ج1.
ج1. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَبُو الْفِدَاءِ عِمَادُ
الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الْأَوَّلِ الْآخِرِ، الْبَاطِنِ الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ، الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ
شَيْءٌ، الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَهُ
شَيْءٌ، الْأَزَلِيُّ الْقَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مَوْصُوفًا
بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا يَزَالُ دَائِمًا مُسْتَمِرًّا بَاقِيًا سَرْمَدِيًّا
بِلَا انْقِضَاءٍ وَلَا انْفِصَالٍ وَلَا زَوَالٍ، يَعْلَمُ دَبِيبَ النَّمْلَةِ
السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ،
وَعَدَدَ الرِّمَالِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَرَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَزَيَّنَهَا بِالْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَاتِ،
وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَسَوَّى فَوْقَهُنَّ سَرِيرًا
شَرْجَعًا عَالِيًا مُنِيفًا مُتَّسِعًا مُقَبَّبًا مُسْتَدِيرًا، هُوَ الْعَرْشُ
الْعَظِيمُ لَهُ قَوَائِمُ عِظَامٌ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ،
وَتَحُفُّهُ الْكَرُوبِيُّونَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَهُمْ زَجَلٌ
بِالتَّقْدِيسِ وَالتَّعْظِيمِ وَكَذَا أَرْجَاءُ السَّمَاوَاتِ مَشْحُونَةٌ
بِالْمَلَائِكَةِ،
وَيَفِدُ مِنْهُمْ
فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ بِالسَّمَاءِ
السَّابِعَةِ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ فِي تَهْلِيلٍ
وَتَحْمِيدٍ وَتَكْبِيرٍ وَصَلَاةٍ وَتَسْلِيمٍ. وَوَضَعَ الْأَرْضَ لِلْأَنَامِ
عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ
فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا، فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً
لِلسَّائِلِينَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَأَنْبَتَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ دَلَالَةً لِلْأَلِبَّاءِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ
الْعِبَادُ إِلَيْهِ فِي شِتَائِهِمْ وَصَيْفِهِمْ وَلِكُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ
إِلَيْهِ وَيَمْلِكُونَهُ مِنْ حَيَوَانٍ بَهِيمٍ.
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، وَجَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ
مَاءٍ مَهِينٍ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، فَجَعَلَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا بَعْدَ أَنْ
لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَشَرَّفَهُ بِالْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، خَلَقَ
بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ آدَمَ أَبَا الْبَشَرِ وَصَوَّرَ جُثَّتَهُ وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ وَخَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ حَوَّاءَ
أُمَّ الْبَشَرِ، فَآنَسَ بِهَا وَحْدَتَهُ وَأَسْكَنَهَا جَنَّتَهُ وَأَسْبَغَ
عَلَيْهِمَا نِعْمَتَهُ، ثُمَّ أَهْبَطَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ ; لِمَا سَبَقَ فِي
ذَلِكَ مِنْ حِكْمَةِ الْحَكِيمِ، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً
وَقَسَّمَهُمْ بِقَدَرِهِ الْعَظِيمِ: مُلُوكًا وَرُعَاةً، وَفُقَرَاءَ
وَأَغْنِيَاءَ، وَأَحْرَارًا وَعَبِيدًا، وَحَرَائِرَ وَإِمَاءً، وَأَسْكَنَهُمْ
أَرْجَاءَ الْأَرْضِ طُولَهَا وَالْعَرْضَ، وَجَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِيهَا
يَخْلُفُ الْبَعْضُ مِنْهُمُ الْبَعْضَ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ وَالْعَرْضِ عَلَى
الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، وَسَخَّرَ
لَهُمُ
الْأَنْهَارَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ تَشُقُّ الْأَقَالِيمَ إِلَى الْأَمْصَارِ
مَا بَيْنَ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَاتِ وَالْأَوْطَارِ،
وَأَنْبَعَ لَهُمُ الْعُيُونَ وَالْآبَارَ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ السَّحَابَ
بِالْأَمْطَارِ; فَأَنْبَتَ لَهُمْ سَائِرَ صُنُوفِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ
وَآتَاهُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلُوهُ بِلِسَانِ حَالِهِمْ وَقَالِهِمْ: وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
[ إِبْرَاهِيمَ: 34 ]. فَسُبْحَانَ الْكَرِيمِ الْغَنِيِّ الْعَظِيمِ الْحَلِيمِ،
وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ
خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ وَيَسَّرَ لَهُمُ السَّبِيلَ وَأَنْطَقَهُمْ ; أَنْ
أَرْسَلَ رُسُلَهُ إِلَيْهِمْ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ عَلَيْهِمْ مُبَيِّنَةً
حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَأَخْبَارَهُ وَأَحْكَامَهُ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ فِي
الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ; فَالسَّعِيدُ مَنْ قَابَلَ
الْأَخْبَارَ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالْأَوَامِرَ بِالِانْقِيَادِ،
وَالنَّوَاهِيَ بِالتَّعْظِيمِ ; فَفَازَ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَزُحْزِحَ عَنْ
مَقَامِ الْمُكَذِّبِينَ فِي الْجَحِيمِ ذَاتِ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ
وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
أَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ يَمْلَأُ أَرْجَاءَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ دَائِمًا أَبَدَ الْآبِدِينَ وَدَهْرَ الدَّاهِرِينَ
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانٍ، وَوَقْتٍ وَحِينٍ، كَمَا
يَنْبَغِي لِجَلَالِهِ الْعَظِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ وَوَجْهِهِ
الْكَرِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، وَلَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ لَهُ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ
لَهُ وَلَا وَزِيرَ لَهُ وَلَا مُشِيرَ لَهُ، وَلَا عَدِيدَ وَلَا نَدِيدَ وَلَا
قَسِيمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَحَبِيبُهُ
وَخَلِيلُهُ الْمُصْطَفَى مِنْ خُلَاصَةِ الْعَرَبِ الْعَرْبَاءِ مِنَ
الصَّمِيمِ،
خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَصَاحِبُ الْحَوْضِ الْأَكْبَرِ الرَّوَاءِ صَاحِبُ
الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحَامِلُ اللِّوَاءِ الَّذِي
يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهِ
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى الْخَلِيلُ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى سَائِرِ إِخْوَانِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ
وَشَرَّفَ وَكَرَّمَ أَزْكَى صَلَاةٍ وَتَسْلِيمٍ وَأَعْلَى تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ
وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ الْغُرِّ الْكِرَامِ السَّادَةِ
النُّجَبَاءِ الْأَعْلَامِ خُلَاصَةِ الْعَالَمِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ مَا
اخْتَلَطَ الظَّلَامُ بِالضِّيَاءِ وَأَعْلَنَ الدَّاعِي بِالنِّدَاءِ وَمَا
نَسَخَ النَّهَارُ ظَلَامَ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَهَذَا الْكِتَابُ أَذْكُرُ فِيهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ
تَوْفِيقِهِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ مِنْ ذِكْرِ
مَبْدَأِ الْمَخْلُوقَاتِ: مِنْ خَلْقِ الْعَرْشِ، وَالْكُرْسِيِّ،
وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَكَيْفِيَّةِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَقَصَصِ النَّبِيِّينَ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ النُّبُوَّةُ
إِلَى أَيَّامِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
فَنَذْكُرُ سِيرَتَهُ كَمَا يَنْبَغِي فَنَشْفِي الصُّدُورَ وَالْغَلِيلَ
وَنُزِيحُ الدَّاءَ عَنِ الْعَلِيلِ، ثُمَّ نَذْكُرُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى
زَمَانِنَا وَنَذْكُرُ الْفِتَنَ وَالْمَلَاحِمَ، وَأَشْرَاطَ السَّاعَةِ، ثُمَّ
الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ، وَأَهْوَالَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ صِفَةَ ذَلِكَ وَمَا فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ، ثُمَّ صِفَةَ
النَّارِ، ثُمَّ صِفَةَ الْجِنَانِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ الْحِسَانِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ
وَالسَّنَةِ وَالْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ الْمَنْقُولَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ
الْعُلَمَاءِ وَوَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْآخِذِينَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ
الْمُصْطَفَوَيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى مَنْ جَاءَ بِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ.
وَلَسْنَا نَذْكُرُ
مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ إِلَّا مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي نَقْلِهِ، مِمَّا
لَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ مِمَّا فِيهِ
بَسْطٌ لِمُخْتَصَرٍ عِنْدَنَا، أَوْ تَسْمِيَةٌ لِمُبْهَمٍ وَرَدَ بِهِ شَرْعُنَا
مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ لَنَا فَنَذْكُرُهُ عَلَى سَبِيلِ
التَّحَلِّي بِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادِ
عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا الِاعْتِمَادُ وَالِاسْتِنَادُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَحَّ نَقْلُهُ
أَوْ حَسُنَ وَمَا كَانَ فِيهِ ضَعْفٌ نُبَيِّنُهُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَكِيمِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ:
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ
لَدُنَّا ذِكْرًا [ طه: 99 ]. وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا مَضَى: مِنْ خَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ،
وَذِكْرِ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ، وَكَيْفَ فَعَلَ بِأَوْلِيَائِهِ، وَمَاذَا
أَحَلَّ بِأَعْدَائِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ بَيَانًا شَافِيًا - كَمَا سَنُورِدُ عِنْدَ كُلِّ فَصْلٍ
مَا وَصَلَ إِلَيْنَا عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ
تِلْوَ الْآيَاتِ الْوَارِدَاتِ فِي ذَلِكَ - فَأَخْبَرَنَا بِمَا نَحْتَاجُ
إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَكَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِمَّا قَدْ يَتَزَاحَمُ
عَلَى عِلْمِهِ وَيَتَرَاجَمُ فِي فَهْمِهِ طَوَائِفُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ
يَسْتَوْعِبُ نَقْلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا أَيْضًا وَلَسْنَا نَحْذُو
حَذْوَهُمْ وَلَا نَنْحُو نَحْوَهُمْ، وَلَا نَذْكُرُ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلَ
عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ، وَنُبَيِّنُ مَا فِيهِ حَقٌّ مِنْهَا، يُوَافِقُ مَا
عِنْدَنَا، وَمَا خَالَفَهُ يَقَعُ فِيهِ الْإِنْكَارُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
بَلِّغُوا عَنِّي
وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَحَدِّثُوا
عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا عِنْدَنَا، فَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا
يُصَدِّقُهَا وَلَا مَا يُكَذِّبُهَا فَيَجُوزُ رِوَايَتُهَا لِلِاعْتِبَارِ،
وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَسْتَعْمِلُهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا. فَأَمَّا مَا شَهِدَ
لَهُ شَرْعُنَا بِالصِّدْقِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَيْهِ اسْتِغْنَاءً بِمَا
عِنْدَنَا، وَمَا شَهِدَ لَهُ شَرْعُنَا مِنْهَا بِالْبُطْلَانِ فَذَاكَ مَرْدُودٌ
لَا يَجُوزُ حِكَايَتُهُ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَالْإِبْطَالِ،
فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلَهُ الْحَمْدُ قَدْ أَغْنَانَا بِرَسُولِهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَائِرِ الشَّرَائِعِ،
وَبِكِتَابِهِ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ ; فَلَسْنَا نَتَرَامَى عَلَى مَا
بِأَيْدِيهِمْ مِمَّا قَدْ وَقَعَ فِيهِ خَبْطٌ وَخَلْطٌ وَكَذِبٌ وَوَضْعٌ وَتَحْرِيفٌ
وَتَبْدِيلٌ وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ نَسْخٌ وَتَغْيِيرٌ، فَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ
قَدْ بَيَّنَهُ لَنَا رَسُولُنَا وَشَرَحَهُ وَأَوْضَحَهُ، عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ
وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كِتَابُ اللَّهِ
فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ وَحَكْمُ مَا بَيْنَكُمْ،
وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ
اللَّهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَقَالَ أَبُو
ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أَذْكَرَنَا
مِنْهُ عِلْمًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ وَرَوَى عِيسَى بْنُ مُوسَى
غُنْجَارُ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
مُسْلِمٍ عَنْ
طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ
مَنَازِلَهُمْ وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ
وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ فِي أَطْرَافِهِ
هَكَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ عِيسَى غُنْجَارُ عَنْ أَبِي
حَمْزَةَ عَنْ رَقَبَةَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ
ثَابِتٍ حَدَّثَنَا عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ الْيَشْكُرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا
حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى
الْعَصْرَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ،
فَحَدَّثَنَا بِمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحَفَظُنَا.
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ فَرَوَاهُ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ مِنْ صَحِيحِهِ
عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، وَحَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ
جَمِيعًا، عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ النَّبِيلِ، عَنْ
عَزْرَةَ، عَنْ عِلْبَاءَ، عَنْ أَبِي زَيْدٍ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ بْنِ
رِفَاعَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَعَفَّانُ
قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ،
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ
الشَّمْسِ
حَفِظَهَا مَنْ
حَفِظَهَا وَنَسِيَهَا مَنْ نَسِيَهَا. قَالَ عَفَّانُ: قَالَ حَمَّادٌ:
وَأَكْثَرُ حِفْظِي أَنَّهُ قَالَ: بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ
الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ، أَلَا فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ.
وَذَكَرَ تَمَامَ الْخُطْبَةِ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ
مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ قَالَ: أَلَا إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا
فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى
مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ ذَاتَ يَوْمٍ نَهَارًا، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَنَا
إِلَى أَنْ غَابَتِ الشَّمْسُ، فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ إِلَّا حَدَّثَنَاهُ حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ وَنَسِيَ ذَلِكَ
مَنْ نَسِيَهُ فَكَانَ مِمَّا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا
خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ. وَذَكَرَ تَمَامَهَا
إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ دَنَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ، فَقَالَ " وَإِنَّ
مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ
يَوْمِكُمْ هَذَا فِيمَا مَضَى مِنْهُ ".
وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [ الزُّمَرِ: 62 ]. فَكُلُّ مَا سِوَاهُ
تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ، مُكَوَّنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ
يَكُنْ، مُحْدَثٌ بَعْدَ عَدَمِهِ، فَالْعَرْشُ الَّذِي هُوَ سَقْفُ
الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ جَامِدٍ
وَنَاطِقٍ، الْجَمِيعُ خَلْقُهُ وَمِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ
وَتَحْتَ تَصْرِيفِهِ وَمَشِيئَتِهِ. خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي
الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ
فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
[ الْحَدِيدِ: 4 ]. وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ قَاطِبَةً لَا يَشُكُّ
فِي ذَلِكَ مُسْلِمٌ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ،
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَهِيَ كَأَيَّامِنَا هَذِهِ، أَوْ كُلُّ
يَوْمٍ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا
ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ وَسَنَتَعَرَّضُ لِإِيرَادِهِ فِي مَوْضِعِهِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ كَانَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْءٌ
مَخْلُوقٌ قَبْلَهُمَا ؟ فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمَا شَيْءٌ، وَأَنَّهُمَا خُلِقَتَا مِنَ الْعَدَمِ
الْمَحْضِ. وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ كَانَ قَبْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
مَخْلُوقَاتٌ أُخَرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ. [ هُودٍ: 7 ].
الْآيَةَ. وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ كَمَا سَيَأْتِي كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنْبَأَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ وَكِيعِ بْنِ حُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رَزِينٍ لَقِيطِ بْنِ عَامِرٍ الْعُقَيْلِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ؟ قَالَ: كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ وَمَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ. وَرَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ وَلَفْظُهُ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ وَبَاقِيهِ سَوَاءٌ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي أَيِّهَا خَلَقَ أَوَّلًا ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: خَلَقَ الْقَلَمَ قَبْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَبَعْدَ الْقَلَمِ السَّحَابَ الرَّقِيقَ وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ
اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا
هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَفْظُ أَحْمَدَ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِيمَا
نَقَلَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْعَلَاءِ الْهَمَذَانِيُّ وَغَيْرُهُ ; أَنَّ
الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ
مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي
أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ
مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
قَالُوا: فَهَذَا التَّقْدِيرُ هُوَ كِتَابَتُهُ بِالْقَلَمِ الْمَقَادِيرَ،
وَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ الْعَرْشِ، فَثَبَتَ
تَقَدُّمُ خَلْقِ الْعَرْشِ عَلَى الْقَلَمِ الَّذِي كَتَبَ بِهِ الْمَقَادِيرَ
كَمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْجَمَاهِيرُ. وَيُحْمَلُ حَدِيثُ الْقَلَمِ عَلَى
أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصِيْنٍ قَالَ: قَالَ أَهْلُ
الْيَمَنِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جِئْنَاكَ
لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ ؟
فَقَالَ: كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَعَهُ وَفِي
رِوَايَةٍ: غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ
كُلَّ شَيْءٍ
وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَفِي لَفْظٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. فَسَأَلُوهُ عَنِ ابْتِدَاءِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالُوا جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَجَابَهُمْ عَمَّا سَأَلُوا فَقَطْ، وَلِهَذَا لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِخَلْقِ الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْعَرْشِ رَوَاهُ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النُّورُ وَالظُّلْمَةُ، ثُمَّ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَ الظُّلْمَةَ لَيْلًا أَسْوَدَ مُظْلِمًا، وَجَعَلَ النُّورَ نَهَارًا مُضِيئًا مُبْصِرًا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ الَّذِي خَلَقَ رَبُّنَا بَعْدَ الْقَلَمِ الْكُرْسِيُّ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ الْكُرْسِيِّ الْعَرْشَ، ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْهَوَاءَ وَالظُّلْمَةَ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَاءَ فَوَضَعَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ فِيمَا
وَرَدَ فِي صِفَةِ خَلْقِ الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ [ غَافِرٍ: 15 ].
وَقَالَ تَعَالَى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ الْمُؤْمِنُونَ: 116 ]. وَقَالَ اللَّهُ: لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ النَّمْلِ: 26 ]. وَقَالَ: وَهُوَ الْغَفُورُ
الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [ الْبُرُوجِ: 14 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طه: 5 ]. وَقَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ [ الْأَعْرَافِ: 54 ]. فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَالَ
تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا
وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا [ غَافِرٍ: 7 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [ الْحَاقَّةِ: 17
]. وَقَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الزُّمَرِ: 75 ]. وَفِي الدُّعَاءِ الْمَرْوِيِّ
فِي الصَّحِيحِ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ
الْحَلِيمُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبِ بْنِ
خَالِدٍ، حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُدْرُونَ مَا هَذَا قَالَ قُلْنَا: السَّحَابُ قَالَ: وَالْمُزْنُ قَالَ: قُلْنَا: وَالْمُزْنُ قَالَ: وَالْعَنَانُ قَالَ: فَسَكَتْنَا فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؟ قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوْعَالٍ بَيْنَ رُكَبِهِنَّ وَأَظْلَافِهِنَّ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ. هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَرَوَى شَرِيكٌ بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ سِمَاكٍ وَوَقَفَهُ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ:
وَهَلْ تَدْرُونَ بُعْدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي. قَالَ: بُعْدُ مَا بَيْنَهُمَا إِمَّا وَاحِدَةٌ أَوِ اثْنَتَانِ أَوِ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَالْبَاقِي نَحْوُهُ. وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنْ جَرِيرٍ قَالَ أَحْمَدُ: كَتَبْنَاهُ مِنْ نُسْخَتِهِ وَهَذَا لَفْظُهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَهَدَتِ الْأَنْفُسُ، وَجَاعَتِ الْعِيَالُ، وَنَهَكَتِ الْأَمْوَالُ، وَهَلَكَتِ الْأَنْعَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا، فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ، وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا تَقُولُ ؟ ! وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ وَيْحَكَ إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ ؟ إِنَّ عَرْشَهُ عَلَى سَمَاوَاتِهِ لَهَكَذَا وَقَالَ بِأَصَابِعِهِ مِثْلَ الْقُبَّةِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَيَئِطُّ بِهِ أَطِيطَ الرَّحْلِ بِالرَّاكِبِ. قَالَ ابْنُ بَشَّارٍ فِي حَدِيثِهِ: " إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ ". وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى، وَابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُقْبَةَ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ. وَالْحَدِيثُ بِإِسْنَادِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ، هُوَ الصَّحِيحُ، وَافَقَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ; يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَكَانَ سَمَاعُ عَبْدِ الْأَعْلَى، وَابْنِ الْمُثَنَّى، وَابْنِ بَشَّارٍ مِنْ نُسْخَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا بَلَغَنِي. تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهَا أَبُو دَاوُدَ. وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ جُزْءًا فِي الرَّدِّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ سَمَّاهُ بِ ( بَيَانِ الْوَهْمِ وَالتَّخْلِيطِ الْوَاقِعِ فِي حَدِيثِ الْأَطِيطِ ) وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي الطَّعْنِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ رَاوِيهِ، وَذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ غَيْرِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابَيِ السُّنَّةِ لَهُمَا، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي مُخْتَارَاتِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ. قَالَ: فَعَظَّمَ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَقَالَ: إِنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنَّ لَهُ أَطِيطًا كَأَطِيطِ الرَّحْلِ الْجَدِيدِ مِنْ ثِقَلِهِ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَلِيفَةَ هَذَا لَيْسَ بِذَاكَ الْمَشْهُورِ، وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عُمَرَ نَظَرٌ، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا وَمُرْسَلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزِيدُ فِيهِ زِيَادَةً غَرِيبَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ; فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ. يُرْوَى: وَفَوْقَهُ بِالْفَتْحِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَبِالضَّمِّ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ: وَهُوَ أَحْسَنُ. أَيْ: وَأَعْلَاهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ أَهْلَ الْفِرْدَوْسِ يَسْمَعُونَ أَطِيطَ الْعَرْشِ، وَهُوَ تَسْبِيحُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقَدِ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي كِتَابِ صِفَةِ الْعَرْشِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: أَنَّ الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، بُعْدُ مَا بَيْنَ قُطْرَيْهِ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَذَكَرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [ الْمَعَارِجِ: 4 ]. أَنَّهُ بُعْدُ مَا بَيْنَ الْعَرْشِ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ مَسِيرَةُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَّ اتِّسَاعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ الْعَرْشَ فَلَكٌ مُسْتَدِيرٌ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ مُحِيطٌ بِالْعَالَمِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَرُبَّمَا سَمَّوْهُ الْفَلَكَ التَّاسِعَ وَالْفَلَكَ الْأَطْلَسَ وَالْأَثِيرَ. وَهَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ
أَنَّ لَهُ
قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْفَلَكُ لَا يَكُونُ لَهُ قَوَائِمُ
وَلَا يُحْمَلُ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ فَوْقَ الْجَنَّةِ، وَالْجَنَّةُ فَوْقَ
السَّمَاوَاتِ، وَفِيهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَالْبُعْدُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْكُرْسِيِّ لَيْسَ هُوَ نِسْبَةُ فَلَكٍ إِلَى فَلَكٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ
الْعَرْشَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّرِيرِ الَّذِي لِلْمَلِكِ كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [ النَّمْلِ: 23 ]. وَلَيْسَ هُوَ
فَلَكًا، وَلَا تَفْهَمُ مِنْهُ الْعَرَبُ ذَلِكَ، وَالْقُرْآنُ إِنَّمَا نَزَلَ
بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ سَرِيرٌ ذُو قَوَائِمَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ،
وَهُوَ كَالْقُبَّةِ عَلَى الْعَالَمِ وَهُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [
غَافِرٍ: 7 ]. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةٌ،
وَفَوْقَ ظُهُورِهِنَّ الْعَرْشُ، وَقَالَ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ
فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [ الْحَاقَّةِ: 17 ].
وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ
مِنْهُمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى
حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، وَأَرْبَعَةٌ يَقُولُونَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
وَبِحَمْدِكَ، لَكَ الْحَمْدُ عَلَى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. فَأَمَّا
الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ هُوَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَدَّقَ أُمَيَّةَ بْنَ أَبِي الصَّلْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ
شِعْرِهِ فَقَالَ:
رُجُلٌ وَثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ وَالنِّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ
مُرْصَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ فَقَالَ:
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا
يَتَوَرَّدُ
لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ. فَإِنَّهُ
حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ حَمَلَةَ
الْعَرْشِ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ، فَيُعَارِضُهُ حَدِيثُ الْأَوْعَالِ اللَّهُمَّ
إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ إِثْبَاتَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذِهِ
الصِّفَاتِ لَا يَنْفِي مَا عَدَاهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي الْعَرْشِ قَوْلُهُ:
مَجِّدُوا اللَّهَ فَهُوَ لِلْمَجْدِ أَهْلٌ رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ أَمْسَى
كَبِيرَا
بِالْبِنَاءِ الْعَالِي الَّذِي بَهَرَ النَّاسَ وَسَوَّى فَوْقَ السَّمَاءِ
سَرِيرَا
شَرْجَعًا لَا يَنَالُهُ بَصَرُ الْعَيْنِ تَرَى حَوْلَهُ الْمَلَائِكُ صُورَا
صُورٌ جَمْعُ
أَصْوَرَ، وَهُوَ الْمَائِلُ الْعُنُقِ لِنَظَرِهِ إِلَى الْعُلُوِّ،
وَالشَّرْجَعُ هُوَ الْعَالِي الْمُنِيفُ، وَالسَّرِيرُ هُوَ الْعَرْشُ فِي
اللُّغَةِ، وَمِنْ شِعْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
الَّذِي عَرَّضَ بِهِ عَنِ الْقِرَاءَةِ لِامْرَأَتِهِ حِينَ اتَّهَمَتْهُ
بِجَارِيَتِهِ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا
وَتَحْمِلُهُ مَلَائِكَةٌ كِرَامٌ مَلَائِكَةُ الْإِلَهِ مُسَوِّمِينَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ
أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي
أَبِي، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ
عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ
أَنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ
عَامٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَلَفْظُهُ مَخْفِقُ الطَّيْرِ سَبْعُمِائَةِ
عَامٍ.
وَأَمَّا الْكُرْسِيُّ: فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْكُرْسِيُّ هُوَ الْعَرْشُ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ الْحَسَنِ بَلِ الصَّحِيحُ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّ الْكُرْسِيَّ غَيْرُ الْعَرْشِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا قَالَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [ الْبَقَرَةِ: 255 ]. أَيْ عِلْمُهُ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْعَرْشُ لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ رَوَاهُ شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ الْفَلَّاسُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ الْكَبِيرِ، وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ: الْكُرْسِيُّ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ، وَالْكُرْسِيُّ بَيْنَ يَدَيِ
الْعَرْشِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ بُسِطْنَ، ثُمَّ وُصِلْنَ بَعْضُهُنَّ إِلَى بَعْضٍ مَا كُنَّ فِي سَعَةِ الْكُرْسِيِّ إِلَّا بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقَةِ فِي الْمَفَازَةِ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ. أَوَّلُ الْحَدِيثِ مُرْسَلٌ. وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ مُنْقَطِعٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى مَوْصُولًا، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وُهَيْبٍ الْغَزِّيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِيِّ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ ; أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُرْسِيِّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ عِنْدَ الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ
كَفَضْلِ
الْفَلَاةِ عَلَى تِلْكَ الْحَلْقَةِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ:
سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْمَاءِ [ هُودٍ: 7 ]. عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَاءُ ؟ قَالَ: عَلَى مَتْنِ
الرِّيحِ قَالَ: وَالسَّمَاوَاتُ وَالْأَرَضُونَ وَكُلُّ مَا فِيهِنَّ مِنْ شَيْءٍ
تُحِيطُ بِهَا الْبِحَارُ، وَيُحِيطُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْهَيْكَلُ، وَيُحِيطُ
بِالْهَيْكَلِ فِيمَا قِيلَ الْكُرْسِيُّ. وَرَوَى عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ
نَحْوَهُ، وَفَسَّرَ وَهْبٌ الْهَيْكَلَ فَقَالَ: شَيْءٌ مِنْ أَطْرَافِ
السَّمَاوَاتِ مُحْدِقٌ بِالْأَرَضِينَ وَالْبِحَارِ كَأَطْنَابِ الْفُسْطَاطِ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى عِلْمِ الْهَيْئَةِ أَنَّ
الْكُرْسِيَّ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ فَلَكَ
الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ، وَفِيمَا زَعَمُوهُ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ
أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، كَمَا وَرَدَ
بِهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ نِسْبَتَهَا إِلَيْهِ كَنِسْبَةِ حَلْقَةٍ
مُلْقَاةٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، وَهَذَا لَيْسَ نِسْبَةَ فَلَكٍ إِلَى فَلَكٍ، فَإِنْ
قَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْتَرِفُ بِذَلِكَ وَنُسَمِّيهِ مَعَ ذَلِكَ فَلَكًا
فَنَقُولُ الْكُرْسِيُّ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةً عَنِ الْفَلَكِ،
وَإِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: إِنَّ الْكُرْسِيَّ
بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ كَالْمِرَقَاةِ إِلَيْهِ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ
فَلَكًا. وَمَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ الْكَوَاكِبَ الثَّوَابِتَ مُرَصَّعَةٌ
فِيهِ فَقَدْ قَالَ مَا لَا يَعْلَمُ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ هَذَا مَعَ
اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِهِمْ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ، ثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
خَلَقَ لَوْحًا مَحْفُوظًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ صَفَحَاتُهَا مِنْ يَاقُوتَةٍ
حَمْرَاءَ، قَلُمُهُ نُورٌ، وَكِتَابُهُ نُورٌ، لِلَّهِ فِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ لَحْظَةٍ، يَخْلَقُ وَيَرْزُقُ، وَيُمِيتُ وَيُحْيِي،
وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ:
أَخْبَرَنِي مُقَاتِلٌ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: إِنَّ فِي صَدْرِ اللَّوْحِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، دِينُهُ
الْإِسْلَامُ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَصَدَّقَ بِوَعْدِهِ وَاتَّبَعَ رُسُلَهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ قَالَ:
وَاللَّوْحُ لَوْحٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ، وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَحَافَّتَاهُ
الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَقَلَمُهُ نُورٌ،
وَكَلَامُهُ مَعْقُودٌ بِالْعَرْشِ، وَأَصْلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ. وَقَالَ أَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ، وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فِي جَبْهَةِ
إِسْرَافِيلَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ.
بَابُ مَا وَرَدَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [ الْأَنْعَامِ: 1 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ الْأَعْرَافِ:
54 ]. فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ
فِي مِقْدَارِ هَذِهِ السِّتَّةِ الْأَيَّامِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالْجُمْهُورُ
عَلَى أَنَّهَا كَأَيَّامِنَا هَذِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ،
وَالضَّحَّاكِ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ: أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْهَا كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. رَوَاهُنَّ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ،
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِهِ
الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ،
وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ،
وَغَيْرِهِ أَنَّ أَسْمَاءَ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ: أَبْجَدْ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمُنْ
سَعْفَصْ قَرَشَتْ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ ثَلَاثَةَ
أَقْوَالٍ: فَرَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ أَهْلُ
التَّوْرَاةِ ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ. وَيَقُولُ أَهْلُ
الْإِنْجِيلِ: ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَنَقُولُ نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا انْتَهَى إِلَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ اللَّهُ الْخَلْقَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَالَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَسَيَأْتِي فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْأَحَدُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَهُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ، وَمَالَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِلَفْظِ الْأَحَدِ، وَلِهَذَا كَمُلَ الْخَلْقُ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ فَكَانَ آخِرُهُنَّ الْجُمُعَةَ ; فَاتَّخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ عِيدَهُمْ فِي الْأُسْبُوعِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَضَلَّ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ قَبْلَنَا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الْبَقَرَةِ: 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 9 - 12 ].
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا كَالْأَسَاسِ لِلْبِنَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ غَافِرٍ: 64 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا. إِلَى أَنْ قَالَ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [ النَّبَأِ: 6 - 13 ]. وَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 30 ]. أَيْ فَصَلْنَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى هَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَنَزَلَتِ الْأَمْطَارُ، وَجَرَتِ الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ، وَانْتَعَشَ الْحَيَوَانُ. ثُمَّ قَالَ: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 32 ]. أَيْ عَمَّا خُلِقَ فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالنُّجُومِ الزَّاهِرَاتِ، وَالْأَجْرَامِ النَّيِّرَاتِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى حِكْمَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [ يُوسُفَ: 105، 106 ]. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [ النَّازِعَاتِ: 27 - 32 ].
فَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ، فَخَالَفُوا صَرِيحَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَلَمْ يَفْهَمُوا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ. فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ دَحْيَ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجَ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى مِنْهَا بِالْفِعْلِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا فِيهَا بِالْقُوَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا [ فُصِّلَتْ: 10 ]. أَيْ هَيَّأَ أَمَاكِنَ الزَّرْعِ وَمَوَاضِعَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ، ثُمَّ لَمَّا أَكْمَلَ خَلْقَ صُورَةِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَالْعُلْوِيِّ دَحَى الْأَرْضَ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا فَخَرَجَتِ الْعُيُونُ، وَجَرَتِ الْأَنْهَارُ، وَنَبَتَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ ; وَلِهَذَا فَسَّرَ الدَّحْىَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى مِنْهَا وَإِرْسَاءِ الْجِبَالِ، فَقَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَقَوْلُهُ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا. أَيْ قَرَّرَهَا فِي أَمَاكِنِهَا الَّتِي وَضَعَهَا فِيهَا وَثَبَّتَهَا وَأَكَّدَهَا وَأَطَّدَهَا. وَقَوْلُهُ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ الذَّارِيَاتِ: 47 - 49 ]. بِأَيْدٍ أَيْ بِقُوَّةٍ، وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ; وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا عَلَا اتَّسَعَ فَكُلُّ سَمَاءٍ أَعْلَى مِنَ الَّتِي تَحْتَهَا فَهِيَ أَوْسَعُ مِنْهَا ; وَلِهَذَا كَانَ الْكُرْسِيُّ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ، وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْهُنَّ كُلُّهُنَّ. وَالْعَرْشُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِكَثِيرٍ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا. أَيْ بَسَطْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا مَهْدًا أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ وَلَا مَائِدَةٍ بِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ. وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ الْمُطْلَقَ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
مُحْرِزٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ،
فَأَتَاهُ نَاسٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا
بَنِي تَمِيمٍ " قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ
دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: " اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا
أَهْلَ الْيَمَنِ إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ " قَالُوا: قَدْ
قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا
الْأَمْرِ قَالَ: " كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ " فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا ابْنَ
الْحُصَيْنِ. فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ،
فَوَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا. هَكَذَا رَوَاهُ هَاهُنَا،
وَقَدْ رَوَاهُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي وَكِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَفِي بَعْضِ
أَلْفَاظِهِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَهُوَ لَفْظُ النَّسَائِيِّ
أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ حَدَّثَنِي ابْنُ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أَمِّ
سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي فَقَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ فِيهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، وَهَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ هَارُونَ، وَيُوسُفَ بْنِ سَعِيدٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِصِّيصِيِّ الْأَعْوَرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ مِثْلُهُ سَوَاءٌ، وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ الْجُوزَجَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَدَّادِ، عَنِ الْأَخْضَرِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ، وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَوْمَ السَّابِعِ، وَخَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ عَنْ
كَعْبٍ، وَهُوَ أَصَحُّ يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِمَّا سَمِعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ
وَتَلَقَّاهُ مِنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَإِنَّهُمَا كَانَا يَصْطَحِبَانِ
وَيَتَجَالَسَانِ لِلْحَدِيثِ فَهَذَا يُحَدِّثُهُ عَنْ صُحُفِهِ، وَهَذَا
يُحَدِّثُهُ بِمَا يُصَدِّقُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا تَلْقَّاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ كَعْبٍ، عَنْ
صُحُفِهِ فَوَهِمَ بَعْضُ الرُّوَاةِ فَجَعَلَهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكَّدَ رَفْعَهُ بِقَوْلِهِ: " أَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي ". ثُمَّ فِي
مَتْنِهِ غَرَابَةٌ شَدِيدَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ، وَفِيهِ ذِكْرُ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهَا فِي سَبْعَةِ
أَيَّامٍ، وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ فِي أَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ، ثُمَّ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ فِي يَوْمَيْنِ مِنْ دُخَانٍ، وَهُوَ
بُخَارُ الْمَاءِ الَّذِي ارْتَفَعَ حِينَ اضْطَرَبَ الْمَاءُ الْعَظِيمُ الَّذِي
خَلَقَ مِنْ زَبَدِهِ الْأَرْضَ بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ الْبَالِغَةِ، كَمَا
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ فِي خَبَرٍ
ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ
مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [ الْبَقَرَةِ: 29 ].
قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا
مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ
مِنَ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ
سَمَاءً، ثُمَّ أَيْبَسَ الْمَاءَ فَجَعَلَهُ أَرْضًا وَاحِدَةً، ثُمَّ فَتَقَهَا
فَجَعَلَ سَبْعَ أَرْضِينَ فِي يَوْمَيْنِ: الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَخَلَقَ
الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ وَهُوَ النُّونُ الَّذِي
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [ الْقَلَمِ: 1 ]. وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ عَلَى صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ فِي الرِّيحِ ; وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ لُقْمَانُ لَيْسَتْ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فَاضْطَرَبَ فَتَزَلْزَلَتِ الْأَرْضُ فَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَ فَقَرَّتْ. وَخَلَقَ اللَّهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْجِبَالَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ وَالْمَدَائِنَ وَالْعُمْرَانَ وَالْخَرَابَ، وَفَتَقَ السَّمَاءَ وَكَانَتْ رَتْقًا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ: الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا، ثُمَّ قَالَ: خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ، وَمَا لَا يَعْلُمُهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ زَيَّنَ السَّمَاءَ بِالْكَوَاكِبِ فَجَعَلَهَا زِينَةً وَحِفْظًا تَحْفَظُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ يَذْكُرُ بِهِ السُّدِّيُّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فِيهَا غَرَابَةٌ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهَا مُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ فَإِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ لَمَّا أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ كَانَ يَتَحَدَّثُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَشْيَاءَ مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَيَسْتَمِعُ لَهُ عُمَرُ تَأْلِيفًا لَهُ وَتَعَجُّبًا مِمَّا عِنْدَهُ مِمَّا يُوَافِقُ كَثِيرٌ مِنْهُ الْحَقَّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ
الْمُطَهَّرُ،
فَاسْتَجَازَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ نَقْلَ مَا يُورِدُهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ ;
لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلَمَّا جَاءَ مِنَ الْإِذْنِ فِي التَّحْدِيثِ عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَكِنَّ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيمَا يَرْوِيهِ غَلَطٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،
أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي كَعْبِ الْأَحْبَارِ: وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ
لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ أَيْ فِيمَا يَنْقُلُهُ لَا أَنَّهُ يَتَعَمَّدُ
ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَحْنُ نُورِدُ مَا نُورِدُهُ مِنَ الَّذِي يَسُوقُهُ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ
الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَنْهُمْ، ثُمَّ نُتْبِعُ ذَلِكَ مِنَ
الْأَحَادِيثِ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَوْ يُكَذِّبُهُ، وَيَبْقَى
الْبَاقِي مِمَّا لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ
وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي زِنَادٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ
الْعَرْشِ إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ،
وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ
الْبُخَارِيُّ: بَابُ مَا جَاءَ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقِ: 12 ].
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَاسٍ خُصُومَةٌ فِي
أَرْضٍ، فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَ لَهَا ذَلِكَ فَقَالَتْ: يَا أَبَا
سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الْأَرْضَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ
يُونُسَ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ،
عَنْ عَائِشَةَ بِمِثْلِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنَ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ
أَرَضِينَ. وَرَوَاهُ فِي الْمَظَالِمِ أَيْضًا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ بِهِ.
وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ.
وَذَكَرَ
الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ
اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا. الْحَدِيثَ.
وَمُرَادُهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - تَقْرِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [ الطَّلَاقِ: 12 ]. أَيْ
فِي الْعَدَدِ كَمَا أَنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الْآنَ اثْنَا عَشَرَ مُطَابَقَةً
لِعِدَّةِ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْأَوَّلِ فَهَذِهِ
مُطَابَقَةٌ فِي الزَّمَنِ كَمَا أَنَّ تِلْكَ مُطَابَقَةٌ فِي الْمَكَانِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: أَنَّهُ خَاصَمَتْهُ أَرَوَى فِي حَقٍّ زَعَمَتْ أَنَّهُ
انْتَقَصَهُ لَهَا إِلَى مَرْوَانَ فَقَالَ: سَعِيدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا
أَنْتَقِصُ مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا! أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا
فَإِنَّهُ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي
هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيُّ الظُّلْمِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ: ذِرَاعٌ مِنَ الْأَرْضِ يَنْتَقِصُهُ الْمَرْءُ
الْمُسْلِمُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَيْسَ حَصَاةٌ مِنَ الْأَرْضِ يَأْخُذُهَا
أَحَدٌ إِلَّا طُوِّقَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى قَعْرِ الْأَرْضِ، وَلَا
يَعْلَمُ قَعْرَهَا إِلَّا الَّذِي خَلَقَهَا. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا
إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ،
حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ
بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى،
عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ
الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ. تَفَرَّدَ بِهِ
أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ
أَبِي سَلَمَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ
مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كَالْمُتَوَاتِرَةِ فِي إِثْبَاتِ سَبْعِ أَرَضِينَ،
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ فَوْقَ الْأُخْرَى، وَالَّتِي
تَحْتَهَا فِي وَسَطِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْهَيْئَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ
إِلَى السَّابِعَةِ، وَهِيَ صَمَّاءُ لَا جَوْفَ لَهَا، وَفِي وَسَطِهَا
الْمَرْكَزُ، وَهُوَ نُقْطَةٌ مُقَدَّرَةٌ مُتَوَهَّمَةٌ، وَهُوَ مَحَطُّ
الْأَثْقَالِ إِلَيْهِ يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إِذَا لَمْ
يُعَاوِقْهُ مَانِعٌ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُنَّ مُتَرَاكِمَاتٌ بِلَا تُفَاصُلٍ
أَوْ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالَّتِي تَلِيهَا خَلَاءٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ جَارٍ فِي الْأَفْلَاكِ أَيْضًا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَيْنَ
كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَبَيْنَ الْأُخْرَى مَسَافَةً لِظَاهِرِ قَوْلِهِ
تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [ الطَّلَاقِ: 12 ]. الْآيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ
مَرَّتْ سَحَابَةٌ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الْعَنَانُ وَزَوَايَا الْأَرْضِ، يَسُوقُهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ لَا يَشْكُرُونَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يَدْعُونَهُ. أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ فَوْقَكُمْ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: الرَّقِيعُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَسَقْفٌ مَحْفُوظٌ. أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الَّذِي فَوْقَهَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. حَتَّى عَدَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ. ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: الْعَرْشُ. أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ تَحْتَكُمْ ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَرْضٌ. أَتَدْرُونَ مَا تَحْتَهَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَرْضٌ أُخْرَى أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ. حَتَّى عَدَّ سَبْعَ أَرَضِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ لَوْ دَلَّيْتُمْ أَحَدَكُمْ إِلَى الْأَرْضِ
السُّفْلَى
السَّابِعَةِ لَهَبَطَ، ثُمَّ قَرَأَ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ
وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ الْحَدِيدِ: 3 ].. وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ،
قَالَ: حَدَّثَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَذَكَرَهُ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ
أَنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ كُلِّ أَرْضَيْنِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَذَكَرَ فِي
آخِرِهِ كَلِمَةً ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ
الْحَدِيدِ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. قَالَ: وَيُرْوَى عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَعَلِيِّ
بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ يَسْمَعِ الْحَسَنُ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَ لَفْظِ التِّرْمِذِيِّ سَوَاءً بِدُونِ
الزِّيَادَةِ فِي آخِرِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ بِشْرٍ،
عَنْ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا، وَقَدْ
يَكُونُ هَذَا أَشْبَهَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ الْحَافِظَانِ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ،
وَالْبَيْهَقِيُّ
مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ صِفَةِ الْعَرْشِ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْعَالِ مَا
يُخَالِفُ هَذَا فِي ارْتِفَاعِ الْعَرْشِ عَنِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَمَا
يَشْهَدُ لَهُ. وَفِيهِ: " وَبُعْدُ مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ
خَمْسُمِائَةِ عَامٍ، وَكِثَفُهَا أَيْ سُمْكُهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ".
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى حَدِيثِ "
طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ " أَنَّهَا سَبْعَةُ أَقَالِيمَ ; فَهُوَ
قَوْلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، وَصَرِيحَ كَثِيرٍ
مِنْ أَلْفَاظِهِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ مِنْ
طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ثُمَّ إِنَّهُ حَمَلَ الْحَدِيثَ
وَالْآيَةَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِمَا بِلَا مُسْتَنَدٍ وَلَا دَلِيلٍ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ
طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ مِنْ تُرَابٍ، وَالَّتِي
تَحْتَهَا مِنْ حَدِيدٍ، وَالْأُخْرَى مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ كِبْرِيتٍ،
وَالْأُخْرَى مِنْ كَذَا. فَكُلُّ هَذَا إِذَا لَمْ يُخْبَرْ بِهِ وَيَصِحَّ
سَنَدُهُ إِلَى مَعْصُومٍ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ. وَهَكَذَا الْأَثَرُ
الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ أَرْضٍ مِنَ الْخَلْقِ
مِثْلُ مَا فِي هَذِهِ الْأَرْضِ حَتَّى آدَمَ كَآدَمِكُمْ، وَإِبْرَاهِيمَ
كَإِبْرَاهِيمِكُمْ.
فَهَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُخْتَصَرًا، وَاسْتَقْصَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ عَنْهُ عَلَى
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَهُ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ
حَوْشَبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَأَلْقَاهَا عَلَيْهَا ;
فَاسْتَقَرَّتْ فَتَعَجَّبَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خَلْقِ الْجِبَالِ، فَقَالَتْ:
يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ;
الْحَدِيدُ. قَالَتْ: يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ
الْحَدِيدِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ; النَّارُ. قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ
شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ; الْمَاءُ. قَالَتْ يَا رَبِّ
فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ ؟ قَالَ: نَعَمْ ; الرِّيحُ.
قَالَتْ يَا رَبِّ فَهَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ ؟ قَالَ:
نَعَمْ ; ابْنُ آدَمَ، يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ يُخْفِيهَا مِنْ شَمَالِهِ.
تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ أَعْدَادَ جِبَالِ الْأَرْضِ فِي سَائِرِ
بِقَاعِهَا، شَرْقًا
وَغَرْبًا،
وَذَكَرُوا أَطْوَالَهَا، وَبُعْدَ امْتِدَادِهَا، وَارْتِفَاعِهَا، وَأَوْسَعُوا
الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بِمَا يَطُولُ شَرْحُهُ هُنَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ [ فَاطِرٍ: 27 ]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:
الْجُدُدُ ; الطَّرَائِقُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: الْغَرَابِيبُ
الْجِبَالُ الطِّوَالُ السُّودُ، وَهَذَا هُوَ الْمُشَاهَدُ مِنَ الْجِبَالِ فِي
سَائِرِ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ بِقَاعِهَا وَأَلْوَانِهَا. وَقَدْ
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْجُودِيَّ عَلَى التَّعْيِينِ ; وَهُوَ
جَبَلٌ عَظِيمٌ شَرْقِيَّ جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ إِلَى جَانِبِ دِجْلَةَ عِنْدَ
الْمَوْصِلِ امْتِدَادُهُ مِنَ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ، وَارْتِفَاعُهُ مَسِيرَةُ نِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ أَخْضَرُ ; لِأَنَّ
فِيهِ شَجَرًا مِنَ الْبَلُّوطِ، وَإِلَى جَانِبِهِ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا
قَرْيَةُ الثَّمَانِينَ ; لِسُكْنَى الَّذِينَ نَجَوْا فِي السَّفِينَةِ مَعَ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَوْضِعِهَا فَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ تَعَالَى طُورَ سَيْنَاءَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْبَهَاءُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ "
الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى " فِي تَرْجَمَةِ
الْجِبَالِ الْمُقَدَّسَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ بَكْرٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَقْسَمَ
رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ بِأَرْبَعَةِ أَجْبُلٍ فَقَالَ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ
وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [ التِّينِ: 1 - 3 ]. فَالتِّينُ
طُورُ رَبِّنَا مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالزَّيْتُونُ
طُورُ رَبِّنَا
وَطُورُ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ. جَبَلُ مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
التِّينُ جَبَلٌ عَلَيْهِ دِمَشْقُ، وَالزَّيْتُونُ جَبَلٌ عَلَيْهِ بَيْتُ
الْمَقْدِسِ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ
أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَجْبُلٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَبَلُ الْخَلِيلِ،
وَلُبْنَانَ، وَالطُّورِ، وَالْجُودِيِّ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لُؤْلُؤَةً بَيْضَاءَ تُضِيءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
يَرْجِعْنَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى تُجْعَلَ فِي زَوَايَاهُ نُورًا،
وَيَضَعَ عَلَيْهَا كُرْسِيَّهُ حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ.
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ
رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ [ الزُّمَرِ: 75 ]. وَمِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ أَبِي عَاتِكَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ
أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى جَبَلِ قَاسْيُونَ أَنْ
هَبْ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ لِجَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: فَفَعَلَ.
فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَمَا إِذْ فَعَلْتَ فَإِنِّي سَأَبْنِي لِي
فِي حِضْنِكَ بَيْتًا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: قَالَ الْوَلِيدُ: فِي حِضْنِكَ:
أَيْ فِي وَسَطِهِ، وَهُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ يَعْنِي مَسْجِدَ دِمَشْقَ أُعْبَدُ
فِيهِ بَعْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ
وَاللَّيَالِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ. قَالَ: فَهُوَ
عِنْدُ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ الْمُتَضَرِّعِ. وَعَنْ
خَلِيلِ بْنِ
دَعْلَجٍ: أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْ طَرَفَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَصَلَّتْ فِيهِ، وَصَعِدَتْ إِلَى طُورِ رَبِّنَا فَصَلَّتْ فِيهِ، وَبَاتَتْ عَلَى طَرَفِ الْجَبَلِ فَقَالَتْ: مِنْ هَاهُنَا يَتَفَرَّقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِلَى النَّارِ.
فَصْلٌ فِي
الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى
الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَنْ
يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ النَّحْلِ: 14 18 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ
شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ
لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ فَاطِرٍ: 12 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا
مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [ الْفُرْقَانِ:
53 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ
لَا يَبْغِيَانِ [ الرَّحْمَنِ: 19، 20 ]. فَالْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ:
الْبَحْرُ الْمِلْحُ الْمُرُّ وَهُوَ الْأُجَاجُ، وَالْبَحْرُ الْعَذْبُ هُوَ
هَذِهِ الْأَنْهَارُ السَّارِحَةُ بَيْنَ أَقْطَارِ الْأَمْصَارِ لِمَصَالِحِ
الْعِبَادِ قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [ الشُّورَى: 32 - 34 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [ لُقْمَانَ: 31، 32 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 164 ]. فَامْتَنَّ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَ لَهُمْ مِنَ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ فَالْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِسَائِرِ أَرْجَاءِ الْأَرْضِ، وَمَا يَنْبَثِقُ مِنْهُ فِي جَوَانِبِهَا الْجَمِيعُ مَالِحُ الطَّعْمِ مُرٌّ، وَفِي هَذَا حِكْمَةٌ عَظِيمَةٌ لِصِحَّةِ الْهَوَاءِ ; إِذْ لَوْ كَانَ حُلْوًا لَأَنْتَنَ الْجَوُّ وَفَسَدَ الْهَوَاءُ ; بِسَبَبِ مَا يَمُوتُ فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْعِظَامِ فَكَانَ يُؤَدِّي إِلَى تَفَانِي بَنِي آدَمَ وَفَسَادِ مَعَايِشِهِمْ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ. وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبَحْرِ ؟ قَالَ: هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ
الْحِلُّ مَيْتَتُهُ.
وَأَمَّا الْأَنْهَارُ فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ مَاؤُهَا حُلْوًا
عَذْبًا جَارِيًا فُرَاتًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وَجَعَلَهَا جَارِيَةً
سَارِحَةً يُنْبِعُهَا تَعَالَى فِي أَرْضٍ، وَيَسُوقُهَا إِلَى أُخْرَى رِزْقًا
لِلْعِبَادِ، وَمِنْهَا كِبَارٌ وَمِنْهَا صِغَارٌ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ
وَالْمَصْلَحَةِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ أَصْحَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالتَّسْيِيرِ عَلَى تَعْدَادِ
الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ، وَأُصُولِ مَنَابِعِهَا، وَإِلَى أَيْنَ
يَنْتَهِي سَيْرُهَا بِكَلَامٍ فِيهِ حِكَمٌ، وَدَلَالَاتٌ عَلَى قُدْرَةِ
الْخَالِقِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ وَالْحِكْمَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [ الطُّورِ: 6 ]. فِيهِ قَوْلَانِ
; أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَحْرُ الَّذِي تَحْتَ الْعَرْشِ
الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ، وَأَنَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ
بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، وَهُوَ
الَّذِي يَنْزِلُ مِنْهُ الْمَطَرُ قَبْلَ الْبَعْثِ فَتَحْيَا مِنْهُ
الْأَجْسَادُ مِنْ قُبُورِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ الرَّبِيعِ بْنِ
أَنَسٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَحْرَ اسْمُ جِنْسٍ يَعُمُّ سَائِرَ الْبِحَارِ
الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فَقِيلَ: الْمَمْلُوءُ.
وَقِيلَ: يَصِيرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا تُؤَجَّجُ فَيُحِيطُ بِأَهْلِ
الْمَوْقِفِ. كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي
التَّفْسِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ: الْمَمْنُوعُ الْمَكْفُوفُ الْمَحْرُوسُ عَنْ أَنْ يَطْغَى فَيَغْمُرَ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا فَيَغْرَقُوا. رَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَغَيْرِهِ. وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ كَانَ مُرَابِطًا بِالسَّاحِلِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: لَيْسَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفَضِخَ عَلَيْهِمْ فَيَكُفُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنِي شَيْخٌ مُرَابِطٌ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً لِمَحْرَسٍ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ الْحَرَسِ غَيْرِي فَأَتَيْتُ الْمِينَاءَ فَصَعِدْتُ فَجَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ الْبَحْرَ يُشْرِفُ يُحَاذِي بِرُءُوسِ الْجِبَالِ فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا وَأَنَا مُسْتَيْقِظٌ فَلَقِيتُ أَبَا صَالِحٍ فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَالْبَحْرُ يُشْرِفُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَسْتَأْذِنُ اللَّهَ أَنْ يَنْفَضِخَ عَلَيْهِمْ فَيَكُفُّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فِي إِسْنَادِهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا مِنْ
نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ كَفَّ شَرَّ الْبَحْرِ عَنْ أَنْ يَطْغَى
عَلَيْهِمْ، وَسَخَّرَهُ لَهُمْ يَحْمِلُ مَرَاكِبَهُمْ لِيَبْلُغُوا عَلَيْهَا
إِلَى الْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ بِالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا، وَهَدَاهُمْ فِيهِ
بِمَا خَلَقَهُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ النُّجُومِ، وَالْجِبَالِ الَّتِي
جَعَلَهَا لَهُمْ عَلَامَاتٍ يَهْتَدُونَ بِهَا فِي سَيْرِهِمْ، وَبِمَا خَلَقَ
لَهُمْ فِيهِ حِلْيَةً يَلْبَسُونَهَا مِنَ اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ
النَّفِيسَةِ الْعَزِيزَةِ الْحَسَنَةِ الثَّمِينَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا
فِيهِ، وَبِمَا خَلَقَ فِيهِ مِنَ الدَّوَابِّ الْغَرِيبَةِ، وَأَحَلَّهَا لَهُمْ
حَتَّى مَيْتَتَهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ [ الْمَائِدَةِ: 96 ]. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ. وَفِي الْحَدِيثِ
الْآخَرِ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ; السَّمَكُ وَالْجَرَادُ،
وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَفِي إِسْنَادِهِ
نَظَرٌ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: وَجَدْتُ فِي
كِتَابِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَغْدَادِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ قَالَ: كَلَّمَ اللَّهُ هَذَا
الْبَحْرَ الْغَرْبِيَّ، وَكَلَّمَ الْبَحْرَ الشَّرْقِيَّ فَقَالَ لِلْغَرْبِيِّ:
إِنِّي حَامِلٌ فِيكَ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي فَكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ بِهِمْ ؟
قَالَ: أُغْرِقُهُمْ. قَالَ: بَأْسُكَ فِي
نَوَاحِيكَ. وَحَرَمَهُ الْحِلْيَةَ وَالصَّيْدَ، وَكَلَّمَ هَذَا الْبَحْرَ الشَّرْقِيَّ فَقَالَ: إِنِّي حَامِلٌ فِيكَ عِبَادًا مِنْ عِبَادِي فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ بِهِمْ ؟ قَالَ: أَحْمِلُهُمْ عَلَى يَدِي، وَأَكُونُ لَهُمْ كَالْوَالِدَةِ لِوَلَدِهَا. فَأَثَابَهُ الْحِلْيَةَ وَالصَّيْدَ. ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ عَنْ سُهَيْلٍ إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ سُهَيْلٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا قُلْتُ الْمَوْقُوفُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَشْبَهُ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ وَجَدَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مَمْلُوءَتَيْنِ كُتُبًا مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ مِنْهَا الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ وَالْمَنْكُورُ وَالْمَرْدُودُ ; فَأَمَّا الْمَرْفُوعُ فَتَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَدَنِيُّ قَاضِيهَا قَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ، ثُمَّ مَزَّقْتُ حَدِيثَهُ كَانَ كَذَّابًا وَأَحَادِيثُهُ مَنَاكِيرٌ. وَكَذَا ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالْجُوزَجَانِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَامَّةُ أَحَادِيثِهِ مَنَاكِيرٌ، وَأَفْظَعُهَا حَدِيثُ الْبَحْرِ.
قَالَ عُلَمَاءُ التَّسْيِيرِ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْعُرُوضِ، وَالْأَطْوَالِ، وَالْبِحَارِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالْجِبَالِ، وَالْمِسَاحَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْخَرَابِ وَالْعِمَارَاتِ، وَالْأَقَالِيمِ السَّبْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، وَالْأَقَالِيمِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَمَا فِي الْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالنَّبَاتَاتِ، وَمَا يُوجَدُ فِي كُلِّ قُطْرٍ مِنْ صُنُوفِ الْمَعَادِنِ وَالتِّجَارَاتِ قَالُوا: الْأَرْضُ مَغْمُورَةٌ بِالْمَاءِ الْعَظِيمِ إِلَّا مِقْدَارَ الرُّبْعِ مِنْهَا، وَهُوَ تِسْعُونَ دَرَجَةً، وَالْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ اقْتَضَتِ انْحِسَارَ الْمَاءِ عَنْ هَذَا الْقَدْرِ مِنْهَا ; لِتَعِيشَ الْحَيَوَانَاتُ عَلَيْهِ، وَيَنْبُتَ الزَّرْعُ، وَالثِّمَارُ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ الرَّحْمَنِ: 10 - 13 ]. قَالُوا: الْمَعْمُورُ مِنْ هَذَا الْبَادِي مِنْهَا قَرِيبُ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا وَهُوَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ دَرَجَةً قَالُوا: فَالْبَحْرُ الْمُحِيطُ الْغَرْبِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ أُوقْيَانُوسُ، وَهُوَ الَّذِي يُتَاخِمُ بِلَادَ الْمَغْرِبِ، وَفِيهِ الْجَزَائِرُ الْخَالِدَاتُ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ سَاحِلِهِ عَشْرُ دَرَجٍ مَسَافَةُ شَهْرٍ تَقْرِيبًا، وَهُوَ بَحْرٌ لَا يُمْكِنُ سُلُوكُهُ، وَلَا رُكُوبُهُ لِكَثْرَةِ هَيْجِهِ وَاغْتِلَامِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الرِّيَاحِ، وَالْأَمْوَاجِ، وَلَيْسَ فِيهِ صَيْدٌ، وَلَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يُسَافَرُ فِيهِ لِمَتْجَرٍ
وَلَا لِغَيْرِهِ،
وَهُوَ آخِذٌ فِي نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ حَتَّى يُسَامِتَ الْجِبَالَ الْقُمْرَ،
وَيُقَالُ جِبَالُ الْقَمَرِ الَّتِي مِنْهَا أَصْلُ مَنْبَعِ نِيلِ مِصْرَ،
وَيَتَجَاوَزُ خَطَّ الِاسْتِوَاءِ، ثُمَّ يَمْتَدُّ شَرْقًا، وَيَصِيرُ
جَنُوبِيَّ الْأَرْضِ، وَفِيهِ هُنَاكَ جَزَائِرُ الزَّنْجِ، وَعَلَى سَوَاحِلِهِ
خَرَابٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ يَمْتَدُّ شَرْقًا، وَشَمَالًا حَتَّى يَتَّصِلَ بِبَحْرِ
الصِّينِ وَالْهِنْدِ، ثُمَّ يَمْتَدُّ شَرْقًا حَتَّى يُسَامِتَ نِهَايَةَ
الْأَرْضِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَكْشُوفَةِ، وَهُنَاكَ بِلَادُ الصِّينِ، ثُمَّ
يَنْعَطِفُ فِي شَرْقِ الصِّينِ إِلَى جِهَةِ الشَّمَالِ حَتَّى يُجَاوِزَ بِلَادَ
الصِّينِ، وَيُسَامِتَ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، ثُمَّ يَنْعَطِفُ
وَيَسْتَدِيرُ عَلَى أَرْضٍ غَيْرِ مَعْلُومَةِ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ يَمْتَدُّ
مَغْرِبًا فِي شَمَالِ الْأَرْضِ، وَيُسَامِتُ بِلَادَ الرُّوسِ وَيَتَجَاوَزُهَا،
وَيَعْطِفُ مَغْرِبًا وَجَنُوبًا، وَيَسْتَدِيرُ عَلَى الْأَرْضِ، وَيَعُودُ إِلَى
جِهَةِ الْغَرْبِ، وَيَنْبَثِقُ مِنَ الْغَرْبِيِّ إِلَى مَتْنِ الْأَرْضِ
الزُّقَاقِ الَّذِي يَنْتَهِي أَقْصَاهُ إِلَى أَطْرَافِ الشَّامِ مِنَ الْغَرْبِ،
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي بِلَادِ الرُّومِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ،
وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِهِمْ.
وَيَنْبَعِثُ مِنَ الْمُحِيطِ الشَّرْقِيِّ بِحَارٌ أُخَرُ فِيهَا جَزَائِرُ
كَثِيرَةٌ حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ إِنَّ فِي بَحْرِ الْهِنْدِ أَلْفُ جَزِيرَةٍ
وَسَبْعُمِائَةِ جَزِيرَةٍ فِيهَا مُدُنٌ وَعِمَارَاتٌ سِوَى الْجَزَائِرِ
الْعَاطِلَةِ، وَيُقَالُ لَهَا: الْبَحْرُ الْأَخْضَرُ. فَشَرْقِيُّهُ بَحْرُ
الصِّينِ، وَغَرْبِيُّهُ بَحْرُ الْيَمَنِ، وَشَمَالُهُ بَحْرُ الْهِنْدِ،
وَجَنُوبِيُّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
وَذَكَرُوا أَنَّ بَيْنَ بَحْرِ الْهِنْدِ، وَبَحْرِ الصِّينِ جِبَالًا فَاصِلَةً
بَيْنَهُمَا، وَفِيهَا فِجَاجٌ تَسْلُكُ الْمَرَاكِبُ بَيْنَهَا يُسَيِّرُهَا
لَهُمُ الَّذِي خَلَقَهَا، كَمَا جُعِلَ مِثْلُهَا فِي الْبَرِّ أَيْضًا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 31 ]. وَقَدْ ذَكَرَ بَطْلَيْمُوسُ أَحَدُ مُلُوكِ الْهِنْدِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَجِسْطِي الَّذِي عُرِّبَ فِي زَمَانِ الْمَأْمُونِ، وَهُوَ أَصْلُ هَذِهِ الْعُلُومِ أَنَّ الْبِحَارَ الْمُتَفَجِّرَةَ مِنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ، وَالشَّرْقِيِّ وَالْجَنُوبِيِّ، وَالشَّمَالِيِّ كَثِيرَةٌ جِدًّا فَمِنْهَا مَا هُوَ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ يُسَمَّى بِحَسَبِ الْبِلَادِ الْمُتَاخِمَةِ لَهُ فَمِنْ ذَلِكَ بَحْرُ الْقُلْزُمِ، وَالْقُلْزُمُ قَرْيَةٌ عَلَى سَاحِلِهِ قَرِيبٌ مِنْ أَيْلَةَ، وَبَحْرُ فَارِسَ، وَبَحْرُ الْخَزَرِ، وَبَحْرُ وَرْنَكَ، وَبَحْرُ الرُّومِ، وَبَحْرُ بَنْطَشَ، وَبَحْرُ الْأَزْرَقِ مَدِينَةٌ عَلَى سَاحِلِهِ، وَهُوَ بَحْرُ الْقَرْمِ أَيْضًا، وَيَتَضَايَقُ حَتَّى يَصُبَّ فِي بَحْرِ الرُّومِ عِنْدَ جَنُوبِيِّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَهُوَ خَلِيجُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ; وَلِهَذَا تُسْرِعُ الْمَرَاكِبُ فِي سَيْرِهَا مِنَ الْقَرْمِ إِلَى بَحْرِ الرُّومِ، وَتُبْطِيءُ إِذَا جَاءَتْ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى الْقَرْمِ لِاسْتِقْبَالِهَا جَرَيَانَ الْمَاءِ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ كُلَّ مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ حُلْوٌ إِلَّا هَذَا، وَكُلُّ بَحْرٍ رَاكِدٍ فَهُوَ مِلْحٌ أُجَاجٌ إِلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ بَحْرِ الْخَزَرِ وَهُوَ بَحْرُ جُرْجَانَ، وَبَحْرُ طَبَرِسْتَانَ أَنَّ فِيهِ قِطْعَةً كَبِيرَةً مَاءً حُلْوًا فُرَاتًا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الْمُسَافِرُونَ عَنْهُ. قَالَ أَهْلُ الْهَيْئَةِ: وَهُوَ بَحْرٌ مُسْتَدِيرُ الشَّكْلِ إِلَى الطُّولِ مَا هُوَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُثَلَّثٌ كَالْقَلْعِ وَلَيْسَ هُوَ مُتَّصِلًا بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بَلْ مُنْفَرِدٌ وَحْدَهُ، وَطُولُهُ ثَمَانُمِائَةِ مِيلٍ، وَعَرْضُهُ سِتُّمِائَةٍ. وَقِيلَ: أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ ذَلِكَ
الْبَحْرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْمَدُّ وَالْجَزْرُ عِنْدَ الْبَصْرَةِ،
وَفِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ نَظِيرُهُ أَيْضًا يَتَزَايَدُ الْمَاءُ مِنْ أَوَّلِ
الشَّهْرِ، وَلَا يَزَالُ فِي زِيَادَةٍ إِلَى تَمَامِ اللَّيْلَةِ الرَّابِعَةَ
عَشَرَ مِنْهُ وَهُوَ الْمَدُّ ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ وَهُوَ الْجَزْرُ
إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا تَحْدِيدَ هَذِهِ الْبِحَارِ وَمُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا.
وَذَكَرُوا مَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْبُحَيْرَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنَ
الْأَنْهَارِ، وَغَيْرِهَا مِنَ السُّيُولِ، وَهِيَ الْبَطَائِحُ. وَذَكَرُوا مَا
فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَنْهَارِ الْمَشْهُورَةِ الْكِبَارِ، وَذَكَرُوا
ابْتِدَاءَهَا، وَانْتِهَاءَهَا.
وَلَسْنَا بِصَدَدِ بَسْطِ ذَلِكَ وَالتَّطْوِيلِ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَتَكَلَّمُ
عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْهَارِ الْوَارِدِ ذِكْرُهَا فِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا
لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ
لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ
كَفَّارٌ [ إِبْرَاهِيمَ: 32 - 34 ]. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ
قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ سِدْرَةَ
الْمُنْتَهَى قَالَ: فَإِذَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ،
وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ; فَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا
الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. وَفِي لَفْظٍ فِي الْبُخَارِيِّ "
عُنْصُرُهُمَا " أَيْ: مَادَّتُهُمَا أَوْ شَكْلُهُمَا، وَعَلَى صِفَتِهِمَا
وَنَعْتِهِمَا، وَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إِلَّا
الْأَسْمَاءُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ
خُبَيْبِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ
وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَيَزِيدُ، أَنْبَأَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ
أَنْهَارٍ مِنَ الْجَنَّةِ الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ.
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَكَأَنَّ الْمُرَادَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ تُشْبِهُ أَنْهَارَ
الْجَنَّةِ فِي صَفَائِهَا وَعُذُوبَتِهَا وَجَرَيَانِهَا، وَمِنْ جِنْسِ تِلْكَ
فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَنَحْوِهَا كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْعَجْوَةُ مِنَ
الْجَنَّةِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمِّ. أَيْ تُشْبِهُ ثَمَرَ الْجَنَّةِ لَا
أَنَّهَا مُجْتَنَاةٌ مِنَ الْجَنَّةِ فَإِنَّ الْحِسَّ يَشْهَدُ بِخِلَافِ ذَلِكَ
فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ. وَكَذَا
قَوْلُهُ: شِدَّةُ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ. وَهَكَذَا هَذِهِ الْأَنْهَارُ
أَصْلُ مَنْبَعِهَا مُشَاهَدٌ مِنَ الْأَرْضِ.
أَمَّا النِّيلُ ;
وَهُوَ النَّهْرُ الَّذِي لَيْسَ فِي أَنْهَارِ الدُّنْيَا لَهُ نَظِيرٌ فِي
خِفَّتِهِ، وَلَطَافَتِهِ، وَبُعْدِ مَسْرَاهُ فِيمَا بَيْنَ مُبْتَدَاهُ إِلَى
مُنْتَهَاهُ فَمُبْتَدَاهُ مِنَ الْجِبَالِ الْقُمْرِ أَيِ الْبِيضِ. وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: جِبَالُ الْقَمَرِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْكَوْكَبِ. وَهِيَ فِي
غَرْبِيِّ الْأَرْضِ وَرَاءَ خَطِّ الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْجَانِبِ الْجَنُوبِيِّ.
وَيُقَالُ: إِنَّهَا حُمْرٌ تَنْبُعُ مِنْ بَيْنِهَا عُيُونٌ، ثُمَّ تَجْتَمِعُ
مِنْ عَشْرِ مَسِيلَاتٍ مُتَبَاعِدَةٍ، ثُمَّ تَجْتَمِعُ كُلُّ خَمْسَةٍ مِنْهَا
فِي بَحْرٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْهَا أَنْهَارٌ سِتَّةٌ، ثُمَّ تَجْتَمِعُ كُلُّهَا
فِي بُحَيْرَةٍ أُخْرَى، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا نَهْرٌ وَاحِدٌ هُوَ النِّيلُ
فَيَمُرُّ عَلَى بِلَادِ السُّودَانِ بِالْحَبَشَةِ، ثُمَّ عَلَى النَّوْبَةِ،
وَمَدِينَتِهَا الْعُظْمَى دُمْقُلَةَ، ثُمَّ عَلَى أُسْوَانَ، ثُمَّ يَفِدُ عَلَى
دِيَارِ مِصْرَ، وَقَدْ تَحَمَّلَ إِلَيْهَا مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ زِيَادَاتِ
أَمْطَارِهَا، وَاجْتَرَفَ مِنْ تُرَابِهَا، وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِمَا مَعًا
; لِأَنَّ مَطَرَهَا قَلِيلٌ لَا يَكْفِي زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا،
وَتُرْبَتَهَا رِمَالٌ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا حَتَّى يَجِيءَ النِّيلُ
بِزِيَادَتِهِ وَطِينِهِ فَيَنْبُتُ فِيهِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَهِيَ مِنْ
أَحَقِّ الْأَرَاضِي بِدُخُولِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا
نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ
مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [ السَّجْدَةِ: 27 ].
ثُمَّ يَتَجَاوَزُ النِّيلُ مِصْرَ قَلِيلًا فَيَفْتَرِقُ شَطْرَيْنِ عِنْدَ
قَرْيَةٍ عَلَى شَاطِئِهِ يُقَالُ لَهَا شَطَنُوفُ فَيَمُرُّ الْغَرْبِيُّ عَلَى
رَشِيدٍ، وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ الْمَالِحِ، وَأَمَّا الشَّرْقِيُّ فَتَفْتَرِقُ
أَيْضًا عِنْدَ جَوْجَرَ فِرْقَتَيْنِ تَمُرُّ الْغَرْبِيَّةُ مِنْهُمَا عَلَى
دِمْيَاطَ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَيَصُبُّ فِي الْبَحْرِ، وَالشَّرْقِيَّةُ
مِنْهُمَا
تَمُرُّ عَلَى
أَشْمُونِ طَنَّاحٍ فَيَصُبُّ هُنَاكَ فِي بُحَيْرَةٍ شَرْقِيِّ دِمْيَاطَ يُقَالُ
لَهَا بُحَيْرَةُ تَنِّيسَ، وَبُحَيْرَةُ دِمْيَاطَ، وَهَذَا بُعْدٌ عَظِيمٌ
فِيمَا بَيْنَ مُبْتَدَاهُ إِلَى مُنْتَهَاهُ ; وَلِهَذَا كَانَ أَلْطَفَ
الْمِيَاهِ قَالَ ابْنُ سِينَا: لَهُ خُصُوصِيَّاتٌ دُونَ مِيَاهِ سَائِرِ
الْأَرْضِ فَمِنْهَا أَنَّهُ أَبْعَدُهَا مَسَافَةً مِنْ مَجْرَاهُ إِلَى
أَقْصَاهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَجْرِي عَلَى صُخُورٍ، وَرِمَالٍ لَيْسَ فِيهِ
خَزٌّ وَلَا طُحْلُبٌ وَلَا أَوْحَالٌ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَخْضَرُّ فِيهِ
حَجَرٌ وَلَا حَصَاةٌ ; وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِصِحَّةِ مِزَاجِهِ، وَحَلَاوَتِهِ
وَلَطَافَتِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ زِيَادَتَهُ فِي أَيَّامِ نُقْصَانِ سَائِرِ
الْأَنْهَارِ، وَنُقْصَانَهُ فِي أَيَّامِ زِيَادَتِهَا، وَكَثْرَتِهَا، وَأَمَّا
مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ أَصْلَ مَنْبَعِ النِّيلِ مِنْ مَكَانٍ
مُرْتَفِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَرَأَى هُنَاكَ هَوْلًا عَظِيمًا،
وَجَوَارِيَ حِسَانًا، وَأَشْيَاءَ غَرِيبَةً، وَأَنَّ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى
ذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ بَعْدَ هَذَا فَهُوَ مِنْ خُرَافَاتِ
الْمُؤَرِّخِينَ، وَهَذَيَانَاتِ الْأَفَّاكِينَ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَمَّنْ
حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلُهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
حِينَ دَخَلَ شَهْرُ بَؤُونَةَ مِنْ أَشْهُرِ الْعَجَمِ الْقِبْطِيَّةِ فَقَالُوا:
يَا أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا
بِهَا. فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا ذَاكَ قَالُوا: إِذَا كَانَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ
لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ
أَبَوَيْهَا فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا، وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَلْيِ،
وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ.
فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ
الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ. فَأَقَامُوا بَؤُونَةَ، وَالنِّيلُ لَا
يَجْرِي لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَفِي رِوَايَةٍ فَأَقَامُوا بَؤُونَةَ،
وَأَبِيبَ، وَمِسْرَى، وَهُوَ لَا يَجْرِي حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ
عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ إِنَّكَ
قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ، وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ
بِطَاقَةً دَاخِلَ
كِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ. فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ
عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا
تَجْرِي مِنْ قِبَلِ نَفْسِكَ فَلَا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَكَ.
فَأَلْقَى عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ فَأَصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَقَدْ
أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ،
وَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ.
وَأَمَّا الْفُرَاتُ فَأَصْلُهَا مِنْ شَمَالِيِّ أَرْزَنِ الرُّومِ فَتَمُرُّ
إِلَى قُرْبِ مَلْطِيَّةَ، ثُمَّ تَمُرُّ عَلَى سُمَيْسَاطَ، ثُمَّ عَلَى
إِلْبِيرَةَ قِبْلِيَّهَا، ثُمَّ تُشَرِّقُ إِلَى بَالِسَ، وَقَلْعَةِ جَعْبَرَ،
ثُمَّ إِلَى الرَّقَّةِ، ثُمَّ إِلَى الرَّحْبَةِ شَمَالَيَّهَا، ثُمَّ إِلَى
عَانَةَ، ثُمَّ إِلَى هِيتَ، ثُمَّ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ تَخْرُجُ إِلَى
فَضَاءِ الْعِرَاقِ، وَتَصُبُّ فِي بِطَائِحَ كِبَارٍ أَيْ بُحَيْرَاتٍ، وَتَرُدُّ
إِلَيْهَا، وَتَخْرُجُ مِنْهَا أَنْهَارٌ كِبَارٌ مَعْرُوفَةٌ تَصُبُّ فِي
الْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا سَيْحَانُ، وَيُقَالُ لَهُ سَيْحُونَ أَيْضًا فَأَوَّلُهُ مِنْ بِلَادِ
الرُّومِ، وَيَجْرِي مِنَ الشَّمَالِ، وَالْغَرْبِ إِلَى الْجَنُوبِ وَالشَّرْقِ،
وَهُوَ غَرْبِيُّ مَجْرَى
جَيْحَانَ،
وَدُونَهُ فِي الْقَدْرِ، وَهُوَ بِبِلَادِ الْأَرْمَنِ الَّتِي تُعْرَفُ
الْيَوْمَ بِبِلَادِ سِيسَ، وَقَدْ كَانَتْ فِي أَوَّلِ الدَّوْلَةِ
الْإِسْلَامِيَّةِ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا تَغَلَّبَ
الْفَاطِمِيُّونَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَلَكُوا الشَّامَ وَأَعْمَالَهَا
عَجَزُوا عَنْ صَوْنِهَا، مِنَ الْأَعْدَاءِ فَتَغَلَّبَ نِقْفُورُ الْأَرْمَنِيُّ
عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ أَعْنِي بِلَادَ سِيسَ فِي حُدُودِ الثَّلَاثِمِائَةِ
وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَاللَّهُ الْمَسْؤُولُ عَوْدَهَا إِلَيْنَا بِحَوْلِهِ
وَقُوَّتِهِ. ثُمَّ يَجْتَمِعُ سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ عِنْدَ أَذَنَةَ
فَيَصِيرَانِ نَهْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَصُبَّانِ فِي بَحْرِ الرُّومِ بَيْنَ
إِيَاسَ، وَطَرْسُوسَ.
وَأَمَّا جَيْحَانُ، وَيُقَالُ لَهُ جَيْحُونُ أَيْضًا، وَتُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ
جَاهَانَ، وَأَصْلُهُ فِي بِلَادِ الرُّومِ، وَيَسِيرُ فِي بِلَادِ سِيسَ مِنَ
الشَّمَالِ إِلَى الْجَنُوبِ، وَهُوَ يُقَارِبُ الْفُرَاتَ فِي الْقَدْرِ، ثُمَّ
يَجْتَمِعُ هُوَ وَسَيْحَانُ عِنْدَ أَذَنَةَ فَيَصِيرَانِ نَهْرًا وَاحِدًا،
ثُمَّ يَصُبَّانِ فِي الْبَحْرِ عِنْدَ إِيَاسَ، وَطَرْسُوسَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ
أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ
وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الرَّعْدِ: 2 - 4 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا
شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ
قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ
بَيْنَ الْبَحْرِينِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ [ النَّمْلِ: 60، 61 ]. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا
ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [ النَّحْلِ: 10 - 13 ].
فَذَكَرَ تَعَالَى
مَا خَلَقَ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجِبَالِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالثِّمَارِ،
وَالسُّهُولِ، وَالْأَوْعَارِ، وَمَا خَلَقَ مِنْ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ
الْجَمَادَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ فِي الْبَرَارِي، وَالْقِفَارِ، وَالْبِحَارِ
مَا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ،
وَمَا سَهَّلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهِ
فِي لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَصَيْفِهَا وَشِتَائِهَا، وَصَبَاحِهَا وَمَسَائِهَا
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
[ هُودٍ: 6 ].
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خَلَقَ
اللَّهُ أَلْفَ أُمَّةٍ مِنْهَا سِتُّمِائَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُمِائَةٍ
فِي الْبَرِّ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَهْلِكُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الْجَرَادُ
فَإِذَا هَلَكَ تَتَابَعَتْ مِثْلَ النِّظَامِ إِذَا قُطِعَ سِلْكُهُ. عُبَيْدُ
بْنُ وَاقِدٍ أَبُو عَبَّادٍ الْبَصْرِيُّ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ لَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَشَيْخُهُ أَضْعَفُ
مِنْهُ قَالَ الْفَلَّاسُ، وَالْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو
زُرْعَةَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدَّثَ عَنْهُ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ،
وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ بِعَيْنِهِ
وَغَيْرَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [ الْأَنْعَامِ: 38 ].
بَابُ ذِكْرِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْآيَاتِ
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[ الْبَقَرَةِ: 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي
خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا
وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 9 - 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا
أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا
وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [ النَّازِعَاتِ: 27 - 30
]. وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ قَوْلِهِ " وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا
" بِأَنَّ الدَّحْيَ غَيْرُ الْخَلْقِ، وَهُوَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ
الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابَ السَّعِيرِ [ الْمُلْكِ: 1 - 5 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [ النَّبَأِ: 12 - 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [ نُوحٍ: 15 - 16 ]. وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقِ: 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [ الْفُرْقَانِ: 61 - 62 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [ الصَّافَّاتِ: 6 - 10 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [ الْحِجْرِ: 16 - 18 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [ الذَّارِيَاتِ: 47 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ
آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 32 - 33 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس: 37 - 40 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ
فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [ الْأَنْعَامِ: 96 - 97 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ
بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 54 ]. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا،
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلٍّ مِنْهَا فِي التَّفْسِيرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْبِرُ عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَعَظَمَةِ
اتِّسَاعِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَأَنَّهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ
وَالْكَمَالِ وَالسَّنَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [
الذَّارِيَاتِ: 7 ]. أَيِ الْخَلْقِ
الْحَسَنِ. وَقَالَ
تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ
كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [ الْمُلْكِ:
3 - 4 ]. أَيْ خَاسِئًا عَنْ أَنْ يَرَى فِيهَا نَقْصًا أَوْ خَلَلًا. وَهُوَ
حَسِيرٌ أَيْ كَلَيْلٌ ضَعِيفٌ، وَلَوْ نَظَرَ حَتَّى يَعْيَ وَيَكِلَّ وَيَضْعُفَ
لَمَا اطَّلَعَ عَلَى نَقْصٍ فِيهَا وَلَا عَيْبٍ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ
أَحْكَمَ خَلْقَهَا، وَزَيَّنَ بِالْكَوَاكِبِ أُفُقَهَا كَمَا قَالَ: وَالسَّمَاءِ
ذَاتِ الْبُرُوجِ [ الْبُرُوجِ: 1 ]. أَيِ النُّجُومِ. وَقِيلَ: مَحَالُّ
الْحَرَسِ الَّتِي يُرْمَى مِنْهَا بِالشُّهُبِ لِمُسْتَرِقِ السَّمْعِ، وَلَا
مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلِقَدْ جَعَلْنَا فِي
السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [ الْحِجْرِ: 16 - 17 ]. فَذَكَرَ أَنَّهُ زَيَّنَ مَنْظَرَهَا
بِالْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ ; الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ،
وَالنُّجُومِ الزَّاهِرَاتِ، وَأَنَّهُ صَانَ حَوْزَتَهَا عَنْ حُلُولِ
الشَّيَاطِينِ بِهَا، وَهَذَا زِينَةُ مَعْنًى فَقَالَ: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. كَمَا قَالَ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى [ الصَّافَّاتِ: 6 - 8 ].
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ: وَقَالَ قَتَادَةُ: وَلَقَدْ
زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [ الْمُلْكِ: 5 ]. خَلَقَ هَذِهِ
النُّجُومَ لِثَلَاثٍ ; جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ،
وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا. فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ
ذَلِكَ أَخْطَأَ
وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ قَتَادَةُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [
الْمُلْكِ: 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ
لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [ الْأَنْعَامِ: 97 ].
فَمَنْ تَكَلَّفَ غَيْرَ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَيْ مَنْ عِلْمِ أَحْكَامِ مَا
تَدُلُّ عَلَيْهِ حَرَكَاتُهَا، وَمُقَارَنَاتُهَا فِي سَيْرِهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ
يَدُلُّ عَلَى حَوَادِثَ أَرْضِيةٍ فَقَدْ أَخْطَأَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ
كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا حَدْسٌ وَظُنُونٌ كَاذِبَةٌ
وَدَعَاوَى بَاطِلَةٌ. وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا أَيْ ; وَاحِدَةً فَوْقَ وَاحِدَةٍ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْهَيْئَةِ هَلْ هُنَّ مُتَرَاكِمَاتٍ ؟ أَوْ
مُتَفَاصِلَاتٍ بَيْنَهُنَّ خَلَاءٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَالصَّحِيحُ الثَّانِي ;
لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الْأَحْنَفِ،
عَنِ الْعَبَّاسِ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَمِنْ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ،
وَكَثِفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ. الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ رَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ فِيهِ:
وَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ
آدَمُ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ مَرْحَبًا
وَأَهْلًا بِابْنِي نِعَمَ الِابْنُ أَنْتَ. إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِي
إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ. وَكَذَا ذَكَرَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالرَّابِعَةِ،
وَالْخَامِسَةِ، وَالسَّادِسَةِ، وَالسَّابِعَةِ. فَدَلَّ عَلَى التَّفَاصُلِ
بَيْنَهَا لِقَوْلِهِ: ثُمَّ عُرِجَ بِنَا حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ
الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ
فَقِيلَ مَنْ هَذَا
؟. إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَزْمٍ، وَابْنُ الْمُنَادِي، وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ السَّمَاوَاتِ
كُرِّيَّةٌ مُسْتَدِيرَةٌ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كُلٌّ فِي
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس: 40 ]. قَالَ الْحَسَنُ: يَدُورُونَ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ فِي فَلْكَةٍ مِثْلِ فَلْكَةِ الْمِغْزَلِ قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَى
ذَلِكَ أَنَّ الشَّمْسَ تَغْرُبُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ تَطْلُعُ
فِي آخِرِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ حَمْرَاءَ يُصْبِحُ لَوْنُهَا
يَتَوَرَّدُ لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا
إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ: تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ
قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ
تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا
يُقْبَلُ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي
مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
).
هَذَا لَفْظُهُ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ. وَرَوَاهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَفِي
التَّوْحِيدِ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي
الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، وَمِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ،
وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ بِهِ
نَحْوَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
إِذَا عُلِمَ هَذَا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ لَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ
اسْتِدَارَةِ الْأَفْلَاكِ الَّتِي هِيَ السَّمَاوَاتُ عَلَى أَشْهَرِ
الْقَوْلَيْنِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كُرِّيَّةِ الْعَرْشِ كَمَا زَعَمَهُ
زَاعِمُونَ قَدْ أَبْطَلْنَا قَوْلَهُمْ فِيمَا سَلَفَ. وَلَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا تَصْعَدُ إِلَى فَوْقِ السَّمَاوَاتِ مِنْ جِهَتِنَا حَتَّى تَسْجُدَ
تَحْتَ الْعَرْشِ بَلْ هِيَ تَغْرُبُ عَنْ أَعْيُنِنَا، وَهِيَ مُسْتَمِرَّةٌ فِي
فَلَكِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ، وَهُوَ الرَّابِعُ فِيمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْ عُلَمَاءِ التَّسْيِيرِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَنْفِيهِ، بَلْ فِي
الْحِسِّ وَهُوَ
الْكُسُوفَاتُ مَا
يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَقْتَضِيهِ فَإِذَا ذَهَبَتْ فِيهِ حَتَّى تَتَوَسَّطَهُ
وَهُوَ وَقْتُ نِصْفِ اللَّيْلِ مَثَلًا فِي اعْتِدَالِ الزَّمَانِ، بِحَيْثُ
يَكُونُ بَيْنَ الْقُطْبَيْنِ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ فَإِنَّهَا تَكُونُ
أَبْعَدَ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ ; لِأَنَّهُ مُقَبَّبٌ مِنْ جِهَةِ وَجْهِ
الْعَالَمِ، وَهَذَا مَحَلُّ سُجُودِهَا كَمَا يُنَاسِبُهَا، كَمَا أَنَّهَا
أَقْرَبُ مَا تَكُونُ مِنَ الْعَرْشِ وَقْتَ الزَّوَالِ مِنْ جِهَتِنَا، فَإِذَا
كَانَتْ فِي مَحَلِّ سُجُودِهَا اسْتَأْذَنَتِ الرَّبَّ جَلَّ جَلَالُهُ فِي
طُلُوعِهَا مِنَ الشَّرْقِ، فَيُؤْذَنُ لَهَا، فَتَبْدُو مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ،
وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ كَارِهَةٌ لِعُصَاةِ بَنِي آدَمَ أَنْ تَطْلُعَ عَلَيْهِمْ،
وَلِهَذَا قَالَ أُمَيَّةُ:
لَيْسَتْ بِطَالِعَةٍ لَهُمْ فِي رِسْلِهَا إِلَّا مُعَذَّبَةً وَإِلَّا تُجْلَدُ
فَإِذَا كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ طُلُوعَهَا فِيهِ مِنْ جِهَةِ
مَغْرِبِهَا تَسْجُدُ عَلَى عَادَتِهَا، وَتَسْتَأْذِنُ فِي الطُّلُوعِ مِنْ
عَادَتِهَا فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، فَجَاءَ أَنَّهَا تَسْجُدُ أَيْضًا، ثُمَّ
تَسْتَأْذِنُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا، ثُمَّ تَسْجُدُ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا،
وَتَطُولُ تِلْكَ اللَّيْلَةُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ، فَتَقُولُ: يَا
رَبِّ إِنَّ الْفَجْرَ قَدِ اقْتَرَبَ، وَإِنَّ الْمَدَى بَعِيدٌ. فَيُقَالُ لَهَا
ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ
آمَنُوا جَمِيعًا، وَذَلِكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ
آمَنَتْ مِنْ
قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا. وَفَسَّرُوا بِذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [ يس: 38 ]. قِيلَ: لِوَقْتِهَا الَّذِي تُؤْمَرُ فِيهِ أَنْ تَطْلُعَ مِنْ مَغْرِبِهَا وَقِيلَ: مُسْتَقَرُّهَا مَوْضِعُهَا الَّذِي تَسْجُدُ فِيهِ تَحْتَ الْعَرْشِ. وَقِيلَ: مُنْتَهَى سَيْرِهَا وَهُوَ آخِرُ الدُّنْيَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا أَيْ لَيْسَتْ تَسْتَقِرُّ فَعَلَى هَذَا تَسْجُدُ، وَهِيَ سَائِرَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ يس: 40 ]. أَيْ لَا تُدْرِكُ الشَّمْسُ الْقَمَرَ فَتَطْلُعُ فِي سُلْطَانِهِ وَدَوْلَتِهِ، وَلَا هُوَ أَيْضًا وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ. أَيْ: لَيْسَ سَابِقَهُ بِمَسَافَةٍ يَتَأَخَّرُ ذَاكَ عَنْهُ فِيهَا بَلْ إِذَا ذَهَبَ النَّهَارُ جَاءَ اللَّيْلُ فِي إِثْرِهِ مُتَعَقِّبًا لَهُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 54 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [ الْفُرْقَانِ: 62 ]. أَيْ: يُخْلِفُ هَذَا لِهَذَا وَهَذَا لِهَذَا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وَغَرَبَتِ
الشَّمْسُ فَقَدْ
أَفْطَرَ الصَّائِمُ. فَالزَّمَانُ الْمُحَقِّقُ يَنْقَسِمُ إِلَى لَيْلٍ
وَنَهَارٍ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا غَيْرُهُمَا ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: يُولِجُ
اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [ فَاطِرٍ: 13 ]. أَيْ: يُولِجُ مِنْ
هَذَا فِي هَذَا أَيْ: يَأْخُذُ مِنْ طُولِ هَذَا فِي قَصْرِ هَذَا
فَيَعْتَدِلَانِ كَمَا فِي أَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ ; يَكُونُ اللَّيْلُ قَبْلَ
ذَلِكَ طَوِيلًا وَالنَّهَارُ قَصِيرًا، فَلَا يَزَالُ اللَّيْلُ يَنْقُصُ
وَالنَّهَارُ يَتَزَايَدُ حَتَّى يَعْتَدِلَا وَهُوَ أَوَّلُ الرَّبِيعِ، ثُمَّ
يَشْرَعُ النَّهَارُ يَطُولُ وَيَتَزَايَدُ، وَاللَّيْلُ يَتَنَاقَصُ إِلَى آخِرِ
فَصْلِ الرَّبِيعِ، ثُمَّ يَتَرَاجَعُ الْأَمْرُ وَيَنْعَكِسُ الْحَالُ فَيَشْرَعُ
النَّهَارُ يَتَنَاقَصُ وَاللَّيْلُ فِي ازْدِيَادٍ حَتَّى يَعْتَدِلَا أَيْضًا
فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، ثُمَّ يَشْرَعُ اللَّيْلُ يَطُولُ وَيَقْصُرُ
النَّهَارُ إِلَى آخِرِ فَصْلِ الْخَرِيفِ، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ النَّهَارُ قَلِيلًا
قَلِيلًا، وَيَتَنَاقَصُ اللَّيْلُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَعْتَدِلَا فِي
أَوَّلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَهَكَذَا فِي كُلِّ عَامٍ،
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [
الْمُؤْمِنُونَ: 80 ]. أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الْحَاكِمُ
الَّذِي لَا يُخَالِفُ وَلَا يُمَانِعُ ; وَلِهَذَا يَقُولُ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ
عِنْدَ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ، وَالنُّجُومِ، وَاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ: ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ الْأَنْعَامِ: 80، يس: 38، فُصِّلَتْ: 12 ].
أَيِ الْعَزِيزِ الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ
فَلَا يُمَانَعُ، وَلَا يُغَالَبُ، الْعَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَقَدَّرَ كُلَّ
شَيْءٍ تَقْدِيرًا عَلَى نِظَامٍ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ،
وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَفِي
رِوَايَةٍ فَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ ; كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ
سَلَّامٍ، وَغَيْرِهِمَا: يَسُبُّ الدَّهْرَ أَيْ يَقُولُ فَعَلَ بِنَا الدَّهْرُ
كَذَا يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ أَيْتَمَ الْأَوْلَادَ أَرْمَلَ النِّسَاءَ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنَا الدَّهْرُ. أَيْ أَنَا الدَّهْرُ الَّذِي يَعْنِيهِ
فَإِنَّهُ فَاعِلُ ذَلِكَ الَّذِي أَسْنَدَهُ إِلَى الدَّهْرِ، وَالدَّهْرُ
مَخْلُوقٌ، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ فَهُوَ يَسُبُّ
فَاعِلَ ذَلِكَ، وَيَعْتَقِدُهُ الدَّهْرَ، وَاللَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ
الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ: وَأَنَا
الدَّهْرُ بِيَدِيَ الْأَمْرُ أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ. وَكَمَا قَالَ
تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ
تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 - 27 ]. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ
[ يُونُسَ: 5 - 6 ].
أَيْ فَاوَتَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي نُورِهِمَا، وَفِي شَكْلِهِمَا، وَفِي وَقْتِهِمَا، وَفِي سَيْرِهِمَا فَجَعَلَ هَذَا ضِيَاءً وَهُوَ شُعَاعُ الشَّمْسِ بُرْهَانٌ سَاطِعٌ وَضَوْءٌ بَاهِرٌ، وَالْقَمَرَ نُورًا، أَيْ أَضْعَفُ مِنْ بُرْهَانِ الشَّمْسِ، وَجَعَلَهُ مُسْتَفَادًا مِنْ ضَوْئِهَا، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ. أَيْ يَطَّلِعُ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنَ الشَّهْرِ صَغِيرًا ضَئِيلًا قَلِيلَ النُّورِ لِقُرْبِهِ مِنَ الشَّمْسِ، وَقِلَّةِ مُقَابَلَتِهِ لَهَا فَبِقَدْرِ مُقَابَلَتِهِ لَهَا يَكُونُ نُورُهُ ; وَلِهَذَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْهَا بِضِعْفِ مَا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الْأَوْلَى فَيَكُونُ نُورُهُ بِضِعْفِ النُّورِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ كُلَّمَا بَعُدَ ازْدَادَ نُورُهُ حَتَّى يَتَكَامَلَ إِبْدَارُهُ لَيْلَةَ مُقَابَلَتِهِ إِيَّاهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ لِاقْتِرَابِهِ إِلَيْهَا مِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى إِلَى آخِرِ الشَّهْرِ، فَيَسْتَتِرُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي فَبِهِ تُعْرَفُ الشُّهُورُ، وَبِالشَّمْسِ تُعْرَفُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ السِّنُونَ وَالْأَعْوَامُ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [ يُونُسَ: 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [ الْبَقَرَةِ: 189 ]. وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ.
فَالْكَوَاكِبُ
الَّتِي فِي السَّمَاءِ مِنْهَا سَيَّارَاتٌ ; وَهِيَ الْمُتَحَيِّرَةُ فِي
اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ التَّسْيِيرِ، وَهُوَ عِلْمٌ غَالِبُهُ صَحِيحٌ بِخِلَافِ
عِلْمِ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ غَالِبَهُ بَاطِلٌ، وَدَعْوَى مَا لَا دَلِيلَ
عَلَيْهِ، وَهِيَ سَبْعَةٌ ; الْقَمَرُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَعُطَارِدُ فِي
الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ،
وَالْمِرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرَى فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي
السَّابِعَةِ. وَبَقِيَّةُ الْكَوَاكِبِ يُسَمُّونَهَا الثَّوَابِتَ، وَهِيَ عِنْدَهُمْ
فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ، وَهُوَ الْكُرْسِيُّ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْكَوَاكِبُ كُلُّهَا فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَلَا
مَانِعَ مِنْ كَوْنَ بَعْضِهَا فَوْقَ بَعْضٍ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا
رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [ الْمُلْكِ: 5 ]. وَبِقَوْلِهِ: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 12 ]. فَخَصَّ سَمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ بَيْنِهِنَّ
بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ فَإِنْ دَلَّ هَذَا عَلَى كَوْنِهَا مُرَصَّعَةً فِيهَا
فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَا مَانِعَ مِمَّا قَالَهُ الْآخَرُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَفْلَاكَ السَّبْعَةَ بَلِ الثَّمَانِيَةَ تَدُورُ بِمَا
فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ فِي الْيَوْمِ
وَاللَّيْلَةِ دَوْرَةً كُلِّيَّةً مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ، وَعِنْدَهُمْ
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَاتِ يَدُورُ عَلَى خِلَافِ
فَلَكِهِ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ ; فَالْقَمَرُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ فِي
شَهْرٍ، وَالشَّمْسُ تَقْطَعُ فَلَكَهَا وَهُوَ الرَّابِعُ فِي سَنَةٍ فَإِذَا
كَانَ السَّيْرَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ، وَحَرَكَاتُهُمَا
مُتَقَارِبَةٌ
كَانَ قَدْرُ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ بِقَدْرِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ مَرَّةً، وَزُحَلُ يَقْطَعُ فَلَكَهُ وَهُوَ السَّابِعُ فِي ثَلَاثِينَ
سَنَةً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِقَدْرِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثَلَثُمِائَةٍ
وَسِتِّينَ مَرَّةً.
وَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى مَقَادِيرِ أَجْرَامِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَسِيَرِهَا
وَحَرَكَاتِهَا، وَتَوَسَّعُوا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى تَعَدَّوْا إِلَى
عِلْمِ الْأَحْكَامِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَوَادِثِ
الْأَرْضِيَّةِ، وَمِمَّا لَا عِلْمَ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ بِهِ. وَقَدْ كَانَ
الْيُونَانِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ الشَّامَ قَبْلَ زَمَنِ
الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدُهُورٍ لَهُمْ فِي هَذَا كَلَامٌ كَثِيرٌ
يَطُولُ بَسْطُهُ، وَهُمُ الَّذِينَ بَنَوْا مَدِينَةَ دِمَشْقَ، وَجَعَلُوا لَهَا
أَبْوَابًا سَبْعَةً، وَجَعَلُوا عَلَى رَأْسِ كُلِّ بَابٍ هَيْكَلًا عَلَى صِفَةِ
الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ يَعْبُدُونَ كُلَّ وَاحِدٍ فِي هَيْكَلِهِ،
وَيَدْعُونَهُ بِدُعَاءٍ يَأْثَرُهُ عَنْهُمْ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ
التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرُهُ صَاحِبُ " السِّرِّ الْمَكْتُومِ فِي
مُخَاطَبَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ " وَهُوَ خُرَافَاتٌ لَا
يُلْتَفَتُ إِلَيْهَا. وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَرَّنَانِيِّينَ فَلَاسِفَةِ
حَرَّانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَقَدْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ
الْكَوَاكِبَ السَّبْعَ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّابِئِينَ، وَلِهَذَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [ فُصِّلَتْ: 37 ].
وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا
عَنِ الْهُدْهُدِ أَنَّهُ قَالَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ بِلْقِيسَ وَجُنُودِهَا ; مَلِكَةِ سَبَأٍ فِي الْيَمَنِ وَمَا وَالَاهَا: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ النَّمْلِ: 23 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ الْحَجِّ: 18 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ النَّحْلِ: 48 50 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [ الرَّعْدِ: 15 ]. وَقَالَ تَعَالَى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 44 ]. وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَلِمَّا كَانَ
أَشْرَفُ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ
الْكَوَاكِبَ، وَأَشْرَقُهُنَّ مَنْظَرًا، وَأَشْرَفُهُنَّ مُعْتَبَرًا الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ، اسْتَدَلَّ الْخَلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ شَيْءٍ
مِنْهُنَّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا
قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً
قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [
الْأَنْعَامِ: 77 - 79 ]. فَبَيَّنَ بِطْرِيقِ الْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ أَنَّ
هَذِهِ الْأَجْرَامَ الْمُشَاهَدَاتِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ
لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْهَا لِلْإِلَهِيَّةِ ; لِأَنَّهَا كُلَّهَا مَخْلُوقَةٌ
مَرْبُوبَةٌ مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ فِي سَيْرِهَا لَا تَحِيدُ عَمَّا خُلِقَتْ
لَهُ، وَلَا تَزِيغُ عَنْهُ إِلَّا بِتَقْدِيرٍ مُتْقَنٍ مُحَرَّرٍ لَا تَضْطَرِبُ
وَلَا تَخْتَلِفُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ
مُسَخَّرَةٌ مَقْهُورَةٌ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ
وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [
فُصِّلَتْ: 37 ].
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ،
وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَئِذٍ
أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَإِنَّهُمَا لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَدْءِ الْخَلْقِ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
الْمُخْتَارِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ،
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا
السِّيَاقِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ زِيَادٍ الْبَغْدَادِيُّ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
الْمُخْتَارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الدَّانَاجِ سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ زَمَنَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ فِي هَذَا
الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ الْحَسَنُ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَحَدَّثَ
قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثَوْرَانِ فِي النَّارِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ الْحَسَنُ: وَمَا ذَنْبُهُمَا ؟ فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ وَمَا
ذَنْبُهُمَا ؟ ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يَرْوِ عَبْدُ اللَّهِ الدَّانَاجُ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ سِوَى هَذَا الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ
الرَّقَاشِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ فِي
النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ،
وَعَمْرُو
بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ شَيْخٍ
مِنْ بَجِيلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ التَّكْوِيرِ: 1
]. قَالَ: يُكَوِّرُ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِي الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا دَبُورًا فَتُضْرِمُهَا
نَارًا.
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ مَخْلُوقَاتِ
اللَّهِ خَلَقَهَا اللَّهُ لِمَا أَرَادَ، ثُمَّ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ،
وَلَهُ الْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، فَلَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ
وَحُكْمِهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا أَوْرَدَهُ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ
فِي أَوَّلِ كِتَابِ " السِّيرَةِ " مِنَ الشِّعْرِ لِزَيْدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي خَلْقِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
إِلَى اللَّهِ أُهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا وَقَوْلًا رَصِينًا لَا يَنِي
الدَّهْرَ بَاقِيًا
إِلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إِلَهٌ وَلَا رَبٌّ يَكُونُ
مُدَانِيَا
أَلَا أيُّهَا الْإِنْسَانُ إِيَّاكَ وَالرَّدَى فَإِنَّكَ لَا تُخْفِي مِنَ
اللَّهِ خَافِيَا
وَإِيَّاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ فَإِنَّ سَبِيلَ الرُّشْدِ
أَصْبَحَ بَادِيَا
حَنَانَيْكَ إِنَّ الْجِنَّ كَانَتْ رَجَاءَهُمْ وَأَنْتَ إِلَهِي رَبَّنَا
وَرَجَائِيَا
رَضِيتُ بِكَ
اَللَّهُمَّ رَبًّا فَلَنْ أُرَى أَدِينُ إِلَهًا غَيْرَكَ اَللَّهُ ثَانِيَا
وَأَنْتَ اَلَّذِي مِنْ فَضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولًا
مُنَادِيَا
فَقُلْتَ لَهُ يَا اِذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوَا إِلَى اَللَّهِ فِرْعَوْنَ اَلَّذِي
كَانَ طَاغِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ بِلَا وَتَدٍ حَتَّى اِطْمَأَنَّتْ كَمَا
هِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ رَفَعْتَ هَذِهِ بِلَا عَمَدٍ أَرْفِقْ إِذًا بِكَ
بَانِيَا
وَقُولَا لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّهُ
اَللَّيْلُ هَادِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ اَلشَّمْسَ غَدْوَةً فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنَ
اَلْأَرْضِ ضَاحِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ اَلْحَبَّ فِي اَلثَّرَى فَيُصْبِحُ مِنْهُ
اَلْبَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا
وَيُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّهُ فِي رُءُوسِهِ وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ
وَاعِيَا
وَأَنْتَ بِفَضْلٍ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ
لَيَالِيَا
وَإِنِّي وَلَوْ سَبَّحْتُ بِاسْمِكَ رَبَّنَا لِأُكْثِرَ إِلَّا مَا غَفَرْتَ
خَطَائِيَا
فَرَبَّ اَلْعِبَادِ أَلْقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً عَلَيَّ وَبَارِكْ فِي بَنِيَّ
وَمَالِيَا
.
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا فَالْكَوَاكِبُ الَّتِي فِي السَّمَاءِ مِنَ الثَّوَابِتِ
وَالسَّيَّارَاتِ، الْجَمِيعُ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا
قَالَ:وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا
بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [ فُصِّلَتْ: 12
].
وَأَمَّا مَا
يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ; مِنْ
أَنَّ الزُّهْرَةَ كَانَتِ امْرَأَةً حَسْنَاءَ فَرَاوَدَاهَا عَلَى نَفْسِهَا،
فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ يُعَلِّمَاهَا الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَعَلَّمَاهَا،
فَقَالَتْهُ ; فَرُفِعَتْ كَوْكَبًا إِلَى السَّمَاءِ فَهَذَا أَظُنُّهُ مِنْ
وَضْعِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ كَعْبُ
الْأَحْبَارِ، وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ فَذَكَرُوهُ عَلَى
سَبِيلِ الْحِكَايَةِ وَالتَّحْدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رَوَى
الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا ;
رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهِ:
فَمَثَّلَتْ لَهُمَا الزَّهْرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ فَجَاءَتْهُمَا
فَسَأَلَاهَا نَفْسَهَا. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ
فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ بِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ وَأَثْبَتُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي
تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ. وَقَالَ فِيهِ: وَفِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي النِّسَاءِ كَحُسْنِ الزُّهْرَةِ فِي سَائِرِ
الْكَوَاكِبِ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ. وَهَذَا أَحْسَنُ لَفْظٍ رُوِيَ فِي هَذِهِ
الْقِصَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ سُهَيْلًا فَقَالَ: كَانَ عَشَّارًا ظَلُومًا فَمَسَخَهُ اللَّهُ شِهَابًا. ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ إِلَّا مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ وَلَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ إِلَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ. وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ لِأَنَّا لَمْ نَحْفَظْهُ إِلَّا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: أَمَّا مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْقُرَشِيُّ فَهُوَ أَبُو حَفْصٍ الْحِمْصِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُوفَةِ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الْجَمِيعُ. وَقَالَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَيَكْذِبُ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ فَهُوَ الْخُوزِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ قَالَ فِيهِ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ: مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِثِقَةٍ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: سَكَتُوا عَنْهُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. وَمِثْلُ هَذَا الْإِسْنَادِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِذَا أَحْسَنَّا الظَّنَّ قُلْنَا: هَذَا مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَيَكُونُ مِنْ خُرَافَاتِهِمُ الَّتِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي
الْكَلَامِ عَلَى الْمَجَرَّةِ وَقَوْسِ قُزَحٍ
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَارِمٌ أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ
هِرَقْلَ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ: إِنْ كَانَ بَقِيَ فِيهِمْ شَيْءٌ
مِنَ النُّبُوَّةِ فَسَيُخْبِرُنِي عَمَّا أَسْأَلُهُمْ عَنْهُ. قَالَ: فَكَتَبَ
إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنِ الْمَجَرَّةِ، وَعَنِ الْقَوْسِ، وَعَنِ الْبُقْعَةِ
الَّتِي لَمَّ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً. قَالَ: فَلَمَّا
أَتَى مُعَاوِيَةَ الْكِتَابُ وَالرَّسُولُ، قَالَ: إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا
كُنْتُ آبَهُ لَهُ أَنْ أَسْأَلَ عَنْهُ إِلَى يَوْمِي هَذَا، مَنْ لِهَذَا ؟.
قِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. فَطَوَى مُعَاوِيَةُ كِتَابَ هِرَقْلَ، فَبُعِثَ بِهِ
إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْقَوْسَ أَمَانٌ لِأَهْلِ
الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمَجَرَّةَ بَابُ السَّمَاءِ الَّذِي تَنْشَقُّ
مِنْهُ، وَأَمَّا الْبُقْعَةُ الَّتِي لَمْ تُصِبْهَا الشَّمْسُ إِلَّا سَاعَةً
مِنَ النَّهَارِ فَالْبَحْرُ الَّذِي أُفْرِجَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ
الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُعَاذُ إِنِّي مُرْسِلُكَ إِلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَإِذَا سُئِلْتَ عَنِ الْمَجَرَّةِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ فَقُلْ هِيَ لُعَابُ حَيَّةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، بَلِ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ. وَرِوَايَةُ الْفَضْلِ بْنِ الْمُخْتَارِ هَذَا أَبُو سَهْلٍ الْبَصْرِيُّ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ. قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هُوَ مَجْهُولٌ يُحَدِّثُ بِالْأَبَاطِيلِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ. مُنْكَرُ الْحَدِيثِ جِدًّا. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى أَحَادِيثِهِ لَا مَتْنًا، وَلَا إِسْنَادًا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [ الرَّعْدِ: 12 - 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 164 ].
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنِ اللَّهَ يُنْشِئُ السَّحَابَ، فَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ، وَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ نُطْقَهُ الرَّعْدُ. وَضَحِكَهُ الْبَرْقُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ الْبَرْقَ مَلَكٌ لَهُ أَرْبَعَةُ وُجُوهٍ ; وَجْهُ إِنْسَانٍ، وَوَجْهُ ثَوْرٍ، وَوَجْهُ نَسْرٍ، وَوَجْهُ أَسَدٍ، فَإِذَا مَصَعَ بِذَنْبِهِ فَذَلِكَ الْبَرْقُ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو مَطَرٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَرَوَى ابْنُ
جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ لَيْثٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: كَانَ
إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحَتْ لَهُ. وَكَذَا،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَطَاوُسٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَرَوَى مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا
سَمِعَ الرَّعْدَ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ
بِحَمْدِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مَنْ خِيفَتِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ
لِأَهْلِ الْأَرْضِ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ: رَبُّكُمْ لَوْ
أَنَّ عَبِيدِي أَطَاعُونِي لَأَسْقَيْتُهُمُ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ، وَأَطْلَعْتُ
عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ، وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا إِذَا سَمِعْتُمْ صَوْتَ
الرَّعْدِ فَاذْكُرُوا اللَّهَ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ ذَاكِرًا.
وَكُلُّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
بَابُ ذِكْرِ
خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ آلِ عِمْرَانَ: 18 ]. وَقَالَ: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ
بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [
النِّسَاءِ: 166 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا
سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ
بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا
يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 26 - 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الشُّورَى: 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ
شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ
وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ غَافِرٍ: 7، 8 ].
وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [ فُصِّلَتْ: 38 ]. وَقَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 19 20 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ الصَّافَّاتِ: 164 - 166 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [ مَرْيَمَ: 64 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [ الِانْفِطَارِ: 10 - 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [ الْمُدَّثِّرِ: 31 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ الرَّعْدِ: 23 - 24 ]. وَقَالَ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ فَاطِرِ: 1 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [ الْفُرْقَانِ: 25 - 26 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا [ الْفُرْقَانِ: 21 22 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [ الْبَقَرَةِ: 98 ]. وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [ التَّحْرِيمِ: 6 ]. وَالْآيَاتُ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا يَصِفُهُمْ تَعَالَى بِالْقُوَّةِ فِي الْعِبَادَةِ وَفِي الْخَلْقِ، وَحُسْنِ الْمَنْظَرِ، وَعَظَمَةِ الْأَشْكَالِ، وَقُوَّةِ الشَّكْلِ فِي الصُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [ هُودٍ: 77 - 78 ]. الْآيَاتِ. فَذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَبْدُو لَهُمْ فِي صُورَةِ شَبَابٍ حِسَانٍ امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا حَتَّى قَامَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ الْحُجَّةُ، وَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ. وَكَذَلِكَ كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; فَتَارَةً يَأْتِي فِي صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ، وَتَارَةً فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ،
وَتَارَةً فِي
صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ مَا بَيْنَ كُلِّ
جَنَاحَيْنِ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، كَمَا رَآهُ عَلَى هَذِهِ
الصِّفَةِ مَرَّتَيْنِ ; مَرَّةً مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ،
وَتَارَةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَهُوَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [ النَّجْمِ: 5 - 8 ]. أَيْ جِبْرِيلُ
كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ ; ابْنُ
مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو ذَرٍّ، وَعَائِشَةُ. فَكَانَ قَابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. أَيْ إِلَى عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ
رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [ النَّجْمِ: 13 - 14 ].
وَكُلُّ ذَلِكَ الْمُرَادُ بِهِ جِبْرِيلُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ أَنَّ
سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: فِي
السَّادِسَةِ أَيْ: أَصْلُهَا، وَفُرُوعُهَا فِي السَّابِعَةِ، إِذْ يَغْشَى
السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. قِيلَ: غَشِيَهَا نُورُ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ.
وَقِيلَ: غَشِيَهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ. وَقِيلَ: غَشِيَهَا أَلْوَانٌ
مُتَعَدِّدَةٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ. وَقِيلَ: غَشِيَهَا الْمَلَائِكَةُ
مِثْلَ الْغِرْبَانِ. وَقِيلَ: غَشِيَهَا مِنَ اللَّهِ أَمْرٌ، فَلَا يَسْتَطِيعُ
أَحَدٌ أَنْ يَنْعَتَهَا ; أَيْ مِنْ حُسْنِهَا وَبَهَائِهَا. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِذِ الْجَمِيعُ مُمْكِنٌ حُصُولُهُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ.
وَذَكَرْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا كَالْقِلَالِ. وَفِي
رِوَايَةٍ: كَقِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ
الْفِيَلَةِ، وَإِذَا يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ ; فَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ. وَفِيهِ: ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْتَنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ فِي هَذَا ; أَنَّ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ. وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ ; أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ فَقَالَ: هُوَ مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ، وَهُوَ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِهَا، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْبَيْتِ فِي الْأَرْضِ، يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا. وَهَكَذَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلَوَيْهِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ يُقَالُ لَهُ الضُّرَاحُ، وَهُوَ عَلَى مِثْلِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ بِحِيَالِهِ، لَوْ سَقَطَ لَسَقَطَ عَلَيْهِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ
مَلَكٍ، ثُمَّ لَا
يَرَوْنَهُ قَطُّ، وَإِنَّ لَهُ فِي السَّمَاءِ حُرْمَةً عَلَى قَدْرِ حُرْمَةِ
مَكَّةَ. يَعْنِي فِي الْأَرْضِ. وَهَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالسُّدِّيُّ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ هَلْ تَدْرُونَ مَا
الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: فَإِنَّهُ
مَسْجِدٌ فِي السَّمَاءِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ، لَوْ خَرَّ لَخَرَّ عَلَيْهَا،
يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ
يَعُودُوا آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ. وَزَعَمَ الضَّحَّاكُ أَنَّهُ تَعْمُرُهُ طَائِفَةٌ
مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْحِنُّ مِنْ قَبِيلَةِ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ
اللَّهُ. كَانَ يَقُولُ سَدَنَتُهُ وَخُدَّامُهُ مِنْهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ يَعْمُرُهُ مَلَائِكَتُهُ
بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، وَيَفِدُونَ إِلَيْهِ بِالنَّوْبَةِ وَالْبَدَلِ، كَمَا
يَعْمُرُ أَهْلُ الْأَرْضِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ بِالْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ،
وَالِاعْتِمَارِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَالطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ فِي كُلِّ آنٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِهِ
الْمَغَازِي: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ مُجَاهِدٍ: أَنَّ الْحَرَمَ
حَرَامٌ مَنَاهُ يَعْنِي قَدْرَهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرَضِينَ
السَّبْعِ، وَأَنَّهُ رَابِعُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْتًا ; فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتٌ،
وَفِي كُلِّ أَرْضٍ بَيْتٌ لَوْ سَقَطَتْ سَقَطَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ
رَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنَاهُ ; أَيْ مُقَابِلُهُ، وَهُوَ حَرْفٌ
مَقْصُورٌ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ،
عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مُؤَذِّنِ الْحَجَّاجِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَمْرٍو يَقُولُ: إِنَّ الْحَرَمَ مُحَرَّمٌ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ
مِقْدَارُهُ
مِنَ الْأَرْضِ،
وَإِنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مُقَدَّسٌ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مِقْدَارُهُ
مِنَ الْأَرْضِ. كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَشَدُّ
وَأَطْوَلُ
وَاسْمُ الْبَيْتِ الَّذِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بَيْتُ الْعِزَّةِ، وَاسْمُ
الْمَلَكِ الَّذِي هُوَ مُقَدَّمُ الْمَلَائِكَةِ فِيهَا إِسْمَاعِيلُ، فَعَلَى
هَذَا يَكُونُ السَّبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ
فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ
آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ: أَيْ لَا تَحْصُلُ لَهُمْ نَوْبَةٌ فِيهِ إِلَى آخِرِ
الدَّهْرِ ; يَكُونُونَ مِنْ سُكَّانِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَحْدَهَا،
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [
الْمُدَّثِّرِ: 31 ].
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُوَرِّقٍ،
عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ
أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ; مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ
أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ
لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَمَا تَلَذَّذْتُمْ
بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ
إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي
شَجَرَةٌ تُعْضَدُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
إِسْرَائِيلَ فَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ
مَوْقُوفًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَرَفَةَ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عُرْوَةُ بْنُ مَرْوَانَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ مَوْضِعُ قَدَمٍ وَلَا شِبْرٍ وَلَا كَفٍّ إِلَّا وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ مَلَكٌ رَاكِعٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالُوا جَمِيعًا: مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ إِلَّا أَنَّا لَا نُشْرِكُ بِكَ شَيْئًا. فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّهُ مَا مِنْ مَوْضِعٍ فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ إِلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِالْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ فِي صُنُوفٍ مِنَ الْعِبَادَةِ ; مِنْهُمْ مَنْ هُوَ قَائِمٌ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ رَاكِعٌ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ سَاجِدٌ أَبَدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي صُنُوفٍ أُخَرَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَهُمْ دَائِمُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ، وَتَسْبِيحِهِمْ، وَأَذْكَارِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَلَهُمْ مَنَازِلُ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ الصَّافَّاتِ: 164 - 166 ]. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا قَالُوا: وَكَيْفَ يَصُفُّونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ.
وَقَالَ فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ ; جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا، وَتُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ. وَكَذَلِكَ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ صُفُوفًا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [ الْفَجْرِ: 22 ]. وَيَقِفُونَ صُفُوفًا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [ النَّبَأِ: 38 ]. وَالْمُرَادُ بِالرُّوحِ هَاهُنَا بَنُو آدَمَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ. وَقِيلَ: ضَرْبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُشْبِهُونَ بَنِي آدَمَ فِي الشَّكْلِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالْأَعْمَشُ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ. قَالَهُ الشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: الرُّوحُ بِقَدْرِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ. قَالَ: هُوَ مَلَكٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلَائِكَةِ خُلُقًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الرُّوحُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ هُوَ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْجِبَالِ، وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ تَسْبِيحَةٍ
مَلَكًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفًّا وَحْدَهُ. وَهَذَا غَرِيبٌ
جِدًّا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الْحَكِيمِ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ اللَّهِ بْنُ رِزْقٍ أَبُو
هُرَيْرَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ
حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا لَوْ
قِيلَ لَهُ: الْتَقِمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ بِلَقْمَةٍ وَاحِدَةٍ
لَفَعَلَ، تَسْبِيحُهُ: سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ. وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا. وَذَكَرْنَا فِي صِفَةِ حَمَلَةِ
الْعَرْشِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ
مَلَائِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ
إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ، وَلَفْظُهُ " مَخْفِقُ الطَّيْرِ سَبْعُمِائَةِ عَامٍ. "
وَقَدْ وَرَدَ فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرٌ عَظِيمٌ: قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [ النَّجْمِ: 5 ]. قَالُوا: كَانَ
مِنْ شِدَّةِ قُوَّتِهِ أَنَّهُ رَفَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ، وَكُنَّ سَبْعًا
بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ
أَلْفٍ، وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَمَا لِتِلْكَ الْمُدُنِ مِنَ الْأَرَاضِي وَالْمُعْتَمَلَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، رَفَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى طَرَفِ جَنَاحِهِ حَتَّى بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ، حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نُبَاحَ كِلَابِهِمْ وَصِيَاحَ دِيكَتِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. فَهَذَا هُوَ شَدِيدُ الْقُوَى. وَقَوْلُهُ: ذُو مِرَّةٍ. أَيْ خَلْقٍ حَسَنٍ وَبَهَاءٍ وَسَنَاءٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [ التَّكْوِيرِ: 19 ]. أَيْ: جِبْرِيلُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ " كَرِيمٌ ". أَيْ: حَسَنُ الْمَنْظَرِ " ذِي قُوَّةٍ ". أَيْ: لَهُ قُوَّةٌ وَبَأْسٌ شَدِيدٌ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. أَيْ: لَهُ مَكَانَةٌ وَمَنْزِلَةٌ عَالِيَةٌ رَفِيعَةٌ عِنْدَ اللَّهِ ذِي الْعَرْشِ الْمَجِيدِ. " مُطَاعٍ ثَمَّ ". أَيْ: مُطَاعٍ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى " أَمِينٍ ". أَيْ: ذِي أَمَانَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلِهَذَا كَانَ هُوَ السَّفِيرَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بِالْوَحْيِ فِيهِ الْأَخْبَارُ الصَّادِقَةُ، وَالشَّرَائِعُ الْعَادِلَةُ. وَقَدْ كَانَ يَأْتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ رَآهُ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ طَلْقِ بْنِ غَنَّامٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا، عَنْ قَوْلِهِ: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [ النَّجْمِ: 9 10 ]. قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَامِعِ بْنِ
أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، وَلَهُ
سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ; كُلُّ جَنَاحٍ مِنْهَا قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، يُسْقِطُ
مِنْ جَنَاحِهِ مِنَ التَّهَاوِيلِ مِنَ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مَا اللَّهُ بِهِ
عَلِيمٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [ النَّجْمِ 13 - 14 ]. قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ وَلَهُ
سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ يَنْتَثِرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ ; الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ،
حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ سَمِعْتُ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَلَهُ سِتُّمِائَةِ
جَنَاحٍ. فَسَأَلْتُ عَاصِمًا عَنِ الْأَجْنِحَةِ فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَنِي.
قَالَ: فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْجَنَاحَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ. وَهَذِهِ أَسَانِيدٌ جَيِّدَةٌ قَوِيَّةٌ. انْفَرَدَ بِهَا
أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنٌ،
حَدَّثَنِي
حُصَيْنٌ،
حَدَّثَنِي شَقِيقٌ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فِي خَضْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ
الدُّرُّ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَزِيعٍ
الْبَغْدَادِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [ النَّجْمِ: 11 ]. قَالَ: رَأَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ حُلَّتَا
رَفْرَفٍ قَدْ مَلَأَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. إِسْنَادٌ جَيِّدٌ
قَوِيٌّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [ التَّكْوِيرِ: 23 ]. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [
النَّجْمِ: 13 ]. فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ
جِبْرِيلُ لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا إِلَّا
مَرَّتَيْنِ، رَآهُ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ سَادًّا عِظَمُ
خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ،
( ح ) وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: أَلَا
تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا قَالَ: فَنَزَلَتْ: وَمَا نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا [ مَرْيَمَ:
64 ]. الْآيَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ
بِالْخَيْرِ،
وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ
يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ
فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ
الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَخَّرَ الْعَصْرَ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَمَا إِنَّ جِبْرِيلَ قَدْ
نَزَلَ فَصَلَّى أَمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَعْلَمُ مَا تَقُولُ يَا عُرْوَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ بَشِيرَ بْنَ
أَبِي مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: نَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَمَّنِي
فَصَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ
صَلَّيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ مَعَهُ. يَحْسِبُ بِأَصَابِعِهِ خَمْسَ
صَلَوَاتٍ.
وَمِنْ صِفَةِ إِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; وَهُوَ أَحَدُ حَمَلَةِ
الْعَرْشِ، وَهُوَ الَّذِي يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بِأَمْرِ رَبِّهِ نَفَخَاتٍ
ثَلَاثَةٍ ; أُولَاهُنَّ: نَفْخَةُ الْفَزَعِ، وَالثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ
الصَّعْقِ، وَالثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ الْبَعْثِ. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي
مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ وَحُسْنِ
تَوْفِيقِهِ. وَالصُّورُ: قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ، كُلُّ دَارَةٍ مِنْهُ كَمَا
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَفِيهِ مَوْضِعُ أَرْوَاحِ الْعِبَادِ حِينَ
يَأْمُرُهُ اللَّهُ بِالنَّفْخِ لِلْبَعْثِ، فَإِذَا نَفَخَ تَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ
تَتَوَهَّجُ، فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي
لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إِلَى الْبَدَنِ الَّذِي كَانَتْ تُعَمِّرُهُ فِي
الدُّنْيَا. فَتَدْخُلُ عَلَى الْأَجْسَادِ فِي قُبُورِهَا ; فَتَدِبُّ فِيهَا
كَمَا يَدِبُّ السُّمُّ فِي اللَّدِيغِ فَتَحْيَا الْأَجْسَادُ، وَتَنْشَقُّ عَنْهُمُ
الْأَجْدَاثُ، فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا سِرَاعًا إِلَى مَقَامِ الْمَحْشَرِ. كَمَا
سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ
أَنْعَمُ،
وَصَاحِبُ
الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَحَنَى جَبْهَتَهُ، وَانْتَظَرَ أَنْ
يُؤْذَنَ لَهُ ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: قُولُوا:
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا. رَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبَ
الصُّورِ فَقَالَ: عَنْ يَمِينِهِ جِبْرِيلُ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِيكَائِيلُ
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبِي لَيْلَى حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ
الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ جِبْرِيلُ بِنَاحِيَةٍ إِذِ انْشَقَّ
أُفُقُ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِسْرَافِيلُ يَدْنُو مِنَ الْأَرْضِ وَيَتَمَايَلُ،
فَإِذَا مَلَكٌ قَدْ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَخْتَارَ
بَيْنَ نَبِيٍّ عَبْدٍ أَوْ مَلِكٍ نَبِيٍّ ؟ قَالَ: فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَيَّ
بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ. فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لِي نَاصِحٌ، فَقُلْتُ: عَبْدٌ
نَبِيٌّ. فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ
قَدْ كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا
فَرَأَيْتُ مِنْ
حَالِكَ مَا شَغَلَنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ:
هَذَا إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ طَرْفَهُ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ
سَبْعُونَ نُورًا، مَا مِنْهَا مِنْ نُورٍ يَكَادُ يَدْنُو مِنْهُ إِلَّا
احْتَرَقَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَوْحٌ، فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنَ
السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، ارْتَفَعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ فَضَرَبَ جَبْهَتَهُ،
فَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِي أَمَرَنِي بِهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ
مِيكَائِيلَ أَمَرَهُ بِهِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَمَرَهُ
بِهِ. قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ ؟ قَالَ: عَلَى الرِّيحِ
وَالْجُنُودِ. قُلْتُ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ مِيكَائِيلُ ؟ قَالَ: عَلَى
النَّبَاتِ وَالْقَطْرِ ؟ قُلْتُ: وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ ؟ قَالَ:
عَلَى قَبْضِ الْأَنْفُسِ. وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ نَزَلَ إِلَّا لِقِيَامِ
السَّاعَةِ، وَمَا الَّذِي رَأَيْتَ مِنِّي إِلَّا خَوْفًا مِنْ قِيَامِ
السَّاعَةِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ اللَّهُمَّ
رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ
فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ
الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَفِي حَدِيثِ الصُّورِ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ أَوَّلُ مَنْ يَبْعَثُهُ اللَّهُ
بَعْدَ الصَّعْقِ لِيَنْفُخَ فِي الصُّورِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
النَّقَّاشُ: أَنَّ إِسْرَافِيلَ أَوَّلُ مَنْ سَجَدَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ،
فَجُوزِيَ بِوِلَايَةِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. حَكَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ
السُّهَيْلِيُّ
فِي كِتَابِهِ
" التَّعْرِيفُ وَالْإِعْلَامُ بِمَا أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ
الْأَعْلَامِ ". وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [ الْبَقَرَةِ: 98 ].
عَطَفَهُمَا عَلَى الْمَلَائِكَةِ لِشَرَفِهِمَا فَجِبْرِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ قَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَمُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ،
وَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْ أَشْرَافِ
الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا ابْنُ
عَيَّاشٍ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ الْأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ
حُمَيْدَ بْنَ عُبَيْدٍ مَوْلَى بَنِي الْمُعَلَّى يَقُولُ: سَمِعْتُ ثَابِتًا
الْبُنَانِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ: مَا لِيَ لَمْ أَرَ
مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ. فَقَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ
النَّارُ. فَهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةُ الْمُصَرَّحُ بِذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ،
وَفِي الصِّحَاحِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الدُّعَاءِ النَّبَوِيِّ: اللَّهُمَّ
رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ. فَجِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْهُدَى
عَلَى الرُّسُلِ لِتَبْلِيغِ الْأُمَمِ، وَمِيكَائِيلُ مُوَكَّلٌ بِالْقَطْرِ
وَالنَّبَاتِ اللَّذَيْنِ يُخْلَقُ مِنْهُمَا الْأَرْزَاقُ فِي هَذِهِ الدَّارِ،
وَلَهُ أَعْوَانٌ يَفْعَلُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ
يُصَرِّفُونَ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ كَمَا يَشَاءُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُ مَا مِنْ قَطْرَةٍ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا
وَمَعَهَا مَلَكٌ يُقَدِّرُهَا فِي مَوْضِعِهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِسْرَافِيلُ
مُوَكَّلٌ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ لِلْقِيَامِ مِنَ
الْقُبُورِ،
وَالْحُضُورِ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ لِيَفُوزَ الشَّكُورُ، وَيُجَازَى
الْكَفُورُ فَذَاكَ ذَنْبُهُ مَغْفُورٌ وَسَعْيُهُ مَشْكُورٌ، وَهَذَا قَدْ صَارَ
عَمَلُهُ كَالْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ وَهُوَ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ.
فَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَحْصُلُ بِمَا يَنْزِلُ بِهِ الْهُدَى،
وَمِيكَائِيلُ يَحْصُلُ بِمَا هُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ الرِّزْقُ، وَإِسْرَافِيلُ
يَحْصُلُ بِمَا هُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ النَّصْرُ وَالْجَزَاءُ وَأَمَّا مَلَكُ
الْمَوْتِ فَلَيْسَ بِمُصَرَّحٍ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي
الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، وَقَدْ جَاءَ تَسْمِيَتُهُ فِي بَعْضِ الْآثَارِ
بِعِزْرَائِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي
وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [ السَّجْدَةِ: 11 ]. وَلَهُ
أَعْوَانٌ يَسْتَخْرِجُونَ رُوحَ الْعَبْدِ مِنْ جُثَّتِهِ حَتَّى تَبْلُغَ
الْحُلْقُومَ فَيَتَنَاوَلُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ بِيَدِهِ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ
يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا مِنْ يَدِهِ
فَيَلُفُّوهَا فِي أَكْفَانٍ تَلِيقُ بِهَا. كَمَا قَدْ بُسِطَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [ إِبْرَاهِيمَ: 27 ]. ثُمَّ يَصْعَدُونَ بِهَا،
فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَإِلَّا
غُلِّقَتْ دُونَهَا، وَأُلْقِيَ بِهَا إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا
جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ
رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ
الْحَاسِبِينَ [ الْأَنْعَامِ: 61 - 62 ].
وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْأَرْضَ
بَيْنَ يَدَيْ مَلَكِ الْمَوْتِ مِثْلُ الطَّسْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْهَا حَيْثُ
يَشَاءُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَلَائِكَةَ الْمَوْتِ يَأْتُونَ الْإِنْسَانَ
عَلَى حَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ مُؤْمِنًا أَتَاهُ مَلَائِكَةٌ بِيضُ الْوُجُوهِ
بِيضُ الثِّيَابِ طَيِّبَةُ الْأَرْوَاحِ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَبِالضِّدِّ
مِنْ ذَلِكَ عِيَاذًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
أَبِي يَحْيَى الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ شَمْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ
جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأْسِ رَجُلٍ
مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا مَلَكَ الْمَوْتِ ارْفُقْ بِصَاحِبِي فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ. فَقَالَ مَلَكُ
الْمَوْتِ: يَا مُحَمَّدُ طِبْ نَفْسًا، وَقَرَّ عَيْنًا فَإِنِّي بِكُلِّ
مُؤْمِنٍ رَفِيقٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ، وَلَا شَعَرٍ
فِي بَرٍّ وَلَا بَحْرٍ إِلَّا وَأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ
مَرَّاتٍ، حَتَّى إِنِّي أَعْرَفُ بِصَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ مِنْهُمْ
بِأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَوْ أَنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَقْبِضَ
رُوحَ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْتُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الْآمِرَ
بِقَبْضِهَا. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ:
بَلَغَنِي أَنَّهُ يَتَصَفَّحُهُمْ عِنْدَ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا حَضَرَ
عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يُحَافِظُ عَلَى الصَّلَاةِ دَنَا مِنْهُ
الْمَلَكُ، وَدَفَعَ عَنْهُ
الشَّيْطَانَ، وَلَقَّنَهُ الْمَلَكُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فِي تِلْكَ الْحَالِ الْعَظِيمَةِ. هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ الصُّورِ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ الْمَدَنِيِّ الْقَاصِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: وَيَأْمُرُ اللَّهُ إِسْرَافِيلَ بِنَفْخَةِ الصَّعْقِ، فَيَنْفُخُ نَفْخَةَ الصَّعْقِ ; فَيُصْعَقُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ، وَأَهْلُ الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا هُمْ قَدْ خَمَدُوا، جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شِئْتَ. فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ: فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيَقُولُ: لِيَمُتْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيُنْطِقُ اللَّهُ الْعَرْشَ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ يَمُوتُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ. فَيَقُولُ: اسْكُتْ فَإِنِّي كَتَبْتُ الْمَوْتَ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ تَحْتَ عَرْشِي. فَيَمُوتَانِ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ: بِمَنْ بَقِيَ فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيَتْ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، وَبَقِيتُ أَنَا. فَيَقُولُ اللَّهُ: لِتَمُتْ حَمَلَةُ عَرْشِي. فَيَمُوتُونَ، وَيَأْمُرُ اللَّهُ الْعَرْشَ فَيَقْبِضُ الصُّورَ مِنْ إِسْرَافِيلَ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ. فَيَقُولُ اللَّهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ بَقِيَ فَمَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ: بَقِيتَ أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَبَقِيتُ أَنَا فَيَقُولُ اللَّهُ: أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ فَمُتْ. فَيَمُوتُ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ كَانَ آخِرًا كَمَا كَانَ أَوَّلًا.
وَذَكَرَ تَمَامَ
الْحَدِيثِ بِطُولِهِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ،
وَالْبَيْهَقِيُّ. وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ فِي كِتَابِ
" الطِّوَالَاتِ " وَعِنْدَهُ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ:
فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: " أَنْتَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا
أَرَدْتُ فَمُتْ مَوْتًا لَا تَحْيَا بَعْدَهُ أَبَدًا ".
وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَسْمَائِهِمْ فِي الْقُرْآنِ:
هَارُوتُ، وَمَارُوتُ، فِي قَوْلِ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي قِصَّتِهِمَا وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا آثَارٌ كَثِيرَةٌ
غَالِبُهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا مَرْفُوعًا،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " تَقَاسِيمِهِ "،
وَفِي صِحَّتِهِ عِنْدِي نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَيَكُونُ مِمَّا تَلَقَّاهُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهِ: أَنَّهُ تَمَثَّلَتْ لَهُمَا
الزُّهْرَةُ امْرَأَةً مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا: أَنَّ الزُّهْرَةَ كَانْتِ امْرَأَةً،
وَأَنَّهُمَا لَمَّا طَلَبَا مِنْهَا مَا ذُكِرَ، أَبَتْ إِلَّا أَنْ يُعَلِّمَاهَا
الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، فَعَلَّمَاهَا فَقَالَتْهُ: فَارْتَفَعَتْ إِلَى السَّمَاءِ
فَصَارَتْ كَوْكَبًا. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَفِي ذَلِكَ الزَّمَانِ امْرَأَةٌ حُسْنُهَا فِي
النِّسَاءِ كَحُسْنِ الزُّهْرَةِ فِي سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. وَهَذَا اللَّفْظُ
أَحْسَنُ مَا وَرَدَ
فِي شَأْنِ
الزُّهْرَةِ، ثُمَّ قِيلَ: كَانَ أَمْرُهُمَا، وَقِصَّتُهُمَا فِي زَمَانِ
إِدْرِيسَ. وَقِيلَ: فِي زَمَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ. كَمَا حَرَّرْنَا
ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَبَرٌ إِسْرَائِيلِيٌّ مَرْجِعُهُ إِلَى كَعْبِ
الْأَحْبَارِ، كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ بِالْقِصَّةِ. وَهَذَا أَصَحُّ إِسْنَادًا، وَأَثْبَتُ
رِجَالًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
، ثُمَّ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [ الْبَقَرَةِ: 102 ]. قَبِيلَانِ
مِنَ الْجَانِّ. قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ وَبَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَرَأَ: " وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ ".
بِالْكَسْرِ، وَيَجْعَلُهُمَا عِلْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ فَارِسٍ قَالَهُ
الضَّحَّاكُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: هُمَا مَلَكَانِ مِنَ السَّمَاءِ. وَلَكِنْ
سَبَقَ فِي قَدَرِ اللَّهِ لَهُمَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَمْرِهِمَا إِنْ صَحَّ بِهِ
الْخَبَرُ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا كَحُكْمِ إِبْلِيسَ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ. لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ، كَمَا سَيَأْتِي
تَقْرِيرُهُ.
وَمِنِ الْمَلَائِكَةِ الْمُسَمَّيْنَ فِي الْحَدِيثِ: مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدِ اسْتَفَاضَ فِي الْأَحَادِيثِ ذِكْرُهُمَا فِي
سُؤَالِ الْقَبْرِ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ
[ إِبْرَاهِيمَ: 27 ]. وَهُمَا فَتَّانَا الْقَبْرِ، مُوَكَّلَانِ بِسُؤَالِ
الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، وَيَمْتَحِنَانِ
الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، وَهُمَا أَزْرَقَانِ أَفْرَقَانِ لَهُمَا أَنْيَابٌ
وَأَشْكَالٌ مُزْعِجَةٌ وَأَصْوَاتٌ مُفْزِعَةٌ. أَجَارَنَا اللَّهُ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ، وَثَبَّتَنَا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ آمِينَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا بِهِ عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذَلِكَ فَمَا شِئْتَ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ.
فَصْلٌ
ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هَيَّأَهُمُ
اللَّهُ لَهُ أَقْسَامٌ: فَمِنْهُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ كَمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ، وَمِنْهُمُ الْكَرُوبِيُّونَ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ، وَهُمْ
أَشْرَفُ الْمَلَائِكَةِ مَعَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ
الْمُقَرَّبُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ
عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [ النِّسَاءِ: 172 ].
وَمِنْهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ ذَكَرَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ
كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا
سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ
الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ [ غَافِرٍ: 7 - 9 ].
وَلَمَّا كَانَتْ سَجَايَاهُمْ هَذِهِ السَّجِيَّةَ الطَّاهِرَةَ، كَانُوا
يُحِبُّونَ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَدْعُونَ كَمَا ثَبَتَ فِي
الْحَدِيثِ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا دَعَا الْعَبْدُ
لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ.
وَمِنْهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ يَعْمُرُونَهَا عِبَادَةً دَائِبَةً
لَيْلًا وَنَهَارًا صَبَاحًا
وَمَسَاءً، كَمَا
قَالَ: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 20
]. فَمِنْهُمُ الرَّاكِعُ دَائِمًا، وَالْقَائِمُ دَائِمًا، وَالسَّاجِدُ
دَائِمًا، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يَتَعَاقَبُونَ زُمْرَةً بَعْدَ زُمْرَةٍ إِلَى
الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ
آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْجِنَانِ، وَإِعْدَادِ
الْكَرَامَةِ لِأَهْلِهَا، وَتَهْيِئَةِ الضِّيَافَةِ لِسَاكِنِيهَا ; مِنْ
مَلَابِسَ، وَمَصَاغٍ، وَمَسَاكِنَ، وَمَآكِلَ، وَمَشَارِبَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ
بَشَرٍ.
وَخَازِنُ الْجَنَّةِ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ: رِضْوَانُ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي
بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالنَّارِ، وَهُمُ
الزَّبَانِيَةُ، وَمُقَدِّمُوهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَخَازِنُهَامَالِكٌ، وَهُوَ
مُقَدَّمٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَزَنَةِ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [ غَافِرٍ: 49 ]. الْآيَةَ. وَقَالَ
تَعَالَى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ
مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ
كَارِهُونَ [ الزُّخْرُفِ: 77 - 78 ]. وَقَالَ تَعَالَى: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا
يُؤْمَرُونَ [ التَّحْرِيمِ: 6 ]. وَقَالَ تَعَالَى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا
عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [ الْمُدَّثِّرِ: 30 - 31 ].
وَمِنْهُمُ
الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ بَنِي آدَمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ
مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [ الرَّعْدِ: 10 - 11 ]. الْآيَاتِ.
قَالَ الْوَالِبِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.
قَالَ: مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، فَإِذَا
جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ خَلَّوْا عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا
وَمَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِحِفْظِهِ فِي نَوْمِهِ، وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ:
وَرَاءَكَ. إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ. وَقَالَ أَبُو
أُمَامَةَ: مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَذُودُ عَنْهُ، حَتَّى
يُسْلِمَهُ لِلَّذِي قُدِّرَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى
عَلِيٍّ فَقَالَ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ مُرَادٍ يُرِيدُونَ قَتْلَكَ فَقَالَ: إِنَّ
مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ، فَإِذَا جَاءَ
الْقَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، إِنَّ الْأَجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ.
وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ ق: 17 - 18 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
[ الِانْفِطَارِ: 10 - 12 ].
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ
الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
وَمِسْعَرٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْرِمُوا الْكِرَامَ الْكَاتِبِينَ
الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَكُمْ إِلَّا عِنْدَ إِحْدَى حَالَتَيْنِ ;
الْجَنَابَةِ، وَالْغَائِطِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ
بِجِذْمِ حَائِطٍ أَوْ بَعِيرِهِ أَوْ لِيَسْتُرْهُ أَخُوهُ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ وَصَلَهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْقَارِئِ وَفِيهِ كَلَامٌ عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنِ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ عَنِ التَّعَرِّي، فَاسْتَحْيُوا مِنْ مَلَائِكَةِ
اللَّهِ الَّذِينَ مَعَكُمُ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لَا
يُفَارِقُونَكُمْ إِلَّا عِنْدَ إِحْدَى ثَلَاثِ حَالَاتٍ ; الْغَائِطِ،
وَالْجَنَابَةِ، وَالْغُسْلِ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ بِالْعَرَاءِ
فَلْيَسْتَتِرْ بِثَوْبِهِ، أَوْ بِجِذْمِ حَائِطٍ، أَوْ بَعِيرِهِ. وَمَعْنَى
إِكْرَامِهِمْ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْهُمْ فَلَا يُمْلِي عَلَيْهِمُ الْأَعْمَالَ
الْقَبِيحَةَ الَّتِي يَكْتُبُونَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُمْ كِرَامًا
فِي خُلُقِهِمْ
وَأَخْلَاقِهِمْ. وَمِنْ كَرَمِهِمْ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ
الْمَرْوِيِّ فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْمَسَانِيدِ مِنْ حَدِيثِ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ
وَلَا كَلْبٌ وَلَا جُنُبٌ. وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ
عَلِيٍّ وَلَا بَوْلٌ. وَفِي رِوَايَةِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا
لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، وَلَا تِمْثَالٌ. وَفِي
رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا لَا تَدْخُلُ
الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ تِمْثَالٌ، وَفِي رِوَايَةِ ذَكْوَانَ
أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً
مَعَهُمْ كَلْبٌ أَوْ جَرَسٌ. وَرَوَاهُ زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى عَنْهُ: لَا
تَصْحَبُ الْمَلَائِكَةُ رُفْقَةً مَعَهُمْ جَرَسٌ.
وَقَالَ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ
الْمَعْرُوفُ
بِالْفَلُوسِيِّ، حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ حُمْرَانَ، حَدَّثَنَا سَلَّامٌ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ يَعْرِفُونَ بَنِي آدَمَ. وَأَحْسَبُهُ قَالَ: وَيَعْرِفُونَ أَعْمَالَهُمْ فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ، وَقَالُوا: أَفْلَحَ اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، نَجَا اللَّيْلَةَ فُلَانٌ، وَإِذَا نَظَرُوا إِلَى عَبْدٍ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ذَكَرُوهُ بَيْنَهُمْ وَسَمَّوْهُ، وَقَالُوا: هَلَكَ فُلَانٌ اللَّيْلَةَ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: سَلَّامٌ هَذَا أَحْسَبُهُ سَلَّامًا الْمَدَائِنِيَّ، وَهُوَ لَيِّنُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ ; مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يُعَرِّجُ إِلَيْهِ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ. هَذَا اللَّفْظُ فِي كِتَابِ بَدْءِ الْخَلْقِ بِهَذَا السِّيَاقِ. وَهَذَا اللَّفْظُ تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي الْبَدْءِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ. وَقَالَ الْبَزَّارُ:
حَدَّثَنَا زِيَادُ
بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا
تَمَّامُ بْنُ نَجِيحٍ، عَنِ الْحَسَنِ يَعْنِي الْبَصْرِيَّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ حَافِظَيْنِ
يَرْفَعَانِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَفِظَا فِي يَوْمٍ فَيَرَى فِي
أَوَّلِ الصَّحِيفَةِ وَفِي آخِرِهَا اسْتِغْفَارًا إِلَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي مَا بَيْنَ طَرَفَيِ الصَّحِيفَةِ. ثُمَّ
قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ تَمَّامُ بْنُ نَجِيحٍ، وَهُوَ صَالِحُ الْحَدِيثِ قُلْتُ:
وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو حَاتِمٍ،
وَأَبُو زُرْعَةَ، وَالنِّسَائِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَرَمَاهُ ابْنُ حِبَّانَ
بِالْوَضْعِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا أَعْرِفُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ حَافِظَانِ مَلَكَانِ اثْنَانِ ;
وَاحِدٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَآخَرُ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظَانِهِ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَلَكَانِ كَاتِبَانِ ; عَنْ يَمِينِهِ
وَعَنْ شِمَالِهِ ; وَكَاتِبُ الْيَمِينِ أَمِيرٌ عَلَى كَاتِبِ الشَّمَالِ
يَكْتُبُ حَسَنَاتِهِ، وَكَاتِبُ الشَّمَالِ يَكْتُبُ سَيِّئَاتِهِ، فَأَرَادَ
صَاحِبُ الشِّمَالِ أَنْ يَكْتُبَهَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُ الْيَمِينِ: أَمْهِلْهُ
لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ أَوْ يَسْتَغْفِرَ. وَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا
صَاحِبُ الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا اسْتِئْمَارٍ مَنْ صَاحِبِ
الشِّمَالِ. كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ [ ق: 17 - 18 ].
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ
بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ،
حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ
قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ
فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ. انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ مِنْ
حَدِيثِ مَنْصُورٍ بِهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْقَرِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
غَيْرُ الْقَرِينِ بِحِفْظِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ
لِيَهْدِيَهُ، وَيُرْشِدَهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ، وَطَرِيقِ
الرَّشَادِ كَمَا أَنَّهُ قَدْ وُكِّلَ بِهِ الْقَرِينُ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا
يَأْلُوهُ جَهْدًا فِي الْخَبَالِ وَالْإِضْلَالِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَالْأَغَرِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ
عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ الْأَوَّلَ
فَالْأَوَّلَ، فَإِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ طَوَوُا الصُّحُفَ، وَجَاءُوا
يَسْتَمِعُونَ الذِّكَرَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [
الْإِسْرَاءِ: 78 ]. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ،
حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ
مَشْهُودًا. قَالَ: تَشْهَدُهُ
مَلَائِكَةُ
اللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ،
وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَسْبَاطٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
قُلْتُ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَضْلُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ عَلَى
صَلَاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً، وَيَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ
اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. يَقُولُ أَبُو
هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَعَا الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا لِعَنَتْهَا
الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ. تَابَعَهُ شُعْبَةُ، وَأَبُو حَمْزَةَ، وَابْنُ
دَاوُدَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا أَمَّنَ
الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ
الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَفِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بِلَفْظٍ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: آمِينَ
فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ فِي السَّمَاءِ آمِينَ فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ
تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ. وَفِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ
حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، فَإِنَّ مَنْ وَافَقَ
قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ،
عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
هُوَ شَكٌّ يَعْنِي الْأَعْمَشَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فَضْلًا
عَنْ كُتَّابِ النَّاسِ، فَإِذَا وَجَدُوا أَقْوَامًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى بُغْيَتِكُمْ. فَيَجِيئُونَ فَيَحِفُّونَ بِهِمْ
إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ اللَّهُ: أَيُّ شَيْءٍ تَرَكْتُمْ عِبَادِي
يَصْنَعُونَ ؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ يَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ،
وَيَذْكُرُونَكَ. فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ لَا. فَيَقُولُ:
فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي ؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ لَكَانُوا أَشَدَّ
تَحْمِيدًا، وَتَمْجِيدًا، وَذِكْرًا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَأَيُّ شَيْءٍ
يَطْلُبُونَ ؟ فَيَقُولُونَ: يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا
؟ فَيَقُولُونَ: لَا. فَيَقُولُ:
وَكَيْفَ لَوْ
رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا،
وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا. قَالَ: فَيَقُولُ: مِنْ أَيٍّ يَتَعَوَّذُونَ ؟ فَيَقُولُونَ:
مِنَ النَّارِ. فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا. فَيَقُولُونَ: لَا. فَيَقُولُ:
فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا
هَرَبًا وَأَشَدَّ مِنْهَا خَوْفًا. قَالَ: فَيَقُولُ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ
غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: فَيَقُولُونَ: إِنَّ فِيهِمْ فَلَانًا الْخَطَّاءَ، لَمْ
يُرِدْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ. فَيَقُولُ: هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى
بِهِمْ جَلِيسُهُمْ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ
الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَالَ: رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ،
وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَرَفَعَهُ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ،
عَنْ عَفَّانَ، عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ كَمَا
ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا عَنْ سُهَيْلٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ وُهَيْبٍ بِهِ. وَقَدْ
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ
هُوَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ
نَحْوَهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، وَابْنُ نُمَيْرٍ
أَخْبَرَنَا
الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً
مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ، مَا كَانَ الْعَبْدُ
فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ
اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ
مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ
إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السِّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ
الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ
عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا
حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَغَشَّتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ
السِّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. وَكَذَا رَوَاهُ أَيْضًا
مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ
ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ،
عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِإِسْنَادِهِ
نَحْوَهُ. وَفِي
هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَالسُّنَنِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
مَرْفُوعًا: وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ ;
رِضًا بِمَا يَصْنَعُ. أَيْ: تَتَوَاضَعُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [ الْإِسْرَاءِ: 24 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [
الشُّعَرَاءِ: 215 ]. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَاذَانَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ
أُمَّتِي السَّلَامَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
السَّائِبِ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُلِقَتِ
الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجَانُّ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ
نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ رَافِعٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً بِقَلْبِ
الْعَبْدِ، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِقَلْبِهِ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِيعَادٌ
بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالْفَقْرِ
وَفِي رِوَايَةٍ: بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ
الَّذِي رُوِيَ: إِذَا أَصْبَحَ الْعَبْدُ ابْتَدَرَهُ الشَّيْطَانُ وَالْمَلَكُ.
فَيَقُولُ الْمَلَكُ: افْتَحْ بِخَيْرٍ. وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: افْتَحْ بِشَرٍّ.
فَإِذَا ذَكَرَ اللَّهَ وَحَمِدَهُ، تَوَلَّاهُ الْمَلَكُ، وَطَرَدَ عَنْهُ
الشَّيْطَانَ إِلَى اللَّيْلِ. فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ قَالَ الْمَلَكُ: اخْتِمْ
بِخَيْرٍ، وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: اخْتِمْ بِشَرٍّ. فَإِنْ خَتَمَ نَهَارَهُ
بِخَيْرٍ، تَوَلَّاهُ الْمَلَكُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَطَرَدَ عَنْهُ الشَّيْطَانَ.
وَكَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الْعَبْدُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. قَالَ
لَهُ الْمَلَكُ: هُدِيتَ وَكُفِيتَ وَوُقِيتَ. ثُمَّ يَتَنَحَّى عَنْهُ
الشَّيْطَانُ. إِلَى آخِرِهِ. وَالْأَحَادِيثُ فِي ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ
كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ
الْحَمْدُ.
فَصْلٌ
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ عَلَى
أَقْوَالٍ: فَأَكْثَرُ مَا تُوجَدُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كُتُبِ
الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمَنْ
وَافَقَهُمْ. وَأَقْدَمُ كَلَامٍ رَأَيْتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا
ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فِي تَرْجَمَةِ أُمَيَّةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسًا لِعُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ. فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَحَدٌ أَكْرَمُ
عَلَى اللَّهِ مِنْ كِرِيمِ بَنِي آدَمَ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [
الْبَيِّنَةِ: 7 ]. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أُمَيَّةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
سَعِيدٍ. فَقَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ: مَا أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ
مَلَائِكَتِهِ هُمْ خَدَمَةُ دَارَيْهِ وَرُسُلُهُ إِلَى أَنْبِيَائِهِ.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [
الْأَعْرَافِ: 20 ]. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِمُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا حَمْزَةَ ؟ فَقَالَ: قَدْ
أَكْرَمَ اللَّهُ آدَمَ فَخَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ،
وَأَسْجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةَ، وَجَعَلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْأَنْبِيَاءَ
وَالرُّسُلَ، وَمَنْ يَزُورُهُ الْمَلَائِكَةُ. فَوَافَقَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فِي الْحُكْمِ، وَاسْتَدَلَّ بِغَيْرِ دَلِيلِهِ، وَأَضْعَفَ دَلَالَةَ
مَا صَرَّحَ بِهِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
مَضْمُونُهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَاصَّةٍ بِالْبَشَرِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِالْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [ غَافِرٍ: 7 ]. وَكَذَلِكَ الْجَانُّ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ [ الْجِنِّ: 13 ]. وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ [ الْجِنِّ: 14 ]. قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا، وَهُوَ أَصَحُّ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبَّنَا اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ نَأْكُلُ مِنْهَا وَنَشْرَبُ فَإِنَّكَ خَلَقْتَ الدُّنْيَا لِبَنِي آدَمَ. فَقَالَ اللَّهُ: لَنْ أَجْعَلَ صَالِحَ ذَرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ. فَكَانَ.
بَابُ ذِكْرِ
خَلْقِ الْجَانِّ وَقِصَّةِ الشَّيْطَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ [ الرَّحْمَنِ: 14 - 16 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ
قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [ الْحِجْرِ: 26 - 27 ]. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ مَارِجٍ مِنْ
نَارٍ. قَالُوا: مِنْ طَرَفِ اللَّهَبِ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِنْ خَالِصِهِ وَأَحْسَنِهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ،
وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَالَ كَثِيرٌ مِنْ
عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ: خُلِقَتِ الْجِنُّ قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَكَانَ قَبْلَهُمْ فِي الْأَرْضِ الْحِنُّ وَالْبِنُّ، فَسَلَّطَ اللَّهُ
الْجِنَّ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا وَأَبَادُوهُمْ
مِنْهَا، وَسَكَنُوهَا بَعْدَهُمْ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثُوا. وَذَكَرَ السُّدِّيُّ
فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا فَرَغَ
اللَّهُ مِنْ خَلْقِ مَا أَحَبَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ فَجَعَلَ إِبْلِيسَ
عَلَى مُلْكِ سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْجِنَّ ; لِأَنَّهُمْ خَزَّانُ
الْجَنَّةِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مَعَ مُلْكِهِ خَازِنًا فَوَقَعَ فِي صَدْرِهِ:
إِنَّمَا أَعْطَانِي اللَّهُ هَذَا لِمَزِيَّةٍ لِي عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
وَذَكَرَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْجِنَّ لَمَّا أَفْسَدُوا فِي
الْأَرْضِ وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ، بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِبْلِيسَ وَمَعَهُ
جُنْدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلُوهُمْ وَأَجْلَوْهُمْ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى
جَزَائِرِ الْبُحُورِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلَّادٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ اسْمُ إِبْلِيسَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمَعْصِيَةَ
عَزَازِيلَ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، وَمِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ
اجْتِهَادًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ: كَانَ اسْمُهُ
عَزَازِيلَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرِفِ الْمَلَائِكَةِ، مِنْ أُولِي الْأَجْنِحَةِ
الْأَرْبَعَةِ. وَقَالَ سُنَيْدٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمِهِمْ
قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ سَمَاءِ
الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الْأَرْضِ. وَقَالَ صَالِحٌ مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ رَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ
مَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ،
وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْبَشَرِ. وَقَالَ شَهْرُ
بْنُ حَوْشَبٍ، وَغَيْرُهُ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ
الْمَلَائِكَةُ، فَأَسَرَهُ بَعْضُهُمْ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ. رَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ قَالُوا: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ آدَمَ لِيَكُونَ فِي
الْأَرْضِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَصَوَّرَ جُثَّتَهُ مِنْهَا جَعَلَ
إِبْلِيسُ وَهُوَ رَئِيسُ الْجَانِّ، وَأَكْثَرُهُمْ عِبَادَةً إِذْ ذَاكَ،
وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ يُطِيفُ بِهِ. فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ
خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ. وَقَالَ: أَمَا لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْكَ
لَأَهْلِكَنَّكَ، وَلَئِنْ سُلِّطْتَ عَلَيَّ لِأَعْصِيَنَّكَ، فَلَمَّا أَنْ
نَفَخَ اللَّهُ فِي آدَمَ مِنْ رُوحِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ
بِالسُّجُودِ لَهُ دَخَلَ إِبْلِيسَ مِنْهُ حَسَدٌ عَظِيمٌ، وَامْتَنَعَ مِنَ
السُّجُودِ لَهُ. وَقَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارِ،
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ. فَخَالَفَ الْأَمْرَ، وَاعْتَرَضَ عَلَى الرَّبِّ عَزَّ
وَجَلَّ، وَأَخْطَأَ فِي قَوْلِهِ، وَابْتَعَدَ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ، وَأُنْزِلَ
مِنْ مَرْتَبَتِهِ الَّتِي كَانَ قَدْ نَالَهَا بِعِبَادَتِهِ، وَكَانَ قَدْ
تَشَبَّهَ بِالْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِمْ ; لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ
مِنْ نَارٍ، وَهُمْ مِنْ نُورٍ فَخَانَهُ طَبْعُهُ فِي أَحْوَجِ مَا كَانَ
إِلَيْهِ، وَرَجَعَ إِلَى أَصْلِهِ النَّارِيِّ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ ص: 73 -
74 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ الْكَهْفِ: 50 ].
فَأَهْبَطَ
إِبْلِيسَ مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ قَدَرًا أَنْ
يَسْكُنَهُ، فَنَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ حَقِيرًا ذَلِيلًا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
مُتَوَعِّدًا بِالنَّارِ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ،
إِلَّا أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ جَاهَدَ كُلَّ الْجَهْدِ عَلَى إِضْلَالِ بَنِي آدَمَ
بِكُلِّ طَرِيقٍ وَبِكُلِّ مَرْصَدٍ، كَمَا قَالَ: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ
جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ
فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 62 - 65 ].
وَسَنَذْكُرُ الْقِصَّةَ مُسْتَفَاضَةً عِنْدَ ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَانَّ خُلِقُوا مِنَ النَّارِ، وَهُمْ
كَبَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَنَاسَلُونَ، وَمِنْهُمُ
الْمُؤْمِنُونَ وَمِنْهُمُ الْكَافِرُونَ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي
سُورَةِ الْجِنِّ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا
مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا
فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا
إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا
أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ
بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ [ الْأَحْقَافِ: 29 - 32 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ
صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ
شَطَطًا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ
الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ
حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ
لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لَا
نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ
هَرَبًا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ
بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ
وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ
يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [ الْجِنِّ: 1 - 17 ].
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَمَامَ الْقِصَّةِ فِي آخِرِ
سُورَةِ " الْأَحْقَافِ " وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الْمُتَعَلِّقَةَ
بِذَلِكَ هُنَالِكَ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ كَانُوا مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ،
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ مِنْ جِنِّ بُصْرَى، وَأَنَّهُمْ مَرُّوا بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ
بِبَطْنِ نَخْلَةٍ مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ فَوَقَفُوا فَاسْتَمَعُوا لِقِرَاءَتِهِ،
ثُمَّ اجْتَمَعَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً
كَامِلَةً فَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ أَمَرَهُمْ بِهَا وَنَهَاهُمْ عَنْهَا،
وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا
يَكُونُ لَحْمًا،
وَكُلُّ رَوْثَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِهِمَا. وَقَالَ: إِنَّهُمَا زَادُ
إِخْوَانِكُمُ الْجِنِّ. وَنَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي السَّرَبِ ; لِأَنَّهَا
مَسَاكِنُ الْجِنِّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُورَةَ " الرَّحْمَنِ " فَمَا جَعَلَ يَمُرُّ فِيهَا
بِآيَةِ: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ
مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِمُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ
السُّورَةَ عَلَى النَّاسِ فَسَكَتُوا فَقَالَ: الْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ
مِنْكُمْ رَدًّا مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ آلَائِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ،
فَلَكَ الْحَمْدُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، وَابْنِ جَرِيرٍ،
وَالْبَزَّارِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مُؤْمِنِي الْجِنِّ هَلْ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ أَوْ يَكُونُ جَزَاءُ طَائِعِهِمْ أَنْ لَا يُعَذَّبَ بِالنَّارِ
فَقَطْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ; الصَّحِيحُ: أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
لِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ الرَّحْمَنِ: 46 -
47 ].
فَامْتَنَّ
تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَنَالُونَهُ لَمَا ذَكَرَهُ،
وَعَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ كَافٍ
فِي الْمَسْأَلَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ،
عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ لَهُ إِنِّي أَرَاكَ
تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ، وَبَادِيَتِكَ
فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ
مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَأَمَّا كَافِرُو الْجِنِّ ; فَمِنْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَمُقَدِّمُهُمُ
الْأَكْبَرُ إِبْلِيسُ عَدُوُّ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، وَقَدْ سَلَّطَهُ هُوَ
وَذُرِّيَّتَهُ عَلَى آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
بِعِصْمَةٍ مَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ رُسُلَهَ، وَاتَّبَعَ شَرْعَهُ مِنْهُمْ،
كَمَا قَالَ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 65 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ
إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ
لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ
مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [ سَبَأِ:
20 - 21 ]. وَقَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ
كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا
لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا
تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ [ الْأَعْرَافِ: 27 ].
وَقَالَ: وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ
مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ
مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ
صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ
الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [ الْحِجْرِ: 28 - 44 ].
وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي
الْأَعْرَافِ، وَهَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ سُبْحَانَ، وَفِي سُورَةِ طه، وَفِي
سُورَةِ ص، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَوَاضِعِهِ فِي
كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَسَنُورِدُهَا فِي قِصَّةِ آدَمَ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِبْلِيسَ أَنْظَرَهُ اللَّهُ، وَأَخَّرَهُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ; مِحْنَةً لِعِبَادِهِ، وَاخْتِبَارًا مِنْهُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ حَفِيظٌ [ سَبَأِ: 21 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ
إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [ إِبْرَاهِيمَ: 22 - 23 ].
فَإِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ حَيٌّ الْآنَ، مُنْظَرٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَهُ عَرْشٌ عَلَى وَجْهِ الْبَحْرِ، وَهُوَ جَالِسٌ
عَلَيْهِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ يُلْقُونَ بَيْنَ النَّاسِ الشَّرَّ وَالْفِتَنَ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [
النِّسَاءِ: 76 ]. وَكَانَ اسْمُهُ قَبْلَ مَعْصِيَتِهِ الْعَظِيمَةِ عَزَازِيلَ
قَالَ النَّقَّاشُ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو كُرْدُوسٍ. وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ صَيَّادٍ: مَا تَرَى ؟
قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. فَعَرَفَ أَنَّ مَادَّةَ
مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي كَاشَفَهُ بِهَا شَيْطَانِيَّةٌ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ
إِبْلِيسَ الَّذِي هُوَ يُشَاهِدُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ
اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ. أَيْ: لَنْ تُجَاوِزَ قِيمَتَكَ الدَّنِيَّةَ
الْخَسِيسَةَ الْحَقِيرَةَ.
وَالدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ عَرْشَ
إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ،
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ حَدَّثَنِي مَاعِزٌ
التَّمِيمِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَرْشُ إِبْلِيسَ فِي الْبَحْرِ يَبْعَثُ
سَرَايَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ
مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
عَرْشُ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ
فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنٍ
صَائِدٍ: مَا تَرَى ؟ قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. أَوْ قَالَ: عَلَى
الْبَحْرِ حَوْلَهُ حَيَّاتٌ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ
عَرْشُ إِبْلِيسَ. هَكَذَا رَوَاهُ فِي مُسْنَدِ جَابِرٍ. وَقَالَ فِي مُسْنَدِ
أَبِي سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِابْنِ صَائِدٍ: مَا
تَرَى ؟ قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْبَحْرِ حَوْلَهُ الْحَيَّاتُ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ ذَاكَ عَرْشُ
إِبْلِيسَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مَاعِزٍ التَّمِيمِيِّ، وَأَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ، وَلَكِنْ فِي
التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ. وَرَوَى الْإِمَامُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ،
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَضَعُ عَرْشَهُ
عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فِي النَّاسِ فَأَقْرَبُهُمْ عِنْدَهُ
مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا
زِلْتُ بِفُلَانٍ حَتَّى تَرَكْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ
إِبْلِيسُ: لَا وَاللَّهِ، مَا صَنَعْتَ شَيْئًا. وَيَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ:
مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ. قَالَ:
فَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ وَيَلْتَزِمُهُ، وَيَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ. يُرْوَى
بِفَتْحِ النُّونِ بِمَعْنَى: نَعَمْ أَنْتَ ذَاكَ الَّذِي تَسْتَحِقُّ
الْإِكْرَامَ. وَبِكَسْرِهَا أَيْ: نِعْمَ مِنْكَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ
النُّحَاةِ عَلَى جَوَازِ كَوْنِ فَاعِلِ نَعَمْ مُضْمَرًا، وَهُوَ قَلِيلٌ
وَاخْتَارَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْأَوَّلَ، وَرَجَّحَهُ،
وَوَجَّهَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدْنَا هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُفَرِّقُونَ
بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [ الْبَقَرَةِ: 102 ]. يَعْنِي: أَنَّ السِّحْرَ
الْمُتَلَقَّى عَنِ الشَّيَاطِينِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُتَوَصَّلُ بِهِ
إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُتَآلِفِينَ غَايَةَ التَّآلُفِ الْمُتَوَادِّينَ
الْمُتَحَابِّينَ، وَلِهَذَا يَشْكُرُ إِبْلِيسُ سَعْيَ مَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي
ذَلِكَ، فَالَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ يَمْدَحُهُ، وَالَّذِي يَغْضَبُ اللَّهُ
يُرْضِيهِ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
سُورَتَيِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ مُطَّرِدَةً لِأَنْوَاعِ الشَّرِّ وَأَسْبَابِهِ
وَغَايَاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا سُورَةُ: قُلْ أَعُوَذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ
النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ. وَثَبَتَ
فِي
الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ
حُيَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ
الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
بَحْرٍ، حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عِمَارَةَ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ
النُّمَيْرِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ وَاضِعٌ خَطْمَهُ عَلَى قَلْبِ ابْنِ
آدَمَ فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ، وَإِنْ نَسِيَ الْتَقَمَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ
الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ.
وَلَمَّا كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ مَطَرَدَةً لِلشَّيْطَانِ عَنِ الْقَلْبِ كَانَ
فِيهِ تَذْكَارٌ لِلنَّاسِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا
نَسِيتَ [ الْكَهْفِ: 24 ]. وَقَالَ فَتَى مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [ الْكَهْفِ: 63 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْسَاهُ
الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [ يُوسُفَ: 42 ]. يَعْنِي السَّاقِي لَمَّا قَالَ
لَهُ يُوسُفُ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. نَسِيَ السَّاقِي أَنْ يَذْكُرَهُ
لِرَبِّهِ يَعْنِي مَوْلَاهُ الْمَلِكَ. وَكَانَ هَذَا
النِّسْيَانُ مِنَ
الشَّيْطَانِ، فَلَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَلِهَذَا قَالَ
بَعْدَهُ: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [ يُوسُفَ:
45 ]. أَيْ: تَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ لَهُ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. بَعْدَ
مُدَّةٍ وَقُرِئَ: " بَعْدَ أَمَهٍ " أَيْ نِسْيَانٍ، وَهَذَا الَّذِي
قُلْنَا مِنْ أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ السَّاقِي هُوَ الصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ،
كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ عَاصِمٍ سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَدِيفِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَثَرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارُهُ فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ،
فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ تَعَاظَمَ، وَقَالَ: بِقُوَّتِي صَرَعْتُهُ.
وَإِذَا قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ. تَصَاغَرَ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ الذُّبَابِ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَاءَ
الشَّيْطَانُ فَأَبَسَّ بِهِ كَمَا يَبُسُّ الرَّجُلُ بِدَابَّتِهِ فَإِذَا سَكَنَ
لَهُ زَنَقَهُ أَوْ أَلْجَمَهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ
ذَلِكَ ; أَمَّا الْمَزْنُوقُ فَتَرَاهُ مَائِلًا كَذَا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ،
وَأَمَّا الْمُلْجِمُ فَفَاتِحٌ فَاهُ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ
نُمَيْرٍ،
حَدَّثَنَا ثَوْرٌ
يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَيْنُ حَقٌّ
وَيَحْضُرُهَا الشَّيْطَانُ وَحَسَدُ ابْنِ آدَمَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ ذَرِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُحَدِّثُ نَفْسِي بِالشَّيْءِ ; لَأَنَّ أَخِرَّ مِنَ
السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ، زَادَ النَّسَائِيُّ: وَالْأَعْمَشُ، كِلَاهُمَا عَنْ
ذَرٍّ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ،
عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ قَالَ: قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَأْتِي
الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟
حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ
بِاللَّهِ، وَلِيَنْتَهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ،
وَمِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَةَ
بِهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ
طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [ الْأَعْرَافِ:
201 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوَذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ
الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [ الْمُؤْمِنُونَ: 97 - 98
].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ الْأَعْرَافِ: 200 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [
النَّحْلِ: 98 - 100 ].
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ، وَنَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ. وَجَاءَ مِثْلُهُ
مِنْ رِوَايَةِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي
أُسَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَتَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: فَهَمْزُهُ الْمَوْتَةُ،
وَهُوَ الْخَنْقُ الَّذِي هُوَ الصَّرْعُ، وَنَفْخُهُ الْكِبْرُ، وَنَفْثُهُ
الشِّعْرُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنَ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ:
اسْتَعَاذَ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثِهِمْ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ سُرَيْجٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ
ثَوْرٍ،
عَنِ الْحُصَيْنِ،
عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْخَيْرِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ
أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا أَنْ يَجْمَعَ
كَثِيبًا فَلْيَسْتَدْبِرْهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَلْعَبُ بِمَقَاعِدِ بَنِي
آدَمَ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا، فَلَا حَرَجَ. وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ بِهِ. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،
عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ: سُلَيْمَانُ بْنُ
صُرَدٍ اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ فَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدِ
احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ
قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ". فَقَالُوا
لِلرَّجُلِ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ! فَقَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ،
وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ
بِشِمَالِهِ وَلَا يَشْرَبُ بِشِمَالِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ
بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ بِهَذَا
الْإِسْنَادِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ،
وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنْبَأَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي زِيَادٍ الطَّحَّانِ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا
يَشْرَبُ قَائِمًا، فَقَالَ لَهُ: " قِهْ ". قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ:
" أَيَسُرُّكَ أَنْ يَشْرَبَ مَعَكَ الْهِرُّ ؟ ". قَالَ: لَا. قَالَ:
" فَإِنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَعَكَ مَنْ هُوَ شَرُّ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِي يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ مَا فِي بَطْنِهِ لَاسْتَقَاءَ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ،
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرًا: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اسْمَ
اللَّهِ حِينَ يَدْخُلُ وَحِينَ يَطْعَمُ، قَالَ الشَّيْطَانُ لَا
مَبِيتَ لَكُمْ
وَلَا عَشَاءَ هَاهُنَا. وَإِنْ دَخَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عِنْدَ
دُخُولِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ. وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ
عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ. قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا طَلَعَ حَاجِبُ
الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ
فَدَعُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَغِيبَ، وَلَا تَحَيَّنُوا بِصَلَاتِكُمْ طُلُوعَ
الشَّمْسِ وَلَا غُرُوبَهَا، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ
أَوِ الشَّيَاطِينِ. " لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ " قَالَ هِشَامٌ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ بِهِ. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَقَالَ: هَا إِنَّ
الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، إِنَّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ
الشَّيْطَانِ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَفِي السُّنَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالظِّلِّ. وَقَالَ إِنَّهُ مَجْلِسُ
الشَّيْطَانِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي هَذَا مَعَانِي ; مِنْ أَحْسَنِهَا أَنَّهُ لَمَّا
كَانَ الْجُلُوسُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيهِ تَشْوِيهٌ بِالْخِلْقَةِ
فِيمَا يَرَى كَانَ
يُحِبُّهُ
الشَّيْطَانُ ; لِأَنَّ خِلْقَتَهُ فِي نَفْسِهِ مُشَوَّهَةٌ وَهَذَا مُسْتَقِرٌّ
فِي الْأَذْهَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ
الشَّيَاطِينِ [ الصَّافَّاتِ: 65 ]. الصَّحِيحُ أَنَّهُمُ الشَّيَاطِينُ لَا
ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ زَعْمَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّ النُّفُوسَ مَغْرُوزٌ فِيهَا قُبْحُ الشَّيَاطِينِ،
وَحُسْنُ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوا، وَلِهَذَا قَالَ
تَعَالَى: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ، وَقَالَ النِّسْوَةُ لَمَّا
شَاهَدْنَ جَمَالَ يُوسُفَ: حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا
مَلَكٌ كَرِيمٌ [ يُوسُفَ: 45 ]. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا
ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَجْنَحَ أَوْ كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ
فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ فَإِذَا
ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَخَلُّوهُمْ، وَأَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ
اللَّهِ، وَأَطْفِئْ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَأَوْكِ سِقَاءَكَ
وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ
تَعْرُضُ عَلَيْهِ شَيْئًا.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ. وَعِنْدَهُ: فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ،
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَغْلِقُوا أَبْوَابَكُمْ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ، وَأَوْكُوا أَسْقِيَتَكُمْ،
وَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا،
وَلَا يَكْشِفُ غِطَاءً، وَلَا يَحِلُّ وِكَاءً، وَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ
الْبَيْتَ عَلَى أَهْلِهِ. يَعْنِي الْفَأْرَةَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ
يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ
الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنِي. فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ
الشَّيْطَانُ، وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ. وَحَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ
سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ مَنْصُورٍ،
عَنْ سَالِمٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى
أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ
الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَرُزِقَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَخِي، عَنْ
سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ
ثَلَاثَ عُقَدٍ ; يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا، عَلَيْكَ لَيْلٌ
طَوِيلٌ فَارْقُدْ. فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ،
فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ
كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ
النَّفْسِ كَسْلَانَ. هَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ
مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنِي
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ يَعْنِي ابْنَ الْهَادِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ
مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ
عَلَى خَيْشُومِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنِ
الدَّرَاوَرْدِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زُنْبُورٍ، عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِي بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: ذُكِرَ
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ
حَتَّى أَصْبَحَ. قَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ "
أَوْ قَالَ: " فِي أُذُنِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ،
وَإِسْحَاقَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ بِهِ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا،
وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ
بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِذَا نُودِيَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ،
فَإِذَا قُضِيَ أَقْبَلَ، فَإِذَا ثُوِّبَ بِهَا أَدْبَرَ، فَإِذَا قُضِيَ
أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَقَلْبِهِ، فَيَقُولُ: اذْكُرْ
كَذَا وَكَذَا.
حَتَّى لَا يَدْرِيَ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا ؟ فَإِذَا لَمْ يَدْرِ أَثْلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا، سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. هَكَذَا رَوَاهُ مُنْفَرِدًا بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ يَعْنِي الْأَحْمَرَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَاصُّوا الصُّفُوفَ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَقُومُ فِي الْخَلَلِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: رَاصُّوا صُفُوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَهَا، وَحَاذُوا بَيْنَ الْأَعْنَاقِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لِأَرَى الشَّيْطَانُ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّهُ الْحَذْفُ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَرَّ بَيْنَ يَدَيْ أَحَدِكُمْ شَيْءٌ فَلْيَمْنَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيَمْنَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ. وَرَوَاهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مَسَرَّةُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ صَاحِبُ سُلَيْمَانَ قَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ قَائِمًا يُصَلِّي فَذَهَبْتُ
أَمُرُّ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَرَدَّنِي، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يُصَلِّي صَلَاةَ
الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا
فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ
بِيَدِي فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ
إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ: الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَلَوْلَا دَعْوَةُ
أَخِي سُلَيْمَانَ لِأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ
يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا
يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ. وَرَوَى أَبُو
دَاوُدَ مِنْهُ: " فَمَنِ اسْتَطَاعَ ". إِلَى آخِرِهِ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي سُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ الزُّبَيْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ،
حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
صَلَّى صَلَاةً فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَّضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ لِقَطْعِ
الصَّلَاةِ عَلَيَّ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَدْ
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ مُطَوَّلًا.
وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ ص: 35
]. مِنْ حَدِيثِ رَوْحٍ، وَغُنْدُرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ
تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. قَالَ: رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. ثُمَّ قَالَ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ. ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ. فَقَالَ: إِنْ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي، فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ. ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [ لُقْمَانَ: 33 ]. يَعْنِي الشَّيْطَانَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ فَاطِرٍ: 6 ]. فَالشَّيْطَانُ لَا يَأْلُو الْإِنْسَانَ خَبَالًا جَهْدَهُ وَطَاقَتَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ، كَمَا صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابًا فِي ذَلِكَ سَمَّاهُ " مَصَائِدَ الشَّيْطَانِ " وَفِيهِ فَوَائِدُ جَمَّةٌ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي
دَاوُدَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ
فِي دُعَائِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ
الْمَوْتِ. وَرَوَيْنَا فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ
وَعِزِّكَ وَجَلَالِكَ لَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي
أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ
أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [ الْبَقَرَةِ: 268 ]. فَوَعْدُ
اللَّهِ هُوَ الْحَقُّ الصِّدْقُ، وَوَعْدُ الشَّيْطَانِ هُوَ الْبَاطِلُ، وَقَدْ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ
مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ،
وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً ; فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ
وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ
وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ
فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمِنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ،
ثُمَّ قَرَأَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ
وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي فَضْلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَفِرُّ مِنَ
الْبَيْتِ الَّذِي تَقْرَأُ
فِيهِ، وَذَكَرْنَا
فِي فَضْلِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ أَنَّ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ لَا يَقْرَبُهُ
الشَّيْطَانُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ
قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ
كَانَتْ لَهُ عِدْلُ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ،
وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ
يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ
بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي
جَنْبَيْهِ بِإِصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ
يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ،
عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: التَّثَاؤُبُ مِنَ
الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَرُدَّهُ مَا
اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا. ضَحِكَ الشَّيْطَانُ. وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ
مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيُبْغِضُ أَوْ يَكْرَهُ
التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا قَالَ: أَحَدُكُمْ هَا هَا. فَإِنَّمَا ذَلِكَ الشَّيْطَانُ
يَضْحَكُ مِنْ جَوْفِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو
الْأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ
عَائِشَةُ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْتِفَاتِ
الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ. فَقَالَ: هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ
مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
رِوَايَةِ أَشْعَثَ بْنِ أَبِي الشَّعْثَاءِ سُلَيْمِ بْنِ أَسْوَدَ
الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ بِهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرُّؤْيَا
الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَخَافُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ وَلِيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَمْشِيَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ أَنْ يَنْزِعَ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [ الْمُلْكِ: 5 ]. وَقَالَ: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [ الصَّافَّاتِ: 6 - 10 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ [ الْحِجْرِ: 16 - 18 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 210 - 212 ]. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْجَانِّ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [ الْجِنِّ: 8 - 9 ].
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ. وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي هِلَالٍ أَنَّ أَبَا الْأَسْودِ أَخْبَرَهُ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
الْمَلَائِكَةُ تَحَدَّثُ فِي الْعَنَانِ وَالْعَنَانُ الْغَمَامُ بِالْأَمْرِ
يَكُونُ فِي الْأَرْضِ فَتَسْمَعُ الشَّيَاطِينُ الْكَلِمَةَ فَتُقِرُّهَا فِي
أُذُنِ الْكَاهِنِ، كَمَا تُقَرُّ الْقَارُورَةُ فَيَزِيدُونَ مَعَهَا مِائَةَ
كَذِبَةٍ. هَكَذَا رَوَاهُ فِي صِفَةِ إِبْلِيسَ مُعَلَّقًا، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ.
وَرَوَاهُ فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ
اللَّيْثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ.
تَفَرَّدَ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ
عَائِشَةُ سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْكُهَّانِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانًا بِشَيْءٍ فَيَكُونُ حَقًّا. فَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا
الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ
فَيَخْلِطُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا لِلَّذِي قَالَ: الْحَقُّ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُ السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُ السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ. وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ، فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابَ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كِذِبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا. فَيُصَدِّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [ الزُّخْرُفِ: 36 - 38 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [ فُصِّلَتْ: 25 ]. الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ ق: 27 - 29 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ
مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ
مُقْتَرِفُونَ [ الْأَنْعَامِ: 112 - 113 ].
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صِفَةِ الْمَلَائِكَةِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ
مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ،
وَاسْمُهُ رَافِعٌ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ
قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالُوا: وَإِيَّاكَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَإِيَّايَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ
فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، وَاسْمُهُ حُصَيْنُ بْنُ
جُنْدُبٍ، وَهُوَ أَبُو ظَبْيَانَ الْجَنْبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. قَالُوا: وَأَنْتَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ
فَأَسْلَمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَقَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ
بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ أَنَّ عَائِشَةَ
زَوْجَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ
عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: " مَالَكِ يَا
عَائِشَةُ أَغِرْتِ. " قَالَتْ فَقُلْتُ: وَمَالِي أَنْ لَا يَغَارَ مِثْلِي
عَلَى مِثْلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَفَأَخَذَكِ شَيْطَانُكِ. " قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ مَعِي
شَيْطَانٌ ؟ قَالَ: " نَعَمْ. " قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ ؟
قَالَ: " نَعَمْ. " قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:
" نَعَمْ. " وَلَكِنَّ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ
". وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ، وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ
الْأَيْلِيُّ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُنْضِي
شَيْطَانَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكُمْ بِعِيرَهُ فِي السَّفَرِ. تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمَعْنَى لَيُنْضِي شَيْطَانَهُ: لَيَأْخُذُ
بِنَاصِيَتِهِ فَيَغْلِبُهُ وَيَقْهَرُهُ، كَمَا يَفْعَلُ بِالْبَعِيرِ إِذَا
شَرَدَ ثُمَّ غَلَبَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْلِيسَ: قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ
لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ
وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 16 -
17 ].
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَقِيلٍ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ أَبِي
الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ
آدَمَ بِأَطْرُقِهِ ; فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَتُسْلِمُ
وَتَذْرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ ؟ قَالَ: " فَعَصَاهُ وَأَسْلَمَ "
قَالَ: وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهَاجِرُ وَتَذْرُ
أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ؟ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَالْفَرَسِ فِي الطُّولِ.
فَعَصَاهُ وَهَاجَرَ. ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ جَهْدُ
النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَقَالَ: أَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ
وَيُقَسَّمُ الْمَالُ ؟ قَالَ: " فَعَصَاهُ وَجَاهَدَ " قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ قُتِلَ كَانَ
حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ كَانَ غَرِقَ كَانَ
حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ
كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَدْخُلَهُ الْجَنَّةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ
مُسْلِمٍ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنِي جُبَيْرُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ
حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ
فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي،
وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي
وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ
أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي. قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الْخَسْفَ. وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ
حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ مُسْلِمٍ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
بَابُ مَا وَرَدَ
فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لَا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ
فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي
أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ
الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا
فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ
فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا
جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ الْبَقَرَةِ:
30 - 31 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آلِ عِمْرَانَ: 59 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [ النِّسَاءِ: 1 ]. كَمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ الْحُجُرَاتِ: 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إِلَيْهَا [ الْأَعْرَافِ: 189 ]. الْآيَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ
السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا
خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاهْبِطْ
مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ
الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ
لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا
نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ
أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ
النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ
لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ
أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى
حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [
الْأَعْرَافِ: 11 - 25 ].
كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ
وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [ طه: 55 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ
خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ
يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ
مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ
عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى
يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ
الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [ الْحِجْرِ 26 - 44 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ
هَذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ
جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ
فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا
غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ
وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 61 - 65 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ الْكَهْفِ: 50 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ
عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا
وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ
لَا يَبْلَى فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا
يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا
جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ
أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [ طه: 115 - 126 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ
بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا
أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا
مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ
اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ
فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ
الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ
مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ
فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا
مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ
نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ ص: 67 - 88 ].
فَهَذَا ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ،
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي التَّفْسِيرِ. وَلْنَذْكُرْ
هَاهُنَا مَضْمُونَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَاتُ، وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ قَائِلًا لَهُمْ: إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. أَعْلَمَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْ
آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ يُخْلِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا قَالَ: وَهُوَ
الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ [ الْأَنْعَامِ: 165 ]. وَقَالَ:
وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [ النَّمْلِ: 62 ]. فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ
عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيهِ بِخَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا يُخْبِرُ
بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَبْلَ كَوْنِهِ. فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ سَائِلِينَ
عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكْشَافِ وَالِاسْتِعْلَامِ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ لَا
عَلَى وَجْهِ
الِاعْتِرَاضِ وَالتَّنَقُّصِ لِبَنِي آدَمَ وَالْحَسَدِ لَهُمْ، كَمَا قَدْ
يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُفَسِّرِينَ: قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. قِيلَ: عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ
بِمَا رَأَوْا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَ آدَمَ مِنَ الْحِنِّ وَالْبِنِّ. قَالَهُ
قَتَادَةُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَانَتِ الْحِنُّ وَالْبِنُّ قَبْلَ آدَمَ
بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَسَفَكُوا الدِّمَاءَ فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا
مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَطَرَدُوهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبُحُورِ، وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَعَنِ الْحَسَنِ أُلْهِمُوا ذَلِكَ. وَقِيلَ: لِمَا
اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. فَقِيلَ: أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ
هَارُوتُ وَمَارُوتُ عَنْ مَلَكٍ فَوْقَهُمَا يُقَالُ لَهُ: السِّجِلُّ. رَوَاهُ
ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ
عَلِمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لَا يَخْلُقُ مِنْهَا إِلَّا مَنْ يَكُونُ بِهَذِهِ
الْمَثَابَةِ غَالِبًا. وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. أَيْ:
نَعْبُدُكَ دَائِمًا لَا يَعْصِيكَ مِنَّا أَحَدٌ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ
بِخَلْقِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَعْبُدُوكَ فَهَا نَحْنُ لَا نَفْتُرُ لَيْلًا وَلَا
نَهَارًا. قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا. أَيْ: أَعْلَمُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ
الرَّاجِحَةِ فِي خَلْقِ هَؤُلَاءِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. أَيْ: سَيُوجَدُ مِنْهُمُ
الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، وَالصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ. ثُمَّ
بَيَّنَ لَهُمْ شَرَفَ آدَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ فَقَالَ: وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي
يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ ; إِنْسَانٌ، وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ،
وَبَحْرٌ، وَجَبَلٌ، وَجَمَلٌ، وَحِمَارٌ،
وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ
مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَّمَهُ اسْمَ الصَّحْفَةِ،
وَالْقِدْرِ حَتَّى الْفَسْوَةِ وَالْفُسَيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَّمَهُ
اسْمَ كُلِّ دَابَّةٍ، وَكُلِّ طَيْرٍ، وَكُلِّ شَيْءٍ.
وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ الرَّبِيعُ:
عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ:
عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ ذُرِّيَّتِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَّمَهُ أَسْمَاءَ
الذَّوَاتِ، وَأَفْعَالَهَا مُكَبَّرَهَا وَمُصَغَّرَهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هُنَا مَا
رَوَاهُ هُوَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُونَ لَوِ
اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ أَنْتَ أَبُو
الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ
أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى
الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ آدَمَ،
قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: لَا يَخْلُقُ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ
مِنْهُ. فَابْتُلُوا بِهَذَا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي التَّفْسِيرِ قَالُوا سُبْحَانَكَ
لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
أَيْ: سُبْحَانَكَ أَنْ يُحِيطَ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِكَ مِنْ غَيْرِ
تَعْلِيمِكَ،
كَمَا قَالَ: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [ الْبَقَرَةِ: 255 ]. قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. أَيْ أَعْلَمُ السِّرَّ كَمَا أَعْلَمُ الْعَلَانِيَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ. مَا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا. وَبِقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. الْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ إِبْلِيسُ وَمَا أَسَرَّهُ وَكَتَمَهُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعَدَاوَةِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ: وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. قَوْلُهُمْ: لَنْ يَخْلُقَ رَبُّنَا خَلْقًا إِلَّا كُنَّا أَعْلَمَ مِنْهُ، وَأَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ. قَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ. هَذَا إِكْرَامٌ عَظِيمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِآدَمَ حِينَ خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، كَمَا قَالَ: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ الْحِجْرِ: 29 ]. فَهَذِهِ أَرْبَعُ تَشْرِيفَاتٍ خَلْقُهُ لَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ، وَنَفْخُهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمْرُهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَتَعْلِيمُهُ أَسْمَاءَ الْأَشْيَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى الْكِلِيمُ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَإِيَّاهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَتَنَاظَرَا، كَمَا سَيَأْتِي: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ. وَهَكَذَا يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْمَحْشَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ الْأَعْرَافِ: 11 - 12 ]. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: قَاسَ إِبْلِيسُ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ. رَوَاهُمَا ابْنُ جُرَيْجٍ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ نَظَرَ نَفْسَهُ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ فَرَأَى نَفْسَهُ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ فَامْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ، مَعَ وُجُودِ الْأَمْرِ لَهُ وَلِسَائِرِ الْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ، وَالْقِيَاسُ إِذَا كَانَ مُقَابِلًا بِالنَّصِّ كَانَ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ هُوَ فَاسِدٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الطِّينَ أَنْفَعُ وَخَيْرٌ مِنَ النَّارِ فَإِنَّ الطِّينَ فِيهِ ; الرَّزَانَةُ، وَالْحِلْمُ، وَالْأَنَاةُ، وَالنُّمُوُّ، وَالنَّارُ فِيهَا ; الطَّيْشُ، وَالْخِفَّةُ، وَالسُّرْعَةُ، وَالْإِحْرَاقُ. ثُمَّ آدَمُ شَرَّفَهُ اللَّهُ بِخَلْقِهِ لَهُ بِيَدِهِ، وَنَفْخِهِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَلِهَذَا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ، كَمَا قَالَ: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ الْحِجْرِ: 28 - 35 ]. اسْتَحَقَّ هَذَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّهُ اسْتَلْزَمَ تَنَقُّصُهُ لِآدَمَ وَازْدِرَاؤُهُ بِهِ
وَتَرَفُّعُهُ عَلَيْهِ
مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ الْإِلِهِيِّ، وَمُعَانَدَةَ الْحَقِّ فِي النَّصِّ عَلَى
آدَمَ عَلَى التَّعْيِينِ، وَشَرَعَ فِي الِاعْتِذَارِ بِمَا لَا يُجْدِي عَنْهُ
شَيْئًا، وَكَانَ اعْتِذَارُهُ أَشَدَّ مِنْ ذَنْبِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي
سُورَةِ سُبْحَانَ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَأَيْتَكَ
هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ
الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ
وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [ الْإِسْرَاءِ: 61 - 65 ].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [
الْكَهْفِ: 50 ]. أَيْ: خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ عَمْدًا وَعِنَادًا
وَاسْتِكْبَارًا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ خَانَهُ
طَبْعُهُ وَمَادَّتُهُ النَّارِيَّةُ الْخَبِيثَةُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا.
فَإِنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، كَمَا قَالَ. وَكَمَا قَدَّمْنَا فِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَتِ الْجَانُّ
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ
فَلَمَّا أَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلُوهُمْ، وَأَجْلَوْهُمْ إِلَى جَزَائِرِ الْبِحَارِ،
وَكَانَ إِبْلِيسُ مِمَّنْ أُسِرَ فَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَكَانَ
هُنَاكَ فَلَمَّا أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ امْتَنَعَ إِبْلِيسُ
مِنْهُ. وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَسَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَآخَرُونَ: كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ الْمَلَائِكَةِ
بِالسَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلَ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْحَارِثُ. قَالَ النَّقَّاشُ: وَكُنْيَتُهُ أَبُو
كُرْدُوسَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ مِنْ حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ
لَهُمْ: الْحِنُّ، وَكَانُوا خُزَّانَ الْجِنَانِ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَفِهِمْ،
وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً، وَكَانَ مِنْ أُولِى الْأَجْنِحَةِ
الْأَرْبَعَةِ، فَمَسَخَهُ اللَّهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا. وَقَالَ فِي سُورَةِ ص:
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا
سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ
الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ
الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ ص: 71
- 85 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 16 - 17 ]. أَيْ: بِسَبَبِ
إِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، وَلِآتِيَنَّهُمْ مِنْ
كُلِّ جِهَةٍ مِنْهُمْ. فَالسَّعِيدُ مَنْ خَالَفَهُ، وَالشَّقِيُّ مَنِ
اتَّبَعَهُ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَقِيلٍ هُوَ
عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَقِيلٍ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي الْفَاكِهِ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ
يَقْعُدُ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي
صِفَةِ إِبْلِيسَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمَلَائِكَةِ الْمَأْمُورِينَ
بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، أَهُمْ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ ؟ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
عُمُومُ الْآيَاتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِمْ
مَلَائِكَةُ الْأَرْضِ ؟ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَفِي السِّيَاقِ نَكَارَةٌ، وَإِنْ
كَانَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ رَجَّحَهُ، وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ مِنَ
السِّيَاقَاتِ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ: وَأَسْجَدَ لَهُ
مَلَائِكَتَهُ. وَهَذَا عُمُومٌ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: فَاهْبِطْ مِنْهَا وَاخْرُجْ مِنْهَا دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي السَّمَاءِ، فَأُمِرَ بِالْهُبُوطِ مِنْهَا وَالْخُرُوجِ
مِنَ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ الَّتِي كَانَ قَدْ نَالَهَا بِعِبَادَتِهِ
وَتَشَبُّهِهِ بِالْمَلَائِكَةِ فِي الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، ثُمَّ سَلَبَ
ذَلِكَ بِكِبْرِهِ وَحَسَدِهِ وَمُخَالَفَتِهِ لِرَبِّهِ، فَأُهْبِطَ إِلَى
الْأَرْضِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا، وَأَمَرَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنْ يَسْكُنَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: وَقُلْنَا يَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا
وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [ الْبَقَرَةِ:
35 ]. وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا
لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وَيَا
آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 18 -
19 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا
مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [ طه: 116 - 119 ]. وَسِيَاقُ هَذِهِ
الْآيَاتِ يَقْتَضِي أَنَّ خَلْقَ حَوَّاءَ كَانَ قَبْلَ دُخُولِ آدَمَ الْجَنَّةَ
لِقَوْلِهِ: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ. وَهَذَا قَدْ
صَرَّحَ بِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ.
وَلَكِنْ حَكَى السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ
أَنَّهُمْ قَالُوا: أُخْرِجَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأُسْكِنَ آدَمُ
الْجَنَّةَ فَكَانَ يَمْشِي فِيهَا وَحْشًا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا زَوْجٌ يَسْكُنُ
إِلَيْهَا فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَ رَأْسِهِ امْرَأَةٌ قَاعِدَةٌ
خَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ ضِلْعِهِ، فَسَأَلَهَا مَنْ أَنْتِ ؟ قَالَتْ: امْرَأَةٌ.
قَالَ: وَلِمَا خُلِقْتِ؟. قَالَتْ: لِتَسْكُنَ إِلَيَّ. فَقَالَتْ لَهُ
الْمَلَائِكَةُ يَنْظُرُونَ مَا بَلَغَ مِنْ عِلْمِهِ: مَا اسْمُهَا يَا آدَمُ.
قَالَ: حَوَّاءُ. قَالُوا: وَلِمَ كَانَتْ حَوَّاءَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهَا خُلِقَتْ
مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعِهِ الْأَقْصَرِ الْأَيْسَرِ وَهُوَ نَائِمٌ،
وَلَأَمَ مَكَانَهُ لَحْمًا. وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [
النَّسَاءِ: 1 ]. الْآيَةَ، وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا
تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ [ الْأَعْرَافِ: 189 ].
الْآيَةَ.
وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ الْأَشْجَعِيِّ،
عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّ
الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلْعِ
أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ
أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ. فَقِيلَ هِيَ الْكَرْمُ. وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
قَيْسٍ، وَالسُّدِّيِّ فِي رِوَايَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: وَتَزْعُمُ يَهُودُ أَنَّهَا الْحِنْطَةُ.
وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَوَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَمُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ،
وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى. قَالَ وَهْبٌ: وَالْحَبَّةُ مِنْهُ
أَلْيَنُ مِنَ الزَّبَدِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ. هِيَ
النَّخْلَةُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: هِيَ التِّينَةُ. وَبِهِ
قَالَ قَتَادَةُ، وَابْنُ
جُرَيْجٍ. وَقَالَ
أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَتْ شَجَرَةً مَنْ أَكَلَ مِنْهَا أَحْدَثَ، وَلَا
يَنْبَغِي فِي الْجَنَّةِ حَدَثٌ.
وَهَذَا الْخِلَافُ قَرِيبٌ. وَقَدْ أَبْهَمَ اللَّهُ ذِكْرَهَا وَتَعْيِينَهَا،
وَلَوْ كَانَ فِي ذِكْرِهَا مَصْلَحَةٌ تَعُودُ إِلَيْنَا لَعَيَّنَهَا لَنَا،
كَمَا فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَالِّ الَّتِي تُبْهَمُ فِي الْقُرْآنِ.
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْجَنَّةَ الَّتِي
أُسْكِنَهَا آدَمُ، هَلْ هِيَ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ؟ هُوَ الْخِلَافُ
الَّذِي يَنْبَغِي فَصْلُهُ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا
هِيَ الَّتِي فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ جَنَّةُ الْمَأْوَى، لِظَاهِرِ الْآيَاتِ
وَالْأَحَادِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ
وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [ الْبَقَرَةِ: 175 ]. وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَتْ
لِلْعُمُومِ، وَلَا لِمَعْهُودٍ لَفْظِيٍّ، وَإِنَّمَا تَعُودُ عَلَى مَعْهُودٍ
ذِهْنِيٍّ، وَهُوَ الْمُسْتَقِرُّ شَرْعًا مِنْ جَنَّةِ الْمَأْوَى، وَكَقَوْلِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَلَامَ أَخْرَجْتَنَا
وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ. الْحَدِيثَ. كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ،
وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبُو مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَا:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَجْمَعُ اللَّهُ
النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ تَزْلُفُ لَهُمُ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ
آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: وَهَلْ
أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ !. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
بِطُولِهِ، وَهَذَا فِيهِ قُوَّةٌ جَيِّدَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى
أَنَّهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، وَلَيْسَتْ تَخْلُو عَنْ نَظَرٍ.
وَقَالَ آخَرُونَ
بَلِ الْجَنَّةُ الَّتِي أُسْكِنَهَا آدَمُ لَمْ تَكُنْ جَنَّةَ الْخُلْدِ ;
لِأَنَّهُ كُلِّفَ فِيهَا أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَلِأَنَّهُ
نَامَ فِيهَا وَأَخْرَجَ مِنْهَا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ إِبْلِيسُ فِيهَا، وَهَذَا
مِمَّا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ جَنَّةَ الْمَأْوَى. وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَوَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي
الْمَعَارِفِ، وَالْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ،
وَأُفْرِدَ لَهُ مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ
الْإِمَامِ وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَنَقَلَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِيُّ ابْنُ خَطِيبِ الرَّيِّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ
أَبِي الْقَاسِمِ الْبَلْخِيِّ، وَأَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ. وَنَقَلَهُ
الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْقَدَرِيَّةِ. وَهَذَا
الْقَوْلُ هُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَمِمَّنْ
حَكَى الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي
" الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ " وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَطِيَّةَ فِي
تَفْسِيرِهِ، وَأَبُو عِيسَى الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَحَكَى عَنِ الْجُمْهُورِ الْأَوَّلَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الرَّاغِبُ،
وَالْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْجَنَّةِ
الَّتِي أُسْكِنَاهَا يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَى قَوْلَيْنِ ; أَحَدُهُمَا:
أَنَّهَا جَنَّةُ الْخُلْدِ. الثَّانِي: جَنَّةٌ أَعَدَّهَا اللَّهُ لَهُمَا،
وَجَعَلَهَا دَارَ ابْتِلَاءٍ، وَلَيْسَتْ جَنَّةَ الْخُلْدِ الَّتِي جَعَلَهَا
دَارَ جَزَاءٍ. وَمَنْ قَالَ: بِهَذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ ;
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي السَّمَاءِ، لِأَنَّهُ أَهْبَطَهُمَا مِنْهَا. وَهَذَا
قَوْلُ الْحَسَنِ، وَالثَّانِي:
أَنَّهَا فِي
الْأَرْضِ، لِأَنَّهُ امْتَحَنَهُمَا فِيهَا بِالنَّهْيِ عَنِ الشَّجَرَةِ الَّتِي
نَهَيَا عَنْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الثِّمَارِ. وَهَكَذَا قَوْلُ ابْنِ
جُبَيْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا كَلَامُهُ.
فَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ حِكَايَةَ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ
أَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلِهَذَا حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ،
هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمَاوَرْدِيُّ وَرَابِعُهَا:
الْوَقْفُ. وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى
الْقَوْلَ بِأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ وَلَيْسَتْ جَنَّةَ الْمَأْوَى عَنْ أَبِي
عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ.
وَقَدْ أَوْرَدَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثَّانِي سُؤَالًا يَحْتَاجُ مِثْلُهُ إِلَى
جَوَابٍ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طَرَدَ
إِبْلِيسَ حِينَ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ عَنِ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ،
وَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ عَنْهَا وَالْهُبُوطِ مِنْهَا، وَهَذَا الْأَمْرُ لَيْسَ
مِنَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ مُخَالَفَتُهُ، وَإِنَّمَا
هُوَ أَمْرٌ قَدَرِيٌّ لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ، وَلِهَذَا قَالَ: اخْرُجْ
مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [ الْأَعْرَافِ: 18 ]. وَقَالَ: اهْبِطْ مِنْهَا
فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [ الْأَعْرَافِ: 13 ]. وَقَالَ:
اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ الْحِجْرِ: 34 ]. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى
الْجَنَّةِ أَوِ السَّمَاءِ أَوِ الْمَنْزِلَةِ، وَأَيًّا مَا كَانَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ
لَيْسَ لَهُ الْكَوْنُ بَعْدَ هَذَا فِي الْمَكَانِ الَّذِي طُرِدَ عَنْهُ،
وَأَبْعَدُ مِنْهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ
الْمُرُورِ وَالِاجْتِيَازِ. قَالُوا: وَمَعْلُومٌ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقَاتِ
الْقُرْآنِ أَنَّهُ وَسْوَسَ
لِآدَمَ
وَخَاطَبَهُ بِقَوْلِهِ لَهُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ
لَا يَبْلَى [ طه: 120 ]. وَبِقَوْلِهِ: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ
الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [
الْأَعْرَافِ: 20 21 ]. الْآيَةَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اجْتِمَاعِهِ مَعَهُمَا فِي
جَنَّتِهِمَا، وَقَدْ أُجِيبُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ
يَجْتَمِعَ بِهِمَا فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُرُورِ فِيهَا لَا عَلَى
سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ بِهَا، أَوْ أَنَّهُ وَسْوَسَ لَهُمَا وَهُوَ عَلَى بَابِ
الْجَنَّةِ، أَوْ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. وَفِي الثَّلَاثَةِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَصْحَابُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الزِّيَادَاتِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ
عُتَيٍّ هُوَ ابْنُ ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ
آدَمَ لَمَّا احْتُضِرَ اشْتَهَى قِطْفًا مِنْ عِنَبِ الْجَنَّةِ، فَانْطَلَقَ
بَنُوهُ لِيَطْلُبُوهُ لَهُ، فَلَقِيَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَقَالُوا: أَيْنَ
تُرِيدُونَ يَا بَنِي آدَمَ ؟ فَقَالُوا: إِنَّ أَبَانَا اشْتَهَى قِطْفًا مِنْ
عِنَبِ الْجَنَّةِ. فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ فَانْتَهَوْا
إِلَيْهِ فَقَبَضُوا رُوحَهُ، وَغَسَّلُوهُ، وَحَنَّطُوهُ، وَكَفَّنُوهُ، وَصَلَّى
عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَبَنُوهُ خَلْفَ الْمَلَائِكَةِ، وَدَفَنُوهُ. وَقَالُوا:
هَذِهِ سُنَّتُكُمْ فِي مَوْتَاكُمْ. وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِسَنَدِهِ،
وَتَمَامُ لَفْظِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا:
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ الْوُصُولُ إِلَى الْجَنَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا آدَمُ
الَّتِي اشْتَهَى مِنْهَا الْقِطْفُ مُمْكِنًا لَمَا ذَهَبُوا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْأَرْضِ لَا فِي السَّمَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَالِاحْتِجَاجُ بِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: وَيَا آدَمُ
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.
لَمْ يَتَقَدَّمْ
عَهْدٌ يُعُودُ عَلَيْهِ، فَهُوَ الْمَعْهُودُ الذِّهْنِيُّ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ
هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ فَإِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْأَرْضِ،
وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَخُلِقَ لِيَكُونَ فِي
الْأَرْضِ، وَبِهَذَا أَعْلَمَ الرَّبُّ الْمَلَائِكَةَ حَيْثُ قَالَ: إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
قَالُوا: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [ الْقَلَمِ: 17 ]. فَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لَيْسَ
لِلْعُمُومِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَعْهُودٌ لَفْظِيٌّ، وَإِنَّمَا هِيَ
لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَهُوَ
الْبُسْتَانُ.
قَالُوا: وَذِكْرُ الْهُبُوطِ لَا يَدُلُّ عَلَى النُّزُولِ مِنَ السَّمَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ
عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [ هُودٍ: 48 ]. الْآيَةَ. وَإِنَّمَا
كَانَ فِي السَّفِينَةِ حِينَ اسْتَقَرَّ عَلَى الْجُودِيِّ وَنَضَبَ الْمَاءُ
عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، أُمِرَ أَنْ يَهْبِطَ إِلَيْهَا هُوَ وَمَنْ مَعَهُ
مُبَارَكًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اهْبِطُوا مِصْرًا
فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [ الْبَقَرَةِ: 61 ]. الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى:
وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 74 ].
الْآيَةَ. وَفِي الْأَحَادِيثِ وَاللُّغَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ.
قَالُوا: وَلَا مَانِعَ، بَلْ هُوَ الْوَاقِعُ، أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي
أُسْكِنَهَا آدَمُ كَانَتْ مُرْتَفِعَةً عَنْ سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ ذَاتِ
أَشْجَارٍ، وَثِمَارٍ، وَظِلَالٍ، وَنَعِيمٍ، وَنَضْرَةٍ، وَسُرُورٍ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى [ طه: 118 ]. أَيْ لَا
يُذَلُّ بَاطِنُكَ بِالْجُوعِ، وَلَا ظَاهِرُكَ بِالْعُرْيِ: وَأَنَّكَ لَا
تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [ طه: 119 ]. أَيْ لَا يَمَسُّ بَاطِنَكَ حَرُّ
الظَّمَأِ، وَلَا ظَاهِرَكَ حَرُّ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَ هَذَا
وَهَذَا، وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُقَابَلَةِ. فَلَمَّا
كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ أَكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا
أُهْبِطَ
إِلَى أَرْضِ
الشَّقَاءِ، وَالتَّعَبِ، وَالنَّصَبِ، وَالْكَدَرِ، وَالسَّعْيِ، وَالنَّكَدِ،
وَالِابْتِلَاءِ، وَالِاخْتِبَارِ، وَالِامْتِحَانِ، وَاخْتِلَافِ السُّكَّانِ ;
دِينًا، وَأَخْلَاقًا، وَأَعْمَالًا، وَقُصُودًا، وَإِرَادَاتٍ، وَأَقْوَالًا،
وَأَفْعَالًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [ الْبَقَرَةِ: 36 ]. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ
كَانُوا فِي السَّمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ
لَفِيفًا [ الْإِسْرَاءِ: 204 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا لَمْ
يَكُونُوا فِي السَّمَاءِ.
قَالُوا: وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُفَرَّعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا، فَكُلُّ مَنْ
حُكِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ مِنَ السَّلَفِ، وَأَكْثَرِ الْخَلَفِ مِمَّنْ
يُثْبِتُ وُجُودَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْيَوْمَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ
الْآيَاتُ، وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، كَمَا سَيَأْتِي إِيرَادُهَا فِي
مَوْضِعِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [ الْبَقَرَةِ: 36 ].
أَيْ: عَنِ الْجَنَّةِ: فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ. أَيْ: مِنَ
النَّعِيمِ وَالنَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالْكَدِّ
وَالنَّكَدِ، وَذَلِكَ بِمَا وَسْوَسَ لَهُمَا وَزَيَّنَهُ فِي صُدُورِهِمَا،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا
وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ
هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ
[ الْأَعْرَافِ: 20 ]. يَقُولُ: مَا نَهَاكُمَا عَنْ أَكْلِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
إِلَّا أَنَّ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. أَيْ: وَلَوْ
أَكَلْتُمَا مِنْهَا لَصِرْتُمَا كَذَلِكَ: وَقَاسَمَهُمَا. أَيْ: حَلَفَ لَهُمَا
عَلَى ذَلِكَ: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [ الْأَعْرَافِ: 21 ].
كَمَا قَالَ فِي
الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ
أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى [ طه: 120 ]. أَيْ: هَلْ
أَدُلُّكَ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا حَصَلَ لَكَ
الْخُلْدُ فِيمَا أَنْتَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، وَاسْتَمْرَرْتَ فِي مُلْكٍ لَا
يَبِيدُ وَلَا يَنْقَضِي ؟ وَهَذَا مِنَ التَّغْرِيرِ وَالتَّزْوِيرِ
وَالْإِخْبَارِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: شَجَرَةِ
الْخُلْدِ. الَّتِي إِذَا أَكَلْتَ مِنْهَا خَلَّدْتَ.
وَقَدْ تَكُونُ هِيَ الشَّجَرَةُ الَّتِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الضَّحَّاكِ،
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي
ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا ; شَجَرَةُ الْخُلْدِ. وَكَذَا رَوَاهُ
أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، وَحَجَّاجٍ، عَنْ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ شُعْبَةَ أَيْضًا بِهِ.
قَالَ غُنْدَرٌ: قُلْتُ لِشُعْبَةَ: هِيَ شَجَرَةُ الْخُلْدِ. قَالَ: لَيْسَ
فِيهَا هِيَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَقَوْلُهُ: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [
الْأَعْرَافِ: 22 ]. كَمَا قَالَ فِي طه: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا
سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.
وَكَانَتْ حَوَّاءُ أَكَلَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ قَبِلَ آدَمَ، وَهِيَ الَّتِي
حَدَتْهُ عَلَى أَكْلِهَا،
وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ
بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلَا
حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ،
وَمُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
حَارِثٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَفِي كِتَابِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ
الَّذِي دَلَّ حَوَّاءَ عَلَى الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ هِيَ الْحَيَّةُ،
وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ، وَأَعْظَمِهَا فَأَكَلَتْ حَوَّاءُ عَنْ
قَوْلِهَا، وَأَطْعَمَتْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ
لِإِبْلِيسَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ انْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا، وَعَلِمَا أَنَّهُمَا
عُرْيَانَانِ فَوَصَلَا مِنْ، وَرَقِ التِّينِ، وَعَمِلَا مَآزِرَ، وَفِيهَا
أَنَّهُمَا كَانَا عُرْيَانَيْنِ، وَكَذَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ لِبَاسُهُمَا
نُورًا عَلَى فَرْجِهِ وَفَرْجِهَا.
وَهَذَا الَّذِي فِي هَذِهِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ غَلَطٌ مِنْهُمْ
وَتَحْرِيفٌ وَخَطَأٌ فِي التَّعْرِيبِ، فَإِنَّ نَقْلَ الْكَلَامِ مِنْ لُغَةٍ
إِلَى لُغَةٍ لَا يَكَادُ يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا سِيَّمَا
مِمَّنْ لَا
يَعْرِفُ كَلَامَ الْعَرَبِ جَيِّدًا، وَلَا يُحِيطُ عِلْمًا بِفَهْمِ كِتَابِهِ
أَيْضًا، فَلِهَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ لَهَا خَطَأٌ كَثِيرٌ لَفْظًا
وَمَعْنَى، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِمَا
لِبَاسٌ فِي قَوْلِهِ: يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا
سَوْآتِهِمَا. فَهَذَا لَا يَرُدُّ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنُ إِشْكَابٍ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ رَجُلًا
طِوَالًا كَثِيرَ شَعْرِ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ نَخْلَةٌ سَحُوقٌ، فَلَمَّا ذَاقَ
الشَّجَرَةَ سَقَطَ عَنْهُ لِبَاسُهُ، فَأَوَّلُ مَا بَدَا مِنْهُ عَوْرَتُهُ،
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى عَوْرَتِهِ جَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْجَنَّةِ، فَأَخَذَتْ
شَعْرَهُ شَجَرَةٌ فَنَازَعَهَا، فَنَادَاهُ الرَّحْمَنُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا آدَمُ
مِنِّي تَفِرُّ. فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَ الرَّحْمَنِ قَالَ: يَا رَبِّ لَا،
وَلَكِنِ اسْتِحْيَاءً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَرَقِ
التِّينِ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ
تَسْلِيمِهِ فَلَا يَضُرُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ
الْحَسَنِ
بْنِ ذَكْوَانَ،
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَبَاكُمْ آدَمَ كَانَ كَالنَّخْلَةِ
السَّحُوقِ سِتِّينَ ذِرَاعًا، كَثِيرَ الشَّعْرِ، مُوَارَى الْعَوْرَةِ، فَلَمَّا
أَصَابَ الْخَطِيئَةَ فِي الْجَنَّةِ بَدَتْ لَهُ سَوْءَتُهُ، فَخَرَجَ مِنَ
الْجَنَّةِ فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَأَخَذَتْ بِنَاصِيَتِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ:
أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ. قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ
مِمَّا جِئْتُ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُتَيِّ بْنِ ضَمْرَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ
كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَهَذَا
أَصَحُّ، فَإِنَّ الْحَسَنَ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيًّا. ثُمَّ أَوْرَدَهُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ خَيْثَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ الطَّرَابُلْسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ أَبِي قِرْصَافَةَ الْعَسْقَلَانِيِّ، عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي
إِيَاسٍ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا بِنَحْوِهِ.
وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ
لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 22 - 23 ]. وَهَذَا اعْتِرَافٌ، وَرُجُوعٌ إِلَى
الْإِنَابَةِ، وَتَذَلُّلٌ وَخُضُوعٌ، وَاسْتِكَانَةٌ وَافْتِقَارٌ إِلَيْهِ
تَعَالَى فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. وَهَذَا السِّرُّ مَا سَرَى فِي أَحَدٍ
مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ إِلَى خَيْرٍ فِي دُنْيَاهُ
وَأُخْرَاهُ.
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ
وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [ الْأَعْرَافِ: 24 ]. وَهَذَا خِطَابٌ لِآدَمَ وَحَوَّاءَ
وَإِبْلِيسَ.
قِيلَ:
وَالْحَيَّةُ مَعَهُمْ. أُمِرُوا أَنْ يَهْبِطُوا مِنَ الْجَنَّةِ فِي حَالِ
كَوْنِهِمْ مُتَعَادِينَ مُتَحَارِبِينَ، وَقَدْ يُسْتَشْهَدُ لِذِكْرِ الْحَيَّةِ
مَعَهُمَا بِمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ. وَقَالَ مَا
سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ.
وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ طه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ [ طه: 123 ]. هُوَ أَمْرٌ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ وَمَا تَنَاسَلَ مِنْهُمَا
عَدَاوَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، وَاسْتَتْبَعَ آدَمَ حَوَّاءُ، وَإِبْلِيسَ الْحَيَّةُ.
وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ لَهُمْ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ. كَمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 78 ].
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ الْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بَيْنَ
اثْنَيْنِ مُدَّعٍ وَمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ.
وَأَمَّا تَكْرِيرُهُ الْإِهْبَاطَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ
فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا
جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [ الْبَقَرَةِ:
36 39 ]. فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْإِهْبَاطِ
الْأَوَّلِ
الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَبِالثَّانِي مِنَ
السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِقَوْلِهِ فِي
الْأَوَّلِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُهْبِطُوا
إِلَى الْأَرْضِ بِالْإِهْبَاطِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَرَّرَهُ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، وَنَاطَ مَعَ
كُلِّ مَرَّةٍ حُكْمًا ; فَنَاطَ بِالْأَوَّلِ: عَدَاوَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ،
وَبِالثَّانِي: الِاشْتِرَاطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ تَبِعَ هُدَاهُ الَّذِي
يُنَزِّلُهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ
الشَّقِيُّ، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الْكَلَامِ لَهُ نَظَائِرُ فِي الْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ
مَلَكَيْنِ أَنْ يُخْرِجَا آدَمَ وَحَوَّاءَ مِنْ جِوَارِهِ، فَنَزَعَ جِبْرِيلُ
التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَحَلَّ مِيكَائِيلُ الْإِكْلِيلَ عَنْ جَبِينِهِ،
وَتَعَلَّقَ بِهِ غُصْنٌ فَظَنَّ آدَمُ أَنَّهُ قَدْ عُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ
فَنَكَّسَ رَأْسَهُ يَقُولُ: الْعَفْوَ الْعَفْوَ، فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ:
فِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ. قَالَ: بَلْ حَيَاءً مِنْكَ يَا سَيِّدِي. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ،
عَنْ حَسَّانَ هُوَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَكَثَ آدَمُ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ عَامٍ،
وَفِي رِوَايَةٍ سِتِّينَ عَامًا، وَبَكَى عَلَى الْجَنَّةِ سَبْعِينَ عَامًا،
وَعَلَى خَطِيئَتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، وَعَلَى وَلَدِهِ حِينَ قُتِلَ أَرْبَعِينَ
عَامًا. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ
عَلَيْهِ
السَّلَامُ إِلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا دَحْنَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ بِالْهِنْدِ، وَحَوَّاءُ بِجُدَّةَ،
وَإِبْلِيسُ بِدَسْتِمَيْسَانَ مِنَ الْبَصْرَةِ عَلَى أَمْيَالٍ، وَأُهْبِطَتِ
الْحَيَّةُ بِأَصْبَهَانَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: نَزَلَ آدَمُ بِالْهِنْدِ، وَنَزَلَ مَعَهُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ
وَبِقَبْضَةٍ مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، فَبَثَّهُ فِي الْهِنْدِ فَنَبَتَتْ
شَجَرَةُ الطِّيبِ هُنَاكَ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أُهْبِطَ آدَمُ
بِالصَّفَا، وَحَوَّاءُ بِالْمَرْوَةِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: أَخْبَرَنِي عَوْفٌ، عَنْ قَسَامَةَ
بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حِينَ
أَهْبَطَ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ عَلَّمَهُ صَنْعَةَ كُلِّ شَيْءٍ،
وَزَوَّدَهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ. فَثِمَارُكُمْ هَذِهِ مِنْ ثِمَارِ
الْجَنَّةِ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ تَتَغَيَّرُ، وَتِلْكَ لَا تَتَغَيَّرُ. وَقَالَ
الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالُوَيْهِ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَائِدَةَ،
عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَا بَيْنَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ
الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ
فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ; فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ
الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ:
وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ;
فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا،
وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرْكَانِيُّ،
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَبَطَ آدَمُ وَحَوَّاءُ عُرْيَانَيْنِ
جَمِيعًا عَلَيْهِمَا وَرَقُ الْجَنَّةِ، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ حَتَّى قَعَدَ
يَبْكِي، وَيَقُولُ لَهَا: يَا حَوَّاءُ قَدْ أَذَانِي الْحَرُّ " قَالَ:
" فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِقُطْنٍ، وَأَمَرَهَا أَنْ تَغْزِلَ، وَعَلَّمَهَا،
وَأَمَرَ آدَمَ بِالْحِيَاكَةِ، وَعَلَّمَهُ أَنْ يَنْسِجَ. وَقَالَ: كَانَ آدَمُ
لَمْ يُجَامِعِ امْرَأَتَهُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى هَبَطَ مِنْهَا لِلْخَطِيئَةِ
الَّتِي أَصَابَتْهُمَا بِأَكْلِهِمَا مِنَ الشَّجَرَةِ " قَالَ: "
وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنَامُ عَلَى حِدَةٍ يَنَامُ أَحَدُهُمَا فِي
الْبَطْحَاءِ، وَالْآخَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ
فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ " قَالَ: " وَعَلَّمَهُ كَيْفَ
يَأْتِيهَا، فَلِمَا أَتَاهَا جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ
امْرَأَتَكَ ؟ قَالَ: صَالِحَةً ". فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرَفْعُهُ
مُنْكَرٌ جِدًّا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ. وَسَعِيدُ بْنُ
مَيْسَرَةَ هَذَا هُوَ أَبُو عِمْرَانَ الْبَكْرِيُّ الْبَصْرِيُّ. قَالَ فِيهِ
الْبُخَارِيُّ:
مُنْكَرُ
الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ. وَقَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ: مُظْلِمُ الْأَمْرِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ الْبَقَرَةِ: 37 ]. قِيلَ: هِيَ قَوْلُهُ: رَبَّنَا
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 23 ]. رُوِيَ هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْحَسَنِ،
وَقَتَادَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، وَعَطَاءٍ
الْخُرَاسَانِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتَ يَا رَبِّ إِنْ
تُبْتُ وَرَجَعْتُ أَعَائِدِي إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ: نَعَمْ. فَذَلِكَ
قَوْلُهُ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. وَهَذَا
غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الْكَلِمَاتُ: اللَّهُمَّ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ
سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّكَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
وَبِحَمْدِكَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي
مُسْتَدْرَكِهِ
مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فَتَلَقَّى
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. قَالَ: قَالَ: آدَمُ يَا رَبِّ
أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ. قِيلَ لَهُ: بَلَى. وَنَفَخْتَ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ.
قِيلَ لَهُ: بَلَى. وَعَطَسْتُ، فَقُلْتَ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَسَبَقَتْ
رَحْمَتُكَ غَضَبَكَ. قِيلَ لَهُ: بَلَى. وَكَتَبْتَ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَ هَذَا.
قِيلَ لَهُ: بَلَى. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ هَلْ أَنْتَ رَاجِعِي إِلَى
الْجَنَّةِ ؟. قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ،
وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ أَيْضًا، والْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَمَّا اقْتَرَفَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ قَالَ: يَا رَبِّ أَسْأَلُكَ
بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا غَفَرْتَ لِي. فَقَالَ اللَّهُ: فَكَيْفَ عَرَفْتَ
مُحَمَّدًا وَلَمْ أَخْلُقْهُ بَعْدُ. فَقَالَ: يَا رَبِّ لِأَنَّكَ لَمَّا
خَلَقْتَنِي بِيَدِكَ، وَنَفَخْتَ فِيَّ مَنْ رُوحِكَ رَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ
عَلَى قَوَائِمِ الْعَرْشِ مَكْتُوبًا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللَّهِ. فَعَلِمْتُ أَنَّكَ لَمْ تُضِفْ إِلَى اسْمِكَ إِلَّا أَحَبَّ
الْخَلْقِ إِلَيْكَ. فَقَالَ اللَّهُ: صَدَقْتَ يَا آدَمُ إِنَّهُ لَأَحَبُّ
الْخَلْقِ إِلَيَّ، وَإِذْ سَأَلْتَنِي بِحَقِّهِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَلَوْلَا
مُحَمَّدٌ مَا خَلَقْتُكَ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَصَى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [ طه: 21 22
].
ذِكْرُ احْتِجَاجِ
آدَمَ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ
النَّجَّارِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَاجَّ
مُوسَى آدَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي أَخْرَجْتَ
النَّاسَ بِذَنْبِكَ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَشْقَيْتَهُمْ ! قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى
أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ ! أَتَلُومُنِي
عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي، أَوْ
قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَمْرٍو
النَّاقِدِ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ،
عَنْ أَيُّوبَ بْنِ النَّجَّارِ بِهِ. قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ:
وَلَمْ يُخَرِّجَا عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ سِوَاهُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ،
عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ،
حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ لَهُ مُوسَى:
أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ ! فَقَالَ لَهُ
آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ
! تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ! قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى. مَرَّتَيْنِ قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ،
وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا
زَائِدَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى،
فَقَالَ: مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ
فِيكَ مِنْ رُوحِهِ أَغْوَيْتَ النَّاسَ، وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ !
قَالَ: فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ !
تَلُومُنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ! قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَقَدْ
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ
عَرَبِيٍّ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ
بِهِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. قُلْتُ: هَكَذَا رَوَاهُ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ،
عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ مُثَنَّى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَسَدٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ
بَعْضُهُمْ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ
أَيْضًا، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَوْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ طَاوُسًا، سَمِعَ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا
خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى
أَنْتَ الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ !. وَقَالَ مَرَّةً بِرِسَالَتِهِ،
وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ ! أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً !. قَالَ: حَجَّ آدَمُ مُوسَى،
حَجَّ آدَمُ مُوسَى، حَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَفِظْنَاهُ مِنْ
عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: يَا
آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ
لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ !
أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي
بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ! فَحَجَّآدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. هَكَذَا
ثَلَاثًا.
قَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. وَقَدْ
رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ عَشْرِ طُرُقٍ، عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ
عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: لَقِيَ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ
اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ
فَعَلْتَ ! فَقَالَ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ، وَاصْطَفَاكَ
بِرِسَالَتِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ ! أَنَا أَقْدَمُ أَمِ الذِّكْرُ
؟ قَالَ: لَا بَلِ الذِّكْرُ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا
عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحُمَيْدٌ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ قَالَ: حَمَّادٌ أَظُنُّهُ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيَّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقِيَ
آدَمُ مُوسَى. فَذَكَرَ مَعْنَاهُ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ هُوَ ابْنُ حَازِمٍ،
عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيَ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ: أَنْتَ
آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ
لَكَ مَلَائِكَتَهُ، ثُمَّ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ ! قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى
أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ تَجِدُهُ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَكَذَا رَوَاهُ
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَفَعَهُ.
وَكَذَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَهِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى،
أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ
وَمُوسَى عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ; قَالَ مُوسَى: أَنْتَ الَّذِي
خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ
مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ إِلَى
الْأَرْضِ بِخَطِيئَتِكَ ! قَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ
بِرِسَالَتِهِ وَكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ،
وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ ؟ قَالَ
مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا "
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى
أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً ! قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى.
قَالَ الْحَارِثُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ بِذَلِكَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
ذُبَابٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، وَالْأَعْرَجِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى،
فَقَالَ مُوسَى
لِآدَمَ: يَا آدَمُ أَنْتَ الَّذِي أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ ! فَقَالَ
آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَنْزَلَ
عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فَهَلْ وَجَدْتَ أَنِّي أَهْبِطُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَحَجَّهُ آدَمُ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ. وَفِي قَوْلِهِ: " أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ "
نَكَارَةٌ.
فَهَذِهِ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. رَوَاهُ عَنْهُ حُمَيْدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَكْوَانُ أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ، وَطَاوُسُ بْنُ
كَيْسَانَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ، وَعَمَّارُ بْنُ
أَبِي عَمَّارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَهَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَيَزِيدُ
بْنُ هُرْمُزَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ
حَدِيثِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَالَ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ
أَرِنَا آدَمَ الَّذِي أَخْرَجَنَا وَنَفْسَهُ مِنَ الْجَنَّةِ. فَأَرَاهُ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَنْتَ آدَمُ ! فَقَالَ لَهُ آدَمُ: نَعَمْ. قَالَ:
أَنْتَ الَّذِي نَفَخَ اللَّهُ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ
مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا
حَمَلَكَ عَلَى أَنْ أَخْرَجْتَنَا، وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ
آدَمُ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: أَنْتَ مُوسَى نَبِيُّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، أَنْتَ الَّذِي كَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَلَمْ
يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْقَضَاءُ بِهِ
قَبْلُ ! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ قَالَ
أَبُو يَعْلَى:
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنِ الرُّدَيْنِيِّ بْنِ
أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ
قَالَ: أَبُو مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ ظَنِّي أَنَّهُ رَفَعَهُ قَالَ: الْتَقَى آدَمُ
وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ: أَنْتَ أَبُو النَّاسِ أَسْكَنَكَ اللَّهُ
جَنَّتَهُ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ ! قَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى أَمَا
تَجِدُهُ عَلَيَّ مَكْتُوبًا ! قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى. وَهَذَا الْإِسْنَادُ أَيْضًا لَا بَأْسَ بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَةُ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ. وَرِوَايَةُ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ لَهُ ; عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ رَجُلٍ. قَالَ حَمَّادٌ: أَظُنُّهُ جُنْدُبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيَّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقِيَ آدَمُ
مُوسَى. فَذَكَرَ مَعْنَاهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ مَسَالِكُ النَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ; فَرَدَّهُ قَوْمٌ
مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْقَدَرِ السَّابِقِ.
وَاحْتَجَّ بِهِ قَوْمٌ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَهُمْ بَادِيَ
الرَّأْيِ ; حَيْثُ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى. لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ
بِتَقْدِيمِ كِتَابِهِ، وَسَيَأْتِي الْجَوَابُ، عَنْ هَذَا. وَقَالَ آخَرُونَ:
إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ لَامَهُ عَلَى ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ، وَالتَّائِبُ
مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا حَجَّهُ لِأَنَّهُ
أَكْبَرُ مِنْهُ
وَأَقْدَمُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ أَبُوهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا فِي شَرِيعَتَيْنِ
مُتَغَايِرَتَيْنِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُمَا فِي دَارِ الْبَرْزَخِ، وَقَدِ
انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ.
وَالتَّحْقِيقُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُهَا
مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى وَفِيهِ نَظَرٌ، وَمَدَارُ مُعْظَمِهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ،
وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَامَهُ عَلَى إِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ
مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ، وَإِنَّمَا
أَخْرَجَكُمُ الَّذِي رَتَّبَ الْإِخْرَاجَ عَلَى أَكْلِي مِنَ الشَّجَرَةِ،
وَالَّذِي رَتَّبَ ذَلِكَ، وَقَدَّرَهُ وَكَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ هُوَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنْتَ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ نِسْبَةٌ
إِلَيَّ أَكْثَرَ مَا أَنِّي نُهِيتُ عَنِ الْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ
مِنْهَا، وَكَوْنُ الْإِخْرَاجِ مُتَرَتِّبًا عَلَى ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِي،
فَأَنَا لَمْ أُخْرِجْكُمْ وَلَا نَفْسِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا
مِنْ قَدَرِ اللَّهِ وَصُنْعِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ فَلِهَذَا حَجَّ
آدَمُ مُوسَى.
وَمَنْ كَذَّبَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَمُعَانِدٌ ; لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِهِ عَدَالَةً وَحِفْظًا
وَإِتْقَانًا، ثُمَّ هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَمَا
ذَكَرْنَا. وَمَنْ تَأَوَّلَهُ بِتِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَهُوَ
بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَمَا فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَقْوَى مَسْلَكًا
مِنَ الْجَبْرِيَّةِ. وَفِيمَا قَالُوهُ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ; أَحَدُهَا: أَنَّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَلُومُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ
فَاعِلُهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا،
وَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ [ الْقَصَصِ: 16 ]. الْآيَةَ، الثَّالِثُ: أَنَّهُ
لَوْ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اللَّوْمِ عَلَى الذَّنْبِ بِالْقَدَرِ الْمُتَقَدِّمِ
كِتَابَتُهُ عَلَى الْعَبْدِ لَانْفَتَحَ هَذَا لِكُلِّ مَنْ لِيمَ عَلَى أَمْرٍ
قَدْ فَعَلَهُ، فَيَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ،
فَيَنْسَدُّ بَابُ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ، وَلَوْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَاحْتَجَّ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ فِي الْأُمُورِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَهَذَا يُفْضِي إِلَى لَوَازِمَ فَظِيعَةٍ. فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ جَوَابَ آدَمَ إِنَّمَا كَانَ احْتِجَاجًا بِالْقَدَرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ لَا الْمَعْصِيَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ذِكْرُ
الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ،
حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنِي قَسَامَةُ بْنُ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ
مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى
قَدْرِ الْأَرْضِ ; فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ، وَالْأَحْمَرُ، وَالْأَسْوَدُ،
وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ، وَبَيْنَ
ذَلِكَ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ هَوْذَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ
سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ
الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ ; فَجَاءَ مِنْهُمُ
الْأَبْيَضُ، وَالْأَحْمَرُ، وَالْأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ، وَالْحَزْنُ،
وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ، وَالطَّيِّبُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ. وَكَذَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ
عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ
الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ
الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: فَبَعَثَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ جِبْرِيلَ فِي الْأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطِينٍ مِنْهَا، فَقَالَتِ
الْأَرْضُ: أَعُوذُ
بِاللَّهِ مِنْكَ أَنْ تَنْقُصَ مِنِّي أَوْ تَشِينَنِي. فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ. وَقَالَ: رَبِّ إِنَّهَا عَاذَتْ بِكَ فَأَعَذْتُهَا. فَبَعَثَ مِيكَائِيلَ، فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَأَعَاذَهَا، فَرَجَعَ، فَقَالَ كَمَا قَالَ جِبْرِيلُ. فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَعَاذَتْ مِنْهُ، فَقَالَ: وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَرْجِعَ وَلَمْ أُنَفِّذْ أَمْرَهُ، فَأَخَذَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَخَلَطَهُ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَأَخَذَ مِنْ تُرْبَةٍ بَيْضَاءَ، وَحَمْرَاءَ، وَسَوْدَاءَ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ بَنُو آدَمَ مُخْتَلِفِينَ، فَصَعِدَ بِهِ فَبَلَّ التُّرَابَ حَتَّى عَادَ طِينًا لَازِبًا، وَاللَّازِبُ: هُوَ الَّذِي يَلْزَقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ ص: 71 - 72 ]. فَخَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ لِئَلَّا يَتَكَبَّرَ إِبْلِيسُ عَنْهُ فَخَلَقَهُ بَشَرًا فَكَانَ جَسَدًا مِنْ طِينٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَمَرَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ فَفَزِعُوا مِنْهُ لَمَّا رَأَوْهُ، وَكَانَ أَشَدُّهُمْ مِنْهُ فَزَعًا إِبْلِيسَ، فَكَانَ يَمُرُّ بِهِ فَيَضْرِبُهُ فَيُصَوِّتُ الْجَسَدُ، كَمَا يُصَوِّتُ الْفَخَّارُ يَكُونُ لَهُ صَلْصَلَةٌ، فَلِذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [ الرَّحْمَنِ: 14 ]. وَيَقُولُ: لِأَمْرٍ مَا خُلِقْتَ، وَدَخَلَ مِنْ فِيهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ. وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: لَا تَرْهَبُوا مِنْ هَذَا فَإِنَّ رَبَّكُمْ صَمَدٌ، وَهَذَا أَجْوَفُ لَئِنْ سُلِّطْتُ عَلَيْهِ لَأُهْلِكَنَّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحِينَ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِذَا نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَاسْجُدُوا لَهُ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَدَخَلَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقَالَ لَهُ اللَّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ. فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ فَوَثَبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رَجْلَيْهِ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 37 ]. فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [ الْحِجْرِ: 30 ].
وَذَكَرَ تَمَامَ
الْقِصَّةِ.
وَلِبَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ شَاهِدٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ
مِنْهُ مُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَدَعَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ
فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ. وَقَالَ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا
هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: لَمَّا نُفِخَ فِي آدَمَ فَبَلَغَ الرُّوحُ رَأْسَهُ عَطَسَ، فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
يَرْحَمُكَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ السَّكَنِ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ
فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ حَفْصٍ هُوَ ابْنُ عَاصِمِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَفَعَهُ قَالَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: رَحِمَكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ لَا
بَأْسَ بِهِ. وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا
أُمِرَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالسُّجُودِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَجَدَ مِنْهُمْ
إِسْرَافِيلُ، فَأَثَابَهُ اللَّهُ أَنْ كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي جَبْهَتِهِ. رَوَاهُ
ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَافِعٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ طِينًا، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا خَلَقَهُ اللَّهُ وَصَوَّرَهُ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ قَالَ: فَكَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ. ثُمَّ نَفَخَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا جَرَى فِيهِ الرُّوحُ بَصَرُهُ وَخَيَاشِيمُهُ فَعَطَسَ، فَلَقَّاهُ اللَّهُ رَحْمَةَ رَبِّهِ فَقَالَ اللَّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ. ثُمَّ قَالَ اللَّهُ: يَا آدَمُ اذْهَبْ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّفَرِ فَقُلْ لَهُمْ، فَانْظُرْ مَاذَا يَقُولُونَ، فَجَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَقَالَ: يَا آدَمُ هَذَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا ذُرِّيَّتِي. قَالَ: اخْتَرْ يَدَيَّ يَا آدَمُ. قَالَ: اخْتَارُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ. وَبَسَطَ كَفَّهُ فَإِذَا مَنْ هُوَ كَائِنٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا رِجَالٌ مِنْهُمْ أَفْوَاهُهُمُ النُّورُ فَإِذَا رَجُلٌ يُعْجِبُ آدَمَ نُورُهُ قَالَ: يَا رَبِّ مِنْ هَذَا؟. قَالَ: ابْنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: يَا رَبِّ فَكَمْ جَعَلْتَ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ. قَالَ: جَعَلْتُ لَهُ سِتِّينَ. قَالَ: يَا رَبِّ فَأَتِمَّ لَهُ مِنْ عُمُرِي حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةُ سَنَةٍ. فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَأُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمَّا نَفِدَ عُمُرُ آدَمَ، بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَقَالَ آدَمُ: أَوَلَمَ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَوَلَمَ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ. فَجَحَدَ ذَلِكَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ
النَّسَائِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ،
عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
قَوْلَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ،
حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ وَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَحَمِدَ
اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ: يَرْحَمُكَ رَبُّكَ يَا آدَمُ،
اذْهَبْ إِلَى أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَسَلِّمْ
عَلَيْهِمْ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، فَقَالَ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ
وَتَحِيَّةُ بَنِيكَ بَيْنَهُمْ. وَقَالَ اللَّهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ:
اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي، وَكِلْتَا يَدَيْ
رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهُمَا فَإِذَا فِيهِمَا آدَمُ
وَذُرِّيَّتُهُ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ
ذَرِّيَّتُكَ. وَإِذَا كَلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ مَكْتُوبٌ عُمُرُهُ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ، وَإِذَا فِيهِمْ رَجُلٌ أَضْوَؤُهُمْ أَوْ مِنْ أَضْوَئِهِمْ لَمْ
يُكْتَبْ لَهُ إِلَّا أَرْبَعُونَ سَنَةً، قَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا ؟ قَالَ:
هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ. وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ عُمُرَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. فَقَالَ: ذَاكَ الَّذِي كُتِبَ
لَهُ. قَالَ:
فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِنْ عُمُرِي سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَنْتَ
وَذَاكَ، اسْكُنِ الْجَنَّةَ. فَسَكَنَ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ
هَبَطَ مِنْهَا، وَكَانَ آدَمُ يَعُدُّ لِنَفْسِهِ، فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ،
فَقَالَ لَهُ آدَمُ: قَدْ عَجِلْتَ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ: بَلَى،
وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لِابْنِكَ دَاوُدَ مِنْهَا سِتِّينَ سَنَةً. فَجَحَدَ آدَمُ
فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ فَنَسِيَتْ ذَرِّيَّتُهُ، فَيَوْمَئِذٍ أُمِرَ
بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ. هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ
ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ
نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ:
هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ. فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصَ مَا
بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ
آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ. قَالَ: رَبِّ وَكَمْ
جَعَلْتَ عُمُرَهُ ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْهُ مِنْ
عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ
الْمَوْتِ، قَالَ: أَوَلَمَ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ:
أَوَلَمَ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ ! قَالَ: فَجَحَدَ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ،
وَنَسِيَ آدَمُ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ.
ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ
بْنِ دُكَيْنٍ. وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا
فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: يَا آدَمُ هَؤُلَاءِ
ذَرِّيَّتُكَ، وَإِذَا فِيهِمُ الْأَجْذَمُ، وَالْأَبْرَصُ، وَالْأَعْمَى،
وَأَنْوَاعُ الْأَسْقَامِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا
بِذَرِّيَّتِي. قَالَ: كَيْ تَشْكُرَ نِعْمَتِي. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ دَاوُدَ،
وَسَتَأْتِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ أَبِي
إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ فَضَرَبَ كَتِفَهُ
الْيُمْنَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً بَيْضَاءَ كَأَنَّهُمُ الدُّرُّ، وَضَرَبَ
كَتِفَهُ الْيُسْرَى فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّةً سَوْدَاءَ كَأَنَّهُمُ الْحُمَمُ،
فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَمِينِهِ: إِلَى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي. وَقَالَ
لِلَّذِي فِي كَتِفِهِ الْيُسْرَى: إِلَى النَّارِ وَلَا أُبَالِي.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا
الْحَكَمُ بْنُ سِنَانٍ، عَنْ حَوْشَبٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ حِينَ خَلَقَهُ، فَأَخْرَجَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ صَفْحَتِهِ الْيُمْنَى،
وَأَخْرَجَ أَهْلَ النَّارِ مِنْ صَفْحَتِهِ الْيُسْرَى، فَأُلْقُوا عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ مِنْهُمُ الْأَعْمَى، وَالْأَصَمُّ، وَالْمُبْتَلَى، فَقَالَ آدَمُ: يَا
رَبِّ أَلَا سَوَّيْتَ بَيْنَ وَلَدِي. قَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ
أُشْكَرَ. وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنِ الْحَسَنِ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ
أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ
سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ
ذَرِّيَّتِكَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَزَادُوهُ " وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَكُلُّ مَنْ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ
حَتَّى الْآنَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ عَنْ
يَحْيَى بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ كِلَاهُمَا عَنْ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ
طُولُ آدَمَ سِتِّينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِ أَذْرُعٍ عَرْضًا. انْفَرَدَ بِهِ
أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ
جَحَدَ آدَمُ، إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ، إِنِ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ
وَمَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارِئٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
فَجَعَلَ يَعْرِضُ ذُرِّيَّتَهُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ،
قَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ. قَالَ: أَيْ رَبِّ
كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ:
سِتُّونَ عَامًا.
قَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ
عُمُرِكَ. وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا،
فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ
الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ أَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَقْبِضَهُ،
قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا. فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ. قَالَ: مَا فَعَلْتُ. وَأَبْرَزَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ
أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ قَالَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِنِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
لَمَّا خَلَقَهُ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَأَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ
فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ زِدْ فِي عُمُرِهِ. قَالَ:
لَا إِلَّا أَنْ تَزِيدَهُ أَنْتَ مِنْ عُمُرِكَ. فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً
مِنْ عُمُرِهِ فَكَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ
الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ رُوحَهُ، قَالَ: إِنَّهُ بَقِيَ
مِنْ أَجَلِي أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَهَا
لِابْنِكَ دَاوُدَ. قَالَ: فَجَحَدَ. قَالَ: فَأَخْرَجَ اللَّهُ الْكِتَابَ،
وَأَقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ فَأَتَمَّهَا لِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ،
وَأَتَمَّ لِآدَمَ عُمُرَهُ أَلْفَ سَنَةً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَعَلِيُّ
بْنُ زَيْدٍ فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَغَيْرِ وَاحِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ
آدَمُ. ثَلَاثًا. وَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مُوَطَئِهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَنَّ
عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ
أَخْبَرَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ الْأَعْرَافِ: 172 ]. الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ
مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ
هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ. ثُمَّ مَسَحَ
ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، قَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ،
وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ بِهِ
الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ
أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ
فَيَدْخُلُ بِهِ النَّارَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ بِهِ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ لَمْ يَسْمَعْ
عُمَرَ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ زَادَ أَبُو حَاتِمٍ:
وَبَيْنَهُمَا نُعَيْمُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ مُصَفَّى، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ جُعْثُمٍ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ
عَبْدِ الْحَمِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ
الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقَدْ تَابَعَ عُمَرَ بْنَ جُعْثُمٍ أَبُو
فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ
قَالَ: وَقَوْلُهُمَا أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ تَعَالَى
ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ ظَهْرِهِ كَالذَّرِّ، وَقِسْمَتِهِمْ قِسْمَيْنِ ; أَهْلِ
الْيَمِينِ، وَأَهْلِ الشَّمَالِ. وَقَالَ: هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي،
وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَلَا أُبَالِي. فَأَمَّا الْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ،
وَاسْتِنْطَاقُهُمْ بِالْإِقْرَارِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ فَلَمْ يَجِئْ فِي
الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ، وَتَفْسِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ، وَحَمْلُهَا عَلَى هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ،
وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُسْتَقْصَاةً بِأَسَانِيدِهَا وَأَلْفَاظِ
مُتُونِهَا فَمَنْ أَرَادَ تَحْرِيرَهُ فَلْيُرَاجِعْهُ ثَمَّ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ يَعْنِي ابْنَ حَازِمٍ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنُعْمَانَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ
ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ،
ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلًا، قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا
أَنَّ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ
تَقُولُوا إِلَى قَوْلِهِ: الْمُبْطِلُونَ. فَهُوَ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ
عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، و ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ فِي
مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، إِلَّا أَنَّهُ
اخْتَلَفَ فِيهِ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ ; فَرَوَى عَنْهُ مَرْفُوعًا،
وَمَوْقُوفًا. وَكَذَا رَوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَرْفُوعًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ، وَالْوَالِبِيُّ، وَالضَّحَّاكُ،
وَأَبُو جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ. وَهَذَا أَكْثَرُ وَأَثْبَتُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَوْقُوفًا
وَمَرْفُوعًا. وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ.
وَاسْتَأْنَسَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ; وَهُوَ أَخْذُ الْمِيثَاقِ عَلَى
الذُّرِّيَّةِ وَهُمُ الْجُمْهُورُ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
حَجَّاجٌ، حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُقَالُ
لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى
الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ. قَالَ: فَيَقُولُ: نَعَمْ.
فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ ذَلِكَ، قَدْ أَخَذْتُ عَلَيْكَ
فِي ظَهْرِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ
بِي. أَخْرَجَاهُ
مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ: عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي
الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. الْآيَةَ وَالَّتِي
بَعْدَهَا قَالَ: فَجَمَعَهُمْ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَخَلَقَهُمْ، ثُمَّ صَوَّرَهُمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ
فَتَكَلَّمُوا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، وَأَشْهَدَ
عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى. الْآيَةَ قَالَ:
فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ،
وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ، أَنْ لَا تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا. اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي، وَلَا رَبَّ
غَيْرِي، وَلَا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي سَأُرْسِلُ إِلَيْكُمْ رُسُلًا
يُنْذِرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كِتَابِي. قَالُوا:
نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا، وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ
لَنَا غَيْرُكَ. فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ، وَرَفَعَ أَبَاهُمْ
آدَمَ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى فِيهِمُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ
الصُّورَةِ وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ لَوْ سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ.
فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ، وَرَأَى فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءَ مِثْلَ
السُّرُّجِ عَلَيْهِمُ النُّورُ، وَخُصُّوا بِمِيثَاقٍ آخَرَ مِنَ الرِّسَالَةِ
وَالنُّبُوَّةِ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ الْأَحْزَابِ:
7 ]. وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ
اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [
الرُّومِ: 30 ]. وَفِي ذَلِكَ قَالَ: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى [
النَّجْمِ: 56 ]. وَفِي ذَلِكَ قَالَ: وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ
وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ [ الْأَعْرَافِ: 102 ]. رَوَاهُ
الْأَئِمَّةُ ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، و ابْنُ
جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ مِنْ طَرِيقِ
أَبِي جَعْفَرٍ.
وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ
السَّلَفِ بِسِيَاقَاتٍ تُوَافِقُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ
تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ امْتَثَلُوا
كُلُّهُمُ الْأَمْرَ الْإِلَهِيَّ، وَامْتَنَعَ إِبْلِيسُ مِنَ السُّجُودِ لَهُ
حَسَدًا، وَعَدَاوَةً لَهُ فَطَرَدَهُ اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ، وَأَخْرَجَهُ مِنَ
الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَنَفَاهُ عَنْهَا، وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ طَرِيدًا
مَلْعُونًا شَيْطَانًا رَجِيمًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَيَعْلَى، وَمُحَمَّدٌ
ابْنَا عُبَيْدٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي
يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ
الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
ثُمَّ لَمَّا أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ الَّتِي أُسْكِنَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ فِي
السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ أَقَامَ
بِهَا هُوَ وَزَوْجَتُهُ حَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ يَأْكُلَانِ مِنْهَا
رَغَدًا حَيْثُ شَاءَا، فَلَمَّا أَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَا
عَنْهَا سُلِبَا مَا كَانَا فِيهِ مِنَ اللِّبَاسِ، وَأُهْبِطَا إِلَى الْأَرْضِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي مَوَاضِعَ
هُبُوطِهِ مِنْهَا،
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ مَقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ ; فَقِيلَ: بَعْضُ يَوْمٍ
مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا وَخُلِقَ آدَمُ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ. وَتَقَدَّمَ أَيْضًا حَدِيثُهُ عَنْهُ: وَفِيهِ يَعْنِي يَوْمَ
الْجُمُعَةِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ
الَّذِي خُلِقَ فِيهِ، فِيهِ أُخْرِجَ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ
كَهَذِهِ الْأَيَّامِ، فَقَدْ لَبِثَ بَعْضَ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ. وَفِي هَذَا
نَظَرٌ. وَإِنْ كَانَ إِخْرَاجُهُ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ أَوْ
قُلْنَا: بِأَنَّ تِلْكَ الْأَيَّامَ مِقْدَارُهَا سِتَّةُ آلَافِ سَنَةٍ، كَمَا
تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ
جَرِيرٍ، فَقَدْ لَبِثَ هُنَاكَ مُدَّةً طَوِيلَةً. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خُلِقَ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ،
وَالسَّاعَةُ مِنْهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، فَمَكَثَ
مُصَوَّرًا طِينًا قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَأَقَامَ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطَ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً
وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ سَوَّارٍ
خَبَرَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، أَنَّهُ كَانَ لَمَّا أُهْبِطَ، رِجْلَاهُ فِي
الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ فَحَطَّهُ اللَّهُ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ ; لِمَا
تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ
خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا،
فَلَمْ يَزَلِ
الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ خُلِقَ كَذَلِكَ لَا
أَطْوَلَ مِنْ سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَأَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لَمْ يَزَالُوا
يَتَنَاقَصُ خَلْقُهُمْ حَتَّى الْآنَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: يَا آدَمُ
إِنَّ لِي حَرَمًا بِحِيَالِ عَرْشِي، فَانْطَلِقْ فَابْنِ لِي فِيهِ بَيْتًا
فَطُفْ بِهِ. كَمَا تَطُوفُ مَلَائِكَتِي بِعَرْشِي. وَأَرْسَلَ اللَّهُ لَهُ
مَلَكًا فَعَرَّفَهُ مَكَانَهُ، وَعَلَّمَهُ الْمَنَاسِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ
مَوْضِعَ كُلِّ خَطْوَةٍ خَطَاهَا آدَمُ صَارَتْ قَرْيَةً بَعْدَ ذَلِكَ.
وَعَنْهُ أَنَّ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلَهُ آدَمُ فِي الْأَرْضِ أَنْ جَاءَهُ
جِبْرِيلُ بِسَبْعِ حَبَّاتٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا
مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيتَ عَنْهَا فَأَكَلْتَ مِنْهَا. فَقَالَ: وَمَا
أَصْنَعُ بِهَذَا ؟ قَالَ: ابْذُرْهُ فِي الْأَرْضِ. فَبَذَرَهُ، وَكَانَ كُلُّ
حَبَّةٍ مِنْهَا زِنَتُهَا أَزْيَدُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، فَنَبَتَتْ، فَحَصَدَهُ،
ثُمَّ دَرَسَهُ، ثُمَّ ذَرَاهُ، ثُمَّ طَحَنَهُ، ثُمَّ عَجَنَهُ، ثُمَّ خَبَزَهُ،
فَأَكَلَهُ بَعْدَ جَهْدٍ عَظِيمٍ، وَتَعَبٍ، وَنَكَدٍ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ
تَعَالَى فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ طه: 117 ]. وَكَانَ
أَوَّلُ كُسْوَتِهِمَا مِنْ شَعْرِ الضَّأْنِ جَزَّاهُ، ثُمَّ غَزَلَاهُ فَنَسَجَ
آدَمُ لَهُ جُبَّةً، وَلِحَوَّاءَ دِرْعًا وَخِمَارًا.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ وُلِدَ لَهُمَا بِالْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنَ الْأَوْلَادِ ؟ فَقِيلَ:
لَمْ يُولَدْ لَهُمَا إِلَّا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: بَلْ وُلِدَ لَهُمَا فِيهَا.
فَكَانَ قَابِيلُ وَأُخْتُهُ مِمَّنْ وُلِدَ بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يُولَدُ لَهُ فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى،
وَأُمِرَ أَنْ يُزَوِّجَ كُلَّ ابْنِ أُخْتِ أَخِيهِ الَّتِي وُلِدَتْ مَعَهُ،
وَالْآخَرُ بِالْأُخْرَى، وَهَلُمَّ جَرًّا، وَلَمْ يَكُنْ تَحِلُّ أُخْتٌ
لِأَخِيهَا الَّذِي، وُلِدَتْ مَعَهُ.
ذِكْرُ قِصَّةِ
ابْنِي آدَمَ قَابِيلَ وَهَابِيلَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ
قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ
يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ
فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي
الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي
فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [ الْمَائِدَةِ: 27 - 31 ]. قَدْ تَكَلَّمْنَا
عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا فِيهِ
كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلْنَذْكُرْ هُنَا مُلَخَّصَ مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ،
فَذَكَرَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ
آدَمَ كَانَ يُزَوِّجُ ذَكَرَ كُلِّ بَطْنٍ بِأُنْثَى الْأُخْرَى، وَأَنَّ
هَابِيلَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ قَابِيلَ، وَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ
هَابِيلَ، وَأُخْتُ قَابِيلَ أَحْسَنُ فَأَرَادَ قَابِيلُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهَا
عَلَى أَخِيهِ، وَأَمَرَهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُزَوِّجَهُ إِيَّاهَا
فَأَبَى، فَأَمَرَهُمَا أَنْ يُقَرِّبَا قُرْبَانًا، وَذَهَبَ آدَمُ لِيَحُجَّ
إِلَى مَكَّةَ،
وَاسْتَحْفَظَ السَّمَاوَاتِ عَلَى بَنِيهِ فَأَبَيْنَ، وَالْأَرَضِينَ
وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ، فَتَقَبَّلَ قَابِيلُ بِحِفْظِ ذَلِكَ، فَلَمَّا ذَهَبَ
قَرَّبَا قُرْبَانَهُمَا، فَقَرَّبَ هَابِيلُ جَذَعَةً سَمِينَةً، وَكَانَ صَاحِبَ
غَنَمٍ، وَقَرَّبَ قَابِيلُ حِزْمَةً مِنْ زَرْعٍ مِنْ رَدِيءِ زَرْعِهِ،
فَنَزَلَتْ نَارٌ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ هَابِيلَ، وَتَرَكَتْ قُرْبَانَ قَابِيلَ
فَغَضِبَ. وَقَالَ: لِأَقْتُلَنَّكَ حَتَّى لَا تَنْكِحَ أُخْتِي. فَقَالَ:
إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَمْرٍو، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ لَأَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ،
وَلَكِنْ مَنْعَهُ التَّحَرُّجُ أَنْ يَبْسُطَ إِلَيْهِ يَدَهُ.
وَذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: أَنَّ آدَمَ كَانَ مُبَاشِرًا
لِتَقَرُّبِهِمَا الْقُرْبَانَ، وَالتَّقَبُّلُ مِنْ هَابِيلَ دُونَ قَابِيلَ،
فَقَالَ: قَابِيلُ لِآدَمَ: إِنَّمَا تَقُبِّلَ مِنْهُ لِأَنَّكَ دَعَوْتَ لَهُ،
وَلَمْ تَدْعُ لِي. وَتَوَعَّدَ أَخَاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا
كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ أَبْطَأَ هَابِيلُ فِي الرَّعْيِ، فَبَعَثَ آدَمُ أَخَاهُ
قَابِيلَ لِيَنْظُرَ مَا أَبْطَأَ بِهِ، فَلَمَّا ذَهَبَ إِذَا هُوَ بِهِ فَقَالَ
لَهُ: تُقُبِّلَ مِنْكَ، وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنِّي. فَقَالَ: إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. فَغَضِبَ قَابِيلُ عِنْدَهَا، وَضَرَبَهُ
بِحَدِيدَةٍ كَانَتْ مَعَهُ فَقَتَلَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ
بِصَخْرَةٍ رَمَاهَا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فَشَدَخَتْهُ. وَقِيلَ: بَلْ
خَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا وَعَضًّا، كَمَا تَفْعَلُ السِّبَاعُ فَمَاتَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ لَهُ لَمَّا تَوَعَّدَهُ بِالْقَتْلِ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. دَلَّ عَلَى خُلُقٍ حَسَنٍ، وَخَوْفٍ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَخَشْيَةٍ مِنْهُ، وَتَوَرُّعٍ أَنْ يُقَابِلَ أَخَاهُ بِالسُّوءِ
الَّذِي أَرَادَ مِنْهُ أَخُوهُ مِثْلُهُ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ،
عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَوَاجَهَ
الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ قَالَ:
إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ. أَيْ: إِنِّي أُرِيدُ تَرْكَ مُقَاتَلَتِكَ، وَإِنْ كُنْتُ أَشَدَّ
مِنْكَ، وَأَقْوَى إِذْ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى مَا عَزَمْتَ عَلَيْهِ أَنْ تَبُوءَ
بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ. أَيْ: تَتَحَمَّلُ إِثْمَ قَتْلِي مَعَ مَا لَكَ مِنَ
الْآثَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَ
ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ آثَامَ الْمَقْتُولِ
تَتَحَوَّلُ بِمُجَرَّدِ قَتْلِهِ إِلَى الْقَاتِلِ، كَمَا قَدْ تَوَهَّمَهُ
بَعْضُ النَّاسِ، فَإِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي يُورِدُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَرَكَ الْقَاتِلُ عَلَى
الْمَقْتُولِ مِنْ ذَنْبٍ. فَلَا أَصْلَ لَهُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ
كُتُبِ الْحَدِيثِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَيْضًا، وَلَكِنْ
قَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الْأَشْخَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُطَالِبُ
الْمَقْتُولُ الْقَاتِلَ، فَتَكُونُ حَسَنَاتُ الْقَاتِلِ لَا تَفِي بِهَذِهِ
الظُّلْمَةِ فَتُحَوَّلُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَقْتُولِ إِلَى الْقَاتِلِ، كَمَا
ثَبَتَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي سَائِرِ الْمَظَالِمِ، وَالْقَتْلُ مَنْ
أَعْظَمِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا كُلَّهُ فِي
التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ
سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍّ
أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ فِتْنَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنَةٌ
الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي،
وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي. قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ دَخَلَ عَلَيَّ
بَيْتِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ لِيَقْتُلَنِي. قَالَ: كُنْ كَابْنِ آدَمَ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ كُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَأَهْلُ السُّنَنِ
إِلَّا النَّسَائِيَّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ نَحْوَ هَذَا.
وَأَمَّا الْآخَرُ فَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ قَالَا: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى
ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ
الْقَتْلَ. وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ سِوَى أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ
بِهِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا مِثْلَ هَذَا سَوَاءً.
وَبِجَبَلِ قَاسِيُونَ شَمَالِيَّ دِمَشْقَ مَغَارَةٌ يُقَالُ لَهَا: مَغَارَةُ
الدَّمِ. مَشْهُورَةٌ بِأَنَّهَا الْمَكَانُ الَّذِي قَتَلَ قَابِيلُ أَخَاهُ
هَابِيلَ عِنْدَهَا. وَذَلِكَ مِمَّا تَلَقَّوْهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ
فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ
أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ،
وَعُمْرَ، وَهَابِيلَ، وَأَنَّهُ
اسْتَحْلَفَ
هَابِيلَ أَنَّ هَذَا دَمُهُ فَحَلَفَ لَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ
تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْمَكَانَ يُسْتَجَابُ عِنْدَهُ الدُّعَاءُ
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: إِنَّهُ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمْرَ يَزُورُونَ هَذَا
الْمَكَانَ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ. وَهَذَا مَنَامٌ لَوْ صَحَّ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ كَثِيرٍ هَذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ
لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ
أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ
النَّادِمِينَ. ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَهُ حَمَلَهُ عَلَى
ظَهْرِهِ سَنَةً. وَقَالَ آخَرُونَ: حَمَلَهُ مِائَةَ سَنَةٍ. وَلَمْ يَزَلْ
كَذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ غُرَابَيْنِ. قَالَ السُّدِّيُّ: بِإِسْنَادِهِ
عَنِ الصَّحَابَةِ: أَخَوَيْنِ فَتَقَاتَلَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ،
فَلَمَّا قَتَلَهُ عَمَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَحَفَرَ لَهُ فِيهَا، ثُمَّ أَلْقَاهُ
وَدَفَنَهُ وَوَارَاهُ. فَلَمَّا رَآهُ يَصْنَعُ ذَلِكَ، قَالَ: يَا وَيْلَتَا
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي.
فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْغُرَابُ فَوَارَاهُ، وَدَفَنَهُ.
وَذَكَرَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ أَنَّ آدَمَ حَزِنَ عَلَى ابْنِهِ
هَابِيلَ حُزْنًا شَدِيدًا، وَأَنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا، وَهُوَ قَوْلُهُ
فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ.
تَغَيَّرَتِ اَلْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا فَوَجْهُ اَلْأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي طَعْمٍ وَلَوْنٍ
وَقَلَّ بَشَاشَةً اَلْوَجْهُ اَلْمَلِيحُ
فَأُجِيبَ آدَمُ.
أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلَا جَمِيعًا
وَصَارَ اَلْحَيُّ كَالْمَيْتِ اَلذَّبِيحِ وَجَاءَ بَشَرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا
عَلَى خَوْفٍ فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ
وَهَذَا الشِّعْرُ فِيهِ نَظَرٌ. وَقَدْ يَكُونُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ
كَلَامًا يَتَحَزَّنُ بِهِ بِلُغَتِهِ فَأَلَّفَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى هَذَا وَفِيهِ
أَقْوَالٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ مُجَاهِدٌ: أَنَّ قَابِيلَ عُوجِلَ
بِالْعُقُوبَةِ يَوْمَ قُتِلَ أَخَاهُ، فَعُلِّقَتْ سَاقُهُ إِلَى فَخِذِهِ،
وَجُعِلَ وَجْهُهُ إِلَى الشَّمْسِ كَيْفَمَا دَارَتْ تَنْكِيلًا بِهِ
وَتَعْجِيلًا لِذَنْبِهِ وَبَغْيِهِ وَحَسَدِهِ لِأَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ. وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ:مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي
الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ
وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ.
وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ التَّوْرَاةُ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
أَجَّلَهُ وَأَنْظَرَهُ، وَأَنَّهُ سَكَنَ فِي أَرْضِ نُودٍ فِي شَرْقِيِّ عَدَنٍ،
وَهُمْ يُسَمُّونَهُ قَيْنًا، وَأَنَّهُ وُلِدَ لَهُ خَنُوخُ، وَلِخَنُوخَ
عُنْدَرُ،
وَلِعُنْدَرَ مَحْوَاوِيلُ، وَلِمَحْوَاوِيلَ مَتُّوشِيلُ، وَلِمَتُّوشِيلَ لَامَكُ، وَتَزَوَّجَ هَذَا امْرَأَتَيْنِ عَدَّا وَصَلَا، فَوَلَدَتْ عَدَّا وَلَدًا اسْمُهُ أَبُلُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَكَنَ الْقِبَابَ وَاقْتَنَى الْمَالَ، وَوَلَدَتْ أَيْضًا تَوْبَلَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَخَذَ فِي ضَرْبِ الْوَنَجِ وَالصَّنْجِ، وَوَلَدَتْ صَلَا وَلَدًا اسْمُهُ تُوبَلْقِينُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ النُّحَاسَ وَالْحَدِيدَ، وَبِنْتًا اسْمُهَا نُعْمَى. وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ آدَمَ طَافَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَدَعَتِ اسْمَهُ شِيثَ، وَقَالَتْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِي خَلَفًا مِنْ هَابِيلَ الَّذِي قَتَلَهُ قَابِيلُ. وَوُلِدَ لِشِيثَ أَنُوشُ. قَالُوا: وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ يَوْمَ وُلِدَ لَهُ شِيثُ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ عُمُرُ شِيثَ يَوْمَ وُلِدَ لَهُ أَنُوشُ مِائَةً وَخَمْسًا وَسِتِّينَ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ غَيْرُ أَنُوشَ، فَوُلِدَ لِأَنُوشَ قَيْنَانُ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً،
وَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ عُمْرُ قَيْنَانَ سَبْعِينَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ
مَهْلَائِيلُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ لِمَهْلَائِيلَ مِنَ الْعُمُرِ
خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ يَرْدُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
ثَمَانِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَلَمَّا
كَانَ لِيَرْدَ مِائَةُ سَنَةٍ وَاثْنَتَانِ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ
خَنُوخُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ فَلَمَّا كَانَ لِخَنُوخَ خَمْسٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ مَتُّوشَلَخُ،
وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ
فَلَمَّا كَانَ لِمَتُّوشَلَخَ مِائَةٌ وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ
لَامَكُ، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ لِلَامَكَ مِنَ الْعُمُرِ
مِائَةٌ وَاثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ نُوحٌ، وَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ خَمْسَمِائَةٍ، وَخَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ لَهُ بَنُونَ
وَبَنَاتٌ، فَلَمَّا كَانَ لِنُوحَ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ وُلِدَ لَهُ بِنُونَ ;
سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ. هَذَا مَضْمُونُ مَا فِي كِتَابِهِمْ صَرِيحًا.
وَفِي كَوْنِ هَذِهِ التَّوَارِيخِ مَحْفُوظَةً فِيمَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ
نَظَرٌ، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ طَاعِنِينَ عَلَيْهِمْ
فِي ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُقْحَمَةٌ فِيهَا. ذَكَرَهَا
بَعْضُهُمْ عَلَى
سَبِيلِ الزِّيَادَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَفِيهَا غَلَطٌ كَثِيرٌ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّ حَوَّاءَ وَلَدَتْ لِآدَمَ أَرْبَعِينَ وَلَدًا فِي عِشْرِينَ
بَطْنًا. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَمَّاهُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: مِائَةً وَعِشْرِينَ بَطْنًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى،
أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَأُخْتُهُ قِلِيمَا، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ الْمُغِيثِ
وَأُخْتُهُ أَمَةُ الْمُغِيثِ، ثُمَّ انْتَشَرَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَكَثُرُوا وَامْتَدُّوا فِي الْأَرْضِ وَنَمَوْا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا
وَنِسَاءً [ النِّسَاءِ: 1 ]. الْآيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّارِيخِ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمُتْ
حَتَّى رَأَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ أَوْلَادِهِ
أَرْبَعِينَ أَلْفَ نَسَمَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ
مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا
خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ
آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا
جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [
الْأَعْرَافِ: 189 - 190 ].
الْآيَاتِ. فَهَذَا
تَنْبِيهٌ أَوَّلًا بِذِكْرِ آدَمَ، ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى الْجِنْسِ، وَلَيْسَ
الْمُرَادُ بِهَذَا ذِكْرَ آدَمَ وَحَوَّاءَ بَلْ لَمَّا جَرَى ذِكْرُ الشَّخْصِ
اسْتَطْرَدَ إِلَى الْجِنْسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ
مَكِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ: 12 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [
الْمُلْكِ: 5 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُجُومَ الشَّيَاطِينِ لَيْسَتْ هِيَ أَعْيَانَ
مَصَابِيحِ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَطْرَدَ مِنْ شَخْصِهَا إِلَى جِنْسِهَا.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ: لَمَّا، وَلَدَتْ حَوَّاءُ طَافَ بِهَا إِبْلِيسُ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ
لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ: سَمِّيهِ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ.
فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَعَاشَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ
وَأَمْرِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفَاسِيرِهِمْ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ
سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، كُلُّهُمْ
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ:
صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ.
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ فَهَذِهِ عِلَّةٌ
قَادِحَةٌ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ رُوِيَ مَوْقُوفًا
عَلَى
الصَّحَابِيِّ، وَهَذَا أَشْبَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلَقَّاهُ مِنَ
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَهَكَذَا رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا مُتَلَقًّى عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَمَنْ دُونَهُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ فَسَّرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ
هَذِهِ الْآيَةَ بِخِلَافِ هَذَا، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا
لَمَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَيْضًا فَاللَّهُ
تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ آدَمَ وَحَوَّاءَ لِيَكُونَا أَصْلَ الْبَشَرِ،
وَلِيَبُثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً فَكَيْفَ كَانَتْ حَوَّاءُ لَا
يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، كَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا.
وَالْمَظْنُونُ بَلِ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ رَفْعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَأٌ. وَالصَّوَابُ وَقْفُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ
قَدْ كَانَ آدَمُ وَحَوَّاءُ أَتْقَى لِلَّهِ مِمَّا ذُكِرَ عَنْهُمَا فِي هَذَا
فَإِنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ
شَيْءٍ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ ؟ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ
وَعِشْرُونَ أَلْفًا ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ
؟ قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، جَمٌّ غَفِيرٌ ".
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ كَانَ أَوَّلَهُمْ ؟ قَالَ: " آدَمُ
". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ؟ قَالَ: " نَعَمْ.
خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ
قُبُلًا ".
وَقَالَ
الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ،
حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ هُرْمُزَ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ،
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ الْمَلَائِكَةِ
جِبْرِيلُ، وَأَفْضَلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ وَأَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ، وَأَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَأَفْضَلُ اللَّيَالِي
لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَأَفْضَلُ النِّسَاءِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ نَافِعًا أَبَا هُرْمُزَ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ،
وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ،
وَغَيْرُهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَيْسَ أَحَدٌ فِي الْجَنَّةِ لَهُ لِحْيَةٌ إِلَّا
آدَمَ لِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ إِلَى سُرَّتِهِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكْنَى فِي
الْجَنَّةِ إِلَّا آدَمُ كُنْيَتُهُ فِي الدُّنْيَا أَبُو الْبَشَرِ، وَفِي
الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ مَرْفُوعًا. أَهْلُ الْجَنَّةِ يُدْعَوْنَ بِأَسْمَائِهِمْ إِلَّا آدَمَ
فَإِنَّهُ يُكْنَى أَبَا مُحَمَّدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا
مَرَّ بِآدَمَ
وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ
وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. قَالَ: وَإِذَا عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَنْ
يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ
شِمَالِهِ بَكَى، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا ؟. قَالَ: هَذَا آدَمُ
وَهَؤُلَاءِ نَسَمُ بَنِيهِ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الْيَمِينِ، وَهُمْ
أَهْلُ الْجَنَّةِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ أَهْلِ الشِّمَالِ، وَهُمْ
أَهْلُ النَّارِ بَكَى. هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ عَقْلُ
آدَمَ مِثْلَ عَقْلِ جَمِيعِ وَلَدِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَمَرَرْتُ بِيُوسُفَ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ. قَالُوا:
مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهَذَا مُنَاسِبٌ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَصَوَّرَهُ بِيَدِهِ
الْكَرِيمَةِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فَمَا كَانَ لِيَخْلُقَ إِلَّا
أَحْسَنَ الْأَشْيَاءِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
وَابْنِ عَمْرٍو أَيْضًا مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا
خَلَقَ الْجَنَّةَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا رَبَّنَا اجْعَلْ لَنَا هَذِهِ
فَإِنَّكَ خَلَقْتَ لِبَنِي آدَمَ الدُّنْيَا يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ،
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ
مَنْ خَلَقْتُ بِيَدِيَّ كَمَنَ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ. وَقَدْ وَرَدَ
الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ. وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ. إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَذَكَرُوا فِيهِ مَسَالِكَ كَثِيرَةً لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ وَفَاةِ
آدَمَ وَوَصِيَّتِهِ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ
وَمَعْنَى شِيثَ: هِبَةُ اللَّهِ، وَسَمَّيَاهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا رُزِقَاهُ
بَعْدَ أَنْ قُتِلَ هَابِيلُ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ
صَحِيفَةٍ وَأَرْبَعَ صُحُفٍ عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً. قَالَ: مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا حَضَرَتْ آدَمَ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ شِيثَ،
وَعَلَّمَهُ سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَّمَهُ عِبَادَاتِ تِلْكَ
السَّاعَاتِ، وَأَعْلَمَهُ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: وَيُقَالُ
إِنَّ أَنْسَابَ بَنِي آدَمَ الْيَوْمَ كُلُّهَا تَنْتَهِي إِلَى شِيثَ، وَسَائِرُ
أَوْلَادِ آدَمَ غَيْرَهُ انْقَرَضُوا وَبَادُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِمَا تُوُفِّيَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
جَاءَتْهُ الْمَلَائِكَةُ بِحَنُوطٍ، وَكَفَنٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
مِنَ الْجَنَّةِ، وَعَزُّوا فِيهِ ابْنَهُ، وَوَصِيَّهُ شِيثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَكَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
بِلَيَالِيهِنَّ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ:
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُتَيٍّ هُوَ ابْنُ ضَمْرَةَ السَّعْدِيُّ قَالَ:
رَأَيْتُ شَيْخًا بِالْمَدِينَةِ يَتَكَلَّمُ فَسَأَلْتُ عَنْهُ. فَقَالُوا: هَذَا
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. فَقَالَ: إِنَّ آدَمَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ قَالَ
لِبَنِيهِ: أَيْ بَنِيَّ إِنِّي أَشْتَهِي مِنْ ثِمَارِ
الْجَنَّةِ. قَالَ:
فَذَهَبُوا يَطْلُبُونَ لَهُ فَاسْتَقْبَلَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَمَعَهُمْ
أَكْفَانُهُ وَحَنُوطُهُ، وَمَعَهُمُ الْفُئُوسُ وَالْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ،
فَقَالُوا لَهُمْ: يَا بَنِي آدَمَ مَا تُرِيدُونَ وَمَا تَطْلُبُونَ ؟ أَوْ مَا
تُرِيدُونَ وَأَيْنَ تَطْلُبُونَ ؟ قَالُوا: أَبُونَا مَرِيضٌ، وَاشْتَهَى مِنْ
ثِمَارِ الْجَنَّةِ. فَقَالُوا لَهُمْ: ارْجِعُوا فَقَدْ قُضِيَ أَبُوكُمْ،
فَجَاءُوا، فَلَمَّا رَأَتْهُمْ حَوَّاءُ عَرَفَتْهُمْ فَلَاذَتْ بِآدَمَ،
فَقَالَ: إِلَيْكِ عَنِّي، فَإِنِّي إِنَّمَا أُتِيتُ مِنْ قِبَلِكِ فَخَلِّي
بَيْنِي وَبَيْنَ مَلَائِكَةِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَقَبَضُوهُ، وَغَسَّلُوهُ،
وَكَفَّنُوهُ، وَحَنَّطُوهُ، وَحَفَرُوا لَهُ، وَأَلْحَدُوهُ، وَصَلَّوْا
عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلُوا قَبْرَهُ فَوَضَعُوهُ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ حَثَوْا
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالُوا: يَا بَنِي آدَمَ هَذِهِ سُنَّتُكُمْ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ
إِلَيْهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مَيْمُونٍ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَبَّرَتِ
الْمَلَائِكَةُ عَلَى آدَمَ أَرْبَعًا. وَكَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى فَاطِمَةَ أَرْبَعًا،
وَكَبَّرَ عُمَرُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ
أَرْبَعًا. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَيْمُونٍ فَقَالَ:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ ; فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ دُفِنَ عِنْدَ
الْجَبَلِ الَّذِي أُهْبِطَ عَلَيْهِ فِي الْهِنْدِ. وَقِيلَ: بِجَبَلِ أَبِي
قُبَيْسٍ بِمَكَّةَ، وَيُقَالُ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ
زَمَنُ الطُّوفَانِ حَمَلَهُ هُوَ وَحَوَّاءُ فِي تَابُوتٍ فَدَفَنَهُمَا بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ حَكَى ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: رَأْسُهُ عِنْدَ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَرِجْلَاهُ
عِنْدَ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَدْ
مَاتَتْ حَوَّاءُ
بَعْدَهُ بِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ عُمُرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; فَقَدَّمْنَا فِي
الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَنَّ عُمُرَهُ
اكْتَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا لَا يُعَارِضُهُ مَا
فِي التَّوْرَاةِ مِنْ أَنَّهُ عَاشَ تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ; لِأَنَّ
قَوْلَهُمْ هَذَا مَطْعُونٌ فِيهِ مَرْدُودٌ إِذَا خَالَفَ الْحَقَّ الَّذِي
بِأَيْدِينَا مِمَّا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنِ الْمَعْصُومِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ
قَوْلَهُمْ هَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي الْحَدِيثِ
فَإِنَّ مَا فِي التَّوْرَاةِ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا مَحْمُولٌ عَلَى مُدَّةِ
مُقَامِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْإِهْبَاطِ، وَذَلِكَ تِسْعُمِائَةٍ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً شَمْسِيَّةً، وَهِيَ بِالْقَمَرِيَّةِ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ
وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً مُدَّةَ
مُقَامِهِ فِي الْجَنَّةِ قَبْلَ الْإِهْبَاطِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ،
وَغَيْرُهُ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: لَمَّا مَاتَ آدَمُ بَكَتِ الْخَلَائِقُ
عَلَيْهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فَلَمَّا مَاتَ آدَمُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ قَامَ بِأَعْبَاءِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ شِيثُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ نَبِيًّا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ
خَمْسُونَ صَحِيفَةً، فَلَمَّا حَانَتْ وَفَاتُهُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ أَنُوشَ
فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ، ثُمَّ بَعْدَهُ وَلَدُهُ قَيْنَنُ، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ ابْنُهُ مَهْلَائِيلُ، وَهُوَ الَّذِي تَزْعُمُ الْأَعَاجِمُ مِنَ
الْفُرْسِ أَنَّهُ مَلَكَ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ
قَطَعَ الْأَشْجَارَ وَبَنَى الْمَدَائِنَ
وَالْحُصُونَ الْكِبَارَ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى مَدِينَةَ بَابِلَ، وَمَدِينَةَ السُّوسِ الْأَقْصَى، وَأَنَّهُ قَهَرَ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَشَرَّدَهُمْ عَنِ الْأَرْضِ إِلَى أَطْرَافِهَا، وَشِعَابِ جِبَالِهَا، وَأَنَّهُ قَتَلَ خَلْقًا مِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ وَالْغِيلَانَ، وَكَانَ لَهُ تَاجٌ عَظِيمٌ، وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَدَامَتْ دَوْلَتُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ يَرْدُ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ إِدْرِيسَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ مَرْيَمَ: 56 - 57 ].
فَإِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَوَصَفَهُ
بِالنُّبُوَّةِ وَالصِّدِّيقِيَّةِ، وَهُوَ خَنُوخُ هَذَا، وَهُوَ فِي عَمُودِ
نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ، وَكَانَ أَوَّلَ بَنِي آدَمَ أَعْطِيَ
النُّبُوَّةَ بَعْدَ آدَمَ وَشِيثَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَذَكَرَ ابْنُ
إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ حَيَاةِ
آدَمَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ، وَثَمَانِي سِنِينَ، وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ
النَّاسِ: إِنَّهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ
السُّلَمِيِّ لَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ الْخَطِّ بِالرَّمْلِ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ نَبِيٌّ يَخُطُّ بِهِ فَمَنْ
وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ. وَيَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّسْيِيرِ
وَالْأَحْكَامِ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهُ
هَرْمَسَ الْهَرَامِسَةِ، وَيَكْذِبُونَ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، كَمَا
كَذَبُوا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ
وَالْأَوْلِيَاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. هُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ، وَقَدْ رَوَى
ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا، وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِدْرِيسَ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ؟ قَالَ كَعْبٌ: أَمَّا إِدْرِيسُ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنِّي أَرْفَعُ لَكَ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ جَمِيعِ عَمَلِ بَنِي آدَمَ لَعَلَّهُ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، فَأَحَبَّ أَنْ يَزْدَادَ عَمَلًا، فَأَتَاهُ خَلِيلٌ لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ: إِنِ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ كَذَا وَكَذَا، فَكَلِّمْ مَلَكَ الْمَوْتِ فَلْيُؤَخِّرْنِي حَتَّى أَزْدَادَ عَمَلًا فَحَمَلَهُ بَيْنَ جَنَاحَيْهِ، ثُمَّ صَعِدَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ تَلَقَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ مُنْحَدِرًا فَكَلَّمَ مَلَكَ الْمَوْتِ فِي الَّذِي كَلَّمَهُ فِيهِ إِدْرِيسُ، فَقَالَ: وَأَيْنَ إِدْرِيسُ ؟ قَالَ: هُوَ ذَا عَلَى ظَهْرِي. فَقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ: فَالْعَجَبُ بُعِثْتُ وَقِيلَ لِي: اقْبِضْ رُوحَ إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. فَجَعَلْتُ أَقُولُ: كَيْفَ أَقْبِضُ رُوحَهُ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ ! فَقَبَضَ رُوحَهُ هُنَاكَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا وَعِنْدَهُ. فَقَالَ لِذَلِكَ الْمَلَكِ: سَلْ لِي مَلَكَ الْمَوْتِ كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي ؟ فَسَأَلَهُ وَهُوَ مَعَهُ كَمْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أَنْظُرَ. فَنَظَرَ فَقَالَ: إِنَّكَ لِتَسْأَلُنِي عَنْ رَجُلٍ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا طَرْفَةُ عَيْنٍ. فَنَظَرَ الْمَلَكُ إِلَى تَحْتِ جَنَاحِهِ إِلَى إِدْرِيسَ فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِضَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَهَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. قَالَ: إِدْرِيسُ رُفِعَ وَلَمْ يَمُتْ، كَمَا رُفِعَ عِيسَى. إِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ إِلَى الْآنِ فَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ رُفِعَ حَيًّا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قُبِضَ هُنَاكَ فَلَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ،
وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا
عَلِيًّا. قَالَ: رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَمَاتَ بِهَا. وَهَكَذَا
قَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ فِي
السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا. قَالَ: إِلَى
الْجَنَّةِ. وَقَالَ قَائِلُونَ: رُفِعَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ يَرْدُ بْنُ
مَهْلَائِيلَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ إِدْرِيسَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُوحٍ بَلْ فِي
زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ إِدْرِيسُ، وَاسْتَأْنَسُوا
فِي ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فِي الْإِسْرَاءِ
أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ
الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ آدَمُ
وَإِبْرَاهِيمُ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ.
قَالُوا: فَلَوْ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَا لَهُ.
وَهَذَا لَا يَدُلُّ وَلَا بُدَّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَكُونُ
الرَّاوِي حَفِظَهُ جَيِّدًا أَوْ لَعَلَّهُ قَالَهُ لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْهَضْمِ
وَالتَّوَاضُعِ، وَلَمْ يَنْتَصِبْ لَهُ فِي مَقَامِ الْأُبُوَّةِ، كَمَا
انْتَصَبَ لِآدَمَ أَبِي الْبَشَرِ، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ خَلِيلُ
الرَّحْمَنِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةُ نُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
هُوَ نُوحُ بْنُ لَامَكَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ بْنُ
يَرْدَ بْنِ مَهْلَائِيلَ بْنِ قَيْنَنَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ أَبِي
الْبَشَرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ وَفَاةِ آدَمَ بِمِائَةِ
سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ،
وَعَلَى تَارِيخِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ يَكُونُ بَيْنَ مَوْلِدِ نُوحٍ
وَمَوْتِ آدَمَ مِائَةٌ وَسِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ بَيْنَهُمَا
عَشَرَةُ قُرُونٍ، كَمَا قَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ سَلَّامٍ، سَمِعْتُ أَبَا
سَلَّامٍ، سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَنَبِيٌّ كَانَ آدَمُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. مُكَلِّمٌ. قَالَ: فَكَمْ كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ نُوحٍ ؟ قَالَ: عَشَرَةُ قُرُونٍ. قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى
الْإِسْلَامِ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ مِائَةَ سَنَةٍ، كَمَا هُوَ
الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَبَيْنَهُمَا
أَلْفُ سَنَةٍ لَا
مَحَالَةَ، لَكِنْ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ بِاعْتِبَارِ مَا قَيَّدَ
بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْإِسْلَامِ ; إِذْ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا قُرُونٌ
أُخَرُ مُتَأَخِّرَةٌ لَمْ يَكُونُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ حَدِيثَ أَبِي
أُمَامَةَ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي عَشَرَةِ قُرُونٍ، وَزَادَنَا ابْنُ
عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ كَانُوا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ
مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ التَّوَارِيخِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ:
أَنَّ قَابِيلَ وَبَنِيهِ عَبَدُوا النَّارَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ الْجِيلَ مِنَ النَّاسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [ الْإِسْرَاءِ:
17 ]. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [
الْمُؤْمِنُونَ: 42 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا [
الْفُرْقَانِ: 38 ]. وَقَالَ: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [
مَرْيَمَ: 74 ]. وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي.
الْحَدِيثَ. فَقَدْ كَانَ الْجِيلُ قَبْلَ نُوحٍ يُعَمِّرُونَ الدُّهُورَ الطَّوِيلَةَ
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أُلُوفٌ مِنَ السِّنِينَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَنُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى
لَمَّا عُبِدَتِ الْأَصْنَامُ وَالطَّوَاغِيتُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الضَّلَالَةِ،
وَالْكُفْرِ فَبَعْثَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعِبَادِ فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ
بُعِثَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا يَقُولُ لَهُ أَهْلُ الْمَوْقِفِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَكَانَ قَوْمُهُ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو رَاسِبٍ فِيمَا ذَكَرَهُ
ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ سِنِّهِ يَوْمَ بُعِثَ. فَقِيلَ: كَانَ ابْنَ
خَمْسِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: ابْنَ
ثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ابْنَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً حَكَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَعَزَا الثَّالِثَ مِنْهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِهِ، وَمَا أَنْزَلَ
بِمَنْ كَفَرَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِالطُّوفَانِ، وَكَيْفَ أَنْجَاهُ
وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ;
فَفِي الْأَعْرَافِ، وَيُونُسَ، وَهُودٍ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُؤْمِنُونَ،
وَالشُّعَرَاءِ، وَالْعَنْكَبُوتِ، وَالصَّافَّاتِ، وَاقْتَرَبَتْ. وَأَنْزَلَ
فِيهِ سُورَةً كَامِلَةً فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا
نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ
الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ
لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ
لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 59 - 64
].
وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي
بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ
وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا
إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ
خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [ يُونُسَ: 71 73 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ
: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [ هُودٍ: 25 - 49 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 76، 77 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 23 - 30 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 105 - 122 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 14 - 15 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [ الصَّافَّاتِ: 75 - 82 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرٍ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ: 9 - 17 ]. وَقَالَ تَعَالَى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [ نُوحٍ: 1 - 28 ].
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ فِي التَّفْسِيرِ، وَسَنَذْكُرُ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا مِنْ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَمِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ، وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِيهَا مَدْحُهُ وَذَمُّ مَنْ خَالَفَهُ فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ النِّسَاءِ: 163 - 165 ].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ الْأَنْعَامِ: 83 - 87 ]. الْآيَاتِ. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْأَعْرَافِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ التَّوْبَةِ: 70 ]. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي يُونُسَ، وَهُودٍ. وَقَالَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [ إِبْرَاهِيمَ: 9 ]. وَقَالَ فِي
سُورَةِ سُبْحَانَ: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 3 ]. وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 17 ]. وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالشُّعَرَاءِ، وَالْعَنْكَبُوتِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ الْأَحْزَابِ: 7 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ ص: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ ص: 12 - 14 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [ غَافِرٍ: 5، 6 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّورَى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [ الشُّورَى: 13 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ ق: 12 - 14 ].
وَقَالَ فِي
الذَّارِيَاتِ: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
[ الذَّارِيَاتِ: 46 ]. وَقَالَ فِي النَّجْمِ: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى [ النَّجْمِ: 52 ]. وَتَقَدَّمَتْ
قِصَّتُهُ فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
الْحَدِيدِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي
ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ
مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [ الْحَدِيدِ: 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ
التَّحْرِيمِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ
وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ
فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ
ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [ التَّحْرِيمِ: 10 ].
وَأَمَّا مَضْمُونُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ قَوْمِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْكِتَابِ
وَالسَّنَةِ وَالْآثَارِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ
بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْنِ الْجِيلُ أَوِ
الْمُدَّةُ عَلَى مَا سَلَفَ، ثُمَّ بَعْدَ تِلْكَ الْقُرُونِ الصَّالِحَةِ
حَدَثَتْ أُمُورٌ اقْتَضَتْ أَنْ آلَ الْحَالُ بِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى
عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ
قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقَالُوا لَا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ
وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [ نُوحٍ: 23 ]. قَالَ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ
مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ
انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا
وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ
أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَارَتْ هَذِهِ
الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ. وَهَكَذَا
قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا
مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ:
كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ
يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا
يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَقَ لَنَا إِلَى الْعِبَادَةِ
إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ. فَصَوَّرُوهُمْ، فَلَمَّا مَاتُوا وَجَاءَ آخَرُونَ دَبَّ
إِلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، فَقَالَ: إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَبِهِمْ
يُسْقَوْنَ الْمَطَرَ فَعَبَدُوهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ: وَدٌّ، وَيَغُوثُ، وَيَعُوقُ، وَسُوَاعٌ، وَنَسْرٌ
; أَوْلَادُ آدَمَ. وَكَانَ وَدٌّ أَكْبَرَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ
مُوسَى، حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي الْمُطَهَّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ هُوَ
الْبَاقِرُ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، قَالَ: فَلَمَّا
انْفَتَلَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَمَا
إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللَّهِ. قَالَ: ذَكَرَ
وَدًّا رَجُلًا مُسْلِمًا، وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا مَاتَ
عَسْكَرُوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ، وَجَزِعُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا
رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُمْ عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، ثُمَّ
قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكَمَ أَنْ
أُصَوِّرَ لَكُمْ مِثْلَهُ فَيَكُونَ فِي نَادِيكُمْ فَتَذْكُرُونَهُ. قَالُوا:
نَعَمْ. فَصَوَّرَ لَهُمْ مِثْلَهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ وَجَعَلُوا
يَذْكُرُونَهُ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ: هَلْ لَكَمَ أَنْ
أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ تِمْثَالًا مِثْلَهُ لِيَكُونَ لَهُ
فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَمَثَّلَ لِكُلِّ أَهْلِ
بَيْتٍ تِمْثَالًا مِثْلَهُ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ. قَالَ:
وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ قَالَ:
وَتَنَاسَلُوا، وَدُرِسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهُ حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا
يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ فَكَانَ أَوَّلَ مَا
عُبِدَ غَيْرَ اللَّهِ وَدٌّ الصَّنَمُ الَّذِي سَمَّوْهُ وَدًّا.
وَمُقْتَضَى هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ كُلَّ صَنَمٍ مِنْ هَذِهِ عَبَدَهُ طَائِفَةٌ
مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَطَاوَلَتِ الْعُهُودُ
وَالْأَزْمَانُ جَعَلُوا تِلْكَ الصُّوَرَ تَمَاثِيلَ مُجَسَّدَةً لِيَكُونَ
أَثْبَتَ لَهَا، ثُمَّ عُبِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَلَهُمْ فِي عِبَادَتِهَا مَسَالِكُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا
التَّفْسِيرِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَتْ عِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ
تِلْكَ الْكَنِيسَةَ الَّتِي رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا
مَارِيَّةُ. فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا قَالَ: أُولَئِكَ
إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا،
ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَسَادَ لَمَّا انْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ، وَعَمَّ
الْبَلَاءُ بِعُبَّادِ الْأَصْنَامِ فِيهَا بَعَثَ اللَّهُ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ
نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، وَيَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، فَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ
اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ
الشَّفَاعَةِ قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو
الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ
الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ، أَلَا تَشْفَعُ لَنَا
إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا، فَيَقُولُ: رَبِّي
قَدْ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ
بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَنَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُ، نَفْسِي نَفْسِي،
اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ:
يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ
عَبْدًا شَكُورًا، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا
بَلَغَنَا، أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: رَبِّي
قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَا يَغْضَبُ
بَعْدَهُ مِثْلَهُ. نَفْسِي نَفْسِي. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ،
كَمَا أَوْرَدَهُ
الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ نُوحٍ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ دَعَاهُمْ إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ لَا يَعْبُدُوا مَعَهُ صَنَمًا، وَلَا تِمْثَالًا، وَلَا طَاغُوتًا، وَأَنْ يَعْتَرِفُوا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [ الصَّافَّاتِ: 77 ]. وَقَالَ فِيهِ، وَفِي إِبْرَاهِيمَ: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ الْحَدِيدِ: 26 ]. أَيْ: كُلُّ نَبِيٍّ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ النَّحْلِ: 36 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزُّخْرُفِ: 45 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الْأَنْبِيَاءِ: 25 ]. وَلِهَذَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [ الْأَعْرَافِ: 59 ]. وَقَالَ: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [ هُودٍ: 26 ]. وَقَالَ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 23 ]. وَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [ نوحٍ: 2 - 14 ].
الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ. فَذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الدَّعْوَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسِّرِّ وَالْإِجْهَارِ، بِالتَّرْغِيبِ تَارَةً وَالتَّرْهِيبِ أُخْرَى، وَكُلُّ هَذَا فَلَمْ يَنْجَحْ فِيهِمْ، بَلِ اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ وَالطُّغْيَانِ، وَعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَتَنَقَّصُوهُ وَتَنَقَّصُوا مَنْ آمَنَ بِهِ. وَتَوَعَّدُوهُمْ بِالرَّجْمِ وَالْإِخْرَاجِ، وَنَالُوا مِنْهُمْ، وَبَالَغُوا فِي أَمْرِهِمْ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ. أَيِ: السَّادَةُ الْكُبَرَاءُ مِنْهُمْ: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 60 ]. أَيْ: لَسْتُ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنِّي ضَالٌّ بَلْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ، رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَيِ: الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [ الْأَعْرَافِ: 62 ]. وَهَذَا شَأْنُ الرَّسُولِ أَنْ يَكُونَ بَلِيغًا، أَيْ: فَصِيحًا نَاصِحًا أَعْلَمَ النَّاسِ باللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ [ هُودٍ: 27 ]. تَعَجَّبُوا أَنْ يَكُونَ بَشَرًا رَسُولًا، وَتَنَقَّصُوا بِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَرَأَوْهُمْ أَرَاذِلَهُمْ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَقْيَادِ النَّاسِ، وَهُمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، كَمَا قَالَ هِرَقْلُ: وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ لَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُمْ: بَادِيَ الرَّأْيِ. أَيْ: بِمُجَرَّدِ مَا دَعَوْتَهُمُ اسْتَجَابُوا لَكَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَمُّوهُمْ بِهِ
هُوَ عَيْنُ مَا
يُمْدَحُونَ بِسَبَبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْحَقَّ الظَّاهِرَ لَا
يَحْتَاجُ إِلَى رَوِيَّةٍ، وَلَا فِكْرٍ، وَلَا نَظَرٍ. بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ،
وَالِانْقِيَادُ لَهُ مَتَى ظَهَرَ، وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَادِحًا لِلصَّدِّيقِ. مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى
الْإِسْلَامِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ
يَتَلَعْثَمْ. وَلِهَذَا كَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ أَيْضًا
سَرِيعَةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَلَا رَوِيَّةٍ ; لِأَنَّ أَفْضَلِيَّتَهُ عَلَى
مَنْ عَدَاهُ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنُصَّ فِيهِ عَلَى
خِلَافَتِهِ فَتَرَكَهُ. وَقَالَ: يَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا
بَكْرٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُ كَفَرَةِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ، وَلِمَنْ
آمَنَ بِهِ: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ. أَيْ: لَمْ يَظْهَرْ
لَكُمْ أَمْرٌ بَعْدَ اتِّصَافِكُمْ بِالْإِيمَانِ، وَلَا مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا:
بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ [ هُودٍ: 27 - 28 ].
وَهَذَا تَلَطُّفٌ فِي الْخِطَابِ مَعَهُمْ، وَتَرَفُّقٌ بِهِمْ فِي الدَّعْوَةِ
إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [ طه: 44 ]. وَقَالَ تَعَالَى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
[ النَّحْلِ: 125 ]. وَهَذَا مِنْهُ يَقُولُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ. أَيُّ
النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ. أَيْ فَلَمْ تَفْهَمُوهَا،
وَلَمْ تَهْتَدُوا إِلَيْهَا أَنُلْزِمُكُمُوهَا. أَيْ أَنَغْصِبُكُمْ بِهَا،
وَنَجْبُرُكُمْ عَلَيْهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.
أَيْ: لَيْسَ لِي فِيكُمْ حِيلَةٌ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ. أَيْ: لَسْتُ أُرِيدُ مِنْكُمْ أُجْرَةً عَلَى إِبْلَاغِي إِيَّاكُمْ مَا يَنْفَعُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ، وَأُخَرَاكُمْ إِنْ أَطْلُبْ ذَلِكَ إِلَّا مِنَ اللَّهِ الَّذِي ثَوَابُهُ خَيْرٌ لِي، وَأَبْقَى مِمَّا تُعْطُونَنِي أَنْتُمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ [ هُودٍ: 29 ] كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُبْعِدَ هَؤُلَاءِ عَنْهُ، وَوَعَدُوهُ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِهِ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ فَأَخَافُ إِنْ طَرَدَتْهُمْ أَنْ يَشْكُونِي إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا قَالَ: وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [ هُودٍ: 30 ]. وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْرُدَ عَنْهُ ضُعَفَاءَ الْمُؤْمِنِينَ ; كَعَمَّارٍ، وَصُهَيْبٍ، وَبِلَالٍ، وَخَبَّابٍ، وَأَشْبَاهِهِمْ نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ، وَالْكَهْفِ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ. أَيْ بَلْ أَنَا عَبْدٌ رَسُولٌ لَا أَعْلَمُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَا أَعْلَمَنِي بِهِ. وَلَا أَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَقْدَرَنِي عَلَيْهِ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا، وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ. يَعْنِي مِنْ أَتْبَاعِهِ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ. أَيْ لَا أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا خَيْرَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ، كَمَا قَالُوا فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ الشُّعَرَاءِ: 111 ].
وَقَدْ تَطَاوَلَ الزَّمَانُ، وَالْمُجَادَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 14 ]. أَيْ: وَمَعَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ فَمَا آمَنَ بِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَكَانَ كُلَّمَا انْقَرَضَ جِيلٌ وَصَّوْا مَنْ بَعْدَهُمْ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهِ. وَمُحَارَبَتِهِ، وَمُخَالَفَتِهِ، وَكَانَ الْوَالِدُ إِذَا بَلَغَ وَلَدُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ كَلَامَهُ وَصَّاهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَنْ لَا يُؤْمِنَ بِنُوحٍ أَبَدًا مَا عَاشَ وَدَائِمًا مَا بَقِيَ، وَكَانَتْ سَجَايَاهُمْ تَأْبَى الْإِيمَانَ وَاتِّبَاعَ الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نُوحٍ: 27 ]. وَلِهَذَا قَالُوا: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [ هُودٍ: 32 - 33 ]. أَيْ: إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَكْتَرِثُهُ أَمْرٌ بَلْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ هُودٍ: 34 ]. أَيْ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ هِدَايَتَهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ الْغِوَايَةَ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالْحُجَّةُ الدَّامِغَةُ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [ هُودٍ: 36 ]. وَهَذِهِ تَعْزِيَةٌ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ. أَيْ: لَا يَسُوأَنَّكَ مَا جَرَى فَإِنَّ النَّصْرَ قَرِيبٌ، وَالنَّبَأَ عَجِيبٌ
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا يَئِسَ مِنْ صَلَاحِهِمْ، وَفَلَاحِهِمْ، وَرَأَى أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ، وَتَوَصَّلُوا إِلَى أَذِيَّتِهِ، وَمُخَالَفَتِهِ، وَتَكْذِيبِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ مِنْ فِعَالٍ، وَمَقَالٍ دَعَا عَلَيْهِمْ دَعْوَةَ غَضَبٍ لِلَّهِ فَلَبَّى اللَّهُ دَعْوَتَهُ وَأَجَابَ طِلْبَتَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [ الصَّافَّاتِ: 75 - 76 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [ الْأَنْبِيَاءِ: 76 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا ونَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 117 - 118 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ الْقَمَرِ: 10 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [ الْمُؤْمِنُونَ: 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [ نُوحٍ: 25 - 27 ]. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خَطَايَاهُمْ مِنْ كُفْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، وَدَعْوَةِ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ، وَهِيَ السَّفِينَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لَهَا نَظِيرٌ قَبْلَهَا، وَلَا يَكُونُ بَعْدَهَا مِثْلَهَا، وَتَقَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ أَمْرُهُ، وَحَلَّ بِهِمْ بِأُسُهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ أَنَّهُ لَا يُعَاوِدُهُ فِيهِمْ وَلَا يُرَاجِعُهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ قَدْ تُدْرِكُهُ رِقَّةٌ عَلَى قَوْمِهِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ.
أَيْ
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ اسْتِبْعَادًا لِوُقُوعِ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ قَالَ إِنْ
تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ. أَيْ: نَحْنُ
الَّذِينَ نَسْخَرُ مِنْكُمْ، وَنَتَعَجَّبُ مِنْكُمْ فِي اسْتِمْرَارِكُمْ عَلَى
كُفْرِكُمْ، وَعِنَادِكُمُ الَّذِي يَقْتَضِي وُقُوعَ الْعَذَابِ بِكُمْ
وَحُلُولَهُ عَلَيْكُمْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ
وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ. وَقَدْ كَانَتْ سَجَايَاهُمُ الْكُفْرَ
الْغَلِيظَ، وَالْعِنَادَ الْبَالِغَ فِي الدُّنْيَا. وَهَكَذَا فِي الْآخِرَةِ
فَإِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ رَسُولٌ،
كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَجِيءُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُمَّتُهُ فَيَقُولُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ بَلَّغْتَ. فَيَقُولُ: نَعَمْ. أَيْ رَبِّ. فَيَقُولُ
لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ. فَيَقُولُونَ: لَا مَا جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ.
فَيَقُولُ لِنُوحٍ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ. فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ.
فَتَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ. وَهُوَ قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ الْبَقَرَةِ: 143 ].
وَالْوَسَطُ: الْعَدْلُ فَهَذِهِ الْأُمَّةُ تَشْهَدُ عَلَى شَهَادَةِ نَبِيِّهَا
الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ نُوحًا بِالْحَقِّ،
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَأَمَرَهُ بِهِ. وَأَنَّهُ بَلَّغَهُ إِلَى
أُمَّتِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَتَمِّهَا، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِمَّا
يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِهِ. وَلَا شَيْئًا مِمَّا
قَدْ يَضُرُّهُمْ إِلَّا وَقَدْ نَهَاهُمْ عَنْهُ وَحَذَّرَهُمْ مِنْهُ. وَهَكَذَا
شَأْنُ جَمِيعِ الرُّسُلِ حَتَّى إِنَّهُ حَذَّرَ قَوْمَهُ الْمَسِيحَ
الدَّجَّالَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَقَّعُ
خُرُوجَهُ فِي
زَمَانِهِمْ حَذَرًا عَلَيْهِمْ وَشَفَقَةً وَرَحْمَةً بِهِمْ، كَمَا قَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا
هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنِّي لَأُنْذِرِكُمُوهُ،
وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمُهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ
قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ
لِقَوْمِهِ ; تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ شَيْبَانَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا
حَدَّثَ بِهِ نَبِيٌّ قَوْمَهُ ؟ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ
بِمِثَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالَّتِي يَقُولُ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ
النَّارُ، وَإِنِّي أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ. لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ السَّلَفِ: لَمَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ
أَمْرَهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا لِيَعْمَلَ مِنْهُ السَّفِينَةَ فَغَرَسَهُ،
وَانْتَظَرَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ نَجَرَهُ فِي مِائَةٍ أُخْرَى. وَقِيلَ: فِي
أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ
الثَّوْرِيِّ: وَكَانَ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ. وَقِيلَ: مِنَ الصَّنَوْبَرِ. وَهُوَ
نَصُّ التَّوْرَاةِ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَ طُولَهَا
ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَعَرْضَهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَأَنْ يُطْلَى ظَاهِرُهَا
وَبَاطِنُهَا بِالْقَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا جُؤْجُؤًا أَزْوَرَ يَشُقُّ
الْمَاءَ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: كَانَ
طُولُهَا ثَلَثَمِائَةِ ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا. وَهَذَا الَّذِي
فِي التَّوْرَاةِ عَلَى مَا رَأَيْتُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: سِتُّمِائَةٍ فِي عَرْضِ ثَلَثِمِائَةٍ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْفٌ وَمِائَتَا ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ سِتِّمِائَةِ ذِرَاعٍ.
وَقِيلَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَيْ ذِرَاعٍ، وَعَرْضُهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ، قَالُوا
كُلُّهُمْ: وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ ثَلَاثَ
طَبَقَاتٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَشْرُ أَذْرُعٍ ; فَالسُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ،
وَالْوُسْطَى لِلنَّاسِ، وَالْعُلْيَا لِلطُّيُورِ، وَكَانَ بَابُهَا فِي
عَرْضِهَا، وَلَهَا غِطَاءٌ مِنْ فَوْقِهَا مُطْبَقٌ عَلَيْهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنَا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [ الْمُؤْمِنُونَ: 26
]. أَيْ ; بِأَمْرِنَا لَكَ، وَبِمَرْأَى مِنَّا لِصَنْعَتِكَ لَهَا،
وَمُشَاهَدَتِنَا لِذَلِكَ لِنُرْشِدَكَ إِلَى الصَّوَابِ فِي صَنْعَتِهَا فَإِذَا
جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 27
]. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ الْعَظِيمِ الْعَالِي أَنَّهُ إِذَا جَاءَ
أَمْرُهُ، وَحَلَّ بَأْسُهُ أَنْ يَحْمِلَ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ مَا فِيهِ رُوحٌ مِنَ
الْمَأْكُولَاتِ، وَغَيْرِهَا لِبَقَاءِ نَسْلِهَا، وَأَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ
أَهْلَهُ أَيْ: أَهْلَ بَيْتِهِ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ;
أَيْ إِلَّا مَنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ قَدْ نَفَذَتْ فِيهِ الدَّعْوَةُ
الَّتِي لَا تُرَدُّ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ حُلُولُ الْبَأْسِ الَّذِي لَا يُرَدُّ،
وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يُرَاجِعَهُ فِيهِمْ إِذَا حَلَّ بِهِمْ مَا يُعَايِنُهُ مِنَ
الْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي قَدْ حَتَّمَهُ عَلَيْهِمُ الْفَعَّالُ لِمَا
يُرِيدُ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ قَبْلُ.
وَالْمُرَادُ
بِالتَّنُّورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَجْهُ الْأَرْضِ أَيْ ; نَبَعَتِ الْأَرْضُ
مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا حَتَّى نَبَعَتِ التَّنَانِيرُ الَّتِي هِيَ مَحَالُّ
النَّارِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: التَّنُّورُ عَيْنٌ فِي الْهِنْدِ. وَعَنِ
الشَّعْبِيِّ: بِالْكُوفَةِ. وَعَنْ قَتَادَةَ: بِالْجَزِيرَةِ. وَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْمُرَادُ بِالتَّنُّورِ فَلَقُ الصُّبْحِ. وَتَنْوِيرُ
الْفَجْرِ أَيْ: إِشْرَاقُهُ وَضِيَاؤُهُ أَيْ: عِنْدَ ذَلِكَ فَاحْمِلْ فِيهَا
مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا
احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. هَذَا أَمْرٌ
ثَانٍ عِنْدَ حُلُولِ النِّقْمَةِ بِهِمْ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَفِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ
يَحْمِلَ مِنْ كُلِّ مَا يُؤْكَلُ سَبْعَةَ أَزْوَاجٍ، وَمِمَّا لَا يُؤَكَلُ
زَوْجَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَهَذَا مُغَايِرٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى
فِي كِتَابِنَا الْحَقِّ: اثْنَيْنِ. إِنْ جَعْلَنَا ذَلِكَ مَفْعُولًا بِهِ.
وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَوْكِيدًا لِزَوْجَيْنِ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ
مَحْذُوفٌ فَلَا تَنَافِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ
مِنَ الطُّيُورِ الدُّرَّةُ، وَآخِرُ مَا دَخَلَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الْحِمَارُ،
وَدَخَلَ إِبْلِيسُ مُتَعَلِّقًا بِذَنَبِ الْحِمَارِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ،
حَدَّثَنِي
اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ
أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا
حَمَلَ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ قَالَ
أَصْحَابُهُ: وَكَيْفَ نُطَمْئِنُ أَوْ كَيْفَ تَطْمَئِنُّ الْمَوَاشِي وَمَعَنَا
الْأَسَدُ ؟ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحُمَّى فَكَانَتْ أَوَّلَ حُمَّى
نَزَلَتْ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ شَكَوُا الْفَأْرَةَ فَقَالُوا: الْفُوَيْسِقَةُ
تُفْسِدُ عَلَيْنَا طَعَامَنَا وَمَتَاعَنَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَسَدِ
فَعَطَسَ فَخَرَجَتِ الْهِرَّةُ مِنْهُ فَتَخَبَّأَتِ الْفَأْرَةُ مِنْهَا. هَذَا
مُرْسَلٌ. وَقَوْلُهُ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ. أَيْ
مَنِ اسْتَجَبْتُ فِيهِمُ الدَّعْوَةَ النَّافِذَةَ مِمَّنْ كَفَرَ فَكَانَ
مِنْهُمِ ابْنُهُ يَامٌ الَّذِي غَرِقَ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ: وَمَنْ آمَنَ،
أَيْ وَاحْمِلْ فِيهَا مَنْ آمَنَ بِكَ مِنْ أُمَّتِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. هَذَا مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَالْمُقَامِ
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمُ الْأَكِيدَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا بِضُرُوبِ
الْمَقَالِ، وَفُنُونِ التَّلَطُّفَاتِ، وَالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ تَارَةً،
وَالتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ أُخْرَى.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عِدَّةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ ; فَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ كَانُوا ثَمَانِينَ نَفْسًا مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ. وَعَنْ كَعْبِ
الْأَحْبَارِ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نَفْسًا. وَقِيلَ: كَانُوا عَشَرَةً.
وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانُوا نُوحًا وَبَنِيهِ الثَّلَاثَةَ، وَكَنَائِنَهُ
الْأَرْبَعَ بِامْرَأَةِ يَامٍ الَّذِي انْخَزَلَ وَانْعَزَلَ وَسَلَكَ غَيْرَ
طَرِيقِ النَّجَاةِ فَمَا عَدَلَ إِذْ عَدَلَ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ
مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ بَلْ هِيَ نَصٌّ فِي أَنَّهُ قَدْ رَكِبَ مَعَهُ
مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ طَائِفَةٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. كَمَا قَالَ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: كَانُوا سَبْعَةً. وَأَمَّا امْرَأَةُ نُوحٍ، وَهِيَ أَمُّ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ ; وَهُمْ حَامٌ، وِسَامٌ، وَيَافِثُ، ويامٌ، وَتُسَمِّيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كَنْعَانَ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ غَرِقَ، وَعَابِرٌ. وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الطُّوفَانِ. قِيلَ: إِنَّهَا غَرِقَتْ مَعَ مَنْ غَرِقَ، وَكَانَتْ مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ لِكُفْرِهَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي السَّفِينَةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَفَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهَا أُنْظِرَتْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ نُوحٍ: 26 ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 28 - 29 ]. أَمَرَهُ أَنَّ يَحْمَدَ رَبَّهُ عَلَى مَا سَخَّرَ لَهُ مِنْ هَذِهِ السَّفِينَةِ فَنَجَّاهُ بِهَا، وَفَتَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَأَقَرَّ عَيْنَهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ [ الزُّخْرُفِ: 12 - 14 ]. وَهَكَذَا يُؤْمَرُ بِالدُّعَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْأُمُورِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَأَنْ تَكُونَ عَاقِبَتُهَا مَحْمُودَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 80 ].
وَقَدِ امْتَثَلَ
نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ
اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. أَيْ عَلَى
اسْمِ اللَّهِ ابْتِدَاءُ سَيْرِهَا وَانْتِهَاؤُهُ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ
رَحِيمٌ. أَيْ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ مَعَ كَوْنِهِ غَفُورًا رَحِيمًا لَا يُرَدُّ
بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، كَمَا أَحَلَّ بِأَهْلِ الْأَرْضِ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ. وَعَبَدُوا غَيْرَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهِيَ
تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَرْسَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا لَمْ تَعْهَدْهُ الْأَرْضُ قَبْلَهُ، وَلَا
تُمْطِرْهُ بَعْدَهُ كَانَ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ، وَأَمَرَ الْأَرْضَ فَنَبَعَتْ
مِنْ جَمِيعِ فِجَاجِهَا وَسَائِرِ أَرْجَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَدَعَا
رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ
مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ
قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [ الْقَمَرِ: 10 - 13
]. وَالدُّسُرُ: الْمَسَامِيرُ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أَيْ بِحِفْظِنَا
وَكَلَاءَتِنَا وَحِرَاسَتِنَا وَمُشَاهَدَتِنَا لَهَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ
كُفِرَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ فِي ثَالِثَ
عَشَرَ شَهْرِ آبٍ فِي حَمَارَةِ الْقَيْظِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَمَّا
طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ. أَيِ السَّفِينَةِ. لِنَجْعَلَهَا
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ: ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى أَعْلَى جَبَلٍ بِالْأَرْضِ خَمْسَةَ
عَشَرَ ذِرَاعًا. وَهُوَ الَّذِي عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: ثَمَانِينَ
ذِرَاعًا. وَعَمَّ جَمِيعَ الْأَرْضِ ; طُولَهَا وَالْعَرْضَ، سَهْلَهَا
وَحَزْنَهَا، وَجِبَالَهَا، وَقِفَارَهَا وَرِمَالَهَا، وَلَمْ
يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِمَّنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ عَيْنٌ تَطْرِفُ، وَلَا صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ. قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ قَدْ مَلَئُوا السَّهْلَ وَالْجَبَلَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: لَمْ تَكُنْ بُقْعَةٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَلَهَا مَالِكٌ وَحَائِزٌ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [ هُودٍ: 42 - 43 ]. وَهَذَا الِابْنُ هُوَ يَامٌ أَخُو سَامٍ وَحَامٍ وَيَافِثَ. وَقِيلَ: اسْمُهُ كَنْعَانُ. وَكَانَ كَافِرًا عَامِلًا غَيْرَ صَالِحٍ، مُخَالِفًا أَبَاهُ فِي دِينِهِ وَمَذْهَبِهِ، فَهَلَكَ مَعَ مَنْ هَلَكَ. هَذَا وَقَدْ نَجَا مَعَ أَبِيهِ الْأَجَانِبُ فِي النَّسَبِ لَمَّا كَانُوا مُوَافِقِينَ فِي الدِّينِ وَالْمَذْهَبِ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. أَيْ ; لَمَّا فَرَغَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ مِمَّنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ أَنْ تَبْلَعَ مَاءَهَا، وَأَمَرَ السَّمَاءَ أَنْ تُقْلِعَ. أَيْ تُمْسِكُ عَنِ الْمَطَرِ وَغِيضَ الْمَاءُ. أَيْ نَقَصَ عَمَّا كَانَ وَقُضِيَ الْأَمْرُ، أَيْ وَقَعَ بِهِمُ الَّذِي كَانَ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَقَدَرِهِ، مِنْ إِحْلَالِهِ بِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. أَيْ ; نُودِيَ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الْقُدْرَةِ بُعْدًا لَهُمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 64 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [ يُونُسَ: 73 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا
قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 77 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ
أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [
الشُّعَرَاءِ: 119 - 122 ] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ
السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 14 - 15 ].
وَقَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ [ الصَّافَّاتِ: 82 ] وَقَالَ:
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرٍ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [
الْقَمَرِ: 15 - 17 ]. وَقَالَ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا
كَفَّارًا [ نُوحٍ: 25 - 27 ]. وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهُ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ دَعْوَتَهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامَانِ: أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيِّ،
عَنْ فَائِدٍ مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ
بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ
أَخْبَرَتْهُ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَلَوْ رَحِمَ
اللَّهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ أَحَدًا لِرَحِمِ أُمَّ الصَّبِيِّ. قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَكَثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ يَعْنِي إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا، وَغَرَسَ مِائَةَ سَنَةٍ
الشَّجَرَ فَعَظُمَتْ، وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ
جَعَلَهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ:
تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ كَيْفَ تَجْرِي. قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ.
فَلَمَّا فَرَغَ وَنَبَعَ الْمَاءُ وَصَارَ فِي السِّكَكِ. خَشِيَتْ أُمُّ
الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا خَرَجَتْ بِهِ إِلَى
الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلْثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ، خَرَجَتْ بِهِ
حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهَا
رَفَعَتْهُ بِيَدَيْهَا، فَغَرِقَا، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا
لِرَحِمِ أُمَّ الصَّبِيِّ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ
الْأَحْبَارِ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ شَبِيهٌ لِهَذِهِ الْقِصَّةِ،
وَأَحْرَى بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا مُتَلَقًّى عَنْ مِثْلِ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبْقِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، فَكَيْفَ
يَزْعُمُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ عُوَجَ بْنَ عُنُقَ، وَيُقَالُ: ابْنَ
عِنَاقَ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلِ نُوحٍ إِلَى زَمَانِ مُوسَى وَيَقُولُونَ:
كَانَ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا جَبَّارًا عَنِيدًا، وَيَقُولُونَ: كَانَ لِغَيْرِ
رِشْدَةٍ بَلْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ عُنُقُ بِنْتُ آدَمَ مِنْ زِنًا، وَأَنَّهُ
كَانَ يَأْخُذُ مِنْ طُولِهِ السَّمَكَ مِنْ قَرَارِ الْبِحَارِ، وَيَشْوِيهِ فِي
عَيْنِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِنُوحٍ، وَهُوَ فِي السَّفِينَةِ: مَا
هَذِهِ الْقُصَيْعَةُ الَّتِي لَكَ، وَيَسْتَهْزِئُ بِهِ. وَيَذْكُرُونَ أَنَّهُ
كَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ
وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْهَذَيَانَاتِ
الَّتِي لَوْلَا أَنَّهَا مُسَطَّرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفَاسِيرِ،
وَغَيْرِهَا مِنَ التَّوَارِيخِ، وَأَيَّامِ النَّاسِ لَمَا تَعَرَّضْنَا
لِحِكَايَتِهَا لِسَقَاطَتِهَا، وَرَكَاكَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهَا مُخَالِفَةٌ
لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ.
أَمَّا
الْمَعْقُولُ فَكَيْفَ يَسُوغُ فِيهِ أَنْ يُهْلِكَ اللَّهُ وَلَدَ نُوحٍ
لِكُفْرِهِ، وَأَبُوهُ نَبِيُّ الْأُمَّةِ وَزَعِيمُ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلَا
يُهْلِكُ عُوجَ بْنَ عُنُقَ، وَيُقَالُ: عَنَاقُ. وَهُوَ أَظْلَمُ وَأَطْغَى عَلَى
مَا ذَكَرُوا، وَكَيْفَ لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَلَا أُمَّ
الصَّبِيِّ، وَلَا الصَّبِيَّ، وَيَتْرُكُ هَذَا الدَّعِيَّ الْجَبَّارَ
الْعَنِيدَ الْفَاجِرَ الشَّدِيدَ الْكَافِرَ الشَّيْطَانَ الْمَرِيدَ عَلَى مَا
ذَكَرُوا ؟ !
وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ. وَقَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا ثُمَّ هَذَا الطُّولُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ
الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ. فَهَذَا نَصُّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ
الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.
أَنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ أَيْ ; لَمْ يَزَلِ
النَّاسُ فِي نُقْصَانٍ فِي طُولِهِمْ مِنْ آدَمَ إِلَى يَوْمِ إِخْبَارِهِ
بِذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مَنْ كَانَ
أَطْوَلَ مِنْهُ فَكَيْفَ يُتْرَكُ هَذَا وَيُذْهَلُ عَنْهُ، وَيُصَارُ إِلَى
أَقْوَالِ الْكَذَبَةِ الْكَفَرَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا
كُتَبَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةَ وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا عَلَى
غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُمْ يَسْتَقِلُّونَ بِنَقْلِهِ أَوْ
يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ، وَهُمُ الْكَذَبَةُ الْخَوَنَةُ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ
اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَا أَظُنُّ أَنَّ هَذَا
الْخَبَرَ عَنْ عُوجَ بْنِ عَنَاقَ إِلَّا اخْتِلَاقًا مِنْ بَعْضِ
زَنَادِقَتِهِمْ وَفُجَّارِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا أَعْدَاءَ
الْأَنْبِيَاءِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُنَاشَدَةَ نُوحٍ رَبَّهُ فِي وَلَدِهِ،
وَسُؤَالَهُ لَهُ عَنْ غَرَقِهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِكْشَافِ،
وَوَجْهُ السُّؤَالِ أَنَّكَ وَعَدْتَنِي بِنَجَاةِ أَهْلِي مَعِي وَهُوَ مِنْهُمْ
وَقَدْ غَرِقَ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أَيِ الَّذِينَ وَعَدْتُ
بِنَجَاتِهِمْ أَيْ أَمَا قُلْنَا لَكَ: وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ مِنْهُمْ. فَكَانَ هَذَا مِمَّنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ
بِأَنْ سَيَغْرَقُ بِكُفْرِهِ، وَلِهَذَا سَاقَتْهُ الْأَقْدَارُ إِلَى أَنِ
انْحَازَ عَنْ حَوْزَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَغَرِقَ مَعَ حِزْبِهِ أَهْلِ
الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ
بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ
سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ. هَذَا أَمْرٌ لِنُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَضَبَ الْمَاءُ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَأَمْكَنَ
السَّعْيُ فِيهَا، وَالِاسْتِقْرَارُ عَلَيْهَا، أَنْ يَهْبِطَ مِنَ السَّفِينَةِ
الَّتِي كَانَتْ قَدِ اسْتَقَرَّتْ بَعْدَ سَيْرِهَا الْعَظِيمِ عَلَى ظَهْرِ
جَبَلِ الْجُودِيِّ وَهُوَ جَبَلٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ مَشْهُورٌ، وَقَدْ
قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ عِنْدَ خَلْقِ الْجِبَالِ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ. أَيِ
اهْبِطْ سَالِمًا مُبَارَكًا عَلَيْكَ، وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ سَيُولَدُ بَعْدُ.
أَيْ مِنْ أَوْلَادِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ مِمَّنْ كَانَ
مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ نَسْلًا، وَلَا عَقِبًا سِوَى نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ. فَكُلُّ
مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ مِنْ سَائِرِ أَجْنَاسِ بَنِي آدَمَ
يَنْتَسِبُونَ إِلَى أَوْلَادِ نُوحٍ الثَّلَاثَةِ ; وَهُمْ سَامٌ، وَحَامٌ،
وَيَافِثُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ،
وَيَافِثُ أَبُو الرُّومِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ
الْعَقَدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَهُ. قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالرُّومِ هُنَا الرُّومُ الْأُوَلُ، وَهُمُ
الْيُونَانُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى رُومِيِّ بْنِ لِيطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ
يَافِثَ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
أَنَّهُ قَالَ: وَلَدُ نُوحٍ ثَلَاثَةٌ: سَامٌ، وَيَافِثُ، وَحَامٌ. وَوَلَدَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ثَلَاثَةً ; فَوَلَدَ سَامٌ الْعَرَبَ وَفَارِسَ
وَالرُّومَ. وَوَلَدَ يَافِثُ التُّرْكَ وَالسَّقَالِبَةَ وَيَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ. وَوَلَدَ حَامٌ الْقِبْطَ وَالسُّودَانَ وَالْبَرْبَرَ. قُلْتُ:
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَبَّادٍ أَبُو
الْعَبَّاسِ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ
الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وُلِدَ لِنُوحٍ ; سَامٌ
وَحَامٌ،
وَيَافِثُ. فَوُلِدَ لِسَامٍ الْعَرَبُ وَفَارِسُ وَالرُّومُ، وَالْخَيْرُ
فِيهِمْ. وَوُلِدَ لِيَافِثَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَالتُّرْكُ وَالصَّقَالِبَةُ،
وَلَا خَيْرَ فِيهِمْ. وَوُلِدَ لِحَامٍ الْقِبْطُ وَالْبَرْبَرُ وَالسُّودَانُ.
ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ
حَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَمَلُوا حَدِيثَهُ.
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ مُرْسَلًا وَلَمْ يُسْنِدْهُ،
وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ. قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو
عُمَرَ هُوَ الْمَحْفُوظُ، عَنْ سَعِيدٍ قَوْلُهُ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ وَهْبِ
بْنِ مُنَبِّهٍ مِثْلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ أَبُو
فَرْوَةَ الرَّهَاوِيُّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُ هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةُ الْأَوْلَادُ إِلَّا بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَإِنَّمَا وُلِدَ لَهُ
قَبْلَ السَّفِينَةِ كَنْعَانُ الَّذِي غَرِقَ، وَعَابِرُ مَاتَ قَبْلَ
الطُّوفَانِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ كَانُوا مَعَهُ فِي
السَّفِينَةِ هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأُمُّهُمْ، وَهُوَ نَصُّ التَّوْرَاةِ. وَقَدْ
ذُكِرَ أَنَّ حَامًا وَاقَعَ امْرَأَتَهُ فِي السَّفِينَةِ، فَدَعَا عَلَيْهِ
نُوحٌ أَنْ تُشَوَّهَ خِلْقَةُ نُطْفَتِهِ فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ أَسْوَدُ وَهُوَ
كَنْعَانُ بْنُ حَامٍ جَدُّ السُّودَانِ. وَقِيلَ: بَلْ رَأَى أَبَاهُ نَائِمًا،
وَقَدْ بَدَتْ عَوْرَتُهُ فَلَمْ يَسْتُرْهَا وَسَتَرَهَا أَخَوَاهُ فَلِهَذَا
دَعَا عَلَيْهِ أَنْ تُغَيَّرَ نُطْفَتُهُ، وَأَنْ يَكُونَ
أَوْلَادُهُ
عَبِيدًا لِإِخْوَتِهِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: لَوْ بَعَثْتَ لَنَا
رَجُلًا شَهِدَ السَّفِينَةَ فَحَدَّثَنَا عَنْهَا ؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى
أَتَى إِلَى كَثِيبٍ مِنْ تُرَابٍ، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ
بِكَفِّهِ، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا كَعْبُ حَامَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ: وَضَرَبَ الْكَثِيبَ
بِعَصَاهُ، وَقَالَ: قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْفُضُ
التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ قَدْ شَابَ. فَقَالَ لَهُ: عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
هَكَذَا هَلَكْتَ. قَالَ: لَا. وَلَكِنِّي مِتُّ وَأَنَا شَابٌّ، وَلَكِنِّي
ظَنَنْتُ أَنَّهَا السَّاعَةُ فَمِنْ ثَمَّ شِبْتُ. قَالَ: حَدِّثْنَا عَنْ
سَفِينَةِ نُوحٍ. قَالَ: كَانَ طُولُهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ وَمِائَتَيْ ذِرَاعٍ،
وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَكَانَتْ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ ; فَطَبَقَةٌ
فِيهَا الدَّوَابُّ وَالْوَحْشُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا الْإِنْسُ، وَطَبَقَةٌ فِيهَا
الطَّيْرُ، فَلَمَّا كَثُرَ أَرْوَاثُ الدَّوَابِّ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اغْمِزْ ذَنَبَ الْفِيلِ، فَغَمَزَهُ
فَوَقَعَ مِنْهُ خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ فَأَقْبَلَا عَلَى الرَّوْثِ، وَلَمَّا
وَقَعَ الْفَأْرُ يَخْرِزُ السَّفِينَةَ بِقَرْضِهِ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الْأَسَدِ،
فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ سِنَّوْرٌ وَسِنَّوْرَةٌ فَأَقْبَلَا عَلَى الْفَأْرِ.
فَقَالَ لَهُ عِيسَى: كَيْفَ عَلِمَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الْبِلَادَ
قَدْ غَرِقَتْ.
قَالَ: بَعَثَ الْغُرَابَ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ فَوَجَدَ جِيفَةً فَوَقَعَ
عَلَيْهَا، فَدَعَا عَلَيْهِ بِالْخَوْفِ فَلِذَلِكَ لَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ.
قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ الْحَمَامَةَ فَجَاءَتْ بِوَرَقِ زَيْتُونٍ بِمِنْقَارِهَا
وَطِينٍ بِرِجْلَيْهَا، فَعَلِمَ أَنَّ الْبِلَادَ قَدْ غَرِقَتْ فَطَوَّقَهَا
الْخُضْرَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا، وَدَعَا لَهَا أَنْ تَكُونَ فِي أُنْسٍ
وَأَمَانٍ فَمِنْ ثَمَّ تَأْلَفُ الْبُيُوتَ. قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَلَا نَنْطَلِقُ بِهِ إِلَى أَهْلِينَا فَيَجْلِسُ مَعَنَا
وَيُحَدِّثُنَا ؟ قَالَ: كَيْفَ يَتْبَعُكُمْ مَنْ لَا رِزْقَ لَهُ ؟ قَالَ:
فَقَالَ لَهُ: عُدْ بِإِذْنِ اللَّهِ فَعَادَ تُرَابًا، وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ
جِدًّا.
وَرَوَى عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
كَانَ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ ثَمَانُونَ رَجُلًا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ،
وَأَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ مِائَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَنَّ
اللَّهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ وَجَّهَهَا إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ فَبَعَثَ
نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْغُرَابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ
فَوَقَعَ عَلَى الْجِيَفِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ فَأَتَتْهُ
بِوَرَقِ الزَّيْتُونِ، وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ، فَعَرَفَ نُوحٌ أَنَّ
الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَهَبَطَ إِلَى أَسْفَلِ الْجُودِيِّ فَابْتَنَى قَرْيَةً،
وَسَمَّاهَا ثَمَانِينَ، فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدْ تَبَلْبَلَتْ
أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى ثَمَانِينَ لُغَةً ; إِحْدَاهَا لُغَةُ الْعَرَبِيِّ،
فَكَانَ بَعْضُهُمْ لَا يَفْقَهُ كَلَامَ بَعْضٍ، فَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يُعَبِّرُ عَنْهُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: رَكِبُوا فِي السَّفِينَةِ فِي الْيَوْمِ
الْعَاشِرِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ فَسَارُوا مِائَةً وَخَمْسِينَ
يَوْمًا،
وَاسْتَقَرَّتْ بِهِمْ عَلَى الْجُودِيِّ شَهْرًا، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ مِنَ
السَّفِينَةِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ
جَرِيرٍ خَبَرًا مَرْفُوعًا يُوَافِقُ هَذَا، وَأَنَّهُمْ صَامُوا يَوْمَهُمْ
ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ شِبْلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُنَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَقَدْ صَامُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ
فَقَالَ: " مَا هَذَا مِنَ الصَّوْمِ ؟ " فَقَالُوا: هَذَا الْيَوْمُ
الَّذِي نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْغَرَقِ، وَغَرِقَ
فِيهِ فِرْعَوْنُ، وَهَذَا يَوْمٌ اسْتَوَتْ فِيهِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ
فَصَامَ نُوحٌ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَا أَحَقُّ
بِمُوسَى وَأَحَقُّ بِصَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ ". وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ:
" مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ
أَصَابَ مِنْ غَدَاءِ أَهْلِهِ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ". وَهَذَا
الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَالْمُسْتَغْرَبُ
ذِكْرُ نُوحٍ أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ: أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْ
فُضُولِ أَزْوَادِهِمْ، وَمِنْ حُبُوبٍ كَانَتْ مَعَهُمْ قَدِ اسْتَصْحَبُوهَا،
وَطَحَنُوا الْحُبُوبَ يَوْمَئِذٍ، وَاكْتَحَلُوا
بِالْإِثْمِدِ
لِتَقْوِيَةِ أَبْصَارِهِمْ لَمَّا ابْهَارَّتْ مِنَ الضِّيَاءِ بَعْدَ مَا
كَانُوا فِي ظُلْمَةِ السَّفِينَةِ، فَكُلُّ هَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ،
وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِيهِ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا
يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُقْتَدَى بِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ ذَلِكَ
الطُّوفَانَ أَرْسَلَ رِيحًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَسَكَنَ الْمَاءُ،
وَانْسَدَّتْ يَنَابِيعُ الْأَرْضِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْقُصُ وَيَغِيضُ
وَيُدْبِرُ، وَكَانَ اسْتِوَاءُ الْفُلْكِ عَلَى الْجُودِيِّ فِيمَا يَزْعُمُ
أَهْلُ التَّوْرَاةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ لِسَبْعَ عَشْرَ لَيْلَةً مَضَتْ
مِنْهُ، وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الْعَاشِرِ رُئِيَتْ رُءُوسُ
الْجِبَالِ، فَلَمَّا مَضَى بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا فَتَحَ نُوحٌ
كَوَّةَ الْفُلْكِ الَّتِي صَنَعَ فِيهَا، ثُمَّ أَرْسَلَ الْغُرَابَ لِيَنْظُرَ
لَهُ مَا فَعَلَ الْمَاءُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْحَمَامَةَ
فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ لِرِجْلَيْهَا مَوْضِعًا، فَبَسَطَ يَدَهُ
لِلْحَمَامَةِ فَأَخَذَهَا فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ مَضَتْ سَبْعَةُ أَيَّامٍ، ثُمَّ
أَرْسَلَهَا لِتَنْظُرَ لَهُ، فَرَجَعَتْ حِينَ أَمْسَتْ وَفِي فِيهَا وَرَقُ
زَيْتُونَةٍ فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ قَلَّ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ،
ثُمَّ مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْسَلَهَا فَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ
فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْأَرْضَ قَدْ بَرَزَتْ، فَلَمَّا كَمَلَتِ السَّنَةُ
فِيمَا بَيْنَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ الطُّوفَانَ إِلَى أَنْ أَرْسَلَ نُوحٌ
الْحَمَامَةَ، وَدَخَلَ يَوْمٌ وَاحِدٌ مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ
اثْنَتَيْنِ بَرَزَ وَجْهُ الْأَرْضِ وَظَهَرَ الْبَرُّ، وَكَشَفَ نُوحٌ غِطَاءَ
الْفُلْكِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ هُوَ بِعَيْنِهِ مَضْمُونُ
سِيَاقِ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِي أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَفِي الشَّهْرِ
الثَّانِي مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ فِي سِتٍّ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً مِنْهُ قِيلَ
يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ
مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَفِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ نُوحًا قَائِلًا لَهُ:
اخْرُجْ مِنَ الْفُلْكِ أَنْتَ وَامْرَأَتُكَ وَبَنُوكَ وَنِسَاءُ بَنِيكَ مَعَكَ،
وَجَمِيعُ الدَّوَابِّ الَّتِي مَعَكَ، وَلِتَنْمُوَا وَلِتَكْثُرُوا فِي
الْأَرْضِ، فَخَرَجُوا، وَابْتَنَى نُوحٌ مَذْبَحًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَأَخَذَ مِنْ جَمِيعِ الدَّوَابِّ الْحَلَالِ وَالطَّيْرِ الْحَلَالِ فَذَبَحَهَا
قُرْبَانًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ لَا
يُعِيدَ الطُّوفَانَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ تَذْكَارَ الْمِيثَاقِ
إِلَيْهِ الْقَوْسُ الَّذِي فِي الْغَمَامِ، وَهُوَ قَوْسُ قُزَحَ الَّذِي قَدَّمْنَا
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَمَانٌ مِنَ الْغَرَقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: فِيهِ
إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ قَوْسٌ بِلَا وَتَرٍ. أَيْ ; أَنَّ هَذَا الْغَمَامَ لَا
يُوجَدُ مِنْهُ طُوفَانٌ كَأَوَّلِ مَرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
وَقَدْ أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَهَلَةِ الْفُرْسِ وَأَهْلِ الْهِنْدِ، وُقُوعَ
الطُّوفَانِ، وَاعْتَرَفَ بِهِ آخَرُونَ مِنْهُمْ. وَقَالُوا: إِنَّمَا كَانَ
بِأَرْضِ بَابِلَ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا. قَالُوا: وَلَمْ نَزَلْ نَتَوَارَثُ
الْمُلْكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ مِنْ لَدُنْ كُيُومُرْثَ يَعْنُونَ آدَمَ إِلَى
زَمَانِنَا هَذَا. وَهَذَا قَالَهُ مَنْ قَالَهُ مِنْ زَنَادِقَةِ الْمَجُوسِ
عُبَّادِ النِّيرَانِ، وَأَتْبَاعِ الشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ سَفْسَطَةٌ مِنْهُمْ،
وَكُفْرٌ فَظِيعٌ، وَجَهْلٌ بَلِيغٌ، وَمُكَابَرَةٌ لِلْمَحْسُوسَاتِ، وَتَكْذِيبٌ
لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ. وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ
النَّاقِلُونَ عَنْ رُسُلِ الرَّحْمَنِ مَعَ مَا تَوَاتَرَ عِنْدَ النَّاسِ فِي
سَائِرِ الْأَزْمَانِ عَلَى وُقُوعِ الطُّوفَانِ، وَأَنَّهُ عَمَّ جَمِيعَ
الْبِلَادِ، وَلَمْ يُبْقِ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ كَفَرَةِ الْعِبَادِ ;
اسْتِجَابَةً لِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ الْمُؤَيِّدِ الْمَعْصُومِ، وَتَنْفِيذًا لِمَا
سَبَقَ فِي الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ
أَخْبَارِ نُوحٍ نَفْسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 3 ].
قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ، وَشَرَابِهِ،
وَلِبَاسِهِ، وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
بُرْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ
الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدُهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبُ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدُهُ
عَلَيْهَا. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّكُورَ هُوَ الَّذِي يَعْمَلُ
بِجَمِيعِ الطَّاعَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، فَإِنَّ
الشُّكْرَ يَكُونُ بِهَذَا وَبِهَذَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ
الْمُحَجَّبَا
ذِكْرُ صَوْمِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: بَابُ صِيَامِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَدَّثَنَا
سَهْلُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ
لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ،
وَيَوْمَ الْأَضْحَى. هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ لَهِيعَةَ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ. وَقَدْ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ:
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنْبَاعِ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
خَالِدٍ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَنَّانٍ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ رَبَاحٍ أَبِي فِرَاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إِلَّا يَوْمَ الْفِطْرِ، وَالْأَضْحَى، وَصَامَ دَاوُدُ
نِصْفَ الدَّهْرِ، وَصَامَ إِبْرَاهِيمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ
صَامَ الدَّهْرَ وَأَفْطَرَ الدَّهْرَ.
ذِكْرُ حَجَّةِ
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا
أَبِي، عَنْ زَمْعَةَ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامَ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَى وَادِي عُسْفَانَ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ
أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: لَقَدْ مَرَّ بِهَذَا
الْوَادِي نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَى بَكَرَاتٍ لَهُمْ حُمْرٍ خَطْمُهُمُ
اللِّيفُ أَزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ يَحُجُّونَ
الْبَيْتَ الْعَتِيقَ. فِيهِ غَرَابَةٌ.
ذِكْرُ وَصِيَّتِهِ
لِوَلَدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ
قَالَ: حَمَّادٌ أَظُنُّهُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عَلَيْهِ جُبَّةُ سِيجَانٍ مَزْرُورَةٌ
بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَ: " أَلَا إِنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا قَدْ وَضَعَ كُلَّ
فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ " أَوْ قَالَ: " يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ كُلَّ
فَارِسٍ ابْنِ فَارِسٍ، وَرَفَعَ كُلَّ رَاعٍ بْنِ رَاعٍ ". قَالَ: فَأَخَذَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَامِعِ جُبَّتِهِ،
وَقَالَ: " أَلَّا أَرَى عَلَيْكَ لِبَاسَ مَنْ لَا يَعْقِلُ ". ثُمَّ
قَالَ: " إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: إِنِّي قَاصٌّ عَلَيْكَ الْوَصِيَّةَ
آمُرُكَ بِاثْنَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ ; آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ
فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ رَجَحَتْ بِهِنَّ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ
السَّبْعَ كُنَّ حَلْقَةً مُبْهَمَةً قَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِهَا
يَرْزُقُ الْخَلْقُ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الشِّرْكِ
وَالْكِبْرِ
". قَالَ: قُلْتُ، أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الشِّرْكُ قَدْ
عَرَفْنَاهُ، فَمَا الْكِبْرُ ؟ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا نَعْلَانِ حَسَنَتَانِ
لَهُمَا شِرَاكَانِ حَسَنَانِ ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: هُوَ أَنْ
يَكُونَ لِأَحَدِنَا حُلَّةٌ يَلْبَسُهَا ؟ قَالَ: " لَا ". قَالَ: هُوَ
أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا دَابَّةٌ يَرْكَبُهَا ؟ قَالَ: " لَا ".
قَالَ: أَفَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِنَا أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ ؟
قَالَ: " لَا ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْكِبْرُ ؟ قَالَ:
" سَفَهُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ،
وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ. وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِي وَصِيَّةِ نُوحٍ لِابْنِهِ
أَوْصَيْتُكَ بِخَصْلَتَيْنِ، وَأَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ. فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَكِبَ
السَّفِينَةَ كَانَ عُمُرُهُ سِتَّمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَزَادَ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ
ثَلَاثَمِائَةٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ، ثُمَّ إِنْ لَمْ يُمْكِنِ
الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ فَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ، فَإِنَّ
الْقُرْآنَ يَقْتَضِي أَنَّ نُوحًا مَكَثَ فِي قَوْمِهِ بَعْدَ الْبِعْثَةِ،
وَقَبْلَ الطُّوفَانِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ
سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ. [
الْعَنْكَبُوتِ: 14 ] ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ
كَانَ مَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَحْفُوظًا مِنْ أَنَّهُ بُعِثَ وَلَهُ
أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ عَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ
ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَيَكُونُ قَدْ عَاشَ عَلَى هَذَا أَلْفَ
سَنَةٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا قَبْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْأَزْرَقِيُّ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ التَّابِعَيْنِ
مُرْسَلًا، أَنَّ قَبْرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَهَذَا أَقْوَى وَأَثْبَتُ مِنَ الذِّكْرِ الَّذِي يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُتَأَخِّرِينَ، مِنْ أَنَّهُ بِبَلْدَةٍ بِالْبِقَاعِ تُعْرَفُ الْيَوْمَ
بِكَرْكِ نُوحٍ، وَهُنَاكَ جَامِعٌ قَدْ بُنِيَ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَأُوْقِفَتْ
عَلَيْهِ أَوْقَافٌ فِيمَا ذُكِرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قِصَّةُ هُودٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَهُوَ هُودُ بْنُ شَالِخِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَيُقَالُ: إِنَّ هُودًا هُوَ عَابِرُ بْنُ شَالِخِ بْنِ سَامِ بْنِ
نُوحٍ، وَيُقَالُ: هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْجَارُودِ بْنِ
عَادِ بْنِ عَوْصَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَكَانُوا عَرَبَا يَسْكُنُونَ الْأَحْقَافَ، وَهِيَ
جِبَالُ الرَّمْلِ، وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ مِنْ عُمَانَ وَحَضْرَمَوْتَ بِأَرْضٍ
مُطِلَّةٍ عَلَى الْبَحْرِ يُقَالُ لَهَا: الشِّحْرُ، وَاسْمُ وَادِيهِمْ مُغِيثٌ،
وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ ذَوَاتِ الْأَعْمِدَةِ الضِّخَامِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ
الْعِمَادِ [ الْفَجْرِ: 6، 7 ]. أَيْ ; عَادَ إِرَمَ. وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى،
وَأَمَّا عَادٌ الثَّانِيَةُ فَمُتَأَخِّرَةٌ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا عَادٌ الْأُولَى فَهُمْ عَادٌ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [ الْفَجْرِ: 7 8 ]. أَيْ ;
مِثْلُ الْقَبِيلَةِ. وَقِيلَ: مِثْلُ الْعَمَدِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، كَمَا
بَيَّنَّاهُ فِي التَّفْسِيرِ.
وَمِنْ زَعْمٍ أَنَّ إِرَمَ مَدِينَةٌ تَدُورُ فِي الْأَرْضِ، فَتَارَةً فِي
الشَّامِ، وَتَارَةً فِي الْيَمَنِ، وَتَارَةً فِي الْحِجَازِ، وَتَارَةً فِي
غَيْرِهَا، فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ. وَقَالَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا
بُرْهَانَ يُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وَلَا مُسْتَنَدَ يَرْكَنُ
إِلَيْهِ، وَفِي
صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي ذِكْرِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَالَ فِيهِ:. مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ
الْعَرَبِ ; هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ، وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ.
وَيُقَالُ: إِنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ
بِالْعَرَبِيَّةِ. وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ أَبَاهُ أَوَّلُ مَنْ
تَكَلَّمَ بِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا نُوحٌ. وَقِيلَ
آدَمُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُقَالُ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ. وَهُمْ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْهُمْ ; عَادٌ، وَثَمُودُ،
وَجُرْهُمُ، وَطَسْمٌ، وَجَدِيسُ، وَأَمِيمُ، وَمَدْيَنُ، وَعِمْلَاقُ، وَعَبِيلٌ،
وَجَاسِمٌ، وَقَحْطَانُ، وَبَنُو يَقْطُنَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَمَّا الْعَرَبُ
الْمُسْتَعْرِبَةُ فَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ،
وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ
تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ
كَلَامَ الْعَرَبِ مِنْ جُرْهُمَ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَ أُمِّهِ هَاجَرَ
بِالْحَرَمِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَلَكِنْ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِهَا فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ
وَالْبَيَانِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَتَلَفَّظُ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَادًا وَهُمْ عَادٌ الْأُولَى كَانُوا أَوَّلَ مَنْ عَبَدَ
الْأَصْنَامَ بَعْدَ الطُّوفَانِ، وَكَانَ أَصْنَامُهُمْ ثَلَاثَةً، صَدٌّ،
وَصُمُودٌ، وَهِرَا. فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ أَخَاهُمْ هُودًا عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قَوْمِ
نُوحٍ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ
يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ
أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي
الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ [ الْأَعْرَافِ: 65 - 72 ].
وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ فِي سُورَةِ هُودٍ: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [ هُودٍ: 50 - 60 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 31 - 41 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ نُوحٍ أَيْضًا: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ: وَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ [ فُصِّلَتْ: 15 - 16 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [ الْأَحْقَافِ: 21 - 25 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ الذَّارِيَاتِ: 41 - 42 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّجْمِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [ النَّجْمِ: 50 - 55 ].
وَقَالَ تَعَالَى
فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ
عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ: 18 - 22 ]. وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: وَأَمَّا عَادٌ
فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ
أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [ الْحَاقَّةِ: 6
- 8 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفَجْرِ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ
عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [ الْفَجْرِ: 6
- 14 ].
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ
كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُ
عَادٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْفَرْقَانِ، وَالْعَنْكَبُوتِ،
وَفِي سُورَةِ ص، وَفِي سُورَةِ ق، وَلْنَذْكُرْ مَضْمُونَ الْقِصَّةِ مَجْمُوعًا
مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ الْأُمَمِ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ بَعْدَ
الطُّوفَانِ. وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ
خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [
الْأَعْرَافِ: 69 ]. أَيْ ; جَعَلَهُمْ أَشَدَّ أَهْلِ زَمَانِهِمْ فِي
الْخِلْقَةِ وَالشِّدَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ فِي الْمُؤْمِنُونَ: ثُمَّ أَنْشَأْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 31 ].
وَهُمْ قَوْمُ
هُودٍ عَلَى الصَّحِيحِ. وَزَعَمَ آخَرُونَ: أَنَّهُمْ ثَمُودُ. لِقَوْلِهِ:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً [ الْمُؤْمِنُونَ:
41 ]. قَالُوا: وَقَوْمُ صَالِحٍ هَمُ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِالصَّيْحَةِ
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [ الْحَاقَّةِ: 6 ].
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا يَمْنَعُ مِنِ اجْتِمَاعِ الصَّيْحَةِ وَالرِّيحِ
الْعَاتِيَةِ عَلَيْهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قِصَّةِ أَهْلِ مَدْيَنَ أَصْحَابِ
الْأَيْكَةِ، فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْعُقُوبَاتِ، ثُمَّ
لَا خِلَافَ أَنَّ عَادًا قَبْلَ ثَمُودَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَادًا كَانُوا عَرَبًا جُفَاةً كَافِرِينَ، عُتَاةً
مُتَمَرِّدِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا
مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ،
وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ وَتَنَقَّصُوهُ فَأَخَذَهُمُ
اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ،
وَرَغَّبَهُمْ فِي طَاعَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ خَيْرَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ ذَلِكَ عُقُوبَةَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ
إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [ الْأَعْرَافِ 66 ]. أَيْ ; هَذَا الْأَمْرُ
الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ سَفَهٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ
عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ الَّتِي يُرْتَجَى مِنْهَا النَّصْرُ وَالرِّزْقُ،
وَمَعَ هَذَا نَظُنُّ أَنَّكَ تَكْذِبُ فِي دَعْوَاكَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ.
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 67 ]. أَيْ ; لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَظُنُّونَ،
وَلَا مَا تَعْتَقِدُونَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ
أَمِينٌ [ الْأَعْرَافِ: 68 ]. وَالْبَلَاغُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْكَذِبِ فِي
أَصْلِ الْمُبَلِّغِ، وَعَدَمَ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ،
وَيَسْتَلْزِمُ إِبْلَاغَهُ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ وَجِيزَةٍ جَامِعَةٍ مَانِعَةٍ،
لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا اخْتِلَافَ وَلَا اضْطِرَابَ، وَهُوَ مَعَ هَذَا
الْبَلَاغِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فِي غَايَةِ النُّصْحِ لِقَوْمِهِ،
وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَالْحِرْصِ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، لَا يَبْتَغِي
مِنْهُمْ أَجْرًا، وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ جُعْلًا، بَلْ
هُوَ مُخْلِصٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالنُّصْحِ لِخَلْقِهِ لَا يَطْلُبُ أَجْرَهُ إِلَّا مِنَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَإِنَّ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُلَّهُ فِي يَدَيْهِ، وَأَمْرُهُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ هُودٍ: 51 ]. أَيْ ; مَا لَكُمْ عَقْلٌ تُمَيِّزُونَ بِهِ وَتَفْهَمُونَ أَنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ فِطَرُكُمُ الَّتِي خُلِقْتُمْ عَلَيْهَا، وَهُوَ دِينُ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نُوحًا، وَأَهْلَكَ مَنْ خَالَفَهُ مِنَ الْخَلْقِ، وَهَا أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَلَا أَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَيْهِ، بَلْ أَبْتَغِي ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَلِهَذَا قَالَ مُؤْمِنُ يس: اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ يس: 21 - 22 ]. وَقَالَ قَوْمُ هُودٍ لَهُ فِيمَا قَالُوا: يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ. [ هُودٍ: 53 ]. يَقُولُونَ: مَا جِئْتَنَا بِخَارِقٍ يَشْهَدُ لَكَ بِصِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ. وَمَا نَحْنُ بِالَّذِينِ نَتْرُكُ عِبَادَةَ أَصْنَامِنَا عَنْ مُجَرَّدِ قَوْلِكَ بِلَا دَلِيلٍ أَقَمْتَهُ، وَلَا بُرْهَانٍ نَصَبْتَهُ، وَمَا نَظُنُّ إِلَّا أَنَّكَ مَجْنُونٌ فِيمَا تَزْعُمُهُ، وَعِنْدَنَا ; إِنَّمَا أَصَابَكَ هَذَا أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا غَضِبَ عَلَيْكَ فَأَصَابَكَ فِي عَقْلِكَ فَاعْتَرَاكَ جُنُونٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ [ هُودٍ: 54 - 55 ]. وَهَذَا تَحَدٍّ مِنْهُ لَهُمْ، وَتَبَرُّؤٌ مِنْ آلِهَتِهِمْ، وَتَنَقُّصٌ مِنْهُ لَهَا، وَبَيَانُ أَنَّهَا لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَضُرُّ، وَأَنَّهَا جَمَادٌ حُكْمُهَا حُكْمُهُ، وَفِعْلُهَا فِعْلُهُ، فَإِنْ كَانَتْ كَمَا تَزْعُمُونَ مِنْ أَنَّهَا تَنْصُرُ وَتَنْفَعُ وَتَضُرُّ، فَهَا أَنَا بَرِيءٌ مِنْهَا لَاعِنٌ لَهَا فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ. أَنْتُمْ وَهِيَ جَمِيعًا بِجَمِيعِ مَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَصِلُوا
إِلَيْهِ، وَتَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تُؤَخِّرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً، وَلَا طَرْفَةَ عَيْنٍ فَإِنِّي لَا أُبَالِي بِكُمْ، وَلَا أُفَكِّرُ فِيكُمْ، وَلَا أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. أَيْ ; أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَمُتَأَيِّدٌ بِهِ. وَوَاثِقٌ بِجَنَابِهِ الَّذِي لَا يَضِيعُ مَنْ لَاذَ بِهِ. وَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ، فَلَسْتُ أُبَالِي مَخْلُوقًا سِوَاهُ، وَلَسْتُ أَتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا أَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، وَهَذَا وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ هُودًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُمْ عَلَى جَهْلٍ وَضَلَالٍ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بِسُوءٍ، وَلَا نَالُوا مِنْهُ مَكْرُوهًا، فَدَلَّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ وَبُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَفَسَادِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ بِعَيْنِهِ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [ يُونُسَ: 71 ]. وَهَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ الْأَنْعَامِ: 80 - 83 ]. وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 33 - 35 ].
اسْتَبْعَدُوا أَنْ
يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا بَشَرِيًّا، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ أَدْلَى بِهَا
كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الْكَفَرَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ
النَّاسَ [ يُونُسَ: 2 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ
يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا
رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ
لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا [ الْإِسْرَاءِ: 94 -
95 ]. وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ
جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ. أَيْ ;
لَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.
وَقَوْلُهُ: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا
أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا
حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ
إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [
الْمُؤْمِنُونَ: 35 - 39 ]. اسْتَبْعَدُوا الْمَعَادَ وَأَنْكَرُوا قِيَامَ
الْأَجْسَادِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا تُرَابًا وَعِظَامًا، وَقَالُوا: هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ. أَيْ ; بَعِيدٌ بَعِيدٌ هَذَا الْوَعْدُ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. أَيْ ; يَمُوتُ قَوْمٌ
وَيَحْيَا آخَرُونَ. وَهَذَا هُوَ اعْتِقَادُ الدَّهْرِيَّةِ، كَمَا يَقُولُ
بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ: أَرْحَامٌ تَدْفَعُ، وَأَرْضٌ تَبْلَعُ.
وَأَمَّا الدُّورِيَّةُ فَهُمُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ يَعُودُونَ
إِلَى هَذِهِ الدَّارِ بَعْدَ كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا
كُلُّهُ كَذِبٌ، وَكُفْرٌ وَجَهْلٌ وَضَلَالٌ، وَأَقْوَالٌ بَاطِلَةٌ، وَخَيَالٌ
فَاسِدٌ بِلَا بُرْهَانٍ، وَلَا دَلِيلٍ يَسْتَمِيلُ عَقْلَ الْفَجَرَةِ
الْكَفَرَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [
الْأَنْعَامِ: 113 ]. وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا وَعَظَهُمْ بِهِ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ.
يَقُولُ لَهُمْ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ بَنَاءً عَظِيمًا
هَائِلًا كَالْقُصُورِ، وَنَحْوِهَا
تَعْبَثُونَ
بِبِنَائِهَا ; لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ فِيهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْخِيَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ
مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ. فَعَادُ إِرَمَ هُمْ عَادٌ الْأُولَى الَّذِينَ كَانُوا
يَسْكُنُونَ الْأَعْمِدَةَ الَّتِي تَحْمِلُ الْخِيَامَ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِرَمَ مَدِينَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَهِيَ تَتَنَقَّلُ
فِي الْبِلَادِ فَقَدْ غَلِطَ وَأَخْطَأَ. وَقَالَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ. قِيلَ: هِيَ الْقُصُورُ. وَقِيلَ: بُرُوجُ
الْحَمَامِ. وَقِيلَ: مَآخِذُ الْمَاءِ. لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. أَيْ ; رَجَاءً
مِنْكُمْ أَنْ تُعَمِّرُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ أَعْمَارًا طَوِيلَةً وَإِذَا
بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا
الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ
مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ. أَيْ ; أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَنُخَالِفُ
آبَاءَنَا وَأَسْلَافَنَا، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا
جِئْتَ بِهِ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ، فَإِنَّا
لَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتْبَعُكَ وَلَا نُصَدِّقُكَ، كَمَا قَالُوا: سَوَاءٌ
عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ
الْخَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ اخْتِلَاقُ الْأَوَّلِينَ أَيْ ; أَنَّ هَذَا الَّذِي
جِئْتَ بِهِ إِلَّا اخْتِلَاقٌ مِنْكَ، وَأَخَذْتَهُ مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ
هَكَذَا فَسَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعَيْنِ، وَأَمَّا
عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الْخَاءِ وَاللَّامِ فَالْمُرَادُ بِهِ الدِّينُ أَيْ ;
إِنْ هَذَا الدِّينَ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا دِينُ الْآبَاءِ
وَالْأَجْدَادِ مِنْ أَسْلَافِنَا، وَلَنْ نَتَحَوَّلَ عَنْهُ وَلَا نَتَغَيَّرَ
وَلَا نَزَالُ مُتَمَسِّكِينَ بِهِ. وَيُنَاسِبُ كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ الْأُولَى
وَالثَّانِيَةِ قَوْلُهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. قَالَ: قَدْ وَقَعَ
عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
أَيْ ; قَدِ اسْتَحَقَّيْتُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الرِّجْسَ، وَالْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ أَتُعَارِضُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِعِبَادَةِ أَصْنَامٍ أَنْتُمْ نَحَتُّمُوهَا، وَسَمَّيْتُمُوهَا آلِهَةً مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَيْهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. أَيْ ; لَمْ يُنَزِّلْ عَلَى مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ دَلِيلًا وَلَا بُرْهَانًا، وَإِذَا أَبَيْتُمْ قَبُولَ الْحَقِّ وَتَمَادَيْتُمْ فِي الْبَاطِلِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَنْهَيْتُكُمْ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ أَمْ لَا، فَانْتَظِرُوا الْآنَ عَذَابَ اللَّهِ الْوَاقِعَ بِكُمْ، وَبَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَنَكَالَهُ الَّذِي لَا يُصَدُّ. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَ إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا كَقَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ. وَكَقَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ. وَكَقَوْلِهِ:
فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ.
وَأَمَّا تَفْصِيلُ إِهْلَاكِهِمْ ; فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ
عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ
هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. كَانَ هَذَا أَوَّلَ
مَا ابْتَدَأَهُمُ الْعَذَابُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُمْحِلِينَ مُسْنِتِينَ
فَطَلَبُوا السُّقْيَا، فَرَأَوْا عَارِضًا فِي السَّمَاءِ وَظَنُّوهُ سُقْيَا
رَحْمَةٍ فَإِذَا هُوَ سُقْيَا عَذَابٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا
اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ. أَيْ ; مِنْ وُقُوعِ الْعَذَابِ. وَهُوَ قَوْلُهُمْ:
فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَمِثْلُهَا فِي
الْأَعْرَافِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ هَاهُنَا الْخَبَرَ. الَّذِي ذَكَرَهُ
الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: فَلَمَّا أَبَوْا إِلَّا
الْكُفْرَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ ثَلَاثَ سِنِينَ
حَتَّى جَهَدَهُمْ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ النَّاسُ إِذَا جَهَدَهُمْ أَمْرٌ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ فَطَلَبُوا مِنَ اللَّهِ الْفَرَجَ مِنْهُ إِنَّمَا
يَطْلُبُونَهُ بِحَرَمِهِ وَمَكَانِ بَيْتِهِ. وَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَهْلِ
ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَبِهِ الْعَمَالِيقُ مُقِيمُونَ وَهُمْ مِنْ سُلَالَةِ
عِمْلِيقَ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ سَيِّدُهُمْ إِذْ ذَاكَ
رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ قَوْمِ
عَادٍ، وَاسْمُهَا: جَلْهَدَةُ ابْنَةُ الْخَيْبَرِيِّ. قَالَ: فَبَعَثَ عَادٌ
وَفْدًا قَرِيبًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا لِيَسْتَقُوا لَهُمْ عِنْدَ الْحَرَمِ،
فَمَرُّوا بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ بِظَاهِرِ مَكَّةَ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ
فَأَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ تُغَنِّيهِمُ الْجَرَدَاتَانِ
قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ وَكَانُوا قَدْ وَصَلُوا إِلَيْهِ فِي شَهْرٍ، فَلَمَّا
طَالَ مُقَامُهُمْ عِنْدَهُ، وَأَخَذَتْهُ شَفَقَةٌ
عَلَى قَوْمِهِ،
وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، عَمِلَ شِعْرًا
يُعَرِّضُ لَهُمْ بِالِانْصِرَافِ، وَأَمَرَ الْقَيْنَتَيْنِ أَنْ تُغَنِّيَهُمْ
بِهِ، فَقَالَ:
أَلَّا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ لَعَلَّ اَللَّهَ يُصْبِحُنَا
غَمَامًا فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا
قَدَ أمْسَوْا لَا يُبِينُونَ اَلْكَلَامَا مِنَ الْعَطَشِ اَلشَّدِيدِ فَلَيْسَ
نَرْجُو
بِهِ اَلشَّيْخَ اَلْكَبِيرَ وَلَا اَلْغُلَامَا وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ
بِخَيْرٍ
فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ عِيَامًا وَإِنَّ اَلْوَحْشَ يَأْتِيهِمْ جِهَارًا
وَلَا يَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامًا وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اِشْتَهَيْتُمْ
نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمُ اِلتَّمَامَا فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ
وَلَا لُقُّوا اَلتَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَا
قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَنَبَّهَ الْقَوْمُ لِمَا جَاءُوا لَهُ، فَنَهَضُوا إِلَى
الْحَرَمِ وَدَعَوْا لِقَوْمِهِمْ فَدَعَا دَاعِيهِمْ، وَهُوَ قَيْلُ بْنُ عِتْرٍ
فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَّابَاتٍ ثَلَاثًا ; بَيْضَاءَ، وَحَمْرَاءَ، وَسَوْدَاءَ.
ثُمَّ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: اخْتَرْ لِنَفْسِكَ وَلِقَوْمِكَ مِنْ
هَذَا السَّحَابِ. فَقَالَ: اخْتَرْتُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ فَإِنَّهَا
أَكْثَرُ السَّحَابِ مَاءً. فَنَادَاهُ مُنَادٍ: اخْتَرْتَ رَمَادًا رِمْدَدًا لَا
تُبْقِي مِنْ عَادٍ أَحَدًا لَا وَالِدًا تَتْرُكُ وَلَا وَلَدًا، إِلَّا
جَعَلَتْهُ هَمِدَا، إِلَّا بَنِي اللَّوْذِيَّةِ الْمُهْدَا. قَالَ: وَهُوَ
بَطْنٌ مِنْ عَادٍ كَانُوا مُقِيمِينَ بِمَكَّةَ فَلَمْ يُصِبْهُمْ مَا أَصَابَ
قَوْمَهُمْ. قَالَ: وَمَنْ بَقِيَ مِنْ أَنْسَابِهِمْ
وَأَعْقَابِهِمْ
هُمْ عَادٌ الْآخِرَةُ. قَالَ: وَسَاقَ اللَّهُ السَّحَابَةَ السَّوْدَاءَ الَّتِي
اخْتَارَهَا. قَيْلُ بْنُ عِتْرٍ بِمَا فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ إِلَى عَادٍ
حَتَّى تَخَرَّجَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَادٍ يُقَالُ لَهُ: الْمُغِيثُ، فَلَمَّا
رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، وَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. فَيَقُولُ
تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا. أَيْ ; كُلَّ شَيْءٍ أُمِرَتْ بِهِ
فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَبْصَرَ مَا فِيهَا وَعَرَفَ أَنَّهَا رِيحٌ فِيمَا
يَذْكُرُونَ امْرَأَةً مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهَا: مَهْدٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَتْ
مَا فِيهَا صَاحَتْ، ثُمَّ صَعِقَتْ، فَلَمَّا أَفَاقَتْ قَالُوا: مَا رَأَيْتِ
يَا مَهْدُ ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رِيحًا فِيهَا كَشُهُبِ النَّارِ، أَمَامَهَا
رِجَالٌ يَقُودُونَهَا. فَسَخَّرَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا. وَالْحُسُومُ: الدَّائِمَةُ. فَلَمْ تَدَعْ مِنْ
عَادٍ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ. قَالَ: وَاعْتَزَلَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فِيمَا ذُكِرَ لِي فِي حَظِيرَةٍ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا
يُصِيبُهُمْ إِلَّا مَا يَلِينُ عَلَيْهِمُ الْجُلُودُ، وَتَلْتَذُّ الْأَنْفُسُ،
وَإِنَّهَا لِتَمُرُّ عَلَى عَادٍ بِالظَّعْنِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ، وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا فِي مُسْنَدِهِ يُشْبِهُ هَذِهِ
الْقِصَّةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أَبُو
الْمُنْذِرِ سَلَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ
أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنِ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ حَسَّانَ،
وَيُقَالُ: ابْنُ يَزِيدَ الْبَكْرِيُّ. قَالَ: خَرَجْتُ أَشْكُو الْعَلَاءَ بْنَ
الْحَضْرَمِيِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْتُ
بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا عَجُوزٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٌ بِهَا، فَقَالَتْ
لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَاجَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغِي إِلَيْهِ ؟
قَالَ: فَحَمَلْتُهَا فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا الْمَسْجِدُ غَاصٌّ بِأَهْلِهِ، وَإِذَا رَايَةٌ سَوْدَاءُ تَخْفِقُ، وَبِلَالٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ قَالُوا: يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَجْهًا، قَالَ: فَجَلَسْتُ، قَالَ: فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ أَوْ قَالَ: رَحْلَهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلْتُ فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: هَلْ كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ شَيْءٌ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَانَتْ لَنَا الدَّبْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَمَرَرْتُ بِعَجُوزٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ مُنْقَطِعٍ بِهَا، فَسَأَلَتْنِي أَنْ أَحْمِلَهَا إِلَيْكَ، وَهَا هِيَ بِالْبَابِ، فَأَذِنَ لَهَا فَدَخَلَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي تَمِيمٍ حَاجِزًا فَاجْعَلِ الدَّهْنَاءَ، فَحَمِيَتِ الْعَجُوزُ وَاسْتَوْفَزَتْ، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِلَى أَيْنَ تَضْطَرُّ مُضَرَكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ مِثْلِي مَا قَالَ الْأَوَّلُ: مِعْزًى حَمَلَتْ حَتْفَهَا. حَمَلْتُ هَذِهِ وَلَا أَشْعُرُ أَنَّهَا كَانَتْ لِي خَصْمًا، أَعُوذُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ أَكُونَ كَوَافِدِ عَادٍ، قَالَ: هِيهِ وَمَا وَافِدُ عَادٍ ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَسْتَطْعِمُهُ، قُلْتُ: إِنَّ عَادًا قَحَطُوا، فَبَعَثُوا وَفْدًا لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: قَيْلٌ فَمَرَّ بِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ، وَتُغَنِّيهِ جَارِيَتَانِ يُقَالُ لَهُمَا: الْجَرَادَتَانِ، فَلَمَّا مَضَى الشَّهْرُ خَرَجَ إِلَى جِبَالِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَجِئْ إِلَى مَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ، وَلَا إِلَى أَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ، اللَّهُمَّ اسْقِ عَادًا مَا كُنْتَ تَسْقِيهِ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ، فَنُودِيَ مِنْهَا: اخْتَرْ. فَأَوْمَأَ إِلَى سَحَابَةٍ مِنْهَا سَوْدَاءَ. فَنُودِيَ مِنْهَا: خُذْهَا رَمَادًا رِمْدَدًا لَا تُبْقِي مِنْ عَادٍ
أَحَدًا. قَالَ:
فَمَا بَلَغَنِي أَنَّهُ بَعَثَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا كَقَدْرِ مَا
يَجْرِي فِي خَاتَمِي هَذَا مِنَ الرِّيحِ حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ أَبُو وَائِلٍ:
وَصَدَقَ وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ إِذَا بَعَثُوا وَفْدًا لَهُمْ،
قَالُوا: لَا تَكُنْ كَوَافِدِ عَادٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ
عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ
مِنْ حَدِيثِ سَلَّامٍ أَبِي الْمُنْذِرِ، عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ، وَمِنْ
طَرِيقِهِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَهَكَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَهَذِهِ
الْقِصَّةَ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِصَّةِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا السِّيَاقُ لِإِهْلَاكِ عَادٍ الْآخِرَةِ فَإِنَّ فِيمَا
ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُ ذِكْرًا لِمَكَّةَ، وَلَمْ تُبْنَ إِلَّا
بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ حِينَ أَسْكَنَ فِيهَا هَاجَرَ وَابْنَهُ
إِسْمَاعِيلَ، فَنَزَلَتْ جُرْهُمٌ عِنْدَهُمْ، كَمَا سَيَأْتِي وَعَادٌ الْأُولَى
قَبْلَ الْخَلِيلِ، وَفِيهِ ذِكْرُ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَشِعْرُهُ، وَهُوَ
مِنَ الشِّعْرِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ زَمَانِ عَادٍ الْأُولَى لَا يُشْبِهُ كَلَامَ
الْمُتَقَدِّمِينَ. وَفِيهِ أَنَّ فِي تِلْكَ السَّحَابَةِ شَرَرُ نَارٍ، وَعَادٌ
الْأَوْلَى إِنَّمَا أُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: هِيَ
الْبَارِدَةُ، وَالْعَاتِيَةُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ
سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [ الْحَاقَّةِ: 7 ]. أَيْ ;
كَوَامِلَ مُتَتَابِعَاتٍ. قِيلَ: كَانَ أَوَّلَهَا الْجُمُعَةُ. وَقِيلَ:
الْأَرْبِعَاءُ. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ
خَاوِيَةٍ [ الْحَاقَّةِ: 7 ]. شَبَّهَهُمْ بِأَعْجَازِ النَّخْلِ الَّتِي لَا
رُءُوسَ لَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ تَجِيءُ إِلَى أَحَدِهِمْ
فَتَحْمِلُهُ فَتَرْفَعُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ
تُنَكِّسُهُ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فَتَشْدَخُهُ، فَيَبْقَى جُثَّةً بِلَا رَأْسٍ، كَمَا قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [ الْقَمَرِ: 19 ]. أَيْ ; فِي يَوْمِ نَحْسٍ عَلَيْهِمْ، مُسْتَمِرٌّ عَذَابُهُ عَلَيْهِمْ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [ الْقَمَرِ: 20 ]. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْيَوْمَ النَّحْسَ الْمُسْتَمِرَّ هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ. وَتَشَاءَمَ بِهِ لِهَذَا الْفَهْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَخَالَفَ الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [ فُصِّلَتْ: 16 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، فَلَوْ كَانَتْ نَحِسَاتٍ فِي أَنْفُسِهَا لَكَانَتْ جَمِيعُ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الْمُنْدَرِجَةِ فِيهَا مَشْئُومَةً. وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ أَيْ ; عَلَيْهِمْ. وَقَالَ تَعَالَى وَفِي عَادٍ: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [ الذَّارِيَاتِ: 41 ]. أَيِ الَّتِي لَا تُنْتِجُ خَيْرًا فَإِنَّ الرِّيحَ الْمُفْرَدَةَ لَا تَنْثُرُ سَحَابًا وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا، بَلْ هِيَ عَقِيمٌ لَا نَتِيجَةَ خَيْرٍ لَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [ الذَّارِيَاتِ: 42 ]. أَيْ ; كَالشَّيْءِ الْبَالِي الْفَانِي الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [ الْأَحْقَافِ: 21 ]. فَالظَّاهِرُ أَنَّ عَادًا هَذِهِ هِيَ عَادٌ
الْأُولَى فَإِنَّ سِيَاقَهَا شَبِيهٌ بِسِيَاقِ قَوْمِ هُودٍ، وَهُمُ الْأُولَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ هُمْ عَادٌ الثَّانِيَةُ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. فَإِنَّ عَادًا لَمَّا رَأَوْا هَذَا الْعَارِضَ، وَهُوَ النَّاشِئُ فِي الْجَوِّ كَالسَّحَابِ، ظَنُّوهُ سَحَابَ مَطَرٍ فَإِذَا هُوَ سَحَابُ عَذَابٍ، اعْتَقَدُوهُ رَحْمَةً فَإِذَا هُوَ نِقْمَةٌ، رَجَوْا فِيهِ الْخَيْرَ فَنَالُوا مِنْهُ غَايَةَ الشَّرِّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. أَيْ ; مِنَ الْعَذَابِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ الْعَذَابَ هُوَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ الْعَاتِيَةِ الْبَارِدَةِ الشَّدِيدَةِ الْهُبُوبِ الَّتِي اسْتَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ سَبْعُ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا الثَّمَانِيَةِ، فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، بَلْ تَتَبَّعَتْهُمْ حَتَّى كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ كُهُوفَ الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ فَتَلُفُّهُمْ وَتُخْرِجُهُمْ وَتُهْلِكُهُمْ، وَتُدَمِّرُ عَلَيْهِمُ الْبُيُوتَ الْمُحْكَمَةَ، وَالْقُصُورَ الْمُشَيَّدَةَ فَكَمَا مُنُوا بِقُوَّتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ، وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟ سَلَّطَ اللَّهُ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً عَلَيْهِمْ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً، وَأَقْدَرُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الرِّيحُ الْعَقِيمُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الرِّيحَ أَثَارَتْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ سَحَابَةً ظَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهَا سَحَابَةٌ فِيهَا رَحْمَةٌ بِهِمْ، وَغِيَاثٌ لِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَأَرْسَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ شَرَرًا وَنَارًا، كَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَيَكُونُ هَذَا كَمَا أَصَابَ أَصْحَابَ الظُّلَّةِ مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ، وَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الرِّيحِ الْبَارِدَةِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْعَذَابِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَضَادَّةِ مَعَ الصَّيْحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
الضَّرِيسِ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا إِلَّا
مِثْلَ مَوْضِعِ الْخَاتَمِ فَمَرَّتْ بِأَهْلِ الْبَادِيَةِ فَحَمَلَتْهُمْ
وَمَوَاشِيَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا رَأَى
ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاضِرَةِ مِنْ عَادٍ الرِّيحَ وَمَا فِيهَا قَالُوا هَذَا
عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. [ الْأَحْقَافِ: 24 ]. فَأَلْقَتْ أَهْلَ الْبَادِيَةِ وَمَوَاشِيَهُمْ
عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَبْدَانَ بْنِ
أَحْمَدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زَكَرِيَّا الْكُوفِيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ،
عَنْ مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ - كَذَا قَالَ -: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا فُتِحَ عَلَى عَادٍ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا مِثْلُ مَوْضِعِ
الْخَاتَمِ، ثُمَّ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَتْهُمُ الْبَدْوَ إِلَى
الْحَضَرِ، فَلَمَّا رَآهَا أَهْلُ الْحَضَرِ قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا
مُسْتَقْبِلُ أَوْدِيَتِنَا. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي فِيهَا فَأُلْقِيَ أَهْلُ
الْبَادِيَةِ عَلَى أَهْلِ الْحَاضِرَةِ حَتَّى هَلَكُوا. قَالَ: عَتَتْ عَلَى
خَزَائِنِهَا حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ خِلَالِ الْأَبْوَابِ. قُلْتُ: وَقَالَ
غَيْرُهُ خَرَجَتْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، ثُمَّ اخْتُلِفَ
فِيهِ عَلَى مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، وَفِيهِ نَوْعُ اضْطِرَابٍ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَارِضًا، وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ لُغَةً
السَّحَابُ. كَمَا دَلَّ
عَلَيْهِ حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَسَّانَ الْبَكْرِيِّ إِنْ جَعَلْنَاهُ مُفَسِّرًا لِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُنَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. قَالَتْ: وَإِذَا تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَخَرَجَ وَدَخَلَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أَمْطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَفَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَسَأَلَتْهُ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ يَا عَائِشَةُ كَمَا قَالَ قَوْمُ عَادٍ: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. طَرِيقٌ أُخْرَى. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرٌو، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا قَطُّ حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتِهِ، إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ، وَقَالَتْ: كَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ
قَوْمُ نُوحٍ
بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ
مُمْطِرُنَا. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ،
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ. فَهَذَا
الْحَدِيثُ كَالصَّرِيحِ فِي تَغَايُرِ الْقِصَّتَيْنِ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ
أَوَّلًا. فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِصَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ
الْأَحْقَافِ خَبَرًا عَنْ قَوْمِ عَادٍ الثَّانِيَةِ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ
السِّيَاقَاتِ فِي الْقُرْآنِ خَبَرًا عَنْ عَادٍ الْأُولَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
وَقَدَّمْنَا حَجَّ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذِكْرِ حَجِّ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَرُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَنَّهُ ذَكَرَ صِفَةَ قَبْرِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ.
وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ بِدِمَشْقَ، وَبِجَامِعِهَا مَكَانٌ فِي حَائِطِهِ
الْقِبْلِيِّ يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ قَبْرُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ صَالِحٍ
نَبِيِّ ثَمُودَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَهُمْ قَبِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ يُقَالُ: ثَمُودُ بِاسْمِ جَدِّهِمْ ثَمُودَ أَخِي
جَدِيسٍ، وَهُمَا ابْنَا عَابَرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانُوا
عَرَبًا مِنَ الْعَارِبَةِ يَسْكُنُونَ الْحِجْرَ الَّذِي بَيْنَ الْحِجَازِ
وَتَبُوكَ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى تَبُوكَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ، وَكَانُوا بَعْدَ قَوْمِ عَادٍ، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ
كَأُولَئِكَ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ بْنِ مَاسِخِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ حَاجِرِ بْنِ
ثَمُودَ بْنِ عَابَرَ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى
عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَخْلَعُوا الْأَصْنَامَ
وَالْأَنْدَادَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا فَآمَنَتْ بِهِ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ، وَكَفَرَ جُمْهُورُهُمْ، وَنَالُوا مِنْهُ بِالْمَقَالِ وَالْفَعَالِ،
وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَقَتَلُوا النَّاقَةَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ حُجَّةً
عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا
قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا
تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ
بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وعَتَوْا عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [
الْأَعْرَافِ: 73 - 79 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [ هُودٍ: 61 - 68 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ الْحِجْرِ: 80 - 84 ]. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [ الْإِسْرَاءِ: 59 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 141 - 159 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [ النَّمْلِ: 45 - 53 ].
. وَقَالَ تَعَالَى
فِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ اقْتَرَبَتْ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ
وَسُعُرٍ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ
فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ
قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى
فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ
صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ: 23 - 32 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ
عُقْبَاهَا [ الشَّمْسِ: 11 - 15 ].
وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ ذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ،
كَمَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَالْفُرْقَانِ، وَسُورَةِ ص،
وَسُورَةِ ق، وَالنَّجْمِ، وَالْفَجْرِ. وَيُقَالُ: إِنَّ هَاتَيْنِ
الْأُمَّتَيْنِ لَا يَعْرِفُ خَبَرَهُمَا أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ لَهُمَا
ذِكْرٌ فِي كِتَابِهِمُ التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَ عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ:
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ
اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [ إِبْرَاهِيمَ: 8 - 9 ].
الْآيَةَ الظَّاهِرُ
أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ
هَاتَانِ الْأُمَّتَانِ مِنَ الْعَرَبِ لَمْ يَضْبِطُوا خَبَرَهُمَا جَيِّدًا،
وَلَا اعْتَنَوْا بِحِفْظِهِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُمَا كَانَ مَشْهُورًا فِي
زَمَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا كُلِّهِ فِي
التَّفْسِيرِ مُسْتَقْصًى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَالْمَقْصُودُ الْآنَ ذِكْرُ قِصَّتِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَكَيْفَ
نَجَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ.
وَكَيْفَ قَطَعَ دَابِرَ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا بِكُفْرِهِمْ
وَعُتُوِّهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا، وَكَانُوا بَعْدَ عَادٍ، وَلَمْ
يَعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ
جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً
فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ
وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ
الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ
مُفْسِدِينَ. أَيْ إِنَّمَا جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِتَعْتَبِرُوا
بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَتَعْمَلُوا بِخِلَافِ عَمَلِهِمْ، وَأَبَاحَ
لَكُمْ هَذِهِ الْأَرْضَ تَبْنُونَ فِي سُهُولِهَا الْقُصُورَ، وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ. أَيْ حَاذِقِينَ فِي صَنْعَتِهَا وَإِتْقَانِهَا
وَإِحْكَامِهَا، فَقَابِلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ بِالشُّكْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
وَالْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمُخَالَفَتَهُ،
وَالْعُدُولَ عَنْ طَاعَتِهِ
فَإِنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ وَخِيمَةٌ؛ وَلِهَذَا وَعَظَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ. أَيْ مُتَرَاكِمٌ كَثِيرٌ حَسَنٌ بَهِيٌّ نَاضِجٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ. وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا. أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَأَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَجَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا. أَيْ أَعْطَاكُمُوهَا بِمَا فِيهَا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ فَهُوَ الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ وَحْدَهُ لَا سِوَاهُ فَاسْتَغْفِرُوهُ، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ. أَيْ أَقْلِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَأَقْبِلُوا عَلَى عِبَادَتِهِ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ مِنْكُمْ، وَيَتَجَاوَزُ عَنْكُمْ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا. أَيْ قَدْ كُنَّا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ عَقْلُكَ كَامِلًا قَبْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَهِيَ دُعَاؤُكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَتَرْكِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُ مِنَ الْأَنْدَادِ، وَالْعُدُولِ عَنْ دِينِ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ. وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي الْعِبَارَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ، وَحُسْنُ تَأَتٍّ فِي الدَّعْوَةِ لَهُمْ إِلَى الْخَيْرِ. أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ ؟ مَاذَا عُذْرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ ؟ وَمَاذَا يُخَلِّصُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ؟ وَأَنْتُمْ تَطْلُبُونَ مِنِّي أَنْ أَتْرُكَ دُعَاءَكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ ؟ وَأَنَا لَا
يُمْكِنُنِي هَذَا؛
لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَوْ تَرَكْتُهُ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْكُمْ وَلَا
مِنْ غَيْرِكُمْ أَنْ يُجِيرَنِي مِنْهُ، وَلَا يَنْصُرَنِي فَأَنَا لَا أَزَالُ
أَدْعُوكُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَقَالُوا لَهُ أَيْضًا: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ. أَيْ مِنَ الْمَسْحُورِينَ. يَعْنُونَ مَسْحُورًا لَا تَدْرِي
مَا تَقُولُ فِي دُعَائِكَ إِيَّانَا إِلَى إِفْرَادِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ
وَحْدَهُ، وَخَلْعِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَنْدَادِ. وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسَحَّرِينَ الْمَسْحُورُونَ. وَقِيلَ: مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ. أَيْ مِمَّنْ لَهُ سَحْرٌ وَهِيَ الرِّئَةُ كَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ: إِنَّمَا أَنْتَ بَشَرٌ لَهُ سَحْرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ
لِقَوْلِهِمْ بَعْدَ هَذَا: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا. وَقَوْلُهُمْ:
فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. سَأَلُوا مِنْهُ أَنْ
يَأْتِيَهُمْ بِخَارِقٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ قَالَ هَذِهِ
نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ
فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ. وَقَالَ: قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ
اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَقَالَ
تَعَالَى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ: أَنَّ ثَمُودَ اجْتَمَعُوا يَوْمًا فِي
نَادِيهِمْ، فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ
وَذَكَّرَهُمْ وَحَذَّرَهُمْ وَوَعَظَهُمْ وَأَمَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ
أَنْتَ أَخْرَجْتَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ وَأَشَارُوا إِلَى صَخْرَةٍ
هُنَاكَ نَاقَةً مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَذَكَرُوا أَوْصَافًا
سَمَّوْهَا وَنَعَتُوهَا وَتَعَنَّتُوا فِيهَا، وَأَنْ تَكُونَ عُشَرَاءَ
طَوِيلَةً مِنْ صِفَتِهَا كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَالِحٌ
عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا سَأَلْتُمْ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبْتُمْ أَتُؤْمِنُونَ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ.
وَتُصَدِّقُونِي فِيمَا أُرْسِلْتُ بِهِ. قَالُوا: نَعَمْ.
فَأَخَذَ
عُهُودَهُمْ وَمَوَاثِيقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى مُصَلَّاهُ
فَصَلَّى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قُدِّرَ لَهُ، ثُمَّ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
تِلْكَ الصَّخْرَةَ أَنْ تَنْفَطِرَ عَنْ نَاقَةٍ عَظِيمَةٍ كَوْمَاءَ عُشَرَاءَ
عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي طَلَبُوا وَعَلَى الصِّفَةِ الَّتِي
نَعَتُوا، فَلَمَّا عَايَنُوهَا كَذَلِكَ رَأَوْا أَمْرًا عَظِيمًا، وَمَنْظَرًا
هَائِلًا، وَقُدْرَةً بَاهِرَةً، وَدَلِيلًا قَاطِعًا، وَبُرْهَانًا سَاطِعًا
فَآمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَاسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ
وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَظَلَمُوا بِهَا. أَيْ جَحَدُوا
بِهَا، وَلَمْ يَتَّبِعُوا الْحَقَّ بِسَبَبِهَا. أَيْ أَكْثَرُهُمْ، وَكَانَ
رَئِيسُ الَّذِينَ آمَنُوا جُنْدَعَ بْنَ عَمْرِو بْنِ مِخْلَاةَ بْنِ لَبِيدِ
بْنِ جَوَّاسٍ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَهُمْ بَقِيَّةُ الْأَشْرَافِ
بِالْإِسْلَامِ فَصَدَّهُمْ ذُؤَابُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لَبِيدٍ، وَالْحُبَابُ
صَاحِبُ أَوْثَانِهِمْ، وَرَبَابُ بْنُ صَمْعَرِ بْنِ جَلْهَسٍ، وَدَعَا جُنْدَعٌ
ابْنَ عَمِّهِ شِهَابَ بْنَ خَلِيفَةَ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَهَمَّ
بِالْإِسْلَامِ فَنَهَاهُ أُولَئِكَ فَمَالَ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ
رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ: مِهْرَشُ بْنُ غَنْمَةَ بْنِ
الدُّمَيْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ شِعْرًا:
وَكَانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْرٍو إِلَى دِينِ النَّبِيِّ دَعَوْا شِهَابَا
عَزِيزَ ثَمُودَ كُلُّهُمْ جَمِيعًا
فَهَمَّ بِأَنْ يُجِيبَ وَلَوْ أَجَابَا لَأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينَا عَزِيزًا
وَمَا عَدَلُوا بِصَاحِبِهِمْ ذُؤَابَا وَلَكِنَّ الْغُوَاةَ مِنْ آلِ حِجْرٍ
تَوَلَّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذِئَابَا
وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً. أَضَافَهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَعْظِيمٍ، كَقَوْلِهِ: بَيْتُ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ. لَكُمْ آيَةً. أَيْ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ. فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ تَبْقَى هَذِهِ النَّاقَةُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ مِنْ أَرْضِهِمْ، وَتَرِدُ الْمَاءَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَكَانَتْ إِذَا وَرَدَتِ الْمَاءَ تَشْرَبُ مَاءَ الْبِئْرِ يَوْمَهَا ذَلِكَ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِمْ لِغَدِهِمْ، وَيُقَالُ إِنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ لَبَنِهَا كِفَايَتَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ. أَيِ اخْتِبَارًا لَهُمْ أَيُؤْمِنُونَ بِهَا أَمْ يَكْفُرُونَ ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بِمَا يَفْعَلُونَ: فَارْتَقِبْهُمْ أَيِ انْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَاصْطَبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ فَسَيَأْتِيكَ الْخَبَرُ عَلَى جَلِيَّةٍ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ. فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ هَذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَعْقِرُوا هَذِهِ النَّاقَةَ لِيَسْتَرِيحُوا مِنْهَا، وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ مَاؤُهُمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَعْرَافِ: 77 ]. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَهَا مِنْهُمْ رَئِيسَهُمْ قُدَارَ بْنَ سَالِفِ بْنِ جُنْدَعٍ، وَكَانَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ قَصِيرًا، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ وَلَدُ زَانِيَةٍ، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ سَالِفٍ. وَهُوَ مِنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: صِيبَانُ، وَكَانَ فِعْلُهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِهِمْ؛ فَلِهَذَا نُسِبَ
الْفِعْلُ إِلَى
جَمِيعِهِمْ كُلِّهِمْ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ
امْرَأَتَيْنِ مِنْ ثَمُودَ اسْمُ إِحْدَاهُمَا صَدُوفُ بِنْتُ الْمُحَيَّا بْنِ
زُهَيْرِ بْنِ الْمُحَيَّا، وَكَانَتْ ذَاتَ حَسَبٍ وَمَالٍ، وَكَانَتْ تَحْتَ
رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَفَارَقَتْهُ فَدَعَتِ ابْنَ عَمٍّ لَهَا يُقَالُ لَهُ:
مِصْدَعُ بْنُ مَهْرَجِ بْنِ الْمُحَيَّا، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا إِنْ
هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ، وَاسْمُ الْأُخْرَى عُنَيْزَةُ بِنْتُ غُنَيْمِ بْنِ
مِجْلَزٍ، وَتُكْنَى أُمَّ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ عَجُوزًا كَافِرَةً، لَهَا
بَنَاتٌ مِنْ زَوْجِهَا ذُؤَابِ بْنِ عَمْرٍو أَحَدِ الرُّؤَسَاءِ، فَعَرَضَتْ
بَنَاتَهَا الْأَرْبَعَ عَلَى قُدَارِ بْنِ سَالِفٍ إِنْ هُوَ عَقَرَ النَّاقَةَ
فَلَهُ أَيُّ بَنَاتِهَا شَاءَ، فَانْتُدِبَ هَذَانِ الشَّابَّانِ لِعَقْرِهَا،
وَسَعَوْا فِي قَوْمِهِمْ بِذَلِكَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ سَبْعَةٌ آخَرُونَ
فَصَارُوا تِسْعَةً، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ فِي
الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ.
وَسَعَوْا فِي بَقِيَّةِ الْقَبِيلَةِ، وَحَسَّنُوا لَهُمْ عَقْرَهَا
فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَطَاوَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَانْطَلَقُوا يَرْصُدُونَ
النَّاقَةَ، فَلَمَّا صَدَرَتْ مِنْ وِرْدِهَا كَمَنَ لَهَا مِصْدَعٌ فَرَمَاهَا
بِسَهْمٍ فَانْتَظَمَ عَظْمَ سَاقِهَا، وَجَاءَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْقَبِيلَةِ
فِي قَتْلِهَا، وَحَسَرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ تَرْغِيبًا لَهُمْ، فَابْتَدَرَهُمْ
قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ فَشَدَّ عَلَيْهَا بِالسَّيْفِ فَكَشَفَ عَنْ عُرْقُوبِهَا،
فَخَرَّتْ سَاقِطَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَرَغَتْ رَغَاةً وَاحِدَةً عَظِيمَةً،
تُحَذِّرُ وَلَدَهَا، ثُمَّ طَعَنَ فِي لَبَّتِهَا فَنَحَرَهَا، وَانْطَلَقَ
سَقْبُهَا، وَهُوَ فَصِيلُهَا فَصَعِدَ جَبَلًا مَنِيعًا، وَرَغَا ثَلَاثًا.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَمَّنْ سَمِعَ
الْحَسَنَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أُمِّي، ثُمَّ دَخَلَ فِي صَخْرَةٍ
فَغَابَ فِيهَا، وَيُقَالُ: بَلِ اتَّبَعُوهُ فَعَقَرُوهُ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي
وَنُذُرِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا. أَيِ احْذَرُوهَا فَكَذَّبُوهُ
فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا
يَخَافُ عُقْبَاهَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا
هِشَامٌ هُوَ ابْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ
قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ
النَّاقَةَ، وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ: إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا
انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ مِثْلُ أَبِي
زَمْعَةَ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ بِهِ. عَارِمٌ أَيْ شَهْمٌ عَزِيزٌ
أَيْ رَئِيسٌ مَنِيعٌ أَيْ مُطَاعٌ فِي قَوْمِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
خُثَيْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ أَبِي
يَزِيدَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: أَلَا أُحَدِّثُكَ بِأَشْقَى النَّاسِ. قَالَ:
بَلَى. قَالَ:
ج2.=
ج2.البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذَا - يَعْنِي قَرْنَهُ - حَتَّى تَبْتَلَّ مِنْهُ هَذِهِ. يَعْنِي لِحْيَتَهُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ تَعَالَى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ الْأَعْرَافِ: 77 ]. فَجَمَعُوا فِي كَلَامِهِمْ هَذَا بَيْنَ كُفْرٍ بَلِيغٍ مِنْ وُجُوهٍ؛ مِنْهَا أَنَّهُمْ خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي ارْتِكَابِهِمُ النَّهْيَ الْأَكِيدَ فِي عَقْرِ النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ آيَةً، وَمِنْهَا أَنَّهُمُ اسْتَعْجَلُوا وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَاسْتَحَقُّوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: الشَّرْطُ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ. وَفِي آيَةٍ " عَظِيمٌ ". وَفِي الْأُخْرَى " أَلِيمٌ ". وَالْكُلُّ حَقٌّ. وَالثَّانِي: اسْتِعْجَالُهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ الَّذِي قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ عِلْمًا جَازِمًا، وَلَكِنْ حَمَلَهُمُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ وَالْعِنَادُ عَلَى اسْتِبْعَادِ الْحَقِّ، وَوُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَطَا عَلَيْهَا قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَعَرْقَبَهَا فَسَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ ابْتَدَرُوهَا بِأَسْيَافِهِمْ يُقَطِّعُونَهَا، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ سَقْبُهَا، وَهُوَ وَلَدُهَا شَرَدَ عَنْهُمْ فَعَلَا أَعْلَى الْجَبَلِ هُنَاكَ، وَرَغَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ فَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. أَيْ غَيْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ أَيْضًا فِي هَذَا الْوَعْدِ الْأَكِيدِ، بَلْ لَمَّا أَمْسَوْا هَمُّوا بِقَتْلِهِ، وَأَرَادُوا فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنْ يُلْحِقُوهُ بِالنَّاقَةِ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ. أَيْ لَنَكْبِسَنَّهُ فِي دَارِهِ مَعَ أَهْلِهِ فَلَنَقْتُلَنَّهُ، ثُمَّ نَجْحَدَنَّ قَتْلَهُ، وَنُنْكِرَنَّ ذَلِكَ إِنْ طَالَبَنَا أَوْلِيَاؤُهُ بِدَمِهِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ الَّذِينَ قَصَدُوا قَتْلَ صَالِحٍ حِجَارَةً رَضَخَتْهُمْ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا قَبْلَ قَوْمِهِمْ، وَأَصْبَحَتْ ثَمُودُ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَيَّامِ النَّظِرَةِ، وَوُجُوهُهُمْ مُصْفَرَّةٌ، كَمَا أَنْذَرَهُمْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: أَلَا قَدْ مَضَى يَوْمٌ مِنَ الْأَجَلِ، ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّأْجِيلِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَوُجُوهُهُمْ مُحْمَرَّةٌ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا: أَلَا قَدْ مَضَى يَوْمَانِ مِنَ الْأَجَلِ، ثُمَّ أَصْبَحُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ الْمَتَاعِ، وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَوُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ، فَلَمَّا أَمْسَوْا نَادَوْا: أَلَا قَدْ مَضَى الْأَجَلُ، فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الْأَحَدِ تَحَنَّطُوا وَتَأَهَّبُوا، وَقَعَدُوا يَنْظُرُونَ مَاذَا يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالنِّقْمَةِ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يُفْعَلُ بِهِمْ، وَلَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ، فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَرَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَفَاضَتِ الْأَرْوَاحُ وَزَهَقَتِ النُّفُوسُ، وَسَكَنَتِ الْحَرَكَاتُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَحُقَّتِ الْحَقَائِقُ، فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ جُثَثًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا، وَلَا حِرَاكَ بِهَا قَالُوا: وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا جَارِيَةٌ كَانَتْ مُقْعَدَةً، وَاسْمُهَا: كَلْبَةُ بِنْتُ السَّلْقِ، وَيُقَالُ لَهَا: الزُّرَيْعَةُ. وَكَانَتْ شَدِيدَةَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِصَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا رَأَتِ الْعَذَابَ أُطْلِقَتْ رِجْلَاهَا، فَقَامَتْ تَسْعَى كَأَسْرَعِ شَيْءٍ فَأَتَتْ حَيًّا مِنَ
الْعَرَبِ
فَأَخْبَرَتْهُمْ بِمَا رَأَتْ وَمَا حَلَّ بِقَوْمِهَا، وَاسْتَسْقَتْهُمْ مَاءً،
فَلَمَّا شَرِبَتْ مَاتَتْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا
فِيهَا. أَيْ لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا فِي سَعَةٍ، وَرِزْقٍ، وَغَنَاءٍ: أَلَا إِنَّ
ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ. أَيْ نَادَى عَلَيْهِمْ
لِسَانُ الْقَدَرِ بِهَذَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ،
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ قَالَ: لَا تَسْأَلُوا الْآيَاتِ فَقَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ
صَالِحٍ فَكَانَتْ يَعْنِي النَّاقَةَ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ
مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَعَقَرُوهَا، وَكَانَتْ
تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمًا، وَيَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا، فَعَقَرُوهَا،
فَأَخَذَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَهْمَدَ اللَّهُ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ
إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ. فَقَالُوا: مَنْ هُوَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: هُوَ أَبُو رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ
أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ،
وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا قَالَ: مَعْمَرٌ أَخْبَرَنِي
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّ بِقَبْرِ أَبِي رِغَالٍ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا:
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ رَجُلٍ مِنْ
ثَمُودَ كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ عَذَابَ اللَّهِ،
فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ، فَدُفِنَ هَاهُنَا وَدُفِنَ
مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَنَزَلَ الْقَوْمُ فَابْتَدَرُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ
فَبَحَثُوا عَنْهُ،
فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَبُو رِغَالٍ أَبُو ثَقِيفٍ. هَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ جَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُتَّصِلًا، كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ بُجَيْرِ بْنِ أَبِي بُجَيْرٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: حِينَ خَرَجْنَا مَعَهُ إِلَى الطَّائِفِ فَمَرَرْنَا بِقَبْرٍ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ، وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ، وَكَانَ مِنْ ثَمُودَ، وَكَانَ بِهَذَا الْحَرَمِ يَدْفَعُ عَنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْهُ أَصَابَتْهُ النِّقْمَةُ الَّتِي أَصَابَتْ قَوْمَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ فَدُفِنَ فِيهِ، وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ، إِنْ أَنْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ. فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ الْغُصْنَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَزِيزٌ. قُلْتُ: تَفَرَّدَ بِهِ بُجَيْرُ بْنُ أَبِي بُجَيْرٍ هَذَا، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ. قَالَ شَيْخُنَا: فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَهِمَ فِي رَفْعِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ زَامِلَتَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: لَكِنْ فِي الْمُرْسَلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَيْضًا شَاهِدٌ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ
تَعَالَى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ
رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ.
إِخْبَارٌ عَنْ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ خَاطَبَ قَوْمَهُ بَعْدَ
هَلَاكِهِمْ، وَقَدْ أَخَذَ فِي الذَّهَابِ عَنْ مَحِلَّتِهِمْ إِلَى غَيْرِهَا
قَائِلًا لَهُمْ: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ
لَكُمْ. أَيْ جَهَدْتُ فِي هِدَايَتِكُمْ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَنِي، وَحَرَصْتُ
عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِي وَفِعْلِي وَنِيَّتِي وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ
النَّاصِحِينَ. أَيْ لَمْ تَكُنْ سَجَايَاكُمْ تَقْبَلُ الْحَقَّ وَلَا تُرِيدُهُ،
فَلِهَذَا صِرْتُمْ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ
الْمُسْتَمِرِّ بِكُمُ الْمُتَّصِلِ إِلَى الْأَبَدِ، وَلَيْسَ لِي فِيكُمْ
حِيلَةٌ، وَلَا لِي بِالدَّفْعِ عَنْكُمْ يَدَانِ، وَالَّذِي وَجَبَ عَلَيَّ مِنْ
أَدَاءِ الرِّسَالَةِ وَالنُّصْحِ لَكُمْ قَدْ فَعَلْتُهُ وَبَذَلْتُهُ لَكُمْ،
وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. وَهَكَذَا خَاطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَقَفَ
عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَأَمَرَ بِالرَّحِيلِ مِنْ آخِرِ
اللَّيْلِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ
رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. وَقَالَ
لَهُمْ فِيمَا قَالَ: بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ
كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ،
وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، فَبِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ
لِنَبِيِّكُمْ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخَاطِبُ أَقْوَامًا
قَدْ جَيَّفُوا. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ
لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُجِيبُونَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي
مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ
انْتَقَلَ إِلَى حَرَمِ اللَّهِ فَأَقَامَ بِهِ حَتَّى مَاتَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا زَمْعَةُ بْنُ
صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي عُسْفَانَ حِينَ حَجَّ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَيُّ وَادٍ هَذَا ؟. قَالَ: وَادِي عُسْفَانَ. قَالَ: لَقَدْ مَرَّ بِهِ هُودٌ، وَصَالِحٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَلَى بَكَرَاتٍ حُمْرٍ خُطُمُهَا اللِّيفُ، أُزُرُهُمُ الْعَبَاءُ، وَأَرْدِيَتُهُمُ النِّمَارُ، يُلَبُّونَ يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ، وَفِيهِ نُوحٌ، وَهُودٌ، وَإِبْرَاهِيمُ.
ذِكْرُ مُرُورِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْحِجْرِ مِنْ أَرْضِ
ثَمُودَ عَامَ تَبُوكَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ
جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ عَلَى تَبُوكَ نَزَلَ
بِهِمُ الْحِجْرَ عِنْدَ بُيُوتِ ثَمُودَ، فَاسْتَقَى النَّاسُ مِنَ الْآبَارِ
الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا ثَمُودُ، فَعَجَنُوا مِنْهَا وَنَصَبُوا
الْقُدُورَ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ فَأَهْرَاقُوا الْقُدُورَ، وَعَلَفُوا
الْعَجِينَ الْإِبِلَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ عَلَى
الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَشْرَبُ مِنْهَا النَّاقَةُ، وَنَهَاهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوا عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ عُذِّبُوا، وَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ
يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ بِالْحِجْرِ: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ
تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ
أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ
غَيْرِ وَجْهٍ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا
مَرَّ بِمَنَازِلِهِمْ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ رَاحِلَتَهُ، وَنَهَى عَنْ
دُخُولِ مَنَازِلِهِمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنْ
لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ.
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَوْسَطَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ، وَاسْمُهُ: عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ، وَيُقَالُ: عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَسَارَعَ
النَّاسُ إِلَى أَهْلِ الْحِجْرِ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ
جَامِعَةٌ. قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَهُوَ مُمْسِكٌ بَعِيرَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا تَدْخُلُونَ عَلَى قَوْمٍ غَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ ؟ فَنَادَاهُ رَجُلٌ: نَعْجَبُ مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ ؟ رَجُلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا وَسَدِّدُوا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَعْبَأُ بِعَذَابِكُمْ شَيْئًا،
وَسَيَأْتِي قَوْمٌ لَا يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِشَيْءٍ. إِسْنَادٌ
حَسَنٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْمَ صَالِحٍ كَانَتْ أَعْمَارُهُمْ طَوِيلَةً، فَكَانُوا
يَبْنُونَ الْبُيُوتَ مِنَ الْمَدَرِ فَتَخْرَبُ قَبْلَ مَوْتِ الْوَاحِدِ
مِنْهُمْ، فَنَحَتُوا لَهُمْ بُيُوتًا فِي الْجِبَالِ، وَذَكَرُوا أَنَّ صَالِحًا
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا سَأَلُوهُ آيَةً، فَأَخْرَجَ اللَّهُ لَهُمُ
النَّاقَةَ مِنَ الصَّخْرَةِ أَمَرَهُمْ بِهَا وَبِالْوَلَدِ الَّذِي كَانَ فِي
جَوْفِهَا، وَحَذَّرَهُمْ بَأْسَ اللَّهِ إِنْ هُمْ نَالُوهَا بِسُوءٍ،
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ سَيَعْقِرُونَهَا، وَيَكُونُ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ ذَلِكَ،
وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَةَ عَاقِرِهَا، وَأَنَّهُ أَحْمَرُ أَزْرَقُ أَصْهَبُ،
فَبَعَثُوا الْقَوَابِلَ فِي الْبَلَدِ مَتَى وَجَدُوا مَوْلُودًا بِهَذِهِ
الصِّفَةِ يَقْتُلْنَهُ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَانْقَرَضَ
جِيلٌ وَأَتَى جِيلٌ آخَرُ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ خَطَبَ
رَئِيسٌ
مِنْ رُؤَسَائِهِمْ عَلَى ابْنِهِ بِنْتَ آخَرَ مِثْلِهِ فِي الرِّيَاسَةِ، فَزَوَّجَهُ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَهُوَ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، فَلَمْ تَتَمَكَّنِ الْقَوَابِلُ مِنْ قَتْلِهِ لِشَرَفِ أَبَوَيْهِ وَجَدَّيْهِ فِيهِمْ، فَنَشَأَ نَشْأَةً سَرِيعَةً فَكَانَ يَشِبُّ فِي الْجُمُعَةِ، كَمَا يَشِبُّ غَيْرُهُ فِي شَهْرٍ، حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ خَرَجَ مُطَاعًا فِيهِمْ رَئِيسًا بَيْنَهُمْ، فَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ عَقْرَ النَّاقَةِ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَهُمُ التِّسْعَةُ الَّذِينَ أَرَادُوا قَتْلَ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا وَقَعَ مِنْ عَقْرِ النَّاقَةِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَهُمْ بَاكِيًا عَلَيْهَا فَتَلَقَّوْهُ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ عَنْ مَلَأٍ مِنَّا، وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثُ فِينَا، فَيُقَالُ إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِاسْتِدْرَاكِ سَقْبِهَا حَتَّى يُحْسِنُوا إِلَيْهِ عِوَضًا عَنْهَا، فَذَهَبُوا وَرَاءَهُ فَصَعِدَ جَبَلًا هُنَاكَ، فَلَمَّا تَصَاعَدُوا فِيهِ وَرَاءَهُ تَعَالَى الْجَبَلُ حَتَّى ارْتَفَعَ فَلَا يَنَالُهُ الطَّيْرُ، وَبَكَى الْفَصِيلُ حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَغَا ثَلَاثًا فَعِنْدَهَا قَالَ صَالِحٌ: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يُصْبِحُونَ مِنْ غَدِهِمْ صُفْرًا، ثُمَّ تَحْمَرُّ وُجُوهُهُمْ فِي الثَّانِي، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَتَتْهُمُ صَيْحَةٌ فِيهَا صَوْتُ كُلِّ صَاعِقَةٍ فَأَخْمَدَتْهُمْ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وَفِي بَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ نَظَرٌ وَمُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِهِمْ وَقِصَّتِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قِصَّةُ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَخَ " 250 " بْنِ نَاحُورَ " 148
" بْنِ سَارُوغَ " 230 " بْنِ رَاغُوَ " 239 " بْنِ فَالَغَ
" 439 " بْنِ عَابَرَ " 464 " بْنِ شَالَخَ " 433 "
بْنِ أَرْفَخْشَدَ " 438 " بْنِ سَامِ " 600 " بْنِ نُوحٍ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. هَذَا نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ، وَقَدْ
أَعْلَمْتُ عَلَى أَعْمَارِهِمْ تَحْتَ أَسْمَائِهِمْ بِالْهِنْدِيِّ، كَمَا
ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُدَدِ، وَقَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى عُمُرِ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِنْ
تَارِيخِهِ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ الْكَاهِلِيِّ صَاحِبِ كِتَابِ
الْمُبْتَدَأِ أَنَّ اسْمَ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ أُمَيْلَةُ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَنْهُ
فِي خَبَرِ وِلَادَتِهَا لَهُ حِكَايَةً طَوِيلَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
اسْمُهَا نُونَا بِنْتُ كَرَنْبَا بْنِ كُوثَى مِنْ بَنِي أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ
بْنِ نُوحٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ:
كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكْنَى أَبَا الضِّيفَانِ قَالُوا:
وَلَمَّا كَانَ عُمُرُ تَارَخَ خَمْسًا
وَسَبْعِينَ سَنَةً وُلِدَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَاحُورُ، وَهَارَانُ، وَوُلِدَ لِهَارَانَ لُوطٌ. وَعِنْدَهُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْأَوْسَطُ، وَأَنَّ هَارَانَ مَاتَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا، وَهِيَ أَرْضُ الْكَلْدَانِيِّينَ يَعْنُونَ أَرْضَ بَابِلَ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْأَخْبَارِ، وَصَحَّحَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بَعْدَمَا رَوَى مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ بِغُوطَةِ دِمَشْقَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: بَرْزَةُ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: قَاسِيُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَابِلَ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِ هَذَا الْمَقَامُ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى فِيهِ إِذْ جَاءَ مُعِينًا لِلُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: فَتَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وَنَاحُورُ مَلْكَا ابْنَةَ هَارَانَ، يَعْنُونَ بِابْنَةِ أَخِيهِ. قَالُوا: وَكَانَتْ سَارَةُ عَاقِرًا لَا تَلِدُ. قَالُوا: وَانْطَلَقَ تَارَخُ بِابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ، وَامْرَأَتِهِ سَارَةَ، وَابْنِ أَخِيهِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ، فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ أَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ إِلَى أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ، فَنَزَلُوا حَرَّانَ، فَمَاتَ فِيهَا تَارَخُ وَلَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ بِحَرَّانَ، وَإِنَّمَا مَوْلِدُهُ بِأَرْضِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَهِيَ أَرْضُ بَابِلَ وَمَا وَالَاهَا. ثُمَّ ارْتَحَلُوا قَاصِدِينَ أَرْضَ الْكَنْعَانِيِّينَ، وَهِيَ بِلَادُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَقَامُوا بِحَرَّانَ، وَهِيَ أَرْضُ الْكَشْدَانِيِّينَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ أَرْضُ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ أَيْضًا، وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ، وَالَّذِينَ عَمَّرُوا مَدِينَةَ دِمَشْقَ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ يَسْتَقْبِلُونَ الْقُطْبَ الشَّمَالِيَّ، وَيَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْفَعَالِ وَالْمَقَالِ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ السَّبْعَةِ
الْقَدِيمَةِ هَيْكَلٌ لِكَوْكَبٍ مِنْهَا، وَيَعْمَلُونَ لَهَا أَعْيَادًا وَقَرَابِينَ. وَهَكَذَا كَانَ أَهْلُ حَرَّانَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَانُوا كُفَّارًا سِوَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَامْرَأَتِهِ، وَابْنِ أَخِيهِ لُوطٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَكَانَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي أَزَالَ اللَّهُ بِهِ تِلْكَ الشُّرُورَ، وَأَبْطَلَ بِهِ ذَاكَ الضَّلَالَ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى آتَاهُ رُشْدَهُ فِي صِغَرِهِ، وَابْتَعَثَهُ رَسُولًا، وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا فِي كِبَرِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 51 ]. أَيْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أَوَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 16 - 27 ]
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مُنَاظَرَتَهُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ أَوَّلُ دَعْوَتِهِ لِأَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ النَّاسِ بِإِخْلَاصِ النَّصِيحَةِ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [ مَرْيَمَ: 41 - 48 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ وَالْمُجَادَلَةِ، وَكَيْفَ دَعَا أَبَاهُ إِلَى الْحَقِّ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ وَأَحْسَنِ إِشَارَةٍ، بَيَّنَ لَهُ بُطْلَانَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ دُعَاءَ عَابِدِهَا وَلَا تُبْصِرُ مَكَانَهُ، كَيْفَ تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا أَوْ تَفْعَلُ بِهِ خَيْرًا مِنْ رِزْقٍ أَوْ نَصْرٍ ؟
ثُمَّ قَالَ
مُنَبِّهًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ النَّافِعِ،
وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْ أَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ
الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا. أَيْ
مُسْتَقِيمًا وَاضِحًا سَهْلًا حَنِيفًا، يُفْضِي بِكَ إِلَى الْخَيْرِ فِي
دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ، فَلَمَّا عَرَضَ هَذَا الرُّشْدَ عَلَيْهِ، وَأَهْدَى
هَذِهِ النَّصِيحَةَ إِلَيْهِ لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ، وَلَا أَخَذَهَا عَنْهُ
بَلْ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا
إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ. قِيلَ: بِالْمَقَالِ.
وَقِيلَ: بِالْفَعَالِ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أَيْ وَاقْطَعْنِي وَأَطِلْ
هِجْرَانِي فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيْ لَا
يَصِلُكَ مِنِّي مَكْرُوهٌ، وَلَا يَنَالُكَ مِنِّي أَذًى، بَلْ أَنْتَ سَالِمٌ
مِنْ نَاحِيَتِي، وَزَادَهُ خَيْرًا فَقَالَ: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ
كَانَ بِي حَفِيًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَيْ لَطِيفًا. يَعْنِي فِي
أَنْ هَدَانِي لِعِبَادَتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ
بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا. وَقَدِ اسْتَغْفَرَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، كَمَا وَعَدَهُ فِي أَدْعِيَتِهِ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ
عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ
اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ التَّوْبَةِ: 114 ].
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي
أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ
قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ. فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا
تَعْصِنِي. فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ
لَا أَعْصِيكَ.
فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ
يُبْعَثُونَ، وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ. فَيَقُولُ اللَّهُ:
إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا
إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ، فَيَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخٍ
فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ. هَكَذَا رَوَاهُ فِي قِصَّةِ
إِبْرَاهِيمَ مُنْفَرِدًا.
وَقَالَ فِي التَّفْسِيرِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. وَفِي سِيَاقِهِ غَرَابَةٌ. وَرَوَاهُ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ
أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. هَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ آزَرُ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ النَّسَبِ
مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ تَارَحُ. وَأَهْلُ الْكِتَابِ
يَقُولُونَ: تَارَخُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. فَقِيلَ: إِنَّهُ لُقِّبَ بِصَنَمٍ
كَانَ يَعْبُدُهُ اسْمُهُ آزَرُ.
وَقَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ اسْمَهُ آزَرُ، وَلَعَلَّ لَهُ اسْمَانِ عَلَمَانِ
أَوْ أَحَدُهُمَا لَقَبٌ، وَالْآخَرُ عَلَمٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى
كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ
لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا
رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ
قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ
لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ
هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا
وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ
أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا
إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ الْأَنْعَامِ: 75 - 83 ]. وَهَذَا الْمَقَامُ مَقَامُ
مُنَاظَرَةٍ لِقَوْمِهِ، وَبَيَانٌ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَجْرَامَ
الْمُشَاهَدَةَ مِنَ الْكَوَاكِبِ النَّيِّرَةِ لَا تَصْلُحُ لِلْأُلُوهِيَّةِ،
وَلَا أَنْ تُعْبَدَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ
مَرْبُوبَةٌ مَصْنُوعَةٌ مُدَبَّرَةٌ مُسَخَّرَةٌ تَطْلُعُ تَارَةً وَتَأْفُلُ
أُخْرَى، فَتَغِيبُ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَغِيبُ
عَنْهُ شَيْءٌ. وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ
، بَلْ هُوَ
الدَّائِمُ الْبَاقِي بِلَا زَوَالٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ
فَبَيَّنَ لَهُمْ أَوَّلًا عَدَمَ صَلَاحِيَةِ الْكَوْكَبِ - قِيلَ: هُوَ
الزُّهَرَةُ - لِذَلِكَ تَرَقَّى مِنْهَا إِلَى الْقَمَرِ الَّذِي هُوَ أَضْوَأُ
مِنْهَا وَأَبْهَى مِنْ حُسْنِهَا، ثُمَّ تَرَقَّى إِلَى الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ
أَشَدُّ الْأَجْرَامِ الْمُشَاهَدَةِ ضِيَاءً وَسَنَاءً وَبَهَاءً، فَبَيَّنَ
أَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ مُسَيَّرَةٌ مُقَدَّرَةٌ مَرْبُوبَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا
لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [ فُصِّلَتْ: 37 ]. وَلِهَذَا قَالَ: فَلَمَّا
رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً. أَيْ طَالِعَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ
وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي
شَيْئًا. أَيْ لَسْتُ أُبَالِي فِي هَذِهِ الْآلِهَةِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا مِنْ
دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تَعْقِلُ،
بَلْ هِيَ مَرْبُوبَةٌ مُسَخَّرَةٌ كَالْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا، أَوْ مَصْنُوعَةٌ
مَنْحُوتَةٌ مَنْجُورَةٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَوْعِظَتَهُ هَذِهِ فِي الْكَوَاكِبِ لِأَهْلِ حَرَّانَ
فَإِنَّهُمْ كَانَ يَعْبُدُونَهَا، وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ
قَالَ هَذَا حِينَ خَرَجَ مِنَ السَّرَبِ لَمَّا كَانَ صَغِيرًا، كَمَا ذَكَرَهُ
ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَخْبَارٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ
لَا يُوثَقُ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا خَالَفَتِ الْحَقَّ، وَأَمَّا أَهْلُ
بَابِلَ فَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، وَهُمُ الَّذِينَ نَاظَرَهُمْ فِي
عِبَادَتِهَا، وَكَسَرَهَا عَلَيْهِمْ وَأَهَانَهَا وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا
مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 51 - 70 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 69 - 83 ].
وَقَالَ تَعَالَى
فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ
رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا
تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي
الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [
الصَّافَّاتِ: 83 - 98 ].
يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى قَوْمِهِ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَحَقَّرَهَا
عِنْدَهُمْ، وَصَغَّرَهَا، وَتَنَقَّصَهَا فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ
الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ. أَيْ مُعْتَكِفُونَ عِنْدَهَا وَخَاضِعُونَ
لَهَا قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ. مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ
إِلَّا صَنِيعُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ
الْأَنْدَادِ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ
الْعَالَمِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِكُمْ
إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ. وَقَالَ لَهُمْ: هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا
بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ. سَلَّمُوا
لَهُ أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ دَاعِيًا وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ شَيْئًا، وَإِنَّمَا الْحَامِلُ لَهُمْ عَلَى عِبَادَتِهَا الِاقْتِدَاءُ بِأَسْلَافِهِمْ، وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الضَّلَالِ مِنَ الْآبَاءِ الْجُهَّالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَهَذَا بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهَا وَتَنَقَّصَ بِهَا، فَلَوْ كَانَتْ تَضُرُّ لَضَرَّتْهُ أَوْ تُؤَثِّرُ لَأَثَّرَتْ فِيهِ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ. يَقُولُونَ: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَقُولُهُ لَنَا، وَتَنْتَقِصُ بِهِ آلِهَتَنَا، وَتَطْعَنُ بِسَبَبِهِ فِي آبَائِنَا تَقُولُهُ مُحِقًّا جَادًّا فِيهِ أَمْ لَاعِبًا قَالَ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. يَعْنِي: بَلْ أَقُولُ لَكُمْ ذَلِكَ جَادًّا مُحِقًّا، وَإِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّكُمْ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْخَالِقُ لَهُمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ، فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَقَوْلُهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. أَقْسَمَ لَيَكِيدَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا بَعْدَ أَنْ تَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ إِلَى عِيدِهِمْ. قِيلَ: إِنَّهُ قَالَ هَذَا خُفْيَةً فِي نَفْسِهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ. وَكَانَ لَهُمْ عِيدٌ يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فَدَعَاهُ أَبُوهُ لِيَحْضُرَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ. عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ حَتَّى تَوَصَّلَ إِلَى مَقْصُودِهِ مِنْ إِهَانَةِ أَصْنَامِهِمْ، وَنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ الْحَقِّ فِي بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَسْتَحِقُّ أَنْ تُكَسَّرَ، وَأَنْ تُهَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ هُوَ فِي بَلَدِهِمْ فرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ. أَيْ ذَهَبَ إِلَيْهَا مُسْرِعًا مُسْتَخْفِيًا
فَوَجَدَهَا فِي
بَهْوٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ وَضَعُوا بَيْنَ أَيْدِيَهَا أَنْوَاعًا مِنَ
الْأَطْعِمَةِ قُرْبَانًا إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ
وَالِازْدِرَاءِ: أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ
عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهَا أَقْوَى وَأَبْطَشُ وَأَسْرَعُ
وَأَقْهَرُ، فَكَسَّرَهَا بِقَدُومٍ فِي يَدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا أَيْ حُطَامًا كَسَّرَهَا كُلَّهَا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ
لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ. قِيلَ: إِنَّهُ وَضَعَ الْقَدُومَ فِي يَدِ
الْكَبِيرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ غَارَ أَنْ تُعْبَدَ مَعَهُ هَذِهِ
الصِّغَارُ، فَلَمَّا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ، وَوَجَدُوا مَا حَلَّ
بِمَعْبُودِهِمْ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ
الظَّالِمِينَ.
وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْقِلُونَ، وَهُوَ مَا حَلَّ
بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَلَوْ كَانَتْ آلِهَةً لَدَفَعَتْ
عَنْ أَنْفُسِهَا مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ لَكِنَّهُمْ قَالُوا مِنْ جَهْلِهِمْ،
وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، وَكَثْرَةِ ضَلَالِهِمْ، وَخَبَالِهِمْ: مَنْ فَعَلَ هَذَا
بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ
يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ. أَيْ يَذْكُرُهَا بِالْعَيْبِ، وَالتَّنَقُّصِ لَهَا،
وَالِازْدِرَاءِ بِهَا فَهُوَ الْمُقِيمُ عَلَيْهَا، وَالْكَاسِرُ لَهَا، وَعَلَى
قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ. قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى
أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ. أَيْ فِي الْمَلَأِ الْأَكْبَرِ عَلَى
رُءُوسِ الْأَشْهَادِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ مَقَالَتَهُ، وَيَسْمَعُونَ
كَلَامَهُ، وَيُعَايِنُونَ مَا يَحِلُّ بِهِ مِنَ الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ، وَكَانَ
هَذَا أَكْبَرَ مَقَاصِدِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَجْتَمِعَ
النَّاسُ كُلُّهُمْ فَيُقِيمَ عَلَى جَمِيعِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ الْحُجَّةَ
عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِفِرْعَوْنَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَجَاءُوا بِهِ. كَمَا ذَكَرُوا: قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. قِيلَ: مَعْنَاهُ هُوَ الْحَامِلُ لِي عَلَى تَكْسِيرِهَا، وَإِنَّمَا عَرَّضَ لَهُمْ فِي الْقَوْلِ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ. وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى الْقَوْلِ أَنَّ هَذِهِ لَا تَنْطِقُ فَيَعْتَرِفُوا بِأَنَّهَا جَمَادٌ كَسَائِرِ الْجَمَادَاتِ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. أَيْ فَعَادُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمَلَامَةِ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. أَيْ فِي تَرْكِهَا لَا حَافِظَ لَهَا، وَلَا حَارِسَ عِنْدَهَا ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْفِتْنَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ. أَيْ فِي عِبَادَتِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ أَدْرَكَتِ الْقَوْمَ حَيْرَةُ سَوْءٍ أَيْ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ. أَيْ لَقَدْ عَلِمْتَ يَا إِبْرَاهِيمُ أَنَّ هَذِهِ لَا تَنْطِقُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا بِسُؤَالِهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. كَمَا قَالَ: فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْرِعُونَ. قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ. أَيْ كَيْفَ تَعْبُدُونَ أَصْنَامًا أَنْتُمْ تَنْحِتُونَهَا مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ، وَتُصَوِّرُونَهَا وَتُشَكِّلُونَهَا كَمَا تُرِيدُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ؟ وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَا مَصْدَرِيَّةً أَوْ بِمَعْنَى الَّذِي فَمُقْتَضَى الْكَلَامِ أَنَّكُمْ مَخْلُوقُونَ وَهَذِهِ الْأَصْنَامَ مَخْلُوقَةٌ، فَكَيْفَ يَعْبُدُ مَخْلُوقٌ مَخْلُوقًا مِثْلَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِبَادَتُكُمْ
لَهَا بِأَوْلَى مِنْ عِبَادَتِهَا لَكُمْ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَالْآخَرُ بَاطِلٌ لِلتَّحَكُّمِ؛ إِذْ لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ تَصْلُحُ وَلَا تَجِبُ إِلَّا لِلْخَالِقِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ. عَدَلُوا عَنِ الْجِدَالِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَمَّا انْقَطَعُوا وَغُلِبُوا، وَلَمْ تَبْقَ لَهُمْ حَجَّةٌ وَلَا شُبْهَةٌ، إِلَى اسْتِعْمَالِ قُوَّتِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، لِيَنْصُرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ سَفَهِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَكَادَهُمُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ، وَأَعْلَى كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ وَبُرْهَانَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَرَعُوا يَجْمَعُونَ حَطَبًا مِنْ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَمَكَثُوا مُدَّةً يَجْمَعُونَ لَهُ حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْهُمْ كَانَتْ إِذَا مَرِضَتْ تَنْذِرُ لَئِنْ عُوفِيَتْ لَتَحْمِلَنَّ حَطَبًا لِحَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى جَوْبَةٍ عَظِيمَةٍ فَوَضَعُوا فِيهَا ذَلِكَ الْحَطَبَ، وَأَطْلَقُوا فِيهِ النَّارَ فَاضْطَرَمَتْ وَتَأَجَّجَتْ وَالْتَهَبَتْ، وَعَلَاهَا شَرَرٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ قَطُّ، ثُمَّ وَضَعُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ مَنْجَنِيقٍ صَنَعَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْأَكْرَادِ يُقَالُ لَهُ هِيزَنُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَنَعَ الْمَجَانِيقَ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَخَذُوا يُقَيِّدُونَهُ وَيُكَتِّفُونَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ. فَلَمَّا وُضِعَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِفَّةِ الْمَنْجَنِيقِ مُقَيَّدًا مَكْتُوفًا، ثُمَّ أَلْقَوْهُ
مِنْهُ إِلَى
النَّارِ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. كَمَا رَوَى
الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ. قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا
مُحَمَّدٌ حِينَ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [ آلِ
عِمْرَانَ: 173 - 174 ]. الْآيَةَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ فِي السَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَأَنَا فِي الْأَرْضِ وَاحِدٌ
أَعْبُدُكَ.
وَذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لَهُ فِي الْهَوَاءِ فَقَالَ:
أَلَكَ حَاجَةٌ ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: جَعَلَ مَلَكُ الْمَطَرِ يَقُولُ: مَتَى
أُومَرُ فَأُرْسِلَ الْمَطَرَ ؟ فَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ أَسْرَعَ قُلْنَا يَا
نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ أَيْ لَا تَضُرِّيهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو الْعَالِيَةِ:
لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَأَذَى إِبْرَاهِيمَ
بَرْدُهَا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَمْ يَنْتَفِعْ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ
بِنَارٍ، وَلَمْ يُحْرَقْ مِنْهُ سِوَى وَثَاقِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُرْوَى
أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَعَهُ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ
وَجْهِهِ لَمْ يُصِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ غَيْرُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ
مَعَهُ أَيْضًا مَلَكُ الظِّلِّ. وَصَارَ إِبْرَاهِيمُ
عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي مِثْلِ الْجُونَةِ حَوْلَهُ النَّارُ، وَهُوَ فِي رَوْضَةٍ
خَضْرَاءَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْوُصُولِ
إِلَيْهِ، وَلَا هُوَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ:
أَحْسَنُ كَلِمَةٍ قَالَهَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لَمَّا رَأَى وَلَدَهُ
عَلَى تِلْكَ الْحَالِ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ يَا إِبْرَاهِيمُ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ نَظَرَتْ
إِلَى ابْنِهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَتْهُ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
أَجِيءَ إِلَيْكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنَجِّيَنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ
حَوْلَكَ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَقْبَلَتْ إِلَيْهِ لَا يَمَسُّهَا شَيْءٌ مِنْ
حَرِّ النَّارِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ اعْتَنَقَتْهُ، وَقَبَّلَتْهُ، ثُمَّ
عَادَتْ. وَعَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ مَكَثَ هُنَاكَ إِمَّا أَرْبَعِينَ، وَإِمَّا خَمْسِينَ يَوْمًا،
وَأَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ أَطْيَبَ عَيْشًا إِذْ كُنْتُ فِيهَا،
وَوَدِدْتُ أَنَّ عَيْشِي وَحَيَاتِي كُلَّهَا مِثْلُ إِذْ كُنْتُ فِيهَا.
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
فَأَرَادُوا أَنْ يَنْتَصِرُوا فَخُذِلُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِعُوا
فَاتَّضَعُوا، وَأَرَادُوا أَنْ يَغْلِبُوا فَغُلِبُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ. وَفِي الْآيَةِ
الْأُخْرَى: الْأَسْفَلِينَ فَفَازُوا بِالْخَسَارَةِ وَالسَّفَالِ هَذَا فِي
الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ نَارَهُمْ لَا تَكُونُ عَلَيْهِمْ
بَرْدًا وَلَا سَلَامًا، وَلَا يُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَلَا سَلَامًا، بَلْ
هِيَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَوِ ابْنُ
سَلَّامٍ عَنْهُ،
أَنْبَأَنَا ابْنُ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ. وَقَالَ كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَأَخْرَجَاهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ
مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ بِهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ أَنَّ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ
عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اقْتُلُوا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ
عَلَى إِبْرَاهِيمَ النَّارَ. قَالَ: فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقْتُلُهُنَّ. وَقَالَ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ
امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ، فَإِذَا رُمْحٌ مَنْصُوبٌ فَقَالَتْ: مَا
هَذَا الرُّمْحُ؟ فَقَالَتْ: نَقْتُلُ بِهِ الْأَوْزَاغَ، ثُمَّ حَدَّثَتْ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا
أُلْقِيَ فِي النَّارِ جَعَلَتِ الدَّوَابُّ كُلُّهَا تُطْفِئُ عَنْهُ إِلَّا
الْوَزَغَ فَإِنَّهُ جَعَلَ يَنْفُخُهَا عَلَيْهِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ
حَدَّثَتْنِي سَائِبَةُ مَوْلَاةُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَتْ دَخَلْتُ
عَلَى عَائِشَةَ
فَرَأَيْتُ فِي بَيْتِهَا رُمْحًا مَوْضُوعًا فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَصْنَعِينَ بِهَذَا الرُّمْحِ ؟ قَالَتْ: هَذَا لِهَذِهِ الْأَوْزَاغِ نَقْتُلُهُنَّ بِهِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَنَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَكُنْ فِي الْأَرْضِ دَابَّةٌ إِلَّا تُطْفِئُ عَنْهُ النَّارَ غَيْرَ الْوَزَغِ كَانَ يَنْفُخُ عَلَيْهِ. فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِهِ.
ذِكْرُ مُنَاظَرَةِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مَعَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنَازِعَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ
فِي إِزَارِ الْعَظَمَةِ وَرِدَاءِ الْكِبْرِيَاءِ فَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ
وَهُوَ أَحَدُ الْعَبِيدِ الضُّعَفَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ
اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. [
الْبَقَرَةِ: 258 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى مُنَاظَرَةَ خَلِيلِهِ مَعَ هَذَا
الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الْمُتَمَرِّدِ الَّذِي ادَّعَى لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةِ
فَأَبْطَلَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلَهُ، وَبَيَّنَ كَثْرَةَ
جَهْلِهِ وَقِلَّةَ عَقْلِهِ، وَأَلْجَمَهُ الْحُجَّةَ وَأَوْضَحَ لَهُ طَرِيقَ
الْمَحَجَّةِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ وَالْأَخْبَارِ:
وَهَذَا الْمَلِكُ هُوَ مَلِكُ بَابِلَ، وَاسْمُهُ النُّمْرُودُ بْنُ كَنْعَانَ
بْنِ كُوشِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: نُمْرُودُ
بْنُ فَالِحِ بْنِ عَابَرَ بْنِ صَالِحِ بْنِ أَرْفَخْشَدَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ أَحَدَ مُلُوكِ الدُّنْيَا.
فَإِنَّهُ قَدْ
مَلَكَ الدُّنْيَا فِيمَا ذَكَرُوا أَرْبَعَةٌ مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ،
فَالْمُؤْمِنَانِ؛ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَسُلَيْمَانُ. وَالْكَافِرَانِ؛
النُّمْرُودُ وبُخْتُنَصَّرَ، وَذَكَرُوا أَنَّ نُمْرُودًا هَذَا اسْتَمَرَّ فِي
مُلْكِهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ قَدْ طَغَا وَبَغَا وَتَجَبَّرَ
وَعَتَا، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَلَمَّا دَعَاهُ إِبْرَاهِيمُ
الْخَلِيلُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ حَمَلَهُ الْجَهْلُ
وَالضَّلَالُ وَطُولُ الْإِمْهَالِ عَلَى إِنْكَارِ الصَّانِعِ، فَحَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ فِي ذَلِكَ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ الرُّبُوبِيَّةَ،
فَلَمَّا قَالَ لَهُ الْخَلِيلُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ.
قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: يَعْنِي أَنَّهُ
إِذَا أُتِيَ بِالرَّجُلَيْنِ قَدْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُمَا فَإِذَا أَمَرَ بِقَتْلِ
أَحَدِهِمَا، وَعَفَا عَنِ الْآخَرِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ أَحْيَا هَذَا وَأَمَاتَ
الْآخَرَ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُعَارَضَةٍ لِلْخَلِيلِ، بَلْ هُوَ كَلَامٌ خَارِجِيٌّ
عَنْ مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ لَيْسَ بِمَنْعٍ وَلَا بِمُعَارَضَةٍ، بَلْ هُوَ
تَشْغِيبٌ مَحْضٌ، وَهُوَ انْقِطَاعٌ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْخَلِيلَ
اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِحُدُوثِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتِ؛ مِنْ
إِحْيَاءِ الْحَيَوَانَاتِ، وَمَوْتِهَا عَلَى وُجُودِ فَاعِلِ ذَلِكَ الَّذِي لَا
بُدَّ مِنِ اسْتِنَادِهَا إِلَى وُجُودِهِ ضَرُورَةً، وَعَدَمِ قِيَامِهَا
بِنَفْسِهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ لِهَذِهِ الْحَوَادِثِ الْمُشَاهَدَةِ؛
مِنْ خَلْقِهَا، وَتَسْخِيرِهَا، وَتَسْيِيرِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ، وَالرِّيَاحِ،
وَالسَّحَابِ، وَالْمَطَرِ، وَخَلْقِ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُوجَدُ
مُشَاهَدَةً، ثُمَّ إِمَاتَتِهَا. وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي
يُحْيِي وَيُمِيتُ. فَقَوْلُ
هَذَا الْمَلِكِ
الْجَاهِلِ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. إِنْ عَنَى أَنَّهُ الْفَاعِلُ لِهَذِهِ
الْمُشَاهَدَاتِ فَقَدْ كَابَرَ وَعَانَدَ، وَإِنْ عَنَى مَا ذَكَرَهُ قَتَادَةُ،
وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا يَتَعَلَّقُ
بِكَلَامِ الْخَلِيلِ؛ إِذْ لَمْ يَمْنَعْ مُقَدِّمَةً وَلَا عَارَضَ الدَّلِيلَ،
وَلَمَّا كَانَ انْقِطَاعُ مُنَاظَرَةِ هَذَا الْمَلِكِ قَدْ تَخْفَى عَلَى
كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِمَّنْ حَضَرَهُ وَغَيْرِهِمْ، ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ
بَيَّنَ وُجُودَ الصَّانِعِ وَبُطْلَانَ مَا ادَّعَاهُ النُّمْرُودُ،
وَانْقِطَاعَهُ جَهْرَةً قَالَ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ. أَيْ هَذِهِ الشَّمْسُ مُسَخَّرَةٌ
كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ كَمَا سَخَّرَهَا خَالِقُهَا
وَمُسَيِّرُهَا وَقَاهِرُهَا، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنْ كُنْتَ كَمَا زَعَمْتَ مِنْ أَنَّكَ الَّذِي تُحْيِي
وَتُمِيتُ، فَأْتِ بِهَذِهِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَإِنَّ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُغَالَبُ،
بَلْ قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، فَإِنْ كُنْتَ كَمَا
تَزْعُمُ فَافْعَلْ هَذَا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْهُ فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ،
وَأَنْتَ تَعْلَمُ وَكُلُّ أَحَدٍ أَنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا،
بَلْ أَنْتَ أَعْجَزُ وَأَقَلُّ مِنْ أَنْ تَخْلُقَ بَعُوضَةً أَوْ تَنْتَصِرَ
مِنْهَا فَبَيَّنَ ضَلَالَهُ وَجَهْلَهُ، وَكَذِبَهُ فِيمَا ادَّعَاهُ وَبُطْلَانَ
مَا سَلَكَهُ وَتَبَجَّحَ بِهِ عِنْدَ جَهَلَةِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ
كَلَامٌ يُجِيبُ الْخَلِيلَ بِهِ، بَلِ انْقَطَعَ وَسَكَتَ؛ وَلِهَذَا قَالَ:
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ كَانَتْ بَيْنَ
إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ النُّمْرُودِ يَوْمَ خَرَجَ مِنَ النَّارِ، وَلَمْ يَكُنِ
اجْتَمَعَ بِهِ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ،
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ النُّمْرُودَ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامٌ، وَكَانَ النَّاسُ يَفِدُونَ إِلَيْهِ لِلْمِيرَةِ فَوَفَدَ إِبْرَاهِيمُ فِي جُمْلَةِ مَنْ وَفَدَ لِلْمِيرَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ، وَلَمْ يُعْطَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الطَّعَامِ كَمَا أُعْطِيَ النَّاسُ، بَلْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْ أَهْلِهِ عَمَدَ إِلَى كَثِيبٍ مِنَ التُّرَابِ فَمَلَأَ مِنْهُ عِدْلَيْهِ. وَقَالَ أَشْغَلُ أَهْلِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ وَضَعَ رِحَالَهُ وَجَاءَ فَاتَّكَأَ فَنَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ سَارَةُ إِلَى الْعِدْلَيْنِ فَوَجَدَتْهُمَا مَلْآنَيْنِ طَعَامًا طَيِّبًا فَعَمِلَتْ مِنْهُ طَعَامًا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ إِبْرَاهِيمُ وَجَدَ الَّذِي قَدْ أَصْلَحُوهُ، فَقَالَ: أَنَّى لَكُمْ هَذَا ؟ قَالَتْ: مِنَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ. فَعَرَفَ أَنَّهُ رِزْقٌ رَزَقَهُمُوهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ مَلَكًا يَأْمُرُهُ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ دَعَاهُ الثَّانِيَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ. وَقَالَ: اجْمَعْ جُمُوعَكَ وَأَجْمَعُ جُمُوعِي. فَجَمَعَ النُّمْرُودُ جَيْشَهُ وَجُنُودَهُ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ذُبَابًا مِنَ الْبَعُوضِ بِحَيْثُ لَمْ يَرَوْا عَيْنَ الشَّمْسِ، وَسَلَّطَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، وَتَرَكَتْهُمْ عِظَامًا بَالِيَةً، وَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا فِي مَنْخَرَيِ الْمَلِكِ، فَمَكَثَتْ فِي مَنْخَرَيْهِ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فَكَانَ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِالْمَرَازِبِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا حَتَّى أَهْلَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ هِجْرَةِ
الْخَلِيلِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ وَدُخُولِهِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
وَاسْتِقْرَارِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى
رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ
أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [
الْعَنْكَبُوتِ: 26 - 27 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ
وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 71 - 73 ].
لَمَّا هَجَرَ قَوْمَهُ فِي اللَّهِ، وَهَاجَرَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ،
وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِرًا لَا يُولَدُ لَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ
الْوَلَدِ أَحَدٌ، بَلْ مَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ آزَرَ
وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَوْلَادَ الصَّالِحِينَ، وَجَعَلَ
فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ بَعْدَهُ
فَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَكُلُّ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى نَبِيٍّ
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ فَعَلَى أَحَدِ نَسْلِهِ وَعَقِبِهِ خِلْعَةً
مِنَ اللَّهِ وَكَرَامَةً لَهُ حِينَ تَرَكَ بِلَادَهُ وَأَهْلَهُ
وَأَقْرِبَاءَهُ، وَهَاجَرَ إِلَى بَلَدٍ يَتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ عِبَادَةِ
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي
قَصَدَهَا بِالْهِجْرَةِ أَرْضُ الشَّامِ، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. قَالَهُ
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ،
وَقَتَادَةُ،
وَغَيْرُهُمْ.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. مَكَّةَ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ
أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 96 ]. وَزَعَمَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَنَّهَا
حَرَّانُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ
أَرْضِ بَابِلَ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ لُوطٌ، وَأَخُوهُ نَاحُورُ، وَامْرَأَةُ
إِبْرَاهِيمَ سَارَةُ، وَامْرَأَةُ أَخِيهِ مَلْكَا، فَنَزَلُوا حَرَّانَ فَمَاتَ
تَارَخُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ بِهَا.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: انْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ قِبَلَ الشَّامِ فَلَقِيَ
إِبْرَاهِيمُ سَارَةَ، وَهِيَ ابْنَةُ مَلِكِ حَرَّانَ، وَقَدْ طَعَنَتْ عَلَى
قَوْمِهَا فِي دِينِهِمْ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا يُغَيِّرَهَا. رَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ غَرِيبٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا ابْنَةُ عَمِّهِ هَارَانَ
الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ حَرَّانُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ
هَارَانَ أُخْتُ لُوطٍ، كَمَا حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ، عَنِ الْقُتَبِيِّ، وَالنَّقَّاشِ
فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَقَالَ بِلَا عِلْمٍ، وَادَّعَى أَنَّ تَزْوِيجَ
بِنْتِ الْأَخِ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَشْرُوعًا فَلَيْسَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ.
وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي وَقْتٍ، كَمَا هُوَ مَنْقُولٌ
عَنِ الرَّبَّانِيِّينَ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا
تَتَعَاطَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ بَابِلَ خَرَجَ بِسَارَةَ مُهَاجِرًا
مِنْ بِلَادِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ
أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ إِنِّي جَاعِلٌ هَذِهِ
الْأَرْضَ لِخَلَفِكَ مِنْ بَعْدِكَ فَابْتَنَى إِبْرَاهِيمُ مَذْبَحًا لِلَّهِ
شُكْرًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَضَرَبَ قُبَّتَهُ شَرْقِيَّ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، ثُمَّ
انْطَلَقَ مُرْتَحِلًا إِلَى الْيَمَنِ، وَأَنَّهُ كَانَ جُوعٌ أَيْ قَحْطٌ
وَشِدَّةٌ، وَغَلَاءٌ فَارْتَحَلُوا إِلَى مِصْرَ، وَذَكَرُوا قِصَّةَ سَارَةَ
مَعَ مَلِكِهَا، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لَهَا قُولِي: أَنَا أُخْتُهُ.
وَذَكَرُوا إِخْدَامَ الْمَلِكِ إِيَّاهَا هَاجَرَ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنْهَا
فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِ التَّيَمُّنِ يَعْنِي أَرْضَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا
وَالَاهَا وَمَعَهُ دَوَابُّ وَعَبِيدٌ وَأَمْوَالٌ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَانِ مِنْهُنَّ
فِي ذَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى
عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: هَاهُنَا رَجُلٌ مَعَهُ
امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا.
فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَ: أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ: يَا سَارَةُ
لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّ هَذَا
سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي فَلَا تُكَذِّبِينِي. فَأَرْسَلَ
إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ،
فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي، وَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ،
ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ:
ادْعِي اللَّهَ لِي، وَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ فَدَعَا بَعْضَ
حَجَبَتِهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، وَإِنَّمَا أَتَيْتَنِي
بِشَيْطَانٍ فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ. فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي
فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ؛ مَهْيَمْ ؟ فَقَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ أَوِ
الْفَاجِرِ فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ
أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
مَوْقُوفًا.
وَقَدْ رَوَاهُ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ الْفَلَّاسِ،
عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ
كَذَبَاتٍ كُلُّ ذَلِكَ فِي ذَاتِ اللَّهِ: قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ. وَقَوْلُهُ:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِي أَرْضِ جَبَّارٍ
مِنَ الْجَبَابِرَةِ إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا، فَأُتِيَ الْجَبَّارُ، فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ هَاهُنَا رَجُلٌ مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا أُخْتِي، فَلَمَّا
رَجَعَ إِلَيْهَا قَالَ: إِنَّ هَذَا سَأَلَنِي عَنْكِ فَقُلْتُ: إِنَّكِ أُخْتِي،
وَإِنَّهُ لَيْسَ الْيَوْمَ مُسْلِمٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَإِنَّكِ أُخْتِي فَلَا
تُكَذِّبِينِي عِنْدَهُ، فَانْطُلِقَ بِهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا
أُخِذَ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي، وَلَا أَضُرُّكِ فَدَعَتْ لَهُ فَأُرْسِلَ
فَذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ مِنْهَا فَقَالَ: ادْعِي
اللَّهَ لِي، وَلَا أَضُرُّكِ. فَدَعَتْ فَأُرْسِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَدَعَا
أَدْنَى حَشَمِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، وَلَكِنْ
أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ أَخْرِجْهَا، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. فَجَاءَتْ
وَإِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهَا انْصَرَفَ، فَقَالَ:
مَهْيَمْ ؟ فَقَالَتْ: كَفَى اللَّهُ كَيْدَ الظَّالِمِ، وَأَخْدَمَنِي هَاجَرَ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ
أَسْنَدَهُ عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا هِشَامٌ. وَرَوَاهُ
غَيْرُهُ مَوْقُوفًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، عَنْ، وَرْقَاءَ
هُوَ ابْنُ عُمَرَ الْيَشْكُرِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ؛ قَوْلُهُ حِينَ دُعِيَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ. وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَقَوْلُهُ لِسَارَةَ: إِنَّهَا أُخْتِي. قَالَ: وَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ اللَّيْلَةَ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ. قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ أَوِ الْجَبَّارُ مَنْ هَذِهِ مَعَكَ ؟ قَالَ: أُخْتِي. قَالَ: فَأَرْسِلْ بِهَا. قَالَ: فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ. وَقَالَ: لَا تُكَذِّبِي قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، إِنْ عَلَى الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَقْبَلَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. قَالَ: فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَلْ: هِيَ قَتَلَتْهُ. قَالَ: فَأُرْسِلَ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا. قَالَ: فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ الْكَافِرَ. قَالَ: فَغَطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهَا قَالَتِ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَلْ هِيَ قَتَلَتْهُ. قَالَ: فَأُرْسِلَ. قَالَ: فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ: مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا أَرْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ: أَشَعَرْتَ ؟ إِنَّ اللَّهَ رَدَّ كَيْدَ الْكَافِرِ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
الْأَعْرَجِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ
مُخْتَصَرًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلِمَاتِ
إِبْرَاهِيمَ الثَّلَاثِ الَّتِي قَالَ: مَا مِنْهَا كَلِمَةٌ إِلَّا مَاحَلَ
بِهَا عَنْ دِينِ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ وَقَالَ: بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَالَ لِلْمَلِكِ حِينَ أَرَادَ امْرَأَتَهُ: هِيَ أُخْتِي.
فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ. هِيَ أُخْتِي. أَيْ فِي دِينِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ
لَهَا إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ.
يَعْنِي زَوْجَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ
عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ لُوطًا كَانَ مَعَهُمْ، وَهُوَ نَبِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَقَوْلُهُ لَهَا لَمَّا رَجَعَتْ إِلَيْهِ: مَهْيَمْ ؟ مَعْنَاهُ مَا الْخَبَرُ
فَقَالَتْ:. إِنَّ اللَّهَ رَدَّ كَيْدَ الْكَافِرِ. وَفِي رِوَايَةٍ الْفَاجِرِ.
وَهُوَ الْمَلِكُ. وَأَخْدَمَ جَارِيَةً. وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنْ وَقْتِ ذُهِبَ بِهَا إِلَى الْمَلِكِ قَامَ يُصَلِّي لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْأَلُهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَأَنْ يَرُدَّ بَأْسَ
هَذَا الَّذِي أَرَادَ أَهْلَهُ بِسُوءٍ، وَهَكَذَا فَعَلَتْ هِيَ أَيْضًا
كُلَّمَا أَرَادَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا أَمْرًا قَامَتْ إِلَى
وُضُوئِهَا وَصَلَاتِهَا، وَدَعَتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ
الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ. فَعَصَمَهَا اللَّهُ وَصَانَهَا لِعِصْمَةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ
وَحَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ ذَهَبَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى نُبُوَّةِ ثَلَاثِ نِسْوَةٍ؛ سَارَةَ، وَأُمِّ مُوسَى،
وَمَرْيَمَ عَلَيْهِنَّ السَّلَامُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُنَّ
صَدِّيقَاتٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْآثَارِ
أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَشَفَ الْحِجَابَ فِيمَا بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَهَا فَلَمْ يَزَلْ يَرَاهَا مُنْذُ خَرَجَتْ مِنْ
عِنْدِهِ إِلَى أَنْ رَجَعَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَ مُشَاهِدًا لَهَا وَهِيَ عِنْدَ
الْمَلِكِ، وَكَيْفَ عَصَمَهَا اللَّهُ مِنْهُ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَطْيَبَ
لِقَلْبِهِ وَأَقَرَّ لِعَيْنِهِ وَأَشَدَّ لِطُمَأْنِينَتِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ
يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا لِدِينِهَا، وَقَرَابَتِهَا مِنْهُ وَحُسْنِهَا
الْبَاهِرِ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ تَكُنِ امْرَأَةٌ بَعْدَ حَوَّاءَ
إِلَى زَمَانِهَا أَحْسَنَ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوَارِيخِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ مِصْرَ هَذَا كَانَ أَخًا
لِلضَّحَّاكِ الْمَلِكِ الْمَشْهُورِ بِالظُّلْمِ، وَكَانَ عَامِلًا لِأَخِيهِ
عَلَى مِصْرَ. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ سِنَانَ بْنَ عِلْوَانَ بْنِ عُبَيْدِ
بْنِ عُوجِ بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَذَكَرَ ابْنُ
هِشَامٍ فِي التِّيجَانِ أَنَّ الَّذِي أَرَادَهَا عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ
بْنِ بَايلبونَ بْنِ سَبَأٍ، وَكَانَ عَلَى مِصْرَ نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجَعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى
أَرْضِ التَّيَمُّنِ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي كَانَ فِيهَا،
وَمَعَهُ أَنْعَامٌ وَعَبِيدٌ وَمَالٌ جَزِيلٌ، وَصَحِبَتْهُمْ هَاجَرُ
الْقِبْطِيَّةُ الْمِصْرِيَّةُ، ثُمَّ إِنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَحَ
بِمَا لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِأَمْرِ الْخَلِيلِ لَهُ فِي ذَلِكَ
إِلَى أَرْضِ الْغَوْرِ، الْمَعْرُوفِ بِغَوْرِ زُغَرَ، فَنَزَلَ بِمَدِينَةَ
سَدُومَ، وَهِيَ أُمُّ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَ
أَهْلُهَا أَشْرَارًا كُفَّارًا فُجَّارًا،
وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَمُدَّ بَصَرَهُ، وَيَنْظُرَ شَمَالًا وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، وَبَشَّرَهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ كُلَّهَا سَأَجْعَلُهَا لَكَ، وَلِخَلَفِكَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَسَأُكْثِرُ ذُرِّيَّتَكَ حَتَّى يَصِيرُوا بِعَدَدِ تُرَابِ الْأَرْضِ، وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ اتَّصَلَتْ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ مَا كَمَلَتْ وَلَا كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زَوَى لِي مِنْهَا. قَالُوا: ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنَ الْجَبَّارِينَ تَسَلَّطُوا عَلَى لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَسَرُوهُ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُ وَاسْتَاقُوا أَنْعَامَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَارَ إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَنْقَذَ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَرْجَعَ أَمْوَالَهُ، وَقَتَلَ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ خَلْقًا كَثِيرًا وَهَزَمَهُمْ، وَسَاقَ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى شَمَالِيِّ دِمَشْقَ، وَعَسْكَرَ بِظَاهِرِهَا عِنْدَ بَرْزَةَ، وَأَظُنُّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ بِبَرْزَةَ الْيَوْمَ إِنَّمَا سُمِّيَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْضِعَ مَوْقِفِ جَيْشِ الْخَلِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا إِلَى بِلَادِهِ، وَتَلَقَّاهُ مُلُوكُ بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُعَظِّمِينَ لَهُ مُكْرِمِينَ خَاضِعِينَ، وَاسْتَقَرَّ بِبِلَادِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَوْلِدِ
إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ هَاجَرَ
قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ اللَّهَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَأَنَّ اللَّهَ بَشَّرَهُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَمَّا
كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ بِبِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَشْرُ سِنِينَ، قَالَتْ
سَارَةُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْرَمَنِي
الْوَلَدَ، فَادْخُلْ عَلَى أَمَتِي هَذِهِ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُنَا مِنْهَا
وَلَدًا. فَلَمَّا وَهَبَتْهَا لَهُ دَخَلَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَحِينَ دَخَلَ بِهَا حَمَلَتْ مِنْهُ. قَالُوا: فَلَمَّا حَمَلَتِ
ارْتَفَعَتْ نَفْسُهَا وَتَعَاظَمَتْ عَلَى سَيِّدَتِهَا، فَغَارَتْ
مِنْهَاسَارَةُ فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهَا: افْعَلِي
بِهَا مَا شِئْتِ. فَخَافَتْ هَاجَرُ فَهَرَبَتْ فَنَزَلَتْ عِنْدَ عَيْنٍ
هُنَاكَ، فَقَالَ لَهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: لَا تَخَافِي فَإِنَّ اللَّهَ
جَاعِلٌ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي حَمَلْتِ خَيْرًا. وَأَمَرَهَا
بِالرُّجُوعِ، وَبَشَّرَهَا أَنَّهَا سَتَلِدُ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ إِسْمَاعِيلَ،
وَيَكُونُ وَحْشَ النَّاسِ، يَدُهُ عَلَى الْكُلِّ، وَيَدُ الْكُلِّ بِهِ،
وَيَمْلِكُ جَمِيعَ بِلَادِ إِخْوَتِهِ، فَشَكَرَتِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْبِشَارَةُ إِنَّمَا انْطَبَقَتْ عَلَى وَلَدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ الَّذِي سَادَتْ بِهِ الْعَرَبُ،
وَمَلَكَتْ جَمِيعَ الْبِلَادِ غَرْبًا وَشَرْقًا، وَأَتَاهَا اللَّهُ مِنَ
الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَا لَمْ يُؤْتِ أُمَّةً مِنَ
الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِشَرَفِ رَسُولِهَا عَلَى سَائِرِ
الرُّسُلِ وَبَرَكَةِ رِسَالَتِهِ وَيُمْنِ بِشَارَتِهِ وَكَمَالِهِ فِيمَا جَاءَ
بِهِ. وَعُمُومِ بَعْثَتِهِ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَلَمَّا رَجَعَتْ هَاجَرُ وَضَعَتْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا: وَلَدَتْهُ وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً قَبْلَ مَوْلِدِ إِسْحَاقَ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَلَمَّا وُلِدَ إِسْمَاعِيلُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ يُبَشِّرُهُ بِإِسْحَاقَ مِنْ سَارَةَ فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا. وَقَالَ لَهُ: قَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِي إِسْمَاعِيلَ، وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ وَكَثَّرْتُهُ وَنَمَّيْتُهُ جَدًّا كَبِيرًا، وَيُولَدُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا، وَأَجْعَلُهُ رَئِيسًا لِشَعْبٍ عَظِيمٍ. وَهَذِهِ أَيْضًا بِشَارَةٌ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَهَؤُلَاءِ الِاثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا هُمُ الْخُلَفَاءُ الِاثْنَا عَشَرَ الْمُبَشَّرُ بِهِمْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا. ثُمَّ قَالَ: كَلِمَةٌ لَمْ أَفْهَمْهَا فَسَأَلْتُ أَبِي مَا قَالَ ؟ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا. وَفِي رِوَايَةٍ عَزِيزًا حَتَّى يَكُونَ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ. فَهَؤُلَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ؛ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَمِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا، وَمِنْهُمْ بَعْضُ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ اثْنَيْ عَشَرَ نَسَقًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّذِي يَعْتَقِدُ فِيهِمْ الرَّافِضَةُ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخِرُهُمُ الْمُنْتَظِرُ بِسِرْدَابِ سَامَرَّا، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ فِيمَا يَزْعُمُونَ، فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَنْفَعُ مِنْ عَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ، وَأَخْمَدَ نَارَ
الْفِتْنَةِ،
وَسَكَّنَ رَحَى الْحُرُوبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقُونَ مِنْ جُمْلَةِ
الرَّعَايَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ فِي أَمْرٍ مِنَ
الْأُمُورِ، وَأَمَّا مَا يَعْتَقِدُونَهُ بِسِرْدَابِ سَامَرَّا فَذَاكَ هَوَسٌ
فِي الرُّءُوسِ، وَهَذَيَانٌ فِي النُّفُوسِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا عَيْنَ
وَلَا أَثَرَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَاجَرَ عَلَيْهَا السَّلَامُ لَمَّا وُلِدَ لَهَا
إِسْمَاعِيلُ اشْتَدَّتْ غَيْرَةُ سَارَةَ مِنْهَا، وَطَلَبَتْ مِنَ الْخَلِيلِ
أَنْ يُغَيِّبَ وَجْهَهَا عَنْهَا، فَذَهَبَ بِهَا وَبِوَلَدِهَا فَسَارَ بِهِمَا
حَتَّى وَضَعَهُمَا حَيْثُ مَكَّةَ الْيَوْمَ، وَيُقَالُ: إِنَّ وَلَدَهَا كَانَ
إِذْ ذَاكَ رَضِيعًا، فَلَمَّا تَرَكَهُمَا هُنَاكَ وَوَلَّى ظَهْرَهُ عَنْهُمَا
قَامَتْ إِلَيْهِ هَاجَرُ وَتَعَلَّقَتْ بِثِيَابِهِ، وَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ
أَيْنَ تَذْهَبُ، وَتَدَعُنَا هَاهُنَا، وَلَيْسَ مَعَنَا مَا يَكْفِينَا ؟ فَلَمْ
يُجِبْهَا، فَلَمَّا أَلَحَّتْ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُجِيبُهَا قَالَتْ لَهُ:
آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَإِذًا لَا يُضَيِّعُنَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِ النَّوَادِرِ: أَنَّ سَارَةَ تَغَضَّبَتْ عَلَى هَاجَرَ فَحَلَفَتْ
لَتَقْطَعَنَّ ثَلَاثَةَ أَعْضَاءٍ مِنْهَا، فَأَمَرَهَا الْخَلِيلُ أَنْ تَثْقُبَ
أُذُنَيْهَا وَأَنْ تَخْفِضَهَا فَتَبَرَّ قَسَمُهَا. قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَوَّلَ مَنْ ثَقَبَتْ
أُذُنَيْهَا مِنْهُنَّ، وَأَوَّلَ مَنْ طَوَّلَتْ ذَيْلَهَا.
ذِكْرُ مُهَاجَرَةِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ هَاجَرَ إِلَى
جِبَالِ فَارَانَ وَهِيَ أَرْضُ مَكَّةَ وَبِنَائِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ،
وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ يَزِيدُ
أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ
اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعْفِيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا
إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا
عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ،
وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا
هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ،
ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ
فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي
الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا،
وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا. ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ
إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ
اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ
يَدَيْهِ فَقَالَ:رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [ إِبْرَاهِيمَ: 37 ].
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ، وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفَذَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى. أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى إِذَا جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ. تُرِيدُ نَفْسَهَا، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غُوَاثٌ. فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تَخُوضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا، وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ. أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا. قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافِي الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَاهُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ أَهْلَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءَ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى الْمَاءِ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي،
وَمَا فِيهِ مَاءٌ،
فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا
فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا قَالَ: وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ
الْمَاءِ، فَقَالُوا: تَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ. قَالَتْ: نَعَمْ،
وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَلْفَى
ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ. فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى
أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ
مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلَامُ، وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ،
وَأَنْفَسَهُمْ وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ
امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ
مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ
فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. ثُمَّ سَأَلَهَا
عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ نَحْنُ فِي ضِيقٍ
وَشِدَّةٍ. وَشَكَتْ إِلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ
السَّلَامَ، وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرُ عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ
إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ آنَسَ شَيْئًا، فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟
فَقَالَتْ: نَعَمْ. جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا، فَسَأَلَنَا عَنْكَ
فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ
وَشِدَّةٍ. قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. أَمَرَنِي أَنْ
أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكَ
أَبِي، وَأَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكَ فَالْحَقِي بِأَهْلِكِ. فَطَلَّقَهَا
وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى، وَلَبِثَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ،
ثُمَّ أَتَاهُمْ بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا
عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ ؟ وَسَأَلَهَا
عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ، فَقَالَتْ: نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ
عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ. قَالَ: فَمَا
شَرَابُكُمْ ؟ قَالَتِ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ
وَالْمَاءِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ
حَبٌّ لَدَعَا
لَهُمْ فِيهِ فَهُمَا لَا يَخْلُو عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلَّا
لَمْ يُوَافِقَاهُ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي عَلَيْهِ
السَّلَامَ، وَمُرِيهِ يُثَبِّتْ عَتَبَةَ بَابِهِ، فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ
قَالَ: هَلْ أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. أَتَانَا شَيْخٌ حَسَنُ
الْهَيْئَةِ، وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ،
فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ، قَالَ: فَأَوْصَاكِ
بِشَيْءٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَأْمُرُكَ
أَنْ تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكَ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ،
وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَكِ، ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ
جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلًا لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ
قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ
الْوَلَدُ بِالْوَالِدِ وَالْوَالِدُ بِالْوَلَدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ
إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ:
وَتُعِينُنِي. قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ
أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا. وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا
حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فَجَعَلَ
إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا
ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ
وَهُوَ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولَانِ:
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الْبَقَرَةِ:
127 ]. قَالَ: وَجَعَلَا يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ الْبَيْتِ، وَهُمَا
يَقُولَانِ: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
نَافِعٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ
وَأَهْلِهِ مَا كَانَ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَمَعَهُمْ
شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ
مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُوَشَّحٌ بِرَفْعِ بَعْضِهِ، وَفِي بَعْضِهِ
غَرَابَةٌ، وَكَأَنَّهُ مِمَّا تَلَقَّاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِيهِ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ رَضِيعًا إِذْ ذَاكَ،
وَعِنْدَ أَهْلِ التَّوْرَاةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ
يَخْتِنَ وَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ، وَكُلَّ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعَبِيدِ
وَغَيْرِهِمْ فَخَتَنَهُمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً
مِنْ عُمُرِهِ، فَيَكُونُ عُمُرُ إِسْمَاعِيلَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَهَذَا امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَهْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ
أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ
فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْتَتَنَ
إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً
بِالْقَدُومِ. تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
الزِّنَادِ، وَتَابَعَهُ عَجْلَانُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ
بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ بِهِ. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ اخْتَتَنَ
إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً وَاخْتَتَنَ
بِالْقَدُومِ. وَالْقَدُومُ هُوَ الْآلَةُ.
وَقِيلَ: مَوْضِعٌ. وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَانِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْحَدِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرُ قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَأَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي قَدَمَاتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ بَعْدَ مَوْتِ هَاجَرَ، وَكَيْفَ يَتْرُكُهُمْ مِنْ حِينِ صِغَرِ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذُكِرَ إِلَى حِينِ تَزْوِيجِهِ لَا يَنْظُرُ فِي حَالِهِمْ ؟ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ تُطْوَى لَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبُرَاقَ إِذَا سَارَ إِلَيْهِمْ، فَكَيْفَ يَتَخَلَّفُ عَنْ مُطَالَعَةِ حَالِهِمْ، وَهُمْ فِي غَايَةِ الضَّرُورَةِ الشَّدِيدَةِ وَالْحَاجَةِ الْأَكِيدَةِ ؟ وَكَأَنَّ بَعْضَ هَذَا السِّيَاقِ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَمُطَرَّزٌ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ قِصَّةُ الذَّبِيحِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَى الصَّحِيحِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
قِصَّةُ الذَّبِيحِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ
هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ
مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ
شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا
عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
مُبِينٌ [ الصَّافَّاتِ: 99 - 113 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ
إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ بِلَادِ قَوْمِهِ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ
يَهَبَ لَهُ وَلَدًا صَالِحًا فَبَشَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغُلَامٍ حَلِيمٍ،
وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ لَهُ
عَلَى رَأْسِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِ الْخَلِيلِ، وَهَذَا مَا لَا
خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّهُ أَوَّلُ وَلَدِهِ وَبِكْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أَيْ شَبَّ وَصَارَ يَسْعَى فِي
مَصَالِحِهِ كَأَبِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أَيْ
شَبَّ وَارْتَحَلَ، وَأَطَاقَ مَا يَفْعَلُهُ أَبُوهُ مِنَ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ،
فَلَمَّا كَانَ هَذَا أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَنَامِ
أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ هَذَا.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ.
قَالَهُ
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ أَيْضًا. وَهَذَا اخْتِبَارٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِخَلِيلِهِ فِي أَنْ يَذْبَحَ هَذَا الْوَلَدَ الْعَزِيزَ الَّذِي جَاءَهُ عَلَى كِبَرٍ، وَقَدْ طَعَنَ فِي السِّنِّ بَعْدَ مَا أُمِرَ بِأَنْ يُسْكِنَهُ هُوَ وَأُمَّهُ فِي بِلَادٍ قَفْرٍ، وَوَادٍ لَيْسَ بِهِ حَسِيسٌ وَلَا أَنِيسٌ وَلَا زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ، فَامْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمَا فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَرَزَقَهُمَا مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبَانِ، ثُمَّ لَمَّا أُمِرَ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ هَذَا، الَّذِي قَدْ أَفْرَدَهُ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَهُوَ بِكْرُهُ وَوَحِيدُهُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ أَجَابَ رَبَّهُ وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ وَسَارَعَ إِلَى طَاعَتِهِ، ثُمَّ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى وَلَدِهِ؛ لِيَكُونَ أَطْيَبَ لِقَلْبِهِ وَأَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَأْخُذَهُ قَسْرًا وَيَذْبَحَهُ قَهْرًا، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى. فَبَادَرَ الْغُلَامُ الْحَلِيمُ يَبَرُّ وَالِدَهُ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَهَذَا الْجَوَابُ فِي غَايَةِ السَّدَادِ وَالطَّاعَةِ لِلْوَالِدِ وَلِرَبِّ الْعِبَادِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. قِيلَ: أَسْلَمَا أَيِ اسْتَسْلَمَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَزَمَا عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، وَالْمَعْنَى تَلَّهُ لِلْجَبِينِ أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ. قِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ لِئَلَّا يُشَاهِدَهُ فِي حَالِ ذَبْحِهِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: بَلْ أَضْجَعَهُ كَمَا تُضْجَعُ الذَّبَائِحُ، وَبَقِيَ طَرَفُ جَبِينِهِ لَاصِقًا بِالْأَرْضِ، وَأَسْلَمَا أَيْ سَمَّى إِبْرَاهِيمُ وَكَبَّرَ وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ الْوَلَدَ لِلْمَوْتِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ
تَقْطَعْ شَيْئًا. وَيُقَالُ: جُعِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَلْقِهِ صَفِيحَةٌ مِنْ نُحَاسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ نُودِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا. أَيْ قَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنِ اخْتِبَارِكِ وَطَاعَتِكَ وَمُبَادَرَتِكَ إِلَى أَمْرِ رَبِّكَ وَبَذْلِكَ وَلَدَكَ لِلْقُرْبَانِ، كَمَا سَمَحْتَ بِبَدَنِكَ لِلنِّيرَانِ، وَكَمَا مَالُكَ مَبْذُولٌ لِلضِّيفَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ. أَيِ الِاخْتِبَارُ الظَّاهِرُ الْبَيِّنُ. وَقَوْلُهُ: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ. أَيْ وَجَعَلْنَا فِدَاءَ ذَبْحِ وَلَدِهِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَبْشٌ أَبْيَضُ أَعْيَنُ أَقْرَنُ رَآهُ مَرْبُوطًا بِسَمُرَةٍ فِي ثَبِيرٍ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَبْشٌ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ يَرْتَعُ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى تَشَقَّقَ عَنْهُ ثَبِيرٌ، وَكَانَ عَلَيْهِ عِهْنٌ أَحْمَرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبِيرٍ كَبْشٌ أَعْيَنُ أَقْرَنُ لَهُ ثُغَاءٌ فَذَبَحَهُ، وَهُوَ الْكَبْشُ الَّذِي قَرَّبَهُ ابْنُ آدَمَ فَتُقُبِّلَ مِنْهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَذَبَحَهُ بِمِنًى. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: ذَبَحَهُ بِالْمَقَامِ. فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ وَعْلًا، وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ تَيْسًا مِنَ الْأَرْوَى وَاسْمُهُ جَرِيرٌ فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْهُمَا، ثُمَّ غَالِبُ مَا هَاهُنَا مِنَ الْآثَارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِي الْقُرْآنِ كِفَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ وَالِاخْتِبَارِ الْبَاهِرِ وَأَنَّهُ فُدِيَ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ كَبْشًا، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ خَالِهِ مُسَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ
شَيْبَةَ قَالَتْ أَخْبَرَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَلَّدَتْ
عَامَّةَ أَهْلِ دَارِنَا قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ. وَقَالَ مَرَّةً: إِنَّهَا
سَأَلَتْ عُثْمَانَ لِمَ دَعَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ رَأَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلْتُ
الْبَيْتَ فَنَسِيتُ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُخَمِّرَهُمَا فَخَمِّرْهُمَا فَإِنَّهُ
لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ. قَالَ:
سُفْيَانُ لَمْ تَزَلْ قَرْنَا الْكَبْشِ فِي الْبَيْتِ حَتَّى احْتِرَاقِ
الْبَيْتِ فَاحْتَرَقَا. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَأْسَ
الْكَبْشِ لَمْ يَزَلْ مُعَلَّقًا عِنْدَ مِيزَابِ الْكَعْبَةِ قَدْ يَبِسَ،
وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ
هُوَ الْمُقِيمَ بِمَكَّةَ وَإِسْحَاقُ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ قَدِمَهَا فِي حَالِ
صِغَرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ كَأَنَّهُ نَصٌّ عَلَى أَنَّ
الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ قِصَّةَ الذَّبِيحِ، ثُمَّ قَالَ
بَعْدَهُ: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. وَمَنْ
جَعَلَهُ حَالًا فَقَدْ تَكَلَّفَ، وَمُسْتَنَدُهُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ إِنَّمَا
هُوَ إِسْرَائِيلِيَّاتُ، وَكِتَابُهُمْ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَلَا سِيَّمَا هَاهُنَا
قَطْعًا لَا مَحِيدَ عَنْهُ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ
أَنْ يَذْبَحَ ابْنَهُ وَحِيدَهُ وَفِي نُسْخَةٍ مِنَ الْمُعَرَّبَةِ: بِكْرَهُ
إِسْحَاقَ فَلَفْظَةُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا مُقْحَمَةٌ مَكْذُوبَةٌ مُفْتَرَاةٌ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْوَحِيدَ وَلَا الْبِكْرَ وَإِنَّمَا الْوَحِيدُ
الْبِكْرُ إِسْمَاعِيلُ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا حَسَدُ الْعَرَبِ
فَإِنَّ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْعَرَبِ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ الْحِجَازَ الَّذِينَ
مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِسْحَاقَ وَالِدُ
يَعْقُوبَ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَيْهِ،
فَأَرَادُوا أَنْ
يَجُرُّوا هَذَا الشَّرَفَ إِلَيْهِمْ فَحَرَّفُوا كَلَامَ اللَّهِ وَزَادُوا
فِيهِ وَهُمْ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ قَالَ بِأَنَّهُ إِسْحَاقُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ السَّلَفِ، وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ صُحُفِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ
صَحِيحٌ عَنِ الْمَعْصُومِ حَتَّى نَتْرُكَ لِأَجْلِهِ ظَاهِرَ الْكِتَابِ
الْعَزِيزِ وَلَا يُفْهَمُ هَذَا مِنَ الْقُرْآنِ، بَلِ الْمَفْهُومُ بَلِ
الْمَنْطُوقُ بَلِ النَّصُّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ عَلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ،
وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَدَلَّ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَلَى أَنَّهُ
إِسْمَاعِيلُ، وَلَيْسَ بِإِسْحَاقَ مِنْ قَوْلِهِ: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ
وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَ: فَكَيْفَ تَقَعُ الْبِشَارَةُ
بِإِسْحَاقَ وَأَنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ يَعْقُوبُ، ثُمَّ يُؤْمَرُ بِذَبْحِ إِسْحَاقَ
وَهُوَ صَغِيرٌ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ ؟ هَذَا لَا يَكُونُ؛ لِأَنَّهُ
يُنَاقِضُ الْبِشَارَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اعْتَرَضَ السُّهَيْلِيُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِمَا حَاصِلُهُ
أَنَّ قَوْلَهُ: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ. وَقَوْلَهُ:
وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. جُمْلَةٌ أُخْرَى لَيْسَتْ فِي حَيِّزِ
الْبِشَارَةِ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَنْ
يَكُونَ مَخْفُوضًا إِلَّا أَنْ يُعَادَ مَعَهُ حَرْفُ الْجَرِّ فَلَا يَجُوزُ
أَنْ يُقَالَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَمِنْ بَعْدِهِ عَمْرٍو حَتَّى يُقَالَ وَمِنْ
بَعْدِهِ بِعَمْرٍو. وَقَالَ فَقَوْلُهُ: وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ.
مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ وَوَهَبْنَا لِإِسْحَاقَ يَعْقُوبَ،
وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ نَظَرٌ، وَرَجَّحَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ. قَالَ: وَإِسْمَاعِيلُ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ إِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ صِغَرِهِ هُوَ وَأَمُّهُ بِحِيَالِ مَكَّةَ
فَكَيْفَ يَبْلُغُ مَعَهُ السَّعْيَ ؟ وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ رُوِيَ أَنَّ الْخَلِيلَ كَانَ يَذْهَبُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ
رَاكِبًا
الْبُرَاقَ إِلَى مَكَّةَ يَطَّلِعُ عَلَى وَلَدِهِ وَابْنِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَمَنْ حُكِيَ الْقَوْلُ عَنْهُ بِأَنَّ الذَّبْيحَ إِسْحَاقُ
كَعْبُ الْأَحْبَارِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَالْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ
مَسْعُودٍ، وَمَسْرُوقٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٍ،
وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَمُقَاتِلٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَبِي
مَيْسَرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ،
وَالزُّهْرِيِّ، وَالْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، وَمَكْحُولٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ
حَاضِرٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْهُذَيْلِ، وَابْنِ
سَابِطٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ، وَهُوَ إِحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ عَنْهُ، وَعَنْ
أَكْثَرِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ مُجَاهِدٌ،
وَسَعِيدٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَيُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ، وَعَطَاءٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
الْمَفْدِيُّ إِسْمَاعِيلُ، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ أَنَّهُ إِسْحَاقُ، وَكَذَبَتِ
الْيَهُودُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ هُوَ
إِسْمَاعِيلُ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَأَلْتُ أَبِي عَنِ الذَّبِيحِ
فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي
هُرَيْرَةَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأَبِي صَالِحٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: الذَّبِيحُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحَكَاهُ الْبَغَوِيُّ أَيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ. قُلْتُ: وَرُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَجَاءَ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: لَا شَكَّ فِي هَذَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانِ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ خَلِيفَةٌ إِذْ كَانَ مَعَهُ بِالشَّامِ يَعْنِي اسْتِدْلَالَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْقِصَّةِ: فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنَّ هَذَا الشَّيْءَ مَا كُنْتُ أَنْظُرُ فِيهِ، وَإِنِّي لَأَرَاهُ كَمَا قُلْتَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ بِالشَّامِ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ يُرَى أَنَّهُ مِنْ عُلَمَائِهِمْ قَالَ: فَسَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ذَلِكَ - قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: وَأَنَا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَيُّ ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِهِ ؟ فَقَالَ: إِسْمَاعِيلُ وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ لَتَعْلَمُ
بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْسُدُونَكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ أَبَاكُمُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ وَالْفَضْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْهُ لِصَبْرِهِ لِمَا أُمِرَ بِهِ، فَهُمْ يَجْحَدُونَ ذَلِكَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ إِسْحَاقَ أَبُوهُمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَقْصَاةً بِأَدِلَّتِهَا، وَآثَارِهَا فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
ذِكْرُ مَوْلِدِ
إِسْحَاقَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ
وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [ الصَّافَّاتِ: 112 ]. وَقَدْ كَانَتِ الْبِشَارَةُ
بِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَسَارَةَ لَمَّا مَرُّوا بِهِمْ
مُجْتَازِينَ ذَاهِبِينَ إِلَى مَدَائِنِ قَوْمِ لُوطٍ لِيُدَمِّرُوا عَلَيْهِمْ
لِكُفْرِهِمْ وَفُجُورِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا
إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ
جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ
نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا
إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا
بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ
وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا
أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ
أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [ هُودٍ: 69 - 73 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا
سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ
الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَي قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ
مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا
الضَّالُّونَ [ الْحِجْرِ: 51 - 56 ]. وَقَالَ تَعَالَى: هَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ ضَيْفِ
إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ
سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً
قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي
صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ
رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [ الذَّارِيَاتِ: 24 - 30 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا وَكَانُوا ثَلَاثَةً؛ جِبْرِيلَ،
وَمِيكَائِيلَ، وَإِسْرَافِيلَ، لَمَّا وَرَدُوا عَلَى الْخَلِيلِ حَسِبَهُمْ
أَوَّلًا أَضْيَافًا فَعَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الضُّيُوفِ شَوَى لَهُمْ عِجْلًا
سَمِينًا مِنْ خِيَارِ بَقَرِهِ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ وَعَرَضَ
عَلَيْهِمْ لَمْ يَرَ لَهُمْ هِمَّةً إِلَى الْأَكْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَيْسَ فِيهِمْ قُوَّةُ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ
فَنَكِرَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ
إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ. أَيْ لِنُدَمِّرَ عَلَيْهِمْ
فَاسْتَبْشَرَتْ عِنْدَ ذَلِكَ سَارَةُ غَضَبًا لِلَّهِ عَلَيْهِمْ وَكَانَتْ
قَائِمَةً عَلَى رُءُوسِ الْأَضْيَافِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنَ
الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا ضَحِكَتِ اسْتِبْشَارًا بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. أَيْ
بَشَّرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ. أَيْ
فِي صَرْخَةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا أَيْ كَمَا يَفْعَلُ النِّسَاءُ عِنْدَ
التَّعَجُّبِ، وَقَالَتْ: يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي
شَيْخًا. أَيْ كَيْفَ يَلِدُ مِثْلِي وَأَنَا كَبِيرَةٌ وَعَقِيمٌ أَيْضًا وَهَذَا
بَعْلِي أَيْ زَوْجِي شَيْخًا، تَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ وَالْحَالَةُ
هَذِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ
مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ
إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. وَكَذَلِكَ تَعَجَّبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
اسْتِبْشَارًا بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ وَتَثْبِيتًا لَهَا وَفَرَحًا بِهَا: قَالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا
بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ
فَلَا تَكُنْ مِنَ
الْقَانِطِينَ. أَكَّدُوا الْخَبَرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ، وَقَرَّرُوهُ مَعَهُ
فَبَشَّرُوهُمَا بِغُلَامٍ عَلِيمٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ وَأَخُوهُ إِسْمَاعِيلُ
غُلَامٌ حَلِيمٌ مُنَاسِبٌ لِمَقَامِهِ وَصَبْرِهِ. وَهَكَذَا وَصَفَهُ رَبُّهُ
بِصِدْقِ الْوَعْدِ وَالصَّبْرِ. وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. وَهَذَا مِمَّا
اسْتَدَلَّ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ
الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ
بِذَبْحِهِ بَعْدَ أَنْ وَقَعَتِ الْبِشَارَةُ بِوُجُودِهِ وَوُجُودِ وَلَدِهِ
يَعْقُوبَ الْمُشْتَقِّ مِنَ الْعَقِبِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَحْضَرَ مَعَ الْعِجْلِ الْحَنِيذِ وَهُوَ
الْمَشْوِيُّ رَغِيفًا مِنْ مَلَّةٍ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَكْيَالٍ وَسَمْنٌ وَلَبَنٌ،
وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ أَكَلُوا، وَهَذَا غَلَطٌ مَحْضٌ. وَقِيلَ: كَانُوا
يُورُونَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ، وَالطَّعَامُ يَتَلَاشَى فِي الْهَوَاءِ،
وَعِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: أَمَّا سَارَةُ
امْرَأَتُكَ فَلَا يُدْعَى اسْمُهَا سَارَا، وَلَكِنِ اسْمُهَا سَارَةُ،
وَأُبَارِكُ عَلَيْهَا، وَأُعْطِيكَ مِنْهَا ابْنًا وَأُبَارِكُهُ، وَيَكُونُ
لِلشُّعُوبِ، وَمُلُوكُ الشُّعُوبِ مِنْهُ. فَخَرَّ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ
يَعْنِي سَاجِدًا وَضَحِكَ قَائِلًا فِي نَفْسِهِ: أَبَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ
يُولَدُ لِي غُلَامٌ، أَوْ سَارَةُ تَلِدُ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا تِسْعُونَ
سَنَةً ؟ وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ تَعَالَى: لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ
قُدَّامَكَ ! فَقَالَ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ: بِحَقِّي إِنَّ امْرَأَتَكَ سَارَةَ
تَلِدُ لَكَ غُلَامًا
وَتَدْعُو اسْمَهُ
إِسْحَاقَ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْحِينِ مِنْ قَابَلٍ، وَأُوَاثِقُهُ مِيثَاقِي
إِلَى الدَّهْرِ، وَلِخَلَفِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَكَ فِي
إِسْمَاعِيلَ، وَبَارَكْتُ عَلَيْهِ وَكَبَّرْتُهُ وَنَمَّيْتُهُ جَدًّا كَبِيرًا،
وَيُولَدُ لَهُ اثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا، وَأَجْعَلُهُ رَئِيسًا لِشَعْبٍ عَظِيمٍ،
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا بِمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تَسْتَمْتِعُ بِوُجُودِ وَلَدِهَا إِسْحَاقَ،
ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ يُولَدُ وَلَدُهُ يَعْقُوبُ أَيْ يُولَدُ فِي حَيَاتِهِمَا
لِتَقَرَّ أَعْيُنُهُمَا بِهِ. كَمَا قَرَّتْ بِوَالِدِهِ. وَلَوْ لَمْ يُرِدْ
هَذَا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ يَعْقُوبَ وَتَخْصِيصِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ مِنْ
دُونِ سَائِرِ نَسْلِ إِسْحَاقَ فَائِدَةٌ، وَلَمَّا عُيِّنَ بِالذِّكْرِ دَلَّ
عَلَى أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعَانِ بِهِ وَيُسَرَّانِ بِمَوْلِدِهِ، كَمَا سُرَّا
بِمَوْلِدِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا [ الْأَنْعَامِ: 84 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ [ مَرْيَمَ: 49 ]. وَهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ،
وَيُؤَيِّدُهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ
مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ
وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ:
الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً.
قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ
؟ قَالَ: ثُمَّ حَيْثُ أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ فَصَلِّ فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي
أَسَّسَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، وَهُوَ مَسْجِدُ إِيلِيَا، وَهُوَ مَسْجِدُ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَرَّفَهُ اللَّهُ. وَهَذَا مُتَّجِهٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا
ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بِنَاءُ يَعْقُوبَ، وَهُوَ إِسْرَائِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بَعْدَ بِنَاءِ الْخَلِيلِ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً سَوَاءً، وَقَدْ كَانَ بِنَاؤُهُمَا ذَلِكَ
بَعْدَ وُجُودِ إِسْحَاقَ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا
قَالَ فِي دُعَائِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا
إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي
رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [ إِبْرَاهِيمَ: 35 - 41 ]. وَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ خِلَالًا ثَلَاثًا، كَمَا
ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ ص: 35 ].
وَكَمَا سَنُورِدُهُ فِي قِصَّتِهِ فَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. أَنَّهُ جَدَّدَ بِنَاءَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ بَيْنَهُمَا أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَإِبْرَاهِيمَ أَرْبَعِينَ سَنَةً سِوَى ابْنِ حِبَّانَ فِي تَقَاسِيمِهِ وَأَنْوَاعِهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ وَلَا سُبِقَ إِلَيْهِ.
ذِكْرُ بِنَاءِ
الْبَيْتِ الْعَتِيقِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ
لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. [ الْحَجِّ: 26 - 27
]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ
وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 96 - 97 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا
آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ
مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ
لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ
عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [
الْبَقَرَةِ: 124 - 129 ]. يَذْكُرُ
تَعَالَى عَنْ
عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَصَفِيِّهِ وَخَلِيلِهِ، إِمَامِ الْحُنَفَاءِ، وَوَالِدِ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ صَلَاةٍ وَتَسْلِيمٍ، أَنَّهُ بَنَى الْبَيْتَ
الْعَتِيقَ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِعُمُومِ النَّاسِ يَعْبُدُونَ
اللَّهَ فِيهِ، وَبَوَّأَهُ اللَّهُ مَكَانَهُ أَيْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ وَدَلَّهُ
عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ أُرْشِدَ إِلَيْهِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي صِفَةِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ أَنَّ الْكَعْبَةَ
بِحِيَالِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ بِحَيْثُ أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ لَسَقَطَ
عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ مَعَابِدُ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ: إِنَّ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتًا يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ
وَهُوَ فِيهَا كَالْكَعْبَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا يَكُونُ لِأَهْلِ
الْأَرْضِ كَتِلْكَ الْمَعَابِدِ لِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، وَأَرْشَدَهُ اللَّهُ
إِلَى مَكَانِ الْبَيْتِ الْمُهَيَّأِ لَهُ الْمُعَيَّنِ لِذَلِكَ مُنْذُ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّ هَذَا
الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهُوَ
حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلَمْ يَجِئْ فِي خَبَرٍ
صَحِيحٍ عَنْ مَعْصُومٍ أَنَّ الْبَيْتَ كَانَ مَبْنِيًّا قَبْلَ الْخَلِيلِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ تَمَسَّكَ فِي هَذَا بِقَوْلِهِ: مَكَانَ الْبَيْتِ
فَلَيْسَ بِنَاهِضٍ وَلَا ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَكَانُهُ الْمُقَدَّرُ فِي
عِلْمِ اللَّهِ، الْمُقَدَّرُ فِي قَدَرِهِ، الْمُعَظَّمُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ
مَوْضِعُهُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ آدَمَ نَصَبَ عَلَيْهِ قُبَّةً، وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ
قَالُوا لَهُ: قَدْ طُفْنَا قَبْلَكَ بِهَذَا الْبَيْتِ. وَأَنَّ السَّفِينَةَ
طَافَتْ بِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ،
وَلَكِنْ كُلُّ
هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهَا لَا
تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا، فَأَمَّا إِنْ رَدَّهَا الْحَقُّ
فَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ
لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. أَيْ أَوَّلُ بَيْتٍ
وُضِعَ لِعُمُومِ النَّاسِ لِلْبَرَكَةِ وَالْهُدَى الْبَيْتُ الَّذِي بِبَكَّةَ
قِيلَ: مَكَّةُ. وَقِيلَ: مَحَلَّةُ الْكَعْبَةِ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ. أَيْ
عَلَى أَنَّهُ بِنَاءُ الْخَلِيلِ وَالِدِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَإِمَامِ
الْحُنَفَاءِ مِنْ وَلَدِهِ الَّذِينَ يَقْتَدُونَ بِهِ. وَيَتَمَسَّكُونَ
بِسُنَّتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيِ: الْحَجَرُ الَّذِي
كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ قَائِمًا لَمَّا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ عَنْ قَامَتِهِ
فَوَضَعَ لَهُ وَلَدُهُ هَذَا الْحَجَرَ الْمَشْهُورَ لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ
لَمَّا تَعَالَى الْبِنَاءُ وَعَظُمَ الْفِنَاءُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَجَرُ مُلْصَقًا بِحَائِطِ
الْكَعْبَةِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَدِيمِ الزَّمَانِ إِلَى أَيَّامِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَّرَهُ عَنِ الْبَيْتِ
قَلِيلًا لِئَلَّا يَشْغَلَ الْمُصَلُّونَ عِنْدَهُ الطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ،
وَاتَّبَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا، فَإِنَّهُ
قَدْ وَافَقَهُ رَبُّهُ فِي أَشْيَاءَ مِنْهَا؛ فِي قَوْلِهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى. فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى
وَقَدْ كَانَتْ آثَارُ قَدَمَيِ الْخَلِيلِ بَاقِيَةً فِي الصَّخْرَةِ إِلَى
أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ اللَّامِيَّةِ
الْمَشْهُورَةِ:
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ
وَنَازِلِ وَبِالْبَيْتِ حَقِّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ
وَبِاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلِ وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إِذْ
يَمْسَحُونَهُ
إِذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي
الصَّخْرِ رَطْبَةٌ
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
يَعْنِي أَنَّ
رِجْلَهُ الْكَرِيمَةَ غَاصَتْ فِي الصَّخْرَةِ فَصَارَتْ عَلَى قَدْرِ قَدَمِهِ
حَافِيَةً لَا مُنْتَعِلَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ. أَيْ فِي حَالِ
قَوْلِهِمَا: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
فَهُمَا فِي غَايَةِ الْإِخْلَاصِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمَا
يَسْأَلَانِ مِنَ اللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْهُمَا مَا
هُمَا فِيهِ مِنَ الطَّاعَةِ الْعَظِيمَةِ وَالسَّعْيِ الْمَشْكُورِ رَبَّنَا
وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ
وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْخَلِيلَ بَنَى أَشْرَفَ الْمَسَاجِدِ فِي أَشْرَفِ
الْبِقَاعِ فِي وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَدَعَا لِأَهْلِهَا بِالْبَرَكَةِ،
وَأَنْ يُرْزَقُوا مِنَ الثَّمَرَاتِ مَعَ قِلَّةِ الْمِيَاهِ، وَعَدَمِ
الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ حَرَمًا مُحَرَّمًا
وَأَمْنًا مُحَتَّمًا، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ - وَلَهُ الْحَمْدُ - لَهُ
مَسْأَلَتَهُ، وَلَبَّى دَعْوَتَهُ وَأَتَاهُ طِلْبَتَهُ، فَقَالَ تَعَالَى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ
حَوْلِهِمْ [ الْعَنْكَبُوتِ: 67 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ
حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [
الْقِصَصِ: 57 ]. وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَيْ
مِنْ جِنْسِهِمْ وَعَلَى لُغَتِهِمُ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ النَّصِيحَةِ
لِتَتِمَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَتَانِ الدُّنْيَوِيَّةُ وَالدِّينِيَّةُ،
بِسَعَادَةِ الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَبَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولًا، وَأَيَّ رَسُولٍ، خَتَمَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ،
وَأَكْمَلَ لَهُ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا قَبْلَهُ، وَعَمَّ
بِدَعْوَتِهِ أَهْلَ الْأَرْضِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ
وَصِفَاتِهِمْ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَانَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ
الْأَنْبِيَاءِ لِشَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ،
وَكَمَالِ مَا
أُرْسِلَ بِهِ، وَشَرَفِ بُقْعَتِهِ، وَفَصَاحَةِ لُغَتِهِ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ
عَلَى أُمَّتِهِ، وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكِرِيمِ مَحْتِدِهِ، وَعَظِيمِ
مَوْلِدِهِ، وَطِيبِ مَصْدَرِهِ وَمَوْرِدِهِ؛ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ إِبْرَاهِيمُ
الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ كَانَ بَانِيَ كَعْبَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ
أَنْ يَكُونُ مَنْصِبُهُ وَمَحَلُّهُ وَمَوْضِعُهُ فِي مَنَازِلِ السَّمَاوَاتِ،
وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي هُوَ كَعْبَةُ
أَهْلِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْمُبَارَكِ الْمَبْرُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ
كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ، ثُمَّ
لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
فِي التَّفْسِيرِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ صِفَةَ بِنَايَةِ الْبَيْتِ وَمَا
وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَمَنْ
أَرَادَهُ فَلْيُرَاجِعْهُ ثَمَّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ يَبْنِيَا الْبَيْتَ، ثُمَّ لَمْ يَدْرِيَا أَيْنَ مَكَانُهُ
حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا يُقَالُ لَهُ الْخَجُوجُ لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْسٌ
فِي صُورَةِ حَيَّةٍ، فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنْ أَسَاسِ
الْبَيْتِ الْأَوَّلِ، وَأَتْبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ يَحْفِرَانِ حَتَّى وَضَعَا
الْأَسَاسَ، وَذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ
مَكَانَ الْبَيْتِ [ الْحَجِّ: 26 ]. فَلَمَّا بَلَغَا الْقَوَاعِدَ بَنَيَا
الرُّكْنَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: يَا بُنَيَّ اطْلُبْ لِي حَجَرًا
حَسَنًا أَضَعُهُ هَاهُنَا قَالَ: يَا أَبَتِ إِنِّي كَسْلَانُ تَعِبٌ. قَالَ:
عَلَيَّ ذَلِكَ. فَانْطَلَقَ وَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْهِنْدِ،
وَكَانَ يَاقُوتَةً
بَيْضَاءَ مِثْلَ الثَّغَامَةِ، وَكَانَ آدَمُ هَبَطَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ
فَاسْوَدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاسِ، فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيلُ بِحَجَرٍ فَوَجَدَهُ
عِنْدَ الرُّكْنِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا ؟ قَالَ: جَاءَ بِهِ
مَنْ هُوَ أَنْشَطُ مِنْكَ. فَبَنَيَا، وَهُمَا يَدْعُوَانِ اللَّهَ: رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ أَنَّهُ بَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ، وَأَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ -
وَكَانَ مَلِكَ الْأَرْضِ إِذْ ذَاكَ - مَرَّ بِهِمَا وَهُمَا يَبْنِيَانِهِ،
فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: اللَّهُ أَمَرَنَا
بِهِ. فَقَالَ: وَمَا يُدْرِينِي بِمَا تَقُولُ ؟ فَشَهِدَتْ خَمْسَةُ أَكْبُشٍ
أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَآمَنَ وَصَدَّقَ. وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّهُ
طَافَ مَعَ الْخَلِيلِ بِالْبَيْتِ.
وَقَدْ كَانَتْ عَلَى بِنَاءِ الْخَلِيلِ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
بَنَتْهَا قُرَيْشٌ فَقَصُرَتْ بِهَا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ
الشَّمَالِ مِمَّا يَلِي الشَّامَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، وَفِي
الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ ابْنَ عُمَرَ، عَنْ
عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَمْ
تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ
إِبْرَاهِيمَ ؟ فَقَالَ:
لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ - وَفِي رِوَايَةٍ: لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ. أَوْ قَالَ: بِكُفْرٍ - لَأَنْفَقْتُ كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَجَعَلْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ. وَقَدْ بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَيَّامِهِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا أَخْبَرَتْهُ خَالَتُهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْخَلِيفَةِ إِذْ ذَاكَ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا صَنَعَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَأَمَرَ بِرَدِّهَا إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فَنَقَضُوا الْحَائِطَ الشَّامِيَّ وَأَخْرَجُوا مِنْهَا الْحِجْرَ، ثُمَّ سَدُّوا الْحَائِطَ وَرَدَمُوا الْأَحْجَارَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ فَارْتَفَعَ بَابُهَا الشَّرْقِيُّ وَسَدُّوا الْغَرْبِيَّ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ إِلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ إِنَّمَا فَعَلَ هَذَا لَمَّا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ نَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَتَأَسَّفُوا أَنْ لَوْ كَانُوا تَرَكُوهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ اسْتَشَارَ الْإِمَامَ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فِي رَدِّهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ لُعْبَةً، يَعْنِي كُلَّمَا جَاءَ مَلِكٌ بَنَاهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يُرِيدُ فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ.
ذِكْرُ ثَنَاءِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [ الْبَقَرَةِ: 124 ].
لَمَّا وَفَّى مَا أَمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ الْعَظِيمَةِ
جَعَلَهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا يَقْتَدُونَ بِهِ. وَيَأْتَمُّونَ بِهَدْيِهِ،
وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِمَامَةُ مُتَّصِلَةً بِسَبَبِهِ
وَبَاقِيَةً فِي نَسَبِهِ وَخَالِدَةً فِي عَقِبِهِ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ
وَرَامَ وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِ الْإِمَامَةُ بِزِمَامٍ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ
نَيْلِهَا الظَّالِمُونَ، وَاخْتُصَّ بِهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْعُلَمَاءُ
الْعَامِلُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ
فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [ الْعَنْكَبُوتِ:
27 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا
وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى
الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ
وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ الْأَنْعَامِ: 84
- 87 ]. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَائِدٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
عَلَى الْمَشْهُورِ وَلُوطٌ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَ
فِي الذُّرِّيَّةِ تَغْلِيبًا، وَهَذَا هُوَ الْحَامِلُ لِلْقَائِلِ الْآخَرِ
أَنَّ الضَّمِيرَ عَلَى نُوحٍ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي قِصَّتِهِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا
النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [ الْحَدِيدِ: 26 ]. الْآيَةَ.
فَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ وَشِيعَتِهِ، وَهَذِهِ
خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ لَا تُضَاهَى، وَمَرْتَبَةٌ عَلِيَّةٌ لَا تُبَاهَى، وَذَلِكَ
أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ لِصُلْبِهِ وَلَدَانِ ذَكَرَانِ عَظِيمَانِ؛ إِسْمَاعِيلُ
مِنْ هَاجَرَ، ثُمَّ إِسْحَاقُ مِنْ سَارَةَ، وَوُلِدَ لِهَذَا يَعْقُوبُ وَهُوَ
إِسْرَائِيلُ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ سَائِرُ أَسْبَاطِهِمْ فَكَانَتْ
فِيهِمُ النُّبُوَّةُ، وَكَثُرُوا جِدًّا بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا
الَّذِي بَعَثَهُمْ، وَاخْتَصَّهُمْ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ حَتَّى
خُتِمُوا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَانَتْ مِنْهُ الْعَرَبُ عَلَى
اخْتِلَافِ قَبَائِلِهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ سُلَالَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى خَاتَمِهِمْ
عَلَى الْإِطْلَاقِ وَسَيِّدِهِمْ، وَفَخْرِ بَنِي آدَمَ فِي الدُّنْيَا،
وَالْآخِرَةِ؛ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ
هَاشِمٍ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ الْمَكِّيِّ ثُمَّ الْمَدَنِيِّ صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ هَذَا الْفَرْعِ الشَّرِيفِ
وَالْغُصْنِ الْمُنِيفِ سِوَى هَذِهِ الْجَوْهَرَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالدُّرَّةِ
الزَّاهِرَةِ، وَوَاسِطَةِ الْعِقْدِ الْفَاخِرَةِ، وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي
يَفْتَخِرُ بِهِ أَهْلُ الْجَمْعِ، وَيَغْبِطُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، كَمَا سَنُورِدُهُ أَنَّهُ قَالَ:
سَأَقُومُ مَقَامًا يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ.
فَمَدَحَ إِبْرَاهِيمَ أَبَاهُ مِدْحَةً عَظِيمَةً فِي هَذَا السِّيَاقِ، وَدَلَّ
كَلَامُهُ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ بَعْدَهُ عِنْدَ الْخَلَّاقِ فِي
هَذِهِ
الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ
بِهِمَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ
كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ. وَرَوَاهُ أَهْلُ
السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورٍ بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ
بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [
الْبَقَرَةِ: 260 ]. ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذَا السُّؤَالِ أَسْبَابًا
بَسَطْنَاهَا فِي التَّفْسِيرِ وَقَرَّرْنَاهَا بِأَتَمِّ تَقْرِيرٍ، وَالْحَاصِلُ
أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَجَابَهُ إِلَى مَا سَأَلَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمِدَ
إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ الطُّيُورِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهَا عَلَى
أَقْوَالٍ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ
يُمَزِّقَ لُحُومَهُنَّ وَرِيشَهُنَّ، وَيَخْلِطَ ذَلِكَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ،
ثُمَّ يُقَسِّمُهُ قِسَمًا، وَيَجْعَلَ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا
فَفَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ أُمِرَ أَنْ يَدْعُوَهُنَّ بِإِذْنِ رَبِّهِنَّ،
فَلَمَّا دَعَاهُنَّ جَعَلَ كُلُّ عُضْوٍ يَطِيرُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكُلُّ
رِيشَةٍ تَأْتِي إِلَى أُخْتِهَا حَتَّى اجْتَمَعَ بَدَنُ كُلِّ طَائِرٍ عَلَى مَا
كَانَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى قُدْرَةِ الَّذِي يَقُولُ
لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ فَأَتَيْنَ إِلَيْهِ سَعْيًا لِيَكُونَ أَبْيَنَ لَهُ وَأَوْضَحَ لِمُشَاهَدَتِهِ مِنْ أَنْ يَأْتِينَ طَيَرَانًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ رُءُوسَهُنَّ فِي يَدِهِ فَجَعَلَ كُلُّ طَائِرٍ يَأْتِي فَتَلْقَاهُ رَأْسُهُ فَيَتَرَكَّبُ عَلَى جُثَّتِهِ كَمَا كَانَ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى عِلْمًا يَقِينًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، وَلَكِنْ أَحَبَّ أَنْ يُشَاهِدَ ذَلِكَ عِيَانًا، وَيَتَرَقَّى مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ فَأَجَابَهُ اللَّهُ إِلَى سُؤَالِهِ، وَأَعْطَاهُ غَايَةَ مَأْمُولِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 65 - 68 ]. يُنْكِرُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي دَعْوَى كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَوْنَ الْخَلِيلِ عَلَى مِلَّتِهِمْ وَطَرِيقَتِهِمْ، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَبَيَّنَ كَثْرَةَ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةَ عَقْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ. أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ عَلَى دِينِكُمْ، وَأَنْتُمْ إِنَّمَا شُرِعَ لَكُمْ مَا شُرِعَ بَعْدَهُ بِمُدَدٍ مُتَطَاوِلَةٍ ؟ وَلِهَذَا قَالَ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ إِلَى أَنْ قَالَ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ الْحَنِيفِ، وَهُوَ الْقَصْدُ إِلَى الْإِخْلَاصِ، وَالِانْحِرَافُ عَمْدًا عَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ مُخَالِفٌ لِلْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْمُشْرِكِيَّةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 130 - 140 ].
فَنَزَّهَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلِيلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَنْ يَكُونَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا عَلَى مِلَّتِهِ مِنْ أَتْبَاعِهِ فِي زَمَانِهِ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَذَا النَّبِيُّ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لَهُ الدِّينَ الْحَنِيفَ الَّذِي شَرَعَهُ لِلْخَلِيلِ وَكَمَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ،
وَأَعْطَاهُ مَا
لَمْ يُعْطِ نَبِيًّا وَلَا رَسُولًا قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي
وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ
وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [ الْأَنْعَامِ: 161 - 163 ].
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ
حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ
وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [
النَّحْلِ: 120 - 123 ].
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي
الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ بِأَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ، فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ،
وَاللَّهُ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالْأَزْلَامِ قَطُّ. لَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ،
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْبُخَارِيِّ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ
شَيْخَنَا لَمْ يَسْتَقْسِمْ بِهَا قَطُّ.
فَقَوْلُهُ أُمَّةً أَيْ قُدْوَةً إِمَامًا مُهْتَدِيًا دَاعِيًا إِلَى الْخَيْرِ
يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ قَانِتًا لِلَّهِ أَيْ خَاشِعًا لَهُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ
وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ حَنِيفًا أَيْ مُخْلِصًا عَلَى بَصِيرَةٍ وَلَمْ يَكُ
مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ. أَيْ قَائِمًا بِشُكْرِ رَبِّهِ
بِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ مِنْ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَأَعْمَالِهِ
اجْتَبَاهُ أَيِ
اخْتَارَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَاصْطَفَاهُ لِرِسَالَتِهِ وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا،
وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ
أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [
النِّسَاءِ: 125 ]. يُرَغِّبُ تَعَالَى فِي اتِّبَاعِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ، وَقَدْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، وَمَدَحَهُ
تَعَالَى بِذَلِكَ فَقَالَ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [ النَّجْمِ: 37 ].
وَلِهَذَا اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا، وَالْخُلَّةُ هِيَ غَايَةُ الْمَحَبَّةِ،
كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي وَبِذَا سُمِّيَ الْخَلِيلُ خَلِيلًا
وَهَكَذَا نَالَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَسَيِّدُ
الرُّسُلِ؛ مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ، وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ
اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. وَقَالَ أَيْضًا فِي
آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ
الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ
خَلِيلُ اللَّهِ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَثَبَتَ أَيْضًا مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ فَقَرَأَ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرَّتْ عَيْنُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجُوزْجَانِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَهُ فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ، وَإِذَا بَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَجَبٌ أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ. وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبَ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا. وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ. وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ فَسَلَّمَ. وَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ، وَعَجَبَكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَآدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ وَهُوَ كَذَلِكَ أَلَا وَإِنِّي حَبِيبُ اللَّهِ، وَلَا فَخْرَ، أَلَا وَإِنِّي أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلْقَةَ بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهُ اللَّهُ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ الْسُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْوَجَلَ حَتَّى إِنْ كَانَ خَفَقَانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بُعْدٍ، كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُضِيفُ النَّاسَ، فَخَرَجَ يَوْمًا يَلْتَمِسُ إِنْسَانًا يُضِيفُهُ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُضِيفُهُ، فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلًا قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا أَدْخَلَكَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي ؟ قَالَ: دَخَلْتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ أَرْسَلَنِي رَبِّي إِلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ أُبَشِّرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. قَالَ: مَنْ هُوَ، فَوَاللَّهِ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِ، ثُمَّ كَانَ بِأَقْصَى الْبِلَادِ لَآتِيَنَّهُ، ثُمَّ لَا أَبْرَحُ لَهُ جَارًا حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا الْمَوْتُ. قَالَ: ذَلِكَ الْعَبْدُ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا ! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَبِمَ اتَّخَذَنِي رَبِّي خَلِيلًا ؟ قَالَ: بِأَنَّكَ تُعْطِي النَّاسَ وَلَا تَسْأَلُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالْمَدْحِ لَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَذْكُورٌ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ مَوْضِعًا، مِنْهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فِي الْبَقَرَةِ وَحْدَهَا، وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَسْمَائِهِمْ
تَخْصِيصًا مِنْ
بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ فِي آيَتَيِ الْأَحْزَابِ وَالشُّورَى، وَهُمَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ
وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا
مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ الْأَحْزَابِ: 7 ]. وَقَوْلُهُ: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا
بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ [ الشُّورَى: 13 ]. الْآيَةَ، ثُمَّ هُوَ أَشْرَفُ أُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي وَجَدَهُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ بِالْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ، وَمَا وَقَعَ
فِي حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ؛
مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ، فَمِمَّا
انْتُقِدَ عَلَى شَرِيكٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى الْحَدِيثُ
الَّذِي قَالَ فِيهِ: وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ
بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي
أَخْبَرَ عَنْهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: أَنَا
سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ. ثُمَّ ذَكَرَ
اسْتِشْفَاعَ النَّاسِ بِآدَمَ، ثُمَّ بِنُوحٍ، ثُمَّ بِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ
مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى فَكُلُّهُمْ يَحِيدُ عَنْهَا، حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا.
الْحَدِيثَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ،
حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ. قَالُوا: لَيْسَ
عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ
ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا
نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي ؟ خِيَارُهُمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا.
وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ،
وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ بِهِ.
، ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ أَبُو أُسَامَةَ، وَمُعْتَمِرٌ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَقَدْ أَسْنَدَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ
حَدِيثِهِمَا، وَحَدِيثِ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ
مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَاهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ
ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَالَ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا
أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ
ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلِ الرَّحْمَنِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ
ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى،
عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ قَرَأَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ. فَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ
النُّعْمَانِ النَّخَعِيِّ الْكُوفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ بِهِ. وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْمُعَيَّنَةُ لَا تَقْتَضِي
الْأَفْضَلِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَابَلَهَا مِمَّا ثَبَتَ لِصَاحِبِ
الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ،
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ الَّذِي قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ فَقَالَ:
" ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ ". فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
الثَّوْرِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، وَعَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، وَمُحَمَّدِ
بْنِ فُضَيْلٍ أَرْبَعَتُهُمْ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ، وَالتَّوَاضُعِ
مَعَ وَالِدِهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ: لَا تُفَضِّلُونِي
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى فَإِنَّ النَّاسَ
يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ فَأَجِدُ مُوسَى
بَاطِشًا
بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ
الطُّورِ. وَهَذَا كُلُّهُ لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى
إِبْرَاهِيمُ. وَلَمَّا كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْضَلَ
الرُّسُلِ وَأُولِي الْعَزْمِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أُمِرَ الْمُصَلِّي أَنْ يَقُولَ فِي تَشَهُّدِهِ مَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَغَيْرِهِ قَالَ:
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ،
فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ
إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ
حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى. قَالُوا: وَفَّى جَمِيعَ مَا
أُمِرَ بِهِ. وَقَامَ بِجَمِيعِ خِصَالِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ، وَكَانَ لَا
يَشْغَلُهُ مُرَاعَاةُ الْأَمْرِ الْجَلِيلِ عَنِ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ
الْأَمْرِ الْقَلِيلِ، وَلَا يُنْسِيهِ الْقِيَامُ بِأَعْبَاءِ الْمَصَالِحِ
الْكِبَارِ عَنِ الصِّغَارِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ
رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [ الْبَقَرَةِ: 124 ]. قَالَ: ابْتَلَاهُ
اللَّهُ بِالطَّهَارَةِ خَمْسٌ فِي الرَّأْسِ، وَخَمْسٌ فِي الْجَسَدِ فَأَمَّا
الَّتِي فِي الرَّأْسِ؛ قَصُّ الشَّارِبِ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالسِّوَاكُ،
وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَفَرْقُ
الرَّأْسِ. وَأَمَّا الَّتِي فِي الْجَسَدِ؛ تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَالْخِتَانُ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَغَسْلُ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَالَ: وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالنَّخَعِيِّ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي الْجَلْدِ نَحْوُ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْفِطْرَةُ خَمْسٌ؛ الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَأَهْلِ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ الْعَبْدَرِيِّ الْمَكِّيِّ الْحَجَبِيِّ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ؛ قَصُّ الشَّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي الِاسْتِنْجَاءَ. وَسَيَأْتِي فِي ذِكْرِ مِقْدَارِ عُمُرِهِ الْكَلَامُ عَلَى الْخِتَانِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَشْغَلُهُ الْقِيَامُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخُشُوعُ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ عَنْ مُرَاعَاةِ مَصْلَحَةِ بَدَنِهِ، وَإِعْطَاءِ كُلِّ عُضْوٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْإِصْلَاحِ وَالتَّحْسِينِ، وَإِزَالَةِ مَا
يَشِينُ مِنْ زِيَادَةِ شَعْرٍ أَوْ ظُفُرٍ، أَوْ وُجُودِ قَلَحٍ أَوْ وَسَخٍ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ مِنَ الْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى.
ذِكْرُ قَصْرِهِ
فِي الْجَنَّةِ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ
الْقَطَّانُ الْوَاسِطِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، قَالَا:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا أَحْسَبُهُ
قَالَ: مِنْ لُؤْلُؤَةٍ لَيْسَ فِيهِ فَصْمٌ وَلَا وَهْنٌ، أَعَدَّهُ اللَّهُ لِخَلِيلِهِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نُزُلًا. قَالَ الْبَزَّارُ: وَحَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ جَمِيلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. ثُمَّ
قَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
فَأَسْنَدَهُ إِلَّا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ،
وَغَيْرُهُمَا يَرْوِيهِ مَوْقُوفًا قُلْتُ: لَوْلَا هَذِهِ الْعِلَّةُ لَكَانَ
عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
ذِكْرُ صِفَةِ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، وَحُجَيْنٌ قَالَا: حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: عُرِضَ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ؛
فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ،
وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا
عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ
بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ
شَبَهًا دِحْيَةُ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَبِهَذَا اللَّفْظِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ،
حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ؛ فَأَمَّا
عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ.
قَالُوا لَهُ: فَإِبْرَاهِيمُ ؟ قَالَ: انْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ. يَعْنِي
نَفْسَهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا النَّضْرُ،
أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ
وَذَكَرُوا لَهُ الدَّجَّالَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ أَوْ ك ف ر
فَقَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ. وَلَكِنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَجَعْدٌ
آدَمُ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ
بِخُلْبَةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْحَجِّ، وَفِي اللِّبَاسِ، وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ بِهِ.
ذِكْرُ وَفَاةِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا قِيلَ فِي عُمُرِهِ
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ فِي زَمَنِ
النُّمْرُودِ بْنِ كَنْعَانَ وَهُوَ فِيمَا قِيلَ الضَّحَّاكُ الْمَلِكُ
الْمَشْهُورُ الَّذِي يُقَالُ: إِنَّهُ مَلَكَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ فِي غَايَةِ
الْغَشَمِ وَالظُّلْمِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ الَّذِينَ
بُعِثَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ مَلِكَ
الدُّنْيَا، وَذَكَرُوا أَنَّهُ طَلَعَ نَجْمٌ أَخْفَى ضَوْءَ الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ، فَهَالَ ذَلِكَ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَفَزِغَ النُّمْرُودُ فَجَمَعَ
الْكَهَنَةَ وَالْمُنَجِّمِينَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا: يُولَدُ
مَوْلُودٌ فِي رَعِيَّتِكَ يَكُونُ زَوَالُ مُلْكِكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَأَمَرَ
عِنْدَ ذَلِكَ بِمَنْعِ الرِّجَالِ عَنِ النِّسَاءِ وَأَنْ يُقْتَلَ
الْمَوْلُودُونَ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ، فَكَانَ مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ
فِي ذَلِكَ الْحِينِ، فَحَمَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَصَانَهُ مِنْ كَيْدِ
الْفُجَّارِ، وَشَبَّ شَبَابًا بَاهِرًا، وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا حَسَنًا
حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِالسُّوسِ.
وَقِيلَ: بِبَابِلَ. وَقِيلَ: بِالسَّوَادِ مِنْ نَاحِيَةِ كُوثَى. وَتَقَدَّمَ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَرْزَةَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، فَلَمَّا
أَهْلَكَ اللَّهُ نُمْرُودَ عَلَى يَدَيْهِ، وَهَاجَرَ إِلَى حَرَّانَ، ثُمَّ
إِلَى أَرْضِ الشَّامِ، وَأَقَامَ بِبِلَادِ إِيلِيَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَوُلِدَ
لَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ، وَمَاتَتْ سَارَةُ قَبْلَهُ بِقَرْيَةِ حَبْرُونَ
الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَلَهَا مِنَ الْعُمُرِ مِائَةٌ وَسَبْعٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ
الْكِتَابِ
فَحَزِنَ عَلَيْهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرَثَاهَا رَحِمَهَا
اللَّهُ، وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي حِيثَ يُقَالُ لَهُ: عَفْرُونُ بْنُ
صَخْرٍ مَغَارَةً بِأَرْبَعِمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ، وَدَفَنَ فِيهَا سَارَةَ
هُنَالِكَ. قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى ابْنِهِ إِسْحَاقَ
فَزَوَّجَهُ رِفْقَا بِنْتَ ثَبْوِيلَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَارَخَ وَبَعَثَ
مَوْلَاهُ، فَحَمَلَهَا مِنْ بِلَادِهَا وَمَعَهَا مُرْضِعَتُهَا وَجَوَارِيهَا
عَلَى الْإِبِلِ. قَالُوا: ثُمَّ تَزَوَّجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَنْطُورَا فَوَلَدَتْ لَهُ؛ زَمَرَانَ، وَيَقِشَانَ، وَمَادَانَ، وَمَدْيَنَ،
وَشَيَاقَ، وَشُوحَ، وَذَكَرُوا مَا وَلَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ
أَوْلَادِ قَنْطُورَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ عَنْ أَخْبَارِ
أَهْلِ الْكِتَابِ فِي صِفَةِ مَجِيءِ مَلَكِ الْمَوْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَارًا كَثِيرَةً اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ فَجْأَةً. وَكَذَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَالَّذِي ذَكَرَهُ
أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. قَالُوا: ثُمَّ مَرِضَ
إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَاتَ عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعِينَ.
وَدُفِنَ فِي الْمَغَارَةِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ امْرَأَتِهِ سَارَةَ الَّتِي فِي
مَزْرَعَةِ عَفْرُونَ الْحِيثِيِّ، وَتَوَلَّى دَفْنَهُ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ أَنَّهُ عَاشَ مِائَتَيْ سَنَةٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ
الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: أَنْبَأَنَا
الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَنَدِيُّ
بِمَكَّةَ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ اللَّحْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ،
وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَجَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ
الْعَمْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَوْقُوفًا.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُدْحِضِ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ
أَنَّ رَفَعَ هَذَا الْخَبَرِ وَهْمٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْجُنَيْدِ بِبُسْتَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ
حِينَ بَلَغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ
سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِقَدُومٍ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ
طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ
ثَمَانُونَ سَنَةً. ثُمَّ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ
قَالَ: الْقَدُومُ اسْمُ الْقَرْيَةِ. قُلْتُ: الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ
اخْتَتَنَ وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ
ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَلَيْسَ فِيهِمَا تَعَرُّضٌ لِمَا عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَسَّانِيُّ الْوَاسِطِيُّ رَاوِي تَفْسِيرِ وَكِيعٍ عَنْهُ
فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنْ تَسَرْوَلَ، وَأَوَّلَ مَنْ فَرَقَ، وَأَوَّلَ
مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلَ مَنِ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ
وَمِائَةِ سَنَةٍ وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَوَّلَ مَنْ قَرَى
الضَّيْفَ، وَأَوَّلَ مَنْ شَابَ. هَكَذَا رَوَاهُ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَشْبَهُ
بِالْمَرْفُوعِ خِلَافًا لِابْنِ حِبَّانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ أَوَّلَ مَنْ أَضَافَ الضَّيْفَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ
اخْتَتَنَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ قَصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى
الشَّيْبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ اللَّهُ: وَقَارٌ. فَقَالَ:
يَا رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا. وَزَادَ غَيْرُهُمَا: وَأَوَّلَ مَنْ قَصَّ
شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ مَنِ اسْتَحَدَّ، وَأَوَّلَ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ،
فَقَبْرُهُ وَقَبْرُ وَلَدِهِ إِسْحَاقَ وَقَبْرُ وَلَدِ وَلَدِهِ يَعْقُوبَ فِي
الْمَرْبَعَةِ الَّتِي بَنَاهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِبَلَدِ حَبْرُونَ، وَهُوَ الْبَلَدُ الْمَعْرُوفُ بِالْخَلِيلِ الْيَوْمَ.
وَهَذَا مُتَلَقًّى بِالتَّوَاتُرِ أُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ
مِنْ زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا أَنَّ قَبْرَهُ بِالْمَرْبَعَةِ
تَحْقِيقًا. فَأَمَّا تَعْيِينُهُ مِنْهَا فَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ عَنْ
مَعْصُومٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى تِلْكَ الْمَحَلَّةُ، وَأَنْ تُحْتَرَمَ
احْتِرَامَ مِثْلِهَا، وَأَنْ
تُبَجَّلَ، وَأَنْ
تُجَلَّ أَنْ يُدَاسَ فِي أَرْجَائِهَا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَبْرُ الْخَلِيلِ
أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ تَحْتَهَا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: وُجِدَ
عِنْدَ قَبْرِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَى حَجَرٍ كِتَابَةٌ خَلِقَةٌ:
أَلْهَى جَهُولًا أَمَلُهْ يَمُوتُ مَنْ جَا أَجَلُهْ وَمَنْ دَنَا مِنْ حَتْفِهْ
لَمْ تُغْنِ عَنْهُ حِيَلُهْ وَكَيْفَ يَبْقَى آخِرُهْ
مَنْ مَاتَ عَنْهُ أَوَّلُهْ وَالْمَرْءُ لَا يَصْحَبُهْ
فِي الْقَبْرِ إِلَّا عَمَلُهْ
ذِكْرُ أَوْلَادِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَوَّلُ مَنْ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ مِنْ هَاجَرَ الْقِبْطِيَّةِ
الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ مِنْ سَارَةَ بِنْتِ عَمِّ
الْخَلِيلِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا قَنْطُورَا بِنْتَ يَقْطُنَ الْكَنْعَانِيَّةَ
فَوَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً؛ مَدْيَنَ، وَزَمَرَانَ، وَسَرَجَ، وَيَقِشَانَ،
وَنَشَقَ، وَلَمْ يُسَمَّ السَّادِسُ. ثُمَّ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا حَجُونَ بِنْتَ
أَمِينَ فَوَلَدَتْ لَهُ خَمْسَةً؛ كَيْسَانَ، وَسُورَجَ، وَأَمِيمَ، وَلُوطَانَ،
وَنَافَسَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ
" التَّعْرِيفُ وَالْإِعْلَامُ ".
وَمِمَّا وَقَعَ
فِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ قِصَّةُ قَوْمِ
لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ النِّقْمَةِ الْعَمِيمَةِ
وَذَلِكَ أَنَّ لُوطًا ابْنُ هَارَانَ بْنِ تَارَحَ، وَهُوَ آزَرُ، كَمَا
تَقَدَّمَ وَلُوطٌ ابْنُ أَخِي إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فَإِبْرَاهِيمُ وَهَارَانُ
وَنَاحُورُ إِخْوَةٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَيُقَالُ: إِنَّ هَارَانَ هَذَا هُوَ
الَّذِي بَنَى حَرَّانَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِمُخَالَفَتِهِ مَا بِأَيْدِي أَهْلِ
الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ لُوطٌ قَدْ نَزَحَ عَنْ مَحَلَّةِ
عَمِّهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِأَمْرِهِ لَهُ وَإِذْنِهِ، فَنَزَلَ
بِمَدِينَةِ سَدُومَ مِنْ أَرْضِ غَوْرِ زُغَرَ، وَكَانَتْ أُمَّ تِلْكَ
الْمَحَلَّةِ وَلَهَا أَرْضٌ وَمُعْمَلَاتٌ وَقُرًى مُضَافَةٌ إِلَيْهَا، وَلَهَا
أَهْلٌ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَأَكْفَرِهِمْ وَأَسْوَئِهِمْ طَوِيَّةً
وَأَرْدَئِهِمْ سَرِيرَةً وَسِيرَةً، يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَيَأْتُونَ فِي
نَادِيهِمُ الْمُنْكَرَ، وَلَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ، لَبِئْسَ
مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ابْتَدَعُوا فَاحِشَةً لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا
أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ وَهِيَ إِتْيَانُ الذُّكْرَانِ مِنَ الْعَالَمَيْنِ،
وَتَرْكُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ النِّسْوَانِ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ،
فَدَعَاهُمْ لُوطٌ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْفَوَاحِشِ
الْمُنْكَرَاتِ، وَالْأَفَاعِيلِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ فَتَمَادَوْا عَلَى
ضَلَالِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، وَاسْتَمَرُّوا عَلَى فُجُورِهِمْ وَكُفْرَانِهِمْ،
فَأَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ الَّذِي لَا يُرَدُّ مَا لَمْ يَكُنْ فِي
خَلَدِهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ مَثُلَةً فِي الْعَالَمِينَ، وَعِبْرَةً
يُتَّعِظُ بِهَا
الْأَلِبَّاءُ مِنَ الْعَالِمِينَ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّتَهُمْ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْمُبِينِ فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 80 - 84 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ هُودٍ: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَاوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ
قُوَّةً أَوْ آوِي
إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا
إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ
الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ هُودٍ: 69
- 83 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ
أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا
بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ
مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ
لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا
لَمِنَ الْغَابِرِينَ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ
مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ
دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ
هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [ الْحِجْرِ: 51 - 77 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي
سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ
الْمُرْسَلِينَ
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ
أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ
الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ
مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا
عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا
كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [
الشُّعَرَاءِ: 160 - 175 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ
أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا
امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا
فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [ النَّمْلِ 54 - 58 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي
سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ
الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا
إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ
قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا
لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ
بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 28 - 35 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ الصَّافَّاتِ: 133 - 138 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي الذَّارِيَاتِ بَعْدَ قِصَّةِ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ وَبِشَارَتِهِمْ إِيَّاهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ: قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ الذَّارِيَاتِ: 31 - 37 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [ الْقَمَرِ 33 - 40 ].
وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْقِصَصِ فِي أَمَاكِنِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي
التَّفْسِيرِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لُوطًا وَقَوْمَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنَ
الْقُرْآنِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا مَعَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ.
وَالْمَقْصُودُ الْآنَ إِيرَادُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ
بِهِمْ، مَجْمُوعًا مِنَ الْآيَاتِ وَالْآثَارِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَذَلِكَ أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ
اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَاطِي مَا ذَكَرَ اللَّهُ
عَنْهُمْ مِنَ الْفَوَاحِشِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ،
حَتَّى وَلَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَا عَنْهُ نُهُوا، بَلِ
اسْتَمَرُّوا عَلَى حَالِهِمْ، وَلِمَ يَرْعَوُوا عَنْ غَيِّهِمْ وَضَلَالِهِمْ،
وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ رَسُولِهِمْ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَمَا كَانَ
حَاصِلُ جَوَابِهِمْ عَنْ خِطَابِهِمْ، إِذْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ: إِلَّا أَنْ
قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
فَجَعَلُوا غَايَةَ الْمَدْحِ ذَمًّا يَقْتَضِي الْإِخْرَاجَ، وَمَا حَمَلَهُمْ
عَلَى مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ إِلَّا الْعِنَادُ وَاللَّجَاجُ، فَطَهَّرَهُ اللَّهُ
وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا أَحْسَنَ إِخْرَاجٍ،
وَتَرَكَهُمْ فِي مَحَلَّتِهِمْ خَالِدِينَ لَكِنْ بَعْدَ مَا صَيَّرَهَا
عَلَيْهِمْ بَحْرَةً مُنْتِنَةً ذَاتَ أَمْوَاجٍ، لَكِنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي
الْحَقِيقَةِ نَارٌ تَأَجَّجُ وَحَرٌّ يَتَوَهَّجُ، وَمَاؤُهَا مِلْحٌ أُجَاجٌ،
وَمَا كَانَ هَذَا جَوَابَهُمْ إِلَّا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنِ الطَّامَّةِ
الْعُظْمَى وَالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى الَّتِي لَمْ يَسْبِقْهُمْ إِلَيْهَا أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا؛ وَلِهَذَا صَارُوا مَثُلَةً فِيهَا، وَعِبْرَةً لِمَنْ
عَلَيْهَا، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ، وَيَخُونُونَ
الرَّفِيقَ، وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمْ وَهُوَ مُجْتَمَعُهُمْ وَمَحَلُّ
حَدِيثِهِمْ وَسَمَرِهِمُ الْمُنْكَرَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَالْأَفْعَالِ عَلَى
اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَتَضَارَطُونَ فِي
مَجَالِسِهِمْ وَلَا يَسْتَحْيُونَ مِنْ مُجَالِسِهِمْ، وَرُبَّمَا وَقَعَ
مِنْهُمُ الْفَعْلَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْمَحَافِلِ وَلَا
يَسْتَنْكِفُونَ، وَلَا يَرْعَوُونَ لِوَعْظِ وَاعِظٍ، وَلَا نَصِيحَةٍ مِنْ نَاقِلٍ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ كَالْأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وَلَمْ يُقْلِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْحَاضِرِ، وَلَا نَدِمُوا عَلَى مَا سَلَفَ مِنَ الْمَاضِي، وَلَا رَامُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَحْوِيلًا، فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أَخَذًا وَبِيلًا، وَقَالُوا لَهُ فِيمَا قَالُوا: ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَطَلَبُوا مِنْهُ وُقُوعَ مَا حَذَّرَهُمْ عَنْهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَحُلُولِ الْبَأْسِ الْعَظِيمِ فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمُ الْكَرِيمُ فَسَأَلَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِلَهِ الْمُرْسَلِينَ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ فَغَارَ اللَّهُ لِغَيْرَتِهِ، وَغَضِبَ لِغَضْبَتِهِ، وَاسْتَجَابَ لِدَعْوَتِهِ، وَأَجَابَهُ إِلَى طِلْبَتِهِ، وَبَعَثَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ، وَمَلَائِكَتَهُ الْعِظَامَ فَمَرُّوا عَلَى الْخَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَشَّرُوهُ بِالْغُلَامِ الْعَلِيمِ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا جَاءُوا لَهُ مِنَ الْأَمْرِ الْجَسِيمِ، وَالْخَطْبِ الْعَمِيمِ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ. وَقَالَ: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُو أَنْ يُنِيبُوا وَيُسْلِمُوا وَيُقْلِعُوا وَيَرْجِعُوا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ. أَيْ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، وَتَكَلَّمْ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَدْ حُتِمَ أَمْرُهُمْ، وَوَجَبَ عَذَابُهُمْ وَتَدْمِيرُهُمْ وَهَلَاكُهُمْ. إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ. أَيْ قَدْ أَمَرَ بِهِ مَنْ لَا يُرَدُّ أَمْرُهُ، وَلَا يُرَدُّ بِأْسُهُ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.
وَذَكَرَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ يَقُولُ: أَتُهْلِكُونَ قَرْيَةً فِيهَا
ثَلَاثُمِائَةِ مُؤْمِنٍ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِائَتَا مُؤْمِنٍ ؟ قَالُوا:
لَا. قَالَ: فَأَرْبَعُونَ مُؤْمِنًا قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَرْبَعَةَ عَشَرَ
مُؤْمِنًا ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَى أَنْ قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ
إِنْ كَانَ فِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا
قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا. الْآيَةَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ
أَنَّهُ قَالَ: يَا رَبِّ أَتُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ خَمْسُونَ رَجُلًا صَالِحًا ؟
فَقَالَ اللَّهُ: لَا أُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ خَمْسُونَ صَالِحًا. ثُمَّ تَنَازَلَ
إِلَى عَشَرَةٍ، فَقَالَ اللَّهُ: لَا أُهْلِكُهُمْ وَفِيهِمْ عَشَرَةٌ
صَالِحُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ
بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا
فَصَلَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ وَهُمْ؛ جِبْرِيلُ،
وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، أَقْبَلُوا حَتَّى أَتَوْا أَرْضَ سَدُومَ فِي
صُورَةِ شُبَّانٍ حِسَانٍ اخْتِبَارًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْمِ لُوطٍ،
وَإِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، فَاسْتَضَافُوا لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَخَشِيَ إِنْ لَمْ يُضِفْهُمْ أَنْ
يُضِيفَهُمْ غَيْرُهُ مِنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَحَسِبَهُمْ بَشَرًا مِنَ
النَّاسِ وَ سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
شَدِيدٌ بَلَاؤُهُ، وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ مُدَافَعَتِهِ اللَّيْلَةَ
عَنْهُمْ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بِغَيْرِهِمْ مَعَهُمْ، وَكَانُوا قَدِ
اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُضِيفَ أَحَدًا، وَلَكِنْ رَأَى مَنْ لَا يُمْكِنُ
الْمَحِيدُ عَنْهُ. وَذَكَرَ
قَتَادَةُ أَنَّهُمْ وَرَدُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهَا، فَتَضَيَّفُوهُ فَاسْتَحْيَى مِنْهُمْ وَانْطَلَقَ أَمَامَهُمْ، وَجَعَلَ يُعَرِّضُ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَعَلَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ عَنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ، وَيَنْزِلُونَ فِي غَيْرِهَا، فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ مَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَهْلَ بَلَدٍ أَخْبَثَ مِنْ هَؤُلَاءِ، ثُمَّ مَشَى قَلِيلًا، ثُمَّ أَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَرَّرَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ قَالَ: وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ لَا يُهْلِكُوهُمْ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ نَحْوَ قَوْمِ لُوطٍ فَأَتَوْهَا نِصْفَ النَّهَارِ، فَلَمَّا بَلَغُوا نَهْرَ سَدُومَ لَقُوا ابْنَةَ لُوطٍ تَسْتَقِي مِنَ الْمَاءِ لِأَهْلِهَا، وَكَانَتْ لَهُ ابْنَتَانِ اسْمُ الْكُبْرَى أَرِيثَا، وَالصُّغْرَى دَغُوْثَا فَقَالُوا لَهَا: يَا جَارِيَةُ هَلْ مِنْ مَنْزِلٍ ؟ فَقَالَتْ لَهُمْ: مَكَانَكُمْ، لَا تَدْخُلُوا حَتَّى آتِيَكُمْ. فَرِقَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهَا، فَأَتَتْ أَبَاهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَرَادَكَ فِتْيَانٌ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، مَا رَأَيْتُ وُجُوهَ قَوْمٍ قَطُّ هِيَ أَحْسَنَ مِنْهُمْ، لَا يَأْخُذُهُمْ قَوْمُكَ فَيَفْضَحُوهُمْ. وَقَدْ كَانَ قَوْمُهُ نَهَوْهُ أَنْ يُضِيفَ رَجُلًا، فَجَاءَ بِهِمْ، فَلَمْ يَعْلَمْ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلُ الْبَيْتِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا فَقَالَتْ: إِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ رِجَالًا مَا رَأَيْتُ مِثْلَ وُجُوهِهِمْ قَطُّ. فَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: وَمِنْ
قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ. أَيْ هَذَا مَعَ مَا سَلَفَ لَهُمْ
مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ الْكَثِيرَةِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ
بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ. يُرْشِدُهُمْ إِلَى غِشْيَانِ نِسَائِهِمْ،
وَهُنَّ بَنَاتُهُ شَرْعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لِلْأُمَّةِ بِمَنْزِلَةِ
الْوَالِدِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: النَّبِيُّ
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [
الْأَحْزَابِ: 6 ]. وَفِي قِرَاءَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ: "
وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ ". وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ
الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 165 - 166 ]. وَهَذَا هُوَ الَّذِي
نَصَّ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ،
وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ الصَّوَابُ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ خَطَأٌ مَأْخُوذٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَدْ تَصَحَّفَ
عَلَيْهِمْ، كَمَا أَخْطَئُوا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانُوا
اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُمْ تَعَشَّوْا عِنْدَهُ، وَقَدْ خَبَّطَ أَهْلُ الْكِتَابِ
فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَخْبِيطًا عَظِيمًا.
وَقَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ
رَجُلٌ رَشِيدٌ نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ مِنَ الْفَاحِشَةِ،
وَشَهَادَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ مُسْكَةٌ، وَلَا
فِيهِ خَيْرٌ، بَلِ الْجَمِيعُ سُفَهَاءُ فَجَرَةٌ أَقْوِيَاءُ كَفَرَةٌ
أَعْتِيَاءُ. وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَ الْمَلَائِكَةُ أَنْ
يَسْمَعُوا مِنْهُ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ قَوْمُهُ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ الْحَمِيدِ الْمَجِيدِ مُجِيبِينَ لِنَبِيِّهِمْ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ السَّدِيدِ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ. يَقُولُونَ: عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتَ يَا لُوطُ إِنَّهُ لَا أَرَبَ لَنَا فِي نِسَائِنَا، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مُرَادَنَا، وَغَرَضَنَا، وَاجَهُوا بِهَذَا الْكَلَامِ الْقَبِيحِ رَسُولَهُمُ الْكَرِيمَ، وَلَمْ يَخَافُوا سَطْوَةَ الْعَظِيمِ ذِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. وَدَّ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ بِهِمْ قُوَّةٌ أَوْ لَهُ مَنَعَةٌ، وَعَشِيرَةٌ يَنْصُرُونَهُ عَلَيْهِمْ لِيُحِلَّ بِهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى هَذَا الْخِطَابِ، وَقَدْ قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ. وَرَوَاهُ أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. فَأَمَرَهُمْ بِقُرْبَانِ نِسَائِهِمْ، وَحَذَّرَهُمُ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَسَيِّئَاتِهِمْ، هَذَا وَهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَرْعَوُونَ،
بَلْ كُلَّمَا نَهَاهُمْ يُبَالِغُونَ فِي تَحْصِيلِ هَؤُلَاءِ الضِّيفَانِ وَيَحْرِصُونَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا حَمَّ بِهِ الْقَدَرُ مِمَّا هُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، وَصَبِيحَةَ لَيْلَتِهِمْ مُنْتَقِلُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُقْسِمًا بِحَيَاةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ. ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ يُمَانِعُ قَوْمَهُ الدُّخُولَ وَيُدَافِعُهُمْ، وَالْبَابُ مُغْلَقٌ، وَهُمْ يَرُومُونَ فَتْحَهُ وَوُلُوجَهُ وَهُوَ يَعِظُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، فَلَمَّا ضَاقَ الْأَمْرُ، وَعَسُرَ الْحَالُ قَالَ مَا قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ. لَأَحْلَلْتُ بِكُمُ النَّكَالَ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ. وَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَضَرَبَ وُجُوهَهُمْ خَفْقَةً بِطَرَفِ جَنَاحِهِ فَطُمِسَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا غَارَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا مَحَلٌّ، وَلَا عَيْنٌ، وَلَا أَثَرٌ فَرَجَعُوا يَتَجَسَّسُونَ مَعَ الْحِيطَانِ، وَيَتَوَعَّدُونَ رَسُولَ الرَّحْمَنِ وَيَقُولُونَ: إِذَا كَانَ الْغَدُ كَانَ لَنَا وَلَهُ شَأنٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ. فَذَلِكَ
أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ تَقَدَّمَتْ إِلَى لُوطٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ آمِرِينَ لَهُ
بِأَنْ يَسْرِيَ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ يَعْنِي عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ الْعَذَابِ إِذَا حَلَّ بِقَوْمِهِ.
وَأَمَرُوهُ أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ فِي آخِرِهِمْ كَالسَّاقَةِ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا امْرَأَتَكَ عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَوْلِهِ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ:
إِلَّا امْرَأَتَكَ فَلَا تَسْرِ بِهَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ أَيْ فَإِنَّهَا
سَتَلْتَفِتُ فَيُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، وَيُقَوِّي هَذَا الِاحْتِمَالَ قِرَاءَةُ
الرَّفْعِ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ امْرَأَةِ لُوطٍ وَالِهَةُ، وَاسْمُ امْرَأَةِ
نُوحٍ وَالِغَةُ. وَقَالُوا لَهُ مُبَشِّرِينَ بِهَلَاكِ هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ
الْعُتَاةِ الْمَلْعُونِينَ النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ
اللَّهُ سَلَفًا لِكُلِّ خَائِنٍ مُرِيبٍ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا خَرَجَ لُوطٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِهِ،
وَهُمُ ابْنَتَاهُ، وَلَمْ يَتْبَعْهُ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَيُقَالُ: إِنَّ
امْرَأَتَهُ خَرَجَتْ مَعَهُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَلَمَّا خَلَصُوا مِنْ
بِلَادِهِمْ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَكَانَ عِنْدَ شُرُوقِهَا جَاءَهُمْ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ مَا لَا يُرَدُّ، وَمِنَ الْبَأْسِ الشَّدِيدِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ
يُصَدَّ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَمَرُوهُ أَنْ
يَصْعَدَ إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ الَّذِي هُنَاكَ فَاسْتَبْعَدَهُ، وَسَأَلَ
مِنْهُمْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُمْ، فَقَالُوا: اذْهَبْ
فَإِنَّا نَنْتَظِرُكَ حَتَّى تَصِيرَ إِلَيْهَا وَتَسْتَقِرَّ فِيهَا ثُمَّ
نُحِلَّ بِهِمُ الْعَذَابَ فَذَكَرُوا أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى قَرْيَةِ صُغَرَ
الَّتِي يَقُولُ النَّاسُ: غَوْرُ زُغَرَ. فَلَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ
بِهِمُ الْعَذَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا
عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
قَالُوا:
اقْتَلَعَهُنَّ جِبْرِيلُ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ مِنْ قَرَارِهِنَّ، وَكُنَّ سَبْعَ
مُدُنٍ بِمَنْ فِيهِنَّ مِنَ الْأُمَمِ يُقَالُ: إِنَّهُمْ كَانُوا
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ نَسَمَةٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ نَسَمَةٍ.
وَمَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَمَا يَتْبَعُ تِلْكَ الْمُدُنَ مِنَ
الْأَرَاضِي وَالْأَمَاكِنِ وَالْمُعْتَمَلَاتِ، فَرَفَعَ الْجَمِيعَ حَتَّى
بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ أَصْوَاتَ
دِيَكَتِهِمْ وَنُبَاحَ كِلَابِهِمْ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ
عَالِيَهَا سَافِلَهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَقَطَ مِنْهَا شُرُفَاتُهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. وَالسِّجِّيلُ فَارِسِيٌّ
مُعَرَّبٌ، وَهُوَ الشَّدِيدُ الصُّلْبُ الْقَوِيُّ مَنْضُودٍ أَيْ يَتْبَعُ
بَعْضُهَا بَعْضًا فِي نُزُولِهَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مُسَوَّمَةً أَيْ
مُعَلَّمَةً مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجْرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ الَّذِي يَهْبِطُ
عَلَيْهِ فَيَدْمَغُهُ، كَمَا قَالَ: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا
غَشَّى [ النَّجْمِ: 53 - 54 ]. يَعْنِي قَلَبَهَا فَأَهْوَى بِهَا مُنَكَّسَةً
عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَغَشَّاهَا بِمَطَرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ
مُتَتَابِعَةٍ مُسَوَّمَةٍ مَرْقُومٍ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ الَّذِي
سَقَطَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَاضِرِينَ مِنْهُمْ فِي بَلَدِهِمْ وَالْغَائِبِينَ
عَنْهَا مِنَ الْمُسَافِرِينَ وَالنَّازِحِينَ وَالشَّاذِّينَ مِنْهَا.
وَيُقَالُ: إِنَّ امْرَأَةَ لُوطٍ مَكَثَتْ مَعَ قَوْمِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا
خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَبِنْتَيْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا سَمِعَتِ الصَّيْحَةَ
وَسُقُوطَ الْبَلْدَةِ، وَالْتَفَتَتْ إِلَى قَوْمِهَا وَخَالَفَتْ أَمْرَ
رَبِّهَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا،
وَقَالَتْ: وَاقَوْمَاهْ. فَسَقَطَ عَلَيْهَا حَجْرٌ فَدَمَغَهَا، وَأَلْحَقَهَا بِقَوْمِهَا إِذْ كَانَتْ عَلَى دِينِهِمْ، وَكَانَتْ عَيْنًا لَهُمْ عَلَى مَنْ يَكُونُ عِنْدَ لُوطٍ مِنَ الضِّيفَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [ التَّحْرِيمِ: 10 ]. أَيْ خَانَتَاهُمَا فِي الدِّينِ فَلَمْ تَتْبَعَاهُمَا فِيهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى فَاحِشَةٍ حَاشَا وَكَلَّا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّرُ عَلَى نَبِيٍّ أَنْ تَبْغِيَ امْرَأَتُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وَمَنْ قَالَ خِلَافَ هَذَا فَقَدَ أَخْطَأَ خَطَأً كَبِيرًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ لَمَّا أَنْزَلَ بَرَاءَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا فَعَاتَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّبَ وَزَجَرَ، وَوَعَظَ وَحَذَّرَ. وَقَالَ فِيمَا قَالَ: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [ النُّورِ: 15 - 16 ]. أَيْ سُبْحَانَكَ أَنْ تَكُونَ زَوْجَةُ نَبِيِّكَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَقَوْلُهُ هَاهُنَا: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ. أَيْ وَمَا هَذِهِ الْعُقُوبَةُ بِبَعِيدَةٍ مِمَّنْ أَشْبَهَهُمْ فِي فِعْلِهِمْ؛ وَلِهَذَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُرْجَمُ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ لَا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَطَائِفَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنَ
الْأَئِمَّةِ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَهْلُ
السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ
وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ
وَالْمَفْعُولَ بِهِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ اللَّائِطَ يُلْقَى
مِنْ شَاهِقٍ، وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ، كَمَا فُعِلَ بِقَوْمِ لُوطٍ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
وَجَعَلَ اللَّهُ مَكَانَ تِلْكَ الْبِلَادِ بَحْرَةً مُنْتِنَةً لَا يُنْتَفَعُ
بِمَائِهَا، وَلَا بِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَرَاضِي الْمُتَاخِمَةِ لِفِنَائِهَا
لِرَدَاءَتِهَا وَدَنَاءَتِهَا، فَصَارَتْ عِبْرَةً وَمَثُلَةً، وَعِظَةً وَآيَةً
عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ وَعِزَّتِهِ فِي انْتِقَامِهِ
مِمَّنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ رُسُلَهُ، وَاتَّبَعْ هَوَاهُ وَعَصَى
مَوْلَاهُ، وَدَلِيلًا عَلَى رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي
إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ الْمُهْلِكَاتِ، وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 8 - 9 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [
الْحِجْرِ: 73 - 77 ]. أَيْ مَنْ نَظَرَ بِعَيْنِ الْفِرَاسَةِ وَالتَّوَسُّمِ
فِيهِمْ كَيْفَ غَيَّرَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ وَأَهْلَهَا ؟ وَكَيْفَ
جَعَلَهَا بَعْدَ مَا كَانَتْ آهِلَةً عَامِرَةً هَالِكَةً غَامِرَةً ؟ كَمَا
رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا اتَّقَوْا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ
فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ. ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِلْمُتَوَسِّمِينَ.
وَقَوْلُهُ:
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أَيْ لَبِطَرِيقٍ مَهْيَعٍ مَسْلُوكٍ إِلَى
الْآنَ، كَمَا قَالَ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ الصَّافَّاتِ: 137 - 138 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [
الْعَنْكَبُوتِ: 35 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا
فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ الذَّارِيَاتِ: 35 -
37 ]. أَيْ تَرَكْنَاهَا عِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ
وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، وَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوَى فَانْزَجَرَ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَتَرَكَ مَعَاصِيَهُ وَخَافَ
أَنْ يُشَابِهَ قَوْمَ لُوطٍ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَمِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ.
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا قَوْمَ لُوطٍ بِعَيْنِهِمْ فَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ
بِبَعِيدِ
فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ الْخَائِفُ مِنْ رَبِّهِ الْفَاهِمُ يَمْتَثِلُ مَا
أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَقْبَلُ مَا أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ مِنْ إِتْيَانِ مَا خُلِقَ لَهُ مِنَ الزَّوْجَاتِ الْحَلَالِ،
وَالْجَوَارِي مِنَ السَّرَارِيِّ ذَوَاتِ الْجَمَالِ، وَإِيَّاهُ أَنْ يَتَّبِعَ
كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ فَيَحِقَّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ، وَيَدْخُلَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ هُودٍ: 83 ].
قِصَّةُ مَدْيَنَ
قَوْمِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ
كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ
بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا
وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ
قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ
إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا
أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى
اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا
كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ
كَافِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 85 - 93 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ بَعْدَ قِصَّةِ
قَوْمِ لُوطٍ أَيْضًا:
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [ هُودٍ: 84 - 95 ]. وَقَالَ فِي الْحِجْرِ بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ أَيْضًا: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [ الْحِجْرِ: 78 - 79 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ بَعْدَ
قِصَّتِهِمْ:
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا
تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا
تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا
أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي
أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ
إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [
الشُّعَرَاءِ: 176 - 191 ].
كَانَ أَهْلُ مَدْيَنَ قَوْمًا عَرَبًا يَسْكُنُونَ مَدِينَتَهُمْ مَدْيَنَ
الَّتِي هِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَرْضِ مُعَانٍ مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ مِمَّا يَلِي
نَاحِيَةَ الْحِجَازِ قَرِيبًا مِنْ بُحَيْرَةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَكَانُوا
بَعْدَهُمْ بِمُدَّةٍ قَرِيبَةٍ، وَمَدْيَنُ قَبِيلَةٌ عُرِفَتْ بِهِمُ
الْمَدِينَةُ، وَهُمْ مِنْ بَنِي مَدْيَنَ بْنِ مديَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَشُعَيْبٌ نَبِيُّهُمْ هُوَ ابْنُ
ميكيلَ بْنِ يَشْجَنَ ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: وَيُقَالُ لَهُ
بِالسُّرْيَانِيَّةِ: بَثْرُونُ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَيُقَالُ: شُعَيْبُ بْنُ
يشجنَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَيُقَالُ: شُعَيْبُ بْنُ ثَوِيبَ بْنِ عَبَقَا
بْنِ
مَدْيَنَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ. وَيُقَالُ: شُعَيْبُ بْنُ صِيفُورَ بْنِ عَبَقَا بْنِ ثَابِتِ بْنِ
مَدْيَنَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. قَالَ ابْنُ
عَسَاكِرَ: وَيُقَالُ: جَدَّتُهُ وَيُقَالُ: أُمُّهُ بِنْتُ لُوطٍ وَكَانَ مِمَّنْ
آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ وَدَخَلَ مَعَهُ دِمَشْقَ. وَعَنْ وَهْبِ
بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: شُعَيْبٌ وَبَلْعَمُ مِمَّنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ
يَوْمَ أُحْرِقَ بِالنَّارِ، وَهَاجَرَا مَعَهُ إِلَى الشَّامِ فَزَوَّجَهُمَا
بِنْتَيْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَفِي هَذَا
كُلِّهِ نَظَرٌ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبِرِّ فِي " الِاسْتِيعَابِ " فِي
تَرْجَمَةِ سَلَمَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْعَنَزِيِّ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَانْتَسَبَ إِلَى عَنَزَةَ
فَقَالَ: نِعْمَ الْحَيُّ عَنَزَةُ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِمْ، مَنْصُورُونَ، قَوْمُ
شُعَيْبٍ وَأَخْتَانُ مُوسَى. فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَدَلَّ عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا
صِهْرُ مُوسَى، وَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلَةٍ مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ يُقَالُ
لَهُمْ: عَنَزَةُ لَا أَنَّهُمْ مِنْ عَنَزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
نِزَارِ بْنِ مَعْدِّ بْنِ عَدْنَانَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ بَعْدَهُ بِدَهْرٍ
طَوِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الَّذِي فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ فِي ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالرُّسُلِ قَالَ: أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ؛ هُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبٌ،
وَنَبِيُّكَ يَا
أَبَا ذَرٍّ.
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُسَمِّي شُعَيْبًا خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ، يَعْنِي
لِفَصَاحَتِهِ وَعُلُوِّ عِبَارَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ فِي دِعَايَةِ قَوْمِهِ إِلَى
الْإِيمَانِ بِرِسَالَتِهِ، وَقَدْ رَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ،
وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ شُعَيْبًا قَالَ: ذَاكَ خَطِيبُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَكَانَ أَهْلُ مَدْيَنَ كُفَّارًا يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ، وَيُخِيفُونَ
الْمَارَّةَ، وَيَعْبُدُونَ الْأَيْكَةَ، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنَ الْأَيْكِ
حَوْلَهَا غَيْضَةٌ مُلْتَفَّةٌ بِهَا، وَكَانُوا مِنْ أَسُوءِ النَّاسِ
مُعَامَلَةً يَبْخَسُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، وَيُطَفِّفُونَ فِيهِمَا
يَأْخُذُونَ بِالزَّائِدِ، وَيَدْفَعُونَ بِالنَّاقِصِ فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ
رَجُلًا مِنْهُمْ، وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَدَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَهَاهُمْ عَنْ
تَعَاطِي هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ الْقَبِيحَةِ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ،
وَإِخَافَتِهِمْ لَهُمْ فِي سُبُلِهِمْ وَطُرُقَاتِهِمْ، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهُمْ،
وَكَفَرَ أَكْثَرُهُمْ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمُ الْبَأْسَ الشَّدِيدَ، وَهُوَ
الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ
شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ. أَيْ دَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ وَاضِحَةٌ،
وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ. وَأَنَّهُ أَرْسَلَنِي،
وَهُوَ مَا أَجْرَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَمْ
تُنْقَلْ إِلَيْنَا تَفْصِيلًا، وَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ
عَلَيْهَا إِجْمَالًا.
فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا. أَمَرَهُمْ بِالْعَدْلِ،
وَنَهَاهُمْ عَنِ الظُّلْمِ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَقَالَ:
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ. أَيْ طَرِيقٍ تُوعِدُونَ أَيْ تَتَوَعَّدُونَ النَّاسَ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ مِنْ مُكُوسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَتُخِيفُونَ السُّبُلَ قَالَ السُّدِّيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ: وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ. أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْعُشُورَ مِنْ أَمْوَالِ الْمَارَّةِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا قَوْمًا طُغَاةً بُغَاةً يَجْلِسُونَ عَلَى الطَّرِيقِ يَبْخَسُونَ النَّاسَ يَعْنِي يَعْشُرُونَهُمْ، وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا. فَنَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ الْحِسِّيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ. ذَكَّرَهُمْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي تَكْثِيرِهِمْ بَعْدَ الْقِلَّةِ، وَحَذَّرَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ بِهِمْ إِنْ خَالَفُوا مَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ لَهُمْ فِي الْقِصَّةِ الْأُخْرَى: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ. أَيْ لَا تَرْكَبُوا مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَتَسْتَمِرُّوا فِيهِ، فَيَمْحَقَ اللَّهُ بَرَكَةَ مَا فِي أَيْدِيكُمْ وَيُفْقِرَكُمْ، وَيُذْهِبَ مَا بِهِ يُغْنِيكُمْ، وَهَذَا مُضَافٌ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ جُمِعَ لَهُ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ بَاءَ بِالصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ، فَنَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنْ تَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَحَذَّرَهُمْ سَلْبَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي دُنْيَاهُمْ، وَعَذَابَهُ الْأَلِيمَ فِي أُخْرَاهُمْ، وَعَنَّفَهُمْ أَشَدَّ تَعْنِيفٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ آمِرًا بَعْدَمَا كَانَ عَنْ ضِدِّهِ زَاجِرًا:
وَيَا قَوْمِ
أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ
أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ. أَيْ
رِزْقُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالتَّطْفِيفِ،
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَا فَضَلَ لَكُمْ مِنَ الرِّبْحِ بَعْدَ وَفَاءِ
الْكَيْلِ، وَالْمِيزَانِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالتَّطْفِيفِ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ وَحَكَاهُ حَسَنٌ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا
يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [
الْمَائِدَةِ: 100 ]. يَعْنِي أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْحَلَالِ خَيْرٌ لَكُمْ
مِنَ الْكَثِيرِ مِنَ الْحَرَامِ فَإِنَّ الْحَلَالَ مُبَارَكٌ وَإِنْ قَلَّ،
وَالْحَرَامَ مَمْحُوقٌ وَإِنْ كَثُرَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ
الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [ الْبَقَرَةِ: 276 ]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ
مَصِيرَهُ إِلَى قُلٍّ. رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْ إِلَى قِلَّةٍ، وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ
يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا، وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا،
وَإِنَّ كَتَمَا، وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرِّبْحَ الْحَلَالَ مُبَارَكٌ فِيهِ وَإِنَّ قَلَّ،
وَالْحَرَامَ لَا يُجْدِي وَإِنْ كَثُرَ؛ وَلِهَذَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ
شُعَيْبٌ: بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ. أَيِ افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ لَا لِأَرَاكُمْ أَنَا وَغَيْرِي
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. يَقُولُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ
وَالتَّنَقُّصِ وَالتَّهَكُّمِ: أَصَلَوَاتُكَ هَذِهِ الَّتِي تُصَلِّيهَا
هِيَ الْآمِرَةُ
لَكَ بِأَنْ تَحْجُرَ عَلَيْنَا فَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِلَهَكَ، وَنَتْرُكَ مَا
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْأَقْدَمُونَ وَأَسْلَافُنَا الْأَوَّلُونَ، أَوْ أَنَّا لَا
نَتَعَامَلُ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَرْتَضِيهِ أَنْتَ، وَنَتْرُكُ
الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ نَرْضَاهَا إِنَّكَ
لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ
مِهْرَانَ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَ ابْنُ جَرِيرٍ:
يَقُولُونَ ذَلِكَ - أَعْدَاءُ اللَّهِ - عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ.
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا
تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. هَذَا
تَلَطُّفٌ مَعَهُمْ فِي الْعِبَارَةِ، وَدَعْوَةٌ لَهُمْ إِلَى الْحَقِّ
بِأَبْيَنِ إِشَارَةٍ يَقُولُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ إِنْ
كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ عَلَى أَمْرٍ بَيِّنٍ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا.
يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ يَعْنِي، وَعَمَّى عَلَيْكُمْ مَعْرِفَتَهَا
فَأَيُّ حِيلَةٍ لِي بِكُمْ ؟ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ سَوَاءً.
وَقَوْلُهُ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ. أَيْ
لَسْتُ آمُرُكُمْ بِالْأَمْرِ إِلَّا وَأَنَا أَوَّلُ فَاعِلٍ لَهُ، وَإِذَا
نَهَيْتُكُمْ عَنِ الشَّيْءِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَتْرُكُهُ، وَهَذِهِ هِيَ
الصِّفَةُ الْمَحْمُودَةُ الْعَظِيمَةُ وَضِدُّهَا هِيَ الْمَرْدُودَةُ
الذَّمِيمَةُ، كَمَا تَلَبَّسَ بِهَا عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي آخِرِ
زَمَانِهِمْ، وَخُطَبَاؤُهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ
تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 44 ]. وَذَكَرْنَا
عِنْدَهَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: يُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ
بَطْنِهِ. أَيْ
تَخْرُجُ
أَمْعَاؤُهُ مِنْ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا، كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ
فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَالَكَ أَلَمْ
تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ فَيَقُولُ: بَلَى
كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ.
وَهَذِهِ صِفَةُ مُخَالِفِي الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْفُجَّارِ وَالْأَشْقِيَاءِ،
فَأَمَّا السَّادَةُ مِنَ النُّجَبَاءِ وَالْأَلِبَّاءِ مِنَ الْعُلَمَاءِ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فَحَالُهُمْ كَمَا قَالَ نَبِيُّ
اللَّهِ شُعَيْبٌ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ
إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ. أَيْ مَا أُرِيدُ فِي جَمِيعِ
أَمْرِي إِلَّا الْإِصْلَاحَ فِي الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ بِجُهْدِي وَطَاقَتِي
وَمَا تَوْفِيقِي أَيْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ. أَيْ عَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ فِي سَائِرِ
الْأُمُورِ وَإِلَيْهِ مَرْجِعِي وَمَصِيرِي فِي كُلِّ أَمْرِي، وَهَذَا مَقَامُ تَرْغِيبٍ،
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ التَّرْهِيبِ فَقَالَ: وَيَا قَوْمِ لَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ
قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ. أَيْ
لَا تَحْمِلَنَّكُمْ مُخَالَفَتِي وَبُغْضُكُمْ مَا جِئْتُكُمْ بِهِ عَلَى
الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ضَلَالِكُمْ وَجَهْلِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ فَيُحِلَّ
اللَّهُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ نَظِيرَ مَا أَحَلَّهُ
بِنُظَرَائِكُمْ وَأَشْبَاهِكُمْ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، وَقَوْمِ هُودٍ، وَقَوْمِ
صَالِحٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُخَالِفِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ. قِيلَ: مَعْنَاهُ فِي
الزَّمَانِ أَيْ مَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ مِمَّا قَدْ بَلَغَكُمْ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ بِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَمَا هُمْ
مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَالْمَكَانِ. وَقِيلَ: فِي الصِّفَاتِ
وَالْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِ
النَّاسِ جَهْرَةً، وَخُفْيَةً بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ وَالشُّبُهَاتِ. وَالْجَمْعُ
بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعِيدِينَ
مِنْهُمْ لَا زَمَانًا وَلَا مَكَانًا وَلَا صِفَاتٍ. ثُمَّ مَزَجَ التَّرْهِيبَ
بِالتَّرْغِيبِ فَقَالَ:
وَاسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ. أَيْ أَقْلِعُوا
عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ، وَتُوبُوا إِلَى رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ الْوَدُودِ
فَإِنَّهُ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ،
أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَدُودٌ وَهُوَ الْحَبِيبُ، وَلَوْ
بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى عَبْدِهِ، وَلَوْ مِنَ الْمُوبِقَاتِ الْعِظَامِ
. قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ
فِينَا ضَعِيفًا. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ. وَقَدْ رُوِيَ فِي
حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَنَّهُ بَكَى مِنْ حُبِّ اللَّهِ حَتَّى عَمِيَ فَرَدَّ
اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ. وَقَالَ: يَا شُعَيْبُ أَتَبْكِي خَوْفًا مِنَ
النَّارِ أَوْ مِنْ شَوْقِكَ إِلَى الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ: بَلْ مِنْ مَحَبَّتِكَ
فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ فَلَا أُبَالِي مَاذَا يُصْنَعُ بِي. فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ: هَنِيئًا لَكَ يَا شُعَيْبُ لِقَائِي فَلِذَلِكَ أَخَدَمْتُكَ مُوسَى
بْنَ عِمْرَانَ كَلِيمِي. رَوَاهُ الْوَاحِدِيُّ، عَنْ أَبِي الْفَتْحِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بُنْدَارٍ، عَنْ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الرَّمْلِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عَمَّارٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ بَحِيرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِنَحْوِهِ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ، وَقَوْلُهُمْ: وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ
عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ.
وَهَذَا مِنْ كُفْرِهِمُ الْبَلِيغِ وَعِنَادِهِمُ الشَّنِيعِ حَيْثُ قَالُوا: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ. أَيْ مَا نَفْهَمُهُ وَلَا نَتَعَقَّلُهُ لِأَنَّا لَا نُحِبُّهُ وَلَا نُرِيدُهُ، وَلَيْسَ لَنَا هِمَّةٌ إِلَيْهِ وَلَا إِقْبَالٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [ فُصِّلَتْ: 5 ]. وَقَوْلُهُمْ: وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا. أَيْ مُضْطَهَدًا مَهْجُورًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ أَيْ: قَبِيلَتُكَ وَعَشِيرَتُكَ فِينَا لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ. أَيْ تَخَافُونَ قَبِيلَتِي وَعَشِيرَتِي وَتُرَاعُونِي بِسَبَبِهِمْ، وَلَا تَخَافُونَ جَنَبَةَ اللَّهِ، وَلَا تَرْعَوْنِي لِأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَصَارَ رَهْطِي أَعَزَّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا. أَيْ جَعَلْتُمْ جَانِبَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِمَا تَعْمَلُونَهُ وَمَا تَصْنَعُونَهُ مُحِيطٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَسَيَجْزِيكُمْ عَلَيْهِ يَوْمَ تُرْجَعُونَ إِلَيْهِ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ. وَهَذَا أَمْرُ تَهْدِيدٍ شَدِيدٍ وَوَعِيدٍ أَكِيدٍ بِأَنْ يَسْتَمِرُّوا عَلَى طَرِيقَتِهِمْ وَمَنْهَجِهِمْ وَشَاكِلَتِهِمْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ، وَمَنْ يَحِلُّ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ وَالْبَوَارُ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ. أَيْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ. أَيْ فِي الْأُخْرَى وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ. أَيْ مِنِّي وَمِنْكُمْ فِيمَا أَخْبَرَ وَبَشَّرَ وَحَذَّرَ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:
وَإِنْ كَانَ
طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ
يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ
يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا
وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا
وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ.
طَلَبُوا بِزَعْمِهِمْ أَنْ يَرُدُّوا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ إِلَى مِلَّتِهِمْ
فَانْتَصَبَ شُعَيْبٌ لِلْمُحَاجَّةِ عَنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ: أَوَلَوْ كُنَّا
كَارِهِينَ. أَيْ هَؤُلَاءِ لَا يَعُودُونَ إِلَيْكُمُ اخْتِيَارًا، وَإِنَّمَا
يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِنْ عَادُوا اضْطِرَارًا مُكْرَهِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ
الْإِيمَانَ إِذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَلَا
يُرِيدُ أَحَدٌ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ، وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ مِنْهُ.
وَلِهَذَا قَالَ: قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي
مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ
شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا. أَيْ فَهُوَ كَافِينَا وَهُوَ
الْعَاصِمُ لَنَا وَإِلَيْهِ مَلْجَؤُنَا فِي جَمِيعِ أَمْرِنَا، ثُمَّ
اسْتَفْتَحَ عَلَى قَوْمِهِ وَاسْتَنْصَرَ رَبَّهُ عَلَيْهِمْ فِي تَعْجِيلِ مَا
يَسْتَحِقُّونَهُ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ. أَيِ الْحَاكِمِينَ فَدَعَا
عَلَيْهِمْ، وَاللَّهُ لَا يَرُدُّ دُعَاءَ رُسُلِهِ إِذَا اسْتَنْصَرُوهُ عَلَى
الَّذِينَ جَحَدُوهُ وَكَفَرُوهُ، وَرَسُولَهُ خَالَفُوهُ، وَمَعَ هَذَا صَمَّمُوا
عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مُشْتَمِلُونَ، وَبِهِ مُسْتَمْسِكُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا
لَخَاسِرُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ
جَاثِمِينَ. ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمْ
رَجْفَةٌ أَيْ رَجَفَتْ بِهِمْ أَرْضُهُمْ، وَزُلْزِلَتْ زِلْزَالًا شَدِيدًا أَزْهَقَتْ أَرْوَاحَهُمْ مِنْ أَجْسَادِهَا، وَصَيَّرَتْ حَيَوَانَاتِ أَرْضِهِمْ كَجَمَادِهَا، وَأَصْبَحَتْ جُثَّتُهُمْ جَاثِيَةً لَا أَرْوَاحَ فِيهَا وَلَا حَرَكَاتٍ بِهَا وَلَا حَوَاسَّ لَهَا، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ وَصُنُوفًا مِنَ الْمَثُلَاتِ، وَأَشْكَالًا مِنَ الْبَلِيَّاتِ، وَذَلِكَ لِمَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ قَبِيحِ الصِّفَاتِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رَجْفَةً شَدِيدَةً أَسْكَنَتِ الْحَرَكَاتِ، وَصَيْحَةً عَظِيمَةً أَخْمَدَتِ الْأَصْوَاتَ، وَظُلَّةً أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنْهَا شَرَرَ النَّارِ مِنْ سَائِرِ أَرْجَائِهَا وَالْجِهَاتِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي كُلِّ سُورَةٍ بِمَا يُنَاسِبُ سِيَاقَهَا وَيُوَافِقُ طِبَاقَهَا فِي سِيَاقِ قِصَّةِ الْأَعْرَافِ أَرَجَفُوا نَبِيَّ اللَّهِ وَأَصْحَابَهُ، وَتَوَعَّدُوهُمْ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ قَرْيَتِهِمْ أَوْ لَيَعُودُنَّ فِي مِلَّتِهِمْ رَاجِعِينَ فَقَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ. فَقَابَلَ الْإِرْجَافَ بِالرَّجْفَةِ، وَالْإِخَافَةَ بِالْخِيفَةِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِهَذَا السِّيَاقِ، وَمُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ السِّيَاقِ، وَأَمَّا فِي سُورَةِ هُودٍ فَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا لِنَبِيِّ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّنَقُّصِ: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ. فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ كَالزَّجْرِ عَنْ تَعَاطِي هَذَا الْكَلَامِ الْقَبِيحِ الَّذِي جَهَّلُوا بِهِ هَذَا الرَّسُولَ الْكَرِيمَ الْأَمِينَ الْفَصِيحَ فَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ أَسْكَتَتْهُمْ مَعَ رَجْفَةٍ أَسْكَنَتْهُمْ. وَأَمَّا فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فَذَكَرَ أَنَّهُ أَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وَكَانَ ذَلِكَ إِجَابَةً لِمَا طَلَبُوا، وَتَقْرِيبًا إِلَى مَا إِلَيْهِ رَغِبُوا فَإِنَّهُمْ قَالُوا:
إِنَّمَا أَنْتَ
مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ
لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 185
- 188 ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ: فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِ أَنَّ أَصْحَابَ
الْأَيْكَةِ أُمَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ أَهْلِ مَدْيَنَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ،
وَإِنَّمَا عُمْدَتُهُمْ شَيْئَانِ؛ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَذَّبَ أَصْحَابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ. وَلَمْ يَقُلْ: أَخُوهُمْ
كَمَا قَالَ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ ذَكَرَ
عَذَابَهُمْ بِيَوْمِ الظُّلَّةِ، وَذَكَرَ فِي أُولَئِكَ الرَّجْفَةَ، أَوِ
الصَّيْحَةَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْأُخُوَّةَ
بَعْدَ قَوْلِهِ: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ؛ لِأَنَّهُ
وَصَفَهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَيْكَةِ فَلَا يُنَاسِبُ ذِكْرُ الْأُخُوَّةِ
هَاهُنَا، وَلَمَّا نَسَبَهُمْ إِلَى الْقَبِيلَةِ سَاغَ ذِكْرُ شُعَيْبٍ بِأَنَّهُ
أَخُوهُمْ. وَهَذَا الْفَرْقُ مِنَ النَّفَائِسِ اللَّطِيفَةِ الْعَزِيزَةِ
الشَّرِيفَةِ. وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِيَوْمِ الظُّلَّةِ، فَإِنْ كَانَ
دَلِيلًا بِمُجَرَّدِهِ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ أُمَّةٌ أُخْرَى فَلْيَكُنْ
تَعْدَادُ الِانْتِقَامِ بِالرَّجْفَةِ، وَالصَّيْحَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا
أُمَّتَانِ أُخْرَيَانِ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ يَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ
هَذَا الشَّأْنِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ النَّبِيِّ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ هِشَامٍ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا. إِنَّ مَدْيَنَ، وَأَصْحَابَ الْأَيْكَةِ
أُمَّتَانِ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمَا شُعَيْبًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي رِجَالِهِ مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ، وَالْأَشْبَهُ
أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مِمَّا أَصَابَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ
مِنْ تِلْكَ الزَّامِلَتَيْنِ مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ أَهْلِ الْأَيْكَةِ مِنَ الْمَذَمَّةِ مَا
ذَكَرَهُ عَنْ أَهْلِ مَدْيَنَ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ أُهْلِكُوا بِأَنْوَاعٍ مِنَ
الْعَذَابِ، وَذَكَرَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ الْخِطَابَ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ. ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ، وَأَسْكَنَ اللَّهُ
هُبُوبَ الْهَوَاءِ عَنْهُمْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فَكَانَ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ
ذَلِكَ مَاءٌ وَلَا ظِلٌّ وَلَا دُخُولُهُمْ فِي الْأَسْرَابِ، فَهَرَبُوا مِنْ
مَحَلَّتِهِمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَأَظَلَّتْهُمْ سَحَابَةٌ فَاجْتَمَعُوا
تَحْتَهَا لِيَسْتَظِلُّوا بِظِلِّهَا، فَلَمَّا تَكَامَلُوا فِيهِ أَرْسَلَهَا
اللَّهُ عَلَيْهِمْ تَرْمِيهِمْ بِشَرَرٍ وَشُهُبٍ مِنْ نَارٍ، وَرَجَفَتْ بِهِمُ
الْأَرْضُ، وَجَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَزْهَقَتِ الْأَرْوَاحَ
وَخَرَّبَتِ الْأَشْبَاحَ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ
كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا
كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ. وَنَجَّى اللَّهُ شُعَيْبًا وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ. وَهَذَا فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِمْ: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِمْ أَنَّهُ نَعَاهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ مُوَبِّخًا وَمُؤَنِّبًا وَمُقَرِّعًا فَقَالَ تَعَالَى: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ. أَيْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ مُوَلِّيًا عَنْ مَحَلَّتِهِمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ قَائِلًا: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ. أَيْ قَدْ أَدَّيْتُ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيَّ مِنَ الْبَلَاغِ التَّامِّ وَالنُّصْحِ الْكَامِلِ، وَحَرَصْتُ عَلَى هِدَايَتِكُمْ بِكُلِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَأَتَوَصَّلُ إِلَيْهِ فَلَمْ يَنْفَعْكُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ، فَلَسْتُ أَتَأَسَّفُ بَعْدَ هَذَا عَلَيْكُمْ لِأَنَّكُمْ لَمْ تَكُونُوا تَقْبَلُونَ النَّصِيحَةَ، وَلَا تَخَافُونَ يَوْمَ الْفَضِيحَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَكَيْفَ آسَى أَيْ أَحْزَنُ عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ. أَيْ لَا تَقْبَلُونَ الْحَقَّ، وَلَا تَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، وَلَا تَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، فَحَلَّ بِهِمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ مَا لَا يُدَافَعُ، وَلَا يُمَانَعُ، وَلَا مَحِيدَ لِأَحَدٍ أُرِيدَ بِهِ عَنْهُ، وَلَا مَنَاصَ مِنْهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاتَ بِمَكَّةَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُبُورُهُمْ غَرْبِيَّ الْكَعْبَةِ بَيْنَ دَارِ النَّدْوَةِ وَدَارِ بَنِي سَهْمٍ.
بَابُ ذِكْرِ
ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَدْ قَدَّمْنَا قِصَّتَهُ مَعَ قَوْمِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا آلَ
إِلَيْهِ أَمْرُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ،
وَذَكَرْنَا مَا وَقَعَ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ، وَأَتْبَعْنَا
ذَلِكَ بِقِصَّةِ مَدْيَنَ قَوْمِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّهَا
قَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ
يَذْكُرُ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ قِصَّةَ مَدْيَنَ، وَهُمْ
أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، كَمَا قَدَّمْنَا فَذَكَرْنَاهَا تَبَعًا
لَهَا اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ نَشْرَعُ الْآنَ فِي الْكَلَامِ
عَلَى تَفْصِيلِ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
جَعَلَ فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فَكُلُّ نَبِيٍّ أُرْسِلَ
بَعْدَهُ فَمِنْ وَلَدِهِ.
ذِكْرُ
إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَدْ كَانَ لِلْخَلِيلِ بَنُونَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّ أَشْهَرَهُمُ
الْأَخَوَانِ النَّبِيَّانِ الْعَظِيمَانِ الرَّسُولَانِ أَسَنُّهُمَا
وَأَجَلُّهُمَا الَّذِي هُوَ الذَّبِيحُ عَلَى الصَّحِيحِ إِسْمَاعِيلُ بِكْرُ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ مِنْ هَاجَرَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَيْهَا
السَّلَامُ مِنَ الْعَظِيمِ الْجَلِيلِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الذَّبِيحَ هُوَ
إِسْحَاقُ فَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ مِنْ نَقَلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ
بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَأَوَّلُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَخَالَفُوا
بِأَيْدِيهِمْ فِي هَذَا مِنَ التَّنْزِيلِ فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِ
وَلَدِهِ الْبِكْرِ، وَفِي رِوَايَةٍ الْوَحِيدِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ
إِسْمَاعِيلُ بِنَصِّ الدَّلِيلِ فَفِي نَصِّ كِتَابِهِمْ إِنَّ إِسْمَاعِيلَ
وُلِدَ وَلِإِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَإِنَّمَا
وُلِدَ إِسْحَاقُ بَعْدَ مُضِيِّ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْ عُمُرِ الْخَلِيلِ،
فَإِسْمَاعِيلُ هُوَ الْبِكْرُ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ الْوَحِيدُ صُورَةً
وَمَعْنًى عَلَى كُلِّ حَالَةٍ أَمَّا فِي الصُّورَةِ فَلِأَنَّهُ كَانَ وَحْدَهُ
وَلَدَهُ أَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّا أَنَّهُ وَحِيدٌ فِي
الْمَعْنَى فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي هَاجَرَ بِهِ أَبُوهُ وَمَعَهُ أُمُّهُ هَاجَرُ
وَكَانَ صَغِيرًا رَضِيعًا فِيمَا قِيلَ فَوَضَعَهُمَا فِي وِهَادِ جِبَالِ
فَارَانَ، وَهِيَ الْجِبَالُ الَّتِي حَوْلَ مَكَّةَ، نِعْمَ الْمَقِيلُ،
وَتَرَكَهُمَا هُنَالِكَ لَيْسَ مَعَهُمَا مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ إِلَّا
الْقَلِيلُ، وَذَلِكَ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، فَحَاطَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى بِعِنَايَتِهِ وَكِفَايَتِهِ فَنِعْمَ الْحَسِيبُ وَالْكَافِي
وَالْوَكِيلُ وَالْكَفِيلُ.
. فَهَذَا هُوَ الْوَلَدُ الْوَحِيدُ
فِي الصُّورَةِ،
وَالْمَعْنَى، وَلَكِنْ أَيْنَ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِهَذَا السِّرِّ ؟ وَأَيْنَ مَنْ
يَحُلُّ بِهَذَا الْمَحَلِّ ؟ وَالْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ، وَيُحِيطُ بِعِلْمِهِ
إِلَّا كُلُّ نَبِيهٍ نَبِيلٍ.
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَوَصَفَهُ بِالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ
وَصِدْقِ الْوَعْدِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِهَا
لِأَهْلِهِ لِيَقِيَهُمُ الْعَذَابَ، مَعَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ
عِبَادَةِ رَبِّ الْأَرْبَابِ قَالَ تَعَالَى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [ الصَّافَّاتِ: 101 - 102 ].
فَطَاوَعَ أَبَاهُ عَلَى مَا إِلَيْهِ دَعَاهُ وَوَعَدَهُ بِأَنْ سَيَصْبِرُ،
فَوَفَّى بِذَلِكَ وَصَبَرَ. وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ
إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَكَانَ
يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [
مَرْيَمَ: 54 - 55 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ
بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ
الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ
الْأَخْيَارِ [ ص: 45 - 48 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا
الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ
مِنَ الصَّالِحِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 85 - 86 ]. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ
بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ [ النِّسَاءِ: 163 ]. الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ [
الْبَقَرَةِ: 136 ]. الْآيَةَ. وَنَظِيرَتُهَا مِنَ
السُّورَةِ
الْأُخْرَى. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ
أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ: 140 ]. الْآيَةَ فَذَكَرَ اللَّهُ
عَنْهُ كُلَّ صِفَةٍ جَمِيلَةٍ، وَجَعَلَهُ نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ، وَبَرَّأَهُ
مِنْ كُلِّ مَا نَسَبَ إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِمَا
أُنْزِلَ عَلَيْهِ عِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ. وَذَكَرَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ
وَأَيَّامِ النَّاسِ: أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَ الْخَيْلَ، وَكَانَتْ قَبْلَ
ذَلِكَ وُحُوشًا فَأَنَّسَهَا وَرَكِبَهَا، وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى
الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّخِذُوا الْخَيْلَ
وَاغْتَبِقُوهَا فَإِنَّهَا مِيرَاثُ أَبِيكُمْ إِسْمَاعِيلَ. وَكَانَتْ هَذِهِ
الْعِرَابُ وَحْشًا فَدَعَا لَهَا بِدَعْوَتِهِ الَّتِي كَانَ أُعْطِيَ فَأَجَابَتْهُ،
وَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ الْبَلِيغَةِ،
وَكَانَ قَدْ تَعَلَّمَهَا مِنَ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ الَّذِينَ نَزَلُوا
عِنْدَهُمْ بِمَكَّةَ مِنْ جُرْهُمٍ وَالْعَمَالِيقِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ مِنَ
الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْخَلِيلِ.
قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو
عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنَا مِسْمَعُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْبَيِّنَةِ
إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. فَقَالَ لَهُ يُونُسُ:
صَدَقْتَ يَا أَبَا
يَسَارٍ. هَكَذَا أَبُو جُرَيٍّ حَدَّثَنِي.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ لَمَّا شَبَّ مِنَ الْعَمَالِيقِ امْرَأَةً،
وَأَنَّ أَبَاهُ أَمَرَهُ بِفِرَاقِهَا فَفَارَقَهَا. قَالَ الْأُمَوِيُّ: وَهِيَ
عِمَارَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ أَكِيلَ الْعِمْلَاقِيِّ، ثُمَّ
نَكَحَ غَيْرَهَا، فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَمِرَّ بِهَا فَاسْتَمَرَّ بِهَا، وَهِيَ
السَّيِّدَةُ بِنْتُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيُّ.
وَقِيلَ: هَذِهِ ثَالِثَةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا،
وَقَدْ سَمَّاهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُمْ؛ نَابِتٌ،
وَقَيْدَرٌ، وَأَذْبَلُ، وَمِيشَى، وَمِسْمَعٌ، وَمَاشٌ، وَدُمَا، وَأُدَرُ،
وَيَطُورُ، وَبَنْشٌ، وَطِيمَا، وَقَيْذُمَا. وَهَكَذَا ذَكَرَهُمْ أَهْلُ
الْكِتَابِ فِي كِتَابِهِمْ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمُ الِاثْنَا عَشَرَ عَظِيمًا
الْمُبَشَّرُ بِهِمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ،
وَكَذَبُوا فِي
تَأْوِيلِهِمْ ذَلِكَ، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَسُولًا إِلَى
أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَمَا وَالَاهَا مِنْ قَبَائِلِ جُرْهُمٍ
وَالْعَمَالِيقِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ،
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ إِسْحَاقَ، وَزَوَّجَ
ابْنَتَهُ نَسَمَةَ مِنِ ابْنِ أَخِيهِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ فَوَلَدَتْ لَهُ
الرُّومَ، وَيُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الْأَصْفَرِ لِصُفْرَةٍ كَانَتْ فِي الْعِيصِ،
وَوَلَدَتْ لَهُ الْيُونَانَ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَمِنْ وَلَدِ الْعِيصِ
الْأَشْبَانُ وَقِيلَ: مِنْهُمَا أَيْضًا. وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَدُفِنَ إِسْمَاعِيلُ نَبِيُّ اللَّهِ بِالْحِجْرِ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ، وَكَانَ
عُمُرُهُ يَوْمَ مَاتَ مِائَةً وَسَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَرُوِيَ عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ: شَكَا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّ مَكَّةَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ
أَنِّي سَأَفْتَحُ لَكَ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي
تُدْفَنُ فِيهِ تَجْرِي عَلَيْكَ رَوْحُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَرَبُ الْحِجَازِ كُلُّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى وَلَدَيْهِ نَابِتٍ
وَقَيْدَارٍ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ وَبُطُونِهَا
وَعَمَائِرِهَا، وَقَبَائِلِهَا وَعَشَائِرِهَا مِنْ لَدُنْ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ إِلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَلِكَ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى أَيَّامِهِ الشَّرِيفَةِ وَسِيرَتِهِ
الْمُنِيفَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَخْبَارِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
إِلَى زَمَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِمْ وَمُحَقِّقِ
أَنْبَائِهِمْ، ثُمَّ نَذْكُرُ مَا كَانَ فِي زَمَنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ
مَا وَقَعَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ يَنْتَهِي الْكَلَامُ إِلَى
سِيرَةِ نَبِيِّنَا رَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَسَائِرِ
صُنُوفِ بَنِي آدَمَ مِنَ الْأُمَمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ
وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ
الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
ذِكْرُ إِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ وُلِدَ وَلِأَبِيهِ مِائَةُ سَنَةٍ بَعْدَ أَخِيهِ
إِسْمَاعِيلَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمُرُ أُمِّهِ سَارَّةَ حِينَ
بُشِّرَتْ بِهِ تِسْعِينَ سَنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَبَشَّرْنَاهُ
بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ
وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [ الصَّافَّاتِ:
112، 113 ]. وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ
مَا آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَقَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ
الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّ إِسْحَاقَ لَمَّا
تَزَوَّجَ رِفْقَا بِنْتَ ثَبْوَائِيلَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ كَانَ عُمُرُهُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا فَدَعَا اللَّهَ لَهَا
فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامَيْنِ تَوْءَمَيْنِ أَوَّلُهُمَا سَمَّوْهُ عِيصُو،
وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْعِيصَ. وَهُوَ وَالِدُ الرُّومِ،
وَالثَّانِي خَرَجَ وَهُوَ آخِذٌ بِعَقِبِ أَخِيهِ فَسَمَّوْهُ يَعْقُوبَ، وَهُوَ
إِسْرَائِيلُ الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالُوا: وَكَانَ
إِسْحَاقُ يُحِبُّ الْعِيصَ أَكْثَرَ مِنْ يَعْقُوبَ لِأَنَّهُ بِكْرُهُ،
وَكَانَتْ أُمُّهُمَا رِفْقَا
تُحِبُّ يَعْقُوبَ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ الْأَصْغَرُ. قَالُوا: فَلَمَّا كَبِرَ إِسْحَاقُ، وَضَعُفَ بَصَرُهُ اشْتَهَى عَلَى ابْنِهِ الْعِيصِ طَعَامًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ فَيَصْطَادَ لَهُ صَيْدًا، وَيَطْبُخَهُ لَهُ لِيُبَارِكَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَ لَهُ، وَكَانَ الْعِيصُ صَاحِبَ صَيْدٍ فَذَهَبَ يَبْتَغِي ذَلِكَ فَأَمَرَتْ رِفْقَا ابْنَهَا يَعْقُوبَ أَنْ يَذْبَحَ جَدْيَيْنِ مِنْ خِيَارِ غَنَمِهِ، وَيَصْنَعَ مِنْهُمَا طَعَامًا، كَمَا اشْتَهَاهُ أَبُوهُ، وَيَأْتِيَ إِلَيْهِ بِهِ قَبْلَ أَخِيهِ لِيَدْعُوَ لَهُ وَقَامَتْ فَأَلْبَسَتْهُ ثِيَابَ أَخِيهِ، وَجَعَلَتْ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَعُنُقِهِ مِنْ جِلْدِ الْجَدْيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعِيصَ كَانَ أَشْعَرَ الْجَسَدِ وَيَعْقُوبَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَهُ بِهِ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ قَالَ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: وَلَدُكَ. فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَجَسَّهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَّا الصَّوْتُ فَصَوْتُ يَعْقُوبَ، وَأَمَّا الْجَسُّ وَالثِّيَابُ فَالْعِيصُ، فَلَمَّا أَكَلَ وَفَرَغَ دَعَا لَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ إِخْوَتِهِ قَدْرًا، وَكَلِمَتُهُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى الشُّعُوبِ بَعْدَهُ، وَأَنْ يَكْثُرَ رِزْقُهُ وَوَلَدُهُ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ جَاءَ أَخُوهُ الْعِيصُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ وَالِدُهُ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا يَا بُنَيَّ ؟ قَالَ: هَذَا الطَّعَامُ الَّذِي اشْتَهَيْتَهُ. فَقَالَ: أَمَا جِئْتَنِي بِهِ قَبْلَ السَّاعَةِ وَأَكَلْتُ مِنْهُ وَدَعَوْتُ لَكَ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ. وَعَرَفَ أَنَّ أَخَاهُ قَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ وَجْدًا كَثِيرًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ تَوَاعَدَهُ بِالْقَتْلِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُمَا، وَسَأَلَ أَبَاهُ فَدَعَا لَهُ بِدَعْوَةٍ أُخْرَى، وَأَنْ يَجْعَلَ لِذُرِّيَّتِهِ غَلِيظَ الْأَرْضِ، وَأَنْ يُكْثِرَ أَرْزَاقَهُمْ وَثِمَارَهُمْ، فَلَمَّا سَمِعَتْ أُمُّهُمَا مَا يَتَوَاعَدُ بِهِ الْعِيصُ أَخَاهُ يَعْقُوبَ أَمَرَتِ ابْنَهَا يَعْقُوبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أَخِيهَا لَابَانَ الَّذِي بِأَرْضِ حَرَّانَ، وَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ إِلَى حِينِ يَسْكُنُ غَضَبُ أَخِيهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِهِ، وَقَالَتْ لِزَوْجِهَا إِسْحَاقَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِذَلِكَ وَيُوصِيَهُ وَيَدْعُوَ لَهُ فَفَعَلَ فَخَرَجَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ عِنْدِهِمْ آخِرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي مَوْضِعٍ فَنَامَ فِيهِ أَخَذَ حَجَرًا فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ
وَنَامَ فَرَأَى فِي نَوْمِهِ ذَلِكَ مِعْرَاجًا مَنْصُوبًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَإِذَا الْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ فِيهِ وَيَنْزِلُونَ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُخَاطِبُهُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي سَأُبَارِكُ عَلَيْكَ، وَأُكْثِرُ ذُرِّيَّتَكَ، وَأَجْعَلُ لَكَ هَذِهِ الْأَرْضَ وَلِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَلَمَّا هَبَّ مِنْ نَوْمِهِ فَرِحَ بِمَا رَأَى، وَنَذَرَ لِلَّهِ لَئِنْ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا لَيَبْنِيَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْبَدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَرْزُقُهُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ لِلَّهِ عُشْرُهُ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ الْحَجَرِ فَجَعَلَ عَلَيْهِ دُهْنًا يَتَعَرَّفُهُ بِهِ. وَسَمَّى ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بَيْتَ إِيلَ أَيْ بَيْتَ اللَّهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْيَوْمَ الَّذِي بَنَاهُ يَعْقُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي قَالُوا: فَلَمَّا قَدِمَ يَعْقُوبُ عَلَى خَالِهِ أَرْضَ حَرَّانَ إِذَا لَهُ ابْنَتَانِ اسْمُ الْكُبْرَى لَيَا، وَاسْمُ الصُّغْرَى رَاحِيلُ، فَخَطَبَ إِلَيْهِ رَاحِيلَ، وَكَانَتْ أَحْسَنَهُمَا، وَأَجْمَلَهُمَا فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْعَى عَلَى غَنَمِهِ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمَّا مَضَتِ الْمُدَّةُ عَمِلَ خَالُهُ لَابَانُ طَعَامًا، وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَزَفَّ إِلَيْهِ لَيْلًا ابْنَتَهُ الْكُبْرَى لَيَا، وَكَانَتْ ضَعِيفَةَ الْعَيْنَيْنِ قَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ يَعْقُوبُ إِذَا هِيَ لَيَا، فَقَالَ لِخَالِهِ: لِمَ غَدَرْتَ بِي، وَأَنْتَ إِنَّمَا خَطَبْتُ إِلَيْكَ رَاحِيلَ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِنَا أَنْ نُزَوِّجَ الصُّغْرَى قَبْلَ الْكُبْرَى فَإِنْ أَحْبَبْتَ أُخْتَهَا فَاعْمَلْ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى وَأُزَوِّجُكَهَا. فَعَمِلَ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ مَعَ أُخْتِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَهَذَا وَحْدَهُ دَلِيلٌ كَافٍ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا وَإِبَاحَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ. وَوَهَبَ لَابَانُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنِ ابْنَتَيْهِ جَارِيَةً؛
فَوَهَبَ لِلَيَا جَارِيَةً اسْمُهَا زُلْفَا، وَوَهَبَ لِرَاحِيلَ جَارِيَةً اسْمُهَا بَلُهَا، وَجَبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ضَعْفَ لَيَا بِأَنْ وَهَبَ لَهَا أَوْلَادًا فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ وَلَدَتْ لِيَعْقُوبَ رُوبِيلُ، ثُمَّ شَمْعُونُ، ثُمَّ لَاوِي، ثُمَّ يَهُوذَا، فَغَارَتْ عِنْدَ ذَلِكَ رَاحِيلُ، وَكَانَتْ لَا تَحْبَلُ فَوَهَبَتْ لِيَعْقُوبَ جَارِيَتَهَا بَلْهَا فَوَطِئَهَا فَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا سَمَّتْهُ دَانَ، وَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ غُلَامًا آخَرَ سَمَّتْهُ يَفْثَالِي، فَعَمَدَتْ عِنْدَ ذَلِكَ لَيَا فَوَهَبَتْ جَارِيَتَهَا زُلْفَا مِنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَوَلَدَتْ لَهُ جَادَ وَأَشِيرَ غُلَامَيْنِ ذَكَرَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَتْ لَيَا أَيْضًا فَوَلَدَتْ غُلَامًا خَامِسًا مِنْهَا وَسَمَّتْهُ أَيْسَاخَرَ، ثُمَّ حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ غُلَامًا سَادِسًا سَمَّتْهُ زَابِلُونَ، ثُمَّ حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ بِنْتًا سَمَّتْهَا دِينَا، فَصَارَ لَهَا سَبْعَةٌ مِنْ يَعْقُوبَ، ثُمَّ دَعَتِ اللَّهَ تَعَالَى رَاحِيلُ وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَهَبَ لَهَا غُلَامًا مِنْ يَعْقُوبَ، فَسَمِعَ اللَّهُ نِدَاءَهَا وَأَجَابَ دُعَاءَهَا فَحَمَلَتْ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ فَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا عَظِيمًا شَرِيفًا حَسَنًا جَمِيلًا سَمَّتْهُ يُوسُفَ كُلُّ هَذَا، وَهُمْ مُقِيمُونَ بِأَرْضِ حَرَّانَ، وَهُوَ يَرْعَى عَلَى خَالِهِ غَنَمَهُ بَعْدَ دُخُولِهِ عَلَى الْبِنْتَيْنِ سِتَّ سِنِينَ أُخْرَى فَصَارَ مُدَّةُ مُقَامِهِ عِشْرِينَ سَنَةً، فَطَلَبَ يَعْقُوبُ مِنْ خَالِهِ لَابَانَ أَنْ يُسَرِّحَهُ لِيَمُرَّ إِلَى أَهْلِهِ فَقَالَ لَهُ خَالُهُ: إِنِّي قَدْ بُورِكَ لِي بِسَبَبِكَ فَسَلْنِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتَ. فَقَالَ: تُعْطِينِي كُلَّ حَمَلٍ يُولَدُ مِنْ غَنَمِكَ هَذِهِ السَّنَةَ أَبْقَعَ، وَكُلَّ حَمَلٍ مُلْمِعٍ أَبْيَضَ بِسَوَادٍ، وَكُلَّ أَمْلَحَ بِبَيَاضٍ، وَكُلَّ أَجْلَحَ أَبْيَضَ مِنَ الْمَعْزِ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَعَمَدَ بَنُوهُ فَأَبْرَزُوا مِنْ غَنَمِ أَبِيهِمْ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنَ التُّيُوسِ لِئَلَّا يُوَلَدَ شَيْءٌ مِنَ الْحُمْلَانِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَسَارُوا بِهَا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَنْ غَنَمِ أَبِيهِمْ قَالُوا: فَعَمَدَ يَعْقُوبُ
عَلَيْهِ
السَّلَامُ إِلَى قُضْبَانٍ رَطْبَةٍ بِيضٍ مِنْ لَوْزٍ وَدُلْبٍ، فَكَانَ
يُقَشِّرُهَا بَلْقَاءَ وَبَيْضَاءَ، وَيَضَعُهَا فِي مَسَاقِي الْغَنَمِ مِنَ
الْمِيَاهِ لِيَنْظُرَ الْغَنَمُ إِلَيْهَا فَتَفْزَعَ، وَتَتَحَرَّكَ
أَوْلَادُهَا فِي بُطُونِهَا فَتَصِيرَ أَلْوَانُ حُمْلَانِهَا كَذَلِكَ. وَهَذَا
يَكُونُ مِنْ بَابِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَيَنْتَظِمُ فِي سِلْكِ
الْمُعْجِزَاتِ. فَصَارَ لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ
وَدَوَابُّ وَعَبِيدٌ، وَتَغَيَّرَ لَهُ وَجْهُ خَالِهِ وَبَنِيهِ، وَكَأَنَّهُمُ
انْحَصَرُوا مِنْهُ.
وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَعْقُوبَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بِلَادِ أَبِيهِ
وَقَوْمِهِ، وَوَعَدَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَعَهُ فَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِهِ
فَأَجَابُوهُ مُبَادِرِينَ إِلَى طَاعَتِهِ، فَتَحَمَّلَ بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ،
وَسَرَقَتْ رَاحِيلُ أَصْنَامَ أَبِيهَا، فَلَمَّا جَاوَزُوا وَتَحَيَّزُوا عَنْ
بِلَادِهِمْ لِحَقَهُمْ لَابَانُ وَقَوْمُهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ لَابَانُ بِيَعْقُوبَ
عَاتَبَهُ فِي خُرُوجِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَعِلْمِهِ، وَهَلَّا أَعْلَمَهُ
فَيُخْرِجَهُمْ فِي فَرَحٍ وَمَزَامِرَ وَطُبُولٍ، وَحَتَّى يُوَدِّعَ بَنَاتِهِ
وَأَوْلَادَهُنَّ، وَلِمَ أَخَذُوا أَصْنَامَهُ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ
يَعْقُوبَ عِلْمٌ مِنْ أَصْنَامِهِ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَخَذُوا لَهُ
أَصْنَامًا فَدَخَلَ بُيُوتَ بَنَاتِهِ وَإِمَائِهِنَّ يُفَتِّشُ فَلَمْ يَجِدْ
شَيْئًا، وَكَانَتْرَاحِيلُ قَدْ جَعَلَتْهُنَّ فِي بَرْدَعَةِ الْجَمَلِ، وَهِيَ
تَحْتَهَا فَلَمْ تَقُمْ، وَاعْتَذَرَتْ بِأَنَّهَا طَامِثٌ فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهِنَّ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَاثَقُوا عَلَى رَابِيَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا:
جَلْعَادُ. عَلَى أَنَّهُ لَا يُهِينُ بَنَاتِهِ
وَلَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِنَّ، وَلَا يُجَاوِزُ هَذِهِ الرَّابِيَةَ إِلَى بِلَادِ الْآخَرِ لَا لَابَانُ وَلَا يَعْقُوبُ، وَعَمِلَا طَعَامًا وَأَكَلَ الْقَوْمُ مَعَهُمْ، وَتَوَدَّعَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ، وَتَفَارَقُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ يَعْقُوبُ مِنْ أَرْضِ سَاعِيرَ تَلَقَّتْهُ الْمَلَائِكَةُ يُبَشِّرُونَهُ بِالْقُدُومِ، وَبَعَثَ يَعْقُوبُ الْبُرُدَ إِلَى أَخِيهِ الْعِيصُو يَتَرَقَّقُ لَهُ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ، فَرَجَعَتِ الْبُرُدُ وَأَخْبَرَتْ يَعْقُوبَ بِأَنَّ الْعِيصَ قَدْ رَكِبَ إِلَيْكَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَخَشِيَ يَعْقُوبُ مِنْ ذَلِكَ، وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَلَّى لَهُ وَتَضَرَّعَ إِلَيْهِ وَتَمَسْكَنَ لَدَيْهِ، وَنَاشَدَهُ عَهْدَهُ وَوَعْدَهُ الَّذِي وَعَدَهُ بِهِ. وَسَأَلَهُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ شَرَّ أَخِيهِ الْعِيصَ، وَأَعَدَّ لِأَخِيهِ هَدِيَّةً عَظِيمَةً وَهِيَ؛ مِائَتَا شَاةٍ، وَعِشْرُونَ تَيْسًا، وَمِائَتَا نَعْجَةٍ، وَعِشْرُونَ كَبْشًا، وَثَلَاثُونَ لِقْحَةً، وَأَرْبَعُونَ بَقَرَةً، وَعَشَرَةٌ مِنَ الثِّيرَانِ، وَعِشْرُونَ أَتَانًا، وَعَشَرَةٌ مِنَ الْحُمُرِ، وَأَمَرَ عَبِيدَهُ أَنْ يَسُوقُوا كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَحْدَهُ، وَلْيَكُنْ بَيْنَ كُلِّ قَطِيعٍ وَقَطِيعٍ مَسَافَةٌ فَإِذَا لَقِيَهُمُ الْعِيصُ فَقَالَ لِلْأَوَّلِ: لِمَنْ أَنْتَ ؟ وَلِمَنْ هَذِهِ مَعَكَ ؟ فَلْيَقُلْ: لِعَبْدِكَ يَعْقُوبَ، أَهْدَاهَا لِسَيِّدِي الْعِيصَ. وَلْيَقُلِ الَّذِي بَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، وَكَذَا الَّذِي بَعْدَهُ، وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ: وَهُوَ جَاءَ بَعْدَنَا. وَتَأَخَّرَ يَعْقُوبُ بِزَوْجَتَيْهِ وَأَمَتَيْهِ وَبَنِيهِ الْأَحَدَ عَشَرَ بَعْدَ الْكُلِّ بِلَيْلَتَيْنِ، وَجَعَلَ يَسِيرُ فِيهِمَا لَيْلًا وَيَكْمُنُ نَهَارًا، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْفَجْرِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ تَبَدَّى لَهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ فَظَنَّهُ
يَعْقُوبُ رَجُلًا مِنَ النَّاسِ فَأَتَاهُ يَعْقُوبُ لِيُصَارِعَهُ وَيُغَالِبَهُ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ فِيمَا يُرَى إِلَّا أَنَّ الْمَلَكَ أَصَابَ وَرِكَهُ فَعَرَجَ يَعْقُوبُ، فَلَمَّا أَضَاءَ الْفَجْرُ قَالَ لَهُ الْمَلَكُ: مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ: يَعْقُوبُ. قَالَ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُدْعَى بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَّا إِسْرَائِيلُ. فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: وَمَنْ أَنْتَ ؟ وَمَا اسْمُكَ ؟ فَذَهَبَ عَنْهُ فَعَلِمَ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَصْبَحَ يَعْقُوبُ وَهُوَ يَعْرُجُ مِنْ رِجْلِهِ فَلِذَلِكَ لَا يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النِّسَا، وَرَفَعَ يَعْقُوبُ عَيْنَيْهِ فَإِذَا أَخُوهُ عِيصُ قَدْ أَقْبَلَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ رَاجِلٍ، فَتَقَدَّمَ أَمَامَ أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَخَاهُ الْعِيصَ سَجَدَ لَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَكَانَتْ هَذِهِ تَحِيَّتَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا لَهُمْ، كَمَا سَجَدَتِ الْمَلَائِكَةُ لِآدَمَ تَحِيَّةً لَهُ، وَكَمَا سَجَدَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَأَبَوَاهُ لَهُ، كَمَا سَيَأْتِي، فَلَمَّا رَآهُ الْعِيصُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَاحْتَضَنَهُ وَقَبَّلَهُ وَبَكَى، وَرَفَعَ الْعِيصُ عَيْنَيْهِ، وَنَظَرَ إِلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَهَبَ اللَّهُ لِعَبْدِكَ. فَدَنَتِ الْأَمَتَانِ وَبَنُوهُمَا فَسَجَدُوا لَهُ، وَدَنَتْ لِيَا وَبَنُوهَا فَسَجَدُوا لَهُ، وَدَنَتْ رَاحِيلُ وَابْنُهَا يُوسُفُ آخِرًا فَسَجَدَا لَهُ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّتَهُ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَبِلَهَا، وَرَجَعَ الْعِيصُ فَتَقَدَّمَ أَمَامَهُ، وَلَحِقَهُ يَعْقُوبُ بِأَهْلِهِ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَنْعَامِ وَالْمَوَاشِي وَالْعَبِيدِ قَاصِدِينَ جِبَالَ سَاعِيرَ، فَلَمَّا مَرَّ بِسَاحُورَا ابْتَنَى لَهُ بَيْتًا وَلِدَوَابِّهِ ظِلَالًا، ثُمَّ مَرَّ عَلَى أُورْشَلِيمَ قَرْيَةِ سَحِيمٍ فَنَزَلَ قَبْلَ الْقَرْيَةِ وَاشْتَرَى مَزْرَعَةَ بَنِي حَمُورَ أَبِي سَحِيمٍ بِمِائَةِ نَعْجَةٍ، فَضَرَبَ هُنَالِكَ فُسْطَاطَهُ وَابْتَنَى ثَمَّ مَذْبَحًا فَسَمَّاهُ إِيلَ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَائِهِ لِيَسْتَعْلِنَ
لَهُ فِيهِ وَهُوَ
بَيْتُ الْمَقْدِسِ الْيَوْمَ الَّذِي جَدَّدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ مَكَانُ الصَّخْرَةِ الَّتِي أَعْلَمَهَا
بِوَضْعِ الدُّهْنِ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا.
وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ هُنَا قِصَّةَ دِينَا بِنْتِ يَعْقُوبَ مِنْ لَيَا،
وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا مَعَ سَحِيمِ بْنِ حَمُورٍ الَّذِي قَهَرَهَا عَلَى
نَفْسِهَا وَأَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ، ثُمَّ خَطَبَهَا مِنْ أَبِيهَا
وَإِخْوَتِهَا، فَقَالَ إِخْوَتُهَا: لَا نَفْعَلُ إِلَّا أَنْ تَخْتَتِنُوا
كُلُّكُمْ فَنُصَاهِرَكُمْ وَتُصَاهِرُونَا، فَإِنَّا لَا نُصَاهِرُ قَوْمًا
غُلْفًا. فَأَجَابُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَاخْتَتَنُوا كُلُّهُمْ، فَلَمَّا كَانَ
الْيَوْمُ الثَّالِثُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُمْ مِنْ أَلَمِ الْخِتَانِ، مَالَ
عَلَيْهِمْ بَنُو يَعْقُوبَ فَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَقَتَلُوا سَحِيمًا
وَأَبَاهُ حَمُورًا لِقَبِيحِ مَا صَنَعُوا إِلَيْهِمْ، مُضَافًا إِلَى
كُفْرِهِمْ، وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ أَصْنَامِهِمْ فَلِهَذَا قَتَلَهُمْ
بَنُو يَعْقُوبَ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ غَنِيمَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ حَمَلَتْ رَاحِيلُ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، وَهُوَ بِنْيَامِينُ إِلَّا
أَنَّهَا جَهَدَتْ فِي طَلْقِهَا بِهِ جَهْدًا شَدِيدًا، وَمَاتَتْ عَقِيبَهُ
فَدَفَنَهَا يَعْقُوبُ فِي أَفَرَاثٍ، وَهِيَ بَيْتُ لَحْمٍ، وَصَنَعَ يَعْقُوبُ
عَلَى قَبْرِهَا حَجَرًا، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِقَبْرِ رَاحِيلَ
إِلَى الْيَوْمِ.
وَكَانَ أَوْلَادُ يَعْقُوبَ الذُّكُورُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَمِنْ لَيَا؛ رُوبِيلُ، وَشَمْعَونُ، وَلَاوِي، وَيَهُوذَا، وَأَيْسَاخَرُ، وَزَابِلُونَ. وَمِنْ رَاحِيلَ؛ يُوسُفُ، وَبِنْيَامِينُ، وَمِنْ أَمَةِ رَاحِيلَ؛ دَانٌ، وَنَفْثَالِي. وَمِنْ أَمَةِ لَيَا؛ جَادٌ، وَأَشِيرُ. عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَجَاءَ يَعْقُوبُ إِلَى أَبِيهِ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ بِقَرْيَةِ حَبْرُونَ الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ حَيْثُ كَانَ يَسْكُنُ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ مَرِضَ إِسْحَاقُ وَمَاتَ عَنْ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدَفَنَهُ ابْنَاهُ الْعِيصُ وَيَعْقُوبُ مَعَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فِي الْمَغَارَةِ الَّتِي اشْتَرَاهَا كَمَا قَدَّمْنَا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.
ذِكْرُ مَا وَقَعَ
مِنَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ فِي حَيَاةِ إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ يُوسُفَ ابْنِ رَاحِيلَ
وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَأْنِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ
سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِيُتَدَبَّرَ مَا فِيهَا مِنَ الْحِكَمِ
وَالْمَوَاعِظِ وَالْآدَابِ وَالْأَمْرِ الْحَكِيمِ. أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: الر تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ [ يُوسُفَ: 1 - 3 ]. قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الْحُرُوفِ
الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَمَنْ أَرَادَ
تَحْقِيقَهُ فَلْيَنْظُرْ ثَمَّ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ
مُسْتَقْصًى فِي مَوْضِعِهَا مِنَ التَّفْسِيرِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا
نُبَذًا مِمَّا هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ، وَالنَّجَازِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، أَنَّهُ تَعَالَى يَمْدَحُ كِتَابَهُ
الْعَظِيمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ جَلِيٍّ، يَفْهَمُهُ كُلُّ عَاقِلٍ ذَكِيٍّ
زَكِيٍّ فَهُوَ أَشْرَفُ كِتَابٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أَنْزَلَهُ أَشْرَفُ
الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَشْرَفِ الْخَلْقِ فِي أَشْرَفِ زَمَانٍ وَمَكَانٍ
بِأَفْصَحِ لُغَةٍ وَأَظْهَرِ بَيَانٍ، فَإِنْ كَانَ السِّيَاقُ فِي الْأَخْبَارِ
الْمَاضِيَةِ أَوِ الْآتِيَةِ ذَكَرَ أَحْسَنَهَا وَأَبْيَنَهَا، وَأَظْهَرَ
الْحَقَّ مِمَّا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَدَمَغَ الْبَاطِلَ وَزَيَّفَهُ
وَرَدَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فَأَعْدَلُ الشَّرَائِعِ
وَأَوْضَحُ الْمَنَاهِجِ، وَأَبْيَنُ حُكْمًا
وَأَعْدَلُ حَكَمًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [ الْأَنْعَامِ: 115 ]. يَعْنِي صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ عَدْلًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ. أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [ الشُّورَى: 52 - 53 ]. وَقَالَ تَعَالَى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا [ طه: 99 - 101 ]. يَعْنِي مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ فَإِنَّهُ يَنَالُهُ هَذَا الْوَعِيدُ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي الْمُسْنَدِ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: مَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ
عَلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَغَضِبَ. وَقَالَ أَمُتَهَوِّكُونَ
فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ
بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُونَكُمْ
بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي.
إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَمْرٍو فِيهِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى، ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي
لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ. وَقَدْ أَوْرَدْتُ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَلْفَاظَهُ فِي
أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِي
اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً فَلَا
تَتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ. ثُمَّ أَمَرَ بِتِلْكَ
الصَّحِيفَةِ فَمُحِيَتْ حَرْفًا حَرْفًا.
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَابُنَيَّ لَا
تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ
لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ
كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ
رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ يُوسُفَ: 4 - 6 ]. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ يَعْقُوبَ
كَانَ لَهُ مِنَ الْبَنِينَ اثْنَا عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا، وَسَمَّيْنَاهُمْ،
وَإِلَيْهِمْ تُنْسَبُ أَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كُلُّهُمْ، وَكَانَ
أَشْرَفُهُمْ وَأَجَلُّهُمْ
وَأَعْظَمُهُمْ
يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ نَبِيٌّ غَيْرُهُ وَبَاقِي إِخْوَتِهِ لَمْ يُوحَ
إِلَيْهِمْ، وَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ مِنْ فِعَالِهِمْ، وَمَقَالِهِمْ فِي هَذِهِ
الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ
بِقَوْلِهِ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ
إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ [
الْبَقَرَةِ: 136 ]. وَزَعَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْأَسْبَاطُ، فَلَيْسَ
اسْتِدْلَالُهُ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَاطِ شُعُوبُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَمَا كَانَ يُوجَدُ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ
يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الْمُخْتَصُّ مِنْ
بَيْنِ إِخْوَتِهِ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى نُبُوَّتِهِ
وَالْإِيحَاءِ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَلَمْ
يَنُصَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ إِخْوَتِهِ سِوَاهُ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. وَيُسْتَأْنَسُ
لِهَذَا بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ
بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ
وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدَةَ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ
بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا طُرُقَهُ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ
بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ، وَغَيْرُهُمْ: رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ صَغِيرٌ
قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ كَأَنَّ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا، وَهُمْ إِشَارَةٌ إِلَى
بَقِيَّةِ إِخْوَتِهِ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ أَبَوَيْهِ
قَدْ سَجَدُوا لَهُ فَهَالَهُ ذَلِكَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَصَّهَا عَلَى
أَبِيهِ فَعَرَفَ أَبُوهُ أَنَّهُ سَيَنَالُ مَنْزِلَةً عَالِيَةً وَرِفْعَةً عَظِيمَةً
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِحَيْثُ يَخْضَعُ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ
فِيهَا، فَأَمَرَهُ بِكِتْمَانِهَا وَأَنْ لَا يَقُصَّهَا عَلَى إِخْوَتِهِ
كَيْلَا يَحْسُدُوهُ، وَيَبْغُوا لَهُ الْغَوَائِلَ وَيَكِيدُوهُ بِأَنْوَاعِ
الْحِيَلِ وَالْمَكْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ؛ وَلِهَذَا جَاءَ
فِي بَعْضِ الْآثَارِ. اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بِكِتْمَانِهَا
فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ
قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ مَعًا. وَهُوَ غَلَطٌ مِنْهُمْ وَكَذَلِكَ
يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ. أَيْ وَكَمَا أَرَاكَ هَذِهِ الرُّؤْيَا الْعَظِيمَةَ
فَإِذَا كَتَمْتَهَا يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أَيْ يَخُصُّكَ بِأَنْوَاعِ اللُّطْفِ
وَالرَّحْمَةِ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ. أَيْ يُفَهِّمُكَ مِنْ
مَعَانِي الْكَلَامِ، وَتَعْبِيرِ الْمَنَامِ مَالَا يَفْهَمُهُ غَيْرُكَ
وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ. أَيْ بِالْوَحْي إِلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ.
أَيْ بِسَبَبِكَ، وَيَحْصُلُ لَهُمْ بِكَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا
أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ. أَيْ يُنْعِمُ
عَلَيْكَ وَيُحْسِنُ إِلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ، كَمَا أَعْطَاهَا أَبَاكَ يَعْقُوبَ
وَجَدَّكَ إِسْحَاقَ وَوَالِدَ جَدِّكَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ إِنَّ رَبَّكَ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رِسَالَتَهُ [ الْأَنْعَامِ: 124 ].
وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ
أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ ؟ قَالَ: يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ
نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا، وَأَبُو يَعْلَى، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ ظَهِيرٍ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَئِمَّةُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: بُسْتَانَةُ الْيَهُودِيُّ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ أَنَّهَا سَاجِدَةٌ لَهُ مَا أَسْمَاؤُهَا ؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ. وَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَسْمَائِهَا، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِأَسْمَائِهَا. قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: هِيَ جَرَبَانُ، وَالطَّارِقُ، وَالذِّيَالُ، وَذُو الْكَنِفَاتِ، وَقَابِسُ، وَوَثَّابُ، وَعَمُودَانُ، وَالْفَيْلَقُ، وَالْمُصْبِحُ، وَالصَّرُوحُ، وَذُو الْفَرْعِ، وَالضِّيَاءُ، وَالنُّورُ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِي وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا. وَعِنْدَ أَبِي يَعْلَى، فَلَمَّا قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ، قَالَ: هَذَا أَمْرٌ مُشَتَّتٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ، وَالشَّمْسُ أَبُوهُ وَالْقَمَرُ أُمُّهُ.
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [ يُوسُفَ: 7 - 10 ]. يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْحِكَمِ وَالدَّلَالَاتِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالْبَيِّنَاتِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَسَدَ إِخْوَةِ يُوسُفَ لَهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ وَلِأَخِيهِ يَعْنُونَ شَقِيقَهُ لِأُمِّهِ بِنْيَامِينَ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَهُمْ عُصْبَةٌ، أَي جَمَاعَةٌ. يَقُولُونَ: فَكُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِالْمَحَبَّةِ مِنْ هَذَيْنِ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. أَيْ بِتَقْدِيمِهِ حُبَّهُمَا عَلَيْنَا. ثُمَّ اشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي قَتْلِ يُوسُفَ أَوْ إِبْعَادِهِ إِلَى أَرْضٍ لَا يَرْجِعُ مِنْهَا لِيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِ أَيْ لِتَتَمَحَّضَ مَحَبَّتُهُ لَهُمْ وَتَتَوَفَّرَ عَلَيْهِمْ، وَأَضْمَرُوا التَّوْبَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَمَالَأُوا عَلَى ذَلِكَ وَتَوَافَقُوا عَلَيْهِ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْعُونُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ يَهُوذَا. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ أَكْبَرُهُمْ رُوبِيلُ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ. أَيِ الْمَارَّةِ مِنَ الْمُسَافِرِينَ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. مَا تَقُولُونَ لَا مَحَالَةَ فَلْيَكُنْ هَذَا الَّذِي أَقُولُ لَكُمْ فَهُوَ أَقْرَبُ حَالًا مِنْ قَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَتَغْرِيبِهِ فَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى هَذَا فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ [ يُوسُفَ: 11 - 14 ]. طَلَبُوا مِنْ أَبِيهِمْ أَنْ
يُرْسِلُ مَعَهُمْ أَخَاهُمْ يُوسُفَ، وَأَظْهَرُوا لَهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَرْعَى مَعَهُمْ، وَأَنْ يَلْعَبَ وَيَنْبَسِطَ، وَقَدْ أَضْمَرُوا لَهُ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ، فَأَجَابَهُمُ الشَّيْخُ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ: يَا بَنِيَّ يَشُقُّ عَلَيَّ أَنْ أُفَارِقَهُ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، وَمَعَ هَذَا أَخْشَى أَنْ تَشْتَغِلُوا فِي لَعِبِكُمْ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ فَيَأْتِيَ الذِّئْبُ فَيَأْكُلَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ عَنْهُ لِصِغَرِهِ وَغَفْلَتِكُمْ عَنْهُقَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ. أَيْ لَئِنْ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَكَلَهُ مِنْ بَيْنِنَا أَوِ اشْتَغَلْنَا عَنْهُ حَتَّى وَقَعَ هَذَا وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ. أَيْ عَاجِزُونَ هَالِكُونَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَرَاءَهُمْ يَتْبَعُهُمْ، فَضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ حَتَّى أَرْشَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ غَلَطِهِمْ وَخَطَئِهِمْ فِي التَّعْرِيبِ فَإِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَحْرَصَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَبْعَثَهُ مَعَهُمْ فَكَيْفَ يَبْعَثُهُ وَحْدَهُ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [ يُوسُفَ: 15 - 18 ]. لَمْ يَزَالُوا بِأَبِيهِمْ حَتَّى بَعَثَهُ مَعَهُمْ فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ غَابُوا عَنْ عَيْنَيْهِ فَجَعَلُوا يَشْتُمُونَهُ وَيُهِينُونَهُ بِالْفَعَالِ وَالْمَقَالِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ أَيْ فِي قَعْرِهِ عَلَى رَاعُوفَتِهِ، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي وَسَطِهِ يَقِفُ عَلَيْهَا الْمَائِحُ، وَهُوَ الَّذِي يَنْزِلُ لِيَمْلَأَ الدِّلَاءَ إِذَا قَلَّ الْمَاءُ، وَالَّذِي يَرْفَعُهَا بِالْحَبْلِ يُسَمَّى الْمَاتِحَ، فَلَمَّا أَلْقَوْهُ فِيهِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ فَرَجٍ
وَمَخْرَجٍ مِنْ هَذِهِ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، وَلَتُخْبِرَنَّ إِخْوَتَكَ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا فِي حَالٍ أَنْتَ فِيهَا عَزِيزٌ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْكَ خَائِفُونَ مِنْكَ. وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. بِإِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ لَتُخْبِرَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا فِي حَالٍ لَا يَعْرِفُونَكَ فِيهَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ، فَلَمَّا وَضَعُوهُ فِيهِ وَرَجَعُوا عَنْهُ أَخَذُوا قَمِيصَهُ فَلَطَّخُوهُ بِشَيْءٍ مِنْ دَمٍ، وَرَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ عِشَاءً وَهُمْ يَبْكُونَ أَيْ عَلَى أَخِيهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا يَغُرَنَّكَ بُكَاءُ الْمُتَظَلِّمِ فَرُبَّ ظَالِمٍ وَهُوَ بَاكٍ. وَذَكَرَ بُكَاءَ إِخْوَةِ يُوسُفَ. وَقَدْ جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ أَيْ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لِيَكُونَ أَمْشَى لِغَدْرِهِمْ لَا لِعُذْرِهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا. أَيْ ثِيَابِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ أَيْ فِي غَيْبَتِنَا عَنْهُ فِي اسْتِبَاقِنَا. وَقَوْلُهُمْ: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ. أَيْ وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ مِنْ أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ، وَلَوْ كُنَّا غَيْرَ مُتَّهَمِينَ عِنْدَكَ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَتَّهِمُنَا فِي هَذَا ؟ فَإِنَّكَ خَشِيتَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، وَضَمِنَّا لَكَ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِكَثْرَتِنَا حَوْلَهُ فَصِرْنَا غَيْرَ مُصَدَّقِينَ عِنْدَكَ، فَمَعْذُورٌ أَنْتَ فِي عَدَمِ تَصْدِيقِكَ لَنَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. أَيْ مَكْذُوبٍ مُفْتَعَلٍ لِأَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى سَخْلَةٍ ذَبَحُوهَا فَأَخَذُوا مِنْ دَمِهَا فَوَضَعُوهُ عَلَى قَمِيصِهِ لِيُوهِمُوا أَنَّهُ أَكَلَهُ الذِّئْبُ. قَالُوا: وَنَسُوا أَنْ يَخْرِقُوهُ - " وَآفَةُ الْكَذِبِ النِّسْيَانُ. "، وَلَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ عَلَائِمُ الرِّيبَةِ لَمْ يَرُجْ
صَنِيعُهُمْ عَلَى أَبِيهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ يَفْهَمُ عَدَاوَتَهُمْ لَهُ، وَحَسَدَهُمْ إِيَّاهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ لِمَا كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ الْجَلَالَةِ وَالْمَهَابَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ فِي صِغَرِهِ لِمَا يُرِيدُ اللَّهَ أَنْ يَخُصَّهُ بِهِ مِنْ نُبُوَّتِهِ، وَلِمَا رَاوَدُوهُ عَنْ أَخْذِهِ فَبِمُجَرَّدِ مَا أَخَذُوهُ أَعْدَمُوهُ وَغَيَّبُوهُ عَنْ عَيْنَيْهِ جَاءُوا وَهُمْ يَتَبَاكَوْنَ وَعَلَى مَا تَمَالَأُوا عَلَيْهِ يَتَوَاطَئُونَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [ يُوسُفَ: 18 ]. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ رُوبِيلَ أَشَارَ بِوَضْعِهِ فِي الْجُبِّ لِيَأْخُذَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَيَرُدَّهُ إِلَى أَبِيهِ فَغَافَلُوهُ وَبَاعُوهُ لِتِلْكَ الْقَافِلَةِ، فَلَمَّا جَاءَ رُوبِيلُ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ لِيُخْرِجَ يُوسُفَ لَمْ يَجِدْهُ فَصَاحَ وَشَقَّ ثِيَابَهُ وَحَزِنَ، وَعَمَدَ أُولَئِكَ إِلَى جَدْيٍ فَذَبَحُوهُ وَلَطَّخُوا مِنْ دَمِهِ جُبَّةَ يُوسُفَ، فَلَمَّا عَلِمَ يَعْقُوبُ شَقَّ ثِيَابَهُ، وَلَبِسَ مِئْزَرًا أَسْوَدَ وَحَزِنَ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَهَذِهِ الرَّكَاكَةُ جَاءَتْ مِنْ خَطَئِهِمْ فِي التَّعْبِيرِ وَالتَّصْوِيرِ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [ يُوسُفَ: 19 - 22 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ حِينَ وُضِعَ فِي الْجُبِّ أَنَّهُ جَلَسَ يَنْتَظِرُ فَرَجَ اللَّهِ وَلُطْفَهُ بِهِ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ أَيْ مُسَافِرُونَ. قَالَ: أَهْلُ الْكِتَابِ كَانَتْ بِضَاعَتُهُمْ مِنَ الْفُسْتُقِ وَالصَّنَوْبَرِ وَالْبُطْمِ، قَاصِدِينَ دِيَارَ مِصْرَ
مِنَ الشَّامِ
فَأَرْسَلُوا بَعْضَهُمْ لِيَسْتَقُوا مِنْ ذَلِكَ الْبِئْرِ، فَلَمَّا أَدْلَى
أَحَدُهُمْ دَلْوَهُ تَعَلَّقَ فِيهِ يُوسُفُ، فَلَمَّا رَآهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ
قَالَ: يَا بُشْرَى أَيْ يَا بِشَارَتِي هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً
أَيْ أَوْهَمُوا أَنَّ مَعَهُمْ غُلَامًا مِنْ جُمْلَةِ مَتْجَرِهِمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ. أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ
إِخْوَتُهُ، وَبِمَا يُسِرُّهُ وَاجِدُوهُ مِنْ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ لَهُمْ، وَمَعَ
هَذَا لَا يُغَيِّرُهُ تَعَالَى لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ
الْعَظِيمَةِ وَالْقَدَرِ السَّابِقِ وَالرَّحْمَةِ بِأَرْضِ مِصْرَ بِمَا يُجْرِي
اللَّهُ عَلَى يَدَيْ هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي يَدْخُلُهَا فِي صُورَةِ أَسِيرٍ
رَقِيقٍ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يُمَلِّكُهُ أَزِمَّةِ الْأُمُورِ، وَيَنْفَعُهُمُ
اللَّهُ بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ بِمَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ.
وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِأَخْذِ السَّيَّارَةِ لَهُ لَحِقُوهُمْ،
وَقَالُوا: هَذَا غُلَامُنَا أَبِقَ مِنَّا فَاشْتَرَوْهُ مِنْهُمْ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ؛ أَيْ قَلِيلٍ نَزْرٍ. وَقِيلَ: هُوَ الزَّيْفُ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ
وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ،
وَنَوْفٌ الْبِكَالِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ:
بَاعُوهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا اقْتَسَمُوهَا دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ
مُجَاهِدٌ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ
مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ. أَيْ أَحْسِنِي إِلَيْهِ عَسَى
أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا. وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ
وَرَحْمَتِهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يُؤَهِّلَهُ لَهُ،
وَيُعْطِيَهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالُوا: وَكَانَ الَّذِي
اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ عَزِيزَهَا، وَهُوَ الْوَزِيرُ بِهَا الَّذِي
الْخَزَائِنُ مُسَلَّمَةٌ إِلَيْهِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:
وَاسْمُهُ
أَطْفِيرُ بْنُ رُوحِيبَ. قَالَ: وَكَانَ مَلِكُ مِصْرَ يَوْمَئِذٍ الرَّيَّانَ
بْنَ الْوَلِيدِ رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ. قَالَ: وَاسْمُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ
رَاعِيلُ بِنْتُ رَعَائِيلَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ اسْمُهَا زَلِيخَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَقَبُهَا. وَقِيلَ: فَكَا بِنْتُ يَنُوسَ. رَوَاهُ
الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: كَانَ اسْمُ الَّذِي بَاعَهُ بِمِصْرَ يَعْنِي الَّذِي جَلَبَهُ
إِلَيْهَا مَالِكَ بْنَ دَغْرِ بْنِ ثَوِيبَ بْنِ عَفْقَا بْنِ مِدْيَانَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ؛ عَزِيزُ مِصْرَ حِينَ قَالَ لِامْرَأَتِهِ:
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ وَالْمَرْأَةُ الَّتِي قَالَتْ لِأَبِيهَا عَنْ مُوسَى: يَا
أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [
الْقَصَصِ: 26 ]. وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. ثُمَّ قِيلَ: اشْتَرَاهُ الْعَزِيزُ
بِعِشْرِينَ دِينَارًا. وَقِيلَ: بِوَزْنِهِ مِسْكًا وَوَزْنِهِ حَرِيرًا
وَوَزْنِهِ وَرِقًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ. أَيْ وَكَمَا
قَيَّضْنَا هَذَا الْعَزِيزَ، وَامْرَأَتَهُ يُحْسِنَانِ إِلَيْهِ وَيَعْتَنِيَانِ
بِهِ، مَكَّنَّا لَهُ فِي أَرْضِ مِصْرَ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ. أَيْ فَهْمِهَا، وَتَعْبِيرُ الرُّؤْيَا مِنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ.
أَيْ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا فَإِنَّهُ يُقَيِّضُ لَهُ أَسْبَابًا، وَأُمُورًا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا
الْعِبَادُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ، وَهُوَ قَبْلَ
بُلُوغِ الْأَشُدِّ، وَهُوَ حَدُّ الْأَرْبَعِينَ الَّذِي يُوحِي اللَّهُ فِيهِ
إِلَى عِبَادِهِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ الَّذِي هُوَ بُلُوغُ الْأَشُدِّ.
فَقَالَ مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالشَّعْبِيُّ: هُوَ
الْحُلُمُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ
الضَّحَّاكُ: عِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ،
وَقَتَادَةُ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرْبَعُونَ
سَنَةً. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ
وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [ الْأَحْقَافِ: 105 ]. وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ
فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ
رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ
بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ
رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ
قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ
قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ [ يُوسُفَ: 23 - 29 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى
مَا كَانَ مِنْ مُرَاوَدَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَنْ نَفْسِهِ وَطَلَبِهَا مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَمَقَامِهِ، وَهِيَ
فِي غَايَةِ الْجَمَالِ وَالْمَالِ وَالْمَنْصِبِ وَالشَّبَابِ، وَكَيْفَ
غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِ ؟ وَتَهَيَّأَتْ لَهُ وَتَصَنَّعَتْ
وَلَبِسَتْ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا وَأَفْخَرَ لِبَاسِهَا، وَهِيَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ
امْرَأَةُ الْوَزِيرِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبِنْتُ أُخْتِ الْمَلِكِ
الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ صَاحِبِ مِصْرَ. وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ أَنَّ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ شَابٌّ بَدِيعُ الْجَمَالِ وَالْبَهَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ نَبِيٌّ
مِنْ سُلَالَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَعَصَمَهُ رَبُّهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَحَمَاهُ
مِنْ مَكْرِ النِّسَاءِ، فَهُوَ سَيِّدُ السَّادَةِ النُّجَبَاءِ السَّبْعَةِ
الْأَتْقِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ
فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ
سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛
إِمَامٌ عَادِلٌ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ
مُعَلَّقٌ قَلْبُهُ بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ،
وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ،
وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا
تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ
امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَيْهَا، وَحَرَصَتْ عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ
الْحِرْصِ. فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي. يَعْنِي زَوْجَهَا صَاحِبَ
الْمَنْزِلِ سَيِّدِي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أَيْ أَحْسَنَ إِلَيَّ، وَأَكْرَمَ
مُقَامِي عِنْدَهُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى
قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ
رَبِّهِ. بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَمَقْنَعٌ فِي التَّفْسِيرِ.
وَأَكْثَرُ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا مُتَلَقًّى مِنْ كُتُبِ أَهْلِ
الْكِتَابِ فَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ أَوْلَى بِنَا، وَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَصَمَهُ وَبَرَّأَهُ وَنَزَّهَهُ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَحَمَاهُ عَنْهَا وَصَانَهُ مِنْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ. أَيْ هَرَبَ مِنْهَا طَالِبًا إِلَى الْبَابِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ فِرَارًا مِنْهَا فَاتَّبَعَتْهُ فِي أَثَرِهِ: وَأَلْفَيَا: أَيْ وَجَدَا سَيِّدَهَا أَيْ زَوْجَهَا لَدَى الْبَابِ، فَبَادَرَتْهُ بِالْكَلَامِ وَحَرَّضَتْهُ عَلَيْهِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. اتَّهَمَتْهُ وَهِيَ الْمُتَّهَمَةُ وَبَرَّأَتْ عِرْضَهَا وَنَزَّهَتْ سَاحَتَهَا، فَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي. احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا قِيلَ: كَانَ صَغِيرًا فِي الْمَهْدِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَوَقَفَهُ غَيْرُهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: كَانَ رَجُلًا قَرِيبًا إِلَى أَطْفِيرَ بَعْلِهَا. وَقِيلَ: قَرِيبًا إِلَيْهَا. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ كَانَ رَجُلًا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. أَيْ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ رَاوَدَهَا فَدَافَعَتْهُ حَتَّى قَدَّتْ مُقَدَّمَ قَمِيصِهِ: وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. أَيْ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَدْ هَرَبَ مِنْهَا فَاتَّبَعَتْهُ، وَتَعَلَّقَتْ فِيهِ فَانْشَقَّ قَمِيصُهُ لِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.
أَيْ هَذَا الَّذِي جَرَى مِنْ مَكْرِكُنَّ أَنْتِ رَاوَدْتِهِ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ اتَّهَمْتِهِ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ أَضْرَبَ بَعْلُهَا عَنْ هَذَا صَفْحًا. فَقَالَ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا. أَيْ لَا تَذْكُرُهُ لِأَحَدٍ لِأَنَّ كِتْمَانَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ هُوَ الْأَلْيَقُ وَالْأَحْسَنُ، وَأَمَرَهَا بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا الَّذِي صَدَرَ مِنْهَا وَالتَّوْبَةِ إِلَى رَبِّهَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ إِلَى اللَّهِ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأهْلُ مِصْرَ وَإِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيُؤَاخِذُ بِهَا هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهَا بَعْلُهَا وَعَذَرَهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ مَا لَا صَبْرَ لَهَا عَلَى مِثْلِهِ إِلَّا أَنَّهُ عَفِيفٌ نَزِيهٌ بَرِئُ الْعِرْضِ سَلِيمُ النَّاحِيَةِ فَقَالَ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ يُوسُفَ: 30 - 34 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ قِبَلِ نِسَاءِ الْمَدِينَةِ يَعْنِي مِصْرَ مِنْ نِسَاءِ الْأُمَرَاءِ وَبَنَاتِ الْكُبَرَاءِ فِي الطَّعْنِ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَعَيْبِهَا وَالتَّشْنِيعِ عَلَيْهَا فِي مُرَاوَدَتِهَا فَتَاهَا وَحُبِّهَا الشَّدِيدِ لَهُ، يَعْنِينَ:
وَهُوَ لَا
يُسَاوِي هَذَا لِأَنَّهُ مَوْلًى مِنَ الْمَوَالِي، وَلَيْسَ مِثْلُهُ أَهْلًا
لِهَذَا؛ وَلِهَذَا قُلْنَ: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. أَيْ فِي
وَضْعِهَا الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ. أَيْ
بِتَشْنِيعِهِنَّ عَلَيْهَا وَالتَّنَقُّصِ لَهَا، وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا
بِالْعَيْبِ وَالْمَذَمَّةِ بِحُبِّ مَوْلَاهَا وَعِشْقِ فَتَاهَا فَأَظْهَرْنَ
ذَمًّا، وَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلِهَذَا أَحَبَّتْ أَنْ
تَبْسُطَ عُذْرَهَا عِنْدَهُنَّ وَتُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْفَتَى لَيْسَ كَمَا
حَسِبْنَ وَلَا مِنْ قَبِيلِ مَا لَدَيْهِنَّ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ
فَجَمَعَتْهُنَّ فِي مَنْزِلِهَا، وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ ضِيَافَةَ مِثْلِهِنَّ،
وَأَحْضَرَتْ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ شَيْئًا مِمَّا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ
كَالْأُتْرُجِّ وَنَحْوِهِ. وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا،
وَكَانَتْ قَدْ هَيَّأَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَلْبَسَتْهُ أَحْسَنَ
الثِّيَابِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ طَرَاوَةِ الشَّبَابِ، وَأَمَرَتْهُ بِالْخُرُوجِ
عَلَيْهِنَّ بِهَذِهِ الْحَالَةِ فَخَرَجَ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْبَدْرِ لَا
مَحَالَةَ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ. أَيْ أَعْظَمْنَهُ وَأَجْلَلْنَهُ
وَهِبْنَهُ، وَمَا ظَنَنَّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا فِي بَنِي آدَمَ
وَبَهَرَهُنَّ حُسْنُهُ حَتَّى اشْتَغَلْنَ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ، وَجَعَلْنَ
يَحْزُزْنَ فِي أَيْدِيهِنَّ بِتِلْكَ السَّكَاكِينِ، وَلَا يَشْعُرْنَ
بِالْجِرَاحِ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ
كَرِيمٌ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ فَمَرَرْتُ بِيُوسُفَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ
أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ:
مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
فَكَانَ فِي غَايَةِ نِهَايَاتِ الْحُسْنِ الْبَشَرِيِّ؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ
أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ عَلَى طُولِ آدَمَ وَحُسْنِهِ، وَيُوسُفُ كَانَ
عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أَحْسَنُ مِنْهُمَا،
كَمَا أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ أُنْثَى بَعْدَ حَوَّاءَ أَشَبْهَ بِهَا مِنْ سَارَةَ
امْرَأَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَكَانَ وَجْهُ يُوسُفَ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَكَانَ إِذَا
أَتَتْهُ
امْرَأَةٌ
لِحَاجَةٍ غَطَّى وَجْهَهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فِي الْغَالِبِ مُبَرْقَعًا
لِئَلَّا يَرَاهُ النَّاسُ. وَلِهَذَا لَمَّا قَامَ عَذَرَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ
فِي مَحَبَّتِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَجَرَى لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ
مَا جَرَى مِنْ تَقْطِيعِ أَيْدِيهِنَّ بِجِرَاحِ السَّكَاكِينِ، وَمَا
رَكِبَهُنَّ مِنَ الْمَهَابَةِ، وَالدَّهَشِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَمُعَايَنَتِهِ
قَالَتْ: فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ثُمَّ مَدَحَتْهُ بِالْعِفَّةِ
التَّامَّةِ فَقَالَتْ: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. أَيِ
امْتَنَعَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ
الصَّاغِرِينَ. وَكَانَ بَقِيَّةُ النِّسَاءِ حَرَّضْنَهُ عَلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ لِسَيِّدَتِهِ فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ وَنَأَى لِأَنَّهُ مِنْ
سُلَالَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَدَعَا فَقَالَ فِي دُعَائِهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ:
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ
عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ. يَعْنِي:
إِنْ وَكَلْتَنِي إِلَى نَفْسِي فَلَيْسَ لِي مِنْ نَفْسِي إِلَّا الْعَجْزُ
وَالضَّعْفُ، وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ
اللَّهُ فَأَنَا ضَعِيفٌ إِلَّا مَا قَوَّيْتَنِي وَعَصَمْتَنِي وَحَفِظْتَنِي
وَحُطْتَنِي بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُ
رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي
خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا
عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ
ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَاصَاحِبَيِ
السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ
فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ [ يُوسُفَ: 35 - 41 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى عَنِ الْعَزِيزِ وَامْرَأَتِهِ أَنَّهُمْ بَدَا لَهُمْ أَيْ
ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الرَّأْيِ بَعْدَ مَا عَلِمُوا بَرَاءَةَ يُوسُفَ أَنْ
يَسْجُنُوهُ إِلَى وَقْتٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ لِكَلَامِ النَّاسِ فِي تِلْكَ
الْقَضِيَّةِ، وَأَخْمَدَ لِأَمْرِهَا وَلِيُظْهِرُوا أَنَّهُ رَاوَدَهَا عَنْ
نَفْسِهَا فَسُجِنَ بِسَبَبِهَا، فَسَجَنُوهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَكَانَ هَذَا
مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا عَصَمَهُ بِهِ فَإِنَّهُ
أَبْعَدُ لَهُ عَنْ مُعَاشَرَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ، وَمِنْ هَاهُنَا
اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمُ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مِنَ
الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ
فَتَيَانِ. قِيلَ: كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ، وَاسْمُهُ فِيمَا قِيلَ:
بَنُو. وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ يَعْنِي الَّذِي يَلِي طَعَامَهُ، وَهُوَ الَّذِي
يَقُولُ لَهُ التُّرْكُ: الْجَاشَنْكِيرُ، وَاسْمُهُ فِيمَا قِيلَ: مَجْلَثُ.
كَانَ الْمَلِكُ قَدِ اتَّهَمَهُمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فَسَجَنَهُمَا،
فَلَمَّا رَأَيَا يُوسُفَ فِي السِّجْنِ أَعْجَبَهُمَا سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ
وَدَلُّهُ وَطَرِيقَتُهُ وَقَوْلُهُ وَفِعْلُهُ وَكَثْرَةُ عِبَادَتِهِ رَبَّهُ
وَإِحْسَانُهُ إِلَى خَلْقِهِ، فَرَأَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُؤْيَا
تُنَاسِبُهُ قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: رَأَيَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَمَّا
السَّاقِي فَرَأَى كَأَنَّ ثَلَاثَ قُضْبَانٍ مِنْ حَبْلَةٍ قَدْ أَوْرَقَتْ
وَأَيْنَعَتْ عَنَاقِيدُ الْعِنَبِ فَأَخَذَهَا فَاعْتَصَرَهَا فِي كَأْسِ
الْمَلِكِ وَسَقَاهُ، وَرَأَى الْخَبَّازُ
عَلَى رَأْسِهِ
ثَلَاثَ سِلَالٍ مِنْ خُبْزٍ، وَضَوَارِي الطُّيُورِ تَأْكُلُ مِنَ السَّلِّ
الْأَعْلَى. فَقَصَّاهَا عَلَيْهِ، وَطَلَبَا مِنْهُ أَنْ يَعْبُرَهُمَا لَهُمَا،
وَقَالَا: إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. فَأَخْبَرَهُمَا أَنَّهُ عَلِيمٌ
بِتَعْبِيرِهِمَا خَبِيرٌ بِأَمْرِهِمَا. وَ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ
تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا.
قِيلَ: مَعْنَاهُ مَهْمَا رَأَيْتُمَا مِنْ حُلْمٍ فَإِنِّي أَعْبُرُهُ لَكُمَا
قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَيَكُونُ كَمَا أَقُولُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنِّي
أُخْبِرُكُمَا بِمَا يَأْتِيكُمَا مِنَ الطَّعَامِ قَبْلَ مَجِيئِهِ حُلْوًا أَوْ
حَامِضًا. كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [ آلِ عِمْرَانَ: 49 ]. وَقَالَ لَهُمَا
إِنَّ هَذَا مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ لِأَنِّي مُؤْمِنٌ بِهِ مُوَحِّدٌ
لَهُ مُتَّبِعٌ مِلَّةَ آبَائِي الْكِرَامِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ
فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا. أَيْ بِأَنْ هَدَانَا لِهَذَا وَعَلَى النَّاسِ أَيْ
بِأَنْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَنُرْشِدَهُمْ وَنَدُلَّهُمْ
عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي فِطَرِهِمْ مَرْكُوزٌ، وَفِي جِبِلَّتِهِمْ مَغْرُوزٌ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ.
ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَذَمَّ عِبَادَةَ مَا سِوَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَصَغَّرَ أَمْرَ الْأَصْنَامِ وَحَقَّرَهَا وَضَعَّفَ أَمْرَهَا.
فَقَالَ: يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَيْ هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ
الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ
أَمَرَ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. أَيْ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ذَلِكَ الدِّينُ
الْقَيِّمُ أَيِ الْمُسْتَقِيمُ وَالصِّرَاطُ الْقَوِيمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. أَيْ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ مَعَ وُضُوحِهِ
وَظُهُورِهِ، وَكَانَتْ دَعْوَتُهُ لَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ فِي غَايَةِ
الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ نُفُوسَهُمَا مُعَظِّمَةٌ لَهُ مُنْبَعِثَةٌ عَلَى تَلَقِّي
مَا يَقُولُ بِالْقَبُولِ فَنَاسَبَ أَنْ يَدْعُوَهُمَا إِلَى مَا هُوَ
الْأَنْفَعُ لَهُمَا مِمَّا سَأَلَا عَنْهُ وَطَلَبَا مِنْهُ، ثُمَّ لَمَّا قَامَ
بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ إِلَى مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ قَالَ: يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا. قَالُوا:
وَهُوَ السَّاقِي وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ.
قَالُوا: وَهُوَ الْخَبَّازُ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ.
أَيْ وَقَعَ هَذَا لَا مَحَالَةَ وَوَجَبَ كَوْنُهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ؛
وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ
تُعَبَّرْ فَإِذَا عُبِّرَتْ وَقَعَتْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ نَرَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُمَا:
قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ. وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ
نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ
رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. [ يُوسُفَ: 42 ] يُخْبِرُ
تَعَالَى أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ
مِنْهُمَا وَهُوَ السَّاقِي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ. يَعْنِي اذْكُرْ أَمْرِي،
وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ السَّجْنِ بِغَيْرِ جُرْمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ، وَفِي هَذَا
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ السَّعْيِ فِي الْأَسْبَابِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ
التَّوَكُّلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ. وَقَوْلُهُ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ
ذِكْرَ رَبِّهِ. أَيْ فَأَنْسَى النَّاجِيَ مِنْهُمَا الشَّيْطَانُ
أَنْ يَذْكُرَ مَا
وَصَّاهُ بِهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ الصَّوَابُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَهْلِ
الْكِتَابِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. وَالْبِضْعُ: مَا بَيْنَ
الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ. وَقِيلَ: إِلَى السَّبْعِ. وَقِيلَ: إِلَى الْخَمْسِ.
وَقِيلَ: مَا دُونَ الْعَشَرَةِ. حَكَاهَا الثَّعْلَبِيُّ. وَيُقَالُ: بِضْعُ
نِسْوَةٍ، وَبِضْعَةُ رِجَالٍ وَمَنَعَ الْفَرَّاءُ اسْتِعْمَالَ الْبِضْعِ فِيمَا
دُونَ الْعَشْرِ. قَالَ: وَإِنَّمَا يُقَالُ: نَيِّفٌ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. وَقَالَ تَعَالَى: فِي بِضْعِ سِنِينَ [
الرُّومِ: 4 ]. وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُقَالُ: بِضْعَةَ
عَشَرَ، وَبِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ. إِلَى التِّسْعِينَ، وَلَا يُقَالُ: بِضْعٌ
وَمِائَةٌ، وَبِضْعٌ وَأَلْفٌ. وَخَالَفَ الْجَوْهَرِيُّ فِيمَا زَادَ عَلَى
بِضْعَةَ عَشَرَ، فَمَنَعَ أَنْ يُقَالَ: بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ. إِلَى تِسْعِينَ،
وَفِي الصَّحِيحِ الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ. وَفِي رِوَايَةٍ وَسَبْعُونَ
شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ
الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ
رَبِّهِ. عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ. فَقَدْ ضَعُفَ مَا قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ
جَرِيرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛
تَفَرَّدَ
بِإِسْنَادِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ الْمَكِّيُّ، وَهُوَ
مَتْرُوكٌ، وَمُرْسَلُ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ لَا يُقْبَلُ، وَلَاسِيَّمَا
هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ: ذِكْرُ السَّبَبِ الَّذِي مِنْ
أَجْلِهِ لَبِثَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ؛ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ
الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ، ثنا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ، ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَحِمَ اللَّهُ
يُوسُفَ لَوْلَا الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا " اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
" مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ، وَرَحِمَ اللَّهُ لُوطًا إِنْ كَانَ
لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ: " لَوْ أَنَّ لِي
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ " قَالَ: فَمَا بَعَثَ
اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَهُ إِلَّا فِي ثَرْوَةٍ مِنْ قَوْمِهِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ
مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ لَهُ
أَشْيَاءُ يَنْفَرِدُ بِهَا وَفِيهَا نَكَارَةٌ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مِنْ
أَنْكَرِهَا وَأَشَدِّهَا، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يَشْهَدُ بِغَلَطِهَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [ يُوسُفَ: 43 - 49 ]. هَذَا كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ خُرُوجِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السِّجْنِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ، وَهُوَ الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ ثَرْوَانَ بْنِ أَرَاشَةَ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا. قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: رَأَى كَأَنَّهُ عَلَى حَافَّةِ نَهْرٍ، وَكَأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ سَبْعُ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ فَجَعَلْنَ يَرْتَعْنَ فِي رَوْضَةٍ هُنَاكَ، فَخَرَجَتْ سَبْعٌ هِزَالٌ ضِعَافٌ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ فَرَتَعْنَ مَعَهُنَّ، ثُمَّ مِلْنَ عَلَيْهِنَّ فَأَكَلْنَهُنَّ، فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، ثُمَّ نَامَ فَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ فِي قَصَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا سَبْعٌ أُخَرُ دِقَاقٌ يَابِسَاتٌ تَأْكُلُهُنَّ، فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، فَلَمَّا قَصَّهَا عَلَى مَلَإِهِ، وَقَوْمِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ تَعْبِيرَهَا، بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ أَيْ أَخْلَاطُ أَحْلَامٍ مِنَ اللَّيْلِ لَعَلَّهَا لَا تَعْبِيرَ لَهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَا خِبْرَةَ لَنَا بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالُوا:
وَمَا نَحْنُ
بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَذَكَّرَ النَّاجِي
مِنْهُمَا الَّذِي وَصَّاهُ يُوسُفُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ عِنْدَ رَبِّهِ فَنَسِيَ إِلَى
حِينِهِ هَذَا، وَذَلِكَ عَنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ الْحِكْمَةُ
فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ رُؤْيَا الْمَلِكِ، وَرَأَى عَجْزَ النَّاسِ عَنْ
تَعْبِيرِهَا تَذَكَّرَ أَمْرَ يُوسُفَ وَمَا كَانَ أَوْصَاهُ بِهِ مِنَ
التَّذْكَارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا
وَادَّكَرَ. أَيْ تَذَكَّرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَيْ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ،
وَهُوَ بِضْعُ سِنِينَ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ، كَمَا حُكِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ: " وَادَّكَرَ بَعْدَ أَمَهٍ " أَيْ بَعْدَ
نِسْيَانٍ. وَقَرَأَهَا مُجَاهِدٌ: " بَعْدَ أَمْهٍ " بِإِسْكَانِ
الْمِيمِ، وَهُوَ النِّسْيَانُ أَيْضًا. يُقَالُ: أَمِهَ الرَّجُلُ يَأْمَهُ
أَمَهًا، وَأَمْهًا إِذَا نَسِيَ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَمِهْتُ وَكُنْتُ لَا أَنْسَى حَدِيثًا كَذَاكَ الدَّهْرُ يُرْدِي بِالْعَقُولِ
. فَقَالَ لِقَوْمِهِ وَلِلْمَلِكِ: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ. أَيْ فَأَرْسِلُونِي إِلَى يُوسُفَ. فَجَاءَهُ فَقَالَ: يُوسُفُ
أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ
سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي
أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ
أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا ذَكَرَهُ لَهُ النَّاجِي اسْتَدْعَاهُ إِلَى حَضْرَتِهِ،
وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا رَآهُ فَفَسَّرَهُ لَهُ. وَهَذَا غَلَطٌ، وَالصَّوَابُ مَا
قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْقُرْآنِ لَا مَا عَرَّبَهُ هَؤُلَاءِ
الْجَهَلَةُ الثِّيرَانُ مِنْ قَرَائِئَ
وَرُبَّانٍ.
فَبَذَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ بِلَا
تَأَخُّرٍ وَلَا شَرْطٍ وَلَا طَلَبَ الْخُرُوجَ سَرِيعًا، بَلْ أَجَابَهُمْ إِلَى
مَا سَأَلُوا، وَعَبَّرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ مَنَامِ الْمَلِكِ الدَّالِّ عَلَى
وُقُوعِ سَبْعِ سِنِينَ مِنَ الْخِصْبِ وَيَعْقُبُهَا سَبْعٌ جُدْبٌ ثُمَّ يَأْتِي
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ. يَعْنِي يَأْتِيهِمُ الْغَيْثُ
وَالْخِصْبُ وَالرَّفَاهِيَةُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ يَعْنِي مَا كَانُوا
يَعْصِرُونَهُ مِنَ الْأَقْصَابِ وَالْأَعْنَابِ وَالزَّيْتُونِ وَالسِّمْسِمِ
وَغَيْرِهَا. فَعَبَّرَ لَهُمْ وَعَلَى الْخَيْرِ دَلَّهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى
مَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حَالَتَيْ خِصْبِهِمْ وَجَدْبِهِمْ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ
مِنِ ادِّخَارِ حُبُوبِ سِنِيِّ الْخِصْبِ فِي السَّبْعِ الْأُوَلِ فِي سُنْبُلِهِ
إِلَّا مَا يُرْصَدُ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَمِنْ تَقْلِيلِ الْبَذْرِ فِي سِنِيِّ
الْجَدْبِ فِي السَّبْعِ الثَّانِيَةِ إِذِ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ لَا
يَرُدُّ الْبَذْرَ مِنَ الْحَقْلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ،
وَكَمَالِ الرَّأْيِ وَالْفَهْمِ.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ
يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ
قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ
رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [ يُوسُفَ: 50 - 53 ]. لَمَّا أَحَاطَ الْمَلِكُ عِلْمًا
بِكَمَالِ عِلْمِ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَتَمَامِ عَقْلِهِ
وَرَأْيِهِ السَّدِيدِ وَفَهْمِهِ، أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ إِلَى حَضْرَتِهِ
لِيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ خَاصَّتِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ
أَحَبَّ أَنْ لَا يَخْرُجَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ حُبِسَ
ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، وَأَنَّهُ بَرِيءُ السَّاحَةِ مِمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ
بُهْتَانًا قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ. يَعْنِي الْمَلِكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّ سَيِّدِي الْعَزِيزَ يَعْلَمُ بَرَاءَتِي مِمَّا نُسِبَ إِلَيَّ أَيْ فَمُرِ الْمَلِكَ فَلْيَسْأَلْهُنَّ كَيْفَ كَانَ امْتِنَاعِي الشَّدِيدُ عِنْدَ مُرَاوَدَتِهِنَّ إِيَّايَ، وَحَثِّهِنَّ لِي عَلَى الْأَمْرِ الَّذِي لَيْسَ بِرَشِيدٍ وَلَا سَدِيدٍ. فَلَمَّا سُئِلْنَ عَنْ ذَلِكَ اعْتَرَفْنَ بِمَا وَقَعَ مِنْ خَطَأِ الْأَمْرِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْأَمْرِ الْحَمِيدِ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَهِيَ زَلِيخَا الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ. أَيْ؛ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ وَوَضَحَ، وَالْحَقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. أَيْ فِيمَا يَقُولُهُ مِنْ أَنَّهُ بَرِئٌ وَأَنَّهُ لَمْ يُرَاوِدْنِي، وَأَنَّهُ حُبِسَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَزُورًا وَبُهْتَانًا. وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ. أَيْ إِنَّمَا طَلَبْتُ تَحْقِيقَ هَذَا لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ زَلِيخَا أَيْ إِنَّمَا اعْتَرَفْتُ بِهَذَا لِيَعْلَمَ زَوْجِي أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاوَدَةً لَمْ يَقَعْ مَعَهَا فِعْلُ فَاحِشَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سِوَى الْأَوَّلِ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ. وَقِيلَ: مِنْ كَلَامِ زَلِيخَا. وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَكَوْنُهُ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ زَلِيخَا أَظْهَرُ وَأَنْسَبُ، وَأَقْوَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [ يُوسُفَ: 54 - 57 ]. لَمَّا ظَهَرَ لِلْمَلِكِ بَرَاءَةُ عِرْضِهِ، وَنَزَاهَةُ سَاحَتِهِ عَمَّا كَانُوا أَظْهَرُوا عَنْهُ مِمَّا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ قَالَ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي. أَيْ أَجْعَلْهُ مِنْ خَاصَّتِي وَمِنْ أَكَابِرِ دَوْلَتِي وَمِنْ أَعْيَانِ حَاشِيَتِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ وَسَمِعَ مَقَالَهُ وَتَبَيَّنَ حَالَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. أَيْ ذُو مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. طَلَبَ أَنْ يُوَلِّيَهُ النَّظَرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَهْرَاءِ لِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ حُصُولِ الْخَلَلِ فِيمَا بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعِ سِنِيِّ الْخِصْبِ لِيَنْظُرَ فِيهَا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ فِي خَلْقِهِ مِنَ الِاحْتِيَاطِ لَهُمْ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَأَخْبَرَ الْمَلِكَ أَنَّهُ حَفِيظٌ أَيْ قَوِيٌّ عَلَى حِفْظِ مَا لَدَيْهِ أَمِينٌ عَلَيْهِ عَلِيمٌ بِضَبْطِ الْأَشْيَاءِ وَمَصَالِحِ الْأَهْرَاءِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ طَلَبِ الْوِلَايَةِ لِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَةَ وَالْكَفَاءَةَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَظَّمَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جِدًّا، وَسَلَّطَهُ عَلَى جَمِيعِ أَرْضِ مِصْرَ وَأَلْبَسَهُ خَاتَمَهُ وَأَلْبَسَهُ الْحَرِيرَ وَطَوَّقَهُ الذَّهَبَ وَحَمَلَهُ عَلَى مَرْكَبِهِ الثَّانِي، وَنُودِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْتَ رَبٌّ أَيْ مَالِكٌ وَمُسَلَّطٌ. وَقَالَ
لَهُ: لَسْتُ
أَعْظَمَ مِنْكَ إِلَّا بِالْكُرْسِيِّ. قَالُوا: وَكَانَ يُوسُفُ إِذْ ذَاكَ
ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَزَوْجُهُ امْرَأَةً عَظِيمَةَ الشَّأْنِ.
وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ عَزَلَ قِطْفِيرَ عَنْ وَظِيفَتِهِ وَوَلَّاهَا
يُوسُفَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا مَاتَ زَوَّجَهُ امْرَأَتَهُ زَلِيخَا
فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ
فَوَلَدَتْ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَجُلَيْنِ، وَهَمَا أَفْرَاثِيمُ،
وَمَنْشَا. قَالَ: وَاسْتَوْثَقَ لِيُوسُفَ مُلْكُ مِصْرَ، وَعَمِلَ فِيهِمْ
بِالْعَدْلِ فَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَحُكِيَ أَنَّ يُوسُفَ كَانَ
يَوْمَ دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ عُمُرُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَأَنَّ الْمَلِكَ
خَاطَبَهُ بِسَبْعِينَ لُغَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ يُجَاوِبُهُ بِكُلِّ لُغَةٍ مِنْهَا
فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ
يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ. أَيْ بَعْدَ السَّجْنِ وَالضِّيقِ
وَالْحَصْرِ صَارَ مُطْلَقَ الرِّكَابِ بِدِيَارِ مِصْرَ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا
حَيْثُ يَشَاءُ. أَيْ أَيْنَ شَاءَ حَلَّ مِنْهَا مُكْرَمًا مَحْسُودًا مُعَظَّمًا
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. أَيْ
هَذَا كُلُّهُ مِنْ جَزَاءِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ مَا يَدَّخِرُ
لَهُ فِي آخِرَتِهِ مِنَ الْخَيْرِ الْجَزِيلِ وَالثَّوَابِ الْجَمِيلِ؛ وَلِهَذَا
قَالَ: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أَطْفِيرَ زَوْجَ زَلِيخَا كَانَ قَدْ مَاتَ. فَوَلَّاهُ
الْمَلِكُ مَكَانَهُ وَزَوَّجَهُ امْرَأَتَهُ زَلِيخَا فَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ صَاحِبَ مِصْرَ الْوَلِيدَ بْنَ
الرَّيَّانِ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ
بَعْضُهُمْ:
وَرَاءَ مَضِيقِ الْخَوْفِ يَتَّسِعُ الْأَمْنُ وَأَوَّلُ مَفْرُوحٍ بِهِ آخِرُ
الْحُزْنِ
فَلَا تَيْأَسَنْ فَاللَّهُ مَلَّكَ يُوسُفًا خَزَائِنَهُ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنَ
السِّجْنِ
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ
أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ
لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ قَالُوا
سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ
اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ يُوسُفَ: 58 - 62 ].
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ قُدُومِ إِخْوَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَمْتَارُونَ طَعَامًا، وَذَلِكَ بَعْدَ إِتْيَانِ
سِنِيِّ الْجَدْبِ وَعُمُومِهَا عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَكَانَ
يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ ذَاكَ الْحَاكِمَ فِي أُمُورِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
دِينًا وَدُنْيَا، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ عَرَفَهُمْ، وَلَمْ يَعْرِفُوهُ
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ مَا صَارَ إِلَيْهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنَ الْمَكَانَةِ، وَالْعَظَمَةِ، فَلِهَذَا عَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ
سَجَدُوا لَهُ فَعَرَفَهُمْ، وَأَرَادَ أَنْ لَا يَعْرِفُوهُ فَأَغْلَظَ لَهُمْ
فِي الْقَوْلِ. وَقَالَ: أَنْتُمْ جَوَاسِيسُ جِئْتُمْ لِتَأْخُذُوا خَبَرَ
بِلَادِي. فَقَالُوا: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّمَا جِئْنَا نَمْتَارُ لِقَوْمِنَا
مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ الَّذِي أَصَابَنَا، وَنَحْنُ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ مِنْ
كَنْعَانَ، وَنَحْنُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ، وَصَغِيرُنَا
عِنْدَ أَبِينَا. فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ أَسْتَعْلِمَ أَمْرَكُمْ. وَعِنْدَهُمْ
أَنَّهُ حَبَسَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
ثُمَّ
أَخْرَجَهُمْ، وَاحْتَبَسَ شَمْعُونَ عِنْدَهُ لِيَأْتُوهُ بِالْأَخِ الْآخَرِ.
وَفِي بَعْضِ هَذَا نَظَرٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ. أَيْ أَعْطَاهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُ فِي
إِعْطَاءِ كُلِّ إِنْسَانٍ حِمْلَ بِعِيرٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَيْهِ قَالَ ائْتُونِي
بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ. وَكَانَ قَدْ سَأَلَهُمْ عَنْ حَالِهِمْ وَكَمْ
هُمْ فَقَالُوا: كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَذَهَبَ مِنَّا وَاحِدٌ وَبَقِيَ شَقِيقُهُ
عِنْدَ أَبِينَا. فَقَالَ: إِذَا قَدِمْتُمْ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَأْتُونِي
بِهِ مَعَكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ. أَيْ قَدْ أَحْسَنْتُ نُزُلَكُمْ وَقِرَاكُمْ فَرَغَّبَهُمْ
لِيَأْتُوهُ بِهِ، ثُمَّ رَهَّبَهُمْ إِنْ لَمْ يَأْتُوهُ بِهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ
تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ. أَيْ فَلَسْتُ
أُعْطِيكُمْ مِيرَةً، وَلَا أَقْرَبُكُمْ بِالْكُلِّيَّةِ عَكْسُ مَا أَسْدَى
إِلَيْهِمْ أَوَّلًا، فَاجْتَهَدَ فِي إِحْضَارِهِ مَعَهُمْ لِيَبُلَّ شَوْقَهُ
مِنْهُ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، قَالُوا: سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ. أَيْ
سَنَجْتَهِدُ فِي مَجِيئِهِ مَعَنَا، وَإِتْيَانِهِ إِلَيْكَ بِكُلِّ مُمْكِنٍ
وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ أَيْ وَإِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى تَحْصِيلِهِ، ثُمَّ
أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَضَعُوا بِضَاعَتَهُمْ، وَهِيَ مَا جَاءُوا بِهِ
يَتَعَوَّضُونَ بِهِ عَنِ الْمِيرَةِ فِي أَمْتِعَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُونَ بِهَا لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. قِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَرُدُّوهَا إِذَا وَجَدُوهَا فِي
بِلَادِهِمْ. وَقِيلَ: خَشِيَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُمْ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ
مَرَّةً ثَانِيَةً. وَقِيلَ: تَذَمَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَنِ
الْمِيرَةِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي بِضَاعَتِهِمْ عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي
ذِكْرُهَا، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهَا كَانَتْ صُرَرًا مِنْ وَرِقٍ.
وَهُوَ أَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا رَجَعُوا
إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا
أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ
إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا
بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا
وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ
حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ
بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ
أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ
يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ
قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لَا يَعْلَمُونَ [ يُوسُفَ: 63 - 68 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى أَبِيهِمْ
وَقَوْلِهِمْ لَهُ: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ. أَيْ بَعْدَ عَامِنَا هَذَا إِنْ
لَمْ تُرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا فَإِنْ أَرْسَلْتَهُ مَعَنَا لَمْ يُمْنَعْ مِنَّا
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي. أَيْ أَيَّ شَيْءٍ نُرِيدُ وَقَدْ رُدَّتْ إِلَيْنَا
بِضَاعَتُنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا أَيْ نَمْتَارُ لَهُمْ، وَنَأْتِيهِمْ بِمَا
يُصْلِحُهُمْ فِي سَنَتِهِمْ، وَمَحْلِهِمْ وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ.
بِسَبَبِهِ كَيْلَ بَعِيرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ. أَيْ
فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ وَلَدِهِ الْآخَرِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَضَنَّ شَيْءٍ بِوَلَدِهِ بِنْيَامِينَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشُمُّ
فِيهِ رَائِحَةَ أَخِيهِ وَيَتَسَلَّى بِهِ عَنْهُ، وَيَتَعَوَّضُ بِسَبَبِهِ
مِنْهُ، فَلِهَذَا قَالَ: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا
مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ. أَيْ إِلَّا أَنْ
تُغْلَبُوا كُلُّكُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِهِ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ
اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ. أَكَّدَ الْمَوَاثِيقَ وَقَرَّرَ الْعُهُودَ
وَاحْتَاطَ لِنَفْسِهِ فِي وَلَدِهِ، وَلَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ،
وَلَوْلَا حَاجَتُهُ
وَحَاجَةُ قَوْمِهِ
إِلَى الْمِيرَةِ لَمَا بَعَثَ الْوَلَدَ الْعَزِيزَ، وَلَكِنَّ الْأَقْدَارَ
لَهَا أَحْكَامٌ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُقَدِّرُ مَا يَشَاءُ، وَيَخْتَارُ مَا
يُرِيدُ، وَيَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ
أَنْ لَا يَدْخُلُوا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ لِيَدْخُلُوا مِنْ
أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ. قِيلَ: أَرَادَ أَنْ لَا يُصِيبَهُمْ أَحَدٌ
بِالْعَيْنِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشْكَالًا حَسَنَةً، وَصُوَرًا
بَدِيعَةً قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ،
وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا
لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ خَبَرًا لِيُوسُفَ أَوْ يُحَدَّثُونَ عَنْهُ بِأَيْسَرِ
شَيْءٍ قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ وَلِهَذَا
قَالَ: وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. وَقَالَ تَعَالَى:
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ
مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ
لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ بَعَثَ مَعَهُمْ هَدِيَّةً إِلَى الْعَزِيزِ
مِنَ الْفُسْتُقِ وَاللَّوْزِ وَالصَّنَوْبَرِ وَالْبُطْمِ وَالْعَسَلِ،
وَأَخَذُوا الدَّرَاهِمَ الْأُولَى، وَعَرْضًا آخَرَ.
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا
أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ
بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ
مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ
حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا
جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا
جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ
قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ
كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا
يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ
أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا
مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [ يُوسُفَ: 69 - 79 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حِينَ دَخَلُوا بِأَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ عَلَى شَقِيقِهِ يُوسُفَ، وَإِيوَائِهِ إِلَيْهِ وَإِخْبَارِهِ لَهُ سِرًّا عَنْهُمْ بِأَنَّهُ أَخُوهُ، وَأَمْرِهِ بِكَتْمِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَسَلَّاهُ عَمَّا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ احْتَالَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُمْ، وَتَرْكِهِ إِيَّاهُ عِنْدَهُ دُونَهُمْ، فَأَمَرَ فِتْيَانَهُ بِوَضْعِ سِقَايَتِهِ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ يَشْرَبُ بِهَا، وَيَكِيلُ بِهَا لِلنَّاسِ الطَّعَامَ مِنْ عِزَّتِهِ فِي مَتَاعِ بِنْيَامِينَ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ سَرَقُوا صُوَاعَ الْمَلِكِ، وَوَعَدَهُمْ جِعَالَةً عَلَى رَدِّهِ حِمْلَ بَعِيرٍ، وَضَمِنَهُ الْمُنَادِي لَهُمْ فَأَقْبَلُوا عَلَى مَنِ اتَّهَمَهُمْ بِذَلِكَ فَأَنَّبُوهُ، وَهَجَّنُوهُ فِيمَا قَالَهُ لَهُمْ، وَقَالُوا: تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ. يَقُولُونَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنَّا خِلَافَ مَا رَمَيْتُمُونَا بِهِ مِنَ السَّرِقَةِ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. وَهَذِهِ كَانَتْ شَرِيعَتَهُمْ أَنَّ السَّارِقَ يُدْفَعُ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ؛ وَلِهَذَا قَالُوا: كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ. لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْعَدَ لِلتُّهْمَةِ وَأَبْلَغَ فِي الْحِيلَةِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ. أَيْ لَوْلَا اعْتِرَافُهُمْ بِأَنَّ جَزَاءَهُ مَنْ وُجِدَ
فِي رَحْلِهِ
فَهُوَ جَزَاؤُهُ لَمَا كَانَ يَقْدِرُ يُوسُفُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُمْ فِي
سِيَاسَةِ مَلِكِ مِصْرَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ. أَيْ فِي الْعِلْمِ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. وَذَلِكَ؛
لِأَنَّ يُوسُفَ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَأَتَمَّ رَأْيًا وَأَقْوَى عَزْمًا
وَحَزْمًا، وَإِنَّمَا فَعَلَ مَا فَعَلَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ
مِنْ قُدُومِ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ عَلَيْهِ وَوُفُودِهِمْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
عَايَنُوا اسْتِخْرَاجَ الصُّوَاعِ مِنْ حِمْلِ بِنْيَامِينَ قَالُوا إِنْ
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ. يَعْنُونَ يُوسُفَ. قِيلَ: كَانَ
قَدْ سَرَقَ صَنَمَ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ فَكَسَرَهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ عَمَّتُهُ
قَدْ عَلَّقَتْ عَلَيْهِ بَيْنَ ثِيَابِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ، مِنْطَقَةً كَانَتْ
لِإِسْحَاقَ، ثُمَّ اسْتَخْرَجُوهَا مِنْ بَيْنِ ثِيَابِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
بِمَا صَنَعَتْ، وَإِنَّمَا أَرَادَتْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا، وَفِي حَضَانَتِهَا
لِمَحَبَّتِهَا لَهُ. وَقِيلَ: كَانَ يَأْخُذُ الطَّعَامَ مِنَ الْبَيْتِ
فَيُطْعِمُهُ الْفُقَرَاءَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَلِهَذَا قَالُوا: إِنْ
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ.
وَهِيَ كَلِمَتُهُ بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ
أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ. أَجَابَهُمْ سِرًّا لَا جَهْرًا حِلْمًا وَكَرَمًا
وَصَفْحًا وَعَفْوًا فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي التَّرَقُّقِ وَالتَّعَطُّفِ
فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ
أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا
لَظَالِمُونَ. أَيْ إِنْ أَطْلَقْنَا الْمُتَّهَمَ وَأَخَذْنَا الْبَرِيءَ هَذَا
مَا لَا نَفْعَلُهُ وَلَا نَسْمَحُ بِهِ. وَإِنَّمَا نَأْخُذُ مَنْ وَجَدْنَا
مَتَاعَنَا عِنْدَهُ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ يُوسُفَ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ حِينَئِذٍ.
وَهَذَا مِمَّا غَلِطُوا فِيهِ وَلَمْ يَفْهَمُوهُ جَيِّدًا.
فَلَمَّا
اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا
أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا
فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي
أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ
فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا
عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي
كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ
تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى
اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يَابَنِيَّ اذْهَبُوا
فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [
يُوسُفَ: 80 - 87 ].
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْ
أَخْذِهِ مِنْهُ خَلَصُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ كَبِيرُهُمْ
وَهُوَ رُوبِيلُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ. لَقَدْ أَخْلَفْتُمْ عَهْدَهُ وَفَرَّطْتُمْ فِيهِ، كَمَا
فَرَّطْتُمْ فِي أَخِيهِ يُوسُفَ مِنْ قَبْلِهِ فَلَمْ يَبْقَ لِي وَجْهٌ
أُقَابِلُهُ بِهِ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ. أَيْ لَا أَزَالُ مُقِيمًا هَاهُنَا
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي. فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي.
بِأَنْ يُقَدِّرَنِي عَلَى رَدِّ أَخِي إِلَى أَبِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ. أَيْ
أَخْبِرُوهُ بِمَا رَأَيْتُمْ مِنَ الْأَمْرِ فِي ظَاهِرِ الْمُشَاهَدَةِ وَمَا
شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا. أَيْ
فَإِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْنَاكَ بِهِ مِنْ أَخْذِهِمْ
أَخَانَا لِأَنَّهُ
سَرَقَ أَمْرٌ اشْتَهَرَ بِمِصْرَ، وَعَلِمَهُ الْعِيرُ الَّتِي كُنَّا نَحْنُ
وَهُمْ هُنَاكَ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ
أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَسْرِقْ
فَإِنَّهُ لَيْسَ بِسَجِيَّةٍ لَهُ، وَلَا خُلُقَهُ، وَإِنَّمَا سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُ: لَمَّا كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْهُمْ فِي
بِنْيَامِينَ مُتَرَتِّبًا عَلَى صَنِيعِهِمْ فِي يُوسُفَ قَالَ لَهُمْ مَا قَالَ.
وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِنْ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ
بَعْدَهَا. ثُمَّ قَالَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا. يَعْنِي
يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ وَرُوبِيلَ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ. أَيْ بِحَالِي، وَمَا
أَنَا فِيهِ مِنْ فِرَاقِ الْأَحِبَّةِ الْحَكِيمُ فِيمَا يُقَدِّرُهُ
وَيَفْعَلُهُ وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أَيْ أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى
يُوسُفَ.
ذَكَّرَهُ حُزْنُهُ الْجَدِيدُ بِالْحُزْنِ الْقَدِيمِ وَحَرَّكَ مَا كَانَ
كَامِنًا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى مَا الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ
الْأَوَّلِ
وَقَالَ آخَرُ:
لَقَدْ لَامَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلَى الْبُكَا رَفِيقِي لِتَذْرَافِ
الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ
. فَقَالَ: أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى
فَالدَّكَادِكِ ؟
فَقُلْتُ لَهُ
إِنَّ الْأَسَى يَبْعَثُ الْأَسَى فَدَعْنِي فَهَذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وَقَوْلُهُ: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ. أَيْ مِنْ كَثْرَةِ
الْبُكَاءِ فَهُوَ كَظِيمٌ أَيْ مُكْمَدٌ مِنْ كَثْرَةِ حُزْنِهِ، وَأَسَفِهِ وَشَوْقِهِ
إِلَى يُوسُفَ، فَلَمَّا رَأَى بَنُوهُ مَا يُقَاسِيهِ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَأَلَمِ
الْفِرَاقِ. قَالُوا لَهُ عَلَى وَجْهِ الرَّحْمَةِ لَهُ، وَالرَّأْفَةِ بِهِ
وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ: تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ
حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ. يَقُولُونَ: لَا تَزَالُ تَتَذَكَّرُهُ
حَتَّى يَنْحَلَ جَسَدُكَ، وَتَضْعُفَ قُوَّتُكَ فَلَوْ رَفَقْتَ بِنَفْسِكَ كَانَ
أَوْلَى بِكَ قَالَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. يَقُولُ لِبَنِيهِ: لَسْتُ أَشْكُو إِلَيْكُمْ،
وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَا أَنَا فِيهِ، إِنَّمَا أَشْكُو إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لِي مِمَّا أَنَا
فِيهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَأَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ لَا بُدَّ أَنْ
تَقَعَ، وَلَا بُدَّ أَنْ أَسْجُدَ لَهُ أَنَا وَأَنْتُمْ حَسَبَ مَا رَأَى؛
وَلِهَذَا قَالَ: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ
مُحَرِّضًا عَلَى تَطَلُّبِ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَأَنْ يَبْحَثُوا عَنْ
أَمْرِهِمَا: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا
تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ. أَيْ لَا تَيْأَسُوا مِنَ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ
فَإِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَفَرَجِهِ وَمَا يُقَدِّرُهُ مِنَ
الْمَخْرَجِ فِي الْمَضَايِقِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ.
فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ
وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا
إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ
بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ
قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ
يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا
تَاللَّهَ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ
بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [ يُوسُفَ: 88 - 93 ].
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ رُجُوعِ إِخْوَةِ يُوسُفَ إِلَيْهِ وَقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ
وَرَغْبَتِهِمْ فِيمَا لَدَيْهِ مِنَ الْمِيرَةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ بِرَدِّ
أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا
أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ. أَيْ مِنَ الْجَدْبِ وَضِيقِ
الْحَالِ وَكَثْرَةِ الْعِيَالِ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ. أَيْ ضَعِيفَةٍ
لَا يُقْبَلُ مِثْلُهَا مِنَّا إِلَّا أَنْ يُتَجَاوَزَ عَنَّا. قِيلَ: كَانَتْ
دَرَاهِمَ رَدِيئَةً. وَقِيلَ: قَلِيلَةً. وَقِيلَ: حَبَّ الصَّنَوْبَرِ، وَحَبَّ
الْبُطْمِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ خَلَقَ الْغَرَائِرِ
وَالْحِبَالِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا
إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. قِيلَ: بِقَبُولِهَا قَالَهُ
السُّدِّيُّ. وَقِيلَ: بِرَدِّ أَخِينَا إِلَيْنَا قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى نَبِيِّنَا
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. فَلَمَّا رَأَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَالِ، وَمَا
جَاءُوا بِهِ مِمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ سِوَاهُ مِنْ ضَعِيفِ الْمَالِ
تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ وَعَطَفَ عَلَيْهِمْ قَائِلًا لَهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
وَرَبِّهِمْ، وَقَدْ حَسَرَ لَهُمْ عَنْ جَبِينِهِ الشَّرِيفِ، وَمَا يَحْوِيهِ
مِنَ الْخَالِ فِيهِ الَّذِي يَعْرِفُونَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ
بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا وَتَعَجَّبُوا كُلَّ
الْعَجَبِ، وَقَدْ تَرَدَّدُوا إِلَيْهِ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَهُمْ لَا
يَعْرِفُونَ أَنَّهُ هُوَ أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا
أَخِي.
يَعْنِي: أَنَا
يُوسُفُ الَّذِي صَنَعْتُمْ مَعَهُ مَا صَنَعْتُمْ، وَسَلَفَ مِنْ أَمْرِكُمْ
فِيهِ مَا فَرَّطْتُمْ. وَقَوْلُهُ: وَهَذَا أَخِي تَأْكِيدٌ لِمَا قَالَ
وَتَنْبِيهٌ عَلَى مَا كَانُوا أَضْمَرُوا لَهُمَا مِنَ الْحَسَدِ، وَأَعْمَلُوا
فِي أَمْرِهِمَا مِنَ الِاحْتِيَالِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: قَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا. أَيْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْنَا، وَصَدَقَتِهِ عَلَيْنَا، وَإِيوَائِهِ
لَنَا، وَشَدِّهِ مَعَاقِدَ عِزِّنَا، وَذَلِكَ بِمَا أَسْلَفْنَا مِنْ طَاعَتِهِ،
وَصَبْرِنَا عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ إِلَيْنَا، وَطَاعَتِنَا وَبِرِّنَا
لِأَبِينَا، وَمَحَبَّتِهِ الشَّدِيدَةِ لَنَا، وَشَفَقَتِهِ عَلَيْنَا إِنَّهُ
مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا. أَيْ فَضَّلَكَ، وَأَعْطَاكَ
مَا لَمْ يُعْطِنَا: وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ. أَيْ فِيمَا أَسْدَيْنَا
إِلَيْكَ، وَهَا نَحْنُ بَيْنَ يَدَيْكَ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ. أَيْ لَسْتُ أُعَاتِبُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ بَعْدَ يَوْمِكُمْ
هَذَا، ثُمَّ زَادَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ.
وَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ،
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَذْهَبُوا بِقَمِيصِهِ، وَهُوَ
الَّذِي يَلِي جَسَدَهُ فَيَضَعُوهُ عَلَى عَيْنَيْ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ
إِلَيْهِ بَصَرُهُ بَعْدَ مَا كَانَ ذَهَبَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهَذَا مِنْ
خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَدَلَائِلِ النُّبُوَّاتِ وَأَكْبَرِ الْمُعْجِزَاتِ،
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوا بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ إِلَى دِيَارِ
مِصْرَ إِلَى الْخَيْرِ وَالدَّعَةِ وَجَمْعِ الشَّمْلِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ عَلَى
أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَعْلَى الْأُمُورِ.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ
لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ يُوسُفَ:
94 - 98 ].
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْعِيرُ هَاجَتْ رِيحٌ فَجَاءَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ قَمِيصِ يُوسُفَ. فَقَالَ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ. قَالَ: فَوَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أَبِي سِنَانٍ بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ الْمَكِّيُّ: كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا، وَكَانَ لَهُ مُنْذُ فَارَقَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقَوْلُهُ: لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ. أَيْ تَقُولُونَ: إِنَّمَا قُلْتَ هَذَا مِنَ الْفَنَدِ وَهُوَ الْخَرَفُ وَكِبَرُ السِّنِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ تُفَنِّدُونِ تُسَفِّهُونِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ: تُهَرِّمُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ. قَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ: قَالُوا لَهُ كَلِمَةً غَلِيظَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا. أَيْ بِمُجَرَّدِ مَا جَاءَ أَلْقَى الْقَمِيصَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ فَرَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ بَصِيرًا بَعْدَ مَا كَانَ ضَرِيرًا. وَقَالَ لِبَنِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. أَيْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَجْمَعُ شَمْلِي بِيُوسُفَ، وَسَتَقَرُّ عَيْنِي بِهِ، وَسَيُرِينِي فِيهِ وَمِنْهُ مَا يَسُرُّنِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ. طَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا كَانُوا فَعَلُوا وَنَالُوا
مِنْهُ وَمِنِ
ابْنِهِ، وَمَا كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِمُ
التَّوْبَةُ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِلِاسْتِغْفَارِ عِنْدَ
وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَأَجَابَهُمْ أَبُوهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا وَمَا
عَلَيْهِ عَوَّلُوا قَائِلًا: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ،
وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَغَيْرُهُمْ أَرْجَأَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَرِ قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ يَذْكُرُ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ:
كَانَ عَمٌّ لِي يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ إِنْسَانًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ
دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ، وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ، وَهَذَا السَّحَرُ فَاغْفِرْ
لِي. قَالَ: فَاسْتَمَعَ الصَّوْتَ فَإِذَا هُوَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أَخَّرَ
بَنِيهِ إِلَى السَّحَرِ بِقَوْلِهِ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ وَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ
تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ
مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ يَعْقُوبَ
أَرْجَأَ
بَنِيهِ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَيُّوبَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي. يَقُولُ: حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَخِي يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [ يُوسُفَ: 99 - 101 ]. هَذَا إِخْبَارٌ عَنْ حَالِ اجْتِمَاعِ الْمُتَحَابِّينَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي قِيلَ: إِنَّهَا ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْحَسَنِ. وَقِيلَ: خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ذَكَرُوا أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ غَابَ عَنْهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَظَاهِرُ سِيَاقِ الْقِصَّةِ يُرْشِدُ إِلَى تَحْدِيدِ الْمُدَّةِ تَقْرِيبًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَاوَدَتْهُ، وَهُوَ شَابٌّ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فَامْتَنَعَ فَكَانَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَهِيَ
سَبْعٌ عِنْدَ
عِكْرِمَةَ، وَغَيْرِهِ. ثُمَّ أُخْرِجَ فَكَانَتْ سَنَوَاتُ الْخِصْبِ السَّبْعُ،
ثُمَّ لَمَّا أَمْحَلَ النَّاسُ فِي السَّبْعِ الْبَوَاقِي جَاءَ إِخْوَتُهُمْ
يَمْتَارُونَ السَّنَةَ الْأُولَى وَحْدَهُمْ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَمَعَهُمْ
أَخُوهُ بِنْيَامِينُ، وَفِي الثَّالِثَةِ تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ وَأَمَرَهُمْ
بِإِحْضَارِ أَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ فَجَاءُوا كُلُّهُمْ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى
يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ. اجْتَمَعَ بِهِمَا خُصُوصًا وَحْدَهُمَا دُونَ
إِخْوَتِهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. قِيلَ: هَذَا
مِنَ الْمُقَدَّمِ، وَالْمُؤَخَّرِ تَقْدِيرُهُ: ادْخُلُوا مِصْرَ، وَآوَى
إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ. وَضَعَّفَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ مَعْذُورٌ. قِيلَ:
تَلَقَّاهُمَا وَآوَاهُمَا فِي مَنْزِلِ الْخِيَامِ، ثُمَّ لَمَّا اقْتَرَبُوا
مِنْ بَابِ مِصْرَ قَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. قَالَهُ
السُّدِّيُّ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا أَيْضًا،
وَأَنَّهُ ضُمِّنَ قَوْلُهُ ادْخُلُوا مَعْنَى اسْكُنُوا مِصْرَ أَوْ أَقِيمُوا
بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ لَكَانَ صَحِيحًا مَلِيحًا أَيْضًا.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا وَصَلَ إِلَى أَرْضِ جَاشِرَ،
وَهِيَ أَرْضُ بُلْبَيْسَ خَرَجَ يُوسُفُ لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ قَدْ
بَعَثَ ابْنَهُ يَهُوذَا بَيْنَ يَدَيْهِ مُبَشِّرًا بِقُدُومِهِ، وَعِنْدَهُمْ
أَنَّ الْمَلِكَ أَطْلَقَ لَهُمْ أَرْضَ جَاشِرَ يَكُونُونَ فِيهَا، وَيُقِيمُونَ
بِهَا بِنَعَمِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ. وَقَدْ ذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
أَنَّهُ لَمَّا أَزِفَ قُدُومُ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ وَهُوَ إِسْرَائِيلُ
أَرَادَ يُوسُفُ أَنْ يَخْرُجَ لِتَلَقِّيهِ، فَرَكِبَ مَعَهُ الْمَلِكُ
وَجُنُودُهُ خِدْمَةً لِيُوسُفَ وَتَعْظِيمًا لِنَبِيِّ اللَّهِ إِسْرَائِيلَ،
وَأَنَّهُ دَعَا لِلْمَلِكِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ بَقِيَّةَ
سِنِيِّ الْجَدْبِ بِبَرَكَةِ قُدُومِهِ إِلَيْهِمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ قَدِمَ مَعَ يَعْقُوبَ مِنْ بَنِيهِ، وَأَوْلَادِهِمْ
فِيمَا
قَالَهُ أَبُو
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ثَلَاثَةً
وَسِتِّينَ إِنْسَانًا. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ
إِنْسَانًا. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: عَنْ مَسْرُوقٍ دَخَلُوا وَهُمْ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ إِنْسَانًا. قَالُوا: وَخَرَجُوا مَعَ مُوسَى وَهُمْ
أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَفِي نَصِّ أَهْلِ الْكِتَابِ
أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ نَفْسًا، وَسَمَّوْهُمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ. قِيلَ: كَانَتْ
أُمُّهُ قَدْ مَاتَتْ. كَمَا هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ بَعْضُ
الْمُفَسِّرِينَ فَأَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَتْ
خَالَتُهُ لَيَا، وَالْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ،
وَآخَرُونَ: بَلْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي بَقَاءَ حَيَاةِ أُمِّهِ إِلَى
يَوْمِئِذٍ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا خَالَفَهُ،
وَهَذَا قَوِيٌّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَفَعَهُمَا عَلَى الْعَرْشِ أَيْ
أَجْلَسَهُمَا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا. أَيْ سَجَدَ لَهُ
الْأَبَوَانِ وَالْإِخْوَةُ الْأَحَدَ عَشَرَ تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا، وَكَانَ
هَذَا مَشْرُوعًا لَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَعْمُولًا بِهِ فِي سَائِرِ
الشَّرَائِعِ حَتَّى حُرِّمَ فِي مِلَّتِنَا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ
رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ. أَيْ هَذَا تَعْبِيرُ مَا كُنْتُ قَصَصْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ
رُؤْيَتِي الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حِينَ رَأَيْتُهُمْ
لِي سَاجِدِينَ، وَأَمَرْتَنِي بِكِتْمَانِهَا، وَوَعَدْتَنِي مَا وَعَدْتِنِي
عِنْدَ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي
مِنَ السِّجْنِ.
أَيْ بَعْدَ
الْهَمِّ، وَالضِّيقِ جَعَلَنِي حَاكِمًا نَافِذَ الْكَلِمَةِ فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ حَيْثُ شِئْتُ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ. أَيِ الْبَادِيَةِ،
وَكَانُوا يَسْكُنُونَ أَرْضَ الْعَرَبَاتِ مِنْ بِلَادِ الْخَلِيلِ مِنْ بَعْدِ
أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي. أَيْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ
إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ وَسَبَقَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ
رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ. أَيْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا هَيَّأَ أَسْبَابَهُ،
وَيَسَّرَهَا وَسَهَّلَهَا مِنْ وُجُوهٍ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا الْعِبَادُ، بَلْ
يُقَدِّرُهَا وَيُيَسِّرُهَا بِلَطِيفِ صُنْعِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ إِنَّهُ
هُوَ الْعَلِيمُ. أَيْ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ الْحَكِيمُ فِي خَلْقِهِ، وَشَرْعِهِ،
وَقَدَرِهِ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ يُوسُفَ بَاعَ أَهْلَ مِصْرَ، وَغَيْرَهُمْ مِنَ
الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ تَحْتَ يَدِهِ بِأَمْوَالِهِمْ كُلِّهَا مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْعَقَارِ وَالْأَثَاثِ وَمَا يَمْلِكُونَهُ كُلَّهُ حَتَّى
بَاعَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ فَصَارُوا أَرِقَّاءَ، ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ أَرْضَهُمْ
وَأَعْتَقَ رِقَابَهُمْ عَلَى أَنْ يَعْمَلُوا، وَيَكُونُ خُمْسُ مَا
يَشْتَغِلُونَ مِنْ زَرْعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ لِلْمَلِكِ فَصَارَتْ سُنَّةَ أَهْلِ
مِصْرَ بَعْدَهُ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْبَعُ فِي تِلْكَ
السِّنِينَ حَتَّى لَا يَنْسَى الْجِيعَانَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ
أَكْلَةً وَاحِدَةً نِصْفَ النَّهَارِ، قَالَ: فَمِنْ ثَمَّ اقْتَدَى بِهِ
الْمُلُوكُ الْأَخْيَارُ فِي ذَلِكَ. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُشْبِعُ بَطْنَهُ عَامَ
الرَّمَادَةِ حَتَّى ذَهَبَ الْجَدْبُ، وَأَتَى الْخِصْبُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ لِعُمَرَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ
عَامُ الرَّمَادَةِ: لَقَدِ انْجَلَتْ عَنْكَ، وَإِنَّكَ لَابْنُ حُرَّةٍ.
ثُمَّ لَمَّا رَأَى يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نِعْمَتَهُ قَدْ تَمَّتْ، وَشَمْلَهُ قَدِ اجْتَمَعَ عَرَفَ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لَا يَقِرُّ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِيهَا وَمَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَمَا بَعْدَ التَّمَامِ إِلَّا النُّقْصَانُ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَاعْتَرَفَ لَهُ بِعَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ، وَسَأَلَ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرُ الْمَسْئُولِينَ أَنْ يَتَوَفَّاهُ أَي حِينَ يَتَوَفَّاهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ. وَهَكَذَا كَمَا يُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ أَيْ حِينَ تَتَوَفَّانَا. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ أَنْ يَرْفَعَ رُوحَهُ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَالرُّفَقَاءِ الصَّالِحِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، كَمَا قَالَ: اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى. ثَلَاثًا. ثُمَّ قَضَى. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ مُنْجِزًا فِي صِحَّةٍ مِنْهُ وَسَلَامَةٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ وَشِرْعَتِهِمْ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَمَنَّى نَبِيٌّ قَطُّ الْمَوْتَ قَبْلَ يُوسُفَ فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَقَدْ نُهِيَ عَنِ الدُّعَاءِ بِالْمَوْتِ إِلَّا عِنْدَ الْفِتَنِ، كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ابْنَ آدَمَ الْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْفِتْنَةِ. وَقَالَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [ مَرْيَمَ: 23 ]. وَتَمَنَّى الْمَوْتَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا تَفَاقَمَتِ الْأُمُورُ
وَعَظُمَتِ
الْفِتَنُ وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَكَثُرَ الْقِيلُ وَالْقَالُ، وَتَمَنَّى ذَلِكَ
الْبُخَارِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ " لَمَّا
اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَلَقِيَ مِنْ مُخَالِفِيهِ الْأَهْوَالَ.
فَأَمَّا فِي حَالِ الرَّفَاهِيَةِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي
صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ
نَزَلَ بِهِ إِمَّا مُحْسِنًا فَيَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ
يَسْتَعْتِبُ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ
خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. وَالْمُرَادُ
بِالضُّرِّ هَاهُنَا مَا يَخُصُّ الْعَبْدَ فِي بَدَنِهِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ،
لَا فِي دِينِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
سَأَلَ ذَلِكَ إِمَّا عِنْدَ احْتِضَارِهِ أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
كَذَلِكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ يَعْقُوبَ أَقَامَ
بِدِيَارِ مِصْرَ عِنْدَ يُوسُفَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَى إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ أَبَوَيْهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ قَالَ السُّدِّيُّ:
فَصَبَرَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فَدَفَنَهُ بِالْمَغَارَةِ عِنْدَ
أَبِيهِ إِسْحَاقَ وَجَدِّهِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ عُمُرَ يَعْقُوبَ يَوْمَ دَخَلَ مِصْرَ مِائَةٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَقَامَ بِأَرْضِ مِصْرَ سَبْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: فَكَانَ جَمِيعُ عُمُرِهِ مِائَةً
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمْ، وَهُوَ غَلَطٌ
إِمَّا فِي
النُّسْخَةِ أَوْ مِنْهُمْ أَوْ قَدْ أَسْقَطُوا الْكَسْرَ، وَلَيْسَ
بِعَادَتِهِمْ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذِهِ
الطَّرِيقَةَ هَاهُنَا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: أَمْ
كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 133 ]. فَوَصَّى بَنِيهِ بِالْإِخْلَاصِ، وَهُوَ دِينُ
الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَوْصَى بَنِيهِ وَاحِدًا وَاحِدًا،
وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَبَشَّرَ يَهُوذَا بِخُرُوجِ
نَبِيٍّ عَظِيمٍ مِنْ نَسْلِهِ تُطِيعُهُ الشُّعُوبُ، وَهُوَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ يَعْقُوبُ بَكَى عَلَيْهِ أَهْلُ مِصْرَ
سَبْعِينَ يَوْمًا، وَأَمَرَ يُوسُفُ الْأَطِبَّاءَ فَطَيَّبُوهُ بِطِيبٍ،
وَمَكَثَ فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ يُوسُفُ مَلِكَ مِصْرَ فِي
الْخُرُوجِ مَعَ أَبِيهِ لِيَدْفِنَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَأَذِنَ لَهُ وَخَرَجَ
مَعَهُ أَكَابِرُ مِصْرَ وَشُيُوخُهَا، فَلَمَّا وَصَلُوا حَبْرُونَ دَفَنُوهُ فِي
الْمَغَارَةِ الَّتِي كَانَ اشْتَرَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ مِنْ عَفْرُونَ
بْنِ صَخْرٍ الْحِيثِيِّ، وَعَمِلُوا لَهُ عَزَاءً سَبْعَةَ أَيَّامٍ. قَالُوا:
ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَعَزَّى إِخْوَةُ يُوسُفَ لِيُوسُفَ فِي
أَبِيهِمْ، وَتَرَقَّقُوا لَهُ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ مُنْقَلَبَهُمْ،
فَأَقَامُوا بِبِلَادِ مِصْرَ، ثُمَّ حَضَرَتْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
الْوَفَاةُ فَأَوْصَى أَنْ يُحْمَلَ مَعَهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ
فَيُدْفَنَ عِنْدَ آبَائِهِ، فَحَنَّطُوهُ وَوَضَعُوهُ فِي تَابُوتٍ فَكَانَ
بِمِصْرَ حَتَّى أَخْرَجَهُ مَعَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَدَفَنَهُ عِنْدَ
آبَائِهِ، كَمَا سَيَأْتِي. قَالُوا: فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ
وَعَشْرِ سِنِينَ. هَذَا نَصُّهُمْ فِيمَا رَأَيْتُهُ وَفِيمَا حَكَاهُ ابْنُ
جَرِيرٍ أَيْضًا. وَقَالَ مُبَارَكُ
بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ يَهُوذَا. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ.
قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ
أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ، وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ مُوصَ
بْنَ رَزَاحَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ هُوَ أَيُّوبُ بْنُ مُوصَ بْنِ رَغْوِيلَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ
أَنَّ أُمَّهُ بِنْتُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ
آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ فَلَمْ
تَحْرِقْهُ. وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ،
كَمَا قَرَّرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ الْآيَاتِ [
الْأَنْعَامِ: 84 ]. مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ دُونَ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَهُوَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
الْمَنْصُوصِ عَلَى الْإِيحَاءِ إِلَيْهِمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ [ النِّسَاءِ: 163 ]. الْآيَةَ.
فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَامْرَأَتُهُ
قِيلَ: اسْمُهَا لَيَا بِنْتُ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ: رَحْمَةُ بِنْتُ أَفْرَائِيمَ
بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَهَذَا أَشْهَرُ فَلِهَذَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا،
ثُمَّ نَعْطِفُ بِذِكْرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ
وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى
لِلْعَابِدِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 83 - 84 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ ص:
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ
بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى
لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ ص: 41 - 44 ].
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ
نَبِيٍّ بُعِثَ إِدْرِيسُ، ثُمَّ نُوحٌ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِسْمَاعِيلُ،
ثُمَّ إِسْحَاقُ، ثُمَّ يَعْقُوبُ، ثُمَّ يُوسُفُ، ثُمَّ لُوطٌ، ثُمَّ هُودٌ،
ثُمَّ صَالِحٌ، ثُمَّ شُعَيْبٌ، ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونُ، ثُمَّ إِلْيَاسُ، ثُمَّ
الْيَسَعُ، ثُمَّ عُرْفِيُّ بْنُ سَوِيلَخَ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
يَعْقُوبَ، ثُمَّ يُونُسُ بْنُ مَتَّى مِنْ بَنِي يَعْقُوبَ، ثُمَّ أَيُّوبَ بْنِ
رَزَاحَ بْنِ آمُوصَ بْنِ لِيفَرَزَ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، وَفِي بَعْضِ هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ فَإِنَّ هُودًا وَصَالِحًا
الْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا بَعْدَ نُوحٍ، وَقَبْلَ إِبْرَاهِيمَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ، وَالتَّارِيخِ، وَغَيْرُهُمْ: كَانَ أَيُّوبُ
رَجُلًا كَثِيرَ الْمَالِ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِهِ وَأَنْوَاعِهِ مِنَ الْأَنْعَامِ
وَالْعَبِيدِ وَالْمَوَاشِي وَالْأَرَاضِي الْمُتَّسِعَةِ بِأَرْضِ الْبَثْنِيَّةِ
مِنْ أَرْضِ حُورَانَ. وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ،
وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَهْلُونَ كَثِيرٌ، فَسُلِبَ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ،
وَابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ
بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عُضْوٌ سَلِيمٌ سِوَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ ذَاكِرٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَصَبَاحِهِ وَمَسَائِهِ، وَطَالَ مَرَضُهُ حَتَّى عَافَهُ الْجَلِيسُ، وَأَوْحَشَ مِنْهُ الْأَنِيسُ، وَأُخْرِجَ مِنْ بَلَدِهِ وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ خَارِجَهَا، وَانْقَطَعَ عَنْهُ النَّاسُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَحْنُو عَلَيْهِ سِوَى زَوْجَتِهِ كَانَتْ تَرْعَى لَهُ حَقَّهُ، وَتَعْرِفُ قَدِيمَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهَا وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهَا، فَكَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فَتُصْلِحُ مِنْ شَأْنِهِ، وَتُعِينُهُ عَلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ وَتَقُومُ بِمَصْلَحَتِهِ، وَضَعُفَ حَالُهَا، وَقَلَّ مَالُهَا حَتَّى كَانَتْ تَخْدِمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ لِتُطْعِمَهُ، وَتَقُومَ بِأَوَدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا وَهِيَ صَابِرَةٌ مَعَهُ عَلَى مَا حَلَّ بِهِمَا مِنْ فِرَاقِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَمَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْمُصِيبَةِ بِالزَّوْجِ، وَضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ، وَخِدْمَةِ النَّاسِ بَعْدَ السَّعَادَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالْخِدْمَةِ، وَالْحُرْمَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ زِيدَ فِي بَلَائِهِ. وَلَمْ يَزِدْ هَذَا كُلُّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا صَبْرًا وَاحْتِسَابًا، وَحَمْدًا وَشُكْرًا، حَتَّى إِنَّ الْمَثَلَ لَيُضْرَبُ بِصَبْرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُضْرَبُ الْمَثَلُ أَيْضًا بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَايَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ خَبَرٌ طَوِيلٌ فِي كَيْفِيَّةِ ذَهَابِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ، وَبَلَائِهِ فِي جَسَدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلَ مَنْ أَصَابَهُ الْجُدَرِيُّ. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ
بَلْوَاهُ عَلَى
أَقْوَالٍ؛ فَزَعَمَ وَهْبٌ أَنَّهُ ابْتُلِيَ ثَلَاثَ سِنِينَ لَا تَزِيدُ وَلَا
تَنْقُصُ. وَقَالَ أَنَسٌ ابْتُلِيَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا، وَأُلْقِيَ عَلَى
مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ تَخْتَلِفُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ حَتَّى
فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَظَّمَ لَهُ الْأَجْرَ، وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ
عَلَيْهِ.
وَقَالَ حُمَيْدٌ: مَكَثَ فِي بَلْوَاهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ
السُّدِّيُّ: تَسَاقَطَ لَحْمُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَظْمُ
وَالْعَصَبُ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ تَأْتِيهِ بِالرَّمَادِ تَفْرُشُهُ تَحْتَهُ،
فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهَا قَالَتْ: يَا أَيُّوبُ لَوْ دَعَوْتَ رَبَّكَ لَفَرَّجَ
عَنْكَ. فَقَالَ: قَدْ عِشْتُ سَبْعِينَ سَنَةً صَحِيحًا فَهُوَ قَلِيلٌ لِلَّهِ
أَنْ أَصْبِرَ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً، فَجَزِعَتْ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ،
وَكَانَتْ تَخْدُمُ النَّاسَ بِالْأَجْرِ، وَتُطْعِمُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَخْدِمُونَهَا لِعِلْمِهِمْ
أَنَّهَا امْرَأَةُ أَيُّوبَ خَوْفًا أَنْ يَنَالَهُمْ مِنْ بَلَائِهِ أَوْ
تُعْدِيَهُمْ بِمُخَالَطَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ أَحَدًا يَسْتَخْدِمُهَا
عَمَدَتْ فَبَاعَتْ لِبَعْضِ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ إِحْدَى ضَفِيرَتَيْهَا
بِطَعَامٍ طَيِّبٍ كَثِيرٍ فَأَتَتْ بِهِ أَيُّوبَ. فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكِ
هَذَا ؟ وَأَنْكَرَهُ فَقَالَتْ: خَدَمْتُ بِهِ أُنَاسًا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ
لَمْ تَجِدْ أَحَدًا فَبَاعَتِ الضَّفِيرَةَ الْأُخْرَى بِطَعَامٍ فَأَتَتْهُ بِهِ
فَأَنْكَرَهُ أَيْضًا، وَحَلَفَ لَا يَأْكُلُهُ حَتَّى تُخْبِرَهُ مِنْ أَيْنَ
لَهَا هَذَا الطَّعَامُ ؟ فَكَشَفَتْ عَنْ رَأْسِهَا خِمَارَهَا، فَلَمَّا رَأَى
رَأْسَهَا مَحْلُوقًا. قَالَ فِي دُعَائِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ،
حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ
حَازِمٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِأَيُّوبَ أَخَوَانِ
فَجَاءَا يَوْمًا فَلَمْ يَسْتَطِيعَا أَنْ يَدْنُوَا مِنْهُ مِنْ رِيحِهِ
فَقَامَا مِنْ بَعِيدٍ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَوْ كَانَ اللَّهُ
عَلِمَ مِنْ أَيُّوبَ خَيْرًا مَا ابْتَلَاهُ بِهَذَا. فَجَزِعَ أَيُّوبُ مِنْ
قَوْلِهِمَا جَزَعًا لَمْ يَجْزَعْ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ مِثْلَهُ، قَالَ: اللَّهُمَّ
إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أَبِتْ لَيْلَةً قَطُّ شَبْعَانًا، وَأَنَا
أَعْلَمُ مَكَانَ جَائِعٍ فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا
يَسْمَعَانِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ يَكُنْ
لِي قَمِيصَانِ قَطُّ، وَأَنَا أَعْلَمُ مَكَانَ عَارٍ فَصَدِّقْنِي. فَصُدِّقَ
مِنَ السَّمَاءِ وَهُمَا يَسْمَعَانِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ
وَخَرَّ سَاجِدًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بِعِزَّتِكَ لَا أَرْفَعُ رَأْسِي أَبَدًا
حَتَّى تَكْشِفَ عَنِّي فَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَ ابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
عَبْدِ الْأَعْلَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ،
عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ
بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ
إِلَّا رَجُلَيْنِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ لَهُ كَانَا
يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ
وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ
الْعَالَمِينَ. قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ رَبُّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ. فَلَمَّا رَاحَا
إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ:
لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ
غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَذْكُرَا اللَّهَ إِلَّا فِي حَقٍّ. قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ فِي حَاجَتِهِ فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَتْ عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ أَنِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فَاسْتَبْطَأَتْهُ فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبُ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى ؟ فَوَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ. قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ؛ أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ. هَذَا لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ بِتَمَامِهِ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ جِدًّا، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي ثنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَأَلْبَسُهُ اللَّهُ حُلَّةً مِنَ الْجَنَّةِ فَتَنَحَّى أَيُّوبُ، وَجَلَسَ فِي نَاحِيَةٍ، وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ فَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا، لَعَلَّ الْكِلَابَ ذَهَبَتْ بِهِ أَوِ الذِّئَابَ ؟ وَجَعَلَتْ تُكَلِّمُهُ سَاعَةً. قَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ. قَالَتْ: أَتَسْخَرُ مِنِّي يَا عَبْدَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ أَنَا أَيُّوبُ قَدْ
رَدَّ اللَّهُ
عَلَيَّ جَسَدِي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَوَلَدَهُ
بِأَعْيَانِهِمْ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَوْحَى
اللَّهُ إِلَيْهِ: قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ، وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ، فَاغْتَسِلْ بِهَذَا الْمَاءِ فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءَكَ وَقَرِّبْ عَنْ
صَحَابَتِكَ قُرْبَانًا، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ثنا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ،
عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا عَافَى اللَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَمْطَرَ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَأْخُذُ بِيَدِهِ،
وَيَجْعَلُ فِي ثَوْبِهِ. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: يَا أَيُّوبُ أَمَا تَشْبَعُ ؟
قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ رَحْمَتِكَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَعَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ
هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ،
عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ. وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ،
وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، ثنا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أُرْسِلَ عَلَى أَيُّوبَ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ
مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا فِي ثَوْبِهِ فَقِيلَ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ
يَكْفِكَ مَا أَعْطَيْنَاكَ قَالَ: أَيْ رَبِّ، وَمَنْ يَسْتَغْنِي عَنْ فَضْلِكَ.
هَذَا مَوْقُوفٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
مَرْفُوعًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ
بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَمَا أَيُّوبُ
يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ
يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ فَنَادَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ
أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى. قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لَا غِنَى
لِي عَنْ بَرَكَتِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
بِهِ.
وَقَوْلُهُ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ أَيِ اضْرِبِ الْأَرْضَ بِرِجْلِكَ فَامْتَثَلَ
مَا أُمِرَ بِهِ فَأَنْبَعَ اللَّهُ لَهُ عَيْنًا بَارِدَةَ الْمَاءِ، وَأُمِرَ
أَنْ يَغْتَسِلَ فِيهَا، وَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ
يَجِدُهُ مِنَ الْأَلَمِ وَالْأَذَى وَالسَّقَمِ وَالْمَرَضِ، الَّذِي كَانَ فِي
جَسَدِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَبْدَلَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ
صِحَّةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَجَمَالًا تَامًّا، وَمَالًا كَثِيرًا حَتَّى
صَبَّ لَهُ مِنَ الْمَالِ صَبًّا مَطَرًا عَظِيمًا جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ،
وَأَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ أَهْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ
وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ. فَقِيلَ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِأَعْيَانِهِمْ. وَقِيلَ:
آجَرَهُ فِيمَنْ سَلَفَ، وَعَوَّضَهُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَدَلَهُمْ،
وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ بِكُلِّهِمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. وَقَوْلُهُ:
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا. أَيْ رَفَعْنَا عَنْهُ شِدَّتَهُ، وَكَشَفْنَا مَا بِهِ
مِنْ ضُرٍّ رَحْمَةً مِنَّا بِهِ وَرَأْفَةً وَإِحْسَانًا وَذِكْرَى
لِلْعَابِدِينَ أَيْ تَذْكِرَةً لِمَنِ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ
وَلَدِهِ فَلَهُ أُسْوَةٌ بِنَبِيِّ اللَّهِ أَيُّوبَ، حَيْثُ ابْتَلَاهُ اللَّهُ
بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمَنْ فَهِمَ مِنْ هَذَا اسْمَ امْرَأَتِهِ. فَقَالَ: هِيَ رَحْمَةُ مِنْ هَذِهِ
الْآيَةِ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَأَغْرَقَ فِي النَّزْعِ.
وَقَالَ
الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهَا شَبَابَهَا وَزَادَهَا
حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ وَلَدًا ذَكَرًا.
وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعِينَ سَنَةً بِأَرْضِ الرُّومِ عَلَى دِينِ
الْحَنِيفِيَّةِ، ثُمَّ غَيَّرُوا بَعْدَهُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَوْلُهُ: خُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا كَانَ مِنْ حَلِفِهِ
لَيَضْرِبَنَّ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ. فَقِيلَ: حَلِفُهُ ذَلِكَ لِبَيْعِهَا
ضَفَائِرَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ اعْتَرَضَهَا الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ طَبِيبٍ
يَصِفُ لَهَا دَوَاءً لِأَيُّوبَ، فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ، فَعَرَفَ أَنَّهُ
الشَّيْطَانُ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ سَوْطٍ، فَلَمَّا عَافَاهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفْتَاهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا، وَهُوَ كَالْعِثْكَالِ
الَّذِي يَجْمَعُ الشَّمَارِيخَ فَيَجْمَعَهَا كُلَّهَا وَيَضْرِبَهَا بِهِ
ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ هَذَا مُنْزَلًا مَنْزِلَةَ الضَّرْبِ بِمِائَةِ
سَوْطٍ، وَيَبَرُّ وَلَا يَحْنَثُ. وَهَذَا مِنَ الْفَرَجِ وَالْمَخْرَجِ لِمَنِ
اتَّقَى اللَّهَ، وَأَطَاعَهُ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ امْرَأَتِهِ الصَّابِرَةِ
الْمُحْتَسِبَةِ الْمُكَابِدَةِ الصِّدِّيقَةِ الْبَارَّةِ الرَّاشِدَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا؛ وَلِهَذَا عَقَّبَ اللَّهُ هَذِهِ الرُّخْصَةَ، وَعَلَّلَهَا
بِقَوْلِهِ: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ هَذِهِ الرُّخْصَةَ فِي بَابِ
الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ، وَتَوَسَّعَ آخَرُونَ فِيهَا حَتَّى وَضَعُوا كِتَابَ
الْحِيَلِ فِي الْخَلَاصِ مِنَ الْأَيْمَانِ، وَصَدَّرُوهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ، وَأَتَوْا فِيهِ بِأَشْيَاءَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ،
وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ الْوُصُولِ
إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ أَنَّ
أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
لَمَّا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ يَحْتَجُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، وَبِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْأَرِقَّاءِ، وَبِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِمَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ أَوْصَى إِلَى وَلَدِهِ حَوْمَلَ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بِشْرُ بْنُ أَيُّوبَ، وَهُوَ الَّذِي يَزْعُمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ ذُو الْكِفْلِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَاتَ ابْنُهُ هَذَا، وَكَانَ نَبِيًّا فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَكَانَ عُمُرُهُ مِنَ السِّنِينَ خَمْسًا وَسَبْعِينَ، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا قِصَّةَ ذِي الْكِفْلِ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَهَذِهِ قِصَّةُ
ذِي الْكِفْلِ الَّذِي زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ أَيُّوبَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ:
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ [
الْأَنْبِيَاءِ: 85 - 86 ]. وَقَالَ تَعَالَى بَعْدَ قِصَّةِ أَيُّوبَ أَيْضًا فِي
سُورَةِ ص: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي
الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ
إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ [ ص: 45 - 48
]. فَالظَّاهِرُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ
مَقْرُونًا مَعَ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ عَلَيْهِ
مِنْ رَبِّهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَدْ زَعَمَ
آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا
وَحَكَمًا مُقْسِطًا عَادِلًا. وَتَوَقَّفَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَكَانَ قَدْ تَكَفَّلَ
لِبَنِي قَوْمِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ أَمْرَهُمْ، وَيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ
فَفَعَلَ
فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَبُرَ الْيَسَعُ قَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَخْلَفْتُ رَجُلًا عَلَى النَّاسِ يَعْمَلُ عَلَيْهِمْ فِي حَيَاتِي حَتَّى أَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُ. فَجَمَعَ النَّاسَ. فَقَالَ: مَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِثَلَاثٍ أَسْتَخْلِفُهُ؛ يَصُومُ النَّهَارَ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبُ ؟ قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ تَزْدَرِيهِ الْعَيْنُ. فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ تَصُومُ النَّهَارَ، وَتَقُومُ اللَّيْلَ، وَلَا تَغْضَبُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَدَّهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ. وَقَالَ مِثْلَهَا الْيَوْمَ الْآخَرَ فَسَكَتَ النَّاسُ، وَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: أَنَا. فَاسْتَخْلَفَهُ، قَالَ: فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يَقُولُ لِلشَّيَاطِينِ: عَلَيْكُمْ بِفُلَانٍ. فَأَعْيَاهُمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَعُونِي وَإِيَّاهُ، فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبِيرٍ فَقِيرٍ، وَأَتَاهُ حِينَ أَخَذَ مَضْجَعَهُ لِلْقَائِلَةِ، وَكَانَ لَا يَنَامُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِلَّا تِلْكَ النَّوْمَةَ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَظْلُومٌ. قَالَ: فَقَامَ فَفَتَحَ الْبَابَ فَجَعَلَ يَقُصُّ عَلَيْهِ. فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي خُصُومَةً، وَإِنَّهُمْ ظَلَمُونِي وَفَعَلُوا بِي وَفَعَلُوا، وَجَعَلَ يُطَوِّلُ عَلَيْهِ حَتَّى حَضَرَ الرَّوَاحُ، وَذَهَبَتِ الْقَائِلَةُ. وَقَالَ: إِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي آخُذْ لَكَ بِحَقِّكَ فَانْطَلَقَ، وَرَاحَ فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى الشَّيْخَ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَامَ يَتْبَعُهُ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ جَعَلَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ، وَيَنْتَظِرُهُ فَلَا يَرَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الْقَائِلَةِ فَأَخَذَ مَضْجَعَهُ أَتَاهُ فَدَقَّ الْبَابَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمَظْلُومُ فَفَتَحَ لَهُ. فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِذَا قَعَدْتُ فَأْتِنِي ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ، إِذَا عَرَفُوا أَنَّكَ قَاعِدٌ قَالُوا: نَحْنُ نُعْطِيكَ حَقَّكَ. وَإِذَا قُمْتَ جَحَدُونِي، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَإِذَا رُحْتُ فَأْتِنِي. قَالَ: فَفَاتَتْهُ الْقَائِلَةُ فَرَاحَ فَجَعَلَ يَنْتَظِرُ فَلَا يَرَاهُ، وَشَقَّ
عَلَيْهِ
النُّعَاسُ. فَقَالَ: لِبَعْضِ أَهْلِهِ لَا تَدَعَنَّ أَحَدًا يَقْرُبُ هَذَا الْبَابَ
حَتَّى أَنَامَ فَإِنِّي قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النَّوْمُ، فَلَمَّا كَانَ تِلْكَ
السَّاعَةَ جَاءَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَرَاءَكَ، وَرَاءَكَ. فَقَالَ: إِنِّي
قَدْ أَتَيْتُهُ أَمْسِ فَذَكَرْتُ لَهُ أَمْرِي. فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ لَقَدْ
أَمَرَنَا أَنْ لَا نَدَعَ أَحَدًا يَقْرُبُهُ، فَلَمَّا أَعْيَاهُ نَظَرَ فَرَأَى
كُوَّةً فِي الْبَيْتِ فَتَسَوَّرَ مِنْهَا فَإِذَا هُوَ فِي الْبَيْتِ، وَإِذَا
هُوَ يَدُقُّ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ. فَقَالَ: يَا
فُلَانُ أَلَمْ آمُرْكَ ؟ قَالَ: أَمَّا مِنْ قِبَلِي، وَاللَّهِ لَمْ تُؤْتَ
فَانْظُرْ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ ؟ قَالَ: فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ
مُغْلَقٌ، كَمَا أَغْلَقَهُ، وَإِذَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَعَرَفَهُ.
فَقَالَ: أَعَدُوَّ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَعْيَيْتَنِي فِي كُلِّ شَيْءٍ،
فَفَعَلْتُ مَا تَرَى لِأُغْضِبَكَ فَسَمَّاهُ اللَّهُ ذَا الْكِفْلِ؛ لِأَنَّهُ
تَكَفَّلَ بِأَمْرٍ فَوَفَّى بِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَرِيبًا مِنْ
هَذَا السِّيَاقِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، وَابْنِ حُجَيْرَةَ الْأَكْبَرِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ
السَّلَفِ نَحْوُ هَذَا. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا أَبُو الْجَمَاهِرِ، أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ، عَنْ كِنَانَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَشْعَرِيَّ
يَعْنِي أَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ
يَقُولُ: مَا كَانَ ذُو الْكِفْلِ نَبِيًّا، وَلَكِنْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا
يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ، فَتَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ مِنْ
بَعْدِهِ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ صَلَاةٍ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَذَكَرَهُ مُنْقَطِعًا.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعْدٍ مَوْلَى طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مِرَارٍ، وَلَكِنْ قَدْ سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ ارْتَعَدَتْ، وَبَكَتْ فَقَالَ لَهَا مَا يُبْكِيكِ أَكْرَهْتُكِ. قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ هَذَا عَمَلٌ لَمْ أَعْمَلْهُ قَطُّ، وَإِنَّمَا حَمَلَتْنِي عَلَيْهِ الْحَاجَةُ. قَالَ: فَتَفْعَلِينَ هَذَا، وَلَمْ تَفْعَلِيهِ قَطُّ ؟ ثُمَّ نَزَلَ. فَقَالَ: اذْهَبِي بِالدَّنَانِيرِ لَكِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَعْصِي اللَّهَ الْكِفْلُ أَبَدًا. فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِلْكِفْلِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَقَالَ حَسَنٌ. وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ فَوَقَفَهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ فَإِنَّ سَعْدًا هَذَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا أَعْرِفُهُ إِلَّا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ. وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ سِوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ هَذَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَيْسَ هُوَ ذَا الْكِفْلِ. وَإِنَّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ " الْكِفْلُ " مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ فَهُوَ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ ذِكْرِ
أُمَمٍ أُهْلِكُوا بِعَامَّةٍ
وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ
آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى [
الْقَصَصِ: 43 ]. الْآيَةَ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ مَا أَهْلَكَ اللَّهُ قَوْمًا بِعَذَابٍ مِنَ
السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ، بَعْدَ مَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ، غَيْرَ الْقَرْيَةِ الَّتِي مُسِخُوا قِرَدَةً ; أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا
أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى وَرَفَعَهُ الْبَزَّارُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ،
وَالْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقْفُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ
أُهْلِكَتْ بِعَامَّةٍ، قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَمِنْهُمْ: أَصْحَابُ الرَّسِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي سُورَةِ "
الْفُرْقَانِ " وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ
ذَلِكَ كَثِيرًا وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا
تَتْبِيرًا [ الْفُرْقَانِ: 38، 39 ]. وَقَالَ تَعَالَى، فِي سُورَةِ " ق
" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ
وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ
كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَ وَعِيدِ [ ق: 12 - 14 ].
وَهَذَا السِّيَاقُ
وَالَّذِي قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا، وَدُمِّرُوا،
وَتُبِّرُوا، وَهُوَ الْهَلَاكُ. وَهَذَا يَرُدُّ اخْتِيَارَ ابْنِ جَرِيرٍ ; مِنْ
أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي سُورَةِ "
الْبُرُوجِ " ; لِأَنَّ أُولَئِكَ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٍ،
كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.، وَفِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْحَابُ الرَّسِّ أَهْلُ
قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى ثَمُودَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي أَوَّلِ
" تَارِيخِهِ "، عِنْدَ ذِكْرِ بِنَاءِ دِمَشْقَ عَنْ " تَارِيخِ
" أَبِي الْقَاسِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خُرْدَاذَبَةَ، وَغَيْرِهِ، أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ كَانُوا بِحَضُورٍ، فَبَعْثَ
اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يُقَالُ لَهُ: حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ.
فَكَذَّبُوهُ وَقَتَلُوهُ، فَسَارَ عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ
نُوحٍ، بِوَلَدِهِ مِنَ الرَّسِّ، فَنَزَلَ الْأَحْقَافَ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ
أَصْحَابَ الرَّسِّ، وَانْتَشَرُوا فِي الْيَمَنِ كُلِّهَا، وَفَشَوْا مَعَ ذَلِكَ
فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، حَتَّى نَزَلَ جَيْرُونُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَادِ بْنِ
عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ دِمَشْقَ وَبَنَى مَدِينَتَهَا،
وَسَمَّاهَا جَيْرُونَ وَهِيَ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، وَلَيْسَ أَعْمِدَةُ
الْحِجَارَةِ فِي مَوْضِعٍ أَكْثَرَ مِنْهَا بِدِمَشْقَ، فَبَعَثَ اللَّهُ هُودَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْخُلُودِ بْنِ
عَادٍ إِلَى عَادٍ
- يَعْنِي أَوْلَادَ عَادٍ - بِالْأَحْقَافِ، فَكَذَّبُوهُ، وَأَهْلَكَهُمُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ أَصْحَابَ الرَّسِّ قَبْلَ عَادٍ
بِدُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
الرَّسُّ بِئْرٌ بِأَذْرَبِيجَانَ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: الرَّسُّ بِئْرٌ رَسُّوا فِيهَا نَبِيَّهُمْ. أَيْ ;
دَفَنُوهُ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عِكْرِمَةُ: أَصْحَابُ الرَّسِّ
بِفَلْجَ، وَهُمْ أَصْحَابُ يَاسِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَلْجُ مِنْ قُرَى
الْيَمَامَةِ. قُلْتُ: فَإِنْ كَانُوا أَصْحَابَ يَاسِينَ، كَمَا زَعَمَهُ
عِكْرِمَةُ، فَقَدْ أُهْلِكُوا بِعَامَّةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
قِصَّتِهِمْ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [ يس:
29 ]. وَسَتَأْتِي قِصَّتُهُمْ بَعْدَ هَؤُلَاءِ. وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُمْ
وَهُوَ الظَّاهِرُ فَقَدْ أُهْلِكُوا أَيْضًا وَتُبِّرُوا. وَعَلَى كُلِّ
تَقْدِيرٍ فَيُنَافِي مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ النَّقَّاشُ، أَنَّ
أَصْحَابَ الرَّسِّ كَانَتْ لَهُمْ بِئْرٌ تَرْوِيهِمْ، وَتَكْفِي أَرْضَهُمْ
جَمِيعَهَا، وَكَانَ لَهُمْ مَلَكٌ عَادِلٌ حَسَنُ السِّيرَةِ، فَلَمَّا مَاتَ
وَجَدُوا عَلَيْهِ وَجْدًا عَظِيمًا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ تَصَوَّرَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ، وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَمُتْ، وَلَكِنْ
تَغَيَّبْتُ عَنْكُمْ حَتَّى أَرَى صَنِيعَكُمْ. فَفَرِحُوا أَشَدَّ الْفَرَحِ،
وَأَمَرَ بِضَرْبِ حِجَابٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا
يَمُوتُ أَبَدًا،
فَصَدَّقَ بِهِ
أَكْثَرُهُمْ، وَافْتَتَنُوا بِهِ، وَعَبَدُوهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ
نَبِيًّا، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا شَيْطَانٌ يُخَاطِبُهُمْ مِنْ وَرَاءِ
الْحِجَابِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي
النَّوْمِ، وَكَانَ اسْمُهُ حَنْظَلَةَ بْنَ صَفْوَانَ، فَعَدَوْا عَلَيْهِ
فَقَتَلُوهُ، وَأَلْقَوْهُ فِي الْبِئْرِ، فَغَارَ مَاؤُهَا، وَعَطِشُوا بَعْدَ
رَيِّهِمْ وَيَبِسَتْ أَشْجَارُهُمْ، وَانْقَطَعَتْ ثِمَارُهُمْ، وَخَرِبَتْ دِيَارُهُمْ،
وَتَبَدَّلُوا بَعْدَ الْأُنْسِ بِالْوَحْشَةِ، وَبَعْدَ الِاجْتِمَاعِ
بِالْفُرْقَةِ، وَهَلَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَسَكَنَ فِي مَسَاكِنِهِمُ الْجِنُّ
وَالْوُحُوشُ، فَلَا يُسْمَعُ بِبِقَاعِهِمْ إِلَّا عَزِيفُ الْجِنِّ، وَزَئِيرُ
الْأُسْدِ، وَصَوْتُ الضِّبَاعِ.
فَأَمَّا مَا رَوَاهُ - أَعْنِي ابْنَ جَرِيرٍ - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ،
عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَوَّلَ
النَّاسِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ;
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ نَبِيًّا إِلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ، فَلَمْ
يُؤْمِنْ بِهِ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا ذَلِكَ الْأَسْوَدُ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ
الْقَرْيَةِ عَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ، فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا، فَأَلْقَوْهُ
فِيهَا، ثُمَّ أَطْبَقُوا عَلَيْهِ بِحَجَرٍ أَصَمَّ قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ
الْعَبْدُ يَذْهَبُ فَيَحْتَطِبُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِحَطَبِهِ
فَيَبِيعُهُ، وَيَشْتَرِي بِهِ طَعَامًا وَشَرَابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إِلَى
ذَلِكَ الْبِئْرِ، فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ، وَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَيْهَا،
وَيُدْلِي إِلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، ثُمَّ يَرُدُّهَا كَمَا كَانَتْ.
قَالَ: فَكَانَ كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ
يَوْمًا يَحْتَطِبُ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَجَمَعَ حَطَبَهُ وَحَزَمَ حُزْمَتَهُ
وَفَرَغَ مِنْهَا، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحْتَمِلَهَا، وَجَدَ
سِنَةً، فَاضْطَجَعَ يَنَامُ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ نَائِمًا، ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ، فَتَمَطَّى وَتَحَوَّلَ لِشِقِّهِ الْآخَرِ فَاضْطَجَعَ، فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرَى، ثُمَّ إِنَّهُ هَبَّ، وَاحْتَمَلَ حُزْمَتَهُ، وَلَا يَحْسَبُ أَنَّهُ نَامَ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَجَاءَ إِلَى الْقَرْيَةِ، فَبَاعَ حُزْمَتَهُ، ثُمَّ اشْتَرَى طَعَامًا وَشَرَابًا، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، ثُمَّ إِنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْحُفْرَةِ، إِلَى مَوْضِعِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، فَالْتَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وَقَدْ كَانَ بَدَا لِقَوْمِهِ فِيهِ بَدَاءٌ، فَاسْتَخْرَجُوهُ، وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ. قَالَ: فَكَانَ نَبِيُّهُمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْأَسْوَدِ: مَا فَعَلَ؟ فَيَقُولُونَ لَهُ: مَا نَدْرِي. حَتَّى قَبَضَ اللَّهُ النَّبِيَّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَهَبَّ الْأَسْوَدُ مِنْ نَوْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ ذَلِكَ الْأَسْوَدَ لَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَمَثَلُهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَلَعَلَّ بَسْطَ قِصَّتِهِ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَدْ رَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ، وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الرَّسِّ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ أَصْحَابِ الرَّسِّ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَدَا لَهُمْ فَآمَنُوا بِنَبِيِّهِمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَدَثَتْ لَهُمْ أَحْدَاثٌ، آمَنُوا بِالنَّبِيِّ بَعْدَ هَلَاكِ آبَائِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ اخْتَارَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ; لِمَا تَقَدَّمَ وَلِمَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ، حَيْثُ تُوُعِّدُوا بِالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا، وَلَمْ يُذْكَرْ هَلَاكُهُمْ، وَقَدْ صُرِّحَ بِهَلَاكِ أَصْحَابِ الرَّسِّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ قَوْمِ يس
وَهُمْ أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ
جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قَالُوا مَا
أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ قَالُوا إِنَّا
تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ
مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ
أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى
قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ
أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ
لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ
الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ
مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا
صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [ يس: 13 - 29 ].
اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ أَنْطَاكِيَةُ. رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَكَعْبٍ، وَوَهْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَكَانَ لَهَا مَلِكٌ اسْمُهُ أَنْطِيخَسُ بْنُ أَنْطِيحَسَ، وَكَانَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ ثَلَاثَةً مِنَ الرُّسُلِ ; وَهُمْ صَادِقٌ، وَصَدُوقٌ، وَشَلُومُ، فَكَذَّبَهُمْ. وَهَذَا ظَاهِرٌ أَنَّهُمْ رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَزَعَمَ قَتَادَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا رُسُلًا مِنَ الْمَسِيحِ. وَكَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ وَهَبِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبٍ الْجَبَائِيِّ: كَانَ اسْمُ الرَّسُولَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: شَمْعُونَ وَيُوحَنَّا، وَاسْمُ الثَّالِثِ بُولِسَ، وَالْقَرْيَةِ أَنْطَاكِيَةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ جِدًّا ; لِأَنَّ أَهْلَ أَنْطَاكِيَةَ لَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمَسِيحُ ثَلَاثَةً مِنَ الْحَوَارِيِّينَ، كَانُوا أَوَّلَ مَدِينَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ إِحْدَى الْمُدُنِ الْأَرْبَعِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا بَطَارِقَةُ النَّصَارَى ; وَهُنَّ أَنْطَاكِيَةُ وَالْقُدْسُ وَإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَرُومِيَّةُ. ثُمَّ بَعْدَهَا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَلَمْ يُهْلَكُوا، وَأَهْلُ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ أُهْلِكُوا،
كَمَا قَالَ فِي
آخِرِ قِصَّتِهَا بَعْدَ قَتْلِهِمْ صِدِّيقَ الْمُرْسَلِينَ وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ لَكِنْ إِنْ كَانَتِ
الرُّسُلُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ، بُعِثُوا إِلَى أَهْلِ
أَنْطَاكِيَةَ قَدِيمًا، فَكَذَّبُوهُمْ وَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ عُمِرَتْ
بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ الْمَسِيحِ آمَنُوا بِرُسُلِهِ
إِلَيْهِمْ، فَلَا يُمْنَعُ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَأَمَّا الْقَوْلُ
بِأَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ هِيَ قِصَّةُ أَصْحَابِ
الْمَسِيحِ، فَضَعِيفٌ ; لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ
يَقْتَضِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا يَعْنِي: لِقَوْمِكَ يَا
مُحَمَّدُ أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ يَعْنِي الْمَدِينَةَ إِذْ جَاءَهَا
الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا
فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ أَيْ ; أَيَّدْنَاهُمَا بِثَالِثٍ فِي الرِّسَالَةِ
فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ بَشَرٌ
مِثْلُهُمْ، كَمَا قَالَتِ الْأُمَمُ الْكَافِرَةُ لِرُسُلِهِمْ، يَسْتَبْعِدُونَ
أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا بَشَرِيًّا، فَأَجَابُوهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ أَنَّا رُسُلُهُ إِلَيْكُمْ، وَلَوْ كُنَّا كَذَّبَنَا عَلَيْهِ
لَعَاقَبْنَا وَانْتَقَمَ مِنَّا أَشَدَّ الِانْتِقَامِ وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أَيْ; إِنَّمَا عَلَيْنَا، أَيْ نُبَلِّغُكُمْ مَا
أُرْسِلْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ، وَاللَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ،
وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ أَيْ ; تَشَاءَمْنَا
بِمَا جِئْتُمُونَا بِهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ قِيلَ
بِالْمَقَالِ. وَقِيلَ بِالْفِعَالِ. وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ
وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ تَوَعَّدُوهُمْ بِالْقَتْلِ
وَالْإِهَانَةِ. قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَيْ ; مَرْدُودٌ
عَلَيْكُمْ أَإِنْ
ذُكِّرْتُمْ أَيْ ; بِسَبَبِ أَنَّا ذَكَّرْنَاكُمْ بِالْهُدَى وَدَعَوْنَاكُمْ
إِلَيْهِ، تَوَعَّدْتُمُونَا بِالْقَتْلِ وَالْإِهَانَةِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
مُسْرِفُونَ أَيْ ; لَا تَقْبَلُونَ الْحَقَّ، وَلَا تُرِيدُونَهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى يَعْنِي:
لِنُصْرَةِ الرُّسُلِ، وَإِظْهَارِ الْإِيمَانِ بِهِمْ قَالَ يَا قَوْمِ
اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ
مُهْتَدُونَ أَيْ ; يَدْعُونَكُمْ إِلَى الْحَقِّ الْمَحْضِ، بِلَا أُجْرَةٍ وَلَا
جِعَالَةٍ. ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَنَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ، مِمَّا لَا يَنْفَعُ شَيْئًا لَا فِي
الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ أَيْ ; إِنْ
تَرَكْتُ عِبَادَةَ اللَّهِ وَعَبَدْتُ سِوَاهُ. ثُمَّ قَالَ مُخَاطِبًا
لِلرُّسُلِ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ: فَاسْتَمِعُوا
مَقَالَتِي، وَاشْهَدُوا لِي بِهَا عِنْدَ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
فَاسْمَعُوا يَا قَوْمِي إِيمَانِي بِرُسُلِ اللَّهِ جَهْرَةً. فَعِنْدَ ذَلِكَ
قَتَلُوهُ. قِيلَ: رَجَمًا. وَقِيلَ: عَضًّا. وَقِيلَ: وَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ فَقَتَلُوهُ. وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ،
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَطِئُوهُ بِأَرْجُلِهِمْ حَتَّى أَخْرَجُوا
قُصْبَهُ.
وَقَدْ رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ: كَانَ
اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ حَبِيبَ بْنَ مُرَى. ثُمَّ قِيلَ: كَانَ نَجَّارًا.
وَقِيلَ: حَبَّالًا. وَقِيلَ: إِسْكَافًا. وَقِيلَ: قَصَّارًا. وَقِيلَ: كَانَ
يَتَعَبَّدُ فِي غَارٍ هُنَاكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ
حَبِيبٌ النَّجَّارُ قَدْ أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَامُ، وَكَانَ كَثِيرَ
الصَّدَقَةِ، قَتَلَهُ قَوْمُهُ.
وَلِهَذَا قَالَ
تَعَالَى ادْخُلِ الْجَنَّةَ يَعْنِي: لَمَّا قَتَلَهُ قَوْمُهُ أَدْخَلَهُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ
قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ يَعْنِي: لِيُؤْمِنُوا بِمَا آمَنْتُ بِهِ، فَيَحْصُلَ لَهُمْ مَا
حَصَلَ لِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَصَحَ قَوْمَهُ فِي حَيَاتِهِ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ
لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا نَاصِحًا، لَا
تَلْقَاهُ غَاشًّا، لَمَّا عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ قَالَ: يَا
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ
الْمُكْرَمِينَ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ بِمَا عَايَنَ مِنْ
كَرَامَةِ اللَّهِ وَمَا هَجَمَ عَلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ فَلَا وَاللَّهِ، مَا
عَاتَبَ اللَّهُ قَوْمَهُ بَعْدَ قَتْلِهِ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً
فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ
مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ أَيْ ; مَا احْتَجْنَا فِي
الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ إِلَى إِنْزَالِ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ. هَذَا
مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ جُنْدًا، أَيْ
رِسَالَةً أُخْرَى. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قُلْتُ:
وَأَقْوَى. وَلِهَذَا قَالَ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ
أَيْ ; وَمَا
كُنَّا نَحْتَاجُ فِي الِانْتِقَامِ إِلَى هَذَا، حِينَ كَذَّبُوا رُسُلنَا
وَقَتَلُوا وَلِيَّنَا إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ
خَامِدُونَ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ الَّذِي لِبَلَدِهِمْ، ثُمَّ صَاحَ
بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ أَيْ ; قَدْ أُخْمِدَتْ
أَصْوَاتُهُمْ، وَسَكَنَتْ حَرَكَاتُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَيْنٌ
تَطْرِفُ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَرْيَةَ
لَيْسَتْ أَنْطَاكِيَةَ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أُهْلِكُوا بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَ
اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَأَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ آمَنُوا، وَاتَّبَعُوا رُسُلَ
الْمَسِيحِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ إِلَيْهِمْ ; فَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ
أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلُ مَدِينَةٍ آمَنَتْ بِالْمَسِيحِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ
الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، مِنْ حَدِيثِ حُسَيْنٍ الْأَشْقَرِ، عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: السُّبَّقُ ثَلَاثَةٌ ;
فَالسَّابِقُ إِلَى مُوسَى يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَالسَّابِقُ إِلَى عِيسَى صَاحِبُ
يس، وَالسَّابِقُ إِلَى مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ
لَا يَثْبُتُ ; لِأَنَّ حُسَيْنًا هَذَا مَتْرُوكٌ، وَشِيعِيٌّ مِنَ الْغُلَاةِ،
وَتَفَرُّدُهُ بِهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قِصَّةُ يُونُسَ، عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " يُونُسَ " فَلَوْلَا كَانَتْ
قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا
كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ
إِلَى حِينٍ [ يُونُسَ: 98 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْأَنْبِيَاءِ
": وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ
عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ
إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ
الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 87، 88 ]. وَقَالَ
تَعَالَى فِي سُورَةِ " الصَّافَّاتِ " وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ
مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا
فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [ الصَّافَّاتِ: 139 - 148 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي
سُورَةِ " نُونْ ": فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ
الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ
رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ
مِنَ الصَّالِحِينَ [ الْقَلَمِ: 48 - 50 ].
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: بَعَثَ اللَّهُ يُونُسَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى أَهْلِ نِينَوَى ; مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَذَّبُوهُ وَتَمَرَّدُوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِهُمْ، خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهَرِهِمْ، وَوَعَدَهُمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ وَتَحَقَّقُوا نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ وَالْإِنَابَةَ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ، فَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ بَهِيمَةٍ وَوَلَدِهَا، ثُمَّ عَجُّوَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَرَخُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَتَمَسْكَنُوا لَدَيْهِ، وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَالْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ، وَالْأُمَّهَاتُ، وَجَأَرَتِ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ وَالْمَوَاشِي، وَرَغَتِ الْإِبِلُ وَفُصْلَانُهَا، وَخَارَتِ الْبَقَرُ وَأَوْلَادُهَا، وَثَغَتِ الْغَنَمُ وَحُمْلَانُهَا، وَكَانَتْ سَاعَةً عَظِيمَةً هَائِلَةً، فَكَشَفَ اللَّهُ الْعَظِيمُ، بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي كَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِهِمْ بِسَبَبِهِ، وَدَارَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا أَيْ ; هَلَّا وُجِدَتْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْقُرُونِ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بِكَمَالِهَا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [ سَبَأٍ: 34 ]. وَقَوْلُهُ: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ أَيْ ; آمَنُوا بِكَمَالِهِمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ ; هَلْ يَنْفَعُهُمْ
هَذَا الْإِيمَانُ
فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُنْقِذُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأُخْرَوِيِّ، كَمَا
أَنْقَذَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، الْأَظْهَرُ
مِنَ السِّيَاقِ: نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا قَالَ
تَعَالَى: لَمَّا آمَنُوا وَقَالَ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ
أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَهَذَا الْمَتَاعُ إِلَى
حِينٍ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ رَفْعِ الْعَذَابِ
الْأُخْرَوِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ لَا مَحَالَةَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ ;
فَعَنْ مَكْحُولٍ: عَشَرَةُ آلَافٍ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَ ابْنُ جَرِيرٍ
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، عَمَّنْ سَمِعَ أَبَا الْعَالِيَةِ
; حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ قَالَ: يَزِيدُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا. فَلَوْلَا هَذَا الرَّجُلُ
الْمُبْهَمُ لَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ فَاصِلًا فِي هَذَا الْبَابِ. وَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَعَنْهُ، وَبِضْعَةً
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَعَنْهُ، وَبِضْعَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ كَانُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا. وَاخْتَلَفُوا
; هَلْ كَانَ إِرْسَالُهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ الْحُوتِ أَوْ بَعْدَهُ، أَوْ هُمَا
أُمَّتَانِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، هِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي التَّفْسِيرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا ذَهَبَ مُغَاضِبًا بِسَبَبِ
قَوْمِهِ، رَكِبَ سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ، فَلَجَّتْ بِهِمْ وَاضْطَرَبَتْ،
وَمَاجَتْ بِهِمْ وَثَقُلَتْ بِمَا فِيهَا، وَكَادُوا
يَغْرَقُونَ، عَلَى
مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، قَالُوا: فَاشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى
أَنْ يَقْتَرِعُوا، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَوْهُ مِنَ
السَّفِينَةِ ; لِيَتَخَفَّفُوا مِنْهُ، فَلَمَّا اقْتَرَعُوا وَقَعَتِ
الْقُرْعَةُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يُونُسَ، فَلَمْ يَسْمَحُوا بِهِ،
فَأَعَادُوهَا ثَانِيَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَشَمَّرَ لِيَخْلَعَ
ثِيَابَهُ وَيُلْقِيَ بِنَفْسِهِ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَعَادُوا
الْقُرْعَةَ ثَالِثَةً فَوَقَعَتْ عَلَيْهِ أَيْضًا ; لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ
بِهِ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، أُلْقِيَ فِي الْبَحْرِ، وَبَعَثَ اللَّهُ، عَزَّ
وَجَلَّ، حُوتًا عَظِيمًا مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ فَالْتَقَمَهُ، وَأَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى: أَنْ لَا تَأْكُلَ لَهُ لَحْمًا، وَلَا تُهَشِّمَ لَهُ عَظْمًا،
فَلَيْسَ لَكَ بِرِزْقٍ، فَأَخْذَهُ فَطَافَ بِهِ الْبِحَارَ كُلَّهَا. وَقِيلَ:
إِنَّهُ ابْتَلَعَ ذَلِكَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ أَكْبَرُ مِنْهُ. قَالُوا:
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي جَوْفِ الْحُوتِ، حَسِبَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَحَرَّكَ
جَوَارِحَهُ فَتَحَرَّكَتْ، فَإِذَا هُوَ حَيٌّ، فَخَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا،
وَقَالَ: يَا رَبِّ، اتَّخَذْتُ لَكَ مَسْجِدًا لَمْ يَعْبُدْكَ أَحَدٌ فِي
مَثَلِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ لُبْثِهِ فِي بَطْنِهِ ; فَقَالَ مَجَالِدٌ عَنِ
الشَّعْبِيِّ: الْتَقَمَهُ ضُحًى، وَلَفَظَهُ عَشِيَّةً. وَقَالَ قَتَادَةُ:
مَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
وَيَشْهَدُ لَهُ شِعْرُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَأَنْتَ بِفَضْلٍ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُوُنُسَا وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ
لَيَالِيَا
وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَأَبُو مَالِكٍ: مَكَثَ فِي جَوْفِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مِقْدَارُ مَا لَبِثَ فِيهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ الْحُوتُ يَطُوفُ بِهِ فِي قَرَارِ
الْبِحَارِ اللُّجِّيَّةِ، وَيَقْتَحِمُ بِهِ لُجَجَ الْمَوْجِ الْأُجَاجِيِّ،
فَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْحِيتَانِ لِلرَّحْمَنِ، وَحَتَّى سَمِعَ تَسْبِيحَ الْحَصَى
لِفَالِقِ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَرَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَالْأَرْضِينَ
السَّبْعِ، وَمَا بَيْنَهَا، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ
قَالَ مَا قَالَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ ذُو
الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى، وَيَكْشِفُ
الضُّرَّ وَالْبَلْوَى، سَامِعُ الْأَصْوَاتِ وَإِنْ ضَعُفَتْ، وَعَالِمُ
الْخِفْيَاتِ وَإِنْ دَقَّتْ، وَمُجِيبُ الدَّعَوَاتِ وَإِنْ عَظُمَتْ، حَيْثُ
قَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، الْمُنَزَّلِ عَلَى رَسُولِهِ الْأَمِينِ، وَهُوَ
أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ، وَرَبُّ الْعَالَمِينَ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ: وَذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى
فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ
نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ.
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَيْ ; نُضَيِّقَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ
نُقَدِّرُ، مِنَ التَّقْدِيرِ. وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ: قَدَرَ، وَقَدَّرَ.
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ
فَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى تَبَارَكْتَ مَا تُقَدِّرْ يَكُنْ
فَلَكَ الْأَمْرُ
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو
بْنُ
مَيْمُونٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ: ظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ، وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ. وَقَالَ سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ: ابْتَلَعَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ، فَصَارَ ظُلْمَةُ الْحُوتَيْنِ مَعَ ظُلْمَةِ الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قِيلَ: مَعْنَاهُ ; لَوْلَا أَنَّهُ سَبَّحَ اللَّهَ هُنَالِكَ، وَقَالَ مَا قَالَ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ، وَالِاعْتِرَافِ لِلَّهِ بِالْخُضُوعِ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، لَلَبِثَ هُنَالِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَبُعِثَ مِنْ جَوْفِ ذَلِكَ الْحُوتِ. هَذَا مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَبْلِ أَخْذِ الْحُوتِ لَهُ مِنَ الْمُسَبِّحِينِ أَيِ ; الْمُطِيعِينَ الْمُصَلِّينَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا. قَالَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِي: يَا غُلَامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ ; احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَفْسِيرِهِ "،
وَالْبَزَّارُ فِي
" مَسْنَدِهِ "، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ
حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أَمِّ سَلَمَةَ، سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ حَبْسَ يُونُسَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، أَوْحَى
اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ، أَنْ خُذْ وَلَا تَخْدِشْ لَحْمًا، وَلَا تَكْسِرْ
عَظْمًا. فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ، سَمِعَ يُونُسَ
حِسًّا، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ
فِي بَطْنِ الْحُوتِ: إِنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ قَالَ فَسَبَّحَ
وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا
يَا رَبَّنَا، إِنَّا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ. قَالَ ذَلِكَ
عَبْدِي يُونُسُ، عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ. قَالُوا:
الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَشَفَعُوا لَهُ عِنْدَ
ذَلِكَ، فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ فِي السَّاحِلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى وَهُوَ سَقِيمٌ هَذَا لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. ثُمَّ
قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، كَذَا قَالَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ ": حَدَّثَنَا أَبُو
عَبِيدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَخِي وَهْبٍ، حَدَّثَنَا
عَمِّي، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ:
سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ أَنَسًا يَرْفَعُ
الْحَدِيثَ
إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ يُونُسَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، حِينَ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَهُوَ فِي
بَطْنِ الْحُوتِ قَالَ: اللَّهُمَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَأَقْبَلَتِ الدَّعْوَةُ تَحِنُّ بِالْعَرْشِ،
فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، صَوْتٌ ضَعِيفٌ مَعْرُوفٌ مِنْ بِلَادٍ
غَرِيبَةٍ. فَقَالَ: أَمَا تَعْرِفُونَ ذَاكَ ؟ قَالُوا: يَا رَبِّ، وَمَنْ هُوَ ؟
قَالَ: عَبْدِي يُونُسُ. قَالُوا: عَبَدُكَ يُونُسُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ يُرْفَعُ
لَهُ عَمَلٌ مُتَقَبَّلٌ وَدَعْوَةٌ مُجَابَةٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالُوا: يَا
رَبِّ، أَوَلَا تَرْحَمُ مَا كَانَ يَصْنَعُهُ فِي الرَّخَاءِ، فَتُنَجِّيَهُ مِنَ
الْبَلَاءِ ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَمَرَ الْحُوتَ فَطَرَحَهُ فِي الْعَرَاءِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بِهِ. زَادَ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ: قَالَ أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ قُسَيْطٍ
وَأَنَا أُحَدِّثُهُ هَذَا الْحَدِيثَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
طُرِحَ بِالْعَرَاءِ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْيَقْطِينَةَ. قُلْنَا: يَا
أَبَا هُرَيْرَةَ، وَمَا الْيَقْطِينَةُ ؟ قَالَ: شَجَرَةُ الدُّبَّاءِ. قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: وَهَيَّأَ اللَّهُ لَهُ أُرْوِيَّةً وَحْشِيَّةً تَأْكُلُ مِنْ
خَشَاشِ الْأَرْضِ - أَوْ قَالَ: هَشَاشِ الْأَرْضِ - قَالَ: فَتَنْفَشِخُ
عَلَيْهِ فَتَرْوِيهِ مِنْ لَبَنِهَا، كُلَّ عَشِيَّةٍ وَبُكْرَةٍ، حَتَّى نَبَتَ.
وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي ذَلِكَ بَيْتًا مِنْ شِعْرِهِ
فَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرِحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ أُلْفِيَ
ضَاحِيَا
وَهَذَا غَرِيبٌ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ ضَعِيفٌ،
وَلَكِنْ يَتَقَوَّى
بِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ الْمُتَقَدِّمِ، كَمَا يَتَقَوَّى ذَاكَ بِهَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنَبَذْنَاهُ أَيْ ; أَلْقَيْنَاهُ بِالْعَرَاءِ
وَهُوَ الْمَكَانُ الْقَفْرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْجَارِ، بَلْ
هُوَ عَارٍ مِنْهَا وَهُوَ سَقِيمٌ أَيْ ; ضَعِيفُ الْبَدَنِ. قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ، لَيْسَ عَلَيْهِ رِيشٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ: كَهَيْئَةِ الصَّبِيِّ حِينَ يُولَدُ، وَهُوَ
الْمَنْفُوسُ، لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ
يَقْطِينٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ،
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَهِلَالُ بْنُ يَسَافٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ،
وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ الْقَرْعُ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي إِنْبَاتِ الْقَرْعِ عَلَيْهِ حِكَمٌ جَمَّةٌ ;
مِنْهَا أَنَّ وَرَقَهُ فِي غَايَةِ النُّعُومَةِ، وَكَثِيرٌ وَظَلِيلٌ، وَلَا
يَقْرَبُهُ ذُبَابٌ، وَيُؤْكَلُ ثَمَرُهُ مِنْ أَوَّلِ طُلُوعِهِ إِلَى آخِرِهِ،
نِيئًا وَمَطْبُوخًا، وَبِقِشْرِهِ وَبِبِزْرِهِ أَيْضًا، وَفِيهِ نَفْعٌ كَثِيرٌ،
وَتَقْوِيَةٌ لِلدِّمَاغِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ كَلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ
فِي تَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ تِلْكَ الْأُرْوِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ
تُرْضِعُهُ لَبَنَهَا، وَتَرْعَى فِي الْبَرِّيَّةِ، وَتَأْتِيهِ بُكْرَةً
وَعَشِيَّةً. وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِ، وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ،
وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ أَيِ ; الْكَرْبِ وَالضِّيقِ الَّذِي كَانَ فِيهِ
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
أَيْ ; وَهَذَا
صَنِيعُنَا بِكُلِّ مُؤْمِنٍ دَعَانَا وَاسْتَجَارَ بِنَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ الْكَلَاعِيُّ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ ابْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: اسْمُ اللَّهِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ
أَعْطَى، دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أَمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ هِيَ لِيُونُسَ
خَاصَّةً، وَلِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً إِذَا دَعَوْا بِهَا، أَلَمْ تَسْمَعْ
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ
وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ شَرْطٌ
مِنَ اللَّهِ لِمَنْ دَعَاهُ بِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو
سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ
زَيْدٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ - قَالَ أَبُو خَالِدٍ: أَحْسَبُهُ عَنْ
مُصْعَبٍ. يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ - عَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ اسْتُجِيبَ
لَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ: يُرِيدُ بِهِ وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَانِ طَرِيقَانِ عَنْ سَعْدٍ.
وَثَالِثٌ أَحْسَنُ مِنْهُمَا ;قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي وَالِدِي مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - قَالَ: مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَمَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنِّي ثُمَّ لَمْ يَرْدُدْ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ شَيْءٌ ؟ مَرَّتَيْنِ. قَالَ: لَا، وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ: لَا، إِلَّا أَنِّي مَرَرْتُ بِعُثْمَانَ آنِفًا فِي الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَمَلَأَ عَيْنَيْهِ مِنِّي، ثُمَّ لَمْ يَرْدُدْ عَلَيَّ السَّلَامَ. قَالَ: فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى عُثْمَانَ فَدَعَاهُ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ لَا تَكُونَ رَدَدْتَ عَلَى أَخِيكَ السَّلَامَ ؟ قَالَ: مَا فَعَلْتُ. قَالَ سَعْدٌ: قُلْتُ: بَلَى. حَتَّى حَلَفَ وَحَلَفْتُ. قَالَ: ثُمَّ إِنْ عُثْمَانَ ذَكَرَ، فَقَالَ: بَلَى، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، إِنَّكَ مَرَرْتَ بِي آنِفًا، وَأَنَا أُحَدِّثُ نَفْسِي بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا وَاللَّهِ، مَا ذَكَرْتُهَا قَطُّ إِلَّا تَغَشَّى بَصَرِي وَقَلْبِي غِشَاوَةٌ. قَالَ سَعْدٌ: فَأَنَا أُنْبِئُكَ بِهَا، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَشَغَلَهُ، حَتَّى قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا أَشْفَقْتُ أَنْ يَسْبِقَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ، ضَرَبْتُ بِقَدَمِي الْأَرْضَ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ أَبُو إِسْحَاقَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَمَهْ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنَّكَ ذَكَرْتَ لَنَا أَوَّلَ دَعْوَةٍ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا الْأَعْرَابِيُّ فَشَغَلَكَ. قَالَ: نَعَمْ، دَعْوَةُ ذِي النُّونِ ; إِذْ
هُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ.
ذِكْرُ فَضْلِ يُونُسَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [ الصَّافَّاتِ:
139 ]. وَذَكَرَهُ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، فِي سُورَتَيِ
" النِّسَاءِ " و " الْأَنْعَامِ "، عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ
أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ:
أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حَفْصُ
بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى
وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ
حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. قَالَ شُعْبَةُ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ: لَمْ
يَسْمَعْ قَتَادَةُ مِنْ أَبِي الْعَالِيَةِ سِوَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، هَذَا
أَحُدُهَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ،
عَنْ يُوسُفَ بْنِ
مِهْرَانَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: وَمَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ،
أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ
بْنِ مَتَّى إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَكَذَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. وَفِي " الْبُخَارِيِّ "
وَ " مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي
قِصَّةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ حِينَ قَالَ: لَا
وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي آخِرِهِ:
وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى أَيْ ; لَيْسَ
لِأَحَدٍ أَنْ يُفَضِّلَ نَفْسَهُ عَلَى يُونُسَ. وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يَنْبَغِي
لِأَحَدٍ أَنْ
يُفَضِّلَنِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى كَمَا قَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَهَذَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ مِنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى سَائِرِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُرْسَلِينَ.
ذِكْرُ قِصَّةِ
مُوسَى الْكَلِيمِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهِثَ بْنِ عَازِرَ بْنِ لَاوِي بْنِ
يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ
رَسُولًا نَبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ
نَبِيًّا [ مَرْيَمَ 51 - 53 ]. ذَكَرَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ
وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّكْلِيمِ وَالتَّقْرِيبِ، وَمَنَّ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ
أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ
كَثِيرَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ قِصَّتَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ
مَبْسُوطَةٍ، وَمُتَوَسِّطَةٍ، وَمُخْتَصَرَةٍ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ
كُلِّهِ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ " التَّفْسِيرِ " وَسَنُورِدُ سِيرَتَهُ
هَاهُنَا، مِنِ ابْتِدَائِهَا إِلَى آخِرِهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَمَا
وَرَدَ فِي الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، الَّتِي
ذَكَرَهَا السَّلَفُ وَغَيْرُهُمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ
وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا
عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [ الْقِصَصِ 1 - 6 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى مُلَخَّصَ الْقِصَّةِ ثُمَّ يَبْسُطُهَا بَعْدَ هَذَا، فَذَكَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتْلُو عَلَى نَبِيِّهِ خَبَرَ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ; أَيْ بِالصِّدْقِ الَّذِي كَأَنَّ سَامِعَهُ مُشَاهِدٌ لِلْأَمْرِ مُعَايِنٌ لَهُ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا أَيْ ; تَجَبَّرَ وَعَتَا، وَطَغَى وَبَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنْ طَاعَةِ الرَّبِّ الْأَعْلَى. وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا أَيْ ; قَسَّمَ رَعِيَّتَهُ إِلَى أَقْسَامٍ وَفِرَقٍ وَأَنْوَاعٍ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَهُمْ شَعْبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ هُمْ مِنْ سُلَالَةِ نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ. وَكَانُوا إِذْ ذَاكَ خِيَارَ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمَلِكَ الظَّالِمَ الْغَاشِمَ الْكَافِرَ الْفَاجِرَ، يَسْتَعْبِدُهُمْ وَيَسْتَخْدِمُهُمْ فِي أَخَسِّ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ، وَأَرْدَئِهَا، وَأَدْنَاهَا، وَمَعَ هَذَا يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَكَانَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الْقَبِيحِ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَا كَانُوا يَأْثُرُونَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ غُلَامٌ يَكُونُ هَلَاكُ مَلِكِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ، وَذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، حِينَ جَرَى عَلَى سَارَّةَ امْرَأَةِ الْخَلِيلِ مِنْ مَلِكِ مِصْرَ، مِنْ إِرَادَتِهِ إِيَّاهَا عَلَى السُّوءِ، وَعِصْمَةِ اللَّهِ لَهَا.
وَكَانَتْ هَذِهِ
الْبِشَارَةُ مَشْهُورَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَحَدَّثَ بِهَا الْقِبْطُ
فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَوَصَلَتْ إِلَى فِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسِ مُسَامَرَتِهِ مَعَ
أُمَرَائِهِ وَأَسَاوِرَتِهِ وَهُمْ يَسْمُرُونَ عِنْدَهُ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ
بِقَتْلِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; حَذَرًا مِنْ وُجُودِ هَذَا الْغُلَامِ،
وَلَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي مَالِكٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ
فِرْعَوْنَ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ نَارًا قَدْ أَقْبَلَتْ مِنْ نَحْوِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَحْرَقَتْ دَوْرَ مِصْرَ وَجَمِيعَ الْقِبْطِ، وَلَمْ
تَضُرَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ هَالَهُ ذَلِكَ فَجَمَعَ
الْكَهَنَةَ وَالْحُزَاةَ وَالسَّحَرَةَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ
الْكَهَنَةُ: هَذَا غُلَامٌ يُولَدُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَكُونُ سَبَبَ
هَلَاكِ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ. فَلِهَذَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ
وَتَرْكِ النِّسْوَانِ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ أَيِ ; الَّذِينَ يَئُولُ
مُلْكُ مِصْرَ وَبِلَادُهَا إِلَيْهِمْ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ أَيْ ;
سَنَجْعَلُ الضَّعِيفَ قَوِيًّا، وَالْمَقْهُورَ قَاهِرًا، وَالذَّلِيلَ عَزِيزًا.
وَقَدْ جَرَى هَذَا كُلُّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ; كَمَا قَالَ
تَعَالَى:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا [ الْأَعْرَافِ: 137 ] وَقَالَ تَعَالَى:
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشُّعَرَاءِ 57 - 59 ]. وَسَيَأْتِي
تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ احْتَرَزَ كُلَّ الِاحْتِرَازِ أَنْ لَا يُوجَدَ
مُوسَى، حَتَّى جَعَلَ رِجَالًا وَقَوَابِلَ يَدُورُونَ عَلَى الْحَبَالَى،
وَيَعْلَمُونَ مِيقَاتَ وَضْعِهِنَّ، فَلَا تَلِدُ امْرَأَةٌ ذَكَرًا إِلَّا
ذَبَحَهُ أُولَئِكَ الذَّبَّاحُونَ مِنْ سَاعَتِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ
أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَأْمُرُ بِذَبْحِ الْغِلْمَانِ لِتَضْعُفَ شَوْكَةُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، فَلَا يُقَاوِمُونَهُمْ إِذَا غَالَبُوهُمْ أَوْ قَاتَلُوهُمْ.
وَفِي هَذَا نَظَرٌ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ هَذَا بَعْدَ بَعْثَةِ
مُوسَى فَجَعَلَ يَقْتُلُ الْوِلْدَانَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ
بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ [ غَافِرٍ: 5 ]. وَلِهَذَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
لِمُوسَى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا [
الْأَعْرَافِ: 129 ]. فَالصَّحِيحُ أَنَّ فِرْعَوْنَ إِنَّمَا أَمَرَ بِقَتْلِ
الْغِلْمَانِ أَوَّلًا حَذَرًا مِنْ وُجُودِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. هَذَا،
وَالْقَدَرُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْجَبَّارُ، الْمَغْرُورُ
بِكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَسُلْطَةِ بَأْسِهِ وَاتِّسَاعِ سُلْطَانِهِ، قَدْ حَكَمَ
الْعَظِيمُ الَّذِي لَا
يُغَالَبُ وَلَا
يُمَانَعُ، وَلَا تُخَالَفُ أَقْدَارُهُ أَنَّ هَذَا الْمَوْلُودَ الَّذِي
تَحْتَرِزُ مِنْهُ، وَقَدْ قَتَلْتَ بِسَبَبِهِ مِنَ النُّفُوسِ مَا لَا يُعَدُّ
وَلَا يُحْصَى، لَا يَكُونُ مُرَبَّاهُ إِلَّا فِي دَارِكَ وَعَلَى فِرَاشِكَ،
وَلَا يُغَذَّى إِلَّا بِطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ فِي مَنْزِلِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي
تَتَبَنَّاهُ وَتُرَبِّيهِ وَتَتَعَدَّاهُ، وَلَا تَطَّلِعُ عَلَى سِرِّ
مَعْنَاهُ، ثُمَّ يَكُونُ هَلَاكُكَ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ عَلَى يَدَيْهِ ;
لِمُخَالَفَتِكَ مَا جَاءَكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الْمُبِينِ، وَتَكْذِيبِكَ مَا
أُوحِيَ إِلَيْهِ، لِتَعْلَمَ أَنْتَ وَسَائِرُ الْخَلْقِ أَنَّ رَبَّ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ هُوَ
الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ، ذُو الْبَأْسِ الْعَظِيمِ، وَالْحَوَلِ وَالْقُوَّةِ
وَالْمَشِيئَةِ، الَّتِي لَا مَرَدَّ لَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، أَنَّ الْقِبْطَ شَكَوْا
إِلَى فِرْعَوْنَ قِلَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِسَبَبِ قَتْلِ وِلْدَانِهِمُ
الذُّكُورِ، وَخَشَوْا أَنْ تَتَفَانَى الْكِبَارُ مَعَ قَتْلِ الصِّغَارِ، فَيَصِيرُونَ
هُمُ الَّذِينَ يَلُونَ مَا كَانَ يَلِيهِبَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَعْمَالِ
الشَّاقَّةِ، فَأَمَرَ فِرْعَوْنُ بِقَتْلِ الْأَبْنَاءِ عَامًا، وَأَنْ
يُتْرَكُوا عَامًا، فَوُلِدَ هَارُونُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي عَامِ
الْمُسَامَحَةِ عَنْ قَتْلِ الْأَبْنَاءِ، وَوُلِدَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فِي عَامِ قَتْلِهِمْ، فَضَاقَتْ أُمُّهُ بِهِ ذَرْعًا، وَاحْتَرَزَتْ مِنْ
أَوَّلِ مَا حَبِلَتْ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَظْهَرُ عَلَيْهَا مَخَايِلُ
الْحَبَلِ، فَلَمَّا وَضَعَتْ أُلْهِمَتْ أَنِ اتَّخَذَتْ لَهُ تَابُوتًا،
فَرَبَطَتْهُ فِي حَبْلٍ، وَكَانَتْ دَارُهَا مُتَاخِمَةً لِلنِّيلِ، فَكَانَتْ
تُرْضِعُهُ، فَإِذَا خَشِيَتْ مِنْ أَحَدٍ وَضَعَتْهُ فِي ذَلِكَ التَّابُوتِ
فَأَرْسَلَتْهُ فِي الْبَحْرِ، وَأَمْسَكَتْ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا،
فَإِذَا ذَهَبُوا
اسْتَرْجَعَتْهُ إِلَيْهَا بِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ
فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي
إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
كَانُوا خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا
تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ [ الْقَصَصِ 7 - 9 ]. هَذَا الْوَحْيُ وَحَيُّ إِلْهَامٍ وَإِرْشَادٍ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِ
الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا [ النَّحْلِ: 68، 69 ]. وَلَيْسَ
هُوَ بِوَحْيِ نُبُوَّةٍ ; كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُتَكَلِّمِينَ، بَلِ الصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، كَمَا حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ
الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ أُمِّ مُوسَى يَاوِخُ وَقِيلَ: أَيَاذَخْتُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا أُرْشِدَتْ إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأُلْقِيَ
فِي خَلَدِهَا وَرُوعِهَا أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي، فَإِنَّهُ إِنْ
ذَهَبَ فَإِنَّ اللَّهَ سَيَرُدُّهُ إِلَيْكِ، وَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُهُ
نَبِيًّا مُرْسَلًا، يُعْلِي كَلِمَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَكَانَتْ
تَصْنَعُ مَا أُمِرَتْ بِهِ، فَأَرْسَلَتْهُ ذَاتَ يَوْمٍ، وَذَهَلَتْ أَنْ
تَرْبُطَ طَرَفَ الْحَبْلِ عِنْدَهَا، فَذَهَبَ مَعَ النِّيلِ فَمَرَّ عَلَى
دَارِ فِرْعَوْنَ
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ. وَهُوَ ظَاهِرٌ إِنْ
كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَالْتَقَطَهُ وَأَمَّا إِنْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا
بِمَضْمُونِ الْكَلَامِ ; وَهُوَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ قُيِّضُوا لِالْتِقَاطِهِ ;
لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا، صَارَتِ اللَّامُ مُعَلِّلَةً لِغَيْرِهَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّفْسِيرَ الثَّانِيَ قَوْلُهُ إِنَّ
فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَهُوَ الْوَزِيرُ السُّوءُ وَجُنُودَهُمَا الْمُتَابِعِينَ
لَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ أَيْ ; كَانُوا عَلَى خِلَافِ الصَّوَابِ،
فَاسْتَحَقُّوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ وَالْحَسْرَةَ.
وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْجَوَارِيَ الْتَقَطْنَهُ مِنَ الْبَحْرِ فِي
تَابُوتٍ مُغْلَقٍ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَتَجَاسَرْنَ عَلَى فَتْحِهِ، حَتَّى
وَضَعْنَهُ بَيْنَ يَدَيِ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ ; آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ، الَّذِي كَانَ فِرْعَوْنَ مِصْرَ فِي
زَمَنِ يُوسُفَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ
مُوسَى. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ عَمَّتَهُ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي مَدْحُهَا وَالثَّنَاءُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ مَرْيَمَ
بِنْتِ عِمْرَانَ، وَأَنَّهُمَا يَكُونَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَزْوَاجِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ. فَلَمَّا
فَتَحَتِ الْبَابَ وَكَشَفَتِ الْحِجَابَ، رَأَتْ وَجْهَهُ يَتَلَأْلَأُ بِتِلْكَ
الْأَنْوَارِ النَّبَوِيَّةِ وَالْجَلَالَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ
وَوَقَعَ نَظَرُهَا عَلَيْهِ أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا جَاءَ
فِرْعَوْنُ قَالَ: مَا هَذَا ؟ وَأَمَرَ بِذَبْحِهِ، فَاسْتَوْهَبَتْهُ مِنْهُ وَدَفَعَتْ عَنْهُ، وَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ فَقَالَ لَهَا فِرْعَوْنُ: أَمَّا لَكِ فَنَعَمْ، وَأَمَّا لِي فَلَا. أَيْ ; لَا حَاجَةَ لِي بِهِ. وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ. وَقَوْلُهَا: عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا وَقَدْ أَنَالَهَا اللَّهُ مَا رَجَتْ مِنَ النَّفْعِ ; أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهَدَاهَا اللَّهُ بِهِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَأَسْكَنَهَا جَنَّتَهُ بِسَبَبِهِ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا تَبَنَّيَاهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُولَدُ لَهُمَا وَلَدٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَيْ ; لَا يَدْرُونَ مَاذَا يُرِيدُ اللَّهُ بِهِمْ، أَنَّ قَيَّضَهُمْ لِالْتِقَاطِهِ، مِنَ النِّقْمَةِ الْعَظِيمَةِ بِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ الَّذِي الْتَقَطَتْ مُوسَى وَرَبَّتْهُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَيْسَ لِامْرَأَتِهِ ذِكْرٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [ الْقَصَصِ: 10 - 13 ]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا أَيْ ; مَنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ
أَمْرِ مُوسَى إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أَيْ ; لَتُظْهِرُ أَمْرَهُ وَتَسْأَلُ عَنْهُ جَهْرَةً. لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا أَيْ ; صَبَّرْنَاهَا وَثَبَّتْنَاهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ وَهِيَ ابْنَتُهَا الْكَبِيرَةُ: قُصِّيهِ أَيِ; اتَّبِعِي أَثَرَهُ وَاطْلُبِي لِي خَبَرَهُ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: عَنْ بُعْدٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا اسْتَقَرَّ بِدَارِ فِرْعَوْنَ أَرَادُوا أَنْ يُغَذُّوهُ بِرَضَاعَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ ثَدْيًا وَلَا أَخَذَ طَعَامًا، فَحَارُوا فِي أَمْرِهِ وَاجْتَهَدُوا فِي ذَلِكَ، أَيْ عَلَى تَغْذِيَتِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ فَلَمْ يَفْعَلْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَأَرْسَلُوهُ مَعَ الْقَوَابِلِ وَالنِّسَاءِ إِلَى السُّوقِ ; لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ مَنْ يُوَافِقُ رَضَاعَتَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ وُقُوفٌ بِهِ وَالنَّاسُ عُكُوفٌ عَلَيْهِ، إِذْ بَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ، فَلَمْ تُظْهِرْ أَنَّهَا تَعْرِفُهُ، بَلْ قَالَتْ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ، قَالُوا لَهَا: مَا يُدْرِيكِ بِنُصْحِهِمْ وَشَفَقَتِهِمْ علَيْهِ ؟ فَقَالَتْ: رَغْبَةً فِي صِهْرِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ. فَأَطْلَقُوهَا وَذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَأَخَذَتْهُ أُمُّهُ، فَلَمَّا أَرْضَعَتْهُ الْتَقَمَ ثَدْيَهَا وَأَخَذَ يَمْتَصُّهُ وَيَرْتَضِعُهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى آسِيَةَ يُعْلِمُهَا بِذَلِكَ، فَاسْتَدْعَتْهَا إِلَى مَنْزِلِهَا، وَعَرَضَتْ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ عِنْدَهَا، وَأَنَّ تُحْسِنَ إِلَيْهَا، فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَسْتُ
أَقْدِرُ عَلَى
هَذَا إِلَّا أَنْ تُرْسِلِيهِ مَعِي. فَأَرْسَلَتْهُ مَعَهَا، وَرَتَّبَتْ لَهَا
رَوَاتِبَ، وَأَجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَاتِ وَالْكُسَاوى وَالْهِبَاتِ،
فَرَجَعَتْ بِهِ تَحُوزُهُ إِلَى رَحْلِهَا، وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ شَمَلَهُ
بِشَمْلِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ
عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أَيْ ; كَمَا
وَعَدْنَاهَا بِرَدِّهِ وَرِسَالَتِهِ، فَهَذَا رَدُّهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ
الْبِشَارَةِ بِرِسَالَتِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ بِهَذَا عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ كَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ
فِيمَا قَالَ لَهُ: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي
الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ
لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [ طه 37 - 39 ]. وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي قَالَ قَتَادَةُ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: أَيْ تُطْعَمَ وَتُرَفَّهَ وَتُغَذَّى
بِأَطْيَبِ الْمَآكِلِ، وَتَلْبَسَ أَحْسَنَ الْمَلَابِسِ ; بِمَرْأًى مِنِّي،
وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحِفْظِي وَكَلَاءَتِي لَكَ فِيمَا صَنَعْتُ بِكَ وَلَكَ،
وَقَدَّرْتُهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرِي إِذْ
تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ
إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا
فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [ طه: 40 ]. وَسَنُورِدُ
حَدِيثَ الْفِتُونِ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدَ هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا
فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ
عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ
فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ
عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي
فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [ الْقَصَصِ: 14 - 17 ]. لَمَّا
ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى أُمِّهِ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا،
وَإِحْسَانِهِ بِذَلِكَ، وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهَا، شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَنَّهُ
لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ; وَهُوَ احْتِكَامُ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ،
وَهُوَ سِنُّ الْأَرْبَعِينَ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، آتَاهُ اللَّهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا ; وَهُوَ النُّبُوَّةُ وَالرِّسَالَةُ الَّتِي كَانَ بَشَّرَ بِهَا
أُمَّهُ، حَيْثُ قَالَ: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ ثُمَّ شَرَعَ فِي ذِكْرِ سَبَبِ خُرُوجِهِ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ،
وَذَهَابِهِ إِلَى أَرْضِ مَدْيَنَ وَإِقَامَتِهِ هُنَالِكَ، حَتَّى كَمَلَ
الْأَجَلُ، وَانْقَضَى الْأَمَدُ، وَكَانَ مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ لَهُ،
وَإِكْرَامِهِ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ تَعَالَى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ،
وَالسُّدِّيُّ: وَذَلِكَ نِصْفَ النَّهَارِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
بَيْنَ الْعِشَائَيْنِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ أَيْ ;
يَتَضَارَبَانِ وَيَتَهَاوَشَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ أَيْ ; إِسْرَائِيلِيٌّ
وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ أَيْ ; قِبْطِيٌّ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ،
وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
فَاسْتَغَاثَهُ
الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَتْ لَهُ بِدِيَارِ مِصْرَ صَوْلَةٌ ; بِسَبَبِ
نِسْبَتِهِ إِلَى تَبَنِّي فِرْعَوْنَ لَهُ وَتَرْبِيَتِهِ فِي بَيْتِهِ،
وَكَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَدْ عَزُّوَا وَصَارَتْ لَهُمْ وَجَاهَةٌ،
وَارْتَفَعَتْ رُءُوسُهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَرْضَعُوهُ، وَهُمْ أَخْوَالُهُ،
أَيْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَلَمَّا اسْتَغَاثَ ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيُّ مُوسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، أَقْبَلَ إِلَيْهِ مُوسَى
فَوَكَزَهُ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ طَعْنَهُ بِجُمْعِ كَفِّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
بِعَصًا كَانَتْ مَعَهُ فَقَضَى عَلَيْهِ أَيْ ; فَمَاتَ مِنْهَا. وَقَدْ كَانَ
ذَلِكَ الْقِبْطِيُّ كَافِرًا مُشْرِكًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَمْ يُرِدْ
مُوسَى قَتْلَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ زَجْرَهُ وَرَدْعَهُ، وَمَعَ
هَذَا قَالَ مُوسَى هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ
مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أَيْ، مِنَ
الْعِزِّ وَالْجَاهِ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ.
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ
بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا
أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى
أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ
إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْمُصْلِحِينَ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ
النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ الْقَصَصِ 18 - 21 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى
أَنَّ مُوسَى
أَصْبَحَ بِمَدِينَةِ مِصْرَ خَائِفًا أَيْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَنْ
يَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقَتِيلَ الَّذِي رُفِعَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ إِنَّمَا
قَتَلَهُ مُوسَى فِي نُصْرَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَقْوَى
ظُنُونُهُمْ أَنَّ مُوسَى مِنْهُمْ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ،
فَصَارَ يَسِيرُ فِي الْمَدِينَةِ فِي صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ أَيْ ; يَتَلَفَّتُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذَا ذَلِكَ
الرَّجُلُ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ
أَيْ ; يَصْرُخُ بِهِ، وَيَسْتَغِيثُهُ عَلَى آخَرَ قَدْ قَاتَلَهُ، فَعَنَّفَهُ
مُوسَى وَلَامَهُ عَلَى كَثْرَةِ شَرِّهِ، وَمُخَاصَمَتِهِ، قَالَ لَهُ إِنَّكَ
لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِذَلِكَ الْقِبْطِيِّ، الَّذِي
هُوَ عَدُوٌّ لِمُوسَى وَلِلْإِسْرَائِيلِيِّ، فَيَرْدَعُهُ عَنْهُ وَيُخَلِّصُهُ
مِنْهُ، فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الْقِبْطِيِّ قَالَ يَا
مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ
تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ
مِنَ الْمُصْلِحِينَ [ الْقَصَصِ: 19 ]. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ هَذَا
الْكَلَامَ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي اطَّلَعَ عَلَى مَا كَانَ صَنَعَ مُوسَى
بِالْأَمْسِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا رَأَى مُوسَى مُقْبِلًا إِلَى الْقِبْطِيِّ،
اعْتَقَدَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ لَمَّا عَنَّفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَقَالَ مَا قَالَ لِمُوسَى، وَأَظْهَرَ الْأَمْرَ
الَّذِي كَانَ وَقَعَ بِالْأَمْسِ، فَذَهَبَ الْقِبْطِيُّ فَاسْتَعْدَى فِرْعَوْنَ
عَلَى مُوسَى. وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ سِوَاهُ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا هُوَ الْقِبْطِيُّ، وَأَنَّهُ لَمَّا رَآهُ
مُقْبِلًا إِلَيْهِ خَافَهُ ; وَرَأَى مِنْ سَجِيَّتِهِ انْتِصَارًا جَيِّدًا
لِلْإِسْرَائِيلِيِّ، فَقَالَ مَا قَالَ مِنْ بَابِ الظَّنِّ وَالْفِرَاسَةِ،
أَنَّ هَذَا لَعَلَّهُ قَاتِلُ ذَاكَ الْقَتِيلِ بِالْأَمْسِ، أَوْ لَعَلَّهُ
فَهِمَ مِنْ كَلَامِ الْإِسْرَائِيلِيِّ، حِينَ اسْتَصْرَخَهُ عَلَيْهِ، مَا
دَلَّهُ عَلَى هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ بَلَغَهُ أَنَّ مُوسَى هُوَ قَاتِلُ ذَلِكَ
الْمَقْتُولِ بِالْأَمْسِ، فَأَرْسَلَ
فِي طَلَبِهِ،
وَسَبَقَهُمْ رَجُلٌ نَاصِحٌ مِنْ طَرِيقٍ أَقْرَبَ إِلَيْهِ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ
أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى سَاعِيًا إِلَيْهِ مُشْفِقًا عَلَيْهِ فَقَالَ:
يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ أَيْ ;
مِنْ هَذِهِ الْبَلْدَةِ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أَيْ ; فِيمَا أَقُولُهُ
لَكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ أَيْ ;
فَخَرَجَ مِنْ مَدِينَةِ مِصْرَ مِنْ فَوْرِهِ، عَلَى وَجْهِهِ، لَا يَهْتَدِي
إِلَى طَرِيقٍ وَلَا يَعْرِفُهُ، قَائِلًا: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي
سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ
النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا
خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي
لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [ الْقَصَصِ: 22 - 24 ]. يُخْبِرُ
تَعَالَى عَنْ خُرُوجِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مِنْ مِصْرَ خَائِفًا
يَتَرَقَّبُ أَيْ ; يَتَلَفَّتُ خَشْيَةَ أَنْ يُدْرِكَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ
فِرْعَوْنَ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَلَا إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِصْرَ قَبْلَهَا وَلَمَّا تَوَجَّهَ
تِلْقَاءَ مَدْيَنَ أَيْ ; اتَّجَهَ لَهُ طَرِيقٌ يَذْهَبُ فِيهِ قَالَ عَسَى
رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ أَيْ ; عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ
الطَّرِيقُ مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَقْصُودِ. وَكَذَا وَقَعَ، أَوْصَلَتْهُ إِلَى
مَقْصُودٍ، وَأَيُّ مَقْصُودٍ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَكَانَتْ بِئْرًا
يَسْتَقُونَ مِنْهَا. وَمَدْيَنُ هِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي أَهْلَكَ اللَّهُ
فِيهَا أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ، وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَقَدْ
كَانَ هَلَاكُهُمْ
قَبْلَ زَمَنِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ.
وَلَمَّا وَرَدَ الْمَاءَ الْمَذْكُورَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ
يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ أَيْ ; تُكَفْكِفَانِ
غَنَمَهُمَا أَنْ تَخْتَلِطَ بِغَنَمِ النَّاسِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ،
أَنَّهُنَّ كُنَّ سَبْعَ بَنَاتٍ. وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْغَلَطِ. وَلَعَلَّهُ
كَانَ لَهُ سَبْعٌ، وَلَكِنْ إِنَّمَا كَانَ تَسْقِي اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ.
وَهَذَا الْجَمْعُ مُمْكِنٌ إِنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى بِنْتَيْنِ.
قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ
وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ أَيْ ; لَا نَقْدِرُ عَلَى وِرْدِ الْمَاءِ إِلَّا
بَعْدَ صُدُورِ الرِّعَاءِ ; لِضَعْفِنَا، وَسَبَبُ مُبَاشَرَتِنَا هَذِهِ
الرَّعِيَّةَ ضَعْفُ أَبِينَا وَكِبَرُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَسَقَى
لَهُمَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَذَلِكَ أَنَّ الرِّعَاءَ كَانُوا إِذَا فَرَغُوا
مِنْ وِرْدِهِمْ، وَضَعُوا عَلَى فَمِ الْبِئْرِ صَخْرَةً عَظِيمَةً، فَتَجِيءُ
هَاتَانِ الْمَرْأَتَانِ فَيَشْرَعَانِ غَنَمَهُمَا فِي فَضْلِ أَغْنَامِ
النَّاسِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ جَاءَ مُوسَى فَرَفْعَ تِلْكَ
الصَّخْرَةِ وَحْدَهُ، ثُمَّ اسْتَقَى لَهُمَا، وَسَقَى غَنَمَهُمَا، ثُمَّ رَدَّ
الصَّخْرَةَ كَمَا كَانَتْ. قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمْرُ: وَكَانَ لَا
يَرْفَعُهُ إِلَّا عَشَرَةٌ. وَإِنَّمَا اسْتَقَى ذَنُوبًا وَاحِدًا فَكَفَاهُمَا،
ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ. قَالُوا: وَكَانَ ظِلَّ شَجَرَةٍ مِنَ السَّمُرِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ،
عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، أَنَّهُ رَآهَا خَضْرَاءَ تَرِفُّ. فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَارَ مِنْ مِصْرَ
إِلَى مَدْيَنَ، لَمْ يَأْكُلْ إِلَّا الْبَقْلَ وَوَرَقَ الشَّجَرِ، وَكَانَ
حَافِيًا فَسَقَطَتْ نَعْلَا قَدَمَيْهِ مِنَ الْحَفَاءِ وَجَلَسَ فِي الظِّلِّ،
وَهُوَ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِنَّ بَطْنَهُ لَاصِقٌ بِظَهْرِهِ مِنَ
الْجُوعِ، وَإِنَّ خُضْرَةَ الْبَقْلِ لَتُرَى مِنْ دَاخِلِ جَوْفِهِ، وَأَنَّهُ
لَمُحْتَاجٌ إِلَى شِقِّ تَمْرَةٍ. قَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: لَمَّا قَالَ:
رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ أَسْمَعَ الْمَرْأَةَ.
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي
يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ
عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتَ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا
فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ
قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [
الْقَصَصِ: 25 - 28 ]. لَمَّا جَلَسَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الظِّلِّ،
وَقَالَ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ سَمِعَتْهُ
الْمَرْأَتَانِ، فِيمَا قِيلَ، فَذَهَبَتَا إِلَى أَبِيهِمَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
اسْتَنْكَرَ سُرْعَةَ رُجُوعِهِمَا، فَأَخْبَرَتَاهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَذْهَبَ إِلَيْهِ فَتَدْعُوهُ
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
أَيْ ; مَشْيَ
الْحَرَائِرِ. قَالَ عُمْرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَسْتُرُ وَجْهَهَا بِكُمِّ
دِرْعِهَا إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا
صَرَّحَتْ لَهُ بِهَذَا ; لِئَلَّا يُوهِمَ كَلَامُهَا رِيبَةً، وَهَذَا مِنْ
تَمَامِ حَيَائِهَا وَصِيَانَتِهَا. فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ
أَيْ ; وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، وَمَا كَانَ مَنْ أَمْرِهِ ; فِي خُرُوجِهِ مِنْ
بِلَادِ مِصْرَ فِرَارًا مَنْ فِرَعَوْنِهَا، قَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْخُ: لَا
تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أَيْ ; خَرَجْتَ مِنْ
سُلْطَانِهِمْ، فَلَسْتَ فِي دَوْلَتِهِمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّيْخِ ; مَنْ هُوَ ؟ فَقِيلَ: هُوَ شُعَيْبٌ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرِينَ. وَمِمَّنْ
نَصَّ عَلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَجَاءَ
مُصَرَّحًا بِهِ فِي حَدِيثٍ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ. وَصَرَّحَ
طَائِفَةٌ بِأَنَّ شُعَيْبًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاشَ عُمْرًا طَوِيلًا بَعْدَ
هَلَاكِ قَوْمِهِ، حَتَّى أَدْرَكَهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَزَوَّجَ
بِابْنَتِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، أَنَّ صَاحِبَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَذَا اسْمُهُ
شُعَيْبٌ، وَكَانَ سَيِّدَ الْمَاءِ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِالنَّبِيِّ صَاحِبِ
مَدْيَنَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: ابْنُ عَمِّهِ.
وَقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ. وَقِيلَ: رَجُلٌ
اسْمُهُ يَثْرُونُ.
هَكَذَا هُوَ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ: يَثْرُونُ كَاهِنُ مَدْيَنَ. أَيْ ;
كَبِيرُهَا وَعَالِمُهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: اسْمُهُ يَثْرُونُ. زَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهُوَ ابْنُ أَخِي
شُعَيْبٍ. زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَاحِبُ مَدْيَنَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَقَصَّ عَلَيْهِ
مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، بَشَّرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ نَجَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ
قَالَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ لِأَبِيهَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أَيْ;
لِرَعْيِ غَنَمِكَ. ثُمَّ مَدَحَتْهُ بِأَنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ. قَالَ عُمْرُ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَأَبُو مَالِكٍ، وَقَتَادَةُ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ قَالَ لَهَا
أَبُوهَا: وَمَا عِلْمُكِ بِهَذَا؟ فَقَالَتْ: إِنَّهُ رَفَعَ صَخْرَةً لَا
يُطِيقُ رَفْعَهَا إِلَّا عَشَرَةٌ، وَإِنَّهُ لَمَّا جِئْتُ مَعَهُ تَقَدَّمْتُ
أَمَامَهُ، فَقَالَ: كُونِي مِنْ وَرَائِي، فَإِذَا اخْتَلَفَ الطَّرِيقُ
فَاحْذِفِي لِي بِحَصَاةٍ أَعْلَمْ بِهَا كَيْفَ الطَّرِيقُ. قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ; صَاحِبُ يُوسُفَ حِينَ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ وَصَاحِبَةُ مُوسَى حِينَ قَالَتْ: يَاأَبَتِ
اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وَأَبُو
بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
اسْتَدَلَّ بِهَذَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
عَلَى صِحَّةِ مَا إِذَا بَاعَهُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أَوِ
الثَّوْبَيْنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَنَّهُ يَصِحُّ; لِقَوْلِهِ: إِحْدَى ابْنَتَيَّ
هَاتَيْنِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ; لِأَنَّ هَذِهِ مُرَاوَضَةٌ لَا مُعَاقَدَةٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُ أَحْمَدَ عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَارِ بِالطُّعْمَةِ وَالْكُسْوَةِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَاسْتَأْنَسُوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مُتَرْجَمًا فِي كِتَابِهِ " بَابُ اسْتِئْجَارِ الْأَجِيرِ عَلَى طَعَامِ بَطْنِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّىالْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدَّرِ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ " طسم " حَتَّى إِذَا بَلَغَ قِصَّةَ مُوسَى قَالَ: إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، آجَرَ نَفْسَهُ ثَمَانِيَ سِنِينَ، أَوْ عَشْرًا، عَلَى عِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ بَطْنِهِ. وَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ; لِأَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ عَلِيٍّ الْخُشَنِيَّ الدِّمَشْقِيَّ الْبَلَاطِيَّ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ، لَا يُحْتَجُّ بِتَفَرُّدِهِ، وَلَكِنْ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ; فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، ( ح ). وَحَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ اللَّخْمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عُتْبَةَ بْنَ النُّدَّرِ السُّلَمِيَّ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، آجَرَ نَفْسَهُ لِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطُعْمَةِ بَطْنِهِ.
ثُمَّ قَالَ
تَعَالَى: ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا
عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [ الْقَصَصِ: 28 ].
يَقُولُ: إِنَّ مُوسَى قَالَ لِصِهْرِهِ: الْأَمْرُ عَلَى مَا قُلْتَ،
فَأَيُّهُمَا قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ، وَاللَّهُ عَلَى مَقَالَتِنَا
سَامِعٌ وَشَاهِدٌ، وَوَكِيلٌ عَلِيَّ وَعَلَيْكَ. وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَقْضِ
مُوسَى إِلَّا أَكْمَلَ الْأَجَلَيْنِ وَأَتَمَّهُمَا، وَهُوَ الْعَشْرُ سِنِينَ
كَوَامِلَ تَامَّةً.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، عَنْ سَالِمٍ
الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلَنِي يَهُودِيٌّ مَنْ
أَهْلِ الْحِيرَةِ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي،
حَتَّى أَقْدِمَ عَلَى حَبْرِ الْعَرَبِ فَأَسْأَلَهُ. فَقَدِمْتُ، فَسَأَلْتُ
ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: قَضَى أَكْثَرَهُمَا وَأَطْيَبَهُمَا، إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ إِذَا قَالَ فَعَلَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ، كَمَا سَيَأْتِي مِنْ
طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ بِهِ. وَقَدْ
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، وَابْنِ أَبِي
حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: أَيَّ
الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَتَمَّهُمَا وَأَكْمَلَهُمَا وَإِبْرَاهِيمُ
هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ إِلَّا
بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ الْقُرَشِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ سُنَيْدٌ عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ جِبْرِيلَ، فَسَأَلَ جِبْرِيلُ إِسْرَافِيلَ، فَسَأَلَ إِسْرَافِيلُ الرَّبَّ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا وَبِنَحْوِهِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ سَرْجٍ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَوْفَاهُمَا وَأَتَمَّهُمَا. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ عُوَيْدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنَيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُئِلَ: أَيَّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قَالَ: أَوْفَاهُمَا وَأَبَرَّهُمَا. قَالَ: وَإِنْ سُئِلَ: أَيَّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ؟ فَقُلِ: الصُّغْرَى مِنْهُمَا وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ النُّدَّرِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ مُوسَى آجَرَ نَفْسَهُ بِعِفَّةِ فَرْجِهِ وَطَعَامِ
بَطْنِهِ. فَلَمَّا وَفَّى الْأَجَلَ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَّ الْأَجَلَيْنِ؟ قَالَ: أَبَرَّهُمَا وَأَوْفَاهُمَا، فَلَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ، أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ، فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ مِنْ قَالِبِ لَوْنٍ مِنْ وَلَدِ ذَلِكَ الْعَامِ، وَكَانَتْ غَنَمُهُ سُودًا حِسَانًا، فَانْطَلَقَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى عَصًا قَسَمَهَا مِنْ طَرَفِهَا، ثُمَّ وَضَعَهَا فِي أَدْنَى الْحَوْضِ، ثُمَّ أَوْرَدَهَا فَسَقَاهَا، وَوَقَفَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِإِزَاءِ الْحَوْضِ، فَلَمْ تَصْدُرْ مِنْهَا شَاةٌ إِلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا شَاةً شَاةً قَالَ: فَأَتْأَمَتْ وَأَثْلَثَتْ وَوَضَعَتْ كُلُّهَا قَوَالِبَ أَلْوَانٍ، إِلَّا شَاةً أَوْ شَاتَيْنِ; لَيْسَ فِيهَا فَشُوشٌ، وَلَا ضَبُوبٌ، وَلَا عَزُوزٌ، وَلَا ثَعُولٌ، وَلَا كَمْشَةٌ تَفُوتُ الْكَفَّ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوِ افْتَتَحْتُمُ الشَّامَ وَجَدْتُمْ بَقَايَا تِلْكَ الْغَنَمِ، وَهِيَ السَّامِرِيَّةُ قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: الْفَشُوشُ: وَاسِعَةُ الشَّخْبِ. وَالضَّبُوبُ: طَوِيلَةُ الضَّرْعِ تَجُرُّهُ. وَالْعَزُوزُ: ضَيِّقَةُ الشَّخْبِ. وَالثَّعُولُ: الصَّغِيرَةُ الضَّرْعِ كَالْحَلَمَتَيْنِ. وَالْكَمْشَةُ الَّتِي لَا يُحْكَمُ الْكَفُّ عَلَى ضَرْعِهَا لِصِغَرِهِ. وَفِي صِحَّةِ رَفْعِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا دَعَا نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى صَاحِبَهُ إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: كُلُّ شَاةٍ وَلَدَتْ عَلَى لَوْنِهَا فَلَكَ وَلَدُهَا. فَعَمَدَ فَوَضَعَ خَيَالًا عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَيَالَ فَزِعَتْ، فَجَالَتْ جَوْلَةً، فَوَلَدْنَ كُلُّهُنَّ بُلْقًا إِلَّا شَاةً وَاحِدَةً،
فَذَهَبَ
بِأَوْلَادِهِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ، عَنْ نَقْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، عَنْ
يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ فَارَقَ خَالَهُ لَابَانَ، أَنَّهُ أَطْلَقَ
لَهُ مَا يُوَلَدُ مِنْ غَنَمِهِ بُلْقًا، فَفَعَلَ نَحْوَ مَا ذُكِرَ عَنْ
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبٍ الطُّورِ
نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ
مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا
أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ
الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُ
الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ
وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ
الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ
وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [ الْقَصَصِ:
29 - 32 ]. تَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى قَضَى أَتَمَّ الْأَجَلَيْنِ وَأَكْمَلَهُمَا،
وَقَدْ يُؤْخَذُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَعَنْ
مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ أَكْمَلَ عَشْرًا، وَعَشْرًا بَعْدَهَا. وَقَوْلُهُ: وَسَارَ
بِأَهْلِهِ أَيْ; مِنْ عِنْدِ صِهْرِهِ ذَاهِبًا، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ اشْتَاقَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَصَدَ
زِيَارَتَهُمْ بِبِلَادِ مِصْرَ، فِي صُورَةِ مُخْتَفٍ، فَلَمَّا سَارَ
بِأَهْلِهِ، وَمَعَهُ وِلْدَانٌ مِنْهُمْ، وَغَنَمٌ قَدِ اسْتَفَادَهَا مُدَّةَ
مُقَامِهِ. قَالُوا: وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ بَارِدَةٍ،
وَتَاهُوا فِي طَرِيقِهِمْ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى
السُّلُوكِ فِي
الدَّرْبِ الْمَأْلُوفِ، وَجَعَلَ يُورِي زِنَادَهُ فَلَا يُوْرِي شَيْئًا،
وَاشْتَدَّ الظَّلَامُ وَالْبَرَدُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَبْصَرَ عَنْ
بُعْدٍ نَارًا تَأَجَّجُ فِي جَانِبِ الطُّورِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الْغَرْبِيُّ
مِنْهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا
وَكَأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - رَآهَا دُونَهُمْ; لِأَنَّ هَذِهِ النَّارَ
هِيَ نُورٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا تَصْلُحُ رُؤْيَتُهَا لِكُلِّ أَحَدٍ لَعَلِّي
آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَيْ; لَعَلِّي أَسْتَعْلِمُ مِنْ عِنْدِهَا عَنِ
الطَّرِيقِ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ تَاهُوا عَنِ الطَّرِيقِ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ
وَمُظْلِمَةٍ; لِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي
آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [ طه: 9، 10 ].
فَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الظَّلَامِ، وَكَوْنِهِمْ تَاهُوا عَنِ الطَّرِيقِ.
وَجَمَعَ الْكُلَّ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ
أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [ النَّمْلِ: 7 ]. وَقَدْ
أَتَاهُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ، وَأَيُّ خَبَرٍ؟ وَوَجَدَ عِنْدَهَا هُدًى، وَأَيُّ
هُدًى؟ وَاقْتَبَسَ مِنْهَا نُورًا، وَأَيُّ نُورٍ؟. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا
أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ
الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ وَقَالَ تَعَالَى فِي " النَّمْلِ ": فَلَمَّا جَاءَهَا
نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ [ النَّمْلِ: 8 ].
أَيْ; سُبْحَانَ اللَّهِ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ. يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ النَّمْلِ: 9 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ " طه ": فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [ طه: 11 - 16 ]. قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: لَمَّا قَصَدَ مُوسَى إِلَى تِلْكَ النَّارِ الَّتِي رَآهَا، فَانْتَهَى إِلَيْهَا، وَجَدَهَا تَأَجَّجُ فِي شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ مِنَ الْعَوْسَجِ، وَكُلُّ مَا لِتِلْكَ النَّارِ فِي اضْطِرَامٍ، وَكُلُّ مَا لِخُضْرَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فِي ازْدِيَادٍ، فَوَقَفَ مُتَعَجِّبًا، وَكَانَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ فِي لِحْفِ جَبَلٍ غَرْبِيٍّ مِنْهُ عَنْ يَمِينِهِ; كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [ الْقَصَصِ: 44 ]. وَكَانَ مُوسَى فِي وَادٍ اسْمُهُ طُوًى، فَكَانَ مُوسَى مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ، وَتِلْكَ الشَّجَرَةُ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْغَرْبِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، فَأُمِرَ أَوَّلًا بِخَلْعِ نَعْلَيْهِ; تَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَتَوْقِيرًا لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَلَا سِيَّمَا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ النُّورِ; مَهَابَةً لَهُ وَخَوْفًا عَلَى بَصَرِهِ.
ثُمَّ خَاطَبَهُ
تَعَالَى كَمَا يَشَاءُ قَائِلًا لَهُ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُ الْعَالَمِينَ
إِنِّي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
لِذِكْرِي أَيْ; أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ إِلَّا لَهُ.
ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ، إِنَّمَا
الدَّارُ الْبَاقِيَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا
وَوُجُودِهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى أَيْ; مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. وَحَضَّهُ
وَحَثَّهُ عَلَى الْعَمَلِ لَهَا وَمُجَانَبَةِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا مِمَّنْ
عَصَى مَوْلَاهُ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مُخَاطِبًا وَمُؤَانِسًا،
وَمُبَيِّنًا لَهُ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءِ الَّذِي يَقُولُ
لِلشَّيْءِ: كُنْ. فَيَكُونُ: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى [ طه: 17 ].
أَيْ; أَمَّا هَذِهِ عَصَاكَ الَّتِي تَعْرِفُهَا مُنْذُ صَحِبْتَهَا؟ قَالَ هِيَ
عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا
مَئارِبُ أُخْرَى [ طه: 18 ]. أَيْ; بَلْ هَذِهِ عَصَايَ الَّتِي أَعْرِفُهَا
وَأَتَحَقَّقُهَا قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ
تَسْعَى [ طه: 19، 20 ]. وَهَذَا خَارِقٌ عَظِيمٌ، وَبُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى
أَنَّ الَّذِي يُكَلِّمُهُ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ. وَأَنَّهُ
الْفَعَّالُ بِالِاخْتِيَارِ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ سَأَلَ بُرْهَانًا عَلَى صِدْقِهِ عِنْدَ مَنْ
يُكَذِّبُهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: مَا هَذِهِ
الَّتِي فِي يَدِكَ؟ قَالَ: عَصَايَ. قَالَ: أَلْقِهَا إِلَى الْأَرْضِ
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى فَهَرَبَ مُوسَى مِنْ قُدَّامِهَا،
فَأَمَرَهُ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَبْسُطَ يَدَهُ وَيَأْخُذَهَا
بِذَنَبِهَا، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهَا ارْتَدَّتْ عَصًا فِي يَدِهِ. وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا
رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ
أَيْ; صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً لَهَا ضَخَامَةٌ هَائِلَةٌ، وَأَنْيَابٌ تَصْطَكُّ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي سُرْعَةِ حَرَكَةِ الْجَانِّ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْحَيَّاتِ يُقَالُ لَهُ: الْجَانُّ وَالْجَنَانُ. وَهُوَ لَطِيفٌ، وَلَكِنَّهُ سَرِيعُ الِاضْطِرَابِ وَالْحَرَكَةِ جِدًّا، فَهَذِهِ جَمَعَتِ الضَّخَامَةَ وَالسُّرْعَةَ الشَّدِيدَةَ فَلَمَّا عَايَنَهَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَّى مُدَبِّرًا أَيْ; هَارِبًا مِنْهَا; لِأَنَّ طَبِيعَتَهُ الْبَشَرِيَّةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ وَلَمْ يُعَقِّبْ أَيْ; وَلَمْ يَلْتَفِتْ فَنَادَاهُ رَبُّهُ قَائِلًا لَهُ: يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ فَلَمَّا رَجَعَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُمْسِكَهَا قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى فَيُقَالُ: إِنَّهُ هَابَهَا شَدِيدًا، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي كُمِّ مِدْرَعَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي وَسَطِ فَمِهَا - وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ: بِذَنَبِهَا - فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهَا، إِذَا هِيَ قَدْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ عَصًا ذَاتَ شُعْبَتَيْنِ. فَسُبْحَانُ الْقَدِيرِ الْعَظِيمِ رَبِّ الْمَشْرِقَيْنِ وَالْمَغْرِبَيْنِ. ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِدْخَالِ يَدِهِ فِي جَيْبِهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بِنَزْعِهَا فَإِذَا هِيَ تَتَلَأْلَأُ كَالْقَمَرِ بَيَاضًا مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أَيْ; مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ وَلَا بَهَقٍ. وَلِهَذَا قَالَ: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قِيلَ: مَعْنَاهُ إِذَا خِفْتَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى فُؤَادِكَ يَسْكُنْ جَأْشُكَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ، إِلَّا أَنَّ بِبَرَكَةِ الْإِيمَانِ بِهِ حَقَّ الْإِيمَانِ يَنْتَفِعُ مَنِ اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ ": وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [ النَّمْلِ: 12 ].
أَيْ; هَاتَانِ الْآيَتَانِ وَهُمَا الْعَصَا وَالْيَدُ، وَهُمَا الْبُرْهَانَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَعَ ذَلِكَ سَبْعُ آيَاتٍ أُخَرُ فَذَلِكَ تِسْعُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ " سُبْحَانَ " حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 101، 102 ]. وَهِيَ الْمَبْسُوطَةُ فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 130 - 133 ]. كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ. وَهَذِهِ التِّسْعُ الْآيَاتِ غَيْرُ الْعَشْرِ كَلِمَاتٍ; فَإِنَّ التِّسْعَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْعَشْرَ مِنْ كَلِمَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى هَذَا; لِأَنَّهُ قَدِ اشْتَبَهَ أَمْرُهَا عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ فَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آخِرِ سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَمَرَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِالذَّهَابِ إِلَى فِرْعَوْنَ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [ الْقَصَصِ: 33 - 35 ]. يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي جَوَابِهِ لِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، حِينَ أَمَرَهُ بِالذَّهَابِ إِلَى عَدُوِّهِ، الَّذِي خَرَجَ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ فِرَارًا مِنْ سَطْوَتِهِ وَظُلْمِهِ، حِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ فِي قَتْلِ ذَلِكَ الْقِبْطِيِّ وَلِهَذَا قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ أَيْ; اجْعَلْهُ مَعِي مُعِينًا وَرِدْءًا وَوَزِيرًا يُسَاعِدُنِي وَيُعِينُنِي عَلَى أَدَاءِ رِسَالَتِكَ إِلَيْهِمْ ; فَإِنَّهُ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا وَأَبْلَغُ بَيَانًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، مُجِيبًا لَهُ إِلَى سُؤَالِهِ: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا أَيْ; بُرْهَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَيْ; فَلَا يَنَالُونَ مِنْكُمَا مَكْرُوهًا بِسَبَبِ قِيَامِكُمَا بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ بِبَرَكَةِ آيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ وَقَالَ فِي سُورَةِ " طه ": اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي [ طه: 24 - 28 ]. قِيلَ: إِنَّهُ أَصَابَهُ فِي لِسَانِهِ لُثْغَةٌ; بِسَبَبِ تِلْكَ الْجَمْرَةِ الَّتِي وَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، الَّتِي كَانَ فِرْعَوْنُ أَرَادَ اخْتِبَارَ عَقْلِهِ، حِينَ
أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَخَافَتْ عَلَيْهِ آسِيَةُ، وَقَالَتْ: إِنَّهُ طِفْلٌ. فَاخْتَبَرَهُ بِوَضْعِ تَمْرَةٍ وَجَمْرَةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَمَّ بِأَخْذِ التَّمْرَةِ، فَصَرَفَ الْمَلَكُ يَدَهُ إِلَى الْجَمْرَةِ، فَأَخَذَهَا، فَوَضَعَهَا عَلَى لِسَانِهِ، فَأَصَابَهُ لُثْغَةٌ بِسَبَبِهَا، فَسَأَلَ زَوَالَ بَعْضِهَا بِمِقْدَارِ مَا يَفْهَمُونَ قَوْلَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْ زَوَالَهَا بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَالرُّسُلُ إِنَّمَا يَسْأَلُونَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ. وَلِهَذَا بَقِيَتْ فِي لِسَانِهِ بَقِيَّةٌ، وَلِهَذَا قَالَ فِرْعَوْنُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فِيمَا زَعَمَ إِنَّهُ يَعِيبُ بِهِ الْكِلِيمَ: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [ الزُّخْرُفِ: 52 ]. أَيْ; يُفْصِحُ عَنْ مُرَادِهِ، وَيُعَبِّرُ عَمَّا فِي ضَمِيرِهِ وَفُؤَادِهِ. ثُمَّ قَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [ طه: 29 - 36 ]. أَيْ; قَدْ أَجَبْنَاكَ إِلَى جَمِيعِ مَا سَأَلْتَ، وَأَعْطَيْنَاكَ الَّذِي طَلَبْتَ. وَهَذَا مِنْ وَجَاهَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حِينَ شَفَعَ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى أَخِيهِ فَأَوْحَى إِلَيْهِ، وَهَذَا جَاهٌ عَظِيمٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [ الْأَحْزَابِ: 69 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [ مَرْيَمَ: 53 ]. وَقَدْ سَمِعَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَجُلًا يَقُولُ لِأُنَاسٍ، وَهُمْ سَائِرُونَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ: أَيُّ أَخٍ أَمَنُّ عَلَى أَخِيهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَنْ حَوْلَ هَوْدَجِهَا: هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ حِينَ شَفَعَ فِي أَخِيهِ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا يُوحَى إِلَيْهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ ": وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 10 - 19 ]. تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأْتَيَاهُ فَقُولَا لَهُ ذَلِكَ وَبَلِّغَاهُ مَا أُرْسِلْتُمَا بِهِ مِنْ دَعْوَتِهِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنْ يَفُكَّ أُسَارَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْضَتِهِ وَقَهْرِهِ وَسَطْوَتِهِ، وَيَتْرُكُهُمْ يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ حَيْثُ شَاءُوا، وَيَتَفَرَّغُونَ لِتَوْحِيدِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالتَّضَرُّعِ لَدَيْهِ. فَتَكَبَّرَ فِرْعَوْنُ فِي نَفْسِهِ، وَعَتَا وَطَغَى، وَنَظَرَ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالتَّنَقُّصِ، قَائِلًا لَهُ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ أَيْ; أَمَا أَنْتَ الَّذِي رَبَّيْنَاهُ فِي مَنْزِلِنَا وَأَحْسَنَّا إِلَيْهِ، وَأَنْعَمْنَا عَلَيْهِ مُدَّةً مِنَ الدَّهْرِ؟ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ، خِلَافًا لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي فَرَّ مِنْهُ مَاتَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِمَدْيَنَ، وَأَنَّ الَّذِي بُعِثَ إِلَيْهِ فِرْعَوْنُ آخَرُ. وَقَوْلُهُ: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ; وَقَتَلْتَ الرَّجُلَ الْقِبْطِيَّ، وَفَرَرْتَ مِنَّا، وَجَحَدْتَ نِعْمَتَنَا
قَالَ فَعَلْتُهَا
إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أَيْ; قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَى، وَيَنْزِلَ
عَلَى فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا
وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 21 ]. ثُمَّ قَالَ مُجِيبًا
لِفِرْعَوْنَ عَمَّا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالْإِحْسَانِ
إِلَيْهِ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
[ الشُّعَرَاءِ: 22 ]. أَيْ; وَهَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي ذَكَرْتَ، مِنْ أَنَّكَ
أَحْسَنْتَ إِلَيَّ، وَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تُقَابِلُ
مَا اسْتَخْدَمْتَ هَذَا الشَّعْبَ الْعَظِيمَ بِكَمَالِهِ، وَاسْتَعْبَدْتَهُمْ
فِي أَعْمَالِكَ وَخِدْمَتِكَ وَأَشْغَالِكَ.
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ
أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [
الشُّعَرَاءِ: 23 - 28 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ بَيْنَ فِرْعَوْنَ
وَمُوسَى، مِنَ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، وَمَا أَقَامَهُ
الْكَلِيمُ عَلَى فِرْعَوْنَ اللَّئِيمِ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ
الْمَعْنَوِيَّةِ ثُمَّ الْحِسِّيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ، أَظْهَرَ جَحْدَ الصَّانِعِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَزَعَمَ أَنَّهُ
الْإِلَهُ فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [ النَّازِعَاتِ:
23، 24 ]. وَقَالَ: يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرِي [ الْقَصَصِ: 38 ]. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ مُعَانِدٌ،
يَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ، الْإِلَهُ الْحَقُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [ النَّمْلِ: 14 ]. وَلِهَذَا قَالَ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ لِرِسَالَتِهِ، وَالْإِظْهَارِ أَنَّهُ مَا ثَمَّ رَبٌّ أَرْسَلَهُ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 23 ]. لِأَنَّهُمَا قَالَا لَهُ: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمَا: وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي تَزْعُمَانِ أَنَّهُ أَرْسَلَكُمَا وَابْتَعَثَكُمَا؟ فَأَجَابَهُ مُوسَى قَائِلًا: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 24 ]. يَعْنِي رَبَّ الْعَالَمِينَ، خَالِقَ هَذِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُشَاهَدَةِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَجَدِّدَةِ; مِنَ السَّحَابِ وَالرِّيَاحِ وَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، الَّتِي يَعْلَمُ كُلُّ مُوقِنٍ أَنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِأَنْفُسِهَا، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُوجِدٍ وَمُحْدِثٍ وَخَالِقٍ، وَهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَ أَيْ; فِرْعَوْنُ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أُمَرَائِهِ، وَمَرَازِبَتِهِ وَوُزَرَائِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ وَالتَّنَقُّصِ لِمَا قَرَّرَهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلَّا تَسْتَمِعُونَ يَعْنِي كَلَامَهُ هَذَا. قَالَ مُوسَى مُخَاطِبًا لَهُ وَلَهُمْ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 26 ]. أَيْ; هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ; مِنَ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ فِي الْآبَادِ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ نَفْسَهُ وَلَا أَبُوهُ وَلَا أُمُّهُ، وَلَمْ يَحْدُثْ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ، وَإِنَّمَا أَوْجَدَهُ وَخَلَقَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَهَذَانِ الْمَقَامَانِ هُمَا
الْمَذْكُورَانِ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [ فُصِّلَتْ: 53 ]. وَمَعَ هَذَا
كُلِّهِ لَمْ يَسْتَفِقْ فِرْعَوْنُ مِنْ رَقْدَتِهِ، وَلَا نَزَعَ عَنْ
ضَلَالَتِهِ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى طُغْيَانِهِ وَعِنَادِهِ، وَكُفْرَانِهِ قَالَ
إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [
الشُّعَرَاءِ: 27، 28 ]. أَيْ; هُوَ الْمُسَخِّرُ لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ
الزَّاهِرَةِ، الْمُسَيَّرُ لِلْأَفْلَاكِ الدَّائِرَةِ، خَالِقُ الظَّلَّامِ
وَالضِّيَاءِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، رَبُّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ،
خَالِقُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالْكَوَاكِبِ السَّائِرَةِ وَالثَّوَابِتِ
الْحَائِرَةِ، خَالِقُ اللَّيْلِ بِظَلَامِهِ وَالنَّهَارِ بِضِيَائِهِ،
وَالْكُلُّ تَحْتَ قَهْرِهِ وَتَسْخِيرِهِ وَتَسْيِيرِهِ سَائِرُونَ، وَفِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ، يَتَعَاقَبُونَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ وَيَدُورُونَ، فَهُوَ
تَعَالَى الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ.
فَلَمَّا قَامَتِ الْحُجَجُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَانْقَطَعَتْ شُبَهُهُ وَلَمْ
يَبْقَ لَهُ قَوْلٌ سِوَى الْعِنَادِ، عَدَلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ سُلْطَانِهِ
وَجَاهِهِ وَسَطْوَتِهِ، قَالَ: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ
ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [
الشُّعَرَاءِ: 29 - 33 ]. وَهَذَانِ هُمَا الْبُرْهَانَانِ اللَّذَانِ أَيَّدَهُ
اللَّهُ بِهِمَا، وَهَمَا الْعَصَا وَالْيَدُ. وَذَلِكَ مَقَامٌ أَظْهَرَ فِيهِ
الْخَارِقَ الْعَظِيمَ، الَّذِي بَهَرَ بِهِ الْعُقُولَ وَالْأَبْصَارَ، حِينَ
أَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، أَيْ عَظِيمُ الشَّكْلِ، بَدِيعٌ
فِي الضَّخَامَةِ وَالْهَوْلِ، وَالْمَنْظَرِ الْعَظِيمِ الْفَظِيعِ الْبَاهِرِ،
حَتَّى قِيلَ: إِنَّ فِرْعَوْنَ
لَمَّا شَاهَدَ
ذَلِكَ وَعَايَنَهُ، أَخَذَهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ، وَخَوْفٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ إِنَّهُ
حَصَلَ لَهُ إِسْهَالٌ عَظِيمٌ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَبَرَّزُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا
إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَانْعَكَسَ عَلَيْهِ الْحَالُ. وَهَكَذَا لَمَّا
أَدْخَلَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَدَهُ فِي جَيْبِهِ وَاسْتَخْرَجَهَا،
أَخْرَجَهَا وَهِيَ كَفِلْقَةِ الْقَمَرِ، تَتَلَأْلَأُ نُورًا يَبْهَرُ
الْأَبْصَارَ، فَإِذَا أَعَادَهَا إِلَى جَيْبِهِ رَجَعَتْ إِلَى صِفَتِهَا
الْأُولَى، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْتَفِعْ فِرْعَوْنُ، لَعَنَهُ اللَّهُ،
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ أَنَّ
هَذَا كُلَّهُ سِحْرٌ، وَأَرَادَ مُعَارَضَتَهُ بِالسَّحَرَةِ، فَأَرْسَلَ
يَجْمَعُهُمْ مِنْ سَائِرِ مَمْلَكَتِهِ، وَمَنْ فِي رَعِيَّتِهِ وَتَحْتَ
قَهْرِهِ وَدَوْلَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُهُ وَبَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ;
مِنْ إِظْهَارِ اللَّهِ الْحَقَّ الْمُبِينَ، وَالْحُجَّةَ الْبَاهِرَةَ
الْقَاطِعَةَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَأَهْلِ دَوْلَتِهِ وَمِلَّتِهِ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه ": فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ
مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ
أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [ طه: 40 - 46 ]. يَقُولُ
تَعَالَى مُخَاطِبًا لِمُوسَى، فِيمَا كَلَّمَهُ بِهِ لَيْلَةَ أَوْحَى إِلَيْهِ،
وَأَنْعَمَ بِالنُّبُوَّةِ عَلَيْهِ، وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ: قَدْ كُنْتُ
مُشَاهِدًا لَكَ وَأَنْتَ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَنْتَ تَحْتَ كَنَفِي
وَحِفْظِي وَلُطْفِي، ثُمَّ أَخْرَجْتُكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ إِلَى أَرْضِ
مَدْيَنَ بِمَشِيئَتِي وَقُدْرَتِي وَتَدْبِيرِي، فَلَبِثْتَ
فِيهَا سِنِينَ
ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ أَيْ; مِنِّي لِذَلِكَ، فَوَافَقَ ذَلِكَ تَقْدِيرِي
وَتَسْيِيرِي وَاصْطَنَعَتْكَ لِنَفْسِي أَيْ; اصْطَفَيْتُكَ لِنَفْسِي
بِرِسَالَتِي وَبِكَلَامِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي
ذِكْرِي يَعْنِي: وَلَا تَفْتُرَا فِي ذَكَرِي إِذْ قَدِمْتُمَا عَلَيْهِ،
وَوَفَدْتُمَا إِلَيْهِ; فَإِنَّ ذَلِكَ عَوْنٌ لَكُمَا عَلَى مُخَاطَبَتِهِ
وَمُجَاوَبَتِهِ، وَإِهْدَاءِ النَّصِيحَةِ إِلَيْهِ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ
عَلَيْهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِي الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلَاقٍ قِرْنَهُ وَقَالَ
تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ الْأَنْفَالِ: 45 ].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ
قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى وَهَذَا مِنْ حِلْمِهِ
تَعَالَى، وَكَرَمِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ، مَعَ عِلْمِهِ
بِكُفْرِ فِرْعَوْنَ وَعُتُوِّهِ وَتَجَبُّرِهِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أَرْدَى
خَلْقِهِ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ صَفْوَتَهُ مِنْ خَلَقَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ،
وَمَعَ هَذَا يَقُولُ لَهُمَا وَيَأْمُرُهُمَا أَنْ يَدْعُوَاهُ إِلَيْهِ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ; بِرِفْقٍ وَلِينٍ، وَيُعَامِلَاهُ مُعَامَلَةَ مَنْ
يَرْجُو أَنْ يَتَذَكَّرَ أَوْ يَخْشَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ النَّحْلِ:
125 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمُ الْآيَةَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 46
]. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا ;. أَعْذِرَا
إِلَيْهِ، قَوْلًا لَهُ: إِنَّ لَكَ رَبًّا وَلَكَ مَعَادًا، وَإِنَّ بَيْنَ
يَدَيْكَ جَنَّةً
وَنَارًا. وَقَالَ
وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قُولَا لَهُ: إِنِّي إِلَيَّ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ
أَقْرَبُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ. وَقَالَ يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ
عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَا مَنْ يَتَحَبَّبُ إِلَى مَنْ يُعَادِيهِ، فَكَيْفَ
بِمَنْ يَتَوَلَّاهُ وَيُنَادِيهِ؟ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ
يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ جَبَّارًا
عَنِيدًا، شَيْطَانًا مَرِيدًا، لَهُ سُلْطَانٌ فِي بِلَادِ مِصْرَ طَوِيلٌ
عَرِيضٌ، وَجَاهٌ وَجُنُودٌ وَعَسَاكِرُ وَسَطْوَةٌ، فَهَابَاهُ مِنْ حَيْثُ
الْبَشَرِيَّةُ، وَخَافَا أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِمَا فِي بَادِئِ الْأَمْرِ،
فَثَبَّتَهُمَا تَعَالَى، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، فَقَالَ: لَا تَخَافَا
إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ
فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ
بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ
أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [ طه: 47، 48
]. يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَمَرَهُمَا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ،
فَيَدْعُوَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى; أَنْ يَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، وَأَنْ يُرْسِلَ مَعَهُمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُطْلِقَهُمْ مِنْ أَسْرِهِ
وَقَهْرِهِ، وَلَا يُعَذِّبَهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَهُوَ
الْبُرْهَانُ الْعَظِيمُ فِي الْعِصِيِّ وَالْيَدِ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدَى تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ بَلِيغٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ تَهَدَّدَاهُ
وَتَوَعَّدَاهُ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَقَالَا: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ
الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَيْ; كَذَّبَ بِالْحَقِّ بِقَلْبِهِ،
وَتَوَلَّى عَنِ الْعَمَلِ بِقَالَبِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ مِنْ بِلَادِ
مَدْيَنَ، دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ
وَأَخِيهِ هَارُونَ
وَهُمَا يَتَعَشَّيَانِ مِنْ طَعَامٍ فِيهِ الطَّفَيْشَلُ; وَهُوَ اللِّفْتُ
فَأَكَلَ مَعَهُمَا، ثُمَّ قَالَ يَا هَارُونُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي
وَأَمَرَكَ أَنْ نَدْعُوَ فِرْعَوْنَ إِلَى عِبَادَتِهِ، فَقُمْ مَعِي. فَقَامَا
يَقْصِدَانِ بَابَ فِرْعَوْنَ، فَإِذَا هُوَ مُغْلَقٌ، فَقَالَ مُوسَى
لِلْبَوَّابِينَ وَالْحَجَبَةِ: أَعْلِمُوهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بِالْبَابِ.
فَجَعَلُوا يَسْخَرُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ
أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ طَوِيلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ: أَذِنَ لَهُمَا بَعْدَ سَنَتَيْنِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُ أَحَدٌ
يَتَجَاسَرُ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ لَهُمَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ: إِنَّ
مُوسَى تَقَدَّمَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ بِعَصَاهُ فَانْزَعَجَ فِرْعَوْنُ
وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِمَا، فَوَقَفَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَعَوَاهُ إِلَى
اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا أَمَرَهُمَا. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ
اللَّهَ قَالَ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ هَارُونَ اللَّاوِيَّ -
يَعْنِي مِنْ نَسْلِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ - سَيَخْرُجُ وَيَتَلَقَّاكَ.
وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُ مَشَايِخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِنْدِ
فِرْعَوْنَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ لَهُ:
سَأُقْسِّي قَلْبَهُ فَلَا يُرْسِلُ الشَّعْبَ، وَأَكْثَرُ آيَاتِي وَأَعَاجِيبِي
بِأَرْضِ مِصْرَ. وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى أَخِيهِ
يَتَلَقَّاهُ بِالْبَرِّيَّةِ عِنْدَ جَبَلِ حُورِيبَ، فَلَمَّا تَلْقَاهُ
أَخْبَرَهُ مُوسَى بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ، فَلَمَّا دَخَلَا مِصْرَ، جَمْعَا
شُيُوخَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا بَلَّغَاهُ
رِسَالَةَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ هُوَ اللَّهُ؟ لَا أَعْرِفُهُ، وَلَا أُرْسِلُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ:
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [ طه: 49 - 55 ]. يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَنْكَرَ إِثْبَاتَ الصَّانِعِ تَعَالَى، قَائِلًا: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى أَيْ; هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَعْمَالًا وَأَرْزَاقًا وَآجَالًا، وَكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي كِتَابِهِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ هَدَى كُلَّ مَخْلُوقٍ إِلَى مَا قَدَّرَهُ لَهُ، فَطَابَقَ عِلْمَهُ فِيهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّرَهُ وَعَلِمَهُ; لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَقَدَرِهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [ الْأَعْلَى: 1 - 3 ]. أَيْ; قَدَّرَ قَدَرًا وَهَدَى الْخَلَائِقَ إِلَيْهِ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى يَقُولُ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى: فَإِذَا كَانَ رَبُّكَ هُوَ الْخَالِقُ الْمُقَدِّرُ، الْهَادِي الْخَلَائِقَ، لِمَا قَدَّرَهُ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، فَلِمَ عَبَدَ الْأَوَّلُونَ غَيْرَهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالْأَنْدَادِ مَا قَدْ عَلِمْتَ؟ فَهَلَّا اهْتَدَى إِلَى مَا ذَكَرْتَهُ الْقُرُونُ الْأُولَى؟ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى أَيْ; هُمْ وَإِنْ عَبَدُوا غَيْرَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ لَكَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا أَقُولُ; لِأَنَّهُمْ جَهَلَةٌ مِثْلُكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ مُسْتَطَرٌ عَلَيْهِمْ فِي الزُّبُرِ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا يَظْلِمُ أَحَدًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ; لِأَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَنْسَى رَبِّي شَيْئًا. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ عَظَمَةَ الرَّبِّ، وَقُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَجَعْلَهُ الْأَرْضَ
مِهَادًا،
وَالسَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وَتَسْخِيرَهُ السَّحَابَ وَالْأَمْطَارَ
لِرِزْقِ الْعِبَادِ وَدَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، كَمَا قَالَ: كُلُوا
وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى أَيْ;
لِذَوِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَالْفِطَرِ الْقَوِيمَةِ
غَيْرِ السَّقِيمَةِ. فَهُوَ تَعَالَى الْخَالِقُ الرَّزَّاقُ. وَكَمَا قَالَ
تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ
بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 21، 22 ]. وَلَمَّا ذَكَرَ إِحْيَاءَ
الْأَرْضِ بِالْمَطَرِ، وَاهْتِزَازَهَا بِإِخْرَاجِ نَبَاتِهَا فِيهِ، نَبَّهَ
بِهِ عَلَى الْمَعَادِ فَقَالَ: مِنْهَا أَيْ; مِنَ الْأَرْضِ خَلَقْنَاكُمْ
وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى كَمَا قَالَ
تَعَالَى: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ الْأَعْرَافِ: 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ [ الرُّومِ: 27 ].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا
لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [ طه: 56 - 59 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى
عَنْ شَقَاءِ فِرْعَوْنَ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ فِي تَكْذِيبِهِ
بِآيَاتِ اللَّهِ، وَاسْتِكْبَارِهِ عَنِ اتِّبَاعِهَا، وَقَوْلِهِ لِمُوسَى:
إِنَّ هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ وَنَحْنُ نُعَارِضُكَ بِمِثْلِهِ. ثُمَّ
طَلَبَ مِنْ مُوسَى
أَنَّ يُوَاعِدَهُ إِلَى
وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَمَكَانٍ مَعْلُومٍ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ مَقَاصِدِ
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ; أَنْ يُظْهِرَ آيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجَهُ
وَبَرَاهِينَهُ جَهْرَةً بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلِهَذَا قَالَ: مَوْعِدُكُمْ
يَوْمُ الزِّينَةِ وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ مِنْ أَعْيَادِهِمْ، وَمُجْتَمَعٍ لَهُمْ
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أَيْ; مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فِي وَقْتِ
اشْتِدَادِ ضِيَاءِ الشَّمْسِ، فَيَكُونُ الْحَقُّ أَظْهَرَ وَأَجْلَى. وَلَمْ
يَطْلُبْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْلًا فِي ظَلَامٍ، كَيْمَا يُرَوِّجُ عَلَيْهِمْ
مِحَالًا وَبَاطِلًا، بَلْ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ نَهَارًا جَهْرَةً لِأَنَّهُ عَلَى
بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَيَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ سَيُظْهِرُ كَلِمَتَهُ وَدِينَهُ
وَإِنْ رَغِمَتْ أُنُوفُ الْقِبْطِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ
أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ
الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [ طه: 60 - 64 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ
أَنَّهُ ذَهَبَ، فَجَمَعَ مَنْ كَانَ بِبِلَادِهِ مِنَ السَّحَرَةِ، وَكَانَتْ
بِلَادُ مِصْرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَمْلُوءَةً سَحَرَةً، فُضَلَاءَ، فِي
فَنِّهِمْ غَايَةٌ فَجَمَعُوا لَهُ مَنْ كُلِّ بَلَدٍ، وَمِنْ كُلِّ مَكَانٍ،
فَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ خُلُقٌ كَثِيرٌ وَجَمُّ غَفِيرٌ. فَقِيلَ: كَانُوا
ثَمَانِينَ أَلْفًا. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ. وَقِيلَ: سَبْعِينَ أَلْفًا.
قَالَهُ الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي بَزَّةَ وَقَالَ السُّدِّيُّ: بِضْعَةً
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ: تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:
خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفًا. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا سَبْعِينَ
رَجُلًا. وَرَوَى عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعِينَ غُلَامًا مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَهُمْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْعُرَفَاءِ،
فَيَتَعَلَّمُوا السِّحْرَ. وَلِهَذَا قَالُوا: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ
السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَفِي هَذَا نَظَرٌ.
وَحَضَرَ فِرْعَوْنُ وَأُمَرَاؤُهُ وَأَهْلُ دَوْلَتِهِ وَأَهْلُ بَلَدِهِ عَنْ
بَكْرَةِ أَبِيهِمْ; وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ نَادَى فِيهِمْ أَنْ يَحْضُرُوا
هَذَا الْمَوْقِفَ الْعَظِيمَ، فَخَرَجُوا وَهُمْ يَقُولُونَ: لَعَلَّنَا
نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 40 ].
وَتَقَدَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى السَّحَرَةِ، فَوَعَظَهُمْ
وَزَجَرَهُمْ عَنْ تَعَاطِي السِّحْرِ الْبَاطِلِ، الَّذِي فِيهِ مُعَارَضَةٌ
لِآيَاتِ اللَّهِ وَحُجَجِهِ، فَقَالَ: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ;
فَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ نَبِيٍّ وَلَيْسَ بِسَاحِرٍ. وَقَائِلٌ مِنْهُمْ
يَقُولُ: بَلْ هُوَ سَاحِرٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَسَرُّوا التَّنَاجِيَ
بِهَذَا وَغَيْرِهِ قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ
يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا وَأَخَاهُ
هَارُونَ سَاحِرَانِ، عَلِيمَانِ، مُطْبِقَانِ مُتْقِنَانِ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ،
وَمُرَادُهُمْ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْهِمَا، وَيَصُولَا عَلَى الْمَلِكِ
وَحَاشِيَتِهِ، وَيَسْتَأْصِلَاكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، وَيَسْتَأْمِرَا عَلَيْكُمْ
بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ
فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى
وَإِنَّمَا قَالُوا الْكَلَامَ الْأَوَّلَ لِيَتَدَبَّرُوا وَيَتَوَاصَوْا،
وَيَأْتُوا بِجَمِيعِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَكِيدَةِ وَالْمَكْرِ
وَالْخَدِيعَةِ وَالسِّحْرِ وَالْبُهْتَانِ. وَهَيْهَاتَ، كَذَبَتْ وَاللَّهِ
الظُّنُونُ وَأَخْطَأَتِ الْآرَاءُ، أَنَّى يُعَارِضُ الْبُهْتَانُ وَالسِّحْرُ
وَالْهَذَيَانُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ، الَّتِي أَجْرَاهَا الدَّيَّانُ عَلَى
يَدَيْ عَبْدِهِ الْكَلِيمِ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ، الْمُؤَيَّدِ بِالْبُرْهَانِ
الَّذِي يَبْهَرُ الْأَبْصَارَ، وَتَحَارُ فِيهِ الْعُقُولُ وَالْأَذْهَانُ.
وَقَوْلُهُمْ: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أَيْ; جَمِيعَ مَا عِنْدَكُمْ، ثُمَّ
ائْتُوا صَفًّا أَيْ; جُمْلَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ حَضَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى
التَّقَدُّمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ; لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ
وَمَنَّاهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً
مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ
تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ طه: 65 - 69 ]. لَمَّا اصْطَفَّ السَّحَرَةُ وَوَقَفَ
مُوسَى وَهَارُونُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، تُجَاهَهُمْ، قَالُوا لَهُ: إِمَّا
أَنْ تُلْقِيَ قَبْلَنَا، وَإِمَّا أَنْ نُلْقِيَ قَبْلَكَ. قَالَ: بَلْ أَلْقُوا
أَنْتُمْ. وَكَانُوا قَدْ عَمَدُوا إِلَى حِبَالٍ وَعِصِيٍّ فَأَوْدَعُوهَا
الزِّئْبَقَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي تَضْطَرِبُ بِسَبَبِهَا تِلْكَ
الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ اضْطِرَابًا يُخَيَّلُ لِلرَّائِي أَنَّهَا تَسْعَى
بِاخْتِيَارِهَا، وَإِنَّمَا تَتَحَرَّكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 44 ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [ الْأَعْرَافِ: 116 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى أَيْ; خَافَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْتَتِنُوا بِسِحْرِهِمْ وَمِحَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَ مَا فِي يَدِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَضَعُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَعِنْدَ ذَلِكَ أَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ وَقَالَ: مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [ يُونُسَ: 81، 82 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 45 ]. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [ الْأَعْرَافِ: 118 - 122 ]. وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا تَقَدَّمَ وَأَلْقَاهَا صَارَتْ حَيَّةً عَظِيمَةً ذَاتَ قَوَائِمَ - فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ - وَعُنُقٍ عَظِيمٍ، وَشَكْلٍ هَائِلٍ مُزْعِجٍ، بِحَيْثُ إِنَّ النَّاسَ انْحَازُوا مِنْهَا، وَهَرَبُوا سِرَاعًا، وَتَأَخَّرُوا عَنْ مَكَانِهَا وَأَقْبَلَتْ هِيَ عَلَى مَا أَلْقَوْهُ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، فَجَعَلَتْ تَلَقَّفَهُ وَاحِدًا وَاحِدًا، فِي أَسْرَعِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَرَكَةِ،
وَالنَّاسُ
يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا. وَأَمَّا السَّحَرَةُ
فَإِنَّهُمْ رَأَوْا مَا هَالَهُمْ وَحَيَّرَهُمْ فِي أَمْرِهِمْ، وَاطَّلَعُوا
عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ فِي خَلَدِهِمْ وَلَا بَالِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ
صِنَاعَاتِهِمْ وَأَشْغَالِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَالِكَ تَحَقَّقُوا بِمَا
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِسِحْرٍ، وَلَا شَعْبَذَةٍ، وَلَا
مِحَالٍ وَلَا خَيَالٍ وَلَا زُورٍ وَلَا بُهْتَانٍ وَلَا ضَلَالٍ، بَلْ حَقٌّ لَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا الْحَقُّ الَّذِي ابْتَعَثَ هَذَا الْمُؤَيَّدَ بِهِ
بِالْحَقِّ، وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ غِشَاوَةَ الْغَفْلَةِ،
وَأَنَارَهَا بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْهُدَى وَأَزَاحَ عَنْهَا الْقَسْوَةَ،
وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ، وَخَرُّوا لَهُ سَاجِدِينَ، وَقَالُوا جَهْرَةً
لِلْحَاضِرِينَ، وَلَمْ يَخْشَوْا عُقُوبَةً وَلَا بَلْوَى: آمَنَّا بِرَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ
هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ
وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ
عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ
قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا
لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ
جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ
عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ
تَزَكَّى قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ أَبِي
بَزَّةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَغَيْرُهُمْ: لَمَّا سَجَدَ السَّحَرَةُ، رَأَوْا
مَنَازِلَهُمْ وَقُصُورَهُمْ فِي
الْجَنَّةِ
تُهَيَّأُ لَهُمْ، وَتُزَخْرَفُ لِقُدُومِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى
تَهْوِيلِ فِرْعَوْنَ، وَتَهْدِيدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ
لَمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ السَّحَرَةَ قَدْ أَسْلَمُوا وَأَشْهَرُوا ذِكْرَ مُوسَى
وَهَارُونَ فِي النَّاسِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ، أَفْزَعَهُ ذَلِكَ،
وَرَأَى أَمْرًا بَهَرَهُ، وَأَعْمَى بَصِيرَتَهُ وَبَصَرَهُ، وَكَانَ فِيهِ
كَيْدٌ وَمَكْرٌ وَخِدَاعٌ، وَصَنْعَةٌ بَلِيغَةٌ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لِلسَّحَرَةِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ: آمَنْتُمْ لَهُ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أَيْ; هَلَّا شَاوَرْتُمُونِي فِيمَا صَنَعْتُمْ مِنَ الْأَمْرِ
الْفَظِيعِ بِحَضْرَةِ رَعِيَّتِي. ثُمَّ تَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ، وَأَبْرَقَ
وَأَرْعَدَ، وَكَذَبَ فَأَبْعَدَ، قَائِلًا: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ [ الْأَعْرَافِ: 123 ]. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنَ الْبُهْتَانِ
الَّذِي يَعْلَمُ كُلُّ فَرْدٍ عَاقِلٍ مَا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ
وَالْهَذَيَانِ، بَلْ لَا يَرُوجُ مَثَلَهُ عَلَى الصِّبْيَانِ; فَإِنَّ النَّاسَ
كُلَّهُمْ، مِنْ أَهْلِ دَوْلَتِهِ وَغَيْرِهِمْ، يَعْلَمُونَ أَنَّ مُوسَى لَمْ
يَرَهُ هَؤُلَاءِ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَبِيرَهُمُ الَّذِي
عَلَّمَهُمُ السِّحْرَ؟! ثُمَّ هُوَ لَمْ يَجْمَعْهُمْ وَلَا عِلْمَ بِاجْتِمَاعِهِمْ،
حَتَّى كَانَ فِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي اسْتَدْعَاهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ وَوَادٍ سَحِيقٍ، وَمِنْ حَوَاضِرِ بِلَادِ مِصْرَ وَالْأَطْرَافِ،
وَمِنَ الْمُدُنِ وَالْأَرْيَافِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ "
ثُمَّ بَعَثْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ
إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى
اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ
مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي
الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِ سَاحِرٍ عَلِيمٍ وَجَاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ
تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا
أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ
مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا
هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا
آمَنَّا بِرَبِ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ
بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ
آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا
وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [ الْأَعْرَافِ: 103 - 126 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " يُونُسَ ":
ثُمَّ بَعَثْنَا
مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ
عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ
لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا
أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا
الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ وَقَالَ
فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ
لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى
مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [ يُونُسَ: 75 - 82 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ
إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى
عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ
لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلَأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ
أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا
أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ
سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ
لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ
كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ
أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ
وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا
أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ
فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ
تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ
آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ
وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا
مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ
كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [ الشُّعَرَاءِ: 29 - 51 ].
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ وَافْتَرَى، وَكَفَرَ غَايَةَ الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَأَتَى بِبُهْتَانٍ يَعْلَمُهُ الْعَالِمُونَ، بَلِ الْعَالَمُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَقَوْلُهُ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ يَعْنِي: يَقْطَعُ الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى وَعَكْسَهُ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ أَيْ; لَيَجْعَلُهُمْ مَثُلَةً وَنَكَالًا; لِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِمْ أَحَدٌ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَأَهْلِ مِلَّتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أَيْ; عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ; لِأَنَّهَا أَعْلَى وَأَشْهَرُ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ أَيْ; لَنْ نُطِيعَكَ وَنَتْرُكَ مَا وَقَرَ فِي قُلُوبِنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ، وَالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَاتِ، وَالَّذِي فَطَرَنَا قِيلَ: مَعْطُوفٌ. وَقِيلَ: قَسَمٌ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ أَيْ; فَافْعَلْ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أَيْ; إِنَّمَا حُكْمُكَ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِذَا انْتَقَلْنَا مِنْهَا إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، صِرْنَا إِلَى حُكْمِ الَّذِي أَسْلَمْنَا لَهُ وَاتَّبَعْنَا رُسُلَهُ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ طه: 73 ]. أَيْ; وَثَوَابُهُ خَيْرٌ مِمَّا وَعَدَتْنَا بِهِ مِنَ التَّقْرِيبِ وَالتَّرْغِيبِ، وَأَبْقَى أَيْ; وَأَدْوَمُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ. وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا
أَيْ; مَا
اجْتَرَمْنَاهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ أَنْ كُنَّا أَوَّلَ
الْمُؤْمِنِينَ أَيْ; مِنَ الْقِبْطِ، بِمُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ. وَقَالُوا لَهُ أَيْضًا: وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا
بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا أَيْ لَيْسَ لَنَا عِنْدَكَ ذَنْبٌ إِلَّا
إِيمَانُنَا بِمَا جَاءَنَا بِهِ رَسُولُنَا، وَاتِّبَاعُنَا آيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا
جَاءَتْنَا، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أَيْ; ثَبِّتْنَا عَلَى مَا
ابْتُلِينَا بِهِ مِنْ عُقُوبَةِ هَذَا الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَالسُّلْطَانِ
الشَّدِيدِ، بَلِ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَقَالُوا
أَيْضًا يَعِظُونَهُ وَيُخَوِّفُونَهُ بِأْسَ رَبِّهِ الْعَظِيمِ: إِنَّهُ مَنْ
يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا
يَحْيَا يَقُولُونَ لَهُ: فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ فَكَانَ مِنْهُمْ.
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجَاتُ الْعُلَا أَيِ; الْمَنَازِلُ الْعَالِيَةُ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى
فَاحْرِصْ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ
الْأَقْدَارُ الَّتِي لَا تُغَالَبُ، وَلَا تُمَانَعُ وَحُكْمُ الْعَلِيِّ
الْعَظِيمِ بِأَنَّفِرْعَوْنَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ،
لِيُبَاشِرَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، يَصُبُّ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ الْحَمِيمُ.
وَيُقَالُ لَهُ، عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ، وَهُوَ الْمَقْبُوحُ
الْمَنْبُوحُ، الذَّمِيمُ اللَّئِيمُ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.
[ الدُّخَانِ: 49 ]. وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ السِّيَاقَاتِ أَنَّ فِرْعَوْنَ،
لَعَنَهُ اللَّهُ، صَلَبَهُمْ وَعَذَّبَهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانُوا مِنْ أَوَّلِ
النَّهَارِ سَحَرَةً، فَصَارُوا مِنْ آخِرِهِ شُهَدَاءَ بَرَرَةً. وَيُؤَيِّدُ
هَذَا قَوْلُهُمْ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ.
فَصْلٌ
وَلَمَّا وَقَعَ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْغَلَبُ الَّذِي
غُلِبَهُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنَ الْقِبْطِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ
الْهَائِلِ، وَأَسْلَمَ السَّحَرَةُ، الَّذِينَ اسْتَنْصَرُوا رَبَّهُمْ لَمْ
يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَعِنَادًا وَبُعْدًا عَنِ الْحَقِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، بَعْدَ قَصَصِ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "
الْأَعْرَافِ ": وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى
وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا
أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى
رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ الْأَعْرَافِ: 127 - 129 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ
الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَهُمُ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ، أَنَّهُمْ
حَرَّضُوا مِلَكَهُمْ فِرْعَوْنَ عَلَى أَذِيَّةِ نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُقَابَلَتِهِ - بَدَلَ التَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ -
بِالْكُفْرِ وَالرَّدِّ وَالْأَذَى، فَقَالُوا أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يَعْنُونَ، قَبَّحَهُمُ
اللَّهُ، أَنَّ دَعْوَتَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَالنَّهْيَ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ فَسَادٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِ
الْقِبْطِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ:
" وَيَذَرَكَ وَإِلَاهَتَكَ " أَيْ ; وَعِبَادَتَكَ. وَيَحْتَمِلُ شَيْئَيْنِ ; أَحَدُهُمَا وَيَذْرُ دِينَكَ. وَتُقَوِّيهِ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى. الثَّانِي، وَيَذَرُ أَنْ يَعْبُدَكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِلَهٌ، لَعَنَهُ اللَّهُ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ أَيْ ; لِئَلَّا تَكْثُرَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ أَيْ ; غَالِبُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ ; إِذَا هَمُّوا هُمْ بِأَذِيَّتِكُمْ وَالْفَتْكِ بِكُمْ فَاسْتَعِينُوا أَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ، وَاصْبِرُوا عَلَى بَلِيَّتِكُمْ، إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ أَيْ ; فَكُونُوا أَنْتُمْ مِنَ الْمُتَّقِينَ ; لِتَكُونَ لَكُمُ الْعَاقِبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ يُونُسَ: 84 - 86 ]. وَقَوْلُهُمْ: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا أَيْ ; قَدْ كَانَتِ الْأَبْنَاءُ تُقْتَلُ قَبْلَ مَجِيئِكَ، وَبَعْدَ مَجِيئِكَ إِلَيْنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " حم الْمُؤْمِنِ ": وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ غَافِرٍ: 23، 24 ]. وَكَانَ فِرْعَوْنُ الْمَلِكَ، وَهَامَانُ الْوَزِيرَ، وَكَانَ
قَارُونُ
إِسْرَائِيلِيًّا مِنْ قَوْمِ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ عَلَى دِينِ
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، كَمَا سَتَأْتِي
قِصَّتُهُ فِيمَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ
الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ
إِلَّا فِي ضَلَالٍ [ غَافِرٍ: 25 ]. وَهَذَا الْقَتْلُ لِلْغِلْمَانِ، مِنْ
بَعْدِ بَعْثَةِ مُوسَى، إِنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ
وَالْإِذْلَالِ، وَالتَّقْلِيلِ لِمَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; لِئَلَّا تَكُونَ
لَهُمْ شَوْكَةٌ يَمْتَنِعُونَ بِهَا أَوْ يَصُولُونَ عَلَى الْقِبْطِ
بِسَبَبِهَا، وَكَانَتِ الْقِبْطُ مِنْهُمْ يَحْذَرُونَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ
ذَلِكَ ; وَلَمْ يَرُدَّ عَنْهُمْ قَدَرَ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ.
فَيَكُونُ. وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ
إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ
الْفَسَادَ [ غَافِرٍ: 26 ]. وَلِهَذَا يَقُولُ النَّاسُ عَلَى سَبِيلِ
التَّهَكُّمِ: صَارَ فِرْعَوْنُ مُذَكِّرًا. وَهَذَا مِنْهُ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ
فِي زَعْمِهِ يَخَافُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يُضِلَّهُمْ مُوسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ. وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [ غَافِرٍ: 27 ]. أَيْ ; عُذْتُ
بِاللَّهِ، وَلَجَأْتُ إِلَيْهِ وَاسْتَجَرْتُ بِجَنَابِهِ مِنْ أَنْ يَسْطُوَ
فِرْعَوْنُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَيَّ بِسُوءٍ. وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ
أَيْ ; جَبَّارٍ عَنِيدٍ، لَا يَرْعَوِي وَلَا
يَنْتَهِي، وَلَا
يَخَافُ عَذَابَ اللَّهِ وَعِقَابَهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ مَعَادًا وَلَا
جَزَاءً، وَلِهَذَا قَالَ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ
الْحِسَابِ.
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ
رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ
رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا
يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي
الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ
مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [
غَافِرٍ: 28، 29 ]. هَذَا الرَّجُلُ هُوَ ابْنُ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ
يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ قَوْمِهِ، خَوْفًا مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ. وَزَعَمَ
بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَهُوَ بَعِيدٌ وَمُخَالِفٌ
لِسِيَاقِ الْكَلَامِ لَفْظًا وَمَعْنًى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْقِبْطِ
بِمُوسَى إِلَّا هَذَا، وَالَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَامْرَأَةِ
فِرْعَوْنَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يُعْرَفُ
مَنِ اسْمُهُ شَمْعَانُ - بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ - إِلَّا مُؤْمِنُ آلِ
فِرْعَوْنَ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ. وَفِي " تَارِيخِ الطَّبَرَانِيِّ
" أَنَّ اسْمَهُ: جَبْرٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، فَلَمَّا هَمَّ
فِرْعَوْنُ، لَعَنَهُ اللَّهُ،
بِقَتْلِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ وَشَاوَرَ مَلَأَهُ فِيهِ، خَافَ هَذَا الْمُؤْمِنُ عَلَى مُوسَى، فَتَلَطَّفَ فِي رَدِّ فِرْعَوْنَ بِكَلَامٍ جَمَعَ فِيهِ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ، فَقَالَ كَلِمَةَ الْحَقِّ عَلَى وَجْهِ الْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ وَهَذَا مِنْ أَعْلَى مَرَاتِبِ هَذَا الْمَقَامِ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَكُونُ أَشَدُّ جَوْرًا مِنْهُ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا أَعْدَلَ مِنْهُ; لِأَنَّ فِيهِ عِصْمَةَ دَمِ نَبِيٍّ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَشَارَ لَهُمْ بِإِظْهَارِ إِيمَانِهِ، وَصَرَّحَ لَهُمْ بِمَا كَانَ يَكْتُمُهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَيْ; مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّيَ اللَّهُ. فَمِثْلُ هَذَا لَا يُقَابَلُ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ بِالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالْمُوَادَعَةِ وَتَرَكِ الِانْتِقَامِ، يَعْنِي: لِأَنَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ أَيْ; بِالْخَوَارِقِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى صَدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ فَهَذَا إِنْ وَادَعْتُمُوهُ كُنْتُمْ فِي سَلَامَةٍ; لِأَنَّهُ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَلَا يَضُرُّكُمْ ذَلِكَ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا وَقَدْ تَعَرَّضْتُمْ لَهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَيْ; وَأَنْتُمْ تُشْفِقُونَ أَنْ يَنَالَكُمْ أَيْسَرُ جَزَاءٍ مِمَّا يَتَوَعَّدُكُمْ بِهِ، فَكَيْفَ بِكُمْ إِنَّ حَلَّ جَمِيعُهُ عَلَيْكُمْ؟ وَهَذَا
الْكَلَامُ فِي
هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِ التَّلَطُّفِ وَالِاحْتِرَازِ
وَالْعَقْلِ التَّامِّ. وَقَوْلُهُ: يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ
فِي الْأَرْضِ يُحَذِّرُهُمْ أَنَّ يَسْلُبُوا هَذَا الْمُلْكَ الْعَزِيزَ،
فَإِنَّهُ مَا تَعَرَّضَتِ الدُّوَلُ لِلدِّينِ إِلَّا سُلِبُوا مُلْكَهُمْ
وَذَلُّوا بَعْدَ عِزِّهِمْ، وَكَذَا وَقْعَ لِآلِ فِرْعَوْنَ; مَا زَالُوا فِي
شَكٍّ وَرَيْبٍ، وَمُخَالَفَةٍ وَمُعَانَدَةٍ لِمَا جَاءَهُمْ مُوسَى بِهِ، حَتَّى
أَخْرَجَهُمُ اللَّهُ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالْأَمْلَاكِ
وَالدُّورِ وَالْقُصُورِ، وَالنِّعْمَةِ وَالْحُبُورِ، ثُمَّ حُوِّلُوا إِلَى
الْبَحْرِ مُهَانِينَ، وَنُقِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ
إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ. وَلِهَذَا قَالَ هَذَا الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ
الصَّادِقُ، الْبَارُّ الرَّاشِدُ، التَّابِعُ لِلْحَقِّ النَّاصِحُ لِقَوْمِهِ،
الْكَامِلُ الْعَقْلِ: يَاقَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ
أَيْ; عَالِينَ عَلَى النَّاسِ حَاكِمِينَ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ
بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا أَيْ; لَوْ كُنْتُمْ أَضْعَافَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ
مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ لَمَا نَفَعَنَا ذَلِكَ
وَلَا رَدَّ عَنَّا بَأْسَ مَالِكِ الْمَمَالِكِ. قَالَ فِرْعَوْنُ أَيْ; فِي
جَوَابِ هَذَا كُلِّهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى أَيْ; مَا أَقُولُ لَكُمْ
إِلَّا مَا عِنْدِي وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ وَكَذَبَ فِي
كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ
قَدْ كَانَ يَتَحَقَّقُ وَيَعْلَمُ فِي بَاطِنِهِ وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ هَذَا
الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا
كَانَ يُظْهِرُ خِلَافَهُ بَغْيًا وَعُدْوَانًا، وَعُتُوًّا وَكُفْرَانًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى:
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 102 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [ النَّمْلِ: 13، 14 ]. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ. فَقَدْ كَذَبَ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَشَادٍ مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ كَانَ عَلَى سَفَهٍ وَضَلَالٍ، وَخَبَالٍ، وَكَانَ أَوَّلًا مِمَّنْ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَالْأَمْثَالَ، ثُمَّ دَعَا قَوْمَهُ الْجَهَلَةَ الضُّلَّالَ إِلَى أَنِ اتَّبَعُوهُ وَطَاوَعُوهُ، وَصَدَّقُوهُ فِيمَا زَعَمَ مِنَ الْكُفْرِ الْمُحَالِ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ رَبٌّ، تَعَالَى اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [ الزُّخْرُفِ: 51 - 56 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [ النَّازِعَاتِ: 20 - 26 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِيْهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [ هُودٍ: 96 - 99 ]. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ كَذِبِهِ فِي قَوْلِهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَفِي قَوْلِهِ: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ.
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 30 - 35 ]. يُحَذِّرُهُمْ وَلِيُّ اللَّهِ، إِنْ كَذَّبُوا بِرَسُولِ اللَّهِ مُوسَى، أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ النَّقِمَاتِ وَالْمَثُلَّاتِ، مِمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ; مَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ، وَعَادٍ، وَثَمُودَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِهِمْ ذَلِكَ، مِمَّا أَقَامَ اللَّهُ بِهِ الْحُجَجَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ قَاطِبَةً، فِي صِدْقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، بِمَا أَنْزَلَ مِنَ النِّقْمَةِ بِمُكَذِّبِيهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَمَا أَنْجَى اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ، وَخَوَّفَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ التَّنَادِ أَيْ; حِينَ يُنَادِي النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حِينَ يُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ إِنْ قَدَرُوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ. يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [ الْقِيَامَةِ: 10 - 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ فَبِأَيِ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
[ الرَّحْمَنِ: 33 - 36 ]. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ( يَوْمَ التَّنَادِّ ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَي يَوْمَ الْفِرَارِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ يُحِلُّ اللَّهُ بِهِمُ الْبَأْسَ، فَيَوَدُّونَ الْفِرَارَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ. فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 12، 13 ]. ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عَنْ نُبُوَّةِ يُوسُفَ فِي بِلَادِ مِصْرَ; مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَهَذَا مِنْ سُلَالَتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَأَنْ لَا يُشْرِكُوا بِهِ أَحَدًا مِنْ بَرِّيَّتِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَنَّ مِنْ سَجِيَّتِهِمُ التَّكْذِيبَ بِالْحَقِّ وَمُخَالَفَةَ الرُّسُلِ; وَلِهَذَا قَالَ: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أَيْ; وَكَذَّبْتُمْ فِي هَذَا. وَلِهَذَا قَالَ: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ أَيْ; يَرُدُّونَ حُجَجَ اللَّهِ وَبَرَاهِينَهُ وَدَلَائِلَ تَوْحِيدِهِ بِلَا حُجَّةٍ وَلَا دَلِيلٍ عِنْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ يَمْقُتُهُ اللَّهُ غَايَةَ الْمَقْتِ; أَيْ يُبْغِضُ مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ مِنَ النَّاسِ، وَمَنِ اتَّصَفَ بِهِ مِنَ الْخَلْقِ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ قُرِئَ بِالْإِضَافَةِ وَبِالنَّعْتِ، وَكِلَاهُمَا مُتَلَازِمٌ; أَيْ هَكَذَا إِذَا خَالَفَتِ الْقُلُوبُ الْحَقَّ، وَلَا تُخَالِفُهُ إِلَّا بِلَا بُرْهَانٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَطْبَعُ عَلَيْهَا; أَيْ يَخْتِمُ عَلَيْهَا.
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [ غَافِرٍ: 36، 37 ]. كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي دَعْوَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، وَزَعَمَ فِرْعَوْنُ لِقَوْمِهِ مَا كَذَّبَهُ وَافْتَرَاهُ، فِي قَوْلِهِ لَهُمْ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [ الْقَصَصِ: 38 ]. وَقَالَ هَاهُنَا: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ أَيْ; طُرُقَهَا وَمَسَالِكَهَا فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَيَحْتَمِلُ هَذَا مَعْنَيَيْنِ; أَحَدُهُمَا، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا غَيْرِي. وَالثَّانِي، فِي دَعْوَاهُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ حَالِ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ ظَاهِرَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَالثَّانِي أَقْرَبُ إِلَى اللَّفْظِ; حَيْثُ قَالَ: فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى أَيْ; فَأَسْأَلَهُ هَلْ أَرْسَلَهُ أَمْ لَا، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا أَيْ; فِي دَعْوَاهُ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَصُدَّ النَّاسَ عَنْ تَصْدِيقِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْ يَحُثَّهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَقُرِئَ: ( وَصَدَّ عَنِ السَّبِيلِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: يَقُولُ: إِلَّا فِي خَسَارٍ. أَيْ بَاطِلٍ، لَا يَحْصُلُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَقْصُودِهِ الَّذِي رَامَهُ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْبَشَرِ أَنْ يَتَوَصَّلُوا بِقُوَاهُمْ إِلَى نَيْلِ السَّمَاءِ أَبَدًا - أَعْنِي السَّمَاءَ الدُّنْيَا - فَكَيْفَ بِمَا بَعْدَهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَمَا فَوْقَ
ذَلِكَ مِنَ
الِارْتِفَاعِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذَا الصَّرْحَ، وَهُوَ
الْقَصْرُ الَّذِي بَنَاهُ وَزِيرُهُ هَامَانُ لَهُ، لَمْ يُرَ بِنَاءٌ أَعْلَى
مِنْهُ، وَأَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا مِنَ الْآجُرِّ الْمَشْوِيِّ بِالنَّارِ،
وَلِهَذَا قَالَ: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي
صَرْحًا وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا
يُسَخَّرُونَ فِي ضَرْبِ اللَّبِنِ، وَكَانَ مِمَّا حَمَلُوا مِنَ التَّكَالِيفِ
الْفِرْعَوْنِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يُسَاعَدُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُونَ
إِلَيْهِ فِيهِ، بَلْ كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ تُرَابَهُ وَتِبْنَهُ
وَمَاءَهُ، وَيُطْلَبُ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ قِسْطٌ مُعَيَّنٌ، إِنْ لَمْ
يَفْعَلُوهُ وَإِلَّا ضُرِبُوا وَأُهِينُوا غَايَةَ الْإِهَانَةِ، وَأُوذُوا
غَايَةَ الْأَذِيَّةِ. وَلِهَذَا قَالُوا لِمُوسَى: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
فَوَعَدَهُمْ بِأَنَّ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ عَلَى الْقِبْطِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ،
وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَلْنَرْجِعْ إِلَى نَصِيحَةِ الْمُؤْمِنِ وَمَوْعِظَتِهِ وَاحْتِجَاجِهِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ
سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ
الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا
مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [
غَافِرٍ: 38 - 40 ]. يَدْعُوهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى طَرِيقِ
الرَّشَادِ وَالْحَقِّ، وَهِيَ مُتَابَعَةُ نَبِيِّ اللَّهِ
مُوسَى،
وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ، ثُمَّ زَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا
الدَّنِيَّةِ الْفَانِيَةِ الْمُنْقَضِيَةِ لَا مَحَالَةَ، وَرَغَّبَهُمْ فِي
طَلَبِ الثَّوَابِ عِنْدَ اللَّهِ، الَّذِي لَا يُضَيِّعُ عَمَلَ عَامِلٍ
لَدَيْهِ، الْقَدِيرِ الَّذِي مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ بِيَدَيْهِ، الَّذِي يُعْطِي
عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا، وَمِنْ عَدْلِهِ لَا يُجَازَى عَلَى السَّيِّئَةِ
إِلَّا مِثْلَهَا. وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ،
الَّتِي مِنْ وَافَاهَا مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، فَلَهُمُ
الْجَنَّاتُ الْعَالِيَاتُ، وَالْغُرَفُ الْآمِنَاتُ، وَالْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَةِ
الْفَائِقَاتُ، وَالْأَرْزَاقُ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا تَبِيدُ، وَالْخَيْرُ
الَّذِي كُلُّ مَا لَهُمْ مِنْهُ فِي مَزِيدٍ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي إِبْطَالِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِمَّا يَصِيرُونَ
إِلَيْهِ فَقَالَ: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ
وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ
مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا
جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا
فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ
أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا
مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [ غَافِرٍ: 41 - 46 ]. كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى
عِبَادَةِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ.
فَيَكُونُ، وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى عِبَادَةِ فِرْعَوْنَ الْجَاهِلِ الضَّالِّ
الْمَلْعُونِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ: وَيَا قَوْمِ
مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي
لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا
أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ،
ثُمَّ بَيَّنَ
لَهُمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ مَا سِوَى اللَّهِ مِنَ
الْأَنْدَادِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مِنْ نَفْعٍ وَلَا
إِضْرَارٍ. فَقَالَ: لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ
دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ
وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ أَيْ; لَا تَمْلِكُ تَصَرُّفًا
وَلَا حُكْمًا فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَكَيْفَ تَمْلِكُهُ يَوْمَ الْقَرَارِ؟
وَأَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ لِلْأَبْرَارِ
وَالْفُجَّارِ، وَهُوَ الَّذِي أَحْيَا الْعِبَادَ وَيُمِيتُهُمْ وَيَبْعَثُهُمْ،
فَيُدْخِلُ طَائِعَهُمُ الْجَنَّةَ وَعَاصِيَهُمُ النَّارَ. ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ
إِنْ هُمُ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ بِقَوْلِهِ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ
لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا أَيْ;
بِإِنْكَارِهِ سَلِمَ مِمَّا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ
بِاللَّهِ، وَمَكْرِهِمْ فِي صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مِمَّا أَظْهَرُوا
لِلْعَامَّةِ مِنَ الْخَيَالَاتِ وَالْمُحَالَاتِ الَّتِي لَبَّسُوا بِهَا عَلَى
عَوَامِّهِمْ وَطَغَامِهِمْ; وَلِهَذَا قَالَ: وَحَاقَ أَيْ; أَحَاطَ بِآلِ فِرْعَوْنَ
سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا أَيْ;
تُعْرَضُ أَرْوَاحُهُمْ فِي بَرْزَخِهِمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً عَلَى النَّارِ،
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ فِي "
التَّفْسِيرِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُهْلِكْهُمْ إِلَّا بَعْدَ إِقَامَةِ
الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ، وَإِرْسَالِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ، وَإِزَاحَةِ الشُّبَهِ
عَنْهُمْ، وَأَخْذِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ، فَبِالتَّرْهِيبِ تَارَةً
وَالتَّرْغِيبِ أُخْرَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ الْأَعْرَافِ: 130 - 133 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ ابْتَلَى آلَ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ قَوْمُهُ مِنَ الْقِبْطِ، بِالسِّنِينَ، وَهِيَ أَعْوَامُ الْجَدْبِ الَّتِي لَا يُسْتَغَلُّ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا يُنْتَفَعُ بِضَرْعٍ. وَقَوْلُهُ: وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَهِيَ قِلَّةُ الثِّمَارِ مِنَ الْأَشْجَارِ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أَيْ; فَلَمْ يَنْتَفِعُوا وَلَمْ يَرْعَوُوا، بَلْ تَمَرَّدُوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ وَهُوَ الْخِصْبُ وَنَحْوُهُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ أَيْ; هَذَا الَّذِي نَسْتَحِقُّهُ وَهَذَا الَّذِي يَلِيقُ بِنَا، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَيْ; يَقُولُونَ هَذَا; بِشُؤْمِهِمْ أَصَابَنَا هَذَا. وَلَا يَقُولُونَ فِي الْأَوَّلِ: إِنَّهُ بَرَكَتُهُمْ وَحُسْنُ مُجَاوَرَتِهِمْ، وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ مُنْكِرَةٌ مُسْتَكْبِرَةٌ نَافِرَةٌ عَنِ الْحَقِّ، إِذَا جَاءَ الشَّرُّ أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ رَأَوْا خَيْرًا ادَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَيِ; اللَّهُ يَجْزِيهِمْ عَلَى هَذَا أَوْفَرَ الْجَزَاءِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أَيْ; مَهْمَا جِئْتَنَا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، وَهِيَ الْخَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ فَلَسْنَا نُؤْمِنُ بِكَ وَلَا نَتَّبِعُكَ وَلَا نُطِيعُكَ وَلَوْ جِئْتَنَا بِكُلِّ آيَةٍ. وَهَكَذَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي
قَوْلِهِ: إِنَّ
الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ
جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ يُونُسَ: 96، 97
]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ
وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا
وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ.
أَمَّا الطُّوفَانُ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ كَثْرَةُ الْأَمْطَارِ
الْمُتْلِفَةِ لِلزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ:
هُوَ كَثْرَةُ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الطُّوفَانُ الْمَاءُ، وَالطَّاعُونُ
عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَمْرٌ طَافَ بِهِمْ. وَقَدْ رَوَى
ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ عَنِ
الْمِنْهَالِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مِينَاءَ،
عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّوفَانُ
الْمَوْتُ وَهُوَ غَرِيبٌ.
وَأَمَّا الْجَرَادُ فَمَعْرُوفٌ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَرَادِ، فَقَالَ: أَكْثَرُ جُنُودِ اللَّهِ،
لَا آكُلُهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ وَتَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَكْلَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ التَّقَذُّرِ لَهُ; كَمَا تَرَكَ
أَكْلَ الضَّبِّ، وَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْكُرَّاثِ،
لِمَا ثَبَتَ فِي
"
الصَّحِيحَيْنِ "، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: غَزْونَا
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ
نَأْكُلُ الْجَرَادَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ
الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي " التَّفْسِيرِ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ اسْتَاقَ خَضْرَاءَهُمْ، فَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ زُرُوعًا
وَلَا ثِمَارًا، وَلَا سَبَدًا وَلَا لَبَدًا.
وَأَمَّا الْقُمَّلُ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ السُّوسُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ
الْحِنْطَةِ، وَعَنْهُ، أَنَّهُ الْجَرَادُ الصِّغَارُ الَّذِي لَا أَجْنِحَةَ
لَهُ. وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ: هُوَ دَوَابُّ سُودٌ صِغَارٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هِيَ الْبَرَاغِيثُ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ
أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهَا الْحَمْنَانُ. وَهُوَ صِغَارُ الْقِرْدَانِ فَوْقَ
الْقَمْقَامَةِ، فَدَخَلَ مَعَهُمُ الْبُيُوتَ وَالْفُرُشَ، فَلَمْ يَقِرَّ لَهُمْ
قَرَارٌ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ مَعَهُ الْغَمْضُ وَلَا الْعَيْشُ. وَفَسَّرَهُ
عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ بِهَذَا الْقُمَّلِ الْمَعْرُوفِ. وَقَرَأَهَا الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ كَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ.
وَأَمَّا الضَّفَادِعُ فَمَعْرُوفَةٌ، لَبَّسَتْهُمْ حَتَّى كَانَتْ تَسْقُطُ فِي
أَطَعِمَاتِهِمْ وَأَوَانِيهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا فَتَحَ فَمَهُ
لِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، سَقَطَتْ فِي فِيهِ ضِفْدِعَةٌ مِنْ تِلْكَ الضَّفَادِعِ.
وَأَمَّا الدَّمُ
فَكَانَ قَدْ مُزِجَ مَاؤُهُمْ كُلُّهُ بِهِ، فَلَا يَسْتَقُونَ مِنَ النِّيلِ
شَيْئًا إِلَّا وَجَدُوهُ دَمًا عَبِيطًا، وَلَا مِنْ نَهْرٍ وَلَا بِئْرٍ وَلَا
شَيْءٍ إِلَّا كَانَ دَمًا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. هَذَا كُلُّهُ، وَلَمْ
يَنَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذَا مِنْ
تَمَامِ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ هَذَا
كُلَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ عَنْ فِعْلِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَنَالُهُمْ عَنْ
آخِرِهِمْ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي هَذَا
أَدَلُّ دَلِيلٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَرَجَعَ عَدُوُّ اللَّهِ فِرْعَوْنُ حِينَ
آمَنَتِ السَّحَرَةُ مَغْلُوبًا مَفْلُولًا، ثُمَّ أَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ
عَلَى الْكُفْرِ وَالتَّمَادِيَ فِي الشَّرِّ، فَتَابَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ
بِالْآيَاتِ، فَأَخَذَهُ بِالسِّنِينَ، فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الطُّوفَانَ، ثُمَّ
الْجَرَادَ، ثُمَّ الْقُمَّلَ، ثُمَّ الضَّفَادِعَ، ثُمَّ الدَّمَ آيَاتٍ
مُفَصَّلَاتٍ; فَأَرْسَلَ الطُّوفَانَ - وَهُوَ الْمَاءُ - فَفَاضَ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ ثُمَّ رَكَدَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَحْرُثُوا وَلَا أَنْ
يَعْمَلُوا شَيْئًا، حَتَّى جُهِدُوا جُوعًا، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ،
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا
عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ
وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الْأَعْرَافِ: 134 ]. فَدَعَا مُوسَى
رَبَّهُ، فَكَشْفَهُ عَنْهُمْ، فَلَمَّا لَمَّ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ، فَأَرْسَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَرَادَ، فَأَكَلَ الشَّجَرَ، فِيمَا بَلَغَنِي، حَتَّى
إِنْ كَانَ لَيَأْكُلُ مَسَامِيرَ الْأَبْوَابِ مِنَ الْحَدِيدِ، حَتَّى تَقَعَ
دُورُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَبَّهُ
فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقُمَّلَ، فَذَكَرَ لِي أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
أُمِرَ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى كَثِيبٍ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَمَشَى إِلَى
كَثِيبٍ أَهْيَلَ عَظِيمٍ، فَضَرَبَهُ بِهَا، فَانْثَالَ
عَلَيْهِمْ
قُمَّلًا حَتَّى غَلَبَ عَلَى الْبُيُوتِ وَالْأَطْعِمَةِ، وَمَنَعَهُمُ النَّوْمَ
وَالْقَرَارَ، فَلَمَّا جَهَدَهُمْ، قَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا لَهُ،
فَدَعَا رَبَّهُ، فَكَشَفَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا
قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الضَّفَادِعَ، فَمَلَأَتِ الْبُيُوتَ
وَالْأَطْعِمَةَ وَالْآنِيَةَ، فَلَمْ يَكْشِفْ أَحَدٌ ثَوْبًا وَلَا طَعَامًا
إِلَّا وَجَدَ فِيهِ الضَّفَادِعَ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَهَدَهُمْ
ذَلِكَ، قَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالُوا، فَدَعَا رَبَّهُ فَكَشَفَ عَنْهُمْ،
فَلَمْ يَفُوا لَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا قَالُوا، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الدَّمَ فَصَارَتْ مِيَاهُ آلِ فِرْعَوْنَ دَمًا، لَا يَسْتَقُونَ مِنْ بِئْرٍ،
وَلَا نَهْرٍ وَلَا يَغْتَرِفُونَ مِنْ إِنَاءٍ، إِلَّا عَادَ دَمًا عَبِيطًا.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: الْمُرَادُ بِالدَّمِ الرُّعَافُ. رَوَاهُ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ
لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [ الْأَعْرَافِ: 134 - 136 ]. يُخْبِرُ
تَعَالَى، عَنْ كُفْرِهِمْ وَعُتُوِّهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الضَّلَالِ
وَالْجَهْلِ، وَالِاسْتِكْبَارِ عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللَّهِ، وَتَصْدِيقِ
رَسُولِهِ، مَعَ مَا أَيَّدَ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ الْبَاهِرَةِ
وَالْحُجَجِ الْبَلِيغَةِ الْقَاهِرَةِ، الَّتِي أَرَاهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا
عِيَانًا، وَجَعَلَهَا عَلَيْهِمْ دَلِيلًا وَبُرْهَانًا، وَكُلَّمَا شَاهَدُوا
آيَةً وَعَايَنُوهَا وَجَهَدَتْهُمْ وَأَضْنَكَتْهُمْ، حَلَفُوا وَعَاهَدُوا
مُوسَى; لَئِنْ كَشَفَ عَنْهُمْ
هَذِهِ لِيُؤْمِنُنَّ
بِهِ، وَلَيُرْسِلُنَّ مَعَهُ مَنْ هُوَ مِنْ حِزْبِهِ، فَكُلَّمَا رُفِعَتْ
عَنْهُمْ تِلْكَ الْآيَةُ عَادُوا إِلَى شَرٍّ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ،
وَأَعْرَضُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ،
فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ آيَةً أُخْرَى، هِيَ أَشَدُّ مِمَّا كَانَتْ
قَبْلَهَا وَأَقْوَى، فَيَقُولُونَ، فَيَكْذِبُونَ. وَيَعِدُونَ وَلَا يَفُونَ
لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُكْشَفُ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْوَبِيلُ. ثُمَّ
يَعُودُونَ إِلَى جَهْلِهِمُ الْعَرِيضِ الطَّوِيلِ. هَذَا، وَالْعَظِيمُ
الْحَلِيمُ الْقَدِيرُ يُنْظِرُهُمْ وَلَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ، وَيُؤَخِّرُهُمْ
وَيَتَقَدَّمُ بِالْوَعِيدِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَخَذَهُمْ - بَعْدَ إِقَامَةِ
الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ - أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ،
فَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالًا وَسَلَفًا لِمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ
الْكَافِرِينَ، وَمَثَلًا لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ فِي سُورَةِ
" حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ": وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ
الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ وَمَا
نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ
بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ
قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ
وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ
جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [
الزُّخْرُفِ: 46 - 56 ].
.
يَذْكُرُ تَعَالَى إِرْسَالَهُ عَبْدَهُ الْكَلِيمَ الْكَرِيمَ، إِلَى فِرْعَوْنَ الْخَسِيسِ اللَّئِيمِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَيَّدَ رَسُولَهُ بِآيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَاضِحَاتٍ، تَسْتَحِقُّ أَنْ تُقَابَلَ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّعْظِيمِ، وَأَنْ يَرْتَدِعُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَإِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ، وَبِهَا يَسْتَهْزِئُونَ، وَعَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يَصُدُّونَ، وَعَنِ الْحَقِّ يَحِيدُونَ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ تَتْرَى، يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَكُلُّ آيَةٍ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا الَّتِي تَتْلُوهَا; لِأَنَّ الْمُؤَكَّدَ أَبْلَغُ مِمَّا قَبْلَهُ، وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ السَّاحِرِ فِي زَمَانِهِمْ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا; لِأَنَّ عُلَمَاءَهُمْ، فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، هُمُ السَّحَرَةُ; وَلِهَذَا خَاطَبُوهُ بِهِ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، وَضَرَاعَتِهِمْ لَدَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَبَجُّحِ فِرْعَوْنَ بِمُلْكِهِ وَعَظْمَةِ بَلَدِهِ وَحُسْنِهَا وَتَخَرُّقِ الْأَنْهَارِ فِيهَا، وَهِيَ الْخُلْجَانُ الَّتِي يَكْسِرُونَهَا أَمَامَ زِيَادَةِ النِّيلِ ثُمَّ تَبَجَّحَ بِنَفْسِهِ وَحِلْيَتِهِ وَأَخَذَ يَتَنَقَّصُ رَسُولَ اللَّهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيَزْدَرِيهِ بِكَوْنِهِ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ يَعْنِي كَلَامَهُ، بِسَبَبِ مَا كَانَ فِي لِسَانِهِ مِنْ بَقِيَّةِ تِلْكَ اللُّثْغَةِ، الَّتِي هِيَ شَرَفٌ لَهُ، وَكَمَالٌ وَجَمَالٌ، وَلَمْ تَكُنْ مَانِعَةً لَهُ أَنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَوْحَى إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِ، وَتَنَقَّصَهُ فِرْعَوْنُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، بِكَوْنِهِ لَا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق