَيْضًا، فَزَوَّجَهُ
بِهَا لِيَحِلَّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا
يَطَأْهَا، فَكَانَ الرَّشِيدُ رُبَّمَا قَامَ وَتَرَكَهُمَا وَهُمَا ثَمِلَانِ
مِنَ الشَّرَابِ، فَرُبَّمَا وَاقَعَهَا جَعْفَرٌ فَاتَّفَقَ حَمْلُهَا مِنْهُ
فَوَلَدَتْ وَلَدًا، وَبَعْثَتْهُ مَعَ بَعْضِ جَوَارِيهَا إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ
يُرَبَّى بِهَا.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " صِفَةً
أُخْرَى فِي مَقْتَلِ جَعْفَرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا زَوَّجَ الرَّشِيدُ
جَعْفَرًا مِنَ الْعَبَّاسَةِ أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَرَاوَدَتْهُ عَنْ
نَفْسِهِ فَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ مِنْ خَشْيَةِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَاحْتَالَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ
تُهْدِي إِلَيْهِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ
جُمْعَةٍ جَارِيَةً حَسْنَاءَ بِكْرًا فَقَالَتْ لِأُمِّهِ: أَدْخِلِينِي عَلَيْهِ
فِي صِفَةِ جَارِيَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجَوَارِي فَهَابَتْ مِنْ تِلْكَ،
فَتَهَدَّدَتْهَا حَتَّى فَعَلَتْ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يَتَحَقَّقُ
وَجْهَهَا مِنْ مَهَابَةِ الرَّشِيدِ، فَوَاقَعَهَا فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ
رَأَيْتَ خَدِيعَةَ بَنَاتِ الْمُلُوكِ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَتْ: أَنَا
الْعَبَّاسَةُ. وَحَمَلَتْ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ
فَقَالَ لَهَا. بِعْتِينِي وَاللَّهِ بِرَخِيصٍ. ثُمَّ إِنَّ وَالِدَهُ يَحْيَى
بْنَ خَالِدٍ جَعَلَ يُضَيِّقُ عَلَى عِيَالِ الرَّشِيدِ فِي النَّفَقَةِ، حَتَّى
شَكَتْهُ إِلَى الرَّشِيدِ زُبَيْدَةُ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَفْشَتْ لَهُ سِرَّ
الْعَبَّاسَةِ، فَاسْتَشَاطَ غَضَبًا، وَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ
أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى مَكَّةَ حَجَّ عَامَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَحَقَّقَ الْأَمْرَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْجَوَارِي نَمَّتْ عَلَيْهَا إِلَى الرَّشِيدِ،
وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّ الْوَلَدَ بِمَكَّةَ، وَعِنْدَهُ
جَوَارٍ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ وَحُلِيٌّ كَثِيرٌ، فَلَمْ يُصَدِّقْ حَتَّى حَجَّ فِي
السَّنَةِ الْحَالِيَّةِ، فَكَشَفَ عَنِ الْحَالِ، فَإِذَا هُوَ كَمَا ذَكَرَتْ
تِلْكَ الْجَارِيَةُ.
وَقَدْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ الْوَزِيرُ، وَقَدِ
اسْتَشْعَرَ الْغَضَبَ مِنَ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو عِنْدَ
الْكَعْبَةِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يُرْضِيكَ عَنِّي سَلْبُ مَالِيَ وَوَلَدِي
وَأَهْلِي فَافْعَلْ ذَلِكَ بِي، وَأَبْقِ عَلَيَّ مِنْهُمُ الْفَضْلَ. ثُمَّ
خَرَجَ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ رَجَعَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ
وَالْفَضْلُ مَعَهُمْ، فَإِنِّي رَاضٍ بِرِضَاكَ عَنِّي وَلَا تَسْتَثْنِ مِنْهُمْ
أَحَدًا.
فَلَمَّا قَفَلَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ صَارَ إِلَى الْحِيرَةِ، ثُمَّ رَكِبَ
فِي السُّفُنِ إِلَى الْعُمْرِ مِنْ أَرْضِ الْأَنْبَارِ، فَلَمَّا كَانَتْ
لَيْلَةُ السَّبْتِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ
سَبْعٍ وَثَمَانِينَ أَرْسَلَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ، وَمَعَهُ حَمَّادُ بْنُ
سَالِمٍ أَبُو عِصْمَةَ فِي جَمَاعَةٍ
مِنَ الْجُنْدِ فَأَطَافُوا بِجَعْفَرِ
بْنِ يَحْيَى لَيْلًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَسْرُورٌ الْخَادِمُ، وَعِنْدَهُ
بُخْتَيَشُوعُ الْمُتَطَبِّبُ، وَأَبُو زَكَّارٍ الْأَعْمَى الْمُغَنِّي
الْكَلْوَذَانِيُّ، وَهُوَ فِي أَمْرِهِ، وَأَبُو زَكَّارٍ يُغَنِّيهِ:
فَلَا تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتًى سَيَأْتِي عَلَيْهِ الْمَوْتُ يَطْرُقُ أَوْ
يُغَادِي
فَقَالَ الْخَادِمُ لَهُ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، هَذَا الْمَوْتُ قَدْ طُرَقَكَ،
أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَبَّلَ قَدَمَيْهِ، وَدَخَلَ
عَلَيْهِ، أَنْ يَدْخُلَ إِلَى أَهْلِهِ، فَيُوصِيَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَمَّا
الدُّخُولُ فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، فَأَوْصَى جَعْفَرٌ وَأَعْتَقَ جَمَاعَةً مِنْ
مَمَالِيكِهِ، وَجَاءَتْ رُسُلُ الرَّشِيدِ تَسْتَحِثُّ الْخَادِمَ، فَأَخْرَجَهُ
إِخْرَاجًا عَنِيفًا يَقُودُهُ، حَتَّى أَتَى الْمَنْزِلَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الرَّشِيدُ
فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ بِقَيْدِ حِمَارٍ، وَأَعْلَمَ الرَّشِيدَ بِمَا كَانَ
فَعَلَ، فَأَمَرَهُ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَجَاءَ إِلَى جَعْفَرٍ فَقَالَ: إِنَّ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِرَأْسِكَ، فَقَالَ: يَا
أَبَا هَاشِمٍ، لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَكْرَانُ، فَإِذَا صَحَا
عَاتَبَكَ عَلَى ذَلِكَ، فَعَاوِدْهُ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَعَلَّكَ مَشْغُولٌ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا مَاصَّ بَظْرِ
أُمِّهِ ! ائْتِنِي بِرَأْسِهِ. فَكَرَّرَ عَلَيْهِ جَعْفَرٌ الْمُعَاوَدَةَ،
فَقَالَ لَهُ: بَرِئْتُ مِنَ الْمَهْدِيِّ لَئِنْ لَمْ تَأْتِنِي بِرَأْسِهِ
لَأَبْعَثَنَّ مَنْ يَأْتِينِي بِرَأْسِكَ وَرَأْسِهِ. فَرَجَعَ إِلَى جَعْفَرٍ،
فَحَزَّ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ الْبُرُدَ فِي الِاحْتِيَاطِ عَلَى
الْبَرَامِكَةِ جَمِيعِهِمْ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ
بِسَبِيلٍ فَأُخِذُوا كُلُّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ،
وَحَبَسَ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ فِي مَنْزِلِهِ، وَحَبَسَ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى
فِي مَنْزِلٍ آخَرَ، وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا كَانُوا يَمْلِكُونَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَالْمَوَالِي، وَالْحَشَمِ، وَالْخَدَمِ، وَاحْتِيطَ عَلَى
أَمْلَاكِهِمْ، وَبَعَثَ الرَّشِيدُ بِرَأْسِ جَعْفَرٍ وَجُثَّتِهِ، ثُمَّ قُطِعَتْ
بِاثْنَيْنِ، فَنُصِبَ الرَّأْسُ عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَعْلَى، وَشِقُّ الْجُثَّةِ
عِنْدَ الْجِسْرِ الْأَسْفَلِ، وَشِقُّهَا الْآخَرُ عِنْدَ الْجِسْرِ الْآخَرِ،
ثُمَّ أُحْرِقَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ، وَنُودِيَ فِي بَغْدَادَ أَنْ
لَا أَمَانَ لِلْبَرَامِكَةِ وَلَا لِمَنْ آوَاهُمْ، إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ
يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فَإِنَّهُ اسْتَثْنَاهُ مِنْ بَيْنِ الْبَرَامِكَةِ
لِنُصْحِهِ لِلْخَلِيفَةِ.
وَأَتَى الرَّشِيدُ بِأَنَسِ بْنِ أَبِي شَيْخٍ - وَكَانَ يُتَّهَمُ
بِالزَّنْدَقَةِ، وَكَانَ مُصَاحِبًا لِجَعْفَرٍ الْبَرْمَكِيِّ - وَذَلِكَ
لَيْلَةَ قُتِلَ جَعْفَرٌ، فَدَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَلَامٌ، فَأَخْرَجَ
الرَّشِيدُ سَيْفًا مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ بِهِ،
وَجَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِبَيْتٍ قِيلَ فِي أَنَسٍ قَبْلَ ذَلِكَ:
تَلَمَّظَ السَّيْفُ مِنْ شَوْقٍ إِلَى أَنَسٍ فَالسَّيْفُ يَلْحَظُ
وَالْأَقْدَارُ تَنْتَظِرُ
فَضُرِبَتْ عُنُقُ أَنَسٍ، فَسَبَقَ السَّيْفُ الدَّمَ، فَقَالَ الرَّشِيدُ:
رَحِمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُصْعَبٍ. فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّ السَّيْفَ
كَانَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ. وَشُحِنَتِ السُّجُونُ
بِالْبَرَامِكَةِ، وَاسْتُلِبَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا.
وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَتَلَ فِي آخِرِهِ جَعْفَرًا،
هُوَ وَإِيَّاهُ رَاكِبَيْنِ فِي الصَّيْدِ، وَقَدْ خَلَا بِهِ دُونَ وُلَاةِ
الْعُهُودِ، وَطَيَّبَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالْغَالِيَةِ بِيَدِهِ، وَلَمَّا
كَانَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَوَدَّعَهُ الرَّشِيدُ، ضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ:
لَوْلَا أَنَّ اللَّيْلَةَ لَيْلَةُ خَلْوَتِي بِالنِّسَاءِ مَا فَارَقْتُكَ،
فَاذْهَبْ إِلَى مَنْزِلِكَ وَاشْرَبْ وَاطْرَبْ لِتَكُونَ عَلَى مِثْلِ حَالِي.
فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَشْتَهِي ذَلِكَ إِلَّا
مَعَكَ. فَانْصَرَفَ عَنْهُ جَعْفَرٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَهَبَ مِنَ
اللَّيْلِ بَعْضُهُ حَتَّى أَوْقَعَ بِهِ مِنَ الْبَأْسِ وَالنَّكَالِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ آخَرَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
وَقِيلَ: إِنَّهَا مُسْتَهَلُّ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَكَانَ عُمْرُ
جَعْفَرٍ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
وَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى أَبِيهِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ بِقَتْلِهِ قَالَ:
قَتَلَ اللَّهُ ابْنَهُ. وَلَمَّا قِيلَ لَهُ:
قَدْ خُرِّبَتْ دَارُكَ. قَالَ:
خَرَّبَ اللَّهُ دَوْرَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى دَارِهِ وَقَدْ
هُتِكَتْ سُتُورُهَا، وَاسْتُبِيحَتْ قُصُورُهَا، وَانْتُهِبَ مَا فِيهَا، قَالَ:
هَكَذَا تَقُومُ السَّاعَةُ.
وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يُعَزِّيهِ فِيمَا وَقَعَ، فَكَتَبَ
جَوَابَ التَّعْزِيَةِ: أَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ رَاضٍ، وَبِالْخِيَارِ عَالِمٌ،
وَلَا يُؤَاخِذُ اللَّهُ الْعِبَادَ إِلَّا بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا اللَّهُ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَمَا يَغْفِرُ اللَّهُ أَكْثَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ مِنَ الْمَرَاثِي فِي الْبَرَامِكَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُ الرَّقَاشِيِّ - وَيُذْكَرُ أَنَّهَا لِأَبِي نُوَاسٍ -:
أَلَانَ اسْتَرَحْنَا وَاسْتَرَاحَتْ رِكَابُنَا وَأَمْسَكَ مَنْ يُجْدِي وَمَنْ
كَانَ يَجْتَدِي
فَقُلْ لِلْمَطَايَا قَدْ أَمِنْتِ مِنَ السُّرَى وَطَيِّ الْفَيَافِي فَدْفَدًا
بَعْدَ فَدْفَدِ
وَقُلْ لِلْمَنَايَا قَدْ ظَفِرْتِ بِجَعْفَرٍ وَلَنْ تَظْفَرِي مِنْ بَعْدِهِ
بَمُسَوَّدِ
وَقُلْ لِلْعَطَايَا بَعْدْ فَضْلٍ تَعَطَّلِي وَقُلْ لِلرَّزَايَا كُلَّ يَوْمٍ
تَجَدَّدِي
وَدُونَكِ سَيْفًا بَرْمَكِيًّا مُهَنَّدًا أُصِيبَ بِسَيْفٍ هَاشِمِيٍّ مُهَنَّدِ
وَقَالَ الرَّقَاشِيُّ وَقَدْ نَظَرَ إِلَى جَعْفَرٍ وَهُوَ عَلَى جِذْعِهِ
مَصْلُوبٌ:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا خَوْفُ وَاشٍ وَعَيْنٌ لِلْخَلِيفَةِ لَا تَنَامُ
لَطُفْنَا حَوْلِ جِذْعِكَ وَاسْتَلَمْنَا كَمَا لِلنَّاسِ بِالْحَجَرِ اسْتِلَامُ
فَمَا أَبْصَرْتُ قُبْلَكَ يَابْنَ يَحْيَى حُسَامًا فَلَّهُ السَّيْفُ الْحُسَامُ
عَلَى اللَّذَّاتِ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا وَدَوْلَةِ آلِ بَرْمَكٍ السَّلَامُ
قَالَ: فَاسْتَدْعَى بِهِ الرَّشِيدُ
وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ! كَمْ كَانَ يُعْطِيكَ جَعْفَرٌ كُلَّ عَامٍ؟ قَالَ:
أَلْفُ دِينَارٍ. فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ:
لَمَّا قُتِلَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى وَقَفَتِ امْرَأَةٌ عَلَى حِمَارٍ فَارِهٍ،
فَقَالَتْ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ صِرْتَ الْيَوْمَ آيَةً فَلَقَدْ
كُنْتَ فِي الْمَكَارِمِ غَايَةً. ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
وَلَمَّا رَأَيْتُ السَّيْفَ خَالَطَ جَعْفَرًا وَنَادَى مُنَادٍ لِلْخَلِيفَةِ
فِي يَحْيَى
بَكَيْتُ عَلَى الدُّنْيَا وَأَيْقَنْتُ أَنَّمَا قُصَارَى الْفَتَى يَوْمًا
مُفَارَقَةُ الدُّنْيَا
وَمَا هِيَ إِلَّا دَوْلَةٌ بَعْدَ دَوْلَةٍ تُخَوِّلُ ذَا نُعْمَى وَتُعْقِبُ ذَا
بَلْوَى
إِذَا أَنْزَلَتْ هَذَا مَنَازِلَ رِفْعَةٍ مِنَ الْمُلْكِ حَطَّتْ ذَا إِلَى
الْغَايَةِ الْقُصْوَى
قَالَ ثُمَّ حَرَّكَتْ حِمَارَهَا، فَذَهَبَتْ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ رِيحًا لَا
أَثَرَ لَهَا، وَلَا يُعْرَفُ أَيْنَ ذَهَبَتْ
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ "
الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ جَعْفَرًا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا:
فَنْفَنَةُ. مُغَنِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ، كَانَ
مُشْتَرَاهَا عَلَيْهِ بِمَنْ مَعَهَا مِنَ الْجَوَارِي مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَطَلَبَهَا مِنْهُ الرَّشِيدُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَتَلَهُ
الرَّشِيدُ اصْطَفَى تِلْكَ الْجَارِيَةَ، فَأَحْضَرَهَا لَيْلَةً فِي مَجْلِسِ
شَرَابِهِ، وَعِنْدَهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ جُلَسَائِهِ
وَسُمَّارِهِ وَأَحْبَابِهِ، فَأَمَرَ مَنْ مَعَهَا أَنْ يُغَنِّينَ،
فَانْدَفَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَغَنِّي، حَتَّى انْتَهَتِ النَّوْبَةُ إِلَى
فَنْفَنَةَ، فَأَمَرَهَا بِالْغِنَاءِ، فَأَسْبَلَتْ دَمْعَهَا وَقَالَتْ: أَمَّا
بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا. فَغَضِبَ الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا،
وَأَمَرَ بَعْضَ الْحَاضِرِينَ أَنْ يَأْخُذَهَا إِلَيْهِ فَقَدْ وَهَبَهَا لَهُ،
ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: لَا
تَطَأْهَا. فَفَهِمُوا أَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ كَسْرَهَا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
ذَلِكَ أَحْضَرَهَا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهَا وَأَمَرَهَا
بِالْغِنَاءِ، فَامْتَنَعَتْ وَأَرْسَلَتْ دُمُوعَهَا وَقَالَتْ: أَمَّا بَعْدَ
السَّادَةِ فَلَا. فَغَضِبَ الرَّشِيدُ أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَالَ:
النِّطْعُ وَالسَّيْفُ. وَجَاءَ السَّيَّافُ، فَوَقَفَ عَلَى رَأْسِهَا، وَقَالَ
لَهُ: إِذَا أَمَرْتُكَ ثَلَاثًا وَعَقَدْتُ أَصَابِعِي ثَلَاثًا فَاضْرِبْ. ثُمَّ
قَالَ لَهَا: غَنِّي. فَبَكَتْ وَقَالَتْ: أَمَّا بَعْدَ السَّادَةِ فَلَا.
فَعَقَدَ أُصْبَعَهُ الْخِنْصَرَ، ثُمَّ أَمَرَهَا الثَّانِيَةَ فَامْتَنَعَتْ،
فَعَقَدَ اثْنَتَيْنِ، فَارْتَعَدَ الْحَاضِرُونَ، وَأَشْفَقُوا غَايَةَ
الْإِشْفَاقِ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهَا يَسْأَلُونَهَا أَنْ لَا تَقْتَلَ
نَفْسَهَا، وَأَنْ تُجِيبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْهَا.
ثُمَّ أَمَرَهَا الثَّالِثَةَ، فَانْدَفَعَتْ تَغَنِّي:
لَمَّا رَأَيْتُ الدِّيَارَ قَدْ دَرَسَتْ أَيْقَنْتُ أَنَّ النَّعِيمَ لَمْ
يَعُدْ
قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهَا الرَّشِيدُ، وَأَخَذَ الْعُودَ مِنْ يَدِهَا،
وَأَقْبَلَ يَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهَا، وَرَأْسَهَا حَتَّى تَكَسَّرَ، وَأَقْبَلَتِ
الدِّمَاءُ، وَتَطَايَرْنَا مِنْ حَوْلِهَا، وَحُمِلَتِ الْجَارِيَةُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ فَمَاتَتْ بَعْدَ ثَلَاثٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَغْرَانِي
بِالْبَرَامِكَةِ، فَمَا وَجَدْتُ
بَعْدَهُمْ لَذَّةً وَلَا رَاحَةً
وَلَا رَخَاءً، وَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي شُوطِرْتُ نِصْفَ عُمْرِي وَمُلْكِي
وَأَنِّي تَرَكْتُهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ جَعْفَرًا اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ
بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَالْتَفَتَتْ إِلَى بَائِعِهَا وَقَالَتْ لَهُ:
اذْكُرِ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَنْ لَا تَأْكُلَ مِنْ ثَمَنِي
شَيْئًا. فَبَكَى سَيِّدُهَا وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَنِّي قَدْ
تَزَوَّجْتُهَا. فَقَالَ جَعْفَرٌ: اشْهَدُوا أَنَّ الثَّمَنَ لَهُ أَيْضًا.
قَالَ: وَكَتَبَ إِلَى نَائِبٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ; فَقَدْ كَثُرَ شَاكُوكَ،
وَقَلَّ شَاكِرُوكَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْدِلَ وَإِمَّا أَنْ تَعْتَزِلَ.
وَمِنْ أَحْسَنِ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنَ التَّلَطُّفِ فِي إِزَالَةِ هَمِّ
الرَّشِيدِ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ مُنَجِّمٌ يَهُودِيٌّ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ
سَيَمُوتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَمَلَ الرَّشِيدُ هَمًّا عَظِيمًا، فَدَخَلَ
جَعْفَرٌ فَسَأَلَ: مَا الْخَبَرُ؟ فَأُخْبِرَ بِقَوْلِ الْيَهُودِيِّ
لِلْخَلِيفَةِ: أَنَّهُ سَيَمُوتُ مِنْ عَامِهِ هَذَا، فَاسْتَدْعَى جَعْفَرٌ
الْيَهُودِيَّ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ وَجَدْتَ بَقِيَ لَكَ مِنَ الْعُمْرِ؟ فَذَكَرَ
مُدَّةً طَوِيلَةً، فَأَقْبَلَ عَلَى الرَّشِيدِ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، اقْتُلْهُ حَتَّى تَعْلَمَ كَذِبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ
مَوْتِكَ، كَمَا عَلِمْتَ كَذِبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْ عُمْرِهِ. فَأَمَرَ
الرَّشِيدُ بِالْيَهُودِيِّ فَقُتِلَ، وَسُرِّيَ عَنِ الرَّشِيدِ هَمُّهُ الَّذِي
كَانَ يَجِدُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَبَعْدَ مَقْتَلِ الْبَرَامِكَةِ قَتَلَ الرَّشِيدُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عُثْمَانَ
بْنِ نَهِيكٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
حَزِنَ عَلَى مَقْتَلِ الْبَرَامِكَةِ،
وَلَاسِيَّمَا عَلَى جَعْفَرٍ، وَكَانَ يُكْثِرُ الْبُكَاءَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ
خَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الْبُكَاءِ إِلَى حَيِّزِ الِانْتِصَارِ لَهُمْ وَالْأَخْذِ
بِثَأْرِهِمْ، وَكَانَ إِذَا شَرِبَ فِي مَنْزِلِهِ يَقُولُ لِجَارِيَتِهِ:
ائْتِينِي بِسَيْفِي. فَيَسُلُّهُ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّ
قَاتِلَهُ. فَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، فَخَشِيَ ابْنُهُ عُثْمَانُ أَنْ
يَطَّلِعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَيُهْلِكُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ،
وَرَأَى أَنَّ أَبَاهُ لَا يَنْزِعُ عَنْ هَذَا، فَذَهَبَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ
الرَّبِيعِ فَأَعْلَمَهُ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ الْخَلِيفَةَ، فَاسْتَدْعَى بِهِ،
فَاسْتَخْبَرَهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ؟ قَالَ: فَلَانٌ
الْخَادِمُ. فَجَاءَ بِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: لَا يَحِلُّ لِي
قَتْلُ أَمِيرٍ كَبِيرٍ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ غُلَامٍ وَخَصِيٍّ، لَعَلَّهُمَا قَدْ
تَوَاصَيَا عَلَى ذَلِكَ. فَأَحْضُرُهُ الرَّشِيدُ مَعَهُ عَلَى الشَّرَابِ، ثُمَّ
خَلَا بِهِ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ عِنْدِي سِرًّا
أُحِبُّ أَنْ أُطْلِعَكَ عَلَيْهِ، قَدْ أَقْلَقَنِي فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ إِنِّي نَدِمْتُ عَلَى قَتْلِ الْبَرَامِكَةِ وَوَدِدْتُ
أَنِّي قَدْ خَرَجْتُ مِنْ نِصْفِ مُلْكِي وَنُقِصْتُ نِصْفَ عُمْرِي وَلَمْ
أَكُنْ فَعَلْتُ بِهِمْ مَا فَعَلْتُ، فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ بَعْدَهُمْ لَذَّةً
وَلَا رَاحَةً، فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ - يَعْنِي
جَعْفَرًا، وَبَكَى - وَاللَّهِ يَا سَيِّدِي، لَقَدْ أَخْطَأْتَ فِي قَتْلِهِ.
فَقَالَ لَهُ: قُمْ، لَعَنَكَ اللَّهُ. ثُمَّ قَتَلَهُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَسَلَّمَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الرَّشِيدُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ
بِسَبَبِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْخِلَافَةَ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ
بِسَبَبِهِ أَيْضًا عَلَى الْبَرَامِكَةِ الَّذِينَ هُمْ فِي الْحُبُوسِ، وَسَجَنَهُ،
فَلَمْ يَزَلْ فِي السِّجْنِ حَتَّى تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ فَأَخْرَجَهُ
الْأَمِينُ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى نِيَابَةِ الشَّامِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَتِ
الْعَصَبِيَّةُ أَيْضًا بِالشَّامِ بَيْنَ الْمُضَرِيَّةِ وَالْيَمَانِيَةِ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الرَّشِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ مَنْصُورِ بْنِ زِيَادٍ فَأَصْلَحَ
بَيْنِهِمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِالْمِصِّيصَةِ، فَانْهَدَمَ بَعْضُ
سُورِهَا، وَنَضَبَ مَاؤُهُمْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الرَّشِيدُ وَلَدَهُ الْقَاسِمَ عَلَى الصَّائِفَةِ، وَجَعَلَهُ
قُرْبَانًا وَوَسِيلَةً، وَوَلَّاهُ الْعَوَاصِمَ، فَسَارَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ، فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى افْتَدَوْا مِنْهُ بِخَلْقٍ مِنَ الْأَسَارَى
يُطْلِقُونَهُمْ وَيَرْجِعُ عَنْهُمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا نَقَضَتِ الرُّومُ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ الرَّشِيدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِينَى
مَلِكَةِ الرُّومِ الْمُلَقَّبَةِ أُغُسْطَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ الرُّومَ عَزَلُوهَا
عَنْهُمْ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ النَّقْفُورَ، وَكَانَ شُجَاعًا، يُقَالُ:
إِنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ آلِ جَفْنَةَ، وَإِنَّهُ قَبْلَ الْمُلْكِ كَانَ يَلِي
دِيوَانَ الْخَرَاجِ، وَمَلَّكُوا نَقْفُورَ هَذَا عَلَيْهِمْ، فَخَلَعُوا رِينَى
وَسَمَلُوا عَيْنَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَى الرَّشِيدِ: مِنْ نَقْفُورَ مَلِكِ
الرُّومِ إِلَى هَارُونَ مَلِكِ الْعَرَبِ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْمَلِكَةَ
الَّتِي كَانَتْ قَبِلُ أَقَامَتْكَ مُقَامِ الرُّخِّ، وَأَقَامَتْ نَفْسَهَا
مُقَامِ الْبَيْدَقِ، فَحَمَلَتْ إِلَيْكَ مِنْ أَمْوَالِهَا مَا كُنْتَ حَقِيقًا
بِحَمْلِ أَمْثَالِهِ إِلَيْهَا،
وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ
النِّسَاءِ وَحُمْقِهِنَّ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا فَارْدُدْ مَا حَصَلَ
لَكَ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَافْتَدِ نَفْسَكَ، وَإِلَّا فَالسَّيْفُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكَ. فَلَمَّا قَرَأَ الرَّشِيدُ الْكِتَابَ اسْتَفَزَّهُ الْغَضَبُ،
حَتَّى لَمْ يُمْكِنْ أَحَدًا أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ دُونَ أَنْ يُخَاطِبَهُ،
وَتَفَرَّقَ جُلَسَاؤُهُ خَوْفًا مِنْهُ، وَاسْتَدْعَى بِدَوَاةٍ وَكَتَبَ عَلَى
ظَهْرِ الْكِتَابِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ هَارُونَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَقْفُورَ كَلْبِ الرُّومِ، قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ يَا
ابْنَ الْكَافِرَةِ، وَالْجَوَابُ مَا تَرَاهُ دُونَ مَا تَسْمَعُهُ،
وَالسَّلَامُ. ثُمَّ شَخَصَ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى أَقَامَ بِبَابِ هَرْقَلَةَ،
فَفَتَحَهَا وَاصْطَفَى ابْنَةَ مَلِكِهَا، وَغَنِمَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَخَرَّبَ وَأَحْرَقَ، وَاصْطَلَمَ، فَطَلَبَ نَقْفُورُ مِنْهُ
الْمُوَادَعَةَ عَلَى خَرَاجٍ يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ
الرَّشِيدُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَتِهِ وَصَارَ بِالرِّقَّةِ،
نَقَضَ الْكَافِرُ الْعَهْدَ، وَخَانَ الْمِيثَاقَ، وَكَانَ الْبَرْدُ قَدِ
اشْتَدَّ جِدًّا، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى إِخْبَارِ الرَّشِيدِ بِذَلِكَ;
لِخَوْفِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهِ، حَتَّى يَنْفَصِلَ الشِّتَاءُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ أَبُو الْفَضْلِ الْبَرْمَكِيُّ
الْوَزِيرُ ابْنُ
الْوَزِيرِ، وَقَدْ وَلَّاهُ
الرَّشِيدُ الشَّامَ وَغَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ
الرَّشِيدَ بَعَثَهُ إِلَى دِمَشْقَ لَمَّا ثَارَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنِ
الْعِشْرَيْنِ بَحُورَانَ بَيْنَ قَيْسٍ وَيَمَنٍ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا
أَنْشَئُوهُ فِي الْإِسْلَامِ، كَانَ خَامِدًا فَأَثَارُوهُ فِي هَذَا الْأَوَانِ،
فَلِمَا قَدِمَ جَعْفَرٌ بِجَيْشِهِ خَمَدَتِ الشُّرُورُ وَظَهَرَ السُّرُورُ،
وَقِيلَتْ فِي ذَلِكَ أَشْعَارٌ حِسَانٌ قَدْ ذَكَرَهَا فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ
" تَارِيخِهِ " فَمِنْهَا:
لَقَدْ أُوقِدَتْ فِي الشَّامِ نِيرَانُ فِتْنَةٍ فَهَذَا أَوَانُ الشَّامِ
تُخْمَدُ نَارُهَا
إِذَا جَاشَ مَوْجُ الْبَحْرِ مِنْ آلِ بَرْمَكٍ عَلَيْهَا خَبَتْ شُهْبَانُهَا
وَشِرَارُهَا
رَمَاهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِجَعْفَرٍ وَفِيهِ تَلَاقَى صَدْعُهَا
وَانْجِبَارُهَا
رَمَاهَا بِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ مَاجِدٍ تَرَاضَى بِهِ قَحْطَانُهَا
وَنِزَارُهَا
هُوَ الْمَلِكُ الْمَأْمُولُ لِلَّبِرِّ وَالتُّقَى وَصَوْلَاتُهُ لَا يُسْتَطَاعُ
خِطَارُهَا
وَزِيرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَسَيْفُهُ وَمُدْيَتُهُ وَالْحَرْبُ تَدْمَى
شِفَارُهَا
وَمَنْ تُطْوَ أَسْرَارُ الْخَلِيفَةِ دُونَهُ فَعِنْدَكَ مَأْوَاهَا وَأَنْتَ
قَرَارُهَا
إِذَا مَا ابْنُ يَحْيَى جَعْفَرٌ قَصَدَتْ لَهُ مُلِمَّاتُ خَطْبٍ لَمْ تَرُعْهُ
كِبَارُهَا
لَقَدْ نَشَأَتْ بِالشَّامِ مِنْكَ غَمَامَةٌ يُؤْمَلُ جَدْوَاهَا وَيُخْشَى
دَمَارُهَا
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى هَذَا الْقَدْرِ،
وَكَانَتْ لَهُ فَصَاحَةٌ وَبَلَاغَةٌ وَكَرَمٌ زَائِدٌ، كَانَ أَبُوهُ قَدْ
ضَمَّهُ إِلَى الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ، فَتَفَقَّهُ عَلَيْهِ،
وَصَارَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالرَّشِيدِ،
وَقَدْ وَقَّعَ لَيْلَةً بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ زِيَادَةً عَلَى أَلْفِ تَوْقِيعٍ
فَلَمْ يَخْرُجْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا عَنْ مُوجَبِ الْفِقْهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْكَاتِبِ، عَنْ
سَالِمِ بْنِ هِشَامٍ الْكَاتِبِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَاتِبِ
عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَاتِبِ الْوَحْيِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَتَبْتَ بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَبَيِّنِ السِّينَ فِيهِ ". رَوَاهُ الْخَطِيبُ
وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَعْبِيِّ الْمُتَكَلِّمِ،
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ - وَقَدْ كَانَ كَاتِبًا
لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنْ
طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ رُزَيْقٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ
سَهْلٍ ذِى الرِّيَاسَتَيْنِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بِهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى
لِلرَّشِيدِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ لِي أَبِي يَحْيَى: إِذَا
أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ فَأَعْطِ ; فَإِنَّهَا لَا تَفْنَى، وَإِذَا
أَدْبَرَتْ عَنْكَ فَأَعْطِ ; فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى. قَالَ جَعْفَرٌ:
وَأَنْشَدَنَا أَبِي:
لَا تَبْخَلَنَّ لِدُنْيَا وَهْيَ مُقْبِلَةٌ فَلَيْسَ يَنْقُصُهَا التَّبْذِيرُ
وَالسَّرَفُ
فَإِنْ تَوَلَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا فَالْحَمْدُ مِنْهَا إِذَا مَا
أَدْبَرَتْ خَلَفُ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ:
وَقَدْ كَانَ جَعْفَرٌ مِنْ عُلُوِّ الْقَدْرِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ وَعِظَمِ
الْمَحَلِّ وَجَلَالَةِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الرَّشِيدِ بِحَالَةٍ انْفَرَدَ
بِهَا، وَلَمْ يُشَارَكْ فِيهَا، وَكَانَ سَمْحَ الْأَخْلَاقِ، طَلْقَ الْوَجْهِ،
ظَاهِرَ الْبِشْرِ. فَأَمَّا جُودُهُ وَسَخَاؤُهُ وَبَذْلُهُ وَعَطَاؤُهُ
فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَأَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَظْهَرَ، وَكَانَ أَيْضًا
مِنْ ذَوِي الْفَصَاحَةِ الْمَذْكُورِينَ وَالْبَلَاغَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ مُهَذَّبٍ حَاجِبِ الْعَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، صَاحِبِ قَطِيعَةِ الْعَبَّاسِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ، أَنَّهُ
أَصَابَتْهُ ضَائِقَةٌ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْمُطَالِبُونَ، وَعِنْدَهُ سَفَطٌ
فِيهِ جَوْهَرٌ شِرَاؤُهُ عَلَيْهِ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى
جَعْفَرٍ لِيَبِيعَهُ مِنْهُ، فَاشْتَرَاهُ بِثَمَنِهِ وَوَزَنَ لَهُ أَلْفَ
أَلْفٍ، وَقَبَضَ مِنْهُ السَّفَطَ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ،
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِذَا السَّفَطُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى
مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ لِيَشْكُرَهُ، فَوَجَدَهُ مَعَ
أَخِيهِ الْفَضْلِ عَلَى بَابِ الرَّشِيدِ يَسْتَأْذِنَانِ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ
جَعْفَرٌ: إِنِّي قَدْ ذَكَرْتُ أَمْرَكَ لِلْفَضْلِ، وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِأَلْفِ
أَلْفٍ، وَمَا أَظُنُّهَا إِلَّا قَدْ سَبَقَتْكَ إِلَى أَهْلِكَ، وَسَأُفَاوِضُ
فِيكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ ذَكَرَ أَمْرَهُ وَمَا لَحِقَهُ
مِنَ الدُّيُونِ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَكَانَ جَعْفَرٌ لَيْلَةً فِي سَمَرِهِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَجَاءَتِ الْخُنْفُسَاءُ، حَتَّى رَكِبَتْ ثِيَابَ الرَّجُلِ، فَأَلْقَاهَا
عَنْهُ جَعْفَرٌ. وَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّ مَنْ
قَصَدَتْهُ الْخُنْفُسَاءُ يُبَشَّرُ
بِمَالٍ يُصِيبُهُ. فَأَمَرَ لَهُ جَعْفَرٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ. ثُمَّ عَادَتِ
الْخُنْفُسَاءُ، فَرَجَعَتْ إِلَى الرَّجُلِ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ
أُخْرَى.
وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ الرَّشِيدِ، فَلَمَّا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ قَالَ لِرَجُلٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ: انْظُرْ جَارِيَةً أَشْتَرِيهَا تَكُونُ فَائِقَةً فِي
جَمَالِهَا وَغِنَائِهَا وَذَكَائِهَا. فَفَتَّشَ الرَّجُلُ فَوَجَدَ جَارِيَةً
عَلَى النَّعْتِ، فَطَلَبَ سَيِّدُهَا فِيهَا مَالًا كَثِيرًا عَلَى أَنْ يَرَاهَا
جَعْفَرٌ، فَذَهَبَ جَعْفَرٌ إِلَى مَنْزِلِ سَيِّدِهَا، فَلَمَّا رَآهَا أُعْجِبَ
بِهَا، فَلَمَّا غَنَّتْهُ أَعْجَبَتْهُ أَكْثَرَ، فَسَاوَمَ صَاحِبَهَا فِيهَا،
وَقَالَ: قَدْ أَحْضَرْنَا مَالًا فَإِنْ أَعْجَبَكَ وَإِلَّا زِدْنَاكَ. فَقَالَ
لَهَا سَيِّدُهَا: إِنِّي كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ، وَكُنْتِ عِنْدِي فِي غَايَةِ
السُّرُورِ وَالسِّعَةِ، وَإِنَّهُ قَدِ انْقَبَضَ عَلَيَّ حَالِي، وَقَدْ
أَحْبَبْتُ أَنْ أَبِيعَكَ لِهَذَا الْمَلِكِ، لِتَكُونِي عِنْدَهُ كَمَا كُنْتِ
عِنْدِي. فَقَالَتْ: يَا سَيِّدِي، وَاللَّهِ لَوْ مَلَكْتُ مِنْكَ مَا مَلَكْتَ
مِنِّي لَمْ أَبِعْكَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَأَيْنَ مَا كُنْتَ
عَاهَدْتَنِي أَنْ لَا تَبِيعَنِي، وَلَا تَأْكُلَ ثَمَنِي؟! فَقَالَ سَيِّدُهَا
لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ نَهَضَ جَعْفَرٌ،
وَقَامَ أَصْحَابُهُ، وَأَمَرُوا الْحَمَّالَ أَنْ يَحْمِلَ الدَّرَاهِمَ، فَقَالَ
جَعْفَرٌ: وَاللَّهِ لَا تَتْبَعُنِي. وَقَالَ لِلرَّجُلِ: قَدْ مَلَّكْتُكَهَا.
فَأَنْفِقْهَا عَلَى أَهْلِكَ. وَذَهَبَ وَتَرَكَهُ.
هَذَا وَقَدْ كَانَ يُبَخَّلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَخِيهِ الْفَضْلِ، إِلَّا
أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ مَالًا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ
لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَجَدُوا لَهُ فِي جَرَّةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، زِنَةُ كُلِّ
دِينَارٍ مِائَةُ دِينَارٍ، مَكْتُوبٌ عَلَى صَفْحَةِ الدِّينَارِ
الْوَاحِدَةُ جَعْفَرٌ، وَالْأُخْرَى:
وَأَصْفَرَ مِنْ ضَرْبِ دَارِ الْمُلُوكِ يَلُوحُ عَلَى وَجْهِهِ جَعْفَرُ
يَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَاحِدًا مَتَى تُعْطِهِ مُعْسِرًا يُوسِرُ
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَلَّى الرَّاوِيَةُ: كَتَبَتْ عِنَانُ جَارِيَةُ
النَّاطِفِيِّ إِلَى جَعْفَرٍ تَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لِأَبِيهِ يَحْيَى
أَنْ يُشِيرَ عَلَى الرَّشِيدِ بِشِرَائِهَا، وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ بِهَذِهِ
الْأَبْيَاتِ مِنْ شَعْرِهَا فِي جَعْفَرٍ:
يَا لَائِمِي جَهْلًا أَلَا تُقْصِرُ مَنْ ذَا عَلَى حَرِّ الْهَوَى يَصْبِرُ
لَا تَلْحَنِي إِذَا شَرِبْتُ الْهَوَى صَرْفًا فَمَمْزُوجُ الْهَوَى سُكْرُ
أَحَاطَ بِيَ الْحُبُّ فَخَلْفِي لَهُ بَحْرٌ وَقُدَّامِي لَهُ أَبْحُرُ
تُخْفِقُ رَايَاتِ الْهَوَى بِالرَّدَى فَوْقِي وَحَوْلِي لِلْهَوَى عَسْكَرُ
سِيَّانَ عِنْدِي فِي الْهَوَى لَائِمٌ أَقَلَّ فِيهِ وَالَّذِي يَكْثُرُ
أَنْتَ الْمُصَفَّى مِنْ بَنِي بَرْمَكٍ يَا جَعْفَرَ الْخَيْرَاتِ يَا جَعْفَرُ
لَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُ فِي وَصْفِهِ مَا فِيكَ مِنْ فَضْلٍ وَلَا يَعْشُرُ
مَنْ وَفَّرَ الْمَالَ بِأَعْرَاضِهِ فَجَعْفَرٌ أَعْرَاضُهُ أَوْفَرُ
دِيبَاجَةُ الْمُلْكِ عَلَى وَجْهِهِ وَفِي يَدَيْهِ الْعَارِضُ الْمُمْطِرُ
سَحَّتْ عَلَيْنَا مِنْهُمَا دِيمَةٌ يَنْهَلُّ مِنْهَا الذَّهَبُ الْأَحْمَرُ
لَوْ مَسَحَتْ كَفَّاهُ جُلْمُودَةً أَنْضَرَ فِيهَا الْوَرَقُ الْأَخْضَرُ
لَا يَسْتَتِمُّ الْمَجْدُ إِلَّا فَتًى يَصْبِرُ لِلْبَذْلِ كَمَا يَصْبِرُ
يَهْتَزُّ تَاجُ الْمُلْكِ مِنْ
فَوْقِهِ فَخْرًا وَيُزْهِي تَحْتَهُ الْمِنْبَرُ
أَشْبَهَهُ الْبَدْرُ إِذَا مَا بَدَا أَوْ غُرَّةٌ فِي وَجْهِهِ تُزْهِرُ
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَبَدْرُ الدُّجْى فِي وَجْهِهِ أَمْ وَجْهُهُ أَنْوَرُ
يَسْتَمْطِرُ الزُّوَّارُ مِنْكَ النَّدَى وَأَنْتَ بِالزُّوَّارِ تَسْتَبْشِرُ
وَكَتَبَتْ تَحْتَ أَبْيَاتِهَا حَاجَتَهَا، فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى
أَبِيهِ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِشِرَائِهَا،
فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَشْتَرِيهَا وَقَدْ قَالَ فِيهَا الشُّعَرَاءُ
فَأَكْثَرُوا، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهَا، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا أَبُو
نُوَاسٍ:
إِنَّ عِنَانَ النِّطَافَ جَارِيَةٌ أَصْبَحَ حِرُّهَا لِلنَّيْكِ مَيْدَانَا
لَا يَشْتَرِيهَا إِلَّا ابْنُ زَانِيَةٍ أَوْ قَلْطَبَانٌ يَكُونُ مَنْ كَانَا
وَعَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَشْرَسَ قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً مَعَ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى
بْنِ خَالِدٍ، فَانْتَبَهَ مِنْ مَنَامِهِ يَبْكِي مَذْعُورًا، فَقُلْتُ: مَا
شَأْنُكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُ شَيْخًا جَاءَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ هَذَا الْبَابِ
وَقَالَ:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ
بِمَكَّةَ سَامِرُ
قَالَ فَأَجَبْتُهُ:
بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا
فَأَبَادَنَا صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
قَالَ ثُمَامَةُ بْنُ أَشْرَسَ: فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الْمُقْبِلَةُ
قَتَلَهُ الرَّشِيدُ، وَنَصَبَ رَأَّسَهُ عَلَى الْجِسْرِ، ثُمَّ خَرَجَ
الرَّشِيدُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَتَأَمَّلَهُ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
تَقَاضَاكَ دَهْرُكَ مَا أَسْلَفَا وَكَدَّرَ عَيْشَكَ بَعْدَ الصَّفَا
فَلَا تَعْجَبَنَّ فَإِنَّ الزَّمَانَ رَهِينٌ بِتَفْرِيقِ مَا أَلَّفَا
قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى جَعْفَرٍ، وَقُلْتُ: أَمَا لَئِنْ أَصْبَحْتَ آيَةً،
فَلَقَدْ كُنْتُ فِي الْخَيْرِ غَايَةً. قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيَّ الرَّشِيدُ
كَأَنَّهُ جَمَلٌ صَئُولٌ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا يُعْجِبُ الْعَالَمَ مِنْ جَعْفَرٍ مَا عَايَنُوهُ فَبِنَا كَانَا
مَنْ جَعْفَرٌ أَوْ مَنْ أَبُوهُ وَمَنْ كَانَتْ بَنُو بَرْمَكٍ لَوْلَانَا
ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَ فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ.
وَقَدْ كَانَ مَقْتَلُ جَعْفَرٍ فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ
سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ عُمْرُهُ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ
سَنَةً، وَكَانَ لَهُمْ فِي الْوِزَارَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَقَدْ دَخَلَتْ عُبَادَةُ أُمُّ جَعْفَرٍ عَلَى أُنَاسٍ فِي يَوْمِ عِيدِ أَضْحَى
تَسْتَمْنِحُ مِنْهُمْ جِلْدَ شَاةٍ تَتَدَفَّأُ بِهِ، وَسَأَلُوهَا عَنْ
أَمْرِهِمْ: فَقَالَتْ: أَذْكُرُ أَصْبَحْتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ وَإِنَّ
عَلَى رَأْسِي أَرْبَعَمِائَةِ وَصِيفَةٍ، وَإِنِّي لَأَقُولُ: إِنَّ ابْنِي
جَعْفَرًا عَاقٌّ بِي.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ
أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُ الرَّشِيدِ جَعْفَرًا،
وَمَا أَحَلَّ بِالْبَرَامِكَةِ مِنَ النِّقْمَةِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ
وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ جَعْفَرًا كَانَ قَدْ كَفَانِي مَئُونَةَ الدُّنْيَا
فَاكْفِهِ مَئُونَةَ الْآخِرَةِ.
حِكَايَةٌ غَرِيبَةٌ
ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ
" أَنَّ الْمَأْمُونَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَأْتِي كُلَّ يَوْمٍ إِلَى
قُبُورِ الْبَرَامِكَةِ فَيَبْكِي عَلَيْهِمْ وَيَنْدُبُهُمْ، فَبَعَثَ مَنْ
جَاءَهُ بِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ، فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ! مَا يَحْمِلُكَ عَلَى صَنِيعِكَ هَذَا؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُمْ أَسْدَوْا إِلَى مَعْرُوفًا وَخَيْرًا كَثِيرًا، وَلِي
خَبَرٌ طَوِيلٌ. فَقَالَ: قُلْ. قَالَ: أَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ
أَهْلِ دِمَشْقَ، كُنْتُ فِي نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَزَالَتْ عَنِّي حَتَّى أَفْضَى
بِي الْحَالُ إِلَى أَنْ بِعْتُ دَارِي، وَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ فَأَشَارَ
بَعْضُ أَصْحَابِي عَلَيَّ بِقَصْدِ الْبَرَامِكَةِ فَأَتَيْتُ بَغْدَادَ وَمَعِي
نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ امْرَأَةً وَصَبِيًّا، فَأَنْزَلْتُهُنَّ فِي مَسْجِدٍ ثُمَّ
قَصَدْتُ مَسْجِدًا أَصْلِيُّ فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ جَمَاعَةٌ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ
مِنْهُمْ، فَجَلَسْتُ
إِلَيْهِمْ، فَجَعَلْتُ أُدِيرُ فِي نَفْسِي كَلَامًا أَطْلُبُ بِهِ مِنْهُمْ قُوتًا لِلْعِيَالِ، فَيَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ ذُلُّ السُّؤَالِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا بِخَادِمٍ قَدْ أَقْبَلَ فَاسْتَدْعَاهُمْ، فَقَامُوا كُلُّهُمْ وَقُمْتُ مَعَهُمْ، فَدَخَلُوا دَارًا عَظِيمَةً، فَإِذَا الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ فِيهَا، فَجَلَسُوا حَوْلَهُ، فَعَقَدَ عَقْدَ ابْنَتِهِ عَائِشَةَ عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَهُ، وَنَثَرُوا عَلَيْنَا سَحِيقَ الْمِسْكِ وَبَنَادِقَ الْعَنْبَرِ، ثُمَّ جَاءَتِ الْخَدَمُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ بِصِينِيَّةٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا أَلْفُ دِينَارٍ، وَمَعَهَا فُتَاتُ الْمِسْكِ، فَأَخَذَهَا الْقَوْمُ وَنَهَضُوا، وَبَقِيَتْ بَيْنَ يَدَيَّ الصِّينِيَّةُ الَّتِي وَضَعُوهَا لِي، وَأَنَا أَهَابُ أَنْ آخُذَهَا مِنْ عَظَمَتِهَا عِنْدِي، فَقَالَ لِي بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: أَلَّا تَأْخُذُهَا وَتَقُومُ ؟ فَمَدَدْتُ يَدِي، فَأَخَذْتُهَا فَأَفْرَغْتُ ذَهَبَهَا فِي جَيْبِي وَأَخَذْتُ الصِّينِيَّةَ تَحْتَ إِبِطِي وَقُمْتُ وَأَنَا خَائِفٌ أَنْ تُؤْخَذَ مِنِّي، فَجَعَلْتُ أَتَلَفَّتُ وَالْوَزِيرُ يَنْظُرُ إِلَيَّ وَأَنَا لَا أَشْعُرُ، فَلَمَّا بَلَغْتُ السِّتَارَةَ أَمَرَهُمْ فَرَدُّونِي، فَيَئِسْتُ مِنَ الْمَالِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ قَالَ لِي: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِي، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ لِأَوْلَادِهِ: خُذُوا هَذَا فَضَمُّوهُ إِلَيْكُمْ. فَجَاءَنِي خَادِمٌ، فَأَخَذَ مِنِّي الذَّهَبَ وَالصِّينِيَّةَ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ وَلَدٍ إِلَى وَلَدٍ وَخَاطِرِي كُلُّهُ عِنْدَ عِيَالِي، وَلَا يُمْكِنُنِي الِانْصِرَافُ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْعَشْرَةُ جَاءَنِي خَادِمٌ فَقَالَ: أَلَا تَذْهَبُ إِلَى أَهْلِكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ. فَقَامَ يَمْشِي أَمَامِي وَلَمْ يُعْطِنِي الذَّهَبَ، فَقُلْتُ: يَا لَيْتَ هَذَا كَانَ قَبْلَ هَذَا. فَسَارَ يَمْشِي أَمَامِي إِلَى دَارٍ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، فَإِذَا
عِيَالِي يَتَمَرَّغُونَ فِي الذَّهَبِ
وَالْحَرِيرِ فِيهَا، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ
آلَافِ دِينَارٍ، وَكِتَابٌ فِيهِ تَمْلِيكُ الدَّارِ بِمَا فِيهَا،
وَبِقَرْيَتَيْنِ جَلِيلَتَيْنِ لَهُمْ، فَكُنْتُ مَعَ الْبَرَامِكَةِ فِي
أَطْيَبِ عَيْشٍ، فَلَمَّا أُصِيبُوا أَخَذَ مِنِّي عَمْرُو بْنُ مَسْعَدَةَ
الْقَرْيَتَيْنِ، وَأَلْزَمَنِي بِخَرَاجِهِمَا، فَكُلَّمَا لَحِقَتْنِي فَاقَةٌ
قَصَدْتُ دَوْرَهُمْ وَقُبُورَهُمْ فَبَكَيْتُ عَلَيْهِمْ. فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ
بِرَدِّ الْقَرْيَتَيْنِ عَلَيْهِ وَخَرَاجِهِمَا. فَبَكَى الشَّيْخُ بُكَاءً
شَدِيدًا، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَلَمْ أَسْتَأْنِفْ بِكَ جَمِيلًا ؟ قَالَ:
بَلَى، وَلَكِنْ هُوَ مِنْ بَرَكَةِ الْبَرَامِكَةِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: امْضِ
مُصَاحَبًا فَإِنَّ الْوَفَاءَ مُبَارَكٌ، وَحُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ،
أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ، وَعَلَمُ
الزُّهَّادِ، وَوَاحِدُ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ، وُلِدَ بِخُرَاسَانَ
بِكَوْرَةِ أَبِيوَرْدَ، وَقَدِمَ الْكُوفَةَ وَهُوَ كَبِيرٌ، فَسَمِعَ
الْأَعْمَشَ، وَمَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ وَعَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ،
وَحُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ
فَتَعَبَّدَ بِهَا، وَكَانَ حَسَنَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، كَثِيرَ الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ، ثِقَةً مِنْ أَئِمَّةِ
الرِّوَايَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَلَهُ مَعَ الرَّشِيدِ قِصَّةُ
مَوْعِظَتِهِ لَهُ، وَقَدْ رُوِّينَا ذَلِكَ
مُطَوَّلًا فِي كَيْفِيَّةِ دُخُولِ
الرَّشِيدِ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ، وَعَرْضِ
الرَّشِيدِ عَلَيْهِ الْمَالَ، فَأَبَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ فِي هَذَا الْعَامِ، فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ شَاطِرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَكَانَ يَتَعَشَّقُ
جَارِيَةً، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا جِدَارًا إِذْ
سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [ الْحَدِيدِ: 61 ]. فَقَالَ: بَلَى يَا رَبِّ.
وَأَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَرَجَعَ إِلَى خَرِبَةٍ، فَبَاتَ بِهَا فَسَمِعَ
سِفَارًا يَقُولُونَ: إِنَّ فُضَيْلًا أَمَامَكُمْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ.
فَأَمَّنَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَوْبَتِهِ، حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ
مِنَ السِّيَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا يُقْتَدَى
بِهِ وَيُهْتَدَى بِكَلَامِهِ وَفِعَالِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ الْفُضَيْلُ:
لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا حَلَالٌ لَا أُحَاسَبُ بِهَا، لَكُنْتُ
أَتَقَذَّرُهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ أَحَدُكُمُ الْجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ
تُصِيبُ ثَوْبَهُ.
وَقَالَ: الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ
النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا.
وَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا: مَا
أَزْهَدَكَ! فَقَالَ: أَنْتَ أَزْهَدُ مِنِّي ; لِأَنِّي زَهِدْتُ فِي الدُّنْيَا
الْفَانِيَةِ، وَأَنْتَ زَهِدْتَ فِي الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً لَدَعَوْتُ بِهَا
لِإِمَامِ عَامَّةٍ ; فَإِنَّهُ إِذَا صَلَحَ أَمِنَتِ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ.
وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلِقِ حِمَارِي
وَخَادِمِي.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [
الْمُلْكِ: 2 ]. قَالَ: يَعْنِي أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ ;إِنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَصَوَابًا عَلَى مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ،
وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْعَمِّيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْأَمِيرُ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ الْقَاسِمِ ابْنِ الرَّشِيدِ فِي الصَّائِفَةِ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو شُعَيْبٍ الْبَرَاثِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ بَرَاثَا فِي كُوخٍ لَهُ يَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ الرُّؤَسَاءِ، فَانْخَلَعَتْ مِمَّا كَانَتْ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْحِشْمَةِ، وَتَزَوَّجَتْهُ وَأَقَامَتْ مَعَهُ يَتَعَبَّدَانِ فِي ذَلِكَ الْكُوخِ حَتَّى مَاتَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهَا جَوْهَرَةُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ جِبْرِيلَ الصَّائِفَةَ، فَدَخَلَ بِلَادَ
الرُّومِ مِنْ دَرْبِ الصَّفْصَافِ، فَخَرَجَ النَّقْفُورُ لِلِقَائِةِ، فَجُرِحَ
النَّقْفُورُ ثَلَاثَ جِرَاحَاتٍ، وَانْهَزَمَ وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَكْثَرُ
مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَغَنِمُوا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دَابَّةٍ.
وَفِيهَا رَابَطَ الْقَاسِمُ ابْنُ الرَّشِيدِ بِمَرْجِ دَابِقٍ. وَفِيهَا حَجَّ
بِالنَّاسِ الرَّشِيدُ، وَكَانَتْ آخِرَ حَجَّاتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ حِينَ رَأَى الرَّشِيدَ مُنْصَرِفًا مِنَ
الْحَجِّ، وَقَدِ اجْتَازَ بِالْكُوفَةِ: لَا يَحُجُّ الرَّشِيدُ بَعْدَهَا، وَلَا
يَحُجُّ بَعْدَهُ خَلِيفَةٌ أَبَدًا.
وَقَدْ لَقِيَهُ بُهْلُولٌ الْمُوَلَّهُ الْعَاقِلُ فَوَعَظَهُ مَوْعِظَةً
حَسَنَةً، فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ الْحَاجِبِ قَالَ:
حَجَجْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فَمَرَرْنَا بِالْكُوفَةِ، فَإِذَا بُهْلُولٌ
الْمَجْنُونُ يَهْذِي، فَقُلْتُ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَقْبَلَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ. فَسَكَتَ، فَلَمَّا حَاذَاهُ الْهَوْدَجُ قَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، حَدَّثَنِي أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، ثَنَا قُدَامَةُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ قَالَ:
رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى عَلَى جَمَلٍ
وَتَحْتَهٌ رَحْلٌ رَثٌّ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ طَرْدٌ وَلَا ضَرْبٌ وَلَا إِلَيْكَ
إِلَيْكَ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ.
فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُهُ، قُلْ يَا بُهْلُولُ. فَقَالَ:
فَهَبْ أَنْ قَدْ مَلَكْتَ الْأَرْضَ طُرًّا وَدَانَ لَكَ الْعِبَادُ فَكَانَ
مَاذَا أَلَيْسَ غَدًا مُصِيرُكَ جَوْفَ قَبْرِ
وَيَحْثُو عَلَيْكَ التُّرْبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا
قَالَ: أَجَدْتَ يَا بُهْلُولُ، أَفَغَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ جَمَالًا وَمَالًا ; فَعَفَّ فِي
جَمَالِهِ، وَوَاسَى فِي مَالِهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْأَبْرَارِ. قَالَ:
فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِقَضَاءِ دَيْنِكَ.
قَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَقْضِ دَيْنًا بِدَيْنٍ،
ارْدُدِ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ، وَاقْضِ دَيْنَ نَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ. قَالَ:
إِنَّا أَمَرْنَا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ رِزْقٌ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيكَ وَيَنْسَانِي، وَلَا حَاجَةَ لِي فِي
جِرَايَتِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَسْمَاءَ بْنِ
خَارِجَةَ
، إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ فِي الْمَغَازِي وَغَيْرِ ذَلِكَ، أَخَذَ عَنِ
الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقِيلَ: قَبْلَهَا.
وَإِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ، النَّدِيمُ،
وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَاهَانَ بْنِ بَهْمَنَ بْنِ نُسْكَ أَبُو إِسْحَاقَ،
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُغَنِّينَ وَالنُّدَمَاءِ، أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ
وَوَلَاؤُهُ لِلْحَنْظَلِيِّينَ، وُلِدَ بِالْكُوفَةِ، وَصَحِبَ شَبَابَهَا
وَأَخَذَ عَنْهُمُ الْغِنَاءَ، فَأَجَادَ فِي عِلْمِهِ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى
الْمَوْصِلِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَالُوا لَهُ: الْمَوْصِلِيُّ.
وَقَدِ اتَّصَلَ بِالْخُلَفَاءِ ; أَوَّلُهُمُ الْمَهْدِيُّ، وَحَظِيَ عِنْدَ
الرَّشِيدِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ سُمَّارِهِ وَنُدَمَائِهِ وَمُغَنِّيهِ، وَقَدْ
أَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ تَرَكَ
أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَكَانَتْ لَهُ طُرَفٌ
وَحِكَايَاتٌ غَرِيبَةٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ
فِي الْكُوفَةِ، وَنَشَأَ فِي كَفَالَةِ بَنِي تَمِيمٍ، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ
وَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا فِي صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ،
وَكَانَ مُزَوَّجًا بِأُخْتِ مَنْصُورٍ الْمُلَقَّبِ بِزَلْزَلٍ الَّذِي كَانَ
يَضْرِبُ مَعَهُ، فَإِذَا غَنَّى هَذَا وَضَرَبَ هَذَا اهْتَزَّ الْمَجْلِسُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَحَكَى ابْنُ
خِلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " قَوْلًا أَنَّهُ تُوُفِّيَ هُوَ
وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ وَأَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ النَّحْوِيُّ بِبَغْدَادَ
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ
سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ. وَصَحَّحَ الْأَوَّلَ.
وَمِنْ أَشْعَارِهِ عِنْدَ احْتِضَارِهِ قَوْلُهُ:
مَلَّ وَاللَّهِ طَبِيبِي مِنْ مُقَاسَاةِ الَّذِي بِي سَوْفَ أُنْعَى عَنْ
قَرِيبٍ لَعَدُوٍّ وَحَبِيبِ
وَفِيهَا مَاتَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَرِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ،
وَعَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَعُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، وَعُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ
الْعَابِدُ أَحَدُ مَشَايِخِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ فِي
قَوْلٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الرَّشِيدُ مِنَ الْحَجِّ، وَسَارَ إِلَى الرَّيِّ، فَوَلَّى وَعَزَلَ
وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَرَدَّ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى إِلَى وِلَايَةِ خُرَاسَانَ،
وَجَاءَهُ نُوَّابُ تِلْكَ الْبُلْدَانِ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ مِنْ سَائِرِ
الْأَشْكَالِ وَالْأَلْوَانِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَدْرَكَهُ عِيدُ
الْأَضْحَى بِقَصْرِ اللُّصُوصِ، فَضَحَّى عِنْدَهُ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ لِثَلَاثٍ
بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْجِسْرِ أَمَرَ بِجُثَّةِ
جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ، فَأُحْرِقَتْ، وَكَانَتْ مَصْلُوبَةً
مُنْذُ قَتَلَهُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ الرَّشِيدُ مِنْ
بَغْدَادَ إِلَى الرَّقَّةِ وَهُوَ مُتَأَسِّفٌ عَلَى بَغْدَادَ وَطِيبِهَا،
وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِمُقَامِهِ بِالرَّقَّةِ رَدْعُ الْمُفْسِدِينَ بِهَا،
وَقَدْ قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ فِي سُرْعَةِ خُرُوجِهِمْ مِنْ
بَغْدَادَ مَعَ الرَّشِيدِ:
مَا أَنَخْنَا حَتَّى ارْتَحَلْنَا فَمَا نُ فَرِّقُ بَيْنَ الْمُنَاخِ
وَالْإِرْتِحَالِ سَاءَلُونَا عَنْ حَالِنَا إِذْ قَدِمْنَا
فَقَرَنَّا وَدَاعَهُمْ بِالسُّؤَالِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَادَى الرَّشِيدُ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ
كَانُوا بِبِلَادِ الرُّومِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِهَا أَسِيرٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ الْأَلِبَّاءِ:
وَفُكَّتْ بِكَ الْأَسْرَى الَّتِي شُيِّدَتْ لَهَا مَحَابِسُ مَا فِيهَا حَمِيمٌ
يَزُورُهَا
عَلَى حِينِ أَعْيَا الْمُسْلِمِينَ فِكَاكُهَا وَقَالُوا سُجُونُ الْمُشْرِكِينَ
قُبُورُهَا
وَفِيهَا رَابَطَ الْقَاسِمُ ابْنُ
هَارُونَ الرَّشِيدِ بِمَرْجِ دَابِقٍ مُحَاصِرًا الرُّومَ. وَفِيهَا حَجَّ
بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَسَدِيُّ مَوْلَاهُمُ، الْكُوفِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْكِسَائِيِّ ; لِإِحْرَامِهِ فِي كِسَاءٍ، وَقِيلَ:
لِاشْتِغَالِهِ عَلَى حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ فِي كِسَاءٍ. النَّحْوِيُّ
اللُّغَوِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ، أَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ، ثُمَّ
اسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ، فَأَدَّبَ الرَّشِيدَ وَوَلَدَهُ الْأَمِينَ، وَقَدْ
قَرَأَ عَلَى حَمْزَةَ بْنِ حَبِيبٍ الزَّيَّاتِ قِرَاءَتَهُ، وَكَانَ يُقْرِئُ
بِهَا، ثُمَّ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قِرَاءَةً، فَكَانَ يَقْرَأُ بِهَا.
رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحَّرَ فِي النَّحْوِ فَهُوَ
عِيَالٌ عَلَى الْكِسَائِيِّ.
وَقَدْ كَانَ الْكِسَائِيُّ أَخَذَ
عَنِ الْخَلِيلِ صِنَاعَةَ النَّحْوِ، فَسَأَلَهُ يَوْمًا: عَمَّنْ أَخَذْتَ
هَذَا؟ قَالَ: مِنْ بَوَادِي الْحِجَازِ. فَرَحَلَ الْكِسَائِيُّ إِلَى هُنَاكَ،
فَكَتَبَ عَنِ الْعَرَبِ شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ عَادَ - وَمِنْ هِمَّتِهِ
الْعَوْدُ - إِلَى الْخَلِيلِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، وَتَصَدَّرَ فِي
مَوْضِعِهِ يُونُسُ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاظَرَاتٌ أَقَرَّ لَهُ فِيهَا
يُونُسُ وَأَجْلَسَهُ فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: صَلَّيْتُ يَوْمًا بِالرَّشِيدِ، فَأَعْجَبَتْنِي
قِرَاءَتِي، فَغَلِطْتُ غَلْطَةً مَا غَلِطَهَا صَبِيٌّ، أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ:
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ الْأَعْرَافِ: 168 ]. فَقُلْتُ: لَعَلَّهُمْ
يَرجِعِينَ. فَمَا تَجَاسَرَ الرَّشِيدُ أَنْ يَرُدَّهَا، لَكِنْ لَمَّا سَلَّمْتُ
قَالَ: أَيُّ لُغَةٍ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ الْجَوَادَ قَدْ يَعْثُرُ. فَقَالَ:
أَمَّا هَذَا فَنَعَمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقِيتُ الْكِسَائِيَّ فَإِذَا هُوَ مَهْمُومٌ، فَقُلْتُ: مَا
لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ خَالِدٍ قَدْ وَجَّهَ إِلَيَّ يَسْأَلُنِي عَنْ
أَشْيَاءَ، فَأَخْشَى مِنَ الْخَطَأِ. فَقُلْتُ لَهُ: قُلْ مَا شِئْتَ فَأَنْتَ
الْكِسَائِيُّ. فَقَالَ: قَطْعُهُ اللَّهُ - يَعْنِي لِسَانَهُ - إِنْ قُلْتُ مَا
لَمْ أَعْلَمْ.
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قُلْتُ يَوْمًا لِنَجَّارٍ: بِكَمْ هَذَانَ الْبَابَانِ؟
فَقَالَ: بَسَلْحَتَانِ يَا مَصْفَعَانِ.
تُوُفِّيَ الْكِسَائِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، عَنْ سَبْعِينَ
سَنَةً. وَكَانَ فِي
صُحْبَةِ الرَّشِيدِ بِبِلَادِ الرَّيِّ،
فَمَاتَ بِنَوَاحِيهَا هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَيْضًا فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ، فَكَانَ الرَّشِيدُ يَقُولُ: دَفَنْتُ الْفِقْهَ وَالْعَرَبِيَّةَ
بِالرَّيِّ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقِيلَ: إِنَّ الْكِسَائِيَّ تُوُفِّيَ
بِطُوسَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمُ الْكِسَائِيَّ فِي الْمَنَامِ وَوَجْهُهُ كَالْبَدْرِ،
فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ رَبُّكَ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِالْقُرْآنِ.
فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ حَمْزَةُ ؟ قَالَ: ذَاكَ فِي عِلِّيِّينَ، مَا نَرَاهُ
إِلَّا كَمَا نَرَى الْكَوْكَبَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ فَرْقَدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ
مَوْلَاهُمْ، صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
دِمَشْقَ، قَدِمَ أَبُوهُ الْعِرَاقَ، فَوُلِدَ بِوَاسِطَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَنَشَأَ بِالْكُوفَةِ، فَسَمِعَ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمِسْعَرٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، وَمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ،
وَكَتَبَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَسَكَنَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَتَبَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ حِينَ قَدِمَهَا فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَقْرَ بَعِيرٍ، وَوَلَّاهُ الرَّشِيدُ
قَضَاءَ الرَّقَّةِ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَخَرَجَ مَعَ الرَّشِيدِ إِلَى الرَّيِّ
فَمَاتَ بِهَا.
وَكَانَ يَقُولُ لِأَهْلِهِ: لَا
تَسْأَلُونِي حَاجَةً مِنْ حَاجَاتِ الدُّنْيَا فَتَشْغَلُوا قَلْبِي، وَخُذُوا
مَا شِئْتُمْ مِنْ وَكِيلِي، فَإِنَّهُ أَقَلُّ لِهَمِّي وَأَفْرَغُ لِقَلْبِي.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا رَأَيْتُ حَبْرًا سَمِينًا مِثْلَهُ، وَلَا رَأَيْتُ
أَخَفَّ رُوحًا مِنْهُ، وَلَا أَفْصَحَ مِنْهُ، كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ
كَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، كَانَ
يَمْلَأُ الْعَيْنَ وَالْقَلْبَ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: كَانَ الشَّافِعِيُّ قَدْ طَلَبَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ كِتَابَ السِّيَرِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى الْإِعَارَةِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ:
قُلْ لِلَّذِي لَمْ تَرَ عَيْ نَا مَنْ رَآهُ مِثْلَهُ حَتَّى كَأَنَّ مَنْ رَآهُ
قَدْ رَأَى مَنْ قَبْلَهْ الْعِلْمُ يَنْهَى أَهْلَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ أَهْلَهْ
لَعَلَّهُ يَبْذُلُهُ لِأَهْلِهِ لَعَلَّهْ
قَالَ: فَوَجَّهَ بِهِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ هَدِيَّةً لَا عَارِيَّةً.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ هَذِهِ
الْمَسَائِلُ
الدِّقَاقُ مِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ؟
قَالَ: مِنْ كُتُبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
وَكَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْكِسَائِيِّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: دَفَنْتُ الْيَوْمَ اللُّغَةَ
وَالْفِقْهَ جَمِيعًا. وَكَانَ عُمْرُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ثَمَانِيًا
وَخَمْسِينَ سَنَةً.
سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ
فِيهَا خَلَعَ رَافِعُ بْنُ لَيْثِ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ نَائِبُ
سَمَرْقَنْدَ الطَّاعَةَ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَتَابَعَهُ أَهْلُ بَلَدِهِ
وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، فَسَارَ
إِلَيْهِ نَائِبُ خُرَاسَانَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى، فَهَزَمَهُ رَافِعٌ وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ بِهِ.
وَفِيهَا سَارَ هَارُونُ الرَّشِيدُ لِغَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ لِعَشْرٍ بَقِينَ
مِنْ رَجَبٍ، وَقَدْ لَبِسَ عَلَى رَأْسِهِ قَلَنْسُوَةً، فَقَالَ فِيهَا أَبُو
الْمُعَلَّى الْكِلَابِيُّ:
فَمَنْ يَطْلُبْ لِقَاءَكَ أَوْ يُرِدْهُ فَبِالْحَرَمَيْنِ أَوْ أَقْصَى
الثُّغُورِ فَفِي أَرْضِ الْعُدُوِّ عَلَى طِمِرٍّ
وَفِي أَرْضِ التَّرَفُّهِ فَوْقَ كُورِ
ثُمَّ وَصَلَ إِلَى الطُّوَانَةِ، فَعَسْكَرَ بِهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ نَقْفُورُ
بِالطَّاعَةِ، وَحَمَلَ الْخَرَاجَ وَالْجِزْيَةَ حَتَّى عَنْ رَأْسِهِ وَرَأْسِ
وَلَدِهِ، وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ - فِي كُلِّ سَنَةٍ - خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَبَعَثَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّشِيدِ جَارِيَةً قَدْ أَسَرُوهَا، كَانَتِ ابْنَةَ
مَلِكِ هِرَقْلَةَ، وَكَانَ قَدْ خَطَبَهَا عَلَى وَلَدِهِ، فَبَعَثَ بِهَا
الرَّشِيدُ مَعَ هَدَايَا وَتُحَفٍ، وَطِيبٍ بَعَثَ بِطَلَبِهِ، وَاشْتَرَطَ
عَلَيْهِ الرَّشِيدُ أَنْ يَحْمِلَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَنْ لَا يُعَمِّرَ هِرَقْلَةَ. ثُمَّ انْصَرَفَ الرَّشِيدُ رَاجِعًا،
وَاسْتَنَابَ عَلَى الْغَزْوِ عَقَبَةَ بْنَ جَعْفَرٍ.
وَنَقَضَ أَهْلُ قُبْرُسَ الْعَهْدَ،
فَغَزَاهُمْ مَعْيُوفُ بْنُ يَحْيَى، فَسَبَى أَهْلَهَا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الرَّشِيدُ مَنْ قَتَلَهُ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِيسَى بْنُ
مُوسَى الْهَادِي.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ
أَسَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، أَبُو الْمُنْذِرِ الْبَجَلِيُّ الْكُوفِيُّ،
صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَمَ بِبَغْدَادَ وَبِوَاسِطَ، فَلَمَّا أَنْكَرَ
بَصَرَهُ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا. وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ عَلِيٌّ
ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالْبُخَارِيُّ.
سَعْدُونُ الْمَجْنُونُ، صَامَ سِتِّينَ سَنَةً، فَخَفَّ دِمَاغُهُ، فَسَمَّاهُ
النَّاسُ الْمَجْنُونَ. وَقَفَ يَوْمًا عَلَى حَلْقَةِ ذِي النُّونِ الْمِصْرِيِّ
فَسَمِعَ كَلَامَهُ، فَصَرَخَ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَا خَيْرَ فِي شَكْوَى إِلَى غَيْرِ مُشْتَكَى وَلَا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِذَا
لَمْ يَكُنْ صَبْرُ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ رَأْسِ شَيْخٍ
سَكْرَانَ يَذُبُّ عَنْهُ، فَقُلْتُ: مَا لِي أَرَاكَ عِنْدَ رَأْسِ هَذَا
الشَّيْخِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ. فَقُلْتُ:
أَنْتَ الْمَجْنُونُ أَوْ هُوَ؟ قَالَ:
لَا، بَلْ هُوَ، لِأَنِّي صَلَّيْتُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمَاعَةً، وَهُوَ لَمْ
يُصَلِّ جَمَاعَةً وَلَا فُرَادَى. قُلْتُ: فَهَلْ قُلْتَ فِي هَذَا شَيْئًا؟
قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
تَرَكْتُ النَّبِيذَ لِأَهْلِ النَّبِيذِ وَأَصْبَحْتُ أَشْرَبُ مَاءَ قَرَاحًا
لِأَنَّ النَّبِيذَ يُذِلُّ الْعَزِيزَ وَيَكْسُو بِذَاكَ الْوُجُوهَ الصِّبَاحَا
فَإِنْ كَانَ ذَا جَائِزًا لِلشَّبَابِ فَمَا الْعُذْرُ مِنْهُ إِذَا الشَّيْبُ
لَاحَا
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَقُلْتُ لَهُ: صَدَقْتَ. وَانْصَرَفْتُ.
عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ صُهَيْبٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّيْمِيُّ
الْكُوفِيُّ، مُؤَدِّبُ الْأَمِينِ، رَوَى عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ
يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَزِيرُ، وَالِدُ جَعْفَرٍ
الْبَرْمَكِيُّ، ضَمَّ إِلَيْهِ الْمَهْدِيُّ وَلَدَهُ الرَّشِيدَ، فَرَبَّاهُ
وَأَرْضَعَتْهُ امْرَأَتُهُ مَعَ الْفَضْلِ بْنِ يَحْيَى، فَلَمَّا وَلِيَ
الرَّشِيدُ عَرَفَ لَهُ حَقَّهُ، وَكَانَ يَقُولُ: قَالَ أَبِي. وَفَوَّضَ
إِلَيْهِ أُمُورَ الْخِلَافَةِ وَأَزِمَّتَهَا، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى
نُكِبَتِ الْبَرَامِكَةُ، فَقَتَلَ جَعْفَرًا، وَخَلَّدَ أَبَاهُ فِي الْحَبْسِ
حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَ كَرِيمًا فَصِيحًا، ذَا رَأْيٍ
سَدِيدٍ،
وَيَظْهَرُ مِنْ أُمُورِهِ خَيْرٌ
وَصَلَاحٌ.
قَالَ يَوْمًا لِوَلَدِهِ: خُذُوا مَنْ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفًا، فَإِنَّ مَنْ جَهِلَ
شَيْئًا عَادَاهُ.
وَقَالَ لِأَوْلَادِهِ: اكْتُبُوا أَحْسَنَ مَا تَسْمَعُونَ، وَاحْفَظُوا أَحْسَنَ
مَا تَكْتُبُونَ، وَتُحَدَّثُوا بِأَحْسَنِ مَا تَحْفَظُونَ.
وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا فَأَنْفِقُوا مِنْهَا
فَإِنَّهَا لَا تَفْنَى، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَأَنْفِقُوا مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا
تَبْقَى.
وَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ سَائِلٌ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ رَاكِبٌ أَقَلُّ مَا
يَأْمُرُ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَوْمًا:
:
يَا سَمِيَّ الْحَصُورِ يَحْيَى أُتِيحَتْ لَكَ مِنْ فَضْلِ رَبِّنَا جَنَّتَانِ
كُلُّ مَنْ مَرَّ فِي الطَّرِيقِ عَلَيْكُمْ
فَلَهُ مِنْ نَوَالِكُمْ مِائَتَانِ مِائَتَا دِرْهَمٍ لِمِثْلِي قَلِيلٌ
هِيَ مِنْكُمْ لِلْقَابِسِ الْعَجْلَانِ
فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَأَمَرَ أَنْ يُسْبَقَ بِهِ إِلَى الدَّارِ، فَلَمَّا رَجَعَ
سَأَلَ عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ تَزَوَّجَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى
أَهْلِهِ، فَأَعْطَاهُ صَدَاقَهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَثَمَنَ دَارٍ أَرْبَعَةَ
آلَافٍ، وَثَمَنَ الْأَمْتِعَةِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَثَمَنَ الدُّخُولِ
أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ يَسْتَظْهِرُ بِهَا.
وَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا يَسْأَلُهُ
شَيْئًا، فَقَالَ: وَيْحَكْ! لَقَدْ جِئْتَنِي فِي وَقْتٍ لَا أَمْلِكُ فِيهِ
مَالًا، وَلَكِنْ قَدْ بَعَثَ إِلَيَّ صَاحِبٌ لِي يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ يُهْدِيَ
إِلَيَّ مَا أُحِبُّ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَبِيعَ جَارِيَةً
لَكَ، وَأَنَّكَ قَدْ أُعْطِيتَ فِيهَا ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَإِنِّي
سَأَطْلُبُهَا مِنْهُ، فَلَا تَبِعْهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَلَمَّا جَائَنِي يُسَاوِمُنِي فِيهَا أَلْحَحْتُ أَنْ لَا أَبِيعَهَا
بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبَلَغَ ثَمَنُهَا عِشْرِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَلَمَّا سَمِعْتُهَا ضَعُفُ قَلْبِي وَأَجَبْتُ إِلَى بَيْعِهَا،
فَلَمَّا اجْتَمَعْتُ بِيَحْيَى، قَالَ: بِكُمْ بِعْتَهَا؟ قُلْتُ: بِعِشْرِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ. قَالَ: إِنَّكَ لَخَسِيسٌ، خُذْ جَارِيَتَكَ إِلَيْكَ، وَقَدْ
بَعَثَ إِلَيَّ نَائِبُ فَارِسَ يَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَسْتَهْدِيَهُ شَيْئًا،
وَإِنِّي سَأَطْلُبُهَا مِنْهُ، فَلَا تَبِعْهَا بِأَقَلِّ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَجَاءُونِي فَوَصَلُوا إِلَى ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبِعْتُهَا.
فَلَمَّا جِئْتُهُ لَامَنِي أَيْضًا، وَرَدَّهَا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: أُشْهِدُكَ
أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُهَا.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّ الرَّشِيدَ طَلَبَ مِنْ مَنْصُورِ بْنِ زِيَادٍ
عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا سِوَى أَلْفِ
أَلْفٍ، فَضَاقَ ذَرْعًا، وَقَدْ تَوَعَّدَهُ إِنْ لَمْ يَحْمِلْهَا فِي يَوْمِهِ
ذَلِكَ وَإِلَّا قَتَلَهُ، فَدَخَلَ عَلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَذَكَرَ لَهُ
أَمْرَهُ، فَأَطْلَقَ لَهُ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَاسْتَطْلَقَ لَهُ مِنَ
ابْنِهِ الْفَضْلِ أَلْفَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ لِابْنِهِ:
يَا بُنَيَّ، بَلَغَنِي أَنَّكَ
تُرِيدُ أَنْ تَشْتَرِيَ بِهَا ضَيْعَةً، وَهَذِهِ ضَيْعَةٌ تُغِلُّ الشُّكْرَ
وَتَبْقَى مَدَى الدَّهْرِ. وَأَخَذَ لَهُ مِنَ ابْنِهِ جَعْفَرٍ أَلْفَ أَلْفٍ،
وَأَخَذَ لَهُ مَنْ جَارَيْتِهِ دَنَانِيرَ عُقْدًا مُشَتَرَاهُ مِائَةُ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلْمُتَرَسِّمِ عَلَيْهِ: قَدْ
حَسَبْنَاهُ عَلَيْكَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ. فَلَمَّا عُرِضَتِ الْأَمْوَالُ عَلَى
الرَّشِيدِ رَدَّ الْعُقْدِ، وَكَانَ قَدْ وَهَبَهُ لِجَارِيَةِ يَحْيَى، فَلْمْ
يَعُدْ فِيهِ بَعْدَ أَنْ وَهَبَهُ لَهَا.
وَقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ بَنِيهِ وَهُمْ فِي السِّجْنِ وَالْقُيُودِ: يَا أَبَتِ،
بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنِّعْمَةِ صِرْنَا إِلَى هَذَا الْحَالِ.
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ وَنَحْنُ عَنْهَا
غَافِلُونَ، وَلَمْ يَغْفُلِ اللَّهُ عَنْهَا. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
رُبَّ قَوْمٍ قَدْ غَدَوْا فِي نِعْمَةٍ زَمَنًا وَالدَّهْرُ رَيَّانُ غَدَقْ
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ ثُمَّ أَبْكَاهُمْ دَمًا حِينَ نَطَقْ
وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ يُجْرِي عَلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلَّ
شَهْرٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ سُفْيَانُ يَدْعُو لَهُ فِي سُجُودِهِ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ كَفَانِي أَمْرَ دُنْيَايَ فَاكْفِهِ أَمْرَ آخِرَتِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ يَحْيَى رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي بِدُعَاءِ سُفْيَانَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، فِي الْحَبْسِ بِالرَّافِقَةِ
لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعِينَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْفَضْلُ، وَدُفِنَ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ.
وَقَدْ وُجِدَ فِي جَيْبِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا بِخَطِّهِ: قَدْ تَقَدَّمَ
الْخَصْمُ وَالْمُدَّعَى
عَلَيْهِ بِالْأَثَرِ، وَالْحَاكِمُ
الْحَكَمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.
فَحُمِلَتْ إِلَى الرَّشِيدِ، فَلَمَّا قَرَأَهَا مَا زَالَ يَبْكِي يَوْمَهُ
ذَلِكَ، وَبَقِيَ أَيَّامًا يُتَبَيَّنُ الْأَسَى فِي وَجْهِهِ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ هَذَا:
سَأَلْتُ النَّدَا هَلْ أَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ لَا وَلَكِنَّنِي عَبْدٌ لِيَحْيَى
بْنِ خَالِدِ
فَقُلْتُ شِرَاءً؟ قَالَ لَا بَلْ وِرَاثَةً تَوَارَثَنِي عَنْ وَالِدٍ بَعْدَ
وَالِدِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: ثَرْوَانُ بْنُ سَيْفٍ
وَجَعَلَ يَتَنَقَّلُ فِيهَا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ
الرَّشِيدُ طَوْقَ بْنَ مَالِكٍ فَهَزَمَهُ، وَجُرِحَ ثَرْوَانُ وَقُتِلَ عَامَّةُ
أَصْحَابِهِ، وَكُتِبَ بِالْفَتْحِ إِلَى الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا خَرَجَ بِالشَّامِ أَبُو النِّدَاءِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الرَّشِيدُ
يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا وَقَعَ الثَّلْجُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا غَزَا بِلَادَ الرُّومِ يَزِيدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْهُبَيْرِيُّ فِي
عَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ الْمَضِيقَ فَقَتَلُوهُ فِي
خَمْسِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ طَرَسُوسَ فَانْهَزَمَ
الْبَاقُونَ، وَوَلَّى الرَّشِيدُ غَزْوَ الصَّائِفَةِ لِهَرْثَمَةَ بْنِ
أَعْيَنَ، وَضَمَّ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فِيهِمْ مَسْرُورٌ الْخَادِمُ،
وَإِلَيْهِ النَّفَقَاتُ.
وَخَرَجَ الرَّشِيدُ إِلَى الْحَدَثِ
لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُمْ، وَأَمَرَ الرَّشِيدُ بِهَدْمِ الْكَنَائِسِ
بِالثُّغُورِ، وَأَلْزَمَ أَهْلَ الذِّمَّةِ بِتَمْيِيزِ لِبَاسِهِمْ
وَهَيْئَاتِهِمْ فِي بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الرَّشِيدُ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ
وَوَلَّاهَا هَرْثَمَةَ بْنَ أَعْيَنَ
وَفِيهَا فَتَحَ الرَّشِيدُ هِرَقْلَةَ فِي شَوَّالٍ، وَخَرَّبَهَا وَسَبَى
أَهْلَهَا، وَبَثَّ الْجُيُوشَ وَالسَّرَايَا بِأَرْضِ الرُّومِ، وَخَرَجَتِ
الرُّومُ إِلَى عَيْنِ زَرْبَى، وَالْكَنِيسَةِ السَّوْدَاءِ. وَكَانَ خَرَاجُ
هِرَقْلَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفَ
مَرْفُوقٍ. وَوَلَّى حُمَيْدَ بْنَ مَعْيُوفٍ سَوَاحِلَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ،
وَدَخَلَ جَزِيرَةَ قُبْرُصَ، فَسَبَى أَهْلَهَا وَحَمَلَهُمْ حَتَّى بَاعَهُمْ
بِالرَّافِقَةِ، فَبَلَغَ ثَمَنُ الْأُسْقُفِّ أَلْفَيْ دِينَارٍ، بَاعَهُمْ أَبُو
الْبَخْتَرِيِّ الْقَاضِي
وَفِيهَا أَسْلَمَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى يَدَيِ الْمَأْمُونِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ،
وَكَانَ وَالِيَ مَكَّةَ
وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ بَعْدَ هَذِهِ
السَّنَةِ صَائِفَةٌ إِلَى سَنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَبْرَشُ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ.
الْفَقِيهُ الرَّاوِي عَنْ مَالِكٍ؛ الَّذِي هُوَ الْعُمْدَةُ فِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ
الصَّالِحِينَ.
وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ.
قَدِمَ عَلَى الرَّشِيدِ فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ؛ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ
أَلْفًا، فَلَمْ يَقْبَلْهُ. وَالْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ. وَمُحَمَّدُ
بْنُ سَلَمَةَ. وَمَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمِصِّيصِيُّ أَحَدُ
الزُّهَّادِ الثِّقَاتِ، قَالَ: لَمْ أَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةٍ أَحْتَاجُ إِلَى الِاعْتِذَارِ مِنْهَا مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَمُعَمَّرٌ الرَّقِّيُّ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ إِلَى خُرَاسَانَ نَائِبًا عَلَيْهَا،
وَقَبَضَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَأَخَذَ أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ،
وَأَرْكَبَهُ عَلَى رَاحِلَةٍ، وَنَادَى عَلَيْهِ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ وَكَتَبَ
إِلَى الرَّشِيدِ بِذَلِكَ، فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ سَيَّرَهُ إِلَى
الرَّشِيدِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحُبِسَ بِدَارِهِ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَلَّى الرَّشِيدُ ثَابِتَ بْنَ نَصْرِ بْنِ مَالِكٍ نِيَابَةَ
الثُّغُورِ فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، وَفَتَحَ مَطْمُورَةَ.
وَفِيهَا كَانَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ عَلَى يَدَيْ ثَابِتِ
بْنِ نَصْرٍ.
وَفِيهَا خَرَجَتْ الْخُرَّمِيَّةُ بِالْجَبَلِ وَبِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ
فَوَجَّهَ الرَّشِيدُ إِلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ
الْخُزَاعِيَّ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَأَسَرَ وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ، وَقَدِمَ بِهِمْ بَغْدَادَ فَأَمَرَ الرَّشِيدُ
بِقَتْلِ الرِّجَالِ مِنْهُمْ، وَبِالذُّرِّيَّةِ فَبِيعُوا بِهَا، وَكَانَ قَدْ
غَزَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا قَدِمَ الرَّشِيدُ مِنَ الرَّقَّةِ إِلَى
بَغْدَادَ فِي السُّفُنِ، وَقَدْ
اسْتَخْلَفَ عَلَى الرَّقَّةِ ابْنَهُ
الْقَاسِمَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَمِنْ نِيَّةِ الرَّشِيدِ
الذَّهَابُ إِلَى خُرَاسَانَ لِغَزْوِ رَافِعِ بْنِ لَيْثٍ؛ الَّذِي كَانَ قَدْ
خَلَعَ الطَّاعَةَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ سَمَرْقَنْدَ
وَغَيْرِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الرَّشِيدُ فِي شَعْبَانَ قَاصِدًا خُرَاسَانَ
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَسَأَلَ
الْمَأْمُونُ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ خَوْفًا مِنْ غَدْرِ أَخِيهِ
الْأَمِينِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَسَارَ مَعَهُ وَقَدْ شَكَا الرَّشِيدُ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ إِلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِ جَفَاءَ بَنِيهِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ
جَعَلَهُمْ وُلَاةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَرَاهُ دَاءً فِي جَسَدِهِ،
وَقَالَ: إِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ
عِنْدِي عَيْنًا عَلَيَّ، وَهُمْ يَعُدُّونَ أَنْفَاسِي، وَيَتَمَنَّوْنَ
انْقِضَاءَ أَيَّامِي وَذَلِكَ شَرٌّ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. فَدَعَا
لَهُ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، ثُمَّ أَمَرَهُ الرَّشِيدُ بِالِانْصِرَافِ إِلَى
عَمَلِهِ وَوَدَّعَهُ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ.
وَفِيهَا تَحَرَّكَ ثَرْوَانُ الْحَرُورِيُّ، وَقَتَلَ عَامِلَ السُّلْطَانِ
بِطَفِّ الْبَصْرَةِ. وَفِيهَا قَتَلَ الرَّشِيدُ الْهَيْصَمَ الْيَمَانِيَّ.
وَمَاتَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ وَهُوَ يُرِيدُ اللَّحَاقَ بِالرَّشِيدِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَامِعِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ
أَبُو الْقَاسِمِ، أَحَدُ
الْمَشَاهِيرِ بِالْغِنَاءِ، وَمِمَّنْ يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِيهِ، فَيُقَالُ:
غِنَاءُ بْنُ جَامِعٍ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ثُمَّ صَارَ
إِلَى صِنَاعَةِ الْغِنَاءِ، وَذَكَرَ عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ الْأَصْبَهَانِيُّ صَاحِبُ الْأَغَانِي حِكَايَاتٍ غَرِيبَةً؛ مِنْ
ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا مُشْرِفًا فِي غُرْفَةٍ بِحَرَّانَ إِذْ
أَقْبَلَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ مَعَهَا قِرْبَةٌ تَسْتَقِي فِيهَا مِنْ
مَشْرَعَةٍ فَجَلَسَتْ وَوَضَعَتْ قِرْبَتَهَا وَانْدَفَعَتْ تُغَنِّي.
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو بُخْلَهَا وَسَمَاحَتِي لَهَا عَسَلٌ مِنِّي وَتَبْذُلُ
عَلْقَمَا فَرُدِّي مُصَابَ الْقَلْبِ أَنْتِ قَتَلْتِهِ
وَلَا تُبْعِدِي فِيمَا تَجَشَّمْتِ كُلْثُمَا
قَالَ: فَسَمِعْتُ مَا لَا صَبْرَ لِي عَنْهُ، وَرَجَوْتُ أَنْ تُعِيدَهُ،
فَقَامَتْ وَانْصَرَفَتْ، فَنَزَلْتُ وَانْطَلَقْتُ وَرَاءَهَا وَسَأَلْتُهَا أَنْ
تُعِيدَهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ عَلَيَّ خَرَاجًا كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَانِ.
فَأَعْطَيْتُهَا دِرْهَمَيْنِ فَأَعَادَتْهُ فَحَفِظْتُهُ وَسَلَكْتُهُ يَوْمِي
ذَلِكَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أُنْسِيتُهُ، فَأَقْبَلَتِ السَّوْدَاءُ
فَسَأَلْتُهَا أَنْ تُعِيدَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ إِلَّا بِدِرْهَمَيْنِ، ثُمَّ
قَالَتْ: كَأَنَّكَ تَسْتَكْثِرُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، كَأَنِّي بِكَ وَقَدْ
أَخَذْتَ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَامِعٍ: فَغَنَّيْتُهُ
لَيْلَةً لِلرَّشِيدِ فَأَعْطَانِي أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ
اسْتَعَادَنِيهِ ثَلَاثًا أُخْرَى
وَأَعْطَانِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَتَبَسَّمْتُ فَقَالَ: مِمَّ
تَتَبَسَّمُ ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ، فَضَحِكَ وَأَلْقَى إِلَيَّ كِيسًا
آخَرَ فِيهِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَقَالَ: لَا تُكْذِبِ السَّوْدَاءَ.
وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا بِالْمَدِينَةِ وَلَيْسَ مَعِي
إِلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، فَإِذَا جَارِيَةٌ عَلَى رَقَبَتِهَا جَرَّةٌ تُرِيدُ
الرَّكِيَّ، وَهِيَ تَسْعَى وَتَتَرَنَّمُ بِصَوْتٍ شَجِيٍّ، وَتَقُولُ:
شَكَوْنَا إِلَى أَحْبَابِنَا طُولَ لَيْلِنَا فَقَالُوا لَنَا مَا أَقْصَرَ
اللَّيْلَ عِنْدَنَا
وَذَاكَ لِأَنَّ النَّوْمَ يَغْشَى عُيُونَهُمْ سِرَاعًا وَلَا يَغْشَى لَنَا
النَّوْمُ أَعْيُنَا
إِذَا مَا دَنَا اللَّيْلُ الْمُضِرُّ لِذِي الْهَوَى جَزِعْنَا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ إِذَا دَنَا
فَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُلَاقُونَ مِثْلَ مَا نُلَاقِي لَكَانُوا فِي
الْمَضَاجِعِ مِثْلَنَا
قَالَ: فَاسْتَعَدْتُهُ مِنْهَا وَأَعْطَيْتُهَا الثَّلَاثَةَ دَرَاهِمَ،
فَقَالَتْ: لَتَأْخُذَنَّ بَدَلَهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَ
دِينَارٍ. فَأَعْطَانِي الرَّشِيدُ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي لَيْلَةٍ عَلَى
ذَلِكَ الصَّوْتِ.
بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ أَبُو وَائِلٍ الْحَنَفِيُّ الْبَصْرِيُّ، الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ، نَزَلَ بَغْدَادَ فِي زَمَنِ الرَّشِيدِ، وَكَانَ يُعَاشِرُ أَبَا
الْعَتَاهِيَةِ.
قَالَ أَبُو هِفَّانَ: أَشْعَرُ أَهْلِ
الْغَزَلِ مِنَ الْمُحْدَثِينَ أَرْبَعَةٌ؛ أَوَّلُهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ رَجَاءٍ يَقُولُ: اجْتَمَعَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ وَمَعَهُمْ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ يَتَنَاشَدُونَ،
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ طِوَالِهِمْ أَنْشَدَ بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ لِنَفْسِهِ:
مَا ضَرَّهَا لَوْ كَتَبَتْ بِالرِّضَا فَجَفَّ جَفْنُ الْعَيْنِ أَوْ أُغْمِضَا
شَفَاعَةٌ مَرْدُودَةٌ عِنْدَهَا فِي عَاشِقٍ تَنْدَمُ لَوْ قَدْ قَضَى
يَا نَفْسُ صَبْرًا وَاعْلَمِي أَنَّ مَا يُأْمَلُ مِنْهَا مِثْلَ مَا قَدْ مَضَى
لَمْ تَمْرَضِ الْأَجْفَانُ مِنْ قَاتِلٍ بِلَحْظِهِ إِلَّا لِأَنْ أَمْرَضَا
قَالَ: فَابْتَدَرُوهُ يُقَبِّلُونَ رَأْسَهُ.
وَلَمَّا مَاتَ رَثَاهُ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ:
مَاتَ ابْنُ نَطَّاحٍ أَبُو وَائِلٍ بَكْرٌ فَأَمْسَى الشِّعْرُ قَدْ بَانَا
بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ كَانَ يَأْوِي إِلَى مَقَابِرِ الْكُوفَةِ وَكَانَ
يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ حَسَنَةٍ، وَقَدْ لَقِيَ الرَّشِيدَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى
الْحَجِّ، فَوَعَظَهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ، كَمَا
تَقَدَّمَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ
الْأَزْدِيُّ الْكُوفِيُّ، سَمِعَ الْأَعْمَشَ وَابْنَ جُرَيْجٍ، وَشُعْبَةَ،
وَمَالِكًا، وَخَلْقًا سِوَاهُمْ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَدِ اسْتَدْعَاهُ الرَّشِيدُ
لِيُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ، فَقَالَ: لَا أَصْلُحُ. وَامْتَنَعَ أَشَدَّ
الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَ قَبْلَهُ وَكِيعًا، فَامْتَنَعَ أَيْضًا،
فَطَلَبَ حَفْصَ بْنَ غِيَاثٍ فَقَبِلَ.
وَأَطْلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ؛ عِوَضًا عَنْ كُلْفَةِ
السَّفَرِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَكِيعٌ، وَلَا ابْنُ إِدْرِيسَ، وَقَبِلَ ذَلِكَ
حَفْصٌ، فَحَلَفَ ابْنُ إِدْرِيسَ لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا.
وَحَجَّ الرَّشِيدُ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فَاجْتَازَ بِالْكُوفَةِ وَمَعَهُ
الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَالْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ
بِجَمْعِ شُيُوخِ الْحَدِيثِ لِيُسْمِعُوا وَلَدَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَّا ابْنَ
إِدْرِيسَ هَذَا، وَعِيسَى بْنَ يُونُسَ، فَرَكِبَ الْأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ
بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَمَاعِهِمَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ
فَأَسْمَعَهُمَا مِائَةَ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: يَا عَمِّ، إِنْ
أَذِنْتَ لِي أَعَدْتُهَا مِنْ حِفْظِي. فَأَذِنَ لَهُ، فَأَعَادَهَا مِنْ
حِفْظِهِ كَمَا سَمِعَهَا، فَتَعَجَّبَ لِحِفْظِهِ ابْنُ إِدْرِيسَ، ثُمَّ أَمَرَ
لَهُ الْمَأْمُونُ بِمَالٍ، فَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَا
إِلَى عِيسَى بْنِ يُونُسَ، فَسَمَّعَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ
بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا فَأَضْعَفَهَا،
فَقَالَ: وَاللَّهِ وَلَا إِهْلِيلَجَةَ، لَوْ مَلَأْتَ لِي الْمَسْجِدَ مَالًا
إِلَى سَقْفِهِ مَا قَبِلْتُ مِنْهُ شَيْئًا عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ ابْنُ إِدْرِيسَ بَكَتِ ابْنَتُهُ، فَقَالَ: لَا تَبْكِي
فَقَدْ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَرْبَعَةَ آلَافِ خَتْمَةٍ.
صَعْصَعَةُ بْنُ سَلَّامٍ وَيُقَالُ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْأَنْدَلُسِ فَاسْتَوْطَنَهَا فِي زَمَنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ هِشَامٍ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ،
وَوَلِيَ الصَّلَاةَ بِقُرْطُبَةَ، وَفِي أَيَّامِهِ غُرِسَتِ الْأَشْجَارُ
بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ هُنَاكَ، كَمَا يَرَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ
وَالشَّامِيُّونَ، وَيَكْرَهُهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْفَقِيهُ،
وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ
" الْفُقَهَاءِ " وَذَكَرَهُ
ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِهِ " " تَارِيخِ مِصْرَ " "
وَالْحُمَيْدِيُّ فِي " " تَارِيخِ الْأَنْدَلُسِ " "
وَحَرَّرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَحَكَى عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ صَعْصَعَةَ هَذَا أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ
مَذْهَبَ الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى الْأَنْدَلُسِ.
وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ أَدْخَلَ عِلْمَ الْحَدِيثِ إِلَيْهَا.
وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَالَّذِي
حَرَّرَهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَثْبَتُ.
عَلِيُّ بْنُ ظَبْيَانَ، أَبُو الْحَسَنِ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ، قَاضِي
الشَّرْقِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ زَمَنَ الرَّشِيدِ، كَانَ ثِقَةً عَالِمًا مِنْ
أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ وَلَّاهُ الرَّشِيدُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ،
وَكَانَ الرَّشِيدُ يَخْرُجُ مَعَهُ إِذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، مَاتَ
بِقَرْمِيسِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْعَبَّاسُ بْنُ الْأَحْنَفِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ طَلْحَةَ، الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ كَانَ مِنْ
عَرَبِ خُرَاسَانَ وَنَشَأَ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا مَقْبُولًا، حَسَنَ الشَّعْرِ.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: لَوْ قِيلَ لِي
مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ شِعْرًا تَعْرِفُهُ ؟ لَقُلْتُ: الْعَبَّاسُ
قَدْ سَحَّبَ النَّاسُ أَذْيَالَ الظُّنُونِ بِنَا وَفَرَّقَ النَّاسُ فِينَا
قَوْلَهُمْ فِرَقَا
فَكَاذِبٌ قَدْ رَمَى بِالْحُبِّ غَيْرَكُمْ وَصَادِقٌ لَيْسَ يَدْرِي أَنَّهُ
صَدَقَا
وَقَدْ طَلَبَهُ الرَّشِيدُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَانْزَعَجَ
لِذَلِكَ وَخَافَ نِسَاؤُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّشِيدِ قَالَ
لَهُ: وَيْحَكَ، إِنَّهُ قَدْ عَنَّ لِي بَيْتٌ فِي جَارِيَةٍ لِي، فَأَحْبَبْتُ
أَنْ تَشْفَعَهُ بِمِثْلِهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا خِفْتُ
قَطُّ أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ. فَقَالَ: وَلِمَ ؟ فَذَكَرَ لَهُ دُخُولَ
الْحَرَسِ عَلَيْهِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ جَلَسَ حَتَّى سَكَنَ رَوْعُهُ، ثُمَّ
قَالَ: مَا قُلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ:
جِنَانٌ قَدْ رَأَيْنَاهَا فَلَمْ نَرَ مِثْلَهَا بَشَرَا
فَقَالَ الْعَبَّاسُ:
يَزِيدُكَ وَجْهُهَا حُسْنًا إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرَا
فَقَالَ الرَّشِيدُ: زِدْ. فَقَالَ:
إِذَا مَا اللَّيْلُ مَالَ عَلَيْ كَ بِالْإِظْلَامِ وَاعْتَكَرَا
وَدَجَّ فَلَمْ تَرَ قَمَرًا فَأَبْرِزْهَا تَرَى قَمَرَا
فَقَالَ: إِنَّا قَدْ رَأَيْنَاهَا
وَقَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَمِنْ شَعْرِهِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ وَأَثْبَتَهُ فِي
سِلْكِ الشُّعَرَاءِ بِسَبَبِهِ قَوْلُهُ:
أَبْكَي الَّذِينَ أَذَاقُونِي مَوَدَّتَهُمْ حَتَّى إِذَا أَيْقَظُونِي لِلْهَوَى
رَقَدُوا
وَاسْتَنْهَضُونِي فَلَمَّا قُمْتُ مُنْتَصِبًا بِثِقْلِ مَا حَمَّلُونِي مِنْهُمْ
قَعَدُوا
وَلَهُ أَيْضًا:
وَحَدَّثْتَنِي يَا سَعْدُ عَنْهَا فِزِدْتَنِي جُنُونًا فَزِدْنِي مِنْ حَدِيثِكَ
يَا سَعْدُ
هَوَاهَا هَوًى لَمْ يَعْرِفِ الْقَلْبُ غَيْرَهُ فَلَيْسَ لَهُ قَبْلٌ وَلَيْسَ
لَهُ بَعْدُ
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ بِالْبَصْرَةِ
وَهُوَ طَرِيحٌ عَلَى فِرَاشِهِ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَعِيدَ الدَّارِ عَنْ وَطَنِهِ مُفْرَدًا يَبْكِي عَلَى شَجَنِهْ
كُلَّمَا شَدَّ النُّجَاءُ بِهِ زَادَتِ الْأَسْقَامُ فِي بَدَنِهْ
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ انْتَبَهَ بِصَوْتِ طَائِرٍ عَلَى شَجَرَةٍ
فَقَالَ:
وَلَقَدْ زَادَ الْفَؤَادَ شَجًى
هَاتِفٌ يَبْكِي عَلَى فَنَنِهْ
شَاقَهُ مَا شَاقَنِي فَبَكَى كُلُّنَا يَبْكِي عَلَى سَكَنِهْ
قَالَ: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أُخْرَى، فَحَرَّكْتُهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَكَى الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بَعْدَهَا.
وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ بَعْدَ الرَّشِيدِ
عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، أَخُو زُبَيْدَةَ، كَانَ
نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ فِي أَيَّامِ الرَّشِيدِ، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ
هَذِهِ السَّنَةِ.
الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ، أَخُو جَعْفَرٍ وَإِخْوَتِهِ،
كَانَ هُوَ وَالرَّشِيدُ يَتَرَاضَعَانِ، أَرْضَعَتِ الْخَيْزُرَانُ فَضْلًا هَذَا
وَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْفَضْلِ - وَهِيَ زُبَيْدَةُ بِنْتُ سِنِينَ بَرْبَرِيَّةٌ -
هَارُونَ الرَّشِيدَ وَكَانَتْ زُبَيْدَةُ هَذِهِ مِنْ
مُوَلَّدَاتِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ
قَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
كَفَى لَكَ فَضْلًا أَنَّ أَفْضَلَ حُرَّةٍ غَذَتْكَ بِثَدِيٍ وَالْخَلِيفَةَ
وَاحِدِ
لَقَدْ زِنْتَ يَحْيَى فِي الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا كَمَا زَانَ يَحْيَى خَالِدًا
فِي الْمَشَاهِدِ
قَالُوا: وَكَانَ الْفَضْلُ أَكْرَمَ مِنْ أَخِيهِ جَعْفَرٍ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ
كِبْرٌ شَدِيدٌ، وَكَانَ عَبُوسًا، وَكَانَ جَعْفَرٌ أَحْسَنَ بِشْرًا مِنْهُ،
وَأَطْلَقَ وَجْهًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً، وَكَانَ النَّاسُ إِلَيْهِ أَمْيَلَ.
وَقَدْ وَهَبَ الْفَضْلُ لِطَبَّاخِهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَعَاتَبَهُ
أَبُوهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ، إِنَّ هَذَا كَانَ يَصْحَبُنِي فِي
الْعُسْرِ وَالْعَيْشِ الْخَشِنِ، وَاسْتَمَرَّ مَعِي فِي هَذَا الْحَالِ
فَأَحْسَنَ صُحْبَتِي، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا أُسْهَلُوا ذَكَرُوا مَنْ كَانَ يُؤْنِسُهُمْ فِي
الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ
وَوَهَبَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْأُدَبَاءِ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَكَى
الرَّجُلُ، فَقَالَ لَهُ: مِمَّ تَبْكِي، أَسْتَقْلَلْتَهَا ؟ قَالَ: لَا
وَاللَّهِ؛ وَلَكِنِّي أَبْكِي أَسَفًا أَنَّ الْأَرْضَ تُوَارِي مِثْلَكَ !
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَنْ
أَبِيهِ: أَصْبَحْتُ يَوْمًا لَا أَمْلِكُ شَيْئًا وَلَا عَلَفَ الدَّابَّةِ،
فَقَصَدْتُ الْفَضْلَ بْنَ يَحْيَى فَإِذَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ فِي مَوْكِبٍ مِنَ النَّاسِ، فَلَمَّا رَآنِي رَحَّبَ بِي، وَقَالَ:
هَلُمَّ. فَسِرْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ سَمِعَ غُلَامًا
يَدْعُو جَارِيَةً مِنْ دَارٍ، وَإِذَا هِيَ بَاسِمِ جَارِيَةٍ لَهُ يُحِبُّهَا،
فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ وَشَكَا إِلَيَّ مَا لَقِيَ مِنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ:
أَصَابَكَ مَا أَصَابَ أَخَا بَنِي عَامِرٍ حَيْثُ يَقُولُ:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى فَهَيَّجَ أَحْزَانَ الْفُؤَادِ
وَلَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأَنَّمَا أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ
فِي صَدْرِي
فَقَالَ: اكْتُبْ لِي هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ. قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى بَقَّالٍ،
فَرَهَنْتُ عِنْدَهُ خَاتِمِي عَلَى ثَمَنِ وَرَقَةٍ، وَكَتَبْتُهُمَا لَهُ
فَأَخَذَهُمَا وَقَالَ: انْطَلِقْ رَاشِدًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَقَالَ
لِي غُلَامِي: هَاتِ خَاتِمَكَ حَتَّى نَرْهَنَهُ عَلَى طَعَامٍ لَنَا وَعَلَفٍ
لِلدَّابَّةِ. فَقُلْتُ: إِنِّي رَهَنْتُهُ. فَمَا أَمْسَيْنَا حَتَّى أَرْسَلَ
إِلَيَّ الْفَضْلُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَعَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ سَلَفًا
لِشَهْرَيْنِ مِنْ رِزْقٍ أَجْرَاهُ عَلَيَّ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ، فَأَكْرَمَهُ الْفَضْلُ وَأَجْلَسَهُ
مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ،
فَشَكَا إِلَيْهِ الرَّجُلُ دَيْنًا
عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَ فِي ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ:
نَعَمْ، وَكَمْ دَيْنُكَ ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَخَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِ وَهُوَ مَهْمُومٌ لِضَعْفِ رَدِّهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَالَ إِلَى بَعْضِ
إِخْوَانِهِ، فَاسْتَرَاحَ عِنْدَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَإِذَا
الْمَالُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ:
لَكَ الْفَضْلُ يَا فَضْلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ وَمَا كُلُّ مَنْ يُدْعَى
بِفَضْلٍ لَهُ الْفَضْلُ
رَأَى اللَّهُ فَضْلًا مِنْكَ فِي النَّاسِ وَاسِعًا فَسَمَّاكَ فَضْلًا
فَالْتَقَى الِاسْمُ وَالْفِعْلُ
وَقَدْ كَانَ الْفَضْلُ أَكْبَرَ رُتْبَةً مِنْ جَعْفَرٍ، وَلَكِنَّ جَعْفَرًا
أَحْظَى عِنْدَ الرَّشِيدِ مِنْهُ وَأَخَصُّ. وَقَدْ وَلِيَ الْفَضْلُ أَعْمَالًا
كِبَارًا، مِنْهَا نِيَابَةُ خُرَاسَانَ وَغَيْرُهَا.
فَلَمَّا قَتَلَ الرَّشِيدُ جَعْفَرًا وَحَبَسَ الْبَرَامِكَةَ، جَلَدَ الْفَضْلَ
بْنَ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ مِائَةَ سَوْطٍ، وَخَلَّدَهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَبْلَ الرَّشِيدِ بِشُهُورٍ خَمْسَةٍ بِالرَّقَّةِ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ أُخْرِجَتْ
جِنَازَتُهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّاسُ، وَدُفِنَ هُنَاكَ وَلَهُ خَمْسٌ
وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ ثِقَلٌ أَصَابَهُ فِي لِسَانِهِ
اشْتَدَّ بِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتُوُفِّيَ قَبْلَ أَذَانِ
الْغَدَاةِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ ": كَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ، وَذَكَرَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ
مَحَاسِنِهِ وَمَكَارِمِهِ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ بَلْخَ حِينَ كَانَ
نَائِبًا عَلَى خُرَاسَانَ وَكَانَ بِهَا بَيْتُ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ
تَعْبُدُهَا الْمَجُوسُ، وَقَدْ كَانَ جَدُّهُ بَرْمَكُ مِنْ خُدَّامِهَا،
فَهَدَمَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ هَدْمِهِ كُلِّهِ؛ لِقُوَّةِ
إِحْكَامِهِ وَبَنَى مَكَانَهُ مَسْجِدًا لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ أَنَّهُ
كَانَ يَتَمَثَّلُ فِي السِّجْنِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
إِلَى اللَّهِ فِيمَا نَالَنَا نَرْفَعُ الشَّكْوَى فَفِي يَدِهِ كَشْفُ
الْمَضَرَّةِ وَالْبَلْوَى
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا نَحْنُ فِي الْأَمْوَاتِ
فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا
مِنَ الدُّنْيَا
وَمُحَمَّدُ بْنُ أُمَيَّةَ، الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ، وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ كُلُّهُمْ
شُعَرَاءُ، وَقَدِ اخْتَلَطَ أَشْعَارُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ وَلَهُ شِعْرٌ
رَائِقٌ، وَمَدِيحٌ فَائِقٌ.
مَنْصُورُ بْنُ الزِّبْرِقَانِ بْنِ
سَلَمَةَ، أَبُو الْفَضْلِ النُّمَيْرِيُّ، الشَّاعِرُ، امْتَدَحَ الرَّشِيدَ.
وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَزِيرَةِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَيُقَالُ لِجَدِّهِ:
مُطْعِمُ الْكَبْشِ الرَّخَمَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَضَافَ قَوْمًا، فَجَعَلَتِ
الرَّخَمُ تُحَمْلِقُ حَوْلَهُمْ، فَأَمَرَ بِكَبْشٍ يُذْبَحُ لِلرَّخَمِ حَتَّى
لَا يَتَأَذَّى بِهَا أَضْيَافُهُ، فَقِيلَ لَهُ ذَلِكَ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
أَبُوكَ زَعِيمُ بَنِي قَاسِطٍ وَخَالُكَ ذُو الْكَبْشِ يَقْرِي الرَّخَمَ
وَلَهُ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ كُلْثُومِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ
شَيْخَهُ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ الْغِنَاءَ.
يُوسُفُ بْنُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، وَيُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ،
وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، وَتَفَقَّهَ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
بِبَغْدَادَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ، عَنْ أَمْرِ الرَّشِيدِ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَهُوَ قَاضٍ بِبَغْدَادَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْفَضْلُ بْنُ
يَحْيَى، وَقَدْ أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ،
وَتِسْعِينَ، وَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَعِيدٌ الْجَوْهَرِيُّ. قَالَ: وَفِيهَا وَافَى
الرَّشِيدُ جُرْجَانَ وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ خَزَائِنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى
تُحْمَلُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا،
ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهَا إِلَى طُوسَ وَهُوَ عَلِيلٌ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِيهَا.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ هَرْثَمَةُ نَائِبُ الْعِرَاقِ هُوَ وَرَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ،
فَكَسَرَهُ هَرْثَمَةُ، وَافْتَتَحَ بُخَارَى، وَأَسَرَ أَخَاهُ بَشِيرَ بْنَ
اللَّيْثِ، فَبَعَثَهُ إِلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ بِطُوسَ مُثْقَلٌ عَنِ السَّيْرِ،
فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَرَعَ يَتَرَقَّقُ لَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ
مِنْهُ، بَلْ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي إِلَّا أَنْ
أُحَرِّكَ شَفَتَيْ بِقَتْلِكَ لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ دَعَا بِقَصَّابٍ، فَجَزَّأَهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ عُضْوًا، ثُمَّ رَفَعَ الرَّشِيدُ يَدَيْهِ
إِلَى السَّمَاءِ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُمَكِّنَهُ
مِنْ رَافِعٍ كَمَا مَكَّنَهُ مِنْ
أَخِيهِ بَشِيرٍ
ذِكْرُ وَفَاةِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
كَانَ قَدْ رَأَى، وَهُوَ بِالرَّقَّةِ رُؤْيَا أَفْزَعَتْهُ، وَغَمَّهُ ذَلِكَ،
فَدَخَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بْنُ بَخْتَيْشُوعَ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنَّ كَفًّا فِيهَا تُرْبَةٌ حَمْرَاءُ
خَرَجَتْ مِنْ تَحْتِ سَرِيرِي هَذَا، وَقَائِلًا يَقُولُ هَذِهِ تُرْبَةُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَهَوَّنَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ أَمْرَهَا، وَقَالَ: هَذِهِ مِنْ
أَضْغَاثِ الْأَحْلَامِ، وَمِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، فَتَنَاسَهَا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا سَارَ يُرِيدُ خُرَاسَانَ وَمَرَّ بِطُوسَ،
وَاعْتَقَلَتْهُ الْعِلَّةُ بِهَا، ذَكَرَ رُؤْيَاهُ الَّتِي كَانَ رَأَى؛
فَهَالَهُ ذَلِكَ، وَانْزَعَجَ جِدًّا فَدَخَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ
لِجِبْرِيلَ: وَيْحَكَ ؟ أَمَا تَذْكُرُ مَا قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ مِنَ الرُّؤْيَا
؟ فَقَالَ: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ مَاذَا ؟ فَدَعَا
مَسْرُورًا الْخَادِمَ، وَقَالَ: ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْ تُرْبَةِ هَذِهِ
الْأَرْضِ. فَجَاءَهُ بِتُرْبَةٍ حَمْرَاءَ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ:
وَاللَّهِ هَذِهِ الْكَفُّ الَّتِي رَأَيْتُ، وَالتُّرْبَةُ الَّتِي كَانَتْ
فِيهَا. قَالَ جِبْرِيلُ: فَوَاللَّهِ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثٌ حَتَّى
تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ
قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَهِيَ دَارُ حُمَيْدِ بْنِ
أَبِي غَانِمٍ الطَّائِيِّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى قَبْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
ابْنَ آدَمَ تَصِيرُ إِلَى هَذَا ! ثُمَّ أَمَرَ بِقُرَّاءٍ فَقَرَءُوا فِي
الْقَبْرِ الْقُرْآنَ حَتَّى خَتَمُوهُ، وَهُوَ فِي مَحَفَّةٍ عَلَى شَفِيرِ
الْقَبْرِ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ احْتَبَى بِمُلَاءَةٍ وَجَلَسَ
يُقَاسِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، لَوِ اضْطَجَعْتَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْكَ. فَضَحِكَ ضَحِكَ
صَحِيحٍ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
وَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ كِرَامٍ يَزِيدُهُمْ شِمَاسًا، وَصَبْرًا شِدَّةُ
الْحَدَثَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْأَحَدِ.
مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ
خَمْسٍ، وَقِيلَ: سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. فَكَانَ مُلْكُهُ ثَلَاثًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ
هُوَ هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ابْنُ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمَنْصُورِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ
الْهَاشِمِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ: أَبُو جَعْفَرٍ. وَأُمُّهُ
الْخَيْزُرَانُ أُمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ،
وَقِيلَ: سَبْعٍ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
وُلِدَ
سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَبُويِعَ
لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، بِعَهْدٍ مِنْ أَبِيهِ الْمَهْدِيِّ كَمَا
تَقَدَّمَ.
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَحَدَّثَ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ
فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ
تَمْرَةٍ أَوْرَدَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ. وَقَدْ
حَدَّثَ عَنْهُ ابْنُهُ، وَسُلَيْمَانُ الْهَاشِمِيُّ، وَالِدُ إِسْحَاقَ،
وَنُبَاتَةُ بْنُ عَمْرٍو. وَكَانَ الرَّشِيدُ أَبْيَضَ طَوِيلًا سَمِينًا
جَمِيلًا.
وَقَدْ غَزَا الصَّائِفَةَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ مِرَارًا، وَعَقَدَ الْهُدْنَةَ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالرُّومِ بَعْدَ مُحَاصَرَتِهِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ
وَقَدْ لَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ذَلِكَ جَهْدًا جَهِيدًا، وَخَوْفًا شَدِيدًا،
وَكَانَ الصُّلْحُ مَعَ امْرَأَةِ أَلْيُونَ، وَهِيَ الْمُلَقَّبَةُ بِأُغُسْطَةَ
عَلَى حَمْلٍ كَثِيرٍ تَبْذُلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَامٍ، فَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَهَذَا هُوَ
الَّذِي حَدَا أَبَاهُ عَلَى أَنْ بَايَعَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ
أَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ. ثُمَّ
لَمَّا أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَخِيهِ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ
وَمِائَةٍ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ سِيرَةً، وَأَكْثَرِهِمْ غَزْوًا
وَحَجًّا بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا قَالَ فِيهِ أَبُو السَّعْلِيِّ:
فَمَنْ يَطْلُبْ لِقَاءَكَ أَوْ
يُرِدْهُ فَبِالْحَرَمَيْنِ أَوْ أَقْصَى الثُّغُورِ فَفِي أَرْضِ الْعَدُوِّ
عَلَى طِمِرٍّ
وَفِي أَرْضِ الْبَنِيَّةِ فَوْقَ كُورِ وَمَا حَازَ الثُّغُورَ سِوَاكَ خَلْقٌ
مِنَ الْمُسْتَخْلَفِينَ عَلَى الْأُمُورِ
وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَإِذَا حَجَّ أَحَجَّ مَعَهُ مِائَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَبْنَائِهِمْ، وَإِذَا
لَمْ يَحُجَّ أَحَجَّ ثَلَاثَمِائَةٍ بِالنَّفَقَةِ السَّابِغَةِ، وَالْكُسْوَةِ
التَّامَّةِ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّشَبُّهَ بِجَدِّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
إِلَّا فِي الْعَطَاءِ، فَإِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْعَطَاءِ جَزِيلَهُ، وَكَانَ
يُحِبُّ الْفُقَهَاءَ، وَالشُّعَرَاءَ، وَيُعْطِيهِمْ كَثِيرًا، وَلَا يَضِيعُ
لَدَيْهِ بِرٌّ وَلَا مَعْرُوفٌ، وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ. وَكَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا، إِلَى
أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، إِلَّا أَنْ تَعْرِضَ لَهُ عِلَّةٌ.
وَكَانَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمَدَنِيُّ هُوَ الَّذِي يُضْحِكُهُ، وَكَانَ
عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ بِأَخْبَارِ الْحِجَازِ، وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الرَّشِيدُ قَدْ
أَنْزَلَهُ فِي قَصْرِهِ، وَخَلَطَهُ بِأَهْلِهِ. نَبَّهَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا
إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَامَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَدْرَكَ الرَّشِيدَ، وَهُوَ
يَقْرَأُ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [ يس: 22 ] فَقَالَ ابْنُ
أَبِي مَرْيَمَ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ. فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، وَقَطَعَ
الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ ! اجْتَنِبِ الصَّلَاةَ
وَالْقُرْآنَ،
وَلَكَ مَا عَدَا ذَلِكَ.
وَدَخَلَ يَوْمًا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَى الرَّشِيدِ، وَمَعَهُ
بَرْنِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهَا غَالِيَةٌ مِنْ أَحْسَنِ الطِّيبِ، فَجَعَلَ
يَمْدَحُهَا، وَيَزِيدُ فِي شُكْرِهَا، وَسَأَلَ مِنَ الرَّشِيدِ أَنْ يَقْبَلَهَا
مِنْهُ فَقَبِلَهَا، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ فَوَهَبَهَا
لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: وَيَحَكَ ! جِئْتُ بِشَيْءٍ مَنَعْتُهُ نَفْسِي،
وَآثَرْتُ بِهِ سَيِّدِي فَأَخَذْتَهُ. فَحَلَفَ ابْنُ مَرْيَمَ لَيُطَيِّبَنَّ
بِهِ اسْتَهُ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا فَطَلَى بِهِ اسْتَهُ، وَدَهَنَ
جَوَارِحَهُ كُلَّهَا مِنْهَا، وَالرَّشِيدُ لَا يَتَمَالَكُ نَفْسَهُ مِنَ
الضَّحِكِ. ثُمَّ قَالَ لِخَادِمٍ قَائِمٍ يُقَالُ لَهُ خَاقَانُ: اطْلُبْ لِي
غُلَامِي. فَقَالَ الرَّشِيدُ: ادْعُ لَهُ غُلَامَهُ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ هَذِهِ
الْغَالِيَةَ، وَاذْهَبْ بِهَا إِلَى سِتِّكَ فَمُرْهَا فَلْتُطَيِّبْ مِنْهَا
اسْتَهَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهَا فَأَنِيكَهَا. فَذَهَبَ الضَّحِكُ
بِالرَّشِيدِ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَلَى
الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ لَهُ: جِئْتَ بِهَذِهِ الْغَالِيَةِ
تَمْدَحُهَا عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي مَا تُمْطِرُ السَّمَاءُ
شَيْئًا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ تَصَرُّفِهِ،
وَفِي يَدِهِ ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنْ قِيلَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ: مَا
أَمَرَكَ بِهِ هَذَا فَأَنْفِذْهُ. وَأَنْتَ تَمْدَحُ هَذِهِ الْغَالِيَةَ
عِنْدَهُ كَأَنَّهُ بَقَّالٌ، أَوْ خَبَّازٌ، أَوْ طَبَّاخٌ، أَوْ تَمَّارٌ.
فَكَادَ الرَّشِيدُ يَهْلِكُ مِنْ شِدَّةِ
الضَّحِكِ ثُمَّ أَمَرَ لِابْنِ أَبِي
مَرْيَمَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ شَرِبَ الرَّشِيدُ يَوْمًا دَوَاءً فَسَأَلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنْ
يَلِيَ الْحِجَابَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَمَهْمَا حَصَلَ لَهُ فَهُوَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَلَّاهُ الْحِجَابَةَ، فَجَاءَتِ الرُّسُلُ
بِالْهَدَايَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ عِنْدِ زُبَيْدَةَ، وَالْبَرَامِكَةِ،
وَكِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَكَانَ حَاصِلُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ سِتِّينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَسَأَلَهُ الرَّشِيدُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَمَّا تَحَصَّلَ،
فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: فَأَيْنَ نَصِيبِي ؟ قَالَ: مَعْزُولٌ. قَالَ: قَدْ
صَالَحْتُكَ عَلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ تُفَّاحَةٍ.
وَقَدِ اسْتَدْعَى إِلَيْهِ أَبَا مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ خَازِمٍ
لِيَسْمَعَ مِنْهُ الْحَدِيثَ، قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: مَا ذَكَرْتُ عِنْدَهُ
فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ إِلَّا قَالَ: صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى
سَيِّدِي. وَإِذَا سَمِعَ حَدِيثًا فِيهِ مَوْعِظَةٌ يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ
الثَّرَى. وَأَكَلْتُ عِنْدَهُ يَوْمًا ثُمَّ قُمْتُ لِأَغْسِلَ يَدِي فَصَبَّ
الْمَاءَ عَلَيَّ، وَأَنَا لَا أَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ،
أَتَدْرِي مَنْ يَصُبُّ عَلَيْكَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَنَا. فَدَعَا لَهُ أَبُو
مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ تَعْظِيمَ الْعِلْمِ، وَقَدْ
حَدَّثَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ يَوْمًا عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ بِحَدِيثِ: " احْتَجَّ آدَمُ، وَمُوسَى " "
فَقَالَ عَمُّ الرَّشِيدِ: أَيْنَ الْتَقَيَا يَا أَبَا مُعَاوِيَةَ ؟ فَغَضِبَ
الرَّشِيدُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَتَعْتَرِضُ عَلَى الْحَدِيثِ
؟ ! عَلَيَّ بِالنَّطْعِ، وَالسَّيْفِ. فَأُحْضِرَ ذَلِكَ، فَقَامَ النَّاسُ إِلَيْهِ
يَشْفَعُونَ فِيهِ، فَقَالَ الرَّشِيدُ: هَذِهِ زَنْدَقَةٌ. ثُمَّ أَمَرَ
بِسَجْنِهِ، وَقَالَ: لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُخْبِرَنِي مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ
هَذَا. فَأَقْسَمَ بِالْأَيْمَانِ الْمُغَلَّظَةِ مَا قَالَ لَهُ أَحَدٌ
وَإِنَّمَا كَانَتْ بَادِرَةً مِنِّي، فَأَطْلَقَهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَجُلٌ
مَضْرُوبُ الْعُنُقِ، وَالسَّيَّافُ يَمْسَحُ سَيْفَهُ فِي قَفَا الرَّجُلِ
الْمَقْتُولِ، فَقَالَ هَارُونُ: قَتَلْتُهُ لِأَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ
مَخْلُوقٌ. فَقَتَلْتُهُ قُرْبَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ لَهُ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، انْظُرْ هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَيُقَدِّمُونَهُمَا فَأَكْرِمْهُمْ
يَعِزُّ سُلْطَانُكَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَوَلَسْتُ كَذَلِكَ ؟ ! أَنَا
وَاللَّهِ كَذَلِكَ أُحِبُّهُمَا، وَأُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهُمَا، وَأُعَاقِبُ مَنْ
يُبْغِضُهُمَا.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ السِّمَاكِ أَوْ غَيْرُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ
اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ فَوْقَكُ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا
يَكُونَ فِيهِمْ أَحَدٌ أَطْوَعَ إِلَى اللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ
أَقْصَرْتَ فِي الْكَلَامِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ فِي الْمَوْعِظَةِ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ السِّمَاكِ
يَوْمًا فَاسْتَسْقَى الرَّشِيدُ فَأُتِيَ بِقُلَّةٍ فِيهَا مَاءٌ مُبَرَّدٌ،
فَقَالَ لِابْنِ السِّمَاكِ: عِظْنِي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
بِكُمْ كُنْتَ مُشْتَرِيًا هَذِهِ الشَّرْبَةَ لَوْ مُنِعْتَهَا ؟ فَقَالَ:
بِنِصْفِ مُلْكِي. فَقَالَ: اشْرَبْ هَنِيئًا. فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ: أَرَأَيْتَ
لَوْ مُنِعْتَ خُرُوجَهَا مِنْ بَدَنِكَ، بِكَمْ كُنْتَ تَشْتَرِي ذَلِكَ ؟ قَالَ:
بِمُلْكِي كُلِّهِ. فَقَالَ: إِنَّ مُلْكًا قِيمَتُهُ شَرْبَةُ مَاءٍ لَخَلِيقٌ
أَنْ لَا يُتَنَافَسَ فِيهِ. فَبَكَى هَارُونُ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ثِنَا الرِّيَاشِيُّ، سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ، يَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ، وَهُوَ يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَخْذُ الْأَظْفَارِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مِنَ
السُّنَّةِ، وَبَلَغَنِي أَنَّ أَخْذَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَنْفِي الْفَقْرَ،
فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوَ تَخْشَى الْفَقْرَ ؟ ! فَقَالَ: يَا
أَصْمَعِيُّ، وَهَلْ أَحَدٌ أَخْشَى لِلْفَقْرِ مِنَى ؟
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ قَالَ: كُنْتُ
يَوْمًا عِنْدَ الرَّشِيدِ فَدَعَا طَبَّاخَهُ، فَقَالَ: أَعِنْدَكَ فِي الطَّعَامِ
لَحْمُ جَزُورٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَلْوَانٌ مِنْهُ. فَقَالَ: أَحْضِرْهُ مَعَ
الطَّعَامِ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَخَذَ لُقْمَةً مِنْهُ، فَوَضَعَهَا
فِي فِيهِ، فَضَحِكَ جَعْفَرٌ الْبَرْمَكِيُّ، فَتَرَكَ الرَّشِيدُ مَضْغَ
اللُّقْمَةِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
مِمَّ تَضْحَكُ ؟ قَالَ: لَا شَيْءَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ذَكَرْتُ كَلَامًا دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ جَارِيَتِي الْبَارِحَةَ. فَقَالَ: بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَا أَخْبَرْتَنِي بِهِ. قَالَ: حَتَّى تَأْكُلَ هَذِهِ اللُّقْمَةَ، فَأَلْقَاهَا مِنْ فِيهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَتُخْبِرَنِّي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِكَمْ تَقُولُ إِنَّ هَذَا الطَّعَامَ مِنْ لَحْمِ الْجَزُورِ يُقَوَّمُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ: بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ. قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: إِنَّكَ طَلَبْتَ مِنْ طَبَّاخِكَ هَذَا لَحْمَ جَزُورٍ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ، فَقُلْتُ: لَا يَخْلُوَنَّ الْمَطْبَخُ مِنْ لَحْمِ جَزُورٍ، فَنَحْنُ نَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا؛ لِأَنَّا لَا نَشْتَرِي لَحْمَ الْجَزُورِ مِنَ السُّوقِ، فَصُرِفَ فِي لَحْمِ الْجَزُورِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَطْلُبْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَحْمَ الْجَزُورِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، قَالَ جَعْفَرٌ: فَضَحِكْتُ؛ لِأَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا نَالَهُ مِنْ ذَلِكَ هَذِهِ اللُّقْمَةُ، فَهِيَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً شَدِيدًا، وَأَقْبَلَ عَلَى نَفْسِهِ يُوَبِّخُهَا، وَيَقُولُ: هَلَكْتَ وَاللَّهِ يَا هَارُونُ. وَأَمَرَ بِرَفْعِ السِّمَاطِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى آذَنَهُ الْمُؤَذِّنُونَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَخَرَجَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ، ثُمَّ رَجَعَ يَبْكِي، وَقَدْ أَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ تُصْرَفُ إِلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمَيْنِ، فِي كُلِّ حَرَمٍ أَلْفُ أَلْفٍ صَدَقَةً، وَأَمَرَ بِأَلْفَيْ أَلْفٍ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي جَانِبَيْ بَغْدَادَ؛ الْغَرْبِيِّ، وَالشَّرْقِيِّ، وَبِأَلْفِ أَلْفٍ يُتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى
فَقُرَاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ.
ثُمَّ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ رَجَعَ يَبْكِي حَتَّى صَلَّى
الْمَغْرِبَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، فَقَالَ:
مَا شَأْنُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَاكِيًا فِي هَذَا الْيَوْمِ ؟ فَذَكَرَ
أَمْرَهُ، وَمَا صَرَفَ مِنَ الْمَالِ الْجَزِيلِ لِأَجْلِ شَهْوَتِهِ، وَإِنَّمَا
نَالَهُ مِنْهَا لُقْمَةٌ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لِجَعْفَرٍ: هَلْ كَانَ مَا
يَذْبَحُونَهُ مِنَ الْجَزُورِ يَفْسَدُ، أَوْ يَأْكُلُهُ النَّاسُ ؟ قَالَ: بَلْ
يَأْكُلُهُ النَّاسُ. فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِثَوَابِ
اللَّهِ فِيمَا صَرَفْتَهُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي أَكَلَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي
الْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ، وَبِمَا يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنَ الصَّدَقَةِ
فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَبِمَا رَزَقَكَ اللَّهُ مِنْ
خَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرَّحْمَنِ: 46 ] فَأَمَرَ لَهُ
الرَّشِيدُ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِطَعَامٍ، فَأَكَلَ
مِنْهُ فَكَانَ غَدَاؤُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَشَاءً.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ: اجْتَمَعَ لِلرَّشِيدِ مِنَ الْجِدِّ
وَالْهَزْلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ، كَانَ أَبُو يُوسُفَ قَاضِيَهُ،
وَالْبَرَامِكَةُ وُزَرَاءَهُ، وَحَاجِبُهُ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ أَنْبَهُ
النَّاسِ، وَأَشَدُّهُمْ تَعَاظُمًا، وَنَدِيمُهُ عَمُّ أَبِيهِ الْعَبَّاسُ بْنُ
مُحَمَّدٍ صَاحِبُ الْعَبَّاسِيَّةِ، وَشَاعِرُهُ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ
وَمُغَنِّيهِ إِبْرَاهِيمُ الْمَوْصِلِيُّ وَاحِدُ
عَصْرِهِ فِي صِنَاعَتِهِ وَضَارِبُهُ
زَلْزَلٌ، وَزَامِرُهُ بَرْصُومَا، وَزَوْجَتُهُ أُمُّ جَعْفَرٍ يَعْنِي
زُبَيْدَةَ، وَكَانَتْ أَرْغَبَ النَّاسِ فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَأَسْرَعَهُمْ إِلَى
كُلِّ بِرٍّ وَمَعْرُوفٍ، أَدْخَلَتِ الْمَاءَ الْحَرَمَ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْ
ذَلِكَ، إِلَى أَشْيَاءَ مِنَ الْمَعْرُوفِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الرَّشِيدَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّا مِنْ
قَوْمٍ عَظُمَتْ رَزِيَّتُهُمْ، وَحَسُنَتْ بَقِيَّتُهُمْ، وَرِثْنَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَقِيَتْ فِينَا خِلَافَةُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَبَيْنَمَا الرَّشِيدُ يَطُوفُ يَوْمًا بِالْبَيْتِ إِذْ عَرَضَ لَهُ رَجُلٌ،
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَكَ بِكَلَامٍ
فِيهِ غِلْظَةٌ. فَقَالَ: لَا، وَلَا نِعْمَتْ عَيْنٌ، قَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ
هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ
قَوْلًا لَيِّنًا.
وَعَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: رَأَيْتُ الرَّشِيدَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ،
وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَخَوَّفَتْنِي، وَقَالَتْ: إِنَّهُ الْآنَ
يَضْرِبُ عُنُقَكَ. فَقُلْتُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَنَادَيْتُهُ: فَقُلْتُ:
يَا هَارُونُ، قَدْ أَتْعَبْتَ الْأُمَّةَ، وَالْبَهَائِمَ. فَقَالَ: خُذُوهُ.
فَأُدْخِلْتُ عَلَيْهِ، وَفِي يَدِهِ
لَتٌّ مِنْ حَدِيدٍ يَلْعَبُ بِهِ،
وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَقَالَ: مِمَّنِ الرَّجُلُ ؟ فَقُلْتُ: رَجُلٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ:
مِنَ الْأَبْنَاءِ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ دَعَوْتَنِي بِاسْمِي ؟
قَالَ: فَخَطَرَ بِبَالِي شَيْءٌ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَقُلْتُ:
أَنَا أَدْعُو اللَّهَ بِاسْمِهِ، يَا اللَّهُ، يَا رَحْمَنُ أَفَلَا أَدْعُوكَ
بِاسْمِكَ ؟ ! وَهَذَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ دَعَا أَحَبَّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ
بِاسْمِهِ: مُحَمَّدًا، وَكَنَّى أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ [ الْمَسَدِ: 1 ] فَقَالَ الرَّشِيدُ: أَخْرِجُوهُ
أَخْرِجُوهُ.
وَقَالَ لَهُ ابْنُ السِّمَاكِ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ
تَمُوتُ وَحْدَكَ، وَتُقْبَرُ وَحْدَكَ، فَاحْذَرِ الْمُقَامَ بَيْنَ يَدَيِ
الْجَبَّارِ، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حِينَ يُؤْخَذُ
بِالْكَظَمِ، وَتَزِلُّ الْقَدَمُ، وَيَقَعُ النَّدَمُ، فَلَا تَوْبَةَ تُنَالُ،
وَلَا عَثْرَةَ تُقَالُ، وَلَا يُقْبَلُ فِدَاءٌ بِمَالٍ. فَجَعَلَ الرَّشِيدُ
يَبْكِي حَتَّى عَلَا صَوْتُهُ، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَهُ: يَا ابْنَ
السِّمَاكِ لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّيْلَةَ. فَقَامَ
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَهُوَ يَبْكِي.
وَقَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ
فِي جُمْلَةِ مَوْعِظَتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِمَكَّةَ: يَا صَبِيحَ الْوَجْهِ،
إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [ الْبَقَرَةِ: 166 ] قَالَ: حَدَّثَنَا
لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الْوُصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
فَبَكَى حَتَّى جَعَلَ يَشْهَقُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: اسْتَدْعَانِي الرَّشِيدُ يَوْمًا، وَقَدْ زَخْرَفَ
مَنَازِلَهُ، وَأَكْثَرَ الطَّعَامَ، وَالشَّرَابَ، وَاللَّذَّاتِ فِيهَا، ثُمَّ
اسْتَدْعَى أَبَا الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ
الْعَيْشِ، وَالنَّعِيمِ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ
يَسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْ تَ لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ
فَإِذَا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ عَنْ ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ
فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرُورِ
قَالَ: فَبَكَى الرَّشِيدُ بُكَاءً شَدِيدًا. فَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ يَحْيَى:
دَعَاكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لِتَسُرَّهُ فَأَحْزَنْتَهُ ؟ فَقَالَ لَهُ
الرَّشِيدُ: دَعْهُ؛ فَإِنَّهُ رَآنَا فِي عَمًى فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَنَا عَمًى.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ الرَّشِيدَ قَالَ لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ: عِظْنِي
بِأَبْيَاتٍ مِنَ الشِّعْرِ
وَأَوْجِزْ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرَفٍ وَلَا نَفَسٍ وَلَوْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجَّابِ
وَالْحَرَسِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ قَاصِدَةٌ لِكُلِّ مُدَّرِعٍ مِنْهَا
وَمُتَّرِسِ
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي
عَلَى الْيَبَسِ
قَالَ: فَخَرَّ الرَّشِيدُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَقَدْ حَبَسَ الرَّشِيدُ مَرَّةً أَبَا الْعَتَاهِيَةِ، وَأَرْصَدَ عَلَيْهِ مَنْ
يَأْتِيهِ بِمَا يَقُولُ، فَكَتَبَ مَرَّةً عَلَى جِدَارِ الْحَبْسِ:
أَمَا وَاللَّهِ إِنَّ الظُّلْمَ لُومٌ وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ
إِلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
قَالَ: فَاسْتَدْعَاهُ وَاسْتَجْعَلَهُ فِي حِلٍّ، وَوَهَبَهُ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَأَطْلَقَهُ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الرَّشِيدِ فَقَالَ: مَا
خَبَرُكَ ؟ فَقُلْتُ:
بِعَيْنِ اللَّهِ مَا تَخْفَى الْبُيُوتُ فَقَدْ طَالَ التَّحَمُّلُ وَالسُّكُوتُ
فَقَالَ: يَا فُلَانُ، مِائَةُ أَلْفٍ لِابْنِ عُيَيْنَةَ تُغْنِيهِ، وَتُغْنِي
عَقِبَهُ، وَلَا تَضُرُّ الرَّشِيدَ شَيْئًا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ مَعَ
الرَّشِيدِ فِي الْحَجِّ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَإِذَا عَلَى شَفِيرِهِ امْرَأَةٌ
صَبِيَّةٌ حَسْنَاءُ بَيْنَ يَدَيْهَا قَصْعَةٌ، وَهِيَ تَسْأَلُ فِيهَا،
وَتَقُولُ:
طَحْطَحَتْنَا طَحَاطِحُ الْأَعْوَامِ وَرَمَتْنَا حَوَادِثُ الْأَيَّامِ
فَأَتَيْنَاكُمْ نَمُدُّ أَكُفًّا لِفَضَالَاتِ زَادِكُمْ، وَالطَّعَامِ
فَاطْلُبُوا الْأَجْرَ، وَالْمَثُوبَةَ فِينَا أَيُّهَا الزَّائِرُونَ بَيْتَ
الْحَرَامِ
مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي، وَرَحْلِي فَارْحَمُوا غُرْبَتِي، وَذُلَّ مَقَامِي
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: فَذَهَبْتُ إِلَى الرَّشِيدِ فَأَخْبَرْتُهُ بِأَمْرِهَا،
فَجَاءَ بِنَفْسِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهَا، فَسَمِعَهَا فَرَحِمَهَا وَبَكَى،
وَأَمَرَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ أَنْ يَمْلَأَ قَصْعَتَهَا ذَهَبًا، فَمَلَأَهَا
حَتَّى جَعَلَتْ تَفِيضُ يَمِينًا، وَشِمَالًا.
وَسَمِعَ مَرَّةً الرَّشِيدُ أَعْرَابِيًّا يَحْدُو إِبِلَهُ فِي طَرِيقِ
الْحَجِّ، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الْمُجْمِعُ هَمًّا لَا تُهَمْ إِنَّكَ إِنْ تُقْضَى لَكَ الْحُمَّى
تُحَمْ
كَيْفَ تَوَقِّيكَ وَقَدْ جَفَّ الْقَلَمْ
وَحَطَّتِ الصِّحَّةُ مِنْكَ
وَالسَّقَمْ
فَقَالَ الرَّشِيدُ لِبَعْضِ الْخَدَمِ: مَا مَعَكَ ؟ قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ
دِينَارٍ. فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ. فَلَمَّا قَبَضَهَا
ضَرَبَ رَفِيقُهُ بِيَدِهِ عَلَى كَتِفِهِ، وَقَالَ مُتَمَثِّلًا:
وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ
فَأَمَرَ الرَّشِيدُ بَعْضَ الْخَدَمِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُتَمَثِّلَ مَا مَعَهُ
مِنَ الذَّهَبِ، فَإِذَا مَعَهُ مِائَتَا دِينَارٍ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ هَذَا الْمَثَلِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أُهْدِيَتْ
لَهُ هَدِيَّةٌ؛ جَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَفَرَّقَهَا عَلَى جُلَسَائِهِ، وَإِلَى
جَانِبِهِ قَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو، وَإِلَى جَانِبِ الْقَعْقَاعِ أَعْرَابِيٌّ
لَمْ يَفْضُلْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَأَطْرَقَ الْأَعْرَابِيُّ حَيَاءً، فَدَفَعَ
إِلَيْهِ الْقَعْقَاعُ الْجَامَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ، فَنَهَضَ الْأَعْرَابِيُّ،
وَهُوَ يَقُولُ:
وَكُنْتُ جَلِيسَ قَعْقَاعِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا يَشْقَى بِقَعْقَاعٍ جَلِيسُ
وَخَرَجَ الرَّشِيدُ يَوْمًا مِنْ عِنْدِ زُبَيْدَةَ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَقِيلَ
لَهُ: مِمَّ تَضْحَكُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: دَخَلَتْ إِلَيَّ
هَذِهِ الْمَرْأَةُ - يَعْنِي زَوْجَتَهُ زُبَيْدَةَ - فَأَكَلْتُ عِنْدَهَا،
وَنِمْتُ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إِلَّا بِصَوْتِ ذَهَبٍ يُصَبُّ، فَقُلْتُ: مَا
هَذَا ؟
قَالُوا: هَذِهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ قَدِمَتْ مِنْ مِصْرَ. فَقَالَتْ: هَبْهَا لِي يَابْنَ عَمِّ. فَقُلْتُ:
هِيَ لَكِ. ثُمَّ مَا خَرَجْتُ حَتَّى عَرْبَدَتْ عَلَيَّ، وَقَالَتْ: أَيُّ
خَيْرٍ رَأَيْتُ مِنْكَ ؟
وَقَالَ الرَّشِيدُ مَرَّةً لِلْمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ: مَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ
فِي الذِّئْبِ، وَلَكَ هَذَا الْخَاتَمُ، وَشِرَاؤُهُ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ
دِينَارٍ ؟ فَأَنْشَدَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يَنَامُ بِإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي بِأُخْرَى الرَّزَايَا فَهُو يَقْظَانُ
هَاجِعُ
فَقَالَ: مَا قُلْتَ هَذَا إِلَّا لِتَسْلُبَنَا الْخَاتَمَ. ثُمَّ أَلْقَاهُ
إِلَيْهِ، فَبَعَثَتْ زُبَيْدَةُ فَاشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ
دِينَارٍ، وَبَعَثَتْ بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ، وَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُكَ
مُعْجَبًا بِهِ. فَرَدَّهُ إِلَى الْمُفَضَّلِ، وَالدَّنَانِيرَ، وَقَالَ: مَا
كُنَّا لِنَهَبَ شَيْئًا، وَنَرْجِعَ فِيهِ.
وَقَالَ الرَّشِيدُ يَوْمًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ الْأَحْنَفِ: أَيُّ بَيْتٍ
قَالَتْهُ الْعَرَبُ أَرَقُّ ؟ فَقَالَ: قَوْلُ جَمِيلٍ فِي بُثَيْنَةَ:
أَلَا لَيْتَنِي أَعْمَى أَصَمُّ تَقُودُنِي بُثَيْنَةُ لَا يَخْفَى عَلَيَّ
كَلَامُهُا
فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: فَقَوْلُكَ أَرَقُّ مِنْ هَذَا حَيْثُ قُلْتَ:
طَافَ الْهَوَى فِي عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمْ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِي مِنْ
بَيْنِهِمْ وَقَفَا
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: فَقَوْلُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَقُّ مِنْ هَذَا
كُلِّهِ:
أَمَا يَكْفِيكِ أَنَّكِ تَمْلِكِينِي وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عَبِيدِي
وَأَنَّكِ لَوْ قَطَعْتِ يَدِي،
وَرِجْلِي لَقُلْتُ مِنَ الْهَوَى أَحْسَنْتِ زِيدِي
قَالَ: فَضَحِكَ الرَّشِيدُ، وَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ.
وَمِنْ شَعْرِ الرَّشِيدِ فِي ثَلَاثِ حَظِيَّاتٍ كُنَّ عِنْدَهُ مِنَ
الْخَوَاصِّ:
مَلَكَ الثَّلَاثُ الْآنِسَاتُ عِنَانِي وَحَلَلْنَ مِنْ قَلْبِي بِكُلِّ مَكَانِ
مَا لِي تُطَاوِعُنِي الْبَرِيَّةُ كُلُّهَا وَأُطِيعُهُنَّ، وَهُنَّ فِي
عِصْيَانِي
مَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ سُلْطَانَ الْهَوَى وَبِهِ قَوَيْنَ أَعَزُّ مِنْ
سُلْطَانِي
وَمِنْ شَعْرِهِ فِيمَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِقْدِ فِي كِتَابِهِ:
تُبْدِي صُدُودًا وَتُخْفِي تَحْتَهُ مِقَّةً فَالنَّفْسُ رَاضِيَةٌ وَالطَّرْفُ
غَضْبَانُ
يَا مَنْ بَذَلْتُ لَهُ خَدِّي فَزَلَّلَهُ وَلَيْسَ فَوْقِي سِوَى الرَّحْمَنِ
سُلْطَانُ
وَذَكَرَ أَبُو هِفَّانَ أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِ الرَّشِيدِ مِنَ الْجَوَارِي،
وَالْحَظَايَا، وَخَدَمِهِنَّ، وَخَدَمِ زَوْجَتِهِ، وَأَخَوَاتِهِ أَرْبَعَةُ
آلَافِ جَارِيَةٍ، وَأَنَّهُنَّ حَضَرْنَ كُلُّهُنَّ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَغَنَّتْهُ الْمُطْرِبَاتُ فَطَرِبَ جِدًّا، وَأَمَرَ بِمَالٍ فَنُثِرَ
عَلَيْهِنَّ، فَكَانَ
مَبْلَغُهُ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى أَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ الْمَدِينَةِ فَأُعْجِبَ بِهَا جِدًّا،
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَوَالِيهَا، وَمَنْ يَلُوذُ بِهِمْ لِيَقْضِيَ
حَوَائِجَهُمْ، فَقَدِمُوا فِي ثَمَانِينَ نَفْسًا، فَأَمَرَ الْحَاجِبَ الْفَضْلَ
بْنَ الرَّبِيعِ أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ، وَيَكْتُبَ حَوَائِجَهُمْ، فَكَانَ فِيهِمْ
رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ قَدْ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَهْوَى تِلْكَ
الْجَارِيَةَ، فَقَالَ لَهُ الْحَاجِبُ: مَا حَاجَتُكَ ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ
يُجْلِسَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ فُلَانَةٍ فَأَشْرَبَ ثَلَاثَةَ
أَرْطَالٍ مِنْ شَرَابٍ، فَتُغَنِّينِي ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. فَقَالَ: أَمَجْنُونٌ
أَنْتَ ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، ذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ،
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، وَأَنْ تَجْلِسَ مَعَهُ الْجَارِيَةُ بِحَيْثُ يَنْظُرُ
إِلَيْهِمَا، فَجَلَسَتْ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَالْخُدَّامُ بَيْنَ يَدَيْهَا
وَجَلَسَ الرَّجُلُ عَلَى كُرْسِيٍّ، فَشَرِبَ رِطْلًا، وَقَالَ لَهَا: غَنِّينِي:
خَلِيلَيَّ عُوجَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِنْدُ
بِأَرْضِكُمَا قَصْدَا
وَقُولَا لَهَا لَيْسَ الضَّلَالُ أَجَازَنَا وَلَكِنَّنَا جُزْنَا لِنَلْقَاكُمْ
عَمْدَا
غَدًا يَكْثُرُ الْبَاكُونَ مِنَّا، وَمِنْكُمُ وَتَزْدَادُ دَارِي مِنْ
دِيَارِكُمْ بُعْدَا
فَغَنَّتْهُ ثُمَّ اسْتَعْجَلَهُ الْخَادِمُ فَشَرِبَ رِطْلًا آخَرَ، وَقَالَ:
غَنِّينِي، جُعِلْتُ فِدَاكِ:
تَكَلَّمُ مِنَّا فِي الْوُجُوهِ
عُيُونُنَا فَنَحْنُ سُكُوتٌ، وَالْهَوَى يَتَكَلَّمُ
وَنَغْضَبُ أَحْيَانًا وَنَرْضَى بِطَرْفِنَا وَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَنَا لَيْسَ
يُعْلَمُ
فَغَنَّتْهُ، ثُمَّ شَرِبَ رِطْلًا ثَالِثًا، وَقَالَ: غَنِّينِي جَعَلَنِي
اللَّهُ فِدَاكِ:
أَحْسَنُ مَا كُنَّا تَفَرُّقُنَا وَخَانَنَا الدَّهْرُ، وَمَا خُنَّا
فَلَيْتَ ذَا الدَّهْرَ لَنَا مَرَّةً عَادَ لَنَا يَوْمًا كَمَا كُنَّا
قَالَ: ثُمَّ قَامَ الشَّابُّ إِلَى دَرَجَةٍ هُنَاكَ فَعَلَاهَا، ثُمَّ أَلْقَى
نَفْسَهُ مِنْ أَعْلَاهَا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَمَاتَ. فَقَالَ الرَّشِيدُ:
عَجِلَ الْفَتَى، وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَعْجَلْ لَوَهَبْتُهَا لَهُ.
وَفَضَائِلُهُ، وَمَكَارِمُهُ، وَمَآثِرُهُ، وَأَشْعَارُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، قَدْ
أَوْرَدَ الْأَئِمَّةُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ
ذَلِكَ أُنْمُوذَجًا صَالِحًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ
عِيَاضٍ يَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ أَعَزَّ عَلَيْنَا مِنْ مَوْتِ هَارُونَ
الرَّشِيدِ وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَزِيدَ فِي عُمُرِهِ مِنْ عُمُرِي.
قَالُوا: فَلَمَّا مَاتَ الرَّشِيدُ، وَظَهَرَتْ تِلْكَ الْفِتَنُ
وَالِاخْتِلَافَاتُ، وَالْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، عَرَفْنَا مَا كَانَ
يَحْمِلُ الْفُضَيْلَ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا رَآهُ فِي مَنَامِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ تُرْبَةٌ
حَمْرَاءُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذِهِ تُرْبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتْ
بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الرَّشِيدَ رَأَى فِي مَنَامِهِ
قَائِلًا يَقُولُ:
كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرِ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ..........
الشِّعْرَ إِلَى آخِرِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ رَآهُ أَخُوهُ مُوسَى الْهَادِي، وَأَبُوهُ
مُحَمَّدٌ الْمَهْدِيُّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ فِي حَيَاتِهِ، وَأَمَرَ
بِقِرَاءَةِ خَتْمَةٍ فِيهِ، وَأَنَّهُ حُمِلَ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ فَجَعَلَ
يَقُولُ: إِلَى هَاهُنَا تَصِيرُ يَابْنَ آدَمَ! وَيَبْكِي، وَأَمَرَ أَنْ
يُوَسَّعَ عِنْدَ صَدْرِهِ، وَأَنْ يُمَدَّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ
يَقُولُ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [ الْحَاقَّةِ:
28، 29 ] وَيَبْكِي.
وَيُقَالُ: إِنَّ آخَرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ حِينَ احْتُضِرَ: اللَّهُمَّ
انْفَعْنَا بِالْإِحْسَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا الْإِسَاءَةَ، يَا مَنْ لَا يَمُوتُ،
ارْحَمْ مَنْ يَمُوتُ.
وَكَانَ مَرَضُهُ بِالدَّمِ، وَقِيلَ: بِالسُّلِّ. وَكَانَ جِبْرِيلُ بْنُ
بَخْتَيْشُوعَ يَكْتُمُهُ مَا بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ، فَأَمَرَ الرَّشِيدُ رَجُلًا
أَنْ يَأْخُذَ مَاءَهُ فِي قَارُورَةٍ، وَيَذْهَبَ بِهِ إِلَى جِبْرِيلَ
فَيُرِيَهُ إِيَّاهُ، عَلَى أَنَّهُ لِمَرِيضٍ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ
لِرَجُلٍ عِنْدَهُ: هَذَا مِثْلُ مَاءِ ذَلِكَ الرَّجُلِ. فَفَهِمَ صَاحِبُ
الْقَارُورَةِ مَنْ عَنَى بِهِ، فَقَالَ لَهُ: بِاللَّهِ عَلَيْكَ أَخْبِرْنِي
عَنْ حَالِ صَاحِبِ هَذَا الْمَاءِ؛ فَإِنَّ لِي عَلَيْهِ مَالًا، فَإِنْ كَانَ
بِهِ رَجَاءٌ، وَإِلَّا أَخَذْتُهُ مِنْهُ. فَقَالَ: اذْهَبْ فَتَخَلَّصْ مِنْهُ؛
فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ إِلَّا أَيَّامًا. فَلَمَّا جَاءَ، وَأَخْبَرَ الرَّشِيدَ،
بَعَثَ إِلَى جِبْرِيلَ فَتَغَيَّبَ حَتَّى مَاتَ الرَّشِيدُ. وَقَدْ قَالَ
الرَّشِيدُ فِي هَذِهِ الْحَالِ:
إِنِّي بِطُوسَ مُقِيمٌ مَا لِي بِطُوسَ حَمِيمُ أَرْجُو إِلَهِي
لِمَا بِي فَإِنَّهُ بِي رَحِيمُ
لَقَدْ أَتَانِي بِطُوسَ
قَضَاؤُهُ الْمَحْتُومُ وَلَيْسَ إِلَّا رِضَائِي
وَالصَّبْرُ وَالتَّسْلِيمُ
مَاتَ بِطُوسَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى. وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ خَمْسٌ،
وَقِيلَ: سِتٌّ، وَقِيلَ: سَبْعٌ، وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَمُدَّةُ وِلَايَتِهِ لِلْخِلَافَةِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَشَهْرٌ،
وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ
ابْنُهُ صَالِحٌ، وَدُفِنَ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى طُوسَ يُقَالُ لَهَا سَنَابَاذُ
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَامَحَهُ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَأْتُ عَلَى خِيَامِ الرَّشِيدِ بِسَنَابَاذَ، وَالنَّاسُ
مُنْصَرِفُونَ مِنْ طُوسَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ:
مَنَازِلُ الْعَسْكَرِ مَعْمُورَةٌ وَالْمَنْزِلُ الْأَعْظَمُ مَهْجُورُ
خَلِيفَةُ اللَّهِ بِدَارِ الْبِلَى تَسْفِي عَلَى أَجْدَاثِهِ الْمُورُ
أَقْبَلَتِ الْعِيرُ تُبَاهِي بِهِ وَانْصَرَفَتْ تَنْدُبُهُ الْعِيرُ
وَقَدْ رَثَاهُ أَبُو الشِّيصِ فَقَالَ:
غَرَبَتْ فِي الشَّرْقِ شَمْسٌ فَلَهَا
الْعَيْنَانِ تَدْمَعْ
مَا رَأَيْنَا قَطُّ شَمْسًا غَرَبَتْ مِنْ حَيْثُ تَطْلُعْ
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِقَصَائِدَ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " " الْمُنْتَظَمِ " ": وَقَدْ خَلَّفَ
الرَّشِيدُ مِنَ الْمِيرَاثِ مَا لَمْ يُخَلِّفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، مِنَ
الْجَوَاهِرِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْأَمْتِعَةِ سِوَى الضِّيَاعِ، وَالدُّورِ مَا
قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَصَالِحِ النَّاسِ
تِسْعُمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ، وَنَيِّفٍ.
ذِكْرُ زَوْجَاتِهِ، وَبَنِيهِ، وَبَنَاتِهِ
تَزَوَّجَ أُمَّ جَعْفَرٍ زُبَيْدَةَ بِنْتَ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ، فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ
الْمَهْدِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَمَاتَتْ فِي سَنَةِ سِتَّ
عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي. وَتَزَوَّجَ أَمَةَ الْعَزِيزِ أُمَّ
وَلَدٍ كَانَتْ لِأَخِيهِ مُوسَى الْهَادِي فَوَلَدَتْ لَهُ عَلِيَّ بْنَ
الرَّشِيدِ. وَتَزَوَّجَ أُمَّ مُحَمَّدٍ بِنْتَ صَالِحٍ الْمِسْكِينِ،
وَالْعَبَّاسَةَ بِنْتَ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ، فَزُفَّتَا
إِلَيْهِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةَ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ بِالرَّقَّةِ.
وَتَزَوَّجَ عَزِيزَةَ بِنْتَ الْغِطْرِيفِ، وَهِيَ بِنْتُ خَالِهِ أَخِي أُمِّهِ
الْخَيْزُرَانِ وَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْعُثْمَانِيَّةَ، وَيُقَالُ
لَهَا: الْجُرَشِيَّةُ. لِأَنَّهَا وُلِدَتْ بِجُرَشَ بِالْيَمَنِ. وَتُوُفِّيَ
الرَّشِيدُ عَنْ أَرْبَعِ حَرَائِرَ: زُبَيْدَةَ، وَعَبَّاسَةَ، وَابْنَةِ
صَالِحٍ، وَالْعُثْمَانِيَّةِ هَذِهِ. وَأَمَّا الْحَظَايَا مِنَ الْجَوَارِي
فَكَثِيرٌ جِدًّا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ
أَرْبَعَةُ آلَافِ جَارِيَةٍ.
وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الذُّكُورُ فَمُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بْنُ زُبَيْدَةَ،
وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ مِنْ جَارِيَةٍ اسْمُهَا مَرَاجِلُ، وَمُحَمَّدٌ
أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: مَارِدَةُ،
وَالْقَاسِمُ الْمُؤْتَمَنُ مِنْ جَارِيَةٍ يُقَالُ لَهَا: قَصْفُ. وَعَلِيٌّ
أُمُّهُ أَمَةُ الْعَزِيزِ، وَصَالِحٌ مِنْ جَارِيَةٍ اسْمُهَا رَثْمُ،
وَمُحَمَّدٌ أَبُو يَعْقُوبَ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو عِيسَى، وَمُحَمَّدٌ أَبُو
الْعَبَّاسِ، وَمُحَمَّدٌ أَبُو عَلِيٍّ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ أُمَّهَاتِ
أَوْلَادٍ.
وَمِنَ الْإِنَاثِ سَكِينَةُ مِنْ قَصْفَ، وَأُمُّ حَبِيبٍ مِنْ مَارِدَةَ،
وَأَرْوَى، وَأُمُّ الْحَسَنِ، وَأُمُّ مُحَمَّدٍ حَمْدُونَةَ، وَفَاطِمَةُ،
وَأُمُّهَا غُصَصُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَخَدِيجَةُ، وَأُمُّ الْقَاسِمِ،
وَرَمْلَةُ، وَأُمُّ عَلِيٍّ، وَأُمُّ الْغَالِيَةِ، وَرَيْطَةُ، كُلُّهُنَّ مِنْ
أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ.
خِلَافَةُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ بْنِ
هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ
لَمَّا تُوُفِّيَ الرَّشِيدُ بِطُوسَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ كَتَبَ صَالِحُ بْنُ
الرَّشِيدِ إِلَى أَخِيهِ، وَلِيِّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ
الرَّشِيدِ الْمُلَقَّبِ بِالْأَمِينِ، وَهُوَ ابْنُ زُبَيْدَةَ، يُعْلِمُهُ
بِبَغْدَادَ بِوَفَاةِ أَبِيهِ، وَيُعَزِّيهِ فِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ
صُحْبَةَ رَجَاءٍ الْخَادِمِ، وَمَعَهُ الْخَاتَمُ، وَالْقَضِيبُ وَالْبُرْدَةُ
يَوْمَ الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ فَرَكِبَ
الْأَمِينُ مِنْ قَصْرِهِ بِالْخُلْدِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ
الَّذِي يُقَالُ لَهُ قَصْرُ الذَّهَبِ عَلَى شَطِّ بَغْدَادَ وَكَانَ ذَلِكَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ النِّصْفَ مِنْ جُمَادَى، فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَهُمْ، وَعَزَّاهُمْ فِي الرَّشِيدِ، وَبَسَطَ آمَالَ
النَّاسِ، وَوَعَدَهُمُ الْخَيْرَ، فَبَايَعَهُ الْخَوَاصُّ مِنْ قَوْمِهِ،
وَوُجُوهُ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَ بِصَرْفِ أُعْطِيَاتِ الْجُنْدِ عَنْ
سَنَتَيْنِ، نَزَلَ وَأَمَرَ عَمَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ أَنْ
يَأْخُذَ الْبَيْعَةَ لَهُ مِنْ بَقِيَّةِ النَّاسِ، فَلَمَّا انْتَظَمَ أَمْرُ
الْأَمِينِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَقَامَ حَالُهُ فِيهَا حَسَدَهُ أَخُوهُ
الْمَأْمُونُ وَوَقَعَ
الْخُلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ.
اخْتِلَافُ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ
وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَى
أَوَّلِ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَهَبَ جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ،
وَالدَّوَابِّ، وَالسِّلَاحِ لِوَلَدِهِ الْمَأْمُونِ وَجَدَّدَ لَهُ الْبَيْعَةَ،
وَكَانَ الْأَمِينُ قَدْ بَعَثَ بَكْرَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ بِكُتُبٍ فِي خِفْيَةٍ
لِيُوَصِّلَهَا إِلَى الْأُمَرَاءِ إِذَا مَاتَ الرَّشِيدُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الرَّشِيدُ نَفَذَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْأُمَرَاءِ، وَإِلَى صَالِحِ بْنِ
الرَّشِيدِ، وَفِيهَا كِتَابٌ إِلَى الْمَأْمُونِ يَأْمُرُهُ بِالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ، فَأَخَذَ صَالِحٌ الْبَيْعَةَ مِنَ النَّاسِ لِلْأَمِينِ،
وَارْتَحَلَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ بِالْجَيْشِ إِلَى بَغْدَادَ
وَقَدْ بَقِيَ فِي نُفُوسِهِمْ تَحَرُّجٌ مِنَ الْبَيْعَةِ الَّتِي أُخِذَتْ
مِنْهُمْ لِلْمَأْمُونِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمُ الْمَأْمُونُ يَدْعُوهُمْ إِلَى
بَيْعَتِهِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَوَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ،
وَلَكِنْ تَحَوَّلَ عَامَّةُ الْجَيْشِ إِلَى الْأَمِينِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ
الْمَأْمُونُ إِلَى أَخِيهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَبَعَثَ
إِلَيْهِ مِنْ هَدَايَا خُرَاسَانَ وَتُحَفِهَا، مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمِسْكِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَائِبٌ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَمَرَ الْأَمِينُ فِي
صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ بَعْدَ أَخْذِ الْبَيْعَةِ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بِبِنَاءِ مَيْدَانَيْنِ لِلصَّوَالِجَةِ،
فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ:
بَنَى أَمِينُ اللَّهِ مَيْدَانًا وَصَيَّرَ السَّاحَةَ بُسْتَانًا وَكَانَتِ
الْغِزْلَانُ فِيهِ بَانَا
يُهْدَى إِلَيْهِ فِيهِ غِزْلَانَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا قَدِمَتْ زُبَيْدَةُ مِنَ
الرَّقَّةِ بِالْخَزَائِنِ، وَمَا كَانَ عِنْدَهَا مِنَ التُّحَفِ وَالثِّيَابِ،
فَتَلَقَّاهَا ابْنُهَا الْأَمِينُ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمَعَهُ وُجُوهُ النَّاسِ.
وَأَقَرَّ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْمَأْمُونَ عَلَى مَا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ
خُرَاسَانَ وَالرَّيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَقَرَّ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَلَى الْجَزِيرَةِ
وَالثُّغُورِ، وَأَقَرَّ عُمَّالَ أَبِيهِ عَلَى الْبِلَادِ إِلَّا الْقَلِيلَ
مِنْهُمْ.
وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نِقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، قَتَلَهُ الْبُرْجَانُ،
وَكَانَ مُلْكُهُ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ إِسْتِبْرَاقُ
شَهْرَيْنِ فَمَاتَ، فَمَلَكَهُمْ مِيخَائِيلُ زَوْجُ أُخْتِ نِقْفُورَ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَرَافِعُ بْنُ
اللَّيْثِ فَاسْتَجَاشَ رَافِعٌ بِالتُّرْكِ، ثُمَّ هَرَبُوا وَبَقِيَ رَافِعٌ
وَحْدَهُ فَضَعُفَ أَمْرُهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى
بْنِ مُوسَى
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ
وَهُوَ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ الرُّفَعَاءِ رَوَى عَنْهُ
الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَدْ وَلِيَ الْمَظَالِمَ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ نَاظِرَ الصَّدَقَاتِ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ ثِقَةً
نَبِيلًا جَلِيلًا كَبِيرَ الْقَدْرِ، قَلِيلَ التَّبَسُّمِ، وَكَانَ يَتَّجِرُ
فِي الْبَزِّ فَيُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَيَحُجُّ مِنْهُ، وَيَبَرُّ
أَصْحَابَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ السُّفْيَانَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ
وَلَّاهُ الرَّشِيدُ الْقَضَاءَ، فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْمُبَارَكِ أَنَّهُ وَلِيَ الْقَضَاءَ بَعَثَ إِلَيْهِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ
وَيَلُومُهُ نَظْمًا وَنَثْرًا، فَاسْتَعْفَى ابْنُ عُلَيَّةَ الرَّشِيدَ مِنَ
الْقَضَاءِ فَأَعْفَاهُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ فِي
مَقَابِرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ
الْمُلَقَّبُ بِغُنْدَرٍ، رَوَى عَنْ شُعْبَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ خَلْقٍ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمْ
أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ. وَكَانَ ثِقَةً جَلِيلًا
حَافِظًا مُتْقِنًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ حِكَايَاتٌ تَدُلُّ
عَلَى تَغْفِيلِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي
بَعْدَهَا.
وَقَدْ لُقِّبَ بِهَذَا اللَّقَبِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ مِنَ
الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
هَارُونُ الرَّشِيدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ قَرِيبًا.
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، سَمِعَ أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ، وَالْأَعْمَشَ،
وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ وَجَمَاعَةً.
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الثِّقَاتِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. قَالَ
فِيهِ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ كَانَ خَيِّرًا فَاضِلًا لَمْ يَضَعْ جَنْبَهُ إِلَى
الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالُوا: وَمَكَثَ سِتِّينَ سَنَةً يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً
كَامِلَةً، وَصَامَ
ثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَتُوُفِّيَ وَلَهُ سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَلَمَّا احْتُضِرَ بَكَى عَلَيْهِ ابْنُهُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ عَلَامَ تَبْكِي ؟ وَاللَّهِ مَا أَتَى أَبُوكَ فَاحِشَةً قَطُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ أَهْلُ حِمْصَ نَائِبَهُمْ، فَعَزَلَهُ عَنْهُمُ الْأَمِينُ،
وَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعِيدٍ الْحَرَشِيَّ فَقَتَلَ طَائِفَةً
مِنْ وُجُوهِهَا، وَحَرَّقَ نَوَاحِيَهَا بِالنَّارِ، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ،
ثُمَّ هَاجُوا، فَضَرَبَ أَعْنَاقَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَيْضًا.
وَفِيهَا عَزَلَ الْأَمِينُ أَخَاهُ الْقَاسِمَ عَنِ الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ،
وَوَلَّى عَلَى ذَلِكَ خُزَيْمَةَ بْنَ خَازِمٍ وَأَمَرَ أَخَاهُ بِالْمُقَامِ
عِنْدَهُ بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْأَمِينُ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ مُوسَى عَلَى الْمَنَابِرِ
فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَبِالْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَسَمَّاهُ النَّاطِقَ
بِالْحَقِّ، ثُمَّ يُدْعَى بَعْدَهُ لِلْمَأْمُونِ، ثُمَّ لِلْقَاسِمِ، وَمِنْ
نِيَّةِ الْأَمِينِ الْوَفَاءُ لِأَخَوَيْهِ بِمَا شَرَطَ لَهُمَا، فَلَمْ يَزَلْ
بِهِ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ حَتَّى غَيَّرَ نِيَّتَهُ فِي أَخَوَيْهِ،
وَحَسَّنَ لَهُ خَلْعَ الْمَأْمُونِ وَالْقَاسِمِ، وَصَغَّرَ عِنْدَهُ شَأْنَ
الْمَأْمُونِ وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ خَوْفُهُ مِنَ الْمَأْمُونِ إِنْ
أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَيَسْعَى فِي خَلْعِهِ،
وَزَوَالِ الْوِلَايَةِ عَنْهُ، فَوَافَقَهُ الْأَمِينُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ
بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ بِوِلَايَةِ عَهْدِهِ، وَذَلِكَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ قَطَعَ الْبَرِيدَ عَنْهُ، وَتَرَكَ ضَرْبَ
اسْمِهِ عَلَى السِّكَّةِ
وَالطُّرُزِ، وَتَنَكَّرَ لِأَخِيهِ الْأَمِينِ، وَبَعَثَ رَافِعُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى الْمَأْمُونِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ، فَأَكْرَمَهُ الْمَأْمُونُ وَعَظَّمَهُ، وَجَاءَ هَرْثَمَةُ عَلَى إِثْرِهِ فَتَلَقَّاهُ الْمَأْمُونُ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَوَلَّاهُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمِينَ أَنَّ الْجُنُودَ قَدِ الْتَفَّتَ عَلَى أَخِيهِ الْمَأْمُونِ سَاءَهُ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ كِتَابًا وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رُسُلًا ثَلَاثَةً مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، يَسْأَلُهُ أَنْ يُجِيبَهُ إِلَى تَقْدِيمِ وَلَدِهِ مُوسَى عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَدْ سَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، فَأَظْهَرَ الْمَأْمُونُ الِامْتِنَاعَ وَشَرَعُوا فِي مُطَايَبَتِهِ، وَمُلَايَنَتِهِ، وَأَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَبَى كُلَّ الْإِبَاءِ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى: فَقَدْ خَلَعَ أَبِي نَفْسَهُ فَمَاذَا كَانَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ أَبَاكَ كَانَ امْرَأً مُكْرَهًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَأْمُونُ يَعِدُ الْعَبَّاسَ وَيُمَنِّيهِ حَتَّى بَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ كَانَ يُرَاسِلُهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ بِبَغْدَادَ وَيُنَاصِحُهُ، وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ إِلَى الْأَمِينِ أَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ جَوَابِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ عَلَى الْأَمِينِ فِي خَلْعِ الْمَأْمُونِ فَخَلَعَهُ، وَأَمَرَ بِالدُّعَاءِ لِوَلَدِهِ فِي الْعِرَاقِ كُلِّهِ وَبِلَادِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَمَّاهُ النَّاطِقَ بِالْحَقِّ، وَجَعَلُوا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَأْمُونِ وَيَذْكُرُ مَسَاوِئَهُ، وَبَعَثُوا إِلَى مَكَّةَ فَأَخَذُوا الْكِتَابَ الَّذِي كَتَبَهُ الرَّشِيدُ، وَأَوْدَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ، فَمَزَّقَهُ الْأَمِينُ، وَأَكَّدُوا الْبَيْعَةَ لِلنَّاطِقِ بِالْحَقِّ مُوسَى بْنِ الْأَمِينِ عَلَى مَا يَلِيهِ أَبُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَجَرَتْ بَيْنَ الْأَمِينِ وَالْمَأْمُونِ مُكَاتَبَاتٌ وَرُسُلٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي " " تَارِيخِهِ " " ثُمَّ آلَ
الْحَالُ إِلَى أَنِ احْتَفَظَ كُلٌّ
مِنْهُمَا عَلَى بِلَادِهِ وَحَصَّنَهَا وَهَيَّأَ الْجُيُوشَ وَالْجُنُودَ
وَتَأَلَّفَ الرَّعَايَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَدَتِ الرُّومُ عَلَى مَلِكِهِمْ مِيخَائِيلَ فَرَامُوا
خَلْعَهُ وَقَتْلَهُ فَتَرَكَ الْمُلْكَ وَتَرَهَّبَ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ
لِيُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى، وَقِيلَ:
عَلِيُّ بْنُ الرَّشِيدِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَلْمُ بْنُ سَالِمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ
بِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ وَالثَّوْرِيِّ. وَعَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ
عَرَفَةَ. وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ نَرَ لَهُ
فِرَاشًا، وَصَامَهَا كُلَّهَا إِلَّا يَوْمَ عِيدِ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، وَلَمْ
يَرْفَعْ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَكَانَ دَاعِيَةً إِلَى الْإِرْجَاءِ،
ضَعِيفَ الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ رَأْسًا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ بَغْدَادَ فَشَنَّعَ عَلَى
الرَّشِيدِ، فَحَبَسَهُ وَقَيَّدَهُ بِاثْنَيْ عَشَرَ قَيْدًا، فَلَمْ يَزَلْ
أَبُو مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ فِيهِ حَتَّى تَرَكُوهُ فِي أَرْبَعَةِ قُيُودٍ، ثُمَّ
كَانَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الرَّشِيدُ أَطْلَقَتْهُ زُبَيْدَةُ
فَرَجَعَ إِلَى
أَهْلِهِ وَكَانُوا بِمَكَّةَ قَدْ جَاءُوا حُجَّاجًا فَمَرِضَ بِمَكَّةَ.
وَاشْتَهَى يَوْمًا بَرَدًا، فَسَقَطَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَرَدٌ، فَأَكَلَ
مِنْهُ. وَمَاتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، كَانَتْ غَلَّتُهُ فِي
السَّنَةِ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا يُنْفِقُهَا كُلَّهَا عَلَى أَهْلِ
الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو النَّصْرِ الْجُهَنِيُّ الْمُصَابُ، كَانَ مُقِيمًا بِالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ بِالصُّفَّةِ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ
مِنْهُ، وَكَانَ يُطِيلُ السُّكُوتَ، فَإِذَا سُئِلَ أَجَابَ بِجَوَابٍ حَسَنٍ،
وَيَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُفِيدَةٍ تُؤْثَرُ عَنْهُ، وَتُكْتَبُ، وَكَانَ
يَخْرُجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيَقِفُ عَلَى مَجَامِعِ النَّاسِ
فَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا
يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا
[ لُقْمَانَ: 33 ] وَ يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا
يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [ الْبَقَرَةِ: 48 ]
ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ جَمَاعَةٍ إِلَى جَمَاعَةٍ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ
فَيُصَلِّيَ فِيهِ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُصَلِّيَ
التالي بمشيئة الله الواحد ج25.وج26.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق