ج19.و20.البداية والنهاية لابن كثير
ج19. البداية
والنهاية لابن كثير
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
الشَّامُ، فَأَقَرَّهُ عَلِيٌّ عَلَى
ذَلِكَ. وَأَمْسَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قِتَالٍ الْآخَرِ، وَبَعَثَ
الْجُيُوشَ إِلَى بِلَادِهِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ
الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَتَرَكَ الْعَمَلَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ
السِّيَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ
عَامِلًا عَلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى صَالَحَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ،
وَأَنَّهُ كَانَ شَاهِدًا لِلصُّلْحِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ
وَغَيْرُهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ سَبَبَ خُرُوجِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ الْبَصْرَةِ ;
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَلَّمَ أَبَا الْأَسْوَدِ الدُّئَلِيَّ - وَكَانَ قَاضِيًا
عَلَيْهَا - بِكَلَامٍ فِيهِ غَضٌّ مِنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، فَكَتَبَ أَبُو
الْأَسْوَدِ إِلَى عَلِيٍّ يَشْكُو إِلَيْهِ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَيَنَالُ مَنْ
عِرْضِهِ ; بِأَنَّهُ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ، فَبَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ،
وَحَرَّرَ عَلَيْهِ الْقَضِيَّةَ، فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَتَبَ
إِلَى عَلِيٍّ أَنِ ابْعَثْ إِلَى عَمَلِكَ مَنْ أَحْبَبْتَ فَإِنِّي ظَاعِنٌ
عَنْهُ،
وَالسَّلَامُ. ثُمَّ سَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى مَكَّةَ مَعَ أَخْوَالِهِ بَنِي هِلَالٍ، وَتَبِعَتْهُمْ قَيْسٌ كُلُّهَا، وَقَدْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِمَّا كَانَ اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْعِمَالَةِ وَالْفَيْءِ، وَلَمَّا سَارَ تَبِعَتْهُ أَقْوَامٌ أُخَرُ، فَلَحِقَهُمْ بَنُو تَمِيمٍ وَأَرَادُوا رَدَّهُمْ وَمَنْعَهُمْ مِنَ الْمَسِيرِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ بَعْضُ قِتَالٍ، ثُمَّ تَحَاجَزُوا، وَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَكَّةَ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَرَدَ
فِي ذَلِكَ وَفِي فَضْلِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ وَآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ
كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدِ انْتَقَضَتْ عَلَيْهِ
الْأُمُورُ، وَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ، وَخَالَفَهُ جَيْشُهُ مَنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ، وَنَكَلُوا عَنِ الْقِيَامِ مَعَهُ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ أَهْلِ الشَّامِ وَصَالُوا وَجَالُوا يَمِينًا وَشِمَالًا
زَاعِمِينَ أَنَّ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ ; بِمُقْتَضَى حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ فِي
خَلْعِهِمَا عَلِيًّا وَتَوْلِيَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَ
خُلُوِّ الْإِمْرَةِ عَنْ أَحَدٍ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ بَعْدَ
التَّحْكِيمِ يُسَمُّونَ مُعَاوِيَةَ الْأَمِيرَ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ أَهْلُ
الشَّامِ قُوَّةً ضَعُفَ جَأْشُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَوَهَنُوا، هَذَا
وَأَمِيرُهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ، فَهُوَ أَعْبَدُهُمْ وَأَزْهَدُهُمْ، وَأَعْلَمُهُمْ وَأَخْشَاهُمْ
لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ خَذَلُوهُ وَتَخَلَّوْا
عَنْهُ، وَقَدْ كَانَ يُعْطِيهِمُ الْعَطَاءَ الْكَثِيرَ وَالْمَالَ الْجَزِيلَ، فَلَا زَالَ هَذَا دَأْبَهُمْ مَعَهُ حَتَّى كَرِهَ الْحَيَاةَ وَتَمَنَّى الْمَوْتَ ; وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ وَظُهُورِ الْمِحَنِ، فَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: مَاذَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا - أَيْ مَا يَنْتَظِرُ - مَا لَهُ لَا يَقْتُلُ ؟ ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ - وَيُشِيرُ إِلَى لِحْيَتِهِ - مِنْ هَذِهِ. وَيُشِيرُ إِلَى هَامَتِهِ. كَمَا قَالَ: الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ، ثَنَا أَبُو الْجَوَّابِ الْأَحْوَصُ بْنُ جَوَّابٍ، ثَنَا عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ - لِلِحْيَتِهِ مِنْ رَأْسِهِ - فَمَا يَحْبِسُ أَشْقَاهَا ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبُعٍ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ رَجُلَا فَعَلَ ذَلِكَ لَأَبَرْنَا عِتْرَتَهُ. فَقَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ يُقْتَلَ بِي غَيْرُ قَاتِلِي. فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا تَسْتَخْلِفُ ؟ فَقَالَ: لَا وَلَكِنِّي أَتْرُكُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَمَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا لَقِيتَهُ وَقَدْ تَرَكْتَنَا هَمَلًا ؟ قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ اسْتَخْلَفْتَنِي فِيهِمْ مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ قَبَضْتَنِي وَتَرَكْتُكَ فِيهِمْ، فَإِنْ شِئْتَ أَصْلَحْتَهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَفْسَدْتَهُمْ. فِيهِ ضَعْفٌ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى قَالَ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: جَاءَ رَأْسُ الْخَوَارِجِ
إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ. فَقَالَ: لَا
وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، وَلَكِنْ مَقْتُولٌ مِنْ
ضَرْبَةٍ عَلَى هَذِهِ تُخَضِّبُ هَذِهِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَتِهِ -
عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَقَضَاءٌ مَقْضِيٌّ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا سُوَيْدُ بْنُ
سَعِيدٍ، ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أُسَامَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّقَالَ
لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ أَشْقَى
الْأَوَّلِينَ " ؟ قُلْتُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ: " صَدَقْتَ،
فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ ؟ " قُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: " الَّذِي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذِهِ ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى
يَافُوخِهِ. قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أَشْقَاكُمْ
فَيُخَضِّبُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ دَمِ رَأْسِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبُعٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:
لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَمَا يَنْتَظِرُ بِي الْأَشْقَى ؟ فَقَالُوا:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا بِهِ نُبِيرُ عِتْرَتَهُ. قَالَ: إِذًا تَاللَّهِ
تَقْتُلُونَ بِي غَيْرَ قَاتِلِي ! قَالُوا: فَاسْتَخْلِفْ عَلَيْنَا. قَالَ: لَا،
وَلَكِنْ أَتْرُكُكُمْ إِلَى مَا تَرَكَكُمْ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: فَمَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إِذَا أَتَيْتَهُ ؟
قَالَ: أَقُولُ: اللَّهُمَّ تَرَكْتَنِي فِيهِمْ مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ
قَبَضْتَنِي إِلَيْكَ وَأَنْتَ فِيهِمْ، فَإِنْ شِئْتَ أَصْلَحْتَهُمْ، وَإِنْ
شِئْتَ أَفْسَدْتَهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا أَبُو
بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَبُعٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ فَقَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ
النَّسَمَةَ لَتُخَضَّبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ:
فَأَعْلِمْنَا مَنْ هُوَ، وَاللَّهِ لَنُبِيدَنَّهُ أَوْ لَنُبِيدَنَّ عِتْرَتَهُ.
قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَنْ يُقْتَلَ غَيْرُ قَاتِلِي. قَالُوا: إِنْ
كُنْتَ قَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاسْتَخْلِفْ إِذًا. قَالَ: لَا، وَلَكِنْ
أَكِلُكُمْ إِلَى مَا وَكَلَكُمْ إِلَيْهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثَنَا مُحَمَّدٌ -
يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ
فَضَالَةَ بْنَ أَبِي فَضَالَةَ الْأَنْصَارِيِّ - وَكَانَ أَبُو فَضَالَةَ مِنْ
أَهْلِ بَدْرٍ - قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَائِدًا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ مِنْ مَرَضٍ أَصَابَهُ ثَقُلَ مِنْهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ أَبِي: مَا
يُقِيمُكَ بِمَنْزِلِكَ هَذَا ؟ لَوْ أَصَابَكَ أَجَلُكَ لَمْ يَلِكَ إِلَّا
أَعْرَابُ جُهَيْنَةَ، تُحْمَلُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ أَصَابَكَ أَجَلُكَ
وَلِيَكَ أَصْحَابُكَ وَصَلَّوْا عَلَيْكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهِدَ إِلَيَّ أَلَّا أَمُوتَ حَتَّى
أُؤَمَّرَ ثُمَّ تُخْضَبَ هَذِهِ - يَعْنِي لِحْيَتَهُ - مِنْ دَمِ هَذِهِ.
يَعْنِي هَامَتَهُ، قَالَ: فَقُتِلَ وَقُتِلَ أَبُو فَضَالَةَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ
صِفِّينَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي
" الدَّلَائِلِ " عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ مُكْرَمٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْهُ: قَالَ: الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي "
مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبَانٍ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ثَنَا كُوفِيٌّ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَعْيَنَ. عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَلَامٍ وَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي غَرْزِ الرِّكَابِ: لَا تَأْتِ الْعِرَاقَ ;
فَإِنَّكَ إِنْ أَتَيْتَهَا أَصَابَكَ بِهَا ذُبَابُ السَّيْفِ. قَالَ: وَايْمُ
اللَّهِ لَقَدْ قَالَهَا، وَلَقَدْ قَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِي قَبْلَهُ. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: فَقُلْتُ: تَاللَّهِ مَا
رَأَيْتُ رَجُلًا مُحَارِبًا يُحَدِّثُ بِهَذَا غَيْرَكَ. ثُمَّ قَالَ
الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِهَذَا
الْإِسْنَادِ، وَلَا نَعْلَمُ رَوَاهُ
إِلَّا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي حَرْبٍ، وَلَا رَوَاهُ عَنْهُ
إِلَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ. هَكَذَا قَالَ، وَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الطُّرُقِ
الْمُتَعَدِّدَةِ خِلَافَ ذَلِكَ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ طَرَفًا
مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ: وَقَدْ رُوِّينَا فِي كِتَابِ " السُّنَنِ " بِإِسْنَادٍ
صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ
عَلِيٍّ فِي إِخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَخْبَرَنِي عَلِيُّ
بْنُ الْقَاسِمِ الْبَصْرِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَادَرَائِيُّ،
أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ
الْوَرَّاقُ، ثَنَا نَاصِحٌ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَلِّمِيُّ، عَنْ سِمَاكٍ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " مَنْ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ ؟ " قَالَ: عَاقِرُ
النَّاقَةِ. قَالَ: " فَمَنْ أَشْقَى الْآخِرِينَ ؟ " قَالَ: اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " قَاتِلُكَ ".
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ فِطْرِ بْنِ
خَلِيفَةَ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سِياهٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ الْحِمَّانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا عَلَى
الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ " إِنَّ الْأُمَّةَ سَتَغْدِرُ
بِكَ بَعْدِي ". قَالَ الْبُخَارِيُّ: ثَعْلَبَةُ بْنُ يَزِيدَ
الْحِمَّانِيُّ فِي
حَدِيثِهِ نَظَرٌ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِّينَاهُ بِإِسْنَادٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ إِنْ
كَانَ مَحْفُوظًا ; أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ، أَنَا أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ شَوْذَبٍ الْوَاسِطِيُّ بِهَا، ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ،
ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ عَنْ
أَبِي إِدْرِيسَ الْأَزْدِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: إِنَّ مِمَّا عَهِدَ إِلَيَّ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْأُمَّةَ
سَتَغْدِرُ بِكَ بَعْدِي ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَإِنْ صَحَّ فَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فِي خُرُوجِ مَنْ خَرَجَ
عَلَيْهِ فِي إِمَارَتِهِ ثُمَّ فِي قَتْلِهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ الْأَقْمَرِ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ يَوْمَ
جُمُعَةٍ فَقَالَ: نُبِّئْتُ أَنْ بُسْرًا قَدْ طَلَعَ الْيَمَنَ، وَإِنِّي
وَاللَّهِ لَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيَظْهَرُونَ عَلَيْكُمْ، وَمَا
يَظْهَرُونَ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِعِصْيَانِكُمْ إِمَامَكُمْ وَطَاعَتِهِمْ
إِمَامَهُمْ، وَخِيَانَتِكُمْ وَأَمَانَتِهِمْ، وَإِفْسَادِكُمْ
فِي أَرْضِكُمْ وَإِصْلَاحِهِمْ فِي
أَرْضِهِمْ، قَدْ بَعَثْتُ فُلَانًا فَخَانَ وَغَدَرَ، وَبَعَثْتُ فُلَانًا
فَخَانَ وَغَدَرَ وَبَعَثَ الْمَالَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، لَوِ ائْتَمَنْتُ
أَحَدَكُمْ عَلَى قَدَحٍ لَأَخَذَ عِلَاقَتَهُ، اللَّهُمَّ سَئِمْتُهُمْ
وَسَئِمُونِي وَكَرِهْتُهُمْ وَكَرِهُونِي، اللَّهُمَّ فَأَرِحْهُمْ مِنِّي
وَأَرِحْنِي مِنْهُمْ. قَالَ: فَمَا صَلَّى الْجُمُعَةَ الْأُخْرَى حَتَّى قُتِلَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
صِفَةُ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ
وَأَيَّامِ النَّاسِ، أَنَّ ثَلَاثَةً مِنِ الْخَوَارِجِ ; وَهُمْ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلْجَمٍ الْحِمْيَرِيُّ ثُمَّ
الْكِنْدِيُّ حَلِيفُ بَنِي جَبَلَةَ مِنْ كِنْدَةَ، الْمِصْرِيُّ، وَكَانَ أَسْمَرَ
حَسَنَ الْوَجْهِ أَبْلَجَ، شَعْرُهُ مَعَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، وَفِي جَبْهَتِهِ
أَثَرُ السُّجُودِ. وَالْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ. وَعَمْرُو
بْنُ بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا، اجْتَمَعُوا فَتَذَاكَرُوا قَتْلَ عَلِيٍّ
إِخْوَانَهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَقَالُوا:
مَاذَا نَصْنَعُ بِالْبَقَاءِ بَعْدَهُمْ ؟! كَانُوا مِنْ خَيْرِ النَّاسِ
وَأَكْثَرَهُمْ صَلَاةً، وَكَانُوا دُعَاةَ النَّاسِ إِلَى رَبِّهِمْ، لَا
يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَلَوْ شَرَيْنَا أَنْفُسَنَا
فَأَتَيْنَا أَئِمَّةَ الضَّلَالَةِ فَقَتَلْنَاهُمْ فَأَرَحْنَا مِنْهُمُ
الْبِلَادَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ثَأْرَ إِخْوَانِنَا. فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ
أَنَا أَكْفِيكُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ. وَقَالَ الْبُرَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَتَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا أَنْ لَا يَنْكِصَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ أَوْ يَمُوتَ دُونَهُ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ فَسَمُّوهَا، وَاتَّعَدُوا لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ أَنْ يُبَيِّتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ صَاحِبَهُ فِي بَلَدِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَأَمَّا ابْنُ مُلْجَمٍ فَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا، وَكَتَمَ أَمْرَهُ حَتَّى عَنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ الرَّبَابِ وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ قَتْلَاهُمْ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ إِذْ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا: قَطَامِ بِنْتُ الشِّجْنَةِ. قَدْ قَتَلَ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ أَبَاهَا وَأَخَاهَا، وَكَانَتْ فَائِقَةَ الْجَمَالِ مَشْهُورَةً بِهِ، وَكَانَتْ قَدِ انْقَطَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ تَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَلَمَّا رَآهَا ابْنُ مُلْجَمٍ سَلَبَتْ عَقْلَهُ، وَنَسِيَ حَاجَتَهُ الَّتِي جَاءَ لَهَا، وَخَطَبَهَا إِلَى نَفْسِهَا، فَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَخَادِمًا وَقَيْنَةً، وَأَنْ يَقْتُلَ لَهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: فَهُوَ لَكِ، وَوَاللَّهِ مَا جَاءَ بِي إِلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ إِلَّا قَتْلُ عَلِيٍّ. فَتَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا، ثُمَّ شَرَعَتْ تُحَرِّضُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَنَدَبَتْ لَهُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهَا مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ يُقَالُ لَهُ: وَرْدَانُ. لِيَكُونَ مَعَهُ رِدْءًا، وَاسْتَمَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ رَجُلًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ الْأَشْجَعِيُّ الْحَرُورِيُّ. قَالَ لَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ هَلْ لَكَ فِي شَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: قَتْلُ عَلِيٍّ. فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ! لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِدًّا، كَيْفَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: أَكْمُنُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا خَرَجَ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ شَدَدْنَا عَلَيْهِ فَقَتَلْنَاهُ، فَإِنْ نَجَوْنَا شَفَيْنَا أَنْفُسَنَا وَأَدْرَكْنَا ثَأْرَنَا، وَإِنْ قُتِلْنَا فَمَا
عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا. فَقَالَ: وَيْحَكَ لَوْ غَيْرَ عَلِيٍّ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ، قَدْ عَرَفْتُ سَابِقَتَهُ فِي الْإِسْلَامِ وَقَرَابَتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا أَجِدُنِي أَنْشَرِحُ صَدْرًا لِقَتْلِهِ. فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ ؟ فَقَالَ: بَلَى قَالَ: فَنَقْتُلُهُ بِمَنْ قَتَلَ مِنْ إِخْوَانِنَا. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ لَأْيٍ. وَدَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَوَاعَدَهُمُ ابْنُ مُلْجَمٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ، وَقَالَ: هَذِهِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْتُ أَصْحَابِي يَقْتُلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا فِيهَا صَاحِبَهُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ. ثُمَّ جَاءُوا إِلَى قَطَامِ، وَهِيَ امْرَأَةُ ابْنِ مُلْجَمٍ، فَدَعَتْ لَهُمْ بِعِصَبِ الْحَرِيرِ فَعَصَبَتْهُمْ بِهَا، وَكَانَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ; وَهُمُ ابْنُ مُلْجَمٍ وَوَرْدَانُ وَشَبِيبٌ، وَهُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَى سُيُوفِهِمْ، فَجَلَسُوا مُقَابِلَ السُّدَّةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا عَلِيٌّ، فَلَمَّا خَرَجَ جَعَلَ يُنْهِضُ النَّاسَ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ. فَثَارَ إِلَيْهِ شَبِيبٌ بِالسَّيْفِ فَضَرَبَهُ فَوَقَعَ فِي الطَّاقِ، فَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ بِالسَّيْفِ عَلَى قَرْنِهِ، فَسَالَ دَمُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمَّا ضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ قَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، لَيْسَ لَكَ يَا عَلِيُّ وَلَا لِأَصْحَابِكَ. وَجَعَلَ يَتْلُو قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [ الْبَقَرَةِ: 207 ] وَنَادَى عَلِيٌّ: عَلَيْكُمْ بِهِ. وَهَرَبَ وَرْدَانُ، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ فَقَتَلَهُ، وَذَهَبَ شَبِيبٌ فَنَجَا بِنَفْسِهِ وَفَاتَ النَّاسَ، وَمُسِكَ ابْنُ مُلْجَمٍ، وَقَدَّمَ عَلِيٌّ جَعْدَةَ بْنَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَحُمِلَ عَلِيٌّ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ مَكْتُوفٌ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ
عَدُوَّ اللَّهِ، أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ
عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: شَحَذْتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ
يَقْتُلَ بِهِ شَرَّ خَلْقِهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ: لَا أُرَاكَ إِلَّا
مَقْتُولًا بِهِ، وَلَا أُرَاكَ إِلَّا مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ
مِتُّ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، ثَنَا
شَرِيكٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِي تِحْيَى قَالَ: لَمَّا ضَرَبَ
ابْنُ مُلْجَمٍ عَلِيًّا قَالَ لَهُمُ: افْعَلُوا بِهِ كَمَا أَرَادَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَفْعَلَ بِرَجُلٍ أَرَادَ
قَتْلَهُ فَقَالَ " اقْتُلُوهُ ثُمَّ حَرِّقُوهُ ".
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ قَالَتْ لِابْنِ مُلْجَمٍ
وَهُوَ وَاقِفٌ: وَيْحَكَ ! لِمَ ضَرَبْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ:
إِنَّمَا ضَرَبْتُ أَبَاكِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ لَا بَأْسَ عَلَيْهِ. فَقَالَ:
فَلِمَ تَبْكِينَ ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ ضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً لَوْ أَصَابَتْ أَهْلَ
الْمِصْرِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سَمَمْتُ هَذَا السَّيْفَ
شَهْرًا، وَلَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ وَسَمَمْتُهُ بِأَلْفٍ.
فَقَالَ جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ مِتَّ
نُبَايِعُ الْحَسَنَ ؟ فَقَالَ: لَا آمُرُكُمْ وَلَا أَنْهَاكُمْ، أَنْتُمْ
أَبْصَرُ. وَلَمَّا احْتُضِرَ عَلِيٌّ جَعْلَ يُكْثِرُ مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، لَا يَنْطِقُ بِغَيْرِهَا - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [ الزَّلْزَلَةِ: 7، 8 ] - وَقَدْ
أَوْصَى وَلَدَيْهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ، وَغَفْرِ الذَّنْبَ،
وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَصِلَةِ
الرَّحِمِ، وَالْحِلْمِ عَنِ الْجَاهِلِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ،
وَالتَّثَبُّتِ فِي الْأَمْرِ، وَالتَّعَاهُدِ لِلْقُرْآنِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ،
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاجْتِنَابِ
الْفَوَاحِشِ، وَوَصَّاهُمَا بِأَخِيهِمَا مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ،
وَوَصَّاهُ بِمَا وَصَّاهُمَا بِهِ، وَأَنْ يُعَظِّمَهُمَا وَلَا يَقْطَعَ أَمْرًا
دُونَهُمَا، وَكَتَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ وَصِيَّتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَصُورَةُ الْوَصِيَّةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا
أَوْصَى بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ; أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ إِنَّ صِلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُوصِيكَ يَا حَسَنُ وَجَمِيعَ وَلَدِي وَأَهْلِي
وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ رَبِّكُمْ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ " إِنَّ صَلَاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ
الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ". انْظُرُوا إِلَى ذَوِي أَرْحَامِكُمْ فَصِلُوهُمْ
يُهَوِّنِ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحِسَابَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ ;
فَلَا تُعْفُوا أَفَوَاهَهُمْ وَلَا يُضَيَّعُنَّ بِحَضْرَتِكُمْ، وَاللَّهَ
اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ ; فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ
سَيُورَثِّهُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ ; فَلَا يَسْبِقَنَّكُمْ إِلَى
الْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ ; فَإِنَّهَا
عَمُودُ دِينِكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ، فَلَا يَخْلُوَنَّ
مِنْكُمْ مَا بَقِيتُمْ ; فَإِنَّهُ
إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ; فَإِنَّ
صِيَامَهُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الزَّكَاةِ ;
فَإِنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي ذِمَّةِ نَبِيِّكُمْ
; لَا تُظْلَمَنَّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِ
نَبِيِّكُمْ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى
بِهِمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَأَشْرِكُوهُمْ فِي
مَعَاشِكُمْ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَإِنَّ آخِرَ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ قَالَ:
" أُوصِيكُمْ بِالضَّعِيفَيْنِ ; نِسَائِكُمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
". الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، لَا تَخَافُنَّ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ
يَكْفِكُمْ مَنْ أَرَادَكُمْ وَبَغَى عَلَيْكُمْ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا
كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ، وَلَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ
عَنِ الْمُنْكَرِ، فَيُوَلَّى الْأَمْرَ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا
يُسْتَجَابُ لَكُمْ، وَعَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَالتَّبَاذُلِ، وَإِيَّاكُمْ
وَالتَّدَابُرَ وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّفَرُّقَ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ حَفِظَكُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ،
وَحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ، وَأَقْرَأُ عَلَيْكُمُ
السَّلَامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ. ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ إِلَّا بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، حَتَّى قُبِضَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَقَدْ غَسَّلَهُ ابْنَاهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَسَنُ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ.
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مَنْ بَجِيلَةَ، عَنْ
مَشْيَخَةِ قَوْمِهِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ رَأَى امْرَأَةً
مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ يَقُولُ لَهَا: قَطَامِ. كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ
النِّسَاءِ، تَرَى رَأْيَ الْخَوَارِجِ، قَدْ قَتَلَ عَلِيٌّ قَوْمَهَا عَلَى
هَذَا
الرَّأْيِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهَا
عَشِقَهَا فَخَطَبَهَا، فَقَالَتْ: لَا أَتَزَوَّجُكَ إِلَّا عَلَى ثَلَاثَةِ
آلَافٍ وَعَبْدٍ وَقَيْنَةٍ وَقَتْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَتَزَوَّجَهَا
عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا بَنَى بِهَا قَالَتْ لَهُ: يَا هَذَا، قَدْ فَرَغْتُ مِنْ
حَاجَتِكَ، فَافْرُغْ مِنْ حَاجَتِي. فَخَرَجَ مُلْبَسًا سِلَاحُهُ، وَخَرَجَتْ
فَضَرَبَتْ لَهُ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، وَخَرَجَ عَلِيٌّ يَقُولُ: الصَّلَاةَ
الصَّلَاةَ. فَأَتْبَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى
قَرْنِ رَأْسِهِ، فَقَالَ الشَّاعِرُ - قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ ابْنُ مَيَّاسٍ
الْمُرَادِيُّ -:
وَلَمْ أَرَ مَهْرًا سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ كَمَهْرِ قَطَامٍ بَيِّنًا غَيْرَ
مُعْجَمِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَعَبْدٌ وَقَيْنَةٌ
وَقَتْلُ عَلِيٍّ بِالْحُسَامِ الْمُصَمَّمِ فَلَا مَهْرَ أَغْلَى مِنْ عَلِيٍّ
وَإِنْ غَلَا
وَلَا قَتْلَ إِلَّا دُونَ قَتْلِ ابْنِ مُلْجَمِ
وَلِابْنِ مَيَّاسٍ فِي قَتْلِهِمْ عَلِيًّا:
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا يَا لَكَ الْخَيْرُ حَيْدَرًا أَبَا حَسَنٍ مَأْمُومَةً
فَتَفَطَّرَا
وَنَحْنُ خَلَعْنَا مُلْكَهُ مِنْ نِظَامِهِ بِضَرْبَةِ سَيْفٍ إِذْ عَلَا
وَتَجَبَّرَا
وَنَحْنُ كِرَامٌ فِي الْهَيَاجِ
أَعِزَّةٌ إِذَا الْمَوْتُ بِالْمَوْتِ ارْتَدَى وَتَأَزَّرَا
وَقَدِ امْتَدَحَ ابْنَ مُلْجَمٍ بَعْضُ الْخَوَارِجِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي
زَمَنِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ - وَكَانَ أَحَدَ
الْعُبَّادِ مِمَّنْ يَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ
" - فَقَالَ فِيهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي
الْعَرْشِ رِضْوَانًا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ
مِيزَانًا
وَأَمَّا صَاحِبُ مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ الْبُرَكُ - فَإِنَّهُ حَمَلَ عَلَيْهِ
وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَضَرَبَهُ
بِالسَّيْفِ، وَقِيلَ: بِخِنْجَرٍ مَسْمُومٍ. فَجَاءَتِ الضَّرْبَةُ فِي وَرْكِهِ
فَجَرَحَتْ أَلْيَتُهُ، وَمُسِكَ الْخَارِجِيُّ فَقُتِلَ، وَقَدْ قَالَ
لِمُعَاوِيَةَ: اتْرُكْنِي فَإِنِّي أُبَشِّرُكَ بِبِشَارَةٍ. فَقَالَ: وَمَا هِيَ
؟ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي قَدْ قَتَلَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: فَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ. قَالَ: بَلَى، إِنَّهُ لَا
حَرَسَ مَعَهُ. فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ، وَجَاءَ الطَّبِيبُ إِلَى مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ: إِنَّ جُرْحَكَ مَسْمُومٌ ; فَإِمَّا أَنْ أَكْوِيَكَ وَإِمَّا أَنْ
أَسْقِيَكَ شَرْبَةً فَيَذْهَبُ السُّمُّ، وَلَكِنْ يَنْقَطِعُ نَسْلُكَ. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: أَمَّا النَّارُ فَلَا طَاقَةَ لِي بِهَا، وَأَمَّا النَّسْلُ فَفِي
يَزِيدَ وَعَبْدِ اللَّهِ مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنِي. فَسَقَاهُ شَرْبَةً، فَبَرِأَ
مِنْ أَلَمِهِ وَجِرَاحِهِ، وَانْقَطَعَ النَّسْلُ وَسَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْ حِينَئِذٍ عُمِلَتِ الْمَقْصُورَةُ فِي الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ، وَجُعِلَ الْحَرَسُ حَوْلَهَا فِي حَالِ السُّجُودِ، فَكَانَ أَوَّلَ
مَنِ اتَّخَذَهَا مُعَاوِيَةُ ; لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ.
وَأَمَّا صَاحِبُ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ - وَهُوَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ - فَإِنَّهُ كَمَنَ لَهُ لِيَخْرُجَ إِلَى
الصَّلَاةِ، فَاتَّفَقَ أَنْ عَرَضَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَغَصٌ شَدِيدٌ فِي
تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَّا نَائِبُهُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ
خَارِجَةُ بْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَكَانَ عَلَى
شُرْطَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ الْخَارِجِيُّ فَقَتَلَهُ،
وَهُوَ يَعْتَقِدُهُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فَلَمَّا أَخَذَ الْخَارِجِيُّ قَالَ:
أَرَدْتُ عَمْرًا وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ. فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، ثُمَّ
قُتِلَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَالَهَا عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ. وَذَلِكَ حِينَ جِيءَ بِالْخَارِجِيِّ فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا:
قَتَلَ نَائِبَكَ خَارِجَةَ. فَقَالَ الْخَارِجِيُّ: وَاللَّهِ مَا أَرْدْتُ
إِلَّا إِيَّاكَ. فَقَالَ عَمْرٌو: أَرَدْتَنِي وَأَرَادَ اللَّهُ خَارِجَةَ. ثُمَّ
أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا مَاتَ صَلَّى
عَلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَدُفِنَ
بِدَارِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ ; خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنْ
يَنْبُشُوا عَنْ جُثَّتِهِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ
حُمِلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَذَهَبَتْ بِهِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَتْ. فَقَدْ
أَخْطَأَ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَلَا يُسِيغُهُ عَقْلٌ وَلَا
شَرْعٌ، وَمَا يَعْتَقِدُهُ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ الرَّوَافِضِ مِنْ أَنَّ
قَبْرَهُ بِمَشْهَدِ النَّجَفِ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَصْلَ لَهُ،
وَيُقَالُ: إِنَّمَا ذَاكَ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ حَكَاهُ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الطَّلْحِيِّ،
عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَضْرَمِيِّ الْحَافِظِ، هُوَ مُطَيَّنٌ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ عَلِمَتِ
الشِّيعَةُ قَبْرَ هَذَا الَّذِي يُعَظِّمُونَهُ بِالنَّجَفِ لَرَجَمُوهُ
بِالْحِجَارَةِ، هَذَا قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ الْبَاقِرَ: كَمْ كَانَ سِنُّ
عَلِيٍّ يَوْمَ قُتِلَ ؟ قَالَ: ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً. قُلْتُ: أَيْنَ
دُفِنَ ؟ قَالَ: دُفِنَ بِالْكُوفَةِ لَيْلًا، وَقَدْ غُبِّيَ عَنِّي دَفْنُهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ
ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا دُفِنَ قِبْلَيَّ
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مِنَ الْكُوفَةِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَالْمَشْهُورُ
أَنَّهُ دُفِنَ بِدَارِ الْإِمَارَةِ. وَقِيلَ: بِحَائِطِ جَامِعِ الْكُوفَةِ.
وَقَدْ حَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْلِ بْنِ
دُكَيْنٍ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ حَوَّلَاهُ فَنَقَلَاهُ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَدَفَنَاهُ بِالْبَقِيعِ عِنْدَ قَبْرِ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ
أُمِّهِمَا. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا حَمَلُوهُ عَلَى الْبَعِيرِ ضَلَّ
مِنْهُمْ، فَأَخَذَتْهُ طَيِّئٌ يَظُنُّونَهُ مَالًا، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ
الَّذِي فِي الصُّنْدُوقِ مَيِّتٌ، وَلَمْ يَعْرِفُوا مَنْ هُوَ دَفَنُوا
الصُّنْدُوقَ بِمَا فِيهِ، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَيْنَ قَبْرُهُ. حَكَاهُ
الْخَطِيبُ أَيْضًا.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: دَفَنْتُ عَلِيًّا فِي حُجْرَةٍ مِنْ دُورِ
آلِ جَعْدَةَ.
وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا حَفَرَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ أَسَاسَ دَارِ ابْنِهِ يَزِيدَ اسْتَخْرَجُوا شَيْخًا مَدْفُونًا أَبْيَضَ
الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، كَأَنَّمَا دُفِنَ بِالْأَمْسِ، فَهَمَّ بِإِحْرَاقِهِ،
ثُمَّ صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، فَاسْتَدْعَى بِقَبَاطِيَّ
فَلَفَّهُ فِيهَا، وَطَيَّبَهُ وَتَرَكَهُ مَكَانَهُ. قَالُوا: وَذَلِكَ
الْمَكَانُ بِحِذَاءِ بَابِ الْوَرَّاقِينَ مِمَّا يَلِي قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فِي
بَيْتِ إِسْكَافٍ، وَمَا يَكَادُ يَقِرُّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَحَدٌ إِلَّا
انْتَقَلَ مِنْهُ
. وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ قَالَ: صُلِّيَ عَلَى عَلِيٍّ
لَيْلًا، وَدُفِنَ بِالْكُوفَةِ، وَعُمِّيَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ
قَصْرِ الْإِمَارَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: شَهِدَ دَفْنَهُ فِي اللَّيْلِ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ وَابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ
وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِمْ، فَدَفَنُوهُ فِي ظَاهِرِ الْكُوفَةِ
وَعَمُّوا قَبْرَهُ ; خِيفَةً عَلَيْهِ مِنِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنْ عَلِيًّا قُتِلَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ سَحَرًا، وَذَلِكَ
لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعِينَ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ قُتِلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ
الْأَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَدُفِنَ بِالْكُوفَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَصَحَّحَهُ
الْوَاقِدِيُّ وَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَقِيلَ: عَنْ خَمْسٍ
وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
فَلَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَدْعَى الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيٍّ بِابْنِ مُلْجَمٍ، فَقَالَ: لَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ: إِنِّي أَعْرِضُ
عَلَيْكَ خَصْلَةً. قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ عَاهَدْتُ اللَّهَ
عِنْدَ الْحَطِيمِ أَنْ أَقْتُلَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُمَا،
فَإِنْ خَلَّيْتَنِي ذَهَبْتُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، عَلَى أَنِّي إِنْ لَمْ
أَقْتُلْهُ أَوْ قَتَلْتُهُ وَبَقِيتُ، فَلَكَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَنْ
أَرْجِعَ إِلَيْكَ حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ:
كَلَّا وَاللَّهَ حَتَّى تُعَايِنَ النَّارَ. ثُمَّ قَدَّمَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ
أَخَذَهُ النَّاسُ فَأَدْرَجُوهُ فِي بِوَارِيَّ، ثُمَّ أَحْرَقُوهُ بِالنَّارِ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرَجْلَيْهِ
وَكُحِلَتْ عَيْنَاهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ سُورَةَ اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ جَاءُوا لِيَقْطَعُوا لِسَانَهُ
فَجَزِعَ، وَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ تَمُرَّ عَلَيَّ سَاعَةٌ لَا أَذْكُرُ
اللَّهَ فِيهَا. ثُمَّ قَطَعُوا لِسَانَهُ، ثُمَّ قَتَلُوهُ ثُمَّ حَرَقُوهُ فِي
قَوْصَرَّةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، ثَنَا ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ
عُمَرَ قَالَ: ضُرِبَ عَلِيٌّ يَوْمَ
الْجُمْعَةِ، فَمَكَثَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ السَّبْتِ، وَتُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ، لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ
الثَّبْتُ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ زَوْجَاتِهِ وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:لَمَّا وُلِدَ
الْحَسَنُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
" أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟ " فَقُلْتُ: سَمَّيْتُهُ
حَرْبًا. فَقَالَ: " بَلْ هُوَ حَسَنٌ ". فَلَمَّا وُلِدَ الْحُسَيْنُ
قَالَ: " أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟ " فَقُلْتُ:
سَمَّيْتُهُ حَرْبًا. قَالَ: " بَلْ هُوَ حُسَيْنٌ ". فَلَمَّا وُلِدَ
الثَّالِثُ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرُونِي
ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟ " فَقُلْتُ: حَرْبًا. فَقَالَ: " بَلْ
هُوَ مُحَسِّنٌ ". ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي سَمَّيْتُهُمْ بِاسْمِ وَلَدِ
هَارُونَ ; شَبَّرُ وَشَبِيرٌ وَمُشَبِّرٌ ". وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِيسَى التَّيْمِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ
بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: كُنْتُ رَجُلًا أُحِبُّ الْحَرْبَ،
فَلَمَّا وُلِدَ الْحَسَنُ هَمَمْتُ أَنْ أُسَمِّيَهُ حَرْبًا. فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرِ الثَّالِثَ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ عَلِيًّا سَمَّى الْحَسَنَ أَوَّلًا بِحَمْزَةَ
وَحُسَيْنًا بِجَعْفَرٍ، فَغَيَّرَ اسْمَيْهِمَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَأَوَّلُ زَوْجَةٍ تَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاطِمَةُ
بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَنَى بِهَا بَعْدَ
وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ الْحَسَنَ وَحُسَيْنًا، وَيُقَالُ:
وَمُحَسِّنًا. وَمَاتَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَوَلَدَتْ لَهُ زَيْنَبَ الْكُبْرَى،
وَأُمَّ كُلْثُومٍ الْكُبْرَى، وَهِيَ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ عَلِيٌّ عَلَى فَاطِمَةَ حَتَّى
تُوُفِّيَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتَّةِ
أَشْهُرٍ، فَلَمَّا مَاتَتْ تَزَوَّجَ بَعْدَهَا بِزَوْجَاتٍ كَثِيرَةٍ ;
مِنْهُنَّ مَنْ تُوُفِّيَتْ فِي حَيَاتِهِ وَمِنْهُنَّ مَنْ طَلَّقَهَا وَتُوُفِّيَ
عَنْ أَرْبَعٍ، كَمَا سَيَأْتِي.
فَمِنْ زَوْجَاتِهِ أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ حِزَامٍ وَهُوَ أَبُو الْمُحِلِّ بْنُ
خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْوَحِيدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كِلَابٍ،
فَوَلَدَتْ لَهُ الْعَبَّاسَ وَجَعْفَرًا وَعَبْدَ اللَّهِ وَعُثْمَانَ، وَقَدْ
قُتِلَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَخِيهِمُ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ، وَلَا عَقِبَ لَهُمْ
سِوَى الْعَبَّاسِ.
وَمِنْهُنَّ لَيْلَى بِنْتُ مَسْعُودِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَالِكٍ، مِنْ بَنِي
تَمِيمٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ وَأَبَا بَكْرٍ. قَالَ هِشَامُ بْنُ
الْكَلْبِيِّ وَقَدْ قُتِلَا بِكَرْبَلَاءَ أَيْضًا. وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ
عُبَيْدَ اللَّهِ قَتَلَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ يَوْمَ الْمَذَارِ.
وَمِنْهُنَّ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى
وَمُحَمَّدًا الْأَصْغَرَ.
قَالَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى وَعَوْنًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَأَمَّا
مُحَمَّدٌ الْأَصْغَرُ فَمِنْ أُمِّ وَلَدٍ.
وَمِنْهُنَّ أُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ بُجَيْرِ بْنِ الْعَبْدِ بْنِ
عَلْقَمَةَ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ مِنَ السَّبْيِ الَّذِينَ سَبَاهُمْ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ حِينَ أَغَارَ عَلَى عَيْنِ التَّمْرِ فَوَلَدَتْ
لَهُ عُمَرَ - وَقَدْ عُمِّرَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً - وَرُقَيَّةَ.
وَمِنْهُنَّ أُمُّ سَعِيدٍ بِنْتُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ
مَالِكٍ الثَّقَفِيِّ، فَوَلَدَتْ لَهُ أُمَّ الْحَسَنِ وَرَمْلَةَ الْكُبْرَى.
وَمِنْهُنَّ ابْنَةُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَوْسِ بْنِ جَابِرِ
بْنِ كَعْبِ بْنِ عُلَيْمِ بْنِ كَلْبٍ الْكَلْبِيَّةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ
جَارِيَةً، فَكَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ عَلِيٍّ إِلَى الْمَسْجِدِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ،
فَيُقَالُ لَهَا: مَنْ أَخْوَالُكِ ؟ فَتَقُولُ: وَهْ وَهْ تَعْنِي بَنِي كَلْبٍ.
وَمِنْهُنَّ أُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى
بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ الَّتِي كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُهَا وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ ; إِذَا قَامَ حَمَلَهَا، وَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا - فَوَلَدَتْ لَهُ
مُحَمَّدًا الْأَوْسَطَ.
وَأَمَّا ابْنُهُ مُحَمَّدٌ الْأَكْبَرُ فَهُوَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهِيَ
خَوْلَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ قَيْسِ بْنِ
مَسْلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ حَنِيفَةَ بْنِ
لُجَيْمِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، سَبَاهَا خَالِدٌ
أَيَّامَ الصِّدِّيقِ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَصَارَتْ
لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدًا هَذَا، وَمِنَ
الشِّيعَةِ مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الْإِمَامَةَ وَالْعِصْمَةَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ
سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ وَلَا أَبُوهُ مَعْصُومٌ،
بَلْ وَلَا مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَبِيهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
قَبْلَهُ لَيْسُوا بِوَاجِبِي الْعِصْمَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ لِعَلِيٍّ أَوْلَادٌ كَثِيرَةٌ آخَرُونَ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ
شَتَّى، فَإِنَّهُ مَاتَ عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَتِسْعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمِنْ أَوْلَادِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، مِمَّنْ لَا
يُعْرَفُ أَسْمَاءُ أُمَّهَاتِهِمْ ; أُمُّ هَانِئٍ، وَمَيْمُونَةُ، وَزَيْنَبُ
الصُّغْرَى، وَرَمْلَةُ الصُّغْرَى، وَأُمُّ كُلْثُومٍ الصُّغْرَى، وَفَاطِمَةُ،
وَأُمَامَةُ، وَخَدِيجَةُ، وَأُمُّ الْكِرَامِ، وَأُمُّ جَعْفَرٍ، وَأُمُّ سَلَمَةَ،
وَجُمَانَةُ، وَنَفِيسَةُ. قَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ فَجَمِيعُ وَلَدِ عَلِيٍّ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا وَسَبْعَ عَشْرَةَ أُنْثَى. قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
وَإِنَّمَا كَانَ النَّسْلُ مِنْ خَمْسَةٍ ; وَهُمُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ
وَمُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْعَبَّاسُ ابْنُ الْكِلَابِيَّةِ وَعُمَرُ
ابْنُ التَّغْلِبِيَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، ثَنَا أَبُو
عَاصِمٍ، ثَنَا سُكَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَا حَفْصُ بْنُ خَالِدٍ،
حَدَّثَنِي أَبِي خَالِدُ بْنُ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ لَمَّا قُتِلَ
عَلِيٌّ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: لَقَدْ قَتَلْتُمُ اللَّيْلَةَ رَجُلًا فِي
لَيْلَةٍ نَزَلَ فِيهَا
الْقُرْآنُ، وَرُفِعَ فِيهَا عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ، وَفِيهَا قُتِلَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ فَتَى مُوسَى عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، وَاللَّهِ مَا سَبَقَهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ، وَلَا يُدْرِكُهُ
أَحَدٌ يَكُونُ بَعْدَهُ، وَاللَّهِ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَبْعَثُهُ فِي السَّرِيَّةِ، جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ
وَمِيكَائِيلُ عَنْ يَسَارِهِ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ
إِلَّا ثَمَانَمِائَةٍ أَوْ سَبْعَمِائَةٍ أَرْصَدَهَا لِخَادِمٍ. وَهَذَا غَرِيبٌ
جِدًّا، وَفِيهِ نَكَارَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سُكَيْنٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ هُبَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ:
لَقَدْ فَارَقَكُمْ رَجُلٌ بِالْأَمْسِ لَمْ يَسْبِقْهُ الْأَوَّلُونَ بِعِلْمٍ
وَلَا يُدْرِكْهُ الْآخِرُونَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَبْعَثُهُ بِالرَّايَةِ، جِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ وَمِيكَائِيلُ عَنْ
شِمَالِهِ، لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَفْتَحَ لَهُ. وَرَوَاهُ زَيْدٌ الْعَمِّيُّ
وَشُعَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ، وَقَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا
سَبْعَمِائَةٍ كَانَ أَرْصَدَهَا يَشْتَرِي بِهَا خَادِمًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ كُلَيْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ:
لِقَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِنِّي لَأَرْبِطُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ، وَإِنَّ صَدَقَتِي
الْيَوْمَ لَتَبْلُغُ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا. وَرَوَاهُ، عَنْ أَسْوَدَ،
عَنْ شَرِيكٍ بِهِ، وَقَالَ: إِنَّ صَدَقَتِي لَتَبْلُغُ أَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ.
بَابُ ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ
نَسَبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُهُ شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ،
وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ،
وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ
غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ
بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ
عَدْنَانَ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُوهُ أَخُو أَبِيهِ، وَأُمُّهُ
فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. قَالَ الزُّبَيْرُ
بْنُ بَكَّارٍ: وَهِيَ أَوَّلُ هَاشِمِيَّةٍ وَلَدَتْ هَاشِمِيًّا. وَقَدْ أَسْلَمَتْ
وَهَاجَرَتْ، وَأَبُوهُ هُوَ الْعَمُّ الشَّقِيقُ الرَّفِيقُ أَبُو طَالِبٍ،
وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ كَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ، هُوَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّسَبِ وَأَيَّامِ النَّاسِ،
وَزَعَمَتِ الرَّوَافِضُ أَنَّ اسْمَ أَبِي طَالِبٍ عِمْرَانُ، وَأَنَّهُ
الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ
إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 33 ]. وَقَدْ
أَخْطَئُوا فِي ذَلِكَ خَطَأً كَبِيرًا، وَلَمْ يَتَأَمَّلُوا الْقُرْآنَ
قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْبُهْتَانَ مِنَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِهِمْ لَهُ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدْ ذَكَرَ بَعْدَهَا قَوْلَهُ تَعَالَى إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [ آلِ عِمْرَانَ: 35 ]. فَذَكَرَ بَعْدَهَا مِيلَادَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ كَثِيرَ الْمَحَبَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ بَلْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ، فِي عَرْضِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَقَالَ: كَانَ آخِرُ مَا قَالَ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ " أَمَا لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ " فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ التَّوْبَةِ: 113: 114 ]. وَنَزَلَتْ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [ الْقَصَصِ: 56 ].
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ فِي أَوَّلِ
الْمَبْعَثِ وَنَبَّهْنَا عَلَى خَطَأِ الرَّافِضَةِ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ
أَسْلَمَ، وَافْتِرَائِهِمْ ذَلِكَ بِلَا دَلِيلٍ، وَعَلَى مُخَالَفَتِهِمُ
النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ.
وَأَمَّا عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ قَدِيمًا، وَهُوَ
دُونَ الْبُلُوغِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْهُ وَلَا يَصِحُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ
أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْغِلْمَانِ. كَمَا أَنَّ خَدِيجَةَ أَوَّلُ مَنْ
أَسْلَمَ مِنَ النِّسَاءِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ
الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ
الْمَوَالِي.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ:بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ، وَصَلَّى عَلِيٌّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ، عَنْ
مُسْلِمٍ الْمُلَائِيِّ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ جُوَيْنٍ عَنْ عَلِيٍّ وَحَدِيثُ
حَبَّةَ لَا يُسَاوِي حَبَّةً.
وَقَدْ رَوَى سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ حَبَّةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: عَبَدْتُ
اللَّهَ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ سَبْعَ سِنِينَ قَبْلَ
أَنْ يَعْبُدَهُ أَحَدٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَبَدًا، وَهُوَ كَذِبٌ.
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ حَبَّةَ، عَنْ
عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا،
وَحَبَّةُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ عَلَى مِنْبَرِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: أَنَا الصِّدِّيقُ
الْأَكْبَرُ، آمَنْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمِنَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَسْلَمْتُ قَبْلَ
أَنْ يُسْلِمَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ. قَالَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو
بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الثَّالِثَ لَسَمَّيْتُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى - وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ أَسْلَمَ - مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ
حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ
بِهِ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ
صَلَّى قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ
كَانَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ، وَأَجْوَدُ مَا فِي ذَلِكَ مَا
ذَكَرْنَاهُ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ خُولِفَ فِيهِ، وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ
الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ "
بِتَطْرِيقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَمَنْ أَرَادَ كَشَفَ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ
بِهِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلِيٌّ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَصَحِبَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدَّةَ
مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ عِنْدَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَفِي كَفَالَتِهِ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَخَلَّفَ عَلِيٌّ بَعْدَهُ لِيُؤَدِّيَ مَا كَانَ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَدَائِعِ النَّاسِ،
فَإِنَّهُ كَانَ يُعْرَفُ فِي قَوْمِهِ بِالْأَمِينِ، فَكَانُوا يُودِعُونَهُ
الْأَمْوَالَ وَالْأَشْيَاءَ النَّفِيسَةَ، ثُمَّ هَاجَرَ عَلِيٌّ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَصَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُ، وَحَضَرَ مَعَهُ مَشَاهِدَهُ كُلَّهَا،
وَجَرَتْ لَهُ مَوَاقِفُ شَرِيفَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي مُوَاطِنِ الْحَرْبِ،
كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السِّيرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا،
كَيَوْمِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْأَحْزَابِ وَخَيْبَرَ وَغَيْرِهَا، وَلَمَّا
اسْتَخْلَفَهُ عَامَ تَبُوكَ عَلَى أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ قَالَ: أَمَا تَرْضَى
أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا
نَبِيَّ بَعَدِي. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَزْوِيجَهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدُخُولَهُ بِهَا بَعْدَ وَقْعَةِ بِدْرٍ
بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: غَدِيرُ خُمٍّ. خَطَبَ النَّاسَ هُنَالِكَ فِي الْيَوْمِ
الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مَنْ كُنْتُ
مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ "
اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ،
وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ " وَالْمَحْفُوظُ الْأَوَّلُ.
وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْخُطْبَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ عَلِيٍّ
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ أَمِيرًا هُوَ
وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَرَجَعَ عَلِيٌّ، فَوَافَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَدْ كَثُرَتْ
فِيهِ الْمَقَالَةُ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِسَبَبِ
اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُمْ خُلَعًا كَانَ خَلَعَهَا نَائِبُهُ
عَلَيْهِمْ لَمَّا تَعَجَّلَ السَّيْرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَحَبَّ أَنْ يُبَرِّئَ سَاحَةَ عَلِيٍّ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ، وَقَدِ اتَّخَذَتِ الرَّوَافِضُ هَذَا الْيَوْمَ عِيدًا، فَكَانَتْ تَضْرِبُ فِيهِ الطُّبُولَ بِبَغْدَادَ فِي أَيَّامِ بَنِي بُوَيْهٍ فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِمِائَةٍ، كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَحْوٍ مَنْ عِشْرِينَ يَوْمًا تُعَلِّقُ الْمُسُوحَ السُّودَ عَلَى أَبْوَابِ الدَّكَاكِينِ وَتُذِرُّ التِّبْنَ وَالرَّمَادَ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ، وَتَدُورُ النِّسَاءُ فِي سِكَكِ الْبَلَدِ يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ صَبِيحَةَ قِرَاءَتِهِمُ الْمَصْرَعَ الْمَكْذُوبَ فِي قَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَكَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى الْجَلِيَّةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ بَنِي أُمَيَّةَ يَعِيبُ عَلَى عَلِيٍّ فِي تَسْمِيَتِهِ أَبَا تُرَابٍ، وَهُوَ اسْمٌ سَمَّاهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ عَلِيًّا غَاضَبَ فَاطِمَةَ، فَرَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا وَقَدْ لَصِقَ التُّرَابُ بِجِلْدِهِ، فَجَعَلَ يَنْفُضُ عَنْهُ التُّرَابَ وَيَقُولُ: " اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ، اجْلِسْ أَبَا تُرَابٍ ".
حَدِيثُ الْمُؤَاخَاةِ
قَالَ الْحَاكِمُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْجُنَيْدُ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا الْعَلَاءُ
بْنُ عَمْرٍو وَالْحَنَفِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:لَمَّا آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّاسِ آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ. ثُمَّ قَالَ
الْحَاكِمُ: لَمْ نَكْتُبْهُ مِنْ حَدِيثِ مَكْحُولٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَكَانَ الْمَشَايِخُ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ ; لِكَوْنِهِ مِنْ رِوَايَةِ
أَهْلِ الشَّامِ.
قُلْتُ: وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
وَابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِعَلِيٍّ " أَنْتَ أَخِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". وَكَذَلِكَ
مَنَّ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَحْدُوجِ بْنِ
زَيْدٍ الذُّهْلِيِّ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ،
وَأَبِي ذَرٍّ، وَعَلِيٍّ نَفْسِهِ، نَحْوَ ذَلِكَ، وَأَسَانِيدُهَا كُلُّهَا
ضَعِيفَةٌ لَا يَقُومُ بِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَأَخُو رَسُولِهِ،
لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إِلَّا كَذَّابٌ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ الْبَغْدَادِيُّ،
ثَنَا عَلِيُّ بْنُ قَادِمٍ،
ثَنَا عَلِيُّ بْنُ صَالِحِ بْنِ
حَيٍّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ التَّيْمِيِّ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ عَلِيٌّ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، آخَيْتَ بَيْنَ أَصْحَابِكَ وَلَمْ تُؤَاخِ بَيْنِي وَبَيْنَ أَحَدٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتَ أَخِي
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى.
وَقَدْ شَهِدَ عَلِيٌّ بَدْرًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ
اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ
لَكُمْ ". وَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَتْ لَهُ الْيَدُ
الْبَيْضَاءُ وَدَفَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَهُ
الْحَكَمُ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَكَانَتْ تَكُونُ مَعَهُ
رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْمَوَاقِفِ كُلِّهَا. وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ.
وَقَالَ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَطْرَابُلُسِيُّ الْحَافِظُ: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ
بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ، ثَنَا نَاصِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَلِّمِيُّ،
عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالُوا:يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَنْ يَحْمِلُ رَايَتَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ " وَمَنْ
عَسَى أَنْ يَحْمِلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ يَحْمِلُهَا فِي
الدُّنْيَا ; عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَنْظَلِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ: لَا سَيْفَ إِلَّا
ذُو الْفَقَارِ، وَلَا فَتَى إِلَّا عَلِيٌّ. قَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ:
وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَإِنَّمَا تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ وَهَبَهُ لِعَلِيٍّ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ
مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: كَانَ لِوَاءُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ
مَعَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَفِي
ذَلِكَ يَقُولُ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلَاطٍ السَّلَمِيُّ
لِلِهِ أَيُّ مُذَبِّبٍ عَنْ حُرْمَةٍ أَعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الْمُعَمَّ
الْمُخْوَلَا
جَادَتْ يَدَاكَ لَهُ بِعَاجِلِ
طَعْنَةٍ
تَرَكَتْ طُلَيْحَةَ لِلْجَبِينِ مُجَدَّلَا وَشَدَدْتَ شِدَّةَ بَاسِلٍ
فَكَشَفْتَهُمْ
بِالْحَقِّ إِذْ يَهْوُونَ أَخْوَلَ أَخْوَلَا وَعَلَلْتَ سَيْفَكَ بِالدِّمَاءِ
وَلَمْ تَكُنْ
لِتَرُدَّهُ حَرَّانَ حَتَّى يَنْهَلَا
وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَقَدْ رَضِيَ
اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ الْآيَاتَ [
الْفَتْحِ: 18 ]. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ النَّارَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا
رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَيْسَ
بِفَرَّارٍ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ". فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ
أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: مَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ إِلَّا
يَوْمَئِذٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَعْطَاهَا عَلِيًّا، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ.
وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ ; مَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَيَعْقُوبُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَحَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ. أَخْرَجَاهُ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ "، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ
وَهُوَ أَرْمَدُ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ. وَرَوَاهُ إِيَاسُ بْنُ
سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ
مَوْلَاهُ سَلَمَةَ أَيْضًا، وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ
".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ
فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْأَكْوَعِ قَالَ:بَعْثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِرَايَتِهِ إِلَى بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ
فَقَاتَلَ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ وَقَدْ جَهَدَ، ثُمَّ بَعَثَ الْغَدَ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَاتَلَ ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَكُنْ فَتْحٌ وَقَدْ
جَهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ ".
قَالَ: سَلَمَةُ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " خُذْ
هَذِهِ الرَّايَةَ فَامْضِ بِهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ " قَالَ
سَلَمَةُ: فَخَرَجَ وَاللَّهِ يُهَرْوِلُ بِهَا هَرْوَلَةً، وَإِنَّا لَخَلْفَهُ
نَتَّبِعُ أَثَرَهُ حَتَّى رَكَزَ رَايَتَهُ فِي رَجَمٍ مِنْ حِجَارَةٍ تَحْتَ
الْحِصْنِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِ يَهُودِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْحِصْنِ، فَقَالَ: مَنْ
أَنْتَ ؟ قَالَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ قَالَ الْيَهُودِيُّ:
عَلَيْتُمْ وَمَنْ أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى. قَالَ: فَمَا رَجَعَ
حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ،
عَنْ عَطَاءٍ مَوْلَى السَّائِبِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَفِيهِ أَنَّهُ
هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ يَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى بَصَقَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ.
رِوَايَةُ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ قَالَ:
حَاصَرْنَا خَيْبَرَ، فَأَخْذَ اللِّوَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْصَرَفَ وَلَمْ
يُفْتَحْ لَهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنَ الْغَدِ عُمَرُ، فَخَرَجَ فَرَجَعَ وَلَمْ
يُفْتَحْ لَهُ، وَأَصَابَ النَّاسَ يَوْمَئِذٍ شِدَّةٌ وَجَهْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنِّي دَافِعٌ اللِّوَاءَ
غَدًا إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،
لَا يَرْجِعُ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ " قَالَ: وَبِتْنَا طَيِّبَةً أَنْفُسُنَا
أَنَّ الْفَتْحَ غَدًا. قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْغَدَاةَ، ثُمَّ قَامَ قَائِمًا، فَدَعَا بِاللِّوَاءِ
وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ، فَدَعَا عَلِيًّا وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ فِي
عَيْنَيْهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ اللِّوَاءَ، فَفُتِحَ لَهُ ". قَالَ
بُرَيْدَةُ: وَأَنَا فِيمَنْ تَطَاوَلَ لَهَا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ بِهِ أَطْوَلَ مِنْهُ، ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ
وَرَوْحٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَوْفٍ،
عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ نَحْوَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ
بُنْدَارٍ عَنْ غُنْدَرٍ بِهِ، وَفِيهِ الشِّعْرُ.
رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: وَرَوَاهُ هُشَيْمٌ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ
حَوْشَبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، فَذَكَرَ سِيَاقَ
حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَرَوَاهُ كَثِيرٌ النَّوَّاءُ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا رَمِدْتُ بَعْدَ
يَوْمَئِذٍ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ أَسِيدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا سَيَأْتِي.
رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". فَقَالَ: "
أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ " قَالُوا: يَطْحَنُ. قَالَ: وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يَرْضَى
أَنْ يَطْحَنَ، فَأَتَى بِهِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الرَّايَةَ، فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ
بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ بِتَمَامِهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ثَنَا أَبُو بَلْجٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنَّى لَجَالِسٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ أَتَاهُ تِسْعَةُ رَهْطٍ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، إِمَّا أَنْ تَقُومَ مَعَنَا وَإِمَّا أَنْ يُخَلُّونَا هَؤُلَاءِ. فَقَالَ: بَلْ أَقْوَمُ مَعَكُمْ. قَالَ: وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَحِيحٌ قَبْلَ أَنْ يَعْمَى، قَالَ: وَابْتَدَءُوا فَتَحَدَّثُوا فَلَا نَدْرِي مَا قَالُوا. قَالَ: فَجَاءَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ وَيَقُولُ: أُفْ وَتُفْ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ لَهُ عَشْرٌ، وَقَعُوا فِي رَجُلٍ قَالَ لَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَأَبْعَثَنَّ رَجُلًا لَا يُخْزِيهِ اللَّهُ أَبَدًا، يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مَنِ اسْتَشْرَفَ، قَالَ: " أَيْنَ عَلِيٌّ ؟ " قَالُوا: هُوَ فِي الرَّحَا يَطْحَنُ. قَالَ: وَمَا كَانَ أَحَدُكُمْ لِيَطْحَنَ قَالَ: فَجَاءَ وَهُوَ أَرْمَدُ لَا يَكَادُ أَنْ يُبْصِرَ، فَنَفَثَ فِي عَيْنَيْهِ، ثُمَّ هَزَّ الرَّايَةَ ثَلَاثًا، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. قَالَ ثُمَّ بَعَثَ فُلَانًا بِسُورَةِ " التَّوْبَةِ "، فَبَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ، فَأَخَذَهَا مِنْهُ، قَالَ: " لَا يَذْهَبُ بِهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ ". قَالَ:
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَمِّهِ أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ " فَأَبَوْا. قَالَ: وَعَلِيٌّ مَعَهُ جَالِسٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ: " أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". قَالَ: فَتَرَكَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: " أَيُّكُمْ يُوَالِينِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ " فَأَبَوْا، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أُوَالِيكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ: " أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ". قَالَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ. قَالَ ( وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ، فَقَالَ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 18 ]. قَالَ: وَشَرَى عَلِيٌّ نَفْسَهُ ; لَبِسَ ثَوْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَامَ مَكَانَهُ. قَالَ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرُومُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَيٌّ نَائِمٌ، وَأَبُو بَكْرٍ يَحْسَبُ أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ قَدِ انْطَلَقَ نَحْوَ بِئْرِ مَيْمُونٍ فَأَدْرِكْهُ. قَالَ: فَانْطَلَقَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَخَلَ مَعَهُ الْغَارَ. قَالَ: وَجَعَلَ عَلِيٌّ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ كَمَا كَانَ يُرْمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَضَوَّرُ، وَقَدْ لَفَّ رَأْسَهُ فِي الثَّوْبِ، لَا يُخْرِجُهُ حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَئِيمٌ، كَانَ صَاحِبُكَ نَرْمِيهِ فَلَا يَتَضَوَّرُ، وَأَنْتَ تَتَضَوَّرُ، وَقَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ. قَالَ: وَخَرَجَ يَعْنِي، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالنَّاسِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَخْرُجُ مَعَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا ". فَبَكَى عَلِيٌّ، فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ، إِنَّهُ لَا
يَنْبَغِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَّا
وَأَنْتَ خَلِيفَتِي " قَالَ: وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتَ وَلِيِّي فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي ".
قَالَ: وَسَدَّ أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ. قَالَ: فَيَدْخُلُ
الْمَسْجِدَ جُنُبًا، وَهُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ. قَالَ:
وَقَالَ " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ مَوْلَاهُ عَلِيٌّ " قَالَ:
وَأَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْ أَصْحَابِ
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَهَلْ حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَخِطَ
عَلَيْهِمْ بَعْدُ ؟ ! قَالَ: وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِعُمَرَ حِينَ قَالَ: ائْذَنْ لِي لِأَضْرِبَ عُنُقَهُ. يَعْنِي
حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ قَالَ: " وَكُنْتُ فَاعِلًا ؟ ! وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا
مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بَعْضَهُ
مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ يَحْيَى بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ
وَاسْتَغْرَبَهُ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بَعْضَهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ بِهِ.
رِوَايَةُ عِمْرَانَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ ": ثَنَا
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الرِّيَاحِيُّ، ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
لَأَدْفَعَنَّ الرَّايَةَ إِلَى رَجُلٍ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". فَبَعَثَ إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ أَرْمَدُ، فَتَفَلَ
فِي عَيْنَيْهِ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ،
فَمَا رَدَّ وَجْهَهُ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَمَا اشْتَكَاهُمَا بَعْدُ
". وَرَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ أَبِي مُوسَى الْهَرَوِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ عِمْرَانَ،
فَذَكَرَهُ، وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبَّاسٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِهِ.
رِوَايَةُ أَبِي سَعِيدٍ: فِي ذَلِكَ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ وَحُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: ثَنَا
إِسْرَائِيلُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ يَقُولُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخَذَ الرَّايَةَ فَهَزَّهَا ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يَأْخُذُهَا بِحَقِّهَا ؟
" فَجَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: " أَمِطْ ". ثُمَّ
جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: " أَمِطْ ". ثُمَّ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي أَكْرَمَ وَجْهَ
مُحَمَّدٍ لَأُعْطِيَنَّهَا رَجُلًا لَا يَفِرُّ ". فَجَاءَ عَلِيٌّ،
فَانْطَلَقَ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَجَاءَ
بِعَجْوَتِهِمَا وَقَدِيدِهِمَا.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ،
وَقَالَ فِي سِيَاقِهِ:
فَجَاءَ الزُّبَيْرُ فَقَالَ: أَنَا.
فَقَالَ: " أَمِطْ ". ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: " أَمِطْ ".
وَذَكَرَهُ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
رِوَايَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ أَبِي يَسْمُرُ مَعَ عَلِيٍّ،
وَكَانَ عَلِيٌّ يَلْبَسُ ثِيَابَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ وَثِيَابَ الشِّتَاءِ
فِي الصَّيْفِ، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ سَأَلْتَهُ. فَسَأَلَهُ، فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إِلَيَّ وَأَنَا أَرْمَدُ
الْعَيْنِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْمَدُ
الْعَيْنِ. فَتَفَلَ فِي عَيْنِي وَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ
الْحَرَّ وَالْبَرْدَ " فَمَا وَجَدْتُ حَرًّا وَلَا بَرْدًا مُنْذُ يَوْمَئِذٍ،
وَقَالَ: لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَيْسَ بِفَرَّارٍ " فَتَشَرَّفَ لَهَا
أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِيهَا.
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ، زَادَ بَعْضُهُمْ:
وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ بِهِ مُطَوَّلًا.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ
أُمِّ مُوسَى، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:مَا رَمِدْتُ وَلَا صُدِّعْتُ
مُنْذُ مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهِي
وَتَفَلَ فِي عَيْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ وَأَعْطَانِي الرَّايَةَ.
رِوَايَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ
فِي ذَلِكَ: ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ
سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ".
قَالَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ،
ثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا تُرَابٍ ؟
فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ - وَخَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
" أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى
إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي ؟ " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ
خَيْبَرَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ". قَالَ: فَتَطَاوَلْتُ لَهَا. قَالَ:
" ادْعُوا لِي عَلِيًّا ". فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ،
وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ،وَلَمَّا نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ [ آلِ عِمْرَانَ: 61 ].
دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ
وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي " ثُمَّ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَيُسْتَغْرَبُ مِنْ
رِوَايَةِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ الزُّبَيْرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ أَبِيهِ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - عَنْ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ خَلَّفَ
عَلِيًّا، فَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي ؟ قَالَ " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟
" وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَعَلِيٍّ:
" أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟
" أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ، عَنْ
عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا، أَنَّ عَلِيًّا
خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ، وَعَلِيٌّ يَبْكِي
يَقُولُ: تُخَلِّفُنِي مَعَ الْخَوَالِفِ ؟ فَقَالَ " أَوَ مَا تَرْضَى أَنْ
تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا النُّبُوَّةَ ؟ ".
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ الْعَبْدِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَازِمٍ
أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنْ مُوسَى بْنُ مُسْلِمٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَدِمَ
مُعَاوِيَةُ فِي بَعْضِ حِجَّاتِهِ، فَأَتَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
فَذَكَرُوا عَلِيًّا، فَقَالَ سَعْدُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ ثَلَاثَ خِصَالٍ، لَأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ
مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، سَمِعْتُهُ يَقُولُ
" مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فِعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
" لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
" وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ
مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". إِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَلَمْ
يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ
أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَجَّ مُعَاوِيَةُ أَخْذَ بِيَدِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إِنَّا قَوْمٌ قَدْ أَجْفَانَا
هَذَا الْغَزْوُ عَنِ الْحَجِّ حَتَّى
كِدْنَا أَنْ نَنْسَى بَعْضَ سُنَنِهِ،
فَطُفْ نَطُفْ بِطَوَافِكَ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ أَدْخَلَهُ دَارَ النَّدْوَةِ،
فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
فَوَقَعَ فِيهِ، فَقَالَ: أَدْخَلْتَنِي دَارَكَ، وَأَجْلَسْتَنِي عَلَى سَرِيرِكَ،
ثُمَّ وَقَعْتَ فِي عَلِيٍّ تَشْتُمُهُ ؟ ! وَاللَّهِ لَأَنْ يَكُونَ فِي إِحْدَى
خِلَالِهِ الثَّلَاثِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مَا طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ يَكُونَ لِي مَا قَالَ لَهُ حِينَ غَزَا تَبُوكَ
" أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى
إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ". أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ يَكُونَ لِي مَا قَالَ لَهُ يَوْمَ خَيْبَرَ "
لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ ".
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَلَأَنْ أَكُونَ صِهْرَهُ
عَلَى ابْنَتِهِ، وَلِي مِنْهَا مِنَ الْوَلَدِ مَا لَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
أَنْ يَكُونَ لِي مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، لَا أَدْخُلُ عَلَيْكَ دَارًا
بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ. ثُمَّ نَفَضَ رِدَاءَهُ ثُمَّ خَرَجَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ
الْحَكَمِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ
خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ
وَالصِّبْيَانِ ؟ قَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ". إِسْنَادُهُ
عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِيهِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ
عَنْ أَبِيهَا.
قَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ:
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ; مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ
عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ،
وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَزَيْدُ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَنُبَيْطُ بْنُ شُرَيْطٍ،
وَحُبْشِيُّ بْنُ جُنَادَةَ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ، وَأَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ، وَأَبُو الْفِيلِ، وَأُمُّ سَلَمَةَ، وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ،
وَفَاطِمَةُ بِنْتُ حَمْزَةَ. وَقَدْ تَقَصَّى الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ فِي تَرْجَمَةِ عَلِيٍّ فِي " تَارِيخِهِ " فَأَجَادَ
وَأَفَادَ، وَبَرَزَ عَلَى النُّظَرَاءِ وَالْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ، رَحِمَهُ
رَبُّ الْعِبَادِ يَوْمَ التَّنَادِ.
رِوَايَةُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي ذَلِكَ: قَالَ أَبُو يَعْلَى
الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ أُعْطِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ ثَلَاثَ خِصَالٍ، لَأَنْ تَكُونَ لِي خَصْلَةٌ مِنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ
مَنْ حُمْرِ النَّعَمِ. قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ:
تَزْوِيجُهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَسُكْنَاهُ الْمَسْجِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
لَا يَحِلُّ لِي فِيهِ مَا يَحِلُّ لَهُ، وَالرَّايَةُ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ
عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَسِيدٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: كُنَّا نَقُولُ فِي زَمَانِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: رَسُولُ اللَّهِ خَيْرُ النَّاسِ، ثُمَّ خَيْرُ النَّاسِ، أَبُو
بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَلَقَدْ أُوتِيَ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ ثَلَاثًا لَأَنْ
أَكُونَ أُعْطِيتُهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ حُمْرِ النَّعَمِ. فَذَكَرَ هَذِهِ
الثَّلَاثَ.
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ".
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
مَرْفُوعًا. وَرَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ؟ ".
قَالَ سَلَمَةُ: وَسَمِعْتُ مَوْلًى لِبَنِي مَوْهِبَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ
عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مِثْلَهُ.
تَزْوِيجُ عَلِيٍّ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ:سَمِعَ رَجُلٌ
عَلِيًّا عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: أَرَدْتُ أَنْ أَخْطُبَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ
أَنْ لَا
شَيْءَ لِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ
عَائِدَتَهُ وَصِلَتَهُ، فَخَطَبْتُهَا، فَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ ؟
" قُلْتُ: لَا. قَالَ: " فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ الَّتِي
أَعْطَيْتُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ؟ " قُلْتُ: عِنْدِي. قَالَ: "
فَأَعْطِهَا ". فَأَعْطَيْتُهَا فَزَوَّجَنِي، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةً
دَخَلْتُ عَلَيْهَا قَالَ: " لَا تُحَدِّثَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَكُمَا
". قَالَ: فَأَتَانَا وَعَلَيْنَا قَطِيفَةٌ أَوْ كِسَاءٌ فَتَحَشْحَشْنَا،
فَقَالَ: " مَكَانَكُمَا ". ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ، فَدَعَا
فِيهِ، ثُمَّ رَشَّهُ عَلَيَّ وَعَلَيْهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَحَبُّ
إِلَيْكَ أَمْ هِيَ ؟ قَالَ: " هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَأَنْتَ أَعَزُّ
عَلَيَّ مِنْهَا ". وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الْكَرِيمِ بْنِ سَلِيطٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَهُ
بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَوْلَمَ عَلَيْهَا بِكَبْشٍ
مِنْ عِنْدِ سَعْدٍ، وَآصُعٍ مِنَ الذُّرَةِ مِنْ عِنْدِ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ دَعَا لَهُمَا بَعْدَ مَا صَبَّ عَلَيْهِمَا الْمَاءَ،
فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِمَا، وَبَارِكْ عَلَيْهِمَا، وَبَارِكْ لَهُمَا
فِي شَمْلِهِمَا ". يَعْنِي الْجِمَاعَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا خَطَبَ
عَلِيٌّ فَاطِمَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَهَا: " أَيْ بُنَيَّةَ، إِنَّ ابْنَ عَمِّكِ عَلِيًّا قَدْ
خَطَبَكِ، فَمَاذَا تَقُولِينَ ؟ " فَبَكَتْ ثُمَّ قَالَتْ: كَأَنَّكَ يَا
أَبَتِ إِنَّمَا دَخَرْتَنِي لِفَقِيرِ قُرَيْشٍ. فَقَالَ: " وَالَّذِي
بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا
تَكَلَّمْتُ فِي هَذَا حَتَّى أَذِنَ
اللَّهُ لِي فِيهِ مِنَ السَّمَاءِ ". فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: رَضِيتُ بِمَا
رَضِيَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، وَاجْتَمَعَ
الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " يَا عَلِيُّ، اخْطُبْ لِنَفْسِكَ
". فَقَالَ عَلِيٌّ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَهَذَا
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ عَلَى صَدَاقٍ
مَبْلَغُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَاسْمَعُوا مَا يَقُولُ وَاشْهَدُوا.
قَالُوا: مَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " أُشْهِدُكُمْ أَنِّي
قَدْ زَوَّجْتُهُ ". رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُنْكَرَةٌ وَمَوْضُوعَةٌ
أَضْرَبْنَا عَنْهَا ; لَئِلَّا يَطُولُ الْكِتَابُ بِهَا، وَقَدْ أَوْرَدَ
مِنْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ طَرَفًا جَيِّدًا فِي " تَارِيخِهِ
" مَعَ ضَعْفِهِمَا وَوَضْعِهَا.
وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: مَا
كَانَ لَنَا إِلَّا إِهَابُ كَبْشٍ نَنَامُ عَلَى نَاحِيَتِهِ وَتَعْجِنُ
فَاطِمَةُ عَلَى نَاحِيَتِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ:
وَنَعْلِفُ عَلَيْهِ النَّاضِحَ بِالنَّهَارِ، وَمَا لِي خَادِمٌ عَلَيْهَا
غَيْرَهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا
عَوْفٌ، عَنْ مَيْمُونٍ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ:
كَانَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبْوَابٌ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ: فَقَالَ يَوْمًا: " سُدُّوا
هَذِهِ الْأَبْوَابَ إِلَّا بَابَ عَلِيٍّ ". قَالَ: فَتَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ
أُنَاسٌ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ
اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنِّي أَمَرْتُ بِسَدِّ هَذِهِ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ،
فَقَالَ فِيهِ قَائِلُكُمْ، وَإِنِّي
وَاللَّهِ مَا سَدَدْتُ شَيْئًا وَلَا فَتَحْتُهُ، وَلَكِنْ أُمِرْتُ بِشَيْءٍ
فَاتَّبَعْتُهُ ". وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ عَوْفٍ، عَنْ
مَيْمُونٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَذَكَرَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي
بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْحَدِيثُ
الطَّوِيلُ، وَفِيهِ سَدُّ الْأَبْوَابِ غَيْرَ بَابِ عَلِيٍّ. وَكَذَا رَوَاهُ
شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَلْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا
فِطْرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ
الْكِنَانِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ زَمَنَ الْجَمَلِ فَلَقِينَا
سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ بِهَا فَقَالَ: ( أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَتَرْكِ
بَابِ عَلِيٍّ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ سَعْدٍ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ حَيَّانَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الطَّحَّانُ،
ثَنَا غَسَّانُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ
سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَدَّ أَبْوَابَ
النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَفَتَحَ بَابَ عَلِيٍّ، فَقَالَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ،
فَقَالَ: " مَا أَنَا فَتَحْتُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
فَتَحَهُ ". وَهَذَا لَا يُنَافِي
مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ أَمْرِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ
الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ; لِأَنَّ
نَفْيَ هَذَا فِي حَقِّ عَلِيٍّ كَانَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لِاحْتِيَاجِ فَاطِمَةَ
إِلَى الْمُرُورِ مِنْ بَيْتِهَا إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا، فَجَعَلَ هَذَا رِفْقًا
بِهَا، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَزَالَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ، فَاحْتِيجَ إِلَى
فَتْحِ بَابِ الصِّدِّيقِ لِأَجْلِ خُرُوجِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ إِذْ كَانَ الْخَلِيفَةُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خِلَافَتِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ، ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ،
عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " يَا
عَلِيُّ، لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ
". قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ: قُلْتُ لِضِرَارِ بْنِ صُرَدَ: مَا
مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ ؟ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَسْتَطْرِقُهُ جُنُبًا
غَيْرِي وَغَيْرُكَ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ،
لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ سَمِعَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ مِنِّي هَذَا الْحَدِيثَ فَاسْتَغْرَبَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرٍ النَّوَّاءِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
بِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِي الْخَطَّابِ عُمَرَ الْهَجَرِيِّ،
عَنْ مَحْدُوجٍ، عَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ
دَجَاجَةَ، أَخْبَرَتْنِي أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَرْحَةِ الْمَسْجِدِ،
فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: " أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْمَسْجِدُ لِجُنُبٍ
وَلَا لِحَائِضٍ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ بِنْتِ
مُحَمَّدٍ، أَلَا هَلْ بَيَّنْتُ لَكُمُ الْأَسْمَاءَ أَنْ تَضِلُّوا ".
وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ ضَعْفٌ، ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
رَافِعٍ بِنَحْوِهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ غَرَابَةٌ أَيْضًا.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْحَاكِمُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحُصَيْبِ قَالَ غَزَوْتُ مَعَ
عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ، فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَفْوَةً فَقَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ عَلِيًّا فَتَنَقَّصْتُهُ،
فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ: " يَا بُرَيْدَةُ، أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "
مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا الْأَجْلَحُ
الْكِنْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ
قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثَيْنِ إِلَى
الْيَمَنِ ; عَلَى أَحَدِهِمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَلَى الْأُخْرَى
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَقَالَ: " إِذَا الْتَقَيْتُمَا فَعَلِيٌّ عَلَى
النَّاسِ، وَإِنِ افْتَرَقْتُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى جُنْدِهِ
". قَالَ: فَلَقِينَا بَنَى زَيْدٍ مِنَ أَهْلِ الْيَمَنِ، فَاقْتَتَلْنَا،
فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلْنَا الْمُقَاتِلَةَ
وَسَبَيْنَا الذُّرِّيَّةَ، فَاصْطَفَى عَلِيٌّ امْرَأَةً مِنَ السَّبْيِ
لِنَفْسِهِ. قَالَ بُرَيْدَةُ: فَكَتَبَ مَعِي خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ، فَلَمَّا
أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعْتُ إِلَيْهِ
الْكِتَابَ، فَقُرِئَ عَلَيْهِ،
فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ، بَعَثْتَنِي
مَعَ رَجُلٍ وَأَمَرْتَنِي أَنْ أُطِيعَهُ، فَبَلَّغْتُ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقَعُ
فِي عَلِيٍّ ; فَإِنَّهُ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّكُمْ بَعْدِي
". هَذِهِ اللَّفْظَةُ مُنْكَرَةٌ وَالْأَجْلَحُ شِيَعِيٌّ، وَمَثَلُهُ لَا
يُقْبَلُ إِذَا تَفَرَّدَ بِمِثْلِهَا، وَقَدْ تَابَعَهُ فِيهَا مَنْ هُوَ
أَضْعَفُ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَحْفُوظُ فِي هَذَا رِوَايَةُ
أَحْمَدَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كُنْتُ وَلَيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلَيُّهُ
". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا وَالْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، عَنْ أَبِي
مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي
كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مَنْجُوفٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا إِلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
لِيَقْبِضَ الْخُمُسَ. قَالَ: فَأَصْبَحَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ خَالِدٌ
لِبُرَيْدَةَ: أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ هَذَا ؟ قَالَ: فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ مَا صَنَعَ
عَلِيٌّ. قَالَ: وَكُنْتُ أُبْغِضُ عَلِيًّا، فَقَالَ: " يَا بُرَيْدَةُ،
أَتُبْغِضُ عَلِيًّا ؟ " فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " لَا تُبْغِضْهُ
وَأَحِبَّهُ ;
فَإِنَّ لَهُ فِي الْخُمُسِ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ ". وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " الصَّحِيحِ "
عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ رَوْحٍ بِهِ مُطَوَّلًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَبْدُ الْجَلِيلِ
قَالَ:انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا أَبُو مِجْلَزٍ وَابْنُ بُرَيْدَةَ،
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: حَدَّثَنِي أَبِي بُرَيْدَةُ قَالَ
أَبْغَضْتُ عَلِيًّا بُغْضًا لَمْ أُبْغِضْهُ أَحَدًا. قَالَ: وَأَحْبَبْتُ
رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ لَمْ أُحِبَّهُ إِلَّا عَلَى بُغْضِهِ عَلِيًّا. قَالَ:
فَبُعِثَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى خَيْلٍ. قَالَ: فَصَحِبْتُهُ مَا أَصْحَبُهُ
إِلَّا عَلَى بُغْضِهِ عَلِيًّا. قَالَ: فَأَصَبْنَا سَبْيًا. قَالَ: فَكَتَبَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْعَثْ إِلَيْنَا مَنْ
يُخَمِّسُهُ. فَبَعَثَ إِلَيْنَا عَلِيًّا. قَالَ: وَفِي السَّبْيِ وَصِيفَةٌ هِيَ
مِنْ أَفْضَلِ السَّبْيِ، فَخَمَّسَ وَقَسَمَ، فَخَرَجَ وَرَأَسُهُ يَقْطُرُ،
فَقُلْنَا: يَا أَبَا الْحَسَنِ، مَا هَذَا ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى
الْوَصِيفَةِ الَّتِي كَانَتْ فِي السَّبْيِ، فَإِنِّي قَسَمْتُ وَخَمَّسْتُ
فَصَارَتْ فِي الْخُمُسِ، ثُمَّ صَارَتْ فِي أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَارَتْ فِي آلِ عَلِيٍّ، فَوَقَعْتُ بِهَا.
قَالَ: وَكَتَبَ الرَّجُلُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: ابْعَثْنِي ؟ فَبَعَثَنِي مُصَدِّقًا. قَالَ: فَجَعَلْتُ
أَقْرَأُ الْكِتَابَ وَأَقُولُ: صَدَقَ. قَالَ: فَأَمْسَكَ يَدِي وَالْكِتَابَ
قَالَ: " أَتُبْغِضُ عَلِيًّا " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "
فَلَا تُبْغِضْهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّهُ فَازْدَدْ لَهُ حُبًّا، فَوَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَنَصِيبُ آلِ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ أَفْضَلُ مِنْ وَصِيفَةٍ
". قَالَ: فَمَا كَانَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ بَعْدَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ عَلِيٍّ. قَالَ عَبْدُ
اللَّهِ: فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ أَبِي، بُرَيْدَةَ
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ
أَبِي الْجَوَّابِ، عَنْ
يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ نَحْوَ رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ بْنِ
الْحُصَيْبِ، وَهَذَا غَرِيبٌ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ أَبِي الْجَوَّابِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَوَّابٍ بِهِ.
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ الرِّشْكُ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَرِيَّةً، وَأَمَرَ عَلَيْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَحْدَثَ
شَيْئًا فِي سَفَرِهِ، فَتَعَاهَدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرُوا أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عِمْرَانُ: وَكُنَّا إِذَا قَدِمْنَا
مِنْ سِفْرٍ بَدَأْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَأَعْرَضَ
عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّانِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا
فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ الثَّالِثُ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا. فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَامَ
الرَّابِعُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلِيًّا فَعَلَ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الرَّابِعِ وَقَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: " دَعُوا عَلِيًّا، دَعُوا
عَلِيًّا، إِنَّ عَلِيًّا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ
بَعْدِي ". وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ،
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَسِيَاقُ التِّرْمِذِيِّ
مُطَوَّلٌ، وَفِيهِ أَنَّهُ أَصَابَ
جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ. ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا
مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ،
عَنْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
شَقِيقٍ الْجَرْمِيِّ وَالْمُعَلَّى بْنِ مَهْدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بِهِ.
وَقَالَ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ،
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ
رُكَيْنٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ حَمْزَةَ قَالَ سَافَرْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَرَأَيْتُ مِنْهُ جَفْوَةً، فَقُلْتُ:
لَئِنْ رَجَعْتُ فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَأَنَالَنَّ مِنْهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ عَلِيًّا، فَنِلْتُ مِنْهُ. فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُولَنَّ هَذَا
لِعَلِيٍّ ; فَإِنَّ عَلِيًّا وَلِيُّكُمْ بَعْدِي ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ
مُؤْمِنٍ بَعْدِي ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ - وَكَانَتْ عِنْدَ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ اشْتَكَى عَلِيًّا
النَّاسُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا
خَطِيبًا فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَشْكُوا عَلِيًّا،
فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللَّهِ ". أَوْ " فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ
الْقَطَّانُ، أَنَا أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ،
حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ:
فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَخَذَ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ
سَأَلْنَاهُ أَنْ نَرْكَبَ مِنْهَا وَنُرِيحَ إِبِلَنَا - وَكُنَّا قَدْ رَأَيْنَا
فِي إِبِلِنَا خَلَلًا - فَأَبَى عَلَيْنَا وَقَالَ: إِنَّمَا لَكُمْ مِنْهَا
سَهْمٌ كَمَا لِلْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ وَانْصَفَقَ مِنَ
الْيَمَنِ رَاجِعًا أَمَّرَ عَلَيْنَا إِنْسَانًا، فَأَسْرَعَ هُوَ فَأَدْرَكَ
الْحَجَّ، فَلَمَّا قَضَى حَجَّتَهُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْجِعْ إِلَى أَصْحَابِكَ حَتَّى تَقْدَمَ عَلَيْهِمْ
". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَقَدْ كُنَّا سَأَلْنَا الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ مَا
كَانَ عَلِيٌّ مَنَعَنَا إِيَّاهُ فَفَعَلَ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ عَرَفَ فِي
إِبِلِ الصَّدَقَةِ أَنَّهَا قَدْ رُكِبَتْ - رَأَى أَثَرَ الْمَرَاكِبِ - فَذَمَّ
الَّذِي أَمَّرَهُ وَلَامَهُ، فَقُلْتُ: أَمَا إِنَّ لِلَّهِ عَلَى إِنْ قَدِمْتُ
الْمَدِينَةَ لَأَذْكُرَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَأُخْبِرَنَّهُ مَا لَقِينَا مِنَ
الْغِلْظَةِ وَالتَّضْيِيقِ. قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ غَدَوْتُ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ أَنْ أَذْكُرَ
لَهُ مَا كُنْتُ حَلَفْتُ عَلَيْهِ، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ خَارِجًا مِنْ عِنْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآنِي وَقَفَ مَعِي
وَرَحَّبَ بِي، وَسَاءَلَنِي وَسَاءَلَتْهُ وَقَالَ: مَتَى قَدِمْتَ ؟ قُلْتُ:
قَدَّمْتُ الْبَارِحَةَ. فَرَجَعَ مَعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ فَقَالَ: هَذَا سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ
الشَّهِيدِ. قَالَ: " ائْذَنْ لَهُ ". فَدَخَلْتُ فَحَيَّيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَّانِي وَسَلَّمَ عَلَيَّ،
وَسَاءَلَنِي عَنْ نَفْسِي وَعَنْ أَهْلِي فَأَحْفَى الْمَسْأَلَةَ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِينَا مِنْ عَلِيٍّ مِنَ الْغِلْظَةِ وَسُوءِ الصُّحْبَةِ
وَالتَّضْيِيقِ ؟ فَانْتَبَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَجَعَلْتُ أَنَا أُعَدِّدُ مَا لَقِينَا مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطِ
كَلَامِي ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
فَخِذِي، وَكُنْتُ مِنْهُ قَرِيبًا، وَقَالَ: " سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ ابْنُ
الشَّهِيدِ، مَهْ بَعْضَ قَوْلِكَ لِأَخِيكَ عَلِيٍّ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ
أَنَّهُ أَخْشَنُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ". قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: ثَكِلَتْكَ
أُمُّكَ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، أَلَا أَرَانِي كُنْتُ فِيمَا يَكْرَهُ مُنْذُ
الْيَوْمِ وَمَا أَدْرِي، لَا جَرَمَ وَاللَّهِ لَا أَذْكُرُهُ بِسُوءٍ أَبَدًا
سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي
أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ الْأَسْلَمِيِّ،عَنْ
خَالِهِ عَمْرِو بْنِ شَأْسٍ الْأَسْلَمِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
الْحُدَيْبِيَةِ - قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّ فِي خَيْلِهِ الَّتِي بَعَثَهُ
فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ،
فَجَفَانِي عَلِيٌّ بَعْضَ الْجَفَاءِ، فَوَجَدْتُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي، فَلَمَّا
قَدِمْتُ
الْمَدِينَةَ اشْتَكَيْتُهُ فِي
مَجَالِسِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ مَنْ لَقِيتُهُ، فَأَقْبَلْتُ يَوْمًا وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا
رَآنِي أَنْظُرُ إِلَى عَيْنَيْهِ نَظَرَ إِلَيَّ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا جَلَسْتُ قَالَ: " أَمَا إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا عَمْرُو لَقَدْ
آذَيْتَنِي ". فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
أَعُوذُ بِاللَّهِ وَالْإِسْلَامِ أَنْ أُوذِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: " مَنْ آذَى عَلِيًّا فَقَدْ آذَانِي ".
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ
الْفَضْلِ بْنِ مَعْقِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نِيَارٍ، عَنْ خَالِهِ عَمْرِو
بْنِ شَأْسٍ، فَذَكَرَهُ. وَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانٍ، عَنِ الْفَضْلِ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ
أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ بِهِ، وَلَفْظُهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي
فَقَدْ آذَى اللَّهَ ". وَرَوَى عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِيُّ
عَنْ مُوسَى بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ نَجْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شَأْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يَا عَمْرُو، إِنَّهُ مَنْ آذَى عَلِيًّا فَقَدْ آذَانِي ".
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ، ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ، ثَنَا قَنَّانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النِّهْمِيُّ،ثَنَا مُصْعَبُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي
الْمَسْجِدِ أَنَا وَرَجُلَانِ مَعِي، فَنِلْنَا مِنْ عَلِيٍّ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي
وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَتَعَوَّذْتُ
بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ فَقَالَ: " مَا لَكَمَ وَمَا لِي ! مَنْ آذَى
عَلِيًّا فَقَدْ آذَانِي ".
حَدِيثُ غَدِيرِ خُمٍّ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ، الْمَعْنَى، قَالَا: ثَنَا فِطْرٌ، عَنْ أَبِي
الطُّفَيْلِ قَالَ:جَمَعَ عَلِيٌّ النَّاسَ فِي الرَّحْبَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:
أَنْشُدُ اللَّهَ كُلَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ مَا سَمِعَ لَمَّا قَامَ.
فَقَامَ ثَلَاثُونَ مِنَ النَّاسِ - قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَقَامَ نَاسٌ كَثِيرٌ
- فَشَهِدُوا حِينَ أَخَذَ بِيَدِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: " أَتَعْلَمُونَ أَنِّي
أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ؟ " قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ
وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". قَالَ: فَخَرَجْتُ كَأَنَّ فِي
نَفْسِي شَيْئًا، فَلَقِيتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ
عَلِيًّا يَقُولُ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَمَا تُنْكِرُ ؟ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ لَهُ وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ
عَنْهُ أَتَمَّ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ
الْحَارِثِ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، ثَنَا أَبُو إِسْرَائِيلَ
الْمُلَائِيُّ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنِ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَأَنَّ عَلِيًّا انْتَشَدَ النَّاسَ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ
فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ
" ؟ فَقَامَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا،
فَشَهِدُوا بِذَلِكَ، وَكُنْتُ
فِيهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ:
حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ
أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ:شَهِدْتُ
عَلِيًّا فِي الرَّحْبَةِ يُنَاشِدُ النَّاسَ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ:
" مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". لِمَا قَامَ فَشَهِدَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا، كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَى أَحَدِهِمْ عَلَيْهِ سَرَاوِيلُ، فَقَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّا سَمِعْنَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ:
" أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجِي
أُمَّهَاتُهُمْ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "
فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ
وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ".
ثُمَّ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ
الْوَكِيعِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ
نِزَارٍ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْعَنْسِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَذَكَرَهُ، قَالَ فَقَامَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا
فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ حِينَ أَخَذَ بِيَدِهِ يَقُولُ: "
اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ
وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ ". وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطُّهَوِيُّ،
وَاسْمُهُ عِيسَى بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِنْدٍ
الْجَمَلِيِّ وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ الثَّعْلَبِيِّ، كِلَاهُمَا، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. قَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُمَا أَبُو دَاوُدَ الطُّهَوِيُّ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَيْسَانَ الْمَدِينِيُّ
سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو
الْبَجَلِيُّ، ثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ عَمِيرَةَ بْنِ
سَعْدٍ قَالَ:شَهِدْتُ عَلِيًّا عَلَى الْمِنْبَرِ يُنَاشِدُ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ يَقُولُ مَا قَالَ ؟ فَقَامَ
اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَأَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ
وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". وَرَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ
بْنُ عُقْدَةَ الْحَافِظُ الشِّيعِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ
الْعَامِرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ فِطْرٍ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو ذِي مُرٍّ وَسَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ
يُثَيْعٍ قَالُوا: سَمِعْنَا عَلِيًّا يَقُولُ فِي الرَّحْبَةِ. فَذَكَرَ
نَحْوَهُ، فَقَامَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ
مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَأَحِبَّ مَنْ
أَحَبَّهُ وَأَبْغِضْ مَنْ أَبْغَضَهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ
خَذَلَهُ ". قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ حِينَ فَرَغَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: يَا
أَبَا بَكْرٍ، أَيُّ أَشْيَاخٍ هُمْ ! وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَكِيمٍ الْأَوْدِيِّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ
وَعَبْدِ خَيْرٍ قَالَا: ( سَمِعْنَا
عَلِيًّا بِرَحْبَةِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ
فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". فَقَامَ عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: نَشَدَ
عَلِيٌّ النَّاسَ، فَقَامَ خَمْسَةٌ أَوْ سِتَّةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَهِدُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ
مَوْلَاهُ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ ثَنَا حَنَشُ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ لَقِيطٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِيَاحِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: جَاءَ رَهْطٌ
إِلَى عَلَيٍّ بِالرَّحْبَةِ فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَوْلَانَا.
فَقَالَ: كَيْفَ أَكُونُ مَوْلَاكُمْ وَأَنْتُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ ؟ قَالُوا:
سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ
خُمٍّ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ هَذَا مَوْلَاهُ ".
قَالَ: رِيَاحٌ: فَلَمَّا مَضَوُا اتَّبَعْتُهُمْ فَسَأَلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟
قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فِيهِمْ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ
رِيَاحِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ فِي الرَّحْبَةِ مَعَ
عَلِيٍّ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ فَقَالَ: السَّلَامُ
عَلَيْكَ يَا مَوْلَايَ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: أَبُو أَيُّوبَ، سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ
".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا الرَّبِيعُ -
يَعْنِي ابْنَ أَبِي صَالِحٍ الْأَسْلَمِيَّ - حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي
زِيَادٍ الْأَسْلَمِيُّ،سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَنْشُدُ النَّاسَ
فَقَالَ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا مُسْلِمًا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ مَا قَالَ. فَقَامَ
اثْنَا عَشَرَ بَدْرِيًّا فَشَهِدُوا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ أَبِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ
عَلِيًّا فِي الرَّحْبَةِ وَهُوَ يَنْشُدُ النَّاسَ: مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ وَهُوَ يَقُولُ مَا قَالَ
؟ فَقَامَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ
فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: ثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، ثَنَا
شَبَابَةُ، ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو مَرْيَمَ وَرَجُلٌ مِنْ
جُلَسَاءِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ
مَوْلَاهُ ". قَالَ: فَزَادَ النَّاسُ بَعْدُ: " اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ
وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ
مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
وَقَالَ غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي
سَرِيحَةَ أَوْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - شُعْبَةَ الشَّاكُّ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ
فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَأَنَا قَدْ
سَمِعْتُهُ قَبْلَ هَذَا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ بُنْدَارٍ،
عَنْ غُنْدَرٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ مَيْمُونِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَأَنَا أَسْمَعُ:نَزَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي خُمٍّ. فَأَمَرَ
بِالصَّلَاةِ فَصَلَّاهَا بِهَجِيرٍ. قَالَ: فَخَطَبَنَا وَظُلِّلَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوْبٍ عَلَى شَجَرَةِ سَمُرٍ مِنَ
الشَّمْسِ، فَقَالَ: " أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ - أَوْ: أَلَسْتُمْ
تَشْهَدُونَ - أَنِّي أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ ؟ " قَالُوا:
بَلَى. قَالَ: " فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإِنَّ عَلِيًّا مَوْلَاهُ،
اللَّهُمَّ عَادِ مَنْ عَادَاهُ وَوَالِ مَنْ وَالَاهُ ". وَكَذَا رَوَاهُ
أَحْمَدُ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَيْمُونِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ جَمَاعَةٌ،
مِنْهُمْ ; أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَحَبِيبٌ الْإِسْكَافُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ،
وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ، وَأَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ.
وَقَدْ رَوَاهُ مَعْرُوفُ بْنُ خَرَّبُوذَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ
حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ قَالَ:
لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ
شَجَرَاتٍ بِالْبَطْحَاءِ مُتَقَارِبَاتٍ أَنْ يَنْزِلُوا حَوْلَهُنَّ، ثُمَّ
بَعَثَ إِلَيْهِنَّ فَصَلَّى تَحْتَهُنَّ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: " أَيُّهَا
النَّاسُ، قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُ لَمْ يُعَمَّرْ نَبِيٌّ
إِلَّا مِثْلَ نِصْفِ عُمْرِ الَّذِي مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ أَنْ
يُوشِكَ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي مَسْئُولٌ وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ،
فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ " قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ
وَنَصَحْتَ وَجَهَدْتَ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. قَالَ: " أَلَسْتُمْ
تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ جَنَّتَهُ حَقٌّ، وَأَنَّ نَارَهُ حَقٌّ، وَأَنَّ الْمَوْتَ
حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا
رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ؟ " قَالُوا:
بَلَى نَشْهَدُ بِذَلِكَ. قَالَ: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ ". ثُمَّ قَالَ:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ مَوْلَايَ وَأَنَا مَوْلَى
الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ
فَهَذَا مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ".
ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي فَرَطُكُمْ وَإِنَّكُمْ وَارِدُونَ
عَلَى الْحَوْضِ، حَوْضٌ أَعْرَضُ مِمَّا بَيْنَ بُصْرَى وَصَنْعَاءَ، فِيهِ
آنِيَةٌ عَدَدَ النُّجُومِ، قُدْحَانٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِنِّي سَائِلُكُمْ حِينَ
تَرِدُونَ عَلَيَّ عَنِ الثَّقَلَيْنِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا
; الثَّقَلُ الْأَكْبَرُ كِتَابُ اللَّهِ، سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَطَرَفٌ بِأَيْدِيكُمْ، فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ لَا تَضِلُّوا وَلَا
تُبَدِّلُوا، وَعِتْرَتَي أَهْلُ بَيْتِي ; فَإِنَّهُ قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ أَنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الْحَوْضِ ".
رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِطُولِهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْرُوفٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ
جُدْعَانَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ
ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
نَزَلْنَا غَدِيرَ خُمٍّ فَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي، فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا
قَالَ: " أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ؟ " قُلْنَا: بَلَى
يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أُمَّهَاتِكُمْ
؟ ". قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَلَسْتُ أَوْلَى
بِكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:
" أَلَسْتُ، أَلَسْتُ، أَلَسْتُ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ
اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ
مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
هَنِيئًا لَكَ يَا بْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ الْيَوْمَ وَلِيَّ كُلِّ
مُؤْمِنٍ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ. وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ هُدْبَةَ
بْنِ خَالِدٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ السَّامِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ وَأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ عَدِيِّ
بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُثْمَانَ
الْحَضْرَمِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ سَعْدٍ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ،
وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَهُ طُرُقٌ عَنْهُ، وَأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ وَحُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَلَهُ عَنْهُ طُرُقٌ، مِنْهَا - وَهِيَ
أَغْرَبُهَا - الطَّرِيقُ الَّتِي قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
بِشْرَانَ،
أَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو نَصْرِ حَبْشُونُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ الْخَلَّالُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَنْ صَامَ يَوْمَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ كُتِبَ لَهُ صِيَامُ سِتِّينَ شَهْرًا، وَهُوَ يَوْمُ غَدِيرِ خُمٍّ لَمَّا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: " أَلَسْتُ وَلِيَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ " قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَخٍ بَخٍ لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ: 3 ]. وَمَنْ صَامَ يَوْمَ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ كُتِبَ لَهُ صِيَامُ سِتِّينَ شَهْرًا، وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالرِّسَالَةِ. قَالَ: الْخَطِيبُ: اشْتَهَرَ هَذَا الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ حَبْشُونَ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمِ بْنِ مِهْرَانَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النِّيرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الشَّامِيِّ. قُلْتُ: وَفِيهِ نَكَارَةٌ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ: نَزَلَ فِيهِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ - وَقَدْ وَرَدَ مَثَلُهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيَّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا - وَإِنَّمَا نَزَلَ ذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ غَيْرِ مَنْ ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ وَالْأَسَانِيدُ إِلَيْهِمْ ضَعِيفَةٌ.
حَدِيثُ الطَّيْرِ: وَهَذَا الْحَدِيثُ
قَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِيهِ، وَلَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا
نَظَرٌ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ مُوسَى، عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرٌ فَقَالَ:
" اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا
الطَّيْرَ ". فَجَاءَ عَلِيٌّ فَأَكَلَ مَعَهُ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو
يَعْلَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُسْهِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ
عِيسَى بْنِ عُمَرَ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا قَطَنُ بْنُ بَشِيرٍ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُثَنَّى، ثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَلٌ مَشْوِيٌّ بِخُبْزِهِ وَصِنَابِهِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ
ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّعَامِ
". فَقَالَتْ عَائِشَةُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَبِي. وَقَالَتْ حَفْصَةُ:
اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ أَبِي. وَقَالَ أَنَسٌ: وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَالَ: أَنَسٌ: فَسَمِعْتُ حَرَكَةً بِالْبَابِ،
فَخَرَجْتُ، فَإِذَا عَلِيٌّ، فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَاجَةٍ. فَانْصَرَفَ، ثُمَّ سَمِعْتُ حَرَكَةً
بِالْبَابِ، فَخَرَجْتُ
فَإِذَا عَلِيٌّ بِالْبَابِ. فَقُلْتُ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَاجَةٍ.
فَانْصَرَفَ، ثُمَّ سَمِعْتُ حَرَكَةً بِالْبَابِ، فَسَلَّمَ عَلِيٌّ، فَسَمِعَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: "
انْظُرْ مَنْ هَذَا ؟ " فَخَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ، فَجِئْتُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:
" ائْذَنْ لَهُ ". فَدَخَلَ عَلِيٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ، اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ
".
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ "، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ
الْحَافِظِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الصَّفَّارِ وَحُمَيْدِ بْنِ يُونُسَ
الزَّيَّاتِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ أَبِي
غَسَّانَ أَحْمَدَ بْنِ عِيَاضِ بْنِ أَبِي طَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسٍ،
فَذَكَرَهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ غَرِيبٌ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا الْحَدِيثُ
عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ أَبَا
عُلَاثَةَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ عِيَاضٍ هَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ، لَكِنْ
رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ عَنْ أَبِيهِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ
أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ، ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ أَبِيهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْحَاكِمُ: وَقَدْ رَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ أَكْثَرُ مِنْ
ثَلَاثِينَ نَفْسًا. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الذَّهَبِيُّ: وَصْلُهُمْ بِثِقَةٍ يَصِحُّ الْإِسْنَادُ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ
الْحَاكِمُ: وَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَسَفِينَةَ.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: لَا وَاللَّهِ مَا صَحَّ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ. ثُمَّ رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ ثَابِتٍ الْقَصَّارِ - وَهُوَ مَجْهُولٌ - عَنْ ثَابِتِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، فَجَعَلَ يَسُبُّ عَلِيًّا، فَقَالَ أَنَسٌ: اسْكُتْ عَنْ سَبِّ عَلِيٍّ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا، وَهُوَ مُنْكَرٌ سَنَدًا وَمَتْنًا، ثُمَّ لَمْ يُورِدِ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " غَيْرَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ خَالِدٍ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ. وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ إِسْنَادِ الْحَاكِمِ. وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ أَبُو الْعَلَاءِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرٌ مَشْوِيٌّ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ ". فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الشَّامِيُّ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ دَعْلَجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَرْتَنِيسِيُّ عَنْ زُهَيْرٍ، عَنْ عُثْمَانَ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ سُكَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَيْمُونِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. فَذَكَرَهُ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيِّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونٍ
أَبِي خَلَفٍ، تَفَرَّدَ بِهِ سُكَيْنُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَرَوَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ قُتَيْبَةَ،
عَنْ بِشْرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ الْفَيْضِ، ثَنَا الْمَضَاءُ بْنُ
الْجَارُودِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ زِيَادٍ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ
يُوسُفَ دَعَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ مِنَ الْبَصْرَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَائِرٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَطُبِخَ وَصُنِعَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي
بِأَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَيَّ يَأْكُلُ مَعِي " فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَا
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ نَجِيحٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْقَاسِمِ النَّحْوِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي
الْهِنْدِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ الْحَكَمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الْوَرَّاقُ، ثَنَا
مُسْهِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَلْعٍ - ثِقَةٌ - ثَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ،
عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَهُ طَائِرٌ فَقَالَ: "
اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا
الطَّيْرَ ". فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَرَدَّهُ،
ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَرَدَّهُ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَذِنَ لَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ الْمُخْتَارِ الْكُوفِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِرٌ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي ". قَالَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ ذَا ؟ فَقَالَ: أَنَا عَلِيٌّ. فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَاجَةٍ. حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَجَاءَ الرَّابِعَةَ فَضَرَبَ الْبَابَ بِرِجْلِهِ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا حَبَسَكَ ؟ " فَقَالَ: قَدْ جِئْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَحْبِسُنِي أَنَسٌ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ يَعْقُوبَ الدَّقَّاقِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ الْكِسَائِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: لَمْ نَكْتُبْهُ إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَسَاقَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ - رَجُلٍ مَنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَذَكَرَهُ. وَمِنْ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْمِهْرِقَانِيِّ، عَنِ النَّجْمِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سُلَيْمَانَ أَخِي إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ الرَّازِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَمِنْ حَدِيثِ
سُلَيْمَانَ بْنِ قَرْمٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ
أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، ثَنَا مُسْلِمٌ
الْمُلَائِيُّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَأَهَدَتْ أُمُّ أَيْمَنَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرًا مَشْوِيًّا، فَقَالَ: "
اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِمَنْ تُحِبُّهُ يَأْكُلُ مَعِي مِنْ هَذَا الطَّيْرِ
". قَالَ أَنَسٌ: فَجَاءَ عَلِيٌّ فَاسْتَأْذَنَ، فَقُلْتُ: هُوَ عَلَى
حَاجَتِهِ. فَرَجَعَ، ثُمَّ عَادَ فَاسْتَأْذَنَ فَقُلْتُ: هُوَ عَلَى حَاجَتِهِ.
فَرَجَعَ، ثُمَّ عَادَ فَاسْتَأْذَنَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ، فَقَالَ: " ائْذَنْ لَهُ ". فَدَخَلَ
وَهُوَ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَحَمِدَ اللَّهَ.
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ
ضَعْفٌ وَمَقَالٌ. وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي
جُزْءٍ جَمَعَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ مَا أَوْرَدَ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً
نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا: وَيُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وُجُوهٍ بَاطِلَةٍ
أَوْ مُظْلِمَةٍ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَأَبِي عِصَامٍ خَالِدِ بْنِ
عُبَيْدٍ، وَدِينَارِ أَبِي مَكْيَسٍ، وَزِيَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيِّ،
وَزِيَادٍ الْعَبْسِيِّ، وَزِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَسَعْدِ بْنِ مَيْسَرَةَ
الْبَكْرِيِّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ
الْأَمِيرِ، وَسَلَمَةَ بْنِ وَرْدَانَ، وَصَبَّاحِ بْنِ مُحَارِبٍ، وَطَلْحَةَ
بْنِ مُصَرِّفٍ، وَأَبِي الزِّنَادِ، وَعَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ، وَعُمَرَ
بْنِ رَاشِدٍ، وَعُمَرَ بْنِ أَبِي حَفْصٍ الثَّقَفِيِّ الضَّرِيرِ، وَعُمَرَ بْنِ
سُلَيْمٍ الْبَجَلِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ يَحْيَى الثَّقَفِيِّ، وَعُثْمَانَ
الطَّوِيلِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، وَعِيسَى بْنِ طَهْمَانَ، وَعَطِيَّةَ
الْعَوْفِيِّ، وَعَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَعَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ،
وَعَبَّاسِ بْنِ عَلِيٍّ، وَفُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، وَقَاسِمِ بْنِ حَبِيبٍ،
وَكُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الْبَاقِرِ، وَالزُّهْرِيِّ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَالِكٍ
الثَّقَفِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَمُوسَى
الطَّوِيلِ، وَمَيْمُونِ بْنِ جَابِرٍ السُّلَمِيِّ، وَمَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ
الْحَمِيدِ، وَمُعَلَّى بْنِ أَنَسٍ، وَمَيْمُونٍ أَبِي خَلَفٍ الْحَرَّانِيِّ،
وَقِيلَ: أَبُو خَالِدٍ. وَمَطَرٍ أَبِي خَالِدٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، وَمُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، وَنَافِعٍ
مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، وَالنَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَيُوسُفَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، وَيُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ، وَيَزِيدَ بْنِ سُفْيَانَ، وَيَزِيدَ بْنِ
أَبِي حَبِيبٍ، وَأَبِي الْمَلِيحِ، وَأَبِي الْحَكَمِ، وَأَبِي دَاوُدَ
السَّبِيعِيِّ، وَأَبِي حَمْزَةَ الْوَاسِطِيِّ، وَأَبِي حُذَيْفَةَ
الْعُقَيْلِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ هُدْبَةَ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ
الْجَمِيعَ: الْجَمِيعُ بِضْعَةٌ وَتِسْعُونَ نَفْسًا، أَقْرَبُهَا غَرَائِبُ
ضَعِيفَةٌ، وَأَرْدَؤُهَا طُرُقٌ مُخْتَلِفَةٌ مُفْتَعَلَةٌ، وَغَالِبُهَا طُرُقٌ
وَاهِيَةٌ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ وَأَبُو يَعْلَى
الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ أَرْقَمَ، ثَنَا
مُطَيْرُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:أَهَدَتِ امْرَأَةٌ مِنَ
الْأَنْصَارِ طَائِرَيْنِ بَيْنَ رَغِيفَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْتِ غَيْرِي وَغَيْرُ أَنَسٍ،
فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِغَدَائِهِ،
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَهْدَتْ لَكَ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ
هَدِيَّةً. فَقَدَّمْتُ الطَّائِرَيْنِ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ
إِلَيْكَ وَإِلَى رَسُولِكَ ". فَجَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَضَرَبَ
الْبَابَ ضَرْبًا خَفِيًّا، فَقُلْتُ:
مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: أَبُو الْحَسَنِ. ثُمَّ ضَرَبَ الْبَابَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ هَذَا ؟
" قُلْتُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " افْتَحْ لَهُ ".
فَفَتَحْتُ لَهُ، فَأَكَلَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الطَّيْرَيْنِ حَتَّى فَنِيَا.
وَرَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ صَاعِدٍ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، ثَنَا حُسَيْنُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ،
عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِطَائِرٍ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِرَجُلٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ ". فَجَاءَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ
".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ، فَقَالَ عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ: ثَنَا عِيسَى
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَيْرٌ يُقَالُ لَهُ: الْحُبَارَى فَوُضِعَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَحْجُبُهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: "
اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ
". قَالَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ فَاسْتَأْذَنَ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - يَعْنِي - عَلَى حَاجَتِهِ، فَرَجَعَ ثُمَّ أَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ، فَرَجَعَ ثُمَّ دَعَا
الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ وَإِلَيَّ ".
فَأَكَلَ مَعَهُ، فَلَمَّا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَخَرَجَ عَلِيٌّ، قَالَ أَنَسٌ: اتَّبَعْتُ عَلِيًّا فَقُلْتُ: يَا
أَبَا الْحَسَنِ، اسْتَغْفِرْ لِي فَإِنَّ لِي إِلَيْكَ ذَنْبًا، وَإِنَّ عِنْدِي
بِشَارَةً. فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ
مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَاسْتَغْفَرَ لِي، وَرَضِيَ عَنِّي ; أَذْهَبَ ذَنْبِي عِنْدَهُ بِشَارَتِي
إِيَّاهُ. وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَوْرَدَهُ
ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ،
عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ،
فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَكِنَّ إِسْنَادَهُ مُظْلِمٌ وَفِيهِ
ضُعَفَاءُ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ، وَلَا يَصِحُّ
أَيْضًا، وَمِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ، وَالْإِسْنَادُ إِلَيْهِ مُظْلِمٌ،
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ نَحْوَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ طَرِيقُهُ مُظْلِمٌ.
وَقَدْ جَمَعَ النَّاسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةً، مِنْهُمْ ;
أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ، فِيمَا رَوَاهُ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الذَّهَبِيُّ، وَرَأَيْتُ فِيهِ مُجَلَّدًا فِي جَمْعِ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ
لِأَبِي جَعْفَرِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ الْمُفَسِّرِ صَاحِبِ "
التَّارِيخِ "، ثُمَّ وَقَفْتُ عَلَى مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ فِي رَدِّهِ
وَتَضْعِيفِهِ سَنَدًا وَمَتْنًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الْمُتَكَلِّمِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي الْقَلْبِ مِنْ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ، وَإِنْ
كَثُرَتْ طُرُقُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي فَضْلِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الشَّافِعِيُّ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الْأَسَدِيُّ، ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ
عَدِيٍّ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ
رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي نَخْلٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ:
الْأَسْوَافُ. فَفَرَشَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَحْتَ صَوْرٍ لَهَا مَرْشُوشٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَجَاءَ
أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ: " الْآنَ يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ ". فَجَاءَ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: " الْآنَ يَأْتِيكُمْ
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ مُطَأْطِئًا
رَأْسَهُ مِنْ تَحْتِ الصَّوْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ
جَعَلَتْهُ عَلِيًّا ". فَجَاءَ عَلِيٌّ، ثُمَّ إِنَّ الْأَنْصَارِيَّةَ
ذَبَحَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً
وَصَنَعَتْهَا، فَأَكَلَ وَأَكَلْنَا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الظَّهْرُ قَامَ يُصَلِّي
وَصَلَّيْنَا، مَا تَوَضَّأَ وَلَا تَوَضَّأْنَا، فَلَمَّا حَضَرَتِ الْعَصْرُ
صَلَّى، وَمَا تَوَضَّأَ وَلَا تَوَضَّأْنَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ
الْكُوفِيُّ، ثَنَا ابْنُ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ،
عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أُمِّي عَلَى عَائِشَةَ،
فَسَأَلْتُهَا عَنْ عَلِيٍّ فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا كَانَ أَحَبَّ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَلَا امْرَأَةً
كَانَتْ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِ
امْرَأَتِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الشِّيعَةِ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ
عُمَيْرٍ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ،
ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْجَدَلِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ لِي:
أَيُسَبُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكُمْ ؟ فَقُلْتُ: مَعَاذَ اللَّهِ - أَوْ:
سُبْحَانَ اللَّهِ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ سَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ
سَبَّنِي ".
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
مُوسَى، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَجْلِيِّ - مِنْ بَجْلَةَ مِنْ
سُلَيْمٍ - عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ
قَالَ:قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أَيُسَبُّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيكُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَأَنَّى ذَلِكَ ؟
قَالَتْ: أَلَيْسَ يُسَبُّ عَلِيٌّ وَمَنْ أَحَبَّهُ ؟ فَأَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّهُ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ
غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِهَا وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ: " كَذَبَ مَنْ
زَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّنِي وَيُبْغِضُكَ ". وَلَكِنَّ أَسَانِيدَهَا كُلَّهَا
ضَعِيفَةٌ لَا يُحْتَجُّ بِهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ،
عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا
يَقُولُ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيَّ: " إِنَّهُ لَا
يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ ". وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَوَكِيعٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ
أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ
الْخُرَيْبِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى، وَمُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ،
وَيَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. وَأَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ وَكِيعٍ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ حَسَّانُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ
بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَهُ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ
وَجْهٍ عَنْ عَلِيٍّ. وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبِي
نَصْرٍ، حَدَّثَنِي مُسَاوِرٌ الْحِمْيَرِيُّ، عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: سَمِعْتُ
أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ: " لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَلَا يُحِبُّكَ
مُنَافِقٌ " وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ
بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلَا يَصِحُّ.
وَرَوَى ابْنُ عُقْدَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَزِيعٍ، ثَنَا عُمَرُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا سَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى
الْجَزَّارِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ آمَنَ بِي
وَبِمَا جِئْتُ بِهِ وَهُوَ يُبْغِضُ
عَلِيًّا، فَهُوَ كَاذِبٌ لَيْسَ
بِمُؤْمِنٍ ". وَهَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُخْتَلَقٌ لَا يَثْبُتُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَزَوَّرِ، سَمِعْتُ أَبَا مَرْيَمَ الثَّقَفِيَّ، سَمِعْتُ
عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ يَقُولُ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ: " طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّكَ وَصَدَقَ فِيكَ،
وَوَيْلٌ لِمَنْ أَبْغَضَكَ وَكَذَبَ فِيكَ ". وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا
الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَا أَصَلَ لَهَا.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي الْأَزْهَرِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ، ثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: " أَنْتَ سَيِّدٌ فِي
الدُّنْيَا، سَيِّدٌ فِي الْآخِرَةِ، مَنْ أَحَبَّكَ فَقَدْ أَحَبَّنِي،
وَحَبِيبُكَ حَبِيبُ اللَّهِ، وَمَنْ أَبْغَضَكَ فَقَدْ أَبْغَضَنِي، وَبَغِيضُكَ
بَغِيضُ اللَّهِ، وَالْوَيْلُ لِمَنْ أَبْغَضَكَ مِنْ بَعْدِي ". وَرَوَى
غَيْرُ وَاحِدٍ أَيْضًا عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حَصِيرَةَ، عَنْ أَبِي صَادِقٍ، عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ نَاجِذٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " إِنَّ فِيكَ مِنْ عِيسَى مَثْلًا،
أَبْغَضَتْهُ يَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ، وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى
أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلِ الَّذِي لَيْسَ بِهِ ". قَالَ عَلِيٌّ: أَلَا
وَإِنَّهُ يَهْلِكُ فِيَّ اثْنَانِ ; مُحِبٌّ مُطْرٍ يُقَرِّظُنِي بِمَا لَيْسَ
فِيَّ، وَمُبْغِضٌ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي
عَلَى أَنْ يَبْهَتَنِي، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِنَبِيٍّ وَلَا يُوحَى إِلَيَّ،
وَلَكِنِّي أَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اسْتَطَعْتُ، فَمَا أَمَرْتُكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ
فَحَقٌّ عَلَيْكُمْ طَاعَتِي فِيمَا أَحْبَبْتُمْ وَكَرِهْتُمْ. لَفْظُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحُمَيْدِ، ثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ
عَبَايَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَنَا قَسِيمُ النَّارِ، إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ قُلْتُ: هَذَا لَكِ وَهَذَا لِي. قَالَ يَعْقُوبُ: وَمُوسَى بْنُ
طَرِيفٍ ضَعِيفٌ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُعَدِّلُهُ، وَعَبَايَةُ أَقَلُّ مِنْهُ،
لَيْسَ حَدِيثُهُ بِشَيْءٍ. وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ لَامَ الْأَعْمَشَ
عَلَى تَحْدِيثِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ: إِذَا نَسِيتُ
فَذَكِّرُونِي. وَيُقَالُ: إِنَّ الْأَعْمَشَ إِنَّمَا رَوَاهُ عَلَى سَبِيلِ
الِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّوَافِضِ وَالتَّنْقِيصِ لَهُمْ فِي تَصْدِيقِهِمْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْعَوَامِّ - بَلْ هُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ
كَثِيرٍ مِنْهُمْ - أَنَّ عَلِيًّا هُوَ السَّاقِي عَلَى الْحَوْضِ، فَلَيْسَ لَهُ
أَصْلٌ، وَلَمْ يَجِئْ مِنْ طَرِيقٍ مَرْضِيٍّ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي
ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي
يَسْقِي النَّاسَ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ
يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَاكِبًا إِلَّا أَرْبَعَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْبُرَاقِ، وَصَالِحٌ عَلَى نَاقَتِهِ،
وَحَمْزَةُ عَلَى الْعَضْبَاءِ، وَعَلِيٌّ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ
رَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّهْلِيلِ. وَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ
أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ مِنْ وَضْعِ
الرَّافِضَةِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ،
ثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيٍّ
قَالَ: مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
وَجِعٌ، وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي،
وَإِنْ كَانَ آجِلًا فَارْفَعْنِي، وَإِنْ كَانَ بَلَاءً فَصَبِّرْنِي. قَالَ:
" مَا قُلْتَ ؟ " فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، فَضَرَبَنِي بِرِجْلِهِ وَقَالَ:
" مَا قُلْتَ ؟ " فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ
عَافِهِ " أَوِ: " اشْفِهِ ". قَالَ: فَمَا اشْتَكَيْتُ ذَلِكَ
الْوَجَعَ بَعْدُ. حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ:
ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، ثَنَا أَبُو عُمَرَ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِي
رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى
آدَمَ فِي عِلْمِهِ، وَإِلَى نُوحٍ فِي فَهْمِهِ، وَإِلَى إِبْرَاهِيمَ فِي
حِلْمِهِ، وَإِلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فِي زُهْدِهِ، وَإِلَى مُوسَى فِي
بَطْشِهِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ". وَهَذَا حَدِيثٌ
مُنْكَرٌ جِدًّا، وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ.
حَدِيثُ رَدِّ الشَّمْسِ لَهُ حَتَّى صَلَّى الْعَصْرَ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ، قَدْ
ذَكَّرْنَاهُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِأَسَانِيدِهِ وَأَلْفَاظِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى
التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الْكُوفِيُّ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْأَجْلَحِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا يَوْمَ
الطَّائِفِ فَانْتَجَاهُ، فَقَالَ النَّاسُ: لَقَدْ طَالَ نَجْوَاهُ مَعَ ابْنِ
عَمِّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا
انْتَجَيْتُهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ انْتَجَاهُ ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْأَجْلَحِ، وَقَدْ رَوَاهُ
غَيْرُ ابْنِ فُضَيْلٍ عَنِ الْأَجْلَحِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: " وَلَكِنَّ
اللَّهَ انْتَجَاهُ ". أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْتَجِيَ مَعَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَيَعْقُوبُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي
الْجَرَّاحِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ صُبْحٍ، حَدَّثَتْنِي أُمِّي أُمُّ شَرَاحِيلَ،
حَدَّثَتْنِي أُمُّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا فِيهِمْ عَلِيٌّ. قَالَتْ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ يَقُولُ: "
اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تُرِيَنِي عَلِيًّا ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ
قَالَ: حُصَيْنٌ أَخْبَرَنَا عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
ظَالِمٍ الْمَازِنِيِّ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنَ الْكُوفَةِ
اسْتَعْمَلَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ. قَالَ: فَأَقَامَ خُطَبَاءَ يَقَعُونَ
فِي عَلِيٍّ. قَالَ: وَأَنَا إِلَى جَنْبِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
نُفَيْلٍ. قَالَ: فَغَضِبَ، فَقَامَ وَأَخَذَ بِيَدِي فَتَبِعْتُهُ، فَقَالَ:
أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الظَّالِمِ لِنَفَسِهِ الَّذِي يَأْمُرُ
بِلَعْنِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ! وَأَشْهَدُ عَلَى التِّسْعَةِ أَنَّهُمْ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَوْ شَهِدْتُ عَلَى الْعَاشِرِ لَمْ
آثَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ ؟
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اثْبُتْ
حِرَاءُ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ ".
قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٍّ، وَالزُّبَيْرُ،
وَطَلْحَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ:
قُلْتُ: وَمَنِ الْعَاشِرُ ؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ هَاهُنَا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ الْمُتَقَدِّمُ
قَرِيبًا، أَنَّهَا قَالَتْ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيِّ: أَيُسَبُّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكُمْ عَلَى الْمَنَابِرِ ؟
الْحَدِيثَ، رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ وَابْنُ
أَبِي بُكَيْرٍ قَالَا: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حُبْشِيِّ
بْنِ جُنَادَةَ السَّلُولِيِّ - وَكَانَ قَدْ شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ - قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِيٌّ مِنِّي وَأَنَا
مِنْهُ، وَلَا يُؤَدِّي عَنِّي إِلَّا أَنَا أَوْ عَلِيٌّ ". ثُمَّ رَوَاهُ
أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: قَالَ إِسْرَائِيلُ:
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ بِ " بَرَاءَةٌ
" إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، مَنْ
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُدَّةٌ فَأَجَلُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَاللَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَسَارَ بِهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: "
الْحَقْهُ وَرُدَّ عَلَيَّ أَبَا بَكْرٍ، وَبَلِّغْهَا أَنْتَ ". قَالَ:
فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَكَى وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدَثَ فِيَّ شَيْءٌ ؟ قَالَ:
" مَا حَدَثَ فِيكَ إِلَّا
خَيْرٌ، وَلَكِنْ أُمِرْتُ أَنْ لَا
يُبَلِّغَهُ إِلَّا أَنَا أَوْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ".
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ
لُوَيْنٌ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ حَنَشٍ، عَنْ عَلِيٍّ
قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَشْرُ آيَاتٍ مِنْ " بَرَاءَةٌ " عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ، فَبَعَثَهُ بِهَا لِيَقْرَأَهَا عَلَى
أَهْلِ مَكَّةَ ثُمَّ دَعَانِي، فَقَالَ لِي: " أَدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ،
فَحَيْثُ لَحِقْتَهُ فَخُذِ الْكِتَابَ مِنْهُ، فَاذْهَبْ بِهِ إِلَى أَهْلِ
مَكَّةَ فَاقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ ". فَلَحِقْتُهُ بِالْجُحْفَةِ فَأَخَذْتُ
الْكِتَابَ مِنْهُ، وَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَزَلَ
فِيَّ شَيْءٍ ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ جَاءَنِي فَقَالَ: لَا
يُؤَدِّي عَنْكَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ رَجُلٌ مِنْكَ ". وَقَدْ رَوَاهُ كَثِيرٌ
النِّوَّاءُ. عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ
نَكَارَةٌ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ بِرَدِّ الصِّدِّيقِ ; فَإِنَّ الصِّدِّيقَ لَمْ
يَرْجِعْ، بَلْ كَانَ هُوَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ هُوَ
وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ بَعَثَهُمُ الصِّدِّيقُ يَطُوفُونَ بِرِحَابِ مِنًى فِي يَوْمِ
النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُنَادُونَ بِ " بَرَاءَةٌ ". وَقَدْ
قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي حَجَّةِ الصِّدِّيقِ، وَفِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ
" بَرَاءَةٌ ".
حَدِيثٌ آخَرُ: رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَعُمَرَ،
وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَأَنَسٍ، وَثَوْبَانَ، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي
ذَرٍّ، وَجَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ
عَلِيٍّ عِبَادَةٌ ". وَفِي
حَدِيثِ عَائِشَةَ: " ذِكْرُ عَلِيٍّ عِبَادَةٌ ". وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ
شَيْءٌ مِنْهَا ; فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو كُلُّ سَنَدٍ مِنْهَا عَنْ كَذَّابٍ أَوْ
مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، وَهُوَ شِيعِيٌّ.
حَدِيثُ الصَّدَقَةِ بِالْخَاتَمِ وَهُوَ رَاكِعٌ:
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمٍ
الرَّازِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ضُرَيْسٍ الْعَبْدِيُّ، ثَنَا
عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [
الْمَائِدَةِ: 55 ]. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بَيْنَ رَاكِعٍ وَقَائِمٍ، وَإِذَا
سَائِلٌ، فَقَالَ: " يَا سَائِلُ، هَلْ أَعْطَاكَ أَحَدٌ شَيْئًا ؟ "
فَقَالَ: لَا، إِلَّا هَاذَاكَ الرَّاكِعُ - لِعَلِيٍّ - أَعْطَانِي خَاتَمَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ: أَنَا خَالِي أَبُو الْمَعَالِي الْقَاضِي،
أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْخِلَعِيُّ، أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الشَّاهِدُ، ثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الرَّمْلِيُّ، ثَنَا الْقَاضِي جُمْلَةُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْأَحْوَلُ،
عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلِيٌّ بِخَاتَمِهِ
وَهُوَ رَاكِعٌ، فَنَزَلَتْ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ مِنَ
الْوُجُوهِ ; لِضَعْفِ أَسَانِيدِهِ، وَلَمْ يَنْزِلْ فِي عَلِيٍّ شَيْءٌ مِنَ
الْقُرْآنِ بِخُصُوصِيَّتِهِ، وَكُلُّ مَا يُورِدُونَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [ الرَّعْدِ: 7 ]. وَقَوْلِهِ
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [
الْإِنْسَانِ: 8 ]. وَقَوْلُهُ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [
التَّوْبَةِ: 19 ]. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ
فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [
الْحَجِّ: 19 ]. فَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي
عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ
وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَزَلَ فِي أَحَدٍ مِنَ
النَّاسِ مَا نَزَلَ فِي عَلِيٍّ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَ
فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ آيَةٍ. فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُ لَا هَذَا وَلَا هَذَا.
وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا مَا قَالُوا فِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَزَلَتْ آيَةٌ
فِيهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَّا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَأْسُهَا. كُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ غُلُوِّ
الرَّافِضَةِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو سَعِيدِ
بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ، ثَنَا
الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُثَنَّى الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ عَمِّهِ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، إِذْ
أَقْبَلَ عَلِيٌّ فَسَلَّمَ، ثُمَّ وَقَفَ يَنْظُرُ مَكَانًا يَجْلِسُ فِيهِ،
فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وُجُوهِ
أَصْحَابِهِ أَيُّهُمْ يُوَسِّعُ لَهُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا، فَتَزَحْزَحَ أَبُو بَكْرٍ
عَنْ مَجْلِسِهِ وَقَالَ: هَاهُنَا يَا أَبَا الْحَسَنِ. فَجَلَسَ بَيْنَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَرَأَيْنَا
السُّرُورَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّمَا يَعْرِفُ
الْفَضْلَ لِأَهْلِ الْفَضْلِ ذَوُو الْفَضْلِ ". فَأَمَّا الْحَدِيثُ
الْوَارِدُ عَنْ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: " عَلِيٌّ خَيْرُ
الْبَشَرِ، مَنْ أَبَى فَقَدْ كَفَرَ ". فَهُوَ مَوْضُوعٌ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ
مَعًا. قَبَّحَ اللَّهُ مَنْ وَضَعَهُ وَاخْتَلَقَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
مُوسَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الرُّومِيِّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ
عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
أَنَا دَارُ الْحِكْمَةِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا
الْحَدِيثُ غَرِيبٌ. قَالَ: وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ.
قُلْتُ: رَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ
سَعِيدٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنِ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ
مَرْفُوعًا: " أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ
الْعِلْمَ فَلْيَأْتِ بَابَ الْمَدِينَةِ ".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ
بْنِ سَلَمَةَ أَبِي عَمْرٍو الْجُرْجَانِيِّ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ
بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيَأْتِهَا مِنْ قِبَلِ بَابِهَا ".
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ يُعْرَفُ بِأَبِي الصَّلْتِ
الْهَرَوِيِّ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، سَرَقَهُ مِنْهُ أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ
هَذَا، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ. هَكَذَا قَالَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنِ ابْنِ
مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَيْمَنَ، أَنَّ أَبَا مُعَاوِيَةَ
حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَدِيمًا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهُ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو
الصَّلْتِ رَجُلًا مُوسِرًا يُكْرِمُ الْمَشَايِخَ وَيُحَدِّثُونَهُ بِهَذِهِ
الْأَحَادِيثِ. وَسَاقَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ مُظْلِمٍ عَنْ جَعْفَرٍ
الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
فَذَكَرَهُ مَرْفُوعًا، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ جَابِرٍ. قَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ: وَهُوَ مَوْضُوعٌ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: لَا
يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ يَقْرُبُ مِمَّا
قَبْلَهُ: قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ
النَّيْسَابُورِيُّ، ثَنَا ابْنُ بِنْتِ أَبِي أُسَامَةَ - هُوَ جَعْفَرُ بْنُ
هُذَيْلٍ - ثَنَا ضِرَارُ بْنُ صُرَدٍ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ،
عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبَايَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " عَلِيٌّ عَيْبَةُ عِلْمِي ".
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ: قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: ثَنَا أَبُو
يَعْلَى، ثَنَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، ثَنَا حُيَيُّ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي
مَرَضِهِ: " ادْعُوا لِي أَخِي ". فَدَعَوا لَهُ أَبَا بَكْرٍ،
فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي أَخِي ". فَدَعَوا لَهُ
عُمَرَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي أَخِي ".
فَدَعَوا لَهُ عُثْمَانَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ: " ادْعُوا لِي
أَخِي ". فَدُعِيَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَسَتَرَهُ بِثَوْبٍ
وَأَكَبَّ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قِيلَ لَهُ: مَا قَالُ لَكَ ؟
قَالَ: عَلَّمَنِي أَلْفَ بَابٍ، يَفْتَحُ كُلُّ بَابٍ إِلَى أَلْفِ بَابٍ. قَالَ
ابْنُ عَدِيٍّ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَلَعَلَّ الْبَلَاءَ فِيهِ مِنِ ابْنِ
لَهِيعَةَ، فَإِنَّهُ شَدِيدُ الْإِفْرَاطِ فِي التَّشَيُّعِ وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ
الْأَئِمَّةُ وَنَسَبُوهُ إِلَى الضَّعْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ،
أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ
الْحَافِظُ، أَنَا أَبُو أَحْمَدَ
الْغِطْرِيفِيُّ، ثَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ أَبِي مُقَاتِلٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عَتَبَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَهْبِيُّ
الْكُوفِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ سَلَمَةَ - وَكَانَ ثِقَةً
عَدْلًا مَرْضِيًّا - ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُئِلَ عَنْ عَلِيٍّ، فَقَالَ:
" قُسِمَتِ الْحِكْمَةُ عَشَرَةَ أَجْزَاءٍ، أُعْطِيَ عَلِيٌّ تِسْعَةً
وَالنَّاسُ جُزْءًا وَاحِدًا " وَسَكَتَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَلَى
هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَى أَمْرِهِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ بَلْ
مَوْضُوعٌ، مُرَكَّبٌ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ، قَبَّحَ
اللَّهُ وَاضِعَهُ وَمَنِ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ،
لَيْسَ لِي عِلْمٌ بِالْقَضَاءِ. قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: "
إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ ". قَالَ: فَمَا
شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدُ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عَلِيٌّ أَقْضَانَا، وَأُبَيٌّ
أَقْرَؤُنَا لِلْقُرْآنِ. وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ
مُعْضِلَةٍ وَلَا أَبُو حَسَنٍ لَهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، ثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أُمِّ
مُوسَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: وَالَّذِي أَحْلِفُ بِهِ إِنْ كَانَ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَأَقْرَبُ النَّاسِ عَهْدًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; عُدْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غَدَاةً بَعْدَ غَدَاةٍ يَقُولُ: " جَاءَ عَلِيٌّ ؟ " مِرَارًا،
وَأَظُنُّهُ كَانَ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ. قَالَتْ: فَجَاءَ بَعْدُ، فَظَنَنْتُ
أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ حَاجَةً، فَخَرَجْنَا مِنَ الْبَيْتِ فَقَعَدْنَا عِنْدَ
الْبَابِ، فَكُنْتُ مِنْ أَدْنَاهُمْ إِلَى الْبَابِ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ،
فَجَعَلَ يُسَارُّهُ وَيُنَاجِيهِ، ثُمَّ قُبِضَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، فَكَانَ
أَقْرَبَ النَّاسِ بِهِ عَهْدًا. وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ
وَأَبُو يَعْلَى، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ فِي مَعْنَاهُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
صَالِحٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ،عَنْ
جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أُمَّهُ وَخَالَتَهُ دَخَلَتَا عَلَى عَائِشَةَ
فَقَالَتَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينَا عَنْ عَلِيٍّ. قَالَتْ: أَيُّ
شَيْءٍ تَسْأَلْنَ ؟ عَنْ رَجُلٍ وَضَعَ يَدَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعًا، فَسَالَتْ نَفْسُهُ فِي يَدِهِ فَمَسَحَ
بِهَا وَجْهَهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ فَقَالَ: إِنَّ أَحَبَّ الْأَمَاكِنِ
إِلَى اللَّهِ مَكَانٌ قُبِضَ فِيهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتَا: فَلِمَ خَرَجْتِ عَلَيْهِ ؟ قَالَتْ: أَمْرٌ قُضِيَ، لَوَدِدْتُ أَنِّي
أَفْدِيهِ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا مُنْكَرٌ جِدًّا، وَفِي " الصَّحِيحِ
" مَا يَرُدُّ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ - يَعْنِي الْفَرَّاءَ - عَنْ
إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ عَلِيٍّ
قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ نُؤَمِّرُ بَعْدَكَ ؟ قَالَ: " إِنْ
تُؤَمِّرُوا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ أَمِينًا زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا
فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عُمَرَ تَجِدُوهُ قَوِيًّا أَمِينًا لَا يَخَافُ
فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَإِنْ تُؤَمِّرُوا عَلِيًّا، وَلَا أُرَاكُمْ
فَاعِلِينَ، تَجِدُوهُ
هَادِيًا مَهْدِيًّا يَأْخُذُ بِكُمُ
الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ ". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ
الْعَلَاءِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ،
عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ
ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: أَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْآدَمِيُّ بِمَكَّةَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الصَّنْعَانِيُّ، أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ مِينَاءَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:كُنَّا مَعَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ وَفَدَ الْجِنُّ. قَالَ:
فَتَنَفَّسَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " نُعِيَتْ
إِلَيَّ نَفْسِي ". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ: " مَنْ ؟ "
قُلْتُ: أَبَا بَكْرٍ. قَالَ: فَسَكَتَ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً، ثُمَّ تَنَفَّسَ
فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " نُعِيَتْ إِلَيَّ
نَفْسِي ". يَا ابْنَ مَسْعُودٍ ". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ:
" مَنْ ؟ " قُلْتُ: عُمَرَ. قَالَ: فَسَكَتَ، ثُمَّ مَضَى سَاعَةً،
ثُمَّ تَنَفَّسَ فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ: " نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي
". يَا ابْنَ مَسْعُودٍ ". قُلْتُ: فَاسْتَخْلِفْ. قَالَ: " مَنْ ؟
" قُلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَئِنْ أَطَاعُوهُ لَيَدْخُلُنَّ الْجَنَّةَ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ
". قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: هَمَّامٌ وَمِينَاءُ مَجْهُولَانِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو يَعْلَى
ثَنَا أَبُو مُوسَى - يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ الْمُثَنَّى - ثَنَا سَهْلُ بْنُ
حَمَّادٍ أَبُو عَتَّابٍ الدَّلَّالُ، ثَنَا مُخْتَارُ بْنُ نَافِعٍ التَّيْمِيُّ،
ثَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ،
زَوَّجَنِي ابْنَتَهُ، وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ، وَأَعْتَقَ بِلَالًا
مِنْ مَالِهِ، رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا،
تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ مِنْ صَدِيقٍ، رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ،
تَسْتَحِيهِ الْمَلَائِكَةُ، رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا، اللَّهُمَّ أَدِرِ الْحَقَّ
مَعَهُ حَيْثُ دَارَ ". وَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ
أَنَّ الْحَقَّ مَعَ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا
نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا عُثْمَانُ، ثَنَا جَرِيرٌ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَاتَلْتُ
عَلَى تَنْزِيلِهِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
؟ قَالَ: " لَا ". فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّهُ خَاصِفُ النَّعْلِ ". وَكَانَ قَدْ أَعْطَى
عَلِيًّا نَعْلَهُ يَخْصِفُهُ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ
الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ بِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ وَحُسَيْنِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، مِنْ
حَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ فِطْرِ
بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ بِهِ. وَرَوَاهُ فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ نَفْسِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا
الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعِهِ فِي قِتَالِ عَلِيٍّ أَهْلَ الْبَغْيِ وَالْخَوَارِجَ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدَّمْنَا أَيْضًاحَدِيثَ عَلِيٍّ لِلزُّبَيْرِ: إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَكَ إِنَّكَ
تُقَاتِلُنِي وَأَنْتَ ظَالِمٌ. فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجَمَلِ،
ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ مَرْجِعِهِ فِي وَادِي السِّبَاعِ. وَقَدَّمْنَا صَبْرَهُ
وَصَرَامَتَهُ وَشَجَاعَتَهُ فِي يَوْمَيِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَبَسَالَتَهُ
وَفَضْلَهُ فِي يَوْمِ النَّهْرَوَانِ، وَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِ طَائِفَتِهِ
الَّذِينَ قَتَلُوا الْخَوَارِجَ، مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ
الْوَارِدَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ، عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي أَيُّوبَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِقِتَالِ
الْمَارِقِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَالنَّاكِثِينَ، وَفَسَّرُوا النَّاكِثِينَ
بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ، وَالْقَاسِطِينَ بِأَهْلِ الشَّامِ، وَالْمَارِقِينَ
بِالْخَوَارِجِ وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ سِيرَتِهِ الْعَادِلَةِ وَطَرِيقَتِهِ الْفَاضِلَةِ
وَمَوَاعِظِهِ وَقَضَايَاهُ الْفَاصِلَةِ، وَخُطَبِهِ الْكَامِلَةِ وَحِكَمِهِ
الَّتِي هِيَ إِلَى الْقُلُوبِ وَاصِلَةٌ
قَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
خَطَبَ عَلِيٌّ
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا رَزَأْتُ مِنْ مَالِكُمْ قَلِيلًا وَلَا
كَثِيرًا إِلَّا هَذِهِ. وَأَخْرَجَ قَارُورَةً مِنْ كُمِّ قَمِيصِهِ فِيهَا
طِيبٌ. فَقَالَ: أَهْدَاهَا إِلَى الدِّهْقَانُ. ثُمَّ أَتَى بَيْتَ الْمَالِ
فَقَالَ: خُذُوا. وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَفْلَحَ مَنْ كَانَتْ لَهُ قَوْصَرَّهْ يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَهْ
وَفِي رِوَايَةٍ: مَرَّهْ. وَفِي رِوَايَةٍ:
طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ لَهُ قَوْصَرَّهْ
................................
وَقَالَ حَرْمَلَةُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنِ ابْنِ
هُبَيْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيِّ قَالَ: دَخَلْنَا
مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الْأَضْحَى، فَقَرَّبَ إِلَيْنَا خَزِيرَةً، فَقُلْنَا:
أَصْلَحَكَ اللَّهُ، لَوْ قَدَّمْتَ إِلَيْنَا هَذَا الْبَطَّ وَالْإِوَزَّ،
فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْثَرَ الْخَيْرَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ زُرَيْرٍ، إِنِّي
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا
يَحِلُّ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا قَصْعَتَانِ ; قَصْعَةٌ
يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَقَصْعَةٌ يُطْعِمُهَا النَّاسَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ وَأَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنَى
هَاشِمٍ، قَالَا: ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هُبَيْرَةَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ - قَالَ حَسَنٌ: يَوْمَ الْأَضْحَى - فَقَرَّبَ إِلَيْنَا
خَزِيرَةً، فَقُلْتُ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، لَوْ قَرَّبْتَ إِلَيْنَا مِنْ هَذَا
الْبَطِّ - يَعْنِي الْوَزِّ - فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْثَرَ
الْخَيْرَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ
زُرَيْرٍ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: لَا يَحِلُّ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ إِلَّا قَصْعَتَانِ ;
قَصْعَةٌ يَأْكُلُهَا هُوَ وَأَهْلُهُ، وَقَصْعَةٌ يَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ
النَّاسِ ".
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ
عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
بِالْخَوَرْنَقِ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ وَهُوَ يُرْعِدُ مِنَ الْبَرْدِ، فَقُلْتُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ
نَصِيبًا فِي هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ بِنَفْسِكَ هَذَا ؟ ! فَقَالَ:
إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْزَأُ مِنْ مَالِكُمْ شَيْئًا، وَهَذِهِ الْقَطِيفَةُ
هِيَ الَّتِي خَرَجْتُ بِهَا مِنْ بَيْتِي. أَوْ قَالَ: مِنَ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَا بَنَى
عَلِيٌّ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلَا قَصَبَةً عَلَى قَصَبَةٍ، وَإِنْ كَانَ
لَيُؤْتَى بِجَبُوبِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جِرَابٍ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا
سُفْيَانُ، ثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ مُجِمِّعِ بْنِ سَمْعَانَ التَّيْمِيِّ
قَالَ: خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِسَيْفِهِ إِلَى السُّوقِ فَقَالَ:
مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي سَيْفِي هَذَا ؟ فَلَوْ كَانَ عِنْدِي أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ
أَشْتَرِي بِهَا إِزَارًا مَا بِعْتُهُ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرٍ - قَالَ: أَظُنُّهُ عَنْ أَبِيهِ - أَنَّ
عَلِيًّا كَانَ إِذَا لَبِسَ قَمِيصًا مَدَّ يَدَهُ فِي كُمِّهِ، فَمَا فَضَلَ
مِنَ الْكُمِّ عَنِ الْأَصَابِعِ قَطَعَهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لِلْكُمِّ فَضْلٌ عَنِ
الْأَصَابِعِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ
مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَرَى عَلِيٌّ قَمِيصًا بِثَلَاثَةِ
دَرَاهِمَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ، وَقَطَعَ كُمَّهُ مِنْ مَوْضِعِ الرُّسْغَيْنِ،
وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَذَا مِنْ رِيَاشِهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الزُّهْدِ "، عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ،
عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ مَوْلًى لِأَبِي عُصَيْفِيرٍ قَالَ: رَأَيْتُ
عَلِيًّا خَرَجَ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْكَرَابِيسِ، فَقَالَ لَهُ:
عِنْدَكَ قَمِيصٌ سُنْبُلَانِيٌّ ؟ قَالَ: فَأَخْرُجُ إِلَيْهِ قَمِيصًا
فَلَبِسَهُ، فَإِذَا هُوَ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، فَنَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ
شِمَالِهِ فَقَالَ: مَا أَرَى إِلَّا قَدْرًا حَسَنًا، بِكَمْ هُوَ ؟ قَالَ:
بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَحَلَّهَا مِنْ
إِزَارِهِ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، أَنَا الْحَسَنُ
بْنُ جُرْمُوزٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا وَهُوَ يَخْرُجُ مِنَ
الْقَصْرِ وَعَلَيْهِ قِطْرِيَّتَانِ ; إِزَارٌ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ، وَرِدَاءٌ
مُشَمَّرٌ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَمَعَهُ دِرَّةٌ لَهُ يَمْشِي بِهَا فِي الْأَسْوَاقِ،
وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنِ الْبَيْعِ، وَيَقُولُ: أَوْفُوا
الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ. وَيَقُولُ: لَا تَنْفُخُوا اللَّحْمَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ فِي " الزُّهْدِ ": أَنَا رَجُلٌ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ
مِيثَمٍ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيُّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ، مُتَّزِرٌ بِأَحَدِهِمَا
مُرْتَدٍ بِالْآخَرِ، قَدْ أَرْخَى جَانِبَ إِزَارِهِ وَرَفَعَ جَانِبًا، وَقَدْ
رَفَعَ رِدَاءَهُ بِخِرْقَةٍ، فَمَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ، الْبَسْ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ أَوْ مَقْتُولٌ.
فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَعْرَابِيُّ، إِنَّمَا أَلْبَسُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ
لِيَكُونَا أَبْعَدَ لِي مِنَ الزَّهْوِ، وَخَيْرًا لِي فِي صَلَاتِي، وَسُنَّةً
لِلْمُؤْمِنِ.
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا الْمُخْتَارُ
بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي مَطَرٍ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ فَإِذَا رَجُلٌ
يُنَادِي مِنْ خَلْفِي: ارْفَعْ إِزَارَكَ ; فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ
وَأَتْقَى لَكَ، وَخُذْ مِنْ رَأْسِكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا. فَمَشَيْتُ خَلْفَهُ
وَهُوَ بَيْنَ يَدَيَّ مُؤْتَزِرٌ بِإِزَارٍ مُرْتَدٍ بِرِدَاءٍ وَمَعَهُ
الدِّرَّةُ، كَأَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ بَدَوِيٌّ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ
لِي رَجُلٌ: أَرَاكَ غَرِيبًا بِهَذَا الْبَلَدِ. فَقُلْتُ: أَجَلْ، أَنَا رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. فَقَالَ: هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ. حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارِ بَنَى أَبِي مُعَيْطٍ وَهِيَ سُوقُ
الْإِبِلِ، فَقَالَ: بِيعُوا وَلَا تَحْلِفُوا ; فَإِنَّ الْيَمِينَ تُنْفِقُ
السِّلْعَةَ وَتَمْحَقُ الْبَرَكَةَ. ثُمَّ أَتَى أَصْحَابَ التَّمْرِ، فَإِذَا
خَادِمٌ تَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ ؟ فَقَالَتْ: بَاعَنِي هَذَا الرَّجُلُ
تَمْرًا بِدِرْهَمٍ فَرَدَّهُ مَوَالِيَّ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ. فَقَالَ لَهُ
عَلِيٌّ: خُذْ تَمْرَكَ وَأَعْطِهَا دِرْهَمَهَا ; فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا
أَمْرٌ. فَدَفَعَهُ، فَقُلْتُ: أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ:
هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَصَبَّتْ تَمْرَهُ
وَأَعْطَاهَا دِرْهَمَهَا، ثُمَّ قَالَ الرَّجُلُ: أُحِبُّ أَنْ تَرْضَى عَنِّي
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَا
أَرْضَانِي عَنْكَ إِذَا أَوْفَيْتَ
النَّاسَ حُقُوقَهُمْ. ثُمَّ مَرَّ مُجْتَازًا بِأَصْحَابِ التَّمْرِ فَقَالَ: يَا
أَصْحَابَ التَّمْرِ، أَطْعِمُوا الْمَسَاكِينَ يَرْبُ كَسْبُكُمْ. ثُمَّ مَرَّ
مُجْتَازًا وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ السَّمَكِ،
فَقَالَ: لَا يُبَاعُ فِي سُوقِنَا طَافٍ. ثُمَّ أَتَى دَارَ فُرَاتٍ وَهِيَ سُوقُ
الْكَرَابِيسِ، فَأَتَى شَيْخًا فَقَالَ: يَا شَيْخُ، أَحْسِنْ بَيْعِي فِي
قَمِيصٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. فَلَمَّا عَرَفَهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ شَيْئًا،
ثُمَّ آخَرَ، فَلَمَّا عَرَفَهُ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَتَى غُلَامًا
حَدَثًا فَاشْتَرَى مِنْهُ قَمِيصًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَكُمُّهُ مَا بَيْنَ
الرُّسْغَيْنِ إِلَى الْكَفَّيْنِ يَقُولُ فِي لُبْسِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي رَزَقَنِي مِنَ الرِّيَاشِ مَا أَتَجَمَّلُ بِهِ فِي النَّاسِ، وَأُوَارِي
بِهِ عَوْرَتِي. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا شَيْءٌ
تَرْوِيهِ عَنْ نَفْسِكَ، أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُهُ عِنْدَ الْكِسْوَةِ. فَجَاءَ
أَبُو الْغُلَامِ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَقِيلَ لَهُ: يَا فُلَانُ، قَدْ بَاعَ
ابْنُكَ الْيَوْمَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ قَمِيصًا بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ.
قَالَ: أَفَلَا أَخَذْتَ مِنْهُ دِرْهَمَيْنِ ؟ فَأَخَذَ مِنْهُ أَبُوهُ
دِرْهَمًا، ثُمَّ جَاءَ بِهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَابِ الرَّحْبَةِ، فَقَالَ: أَمْسِكْ هَذَا الدِّرْهَمَ.
فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا الدِّرْهَمِ ؟ فَقَالَ: كَانَ قَمِيصًا ثُمِّنَ
دِرْهَمَيْنِ. فَقَالَ: بَاعَنِي رِضَايَ وَأَخَذَ رِضَاهُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
وَجَدَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ،
فَأَقْبَلَ بِهِ إِلَى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ. قَالَ: فَجَاءَ عَلِيٌّ حَتَّى
جَلَسَ إِلَى جَنْبِ شُرَيْحٍ وَقَالَ: يَا شُرَيْحُ، لَوْ كَانَ خَصْمِي
مُسْلِمًا مَا جَلَسْتُ إِلَّا مَعَهُ، وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا كُنْتُمْ
وَإِيَّاهُمْ فِي طَرِيقٍ
فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى مَضَايِقِهِ، وَصَغِّرُوا بِهِمْ كَمَا صَغَّرَ اللَّهُ
بِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَطْغَوْا ". ثُمَّ قَالَ: هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِي
وَلَمْ أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ: مَا تَقَولُ
فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا الدِّرْعُ
إِلَّا دِرْعِي، وَمَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدِي بِكَاذِبٍ. فَالْتَفَتَ
شُرَيْحٌ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ
؟ فَضَحِكَ عَلِيٌّ وَقَالَ: أَصَابَ شُرَيْحٌ، مَا لِي بَيِّنَةٌ. فَقَضَى بِهَا
شُرَيْحٌ لِلنَّصْرَانِيِّ. قَالَ: فَأَخْذُهَا النَّصْرَانِيُّ، وَمَشَى خُطًى
ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أَنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ
الْأَنْبِيَاءِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدَّمَنِي إِلَى قَاضِيهِ، وَقَاضِيهِ
يَقْضِي عَلَيْهِ ! أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدِّرْعُ وَاللَّهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
اتَّبَعْتُ الْجَيْشَ وَأَنْتَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ فَخَرَجَتْ مِنْ
بَعِيرِكَ الْأَوْرَقِ. فَقَالَ: أَمَا إِذْ أَسْلَمْتَ فَهِيَ لَكَ. وَحَمَلَهُ
عَلَى فَرَسٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ رَآهُ يُقَاتِلُ
الْخَوَارِجَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ: جَاءَ جَعْدَةُ بْنُ
هُبَيْرَةَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَأْتِيكَ الرَّجُلَانِ
أَنْتَ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِهِمَا مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَالْآخَرُ لَوْ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَذْبَحَكَ لَذَبَحَكَ، فَتَقْضِي لِهَذَا عَلَى هَذَا ! قَالَ:
فَلَهَزَهُ عَلِيٌّ وَقَالَ: إِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَوْ كَانَ لِي فَعَلْتُ،
وَلَكِنْ إِنَّمَا ذَا شَيْءٌ لِلَّهِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنِي جَدِّي، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ
هَاشِمٍ، عَنْ صَالِحٍ بَيَّاعِ الْأَكْسِيَةِ، عَنْ جَدَّتِهِ قَالَتْ: رَأَيْتُ
عَلِيًّا اشْتَرَى تَمْرًا بِدِرْهَمٍ، فَحَمَلَهُ فِي مِلْحَفَتِهِ، فَقَالَ
رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا نَحْمِلُهُ عَنْكَ. فَقَالَ: أَبُو
الْعِيَالِ أَحَقُّ بِحَمْلِهِ.
وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ، عَنْ زَاذَانَ
قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ يَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ وَحْدَهُ وَهُوَ خَلِيفَةٌ،
يُرْشِدُ الضَّالَّ وَيُعِينُ الضَّعِيفَ، وَيَمُرُّ بِالْبَيَّاعِ وَالْبَقَّالِ
فَيَفْتَحُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَيَقْرَأُ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ
نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا [
الْقَصَصِ: 83 ]. ثُمَّ يَقُولُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ
مِنَ الْوُلَاةِ وَأَهْلِ الْقُدْرَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَمَّنْ
حَدَّثَهُ، أَنَّهُ رَأَى عَلِيًّا قَدْ رَكِبَ حِمَارًا وَدَلَّى رِجْلَيْهِ
إِلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَهَنْتُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
صَالِحٍ قَالَ: تَذَاكَرُوا الزُّهَّادَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
فَقَالَ قَائِلُونَ: فُلَانٌ. وَقَالَ قَائِلُونَ: فُلَانٌ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَزْهَدُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مَنِ الْأَزَارِقَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَا
تَقُولُ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؟ قَالَ: فَاحْمَرَّتْ وَجْنَتَا
الْحَسَنِ، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا، إِنَّ عَلِيًّا كَانَ سَهْمًا
لِلَّهِ صَائِبًا فِي أَعْدَائِهِ، وَكَانَ فِي مَحَلَّةِ الْعِلْمِ أَشْرَفَهَا
وَأَقْرَبَهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ
رَبَّانِيَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَمْ يَكُنْ لَمِالِ اللَّهِ بِالسَّرُوقَةِ،
وَلَا فِي أَمْرِ اللَّهِ بِالنَّئُومَةِ، أَعْطَى الْقُرْآنَ عَزَائِمَهُ
وَعَمَلَهُ وَعِلْمَهُ، فَكَانَ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ مُونِقَةٍ، وَأَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ،
ذَاكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَا لُكَعُ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ
عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَ رَجُلٌ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِحَدِيثٍ فَكَذَبَهُ،
فَمَا قَامَ حَتَّى عَمِيَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ،
ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمِ عَنْ عَمَّارٍ الْحَضْرَمِيِّ،
عَنْ زَاذَانُ أَبِي عُمَرَ، أَنْ رَجُلًا حَدَّثَ عَلِيًّا بِحَدِيثٍ، فَقَالَ:
مَا أَرَاكَ إِلَّا قَدْ كَذَبْتَنِي. قَالَ: لَمْ أَفْعَلْ. قَالَ: أَدْعُو عَلَيْكَ
إِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ ؟ قَالَ: ادْعُ. فَدَعَا فَمَا بَرِحَ حَتَّى عَمِيَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ سَالِمٍ ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي مَكِينٍ قَالَ: مَرَرْتُ أَنَا وَخَالِي أَبُو أُمَيَّةَ
عَلَى دَارٍ فِي مَحَلِّ حَيٍّ مِنْ مُرَادٍ، فَقَالَ: تَرَى هَذِهِ الدَّارَ ؟
قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّ عَلِيًّا مَرَّ عَلَيْهَا وَهُمْ يَبْنُونَهَا،
فَسَقَطَتْ عَلَيْهِ قِطْعَةٌ فَشَجَّتْهُ، فَدَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَكْمُلَ
بِنَاؤُهَا. قَالَ: فَمَا وُضِعَتْ عَلَيْهَا لَبِنَةٌ. قَالَ: فَكُنْتُ أَمُرُّ
عَلَيْهَا لَا تُشْبِهُ الدُّورَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُونُسَ بْنِ
بُكَيْرٍ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ الْقَاسِمِ
الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي بَشِيرٍ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ الْجَمَلَ
مَعَ مَوْلَايَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ أَكْثَرَ سَاعِدًا نَادِرًا
وَقَدَمًا نَادِرَةً مِنْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا مَرَرْتُ بِدَارِ الْوَلِيدِ قَطُّ
إِلَّا ذَكَرْتُ يَوْمَ الْجَمَلِ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ
أَنَّ عَلِيًّا دَعَا يَوْمَ الْجُمَلَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ خُذْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَقْدَامَهُمْ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
الْجَعْدِ، أَنَا عَمْرُو بْنُ شِمْرٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ،
سَمِعْتُ أَبَا أَرَاكَةَ يَقُولُ: صَلَّيْتُ مَعَ عَلِيٍّ صَلَاةَ الْفَجْرِ،
فَلَمَّا انْفَتَلَ عَنْ يَمِينِهِ مَكَثَ كَأَنَّ عَلَيْهِ كَآبَةً، حَتَّى إِذَا
كَانَتِ الشَّمْسُ عَلَى حَائِطِ الْمَسْجِدِ قَيْدَ رُمْحٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ قَلَّبَ يَدَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَرَى الْيَوْمَ شَيْئًا يُشْبِهُهُمْ،
لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ صُفْرًا شُعْثًا غُبْرًا، بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ
كَأَمْثَالِ رُكَبِ الْمِعْزَى، قَدْ بَاتُوا لِلَّهِ سُجَّدًا وَقِيَامًا،
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَأَقْدَامِهِمْ،
فَإِذَا أَصْبَحُوا فَذَكَرُوا اللَّهَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ فِي
يَوْمِ الرِّيحِ، وَهَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ ثِيَابَهُمْ، وَاللَّهِ
لَكَأَنَّ الْقَوْمَ بَاتُوا غَافِلِينَ. ثُمَّ نَهَضَ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ
ذَلِكَ مُفْتَرًّا يَضْحَكُ، حَتَّى قَتَلَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ عَدُوُّ اللَّهِ
الْفَاسِقُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَوْفَى بْنِ دَلْهَمٍ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ تُعْرَفُوا
بِهِ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّهُ يَأْتِي مِنْ
بَعْدِكُمْ زَمَانٌ يُنْكَرُ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ، وَإِنَّهُ
لَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا كُلُّ نُوَمَةٍ مُنْبَتِّ الدَّاءِ، أُولَئِكَ
أَئِمَّةُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ، لَيْسُوا بِالْعُجُلِ الْمَذَايِيعِ
الْبُذُرِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَحَلَتْ مُدْبِرَةً، وَإِنَّ
الْآخِرَةَ قَدْ أَتَتْ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ،
فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا،
أَلَّا وَإِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطًا،
وَالتُّرَابَ فِرَاشًا، وَالْمَاءَ طِيبًا،
أَلَا مَنِ اشْتَاقَ إِلَى الْآخِرَةِ
سَلَا عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَمَنْ أَشْفَقَ مِنَ النَّارِ رَجَعَ عَنِ
الْحُرُمَاتِ، وَمَنْ طَلَبَ الْجَنَّةَ سَارَعَ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَمَنْ زَهِدَ
فِي الدُّنْيَا هَانَتْ عَلَيْهِ الْمُصِيبَاتُ، أَلَا إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا
كَمَنْ رَأَى أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ مُخَلَّدِينَ، وَأَهْلَ النَّارِ
فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ، شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ،
وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ، وَحَوَائِجُهُمْ خَفِيفَةٌ، صَبَرُوا أَيَّامًا
قَلِيلَةً لِعُقْبَى رَاحَةٍ طَوِيلَةٍ، أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُّونَ
أَقْدَامَهُمْ، تَجْرِي دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ، يَجْأَرُونَ إِلَى
رَبِّهِمْ: رَبَّنَا رَبَّنَا. يَطْلُبُونَ فِكَاكَ رِقَابِهِمْ، وَأَمَّا
النَّهَارُ فَعُلَمَاءُ حُلَمَاءُ، بَرَرَةٌ أَتْقِيَاءُ، كَأَنَّهُمُ الْقِدَاحُ،
يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَقُولُ: مَرْضَى. وَمَا بِالْقَوْمِ مِنْ
مَرَضٍ، وَ: خُولِطُوا. وَلَقَدْ خَالَطَ الْقَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
وَعَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: صَعِدَ عَلِيٌّ ذَاتَ يَوْمٍ
الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ الْمَوْتَ، فَقَالَ:
عِبَادَ اللَّهِ، الْمَوْتُ لَيْسَ مِنْهُ فَوْتٌ، إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ
أَخَذَكُمْ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ، فَالنَّجَاءَ النَّجَاءَ،
وَالْوَحَاءَ الْوَحَاءَ، وَرَاءَكُمْ طَالِبٌ حَثِيثٌ ; الْقَبْرُ، فَاحْذَرُوا
ضَغْطَتَهُ وَظُلْمَتَهُ وَوَحْشَتَهُ، أَلَا وَإِنَّ الْقَبْرَ حُفْرَةٌ مِنْ
حُفَرِ النَّارِ، أَوْ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَلَّا وَإِنَّهُ
يَتَكَلَّمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ
الظُّلْمَةِ، أَنَا بَيْتُ الدُّودِ، أَنَا بَيْتُ الْوَحْشَةِ. أَلَا وَإِنَّ
وَرَاءَ ذَلِكَ يَوْمًا يَشِيبُ فِيهِ الصَّغِيرُ، وَيَسْكَرُ فِيهِ الْكَبِيرُ،
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ
بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، أَلَا وَإِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مَا
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ ; نَارٌ حَرُّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَحَلْيُهَا
حَدِيدٌ، وَمَاؤُهَا صَدِيدٌ،
وَخَازِنُهَا مَلَكٌ لَيْسَ لِلَّهِ
فِيهِ رَحْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ بَكَى وَبَكَى الْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ، ثُمَّ
قَالَ: أَلَا وَإِنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ جَنَّةً، عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ
الْمُتَّقِينَ، وَأَجَارَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ. وَرَوَاهُ
لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عَلِيًّا، فَذَكَرَ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَوْفَى بْنِ دَلْهَمٍ قَالَ:
خَطَبَ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ
وَآذَنَتْ بِوَدَاعٍ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَشْرَفَتْ
بِاطِّلَاعٍ، وَإِنَّ الْمِضْمَارَ الْيَوْمَ، وَغَدًا السِّبَاقُ، أَلَا
وَإِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِهِ أَجْلٌ، فَمَنْ قَصَّرَ فِي
أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجْلِهِ فَقَدْ خُيِّبَ عَمَلُهُ، أَلَا
فَاعْمَلُوا لِلَّهِ فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ لَهُ فِي الرَّهْبَةِ،
أَلَا وَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا، وَلَمْ أَرَ كَالنَّارِ
نَامَ هَارِبُهَا، أَلَا وَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ الْحَقُّ ضَرَّهُ
الْبَاطِلُ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَقِمْ بِهِ الْهُدَى حَارَ بِهِ الضَّلَالُ، أَلَا وَإِنَّكُمْ
قَدْ أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ، وَدُلْلِتُمْ عَلَى الزَّادِ، أَلَا أَيُّهَا
النَّاسُ، إِنَّمَا الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ
وَالْفَاجِرُ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعْدٌ صَادِقٌ، يَحْكُمُ فِيهَا مَلِكٌ
قَادِرٌ، أَلَا إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ
بِالْفَحْشَاءِ، وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا، وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ، أَيُّهَا النَّاسُ، أَحْسِنُوا فِي عُمْرِكُمْ تُحْفَظُوا فِي
عَقِبِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ جَنَّتَهُ مَنْ أَطَاعَهُ، وَأَوْعَدَ نَارَهُ
مَنْ عَصَاهُ، إِنَّهَا نَارٌ لَا يَهْدَأُ زَفِيرُهَا، وَلَا يُفَكُّ أَسِيرُهَا،
وَلَا يُجْبَرُ كَسِيرُهَا، حَرُّهَا شَدِيدٌ، وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ، وَمَاؤُهَا
صَدِيدٌ، وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ
الْأَمَلِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ،
وَطُولُ
الْأَمَلِ يُنْسِي الْآخِرَةَ.
وَعَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ: ذَمَّ رَجُلٌ الدُّنْيَا عِنْدَ عَلِيٍّ،
فَقَالَ عَلِيٌّ: الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ نَجَاةٍ
لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، مَهْبِطُ وَحْيِ
اللَّهِ، وَمُصَلَّى مَلَائِكَتِهِ، وَمَسْجِدِ أَنْبِيَائِهِ، وَمَتْجَرُ
أَوْلِيَائِهِ، رَبِحُوا فِيهَا الرَّحْمَةَ، وَاكْتَسَبُوا فِيهَا الْجَنَّةَ،
فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَقَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا، وَنَادَتْ بِفِرَاقِهَا،
وَشَبَّهَتْ بِشُرُورِهَا السُّرُورَ، وَبِبَلَائِهَا إِلَيْهِ تَرْغِيبًا
وَتَرْهِيبًا، فَيَا أَيُّهَا الذَّامُّ لِلدُّنْيَا الْمُعَلِّلُ نَفْسَهُ، مَتَى
خَدَعَتْكَ الدُّنْيَا، أَوْ مَتَى اسْتَذَمَّتْ إِلَيْكَ ؟ أَبِمَصَارِعِ
آبَائِكَ فِي الْبِلَى ؟ أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ الثَّرَى ؟ ! كَمْ
مَرِضْتَ بِيَدَيْكَ، وَعَلَّلَتْ بِكَفَّيْكَ، تَطْلُبُ لَهُ الشِّفَاءَ،
وَتَسْتَوْصِفُ لَهُ الْأَطِبَّاءَ، لَا يُغْنِي عَنْكَ دَوَاؤُكَ، وَلَا
يَنْفَعُكَ بُكَاؤُكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ
أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَطْرَاهُ، وَكَانَ
يُبْغِضُ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ: لَسْتُ كَمَا تَقُولُ، وَأَنَا فَوْقَ مَا فِي
نَفْسِكَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيٍّ: ثَبَّتَكَ اللَّهُ.
قَالَ: عَلَى صَدْرِكَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: إِنَّ الْأَمْرَ
يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كَقَطْرِ الْمَطَرِ، لِكُلِّ نَفْسٍ مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فِي نَفْسٍ أَوْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ، فَمَنْ
رَأَى نَقَصَا فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ مَالِهِ، وَرَأَى لِغَيْرِهِ
غَفِيرَةً فَلَا يَكُونَنَّ ذَلِكَ لَهُ فِتْنَةً، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ
يَغْشَ دَنَاءَةً يُظْهِرُ تَخَشُّعًا لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ، وَتُغْرِي بِهِ
لِئَامَ النَّاسِ، كَالْيَاسِرِ الْفَالِجِ يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ
تُوجِبُ لَهُ الْمَغْنَمَ وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْمَغْرَمَ، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ
الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ بَيْنَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إِذَا مَا دَعَا
اللَّهَ، فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ
مَالًا فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَمَالٍ، وَمَعَهُ حَسَبُهُ وَدِينُهُ، الْحَرْثُ
حَرْثَانِ ; فَحَرْثُ الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْبَنُونَ، وَحَرْثُ الْآخِرَةِ
الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ.
قَالَ سُفْيَانُ: وَمَنْ يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا
عَلِيٌّ ؟ !
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ زُبَيْدٍ الْيَامِيِّ، عَنْ مُهَاجِرٍ الْعَامِرِيِّ
قَالَ: كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَهْدًا لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ عَلَى
بَلَدٍ، فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَلَا تُطَوِّلَنَّ حِجَابَكَ عَلَى رَعِيَّتِكَ،
فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةُ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ
عِلْمٍ بِالْأُمُورِ، وَالِاحْتِجَابُ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتُجِبُوا
دُونَهُ، فَيَضْعُفُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ، وَيَعْظُمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ
الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا
الْوَالِي بَشَرٌ
لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ
النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَوْلِ سِمَاتٌ يُعْرَفُ بِهَا
ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ، فَتَحَصَّنْ مِنَ الْإِدْخَالِ فِي الْحُقُوقِ
بِلِينِ الْحِجَابِ، فَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ ; إِمَّا امْرُؤٌ
سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ، فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ حَقٍّ
وَاجِبٍ أَنْ تُعْطِيَهُ، أَوْ خُلُقٍ كَرِيمٍ تُسَدِّدُ بِهِ ؟ وَإِمَّا مُبْتَلًى
بِالْمَنْعِ وَالشُّحِّ، فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ إِذَا
يَئِسُوا مِنْ خَيْرِكِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ مَا لَا
مُؤْنَةَ فِيهِ عَلَيْكَ ; مِنْ شَكَاةِ مَظْلَمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ،
فَانْتَفِعْ بِمَا وَصَفْتُ لَكَ، وَاقْتَصِرْ عَلَى حَظِّكَ وَرُشْدِكَ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: كَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: رُوَيْدًا،
فَكَأَنْ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى، وَعُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ
الَّذِي يُنَادِي الْمُغْتَرُّ بِالْحَسْرَةِ، وَيَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ
التَّوْبَةَ، وَالظَّالِمُ الرَّجْعَةَ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ
عَلِيٌّ يَقُولُ الشِّعْرَ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَشْعَرَ الثَّلَاثَةِ. وَرَوَاهُ
هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي
زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ:
وَأَخْبَرَنَا عَنْ دَمَاذٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ
إِلَى عَلِيٍّ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّ لِي فَضَائِلَ كَثِيرَةً، وَكَانَ
أَبِي سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَصِرْتُ مَلِكًا فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنَا
صِهْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالُ
الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبُ الْوَحْيِ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَبَالْفَضَائِلِ يَفْخَرُ
عَلَيَّ ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ ؟ ! ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ يَا غُلَامُ:
مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ أَخِي وَصِهْرِي وَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمِّي
وَجَعْفَرٌ الَّذِي يُمْسِي وَيُضْحِي يَطِيرُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ابْنُ أُمِّي
وَبِنْتُ مُحَمَّدٍ سَكَنِي وَعِرْسِي مَسُوطٌ لَحْمُهَا بِدَمِي وَلَحْمِي
وَسِبْطَا أَحْمَدَ وَلَدَايَ مِنْهَا فَأَيُّكُمُ لَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِي
سَبَقْتُكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا صَغِيرًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلْمِي
قَالَ: فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَخْفُوا هَذَا الْكِتَابَ لَا يَقْرَؤُهُ أَهْلُ
الشَّامِ فَيَمِيلُوا إِلَى ابْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي
عُبَيْدَةَ وَزَمَانِ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ حَارِثَةَ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يُنْشِدُ وَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ
أَنَا أَخُو الْمُصْطَفَى لَا شَكَّ
فِي نَسَبِي مَعْهُ رَبِيتُ وَسِبْطَاهُ هُمَا وَلَدِي
جَدِّي وَجَدُّ رَسُولِ اللَّهِ مُنْفَرِدٌ وَفَاطِمٌ زَوْجَتِي لَا قَوْلَ ذِي
فَنَدِ
صَدَّقْتُهُ وَجَمِيعُ النَّاسِ فِي بُهَمٍ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْإِشْرَاكِ
وَالنَّكَدِ
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لَا شَرِيكَ لَهُ الْبَرِّ بِالْعَبْدِ وَالْبَاقِي
بِلَا أَمَدِ
قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ
صَدَقْتَ يَا عَلِيٌّ وَهَذَا بِهَذَا الْإِسْنَادِ مُنْكَرٌ، وَالشِّعْرُ فِيهِ
رَكَاكَةٌ، وَبَكْرٌ هَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ تَفَرُّدَهُ بِهَذَا السَّنَدِ
وَالْمَتْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي زَكَرِيَّا الرَّمْلِيِّ،
ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ نُوحِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَلَامَةَ
الْكِنْدِيِّ، عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَاءَهُ
رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً قَدْ
رَفَعْتُهَا إِلَى اللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَرْفَعَهَا إِلَيْكَ، فَإِنْ أَنْتَ
قَضَيْتَهَا حَمِدْتُ اللَّهَ وَشَكَرْتُكَ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَقْضِهَا
حَمِدْتُ اللَّهَ وَعَذَرْتُكَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: اكْتُبْ عَلَى الْأَرْضِ ;
فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ فِي وَجْهِكَ. فَكَتَبَ: إِنِّي
مُحْتَاجٌ. فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلِيَّ بِحُلَّةٍ. فَأَتَى بِهَا، فَأَخَذَهَا
الرَّجُلُ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
كَسَوْتَنِي حُلَّةً تَبْلَى مَحَاسِنُهَا فَسَوْفَ أَكْسُوكَ مِنْ حُسْنِ
الثَّنَا حُلَلَا
إِنْ نِلْتَ حَسَنَ ثَنَائِي نِلْتَ مَكْرُمَةً وَلَسْتَ تَبْغِي بِمَا قَدْ
قُلْتُهُ بَدَلًا
إِنَّ الثَّنَاءَ لَيُحْيِي ذِكْرَ صَاحِبِهِ كَالْغَيْثِ يُحْيِي نَدَاهُ
السَّهْلَ وَالْجَبَلَا
لَا تَزْهَدِ الدَّهْرَ فِي خَيْرٍ
تُوَاقِعُهُ فَكُلُّ عَبْدٍ سَيُجْزَى بِالَّذِي عَمِلَا
فَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَيَّ بِالدَّنَانِيرِ. فَأُتِيَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا
إِلَيْهِ. قَالَ الْأَصْبَغُ: فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حُلَّةً
وَمِائَةَ دِينَارٍ ؟ ! قَالَ: نَعَمْ.سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ ".
وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ هَذَا الرَّجُلِ عِنْدِي.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نُبَيْطِ بْنِ شَرِيطٍ، حَدَّثَنِي أَبِي
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نُبَيْطٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ:
إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ وَضَاقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ
الرَّحِيبُ
وَأَوْطَنَتِ الْمَكَارِهُ وَاطْمَأَنَّتْ وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوبُ
وَلَمْ تَرَ لِانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا وَلَا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الْأَرِيبُ
أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ يَجِيءُ بِهِ الْقَرِيبُ الْمُسْتَجِيبُ
وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ لِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
أَلَّا فَاصْبِرْ عَلَى الْحَدَثِ الْجَلِيلِ وَدَاوِ جَوَاكَ بِالصَّبْرِ
الْجَمِيلِ
وَلَا تَجْزَعْ فَإِنْ أَعْسَرْتَ
يَوْمًا فَقَدْ أَيْسَرْتَ فِي الدَّهْرِ الطَّوِيلِ
وَلَا تَظْنُنْ بِرَبِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِالْجَمِيلِ
فَإِنَّ الْعُسْرَ يَتْبَعُهُ يَسَارٌ وَقَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ كُلِّ قِيلِ
فَلَوْ أَنَّ الْعُقُولَ تَجُرُّ رِزْقًا لَكَانَ الرِّزْقُ عِنْدَ ذَوِي
الْعُقُولِ
فَكَمْ مِنْ مُؤْمِنٍ قَدْ جَاعَ يَوْمًا سَيُرْوَى مِنْ رَحِيقِ السَّلْسَبِيلِ
فَمِنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُجِيعُ الْمُؤْمِنَ
مِنْ نَفَاسَتِهِ، وَيُشْبِعُ الْكَلْبَ مَعَ خَسَاسَتِهِ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ
وَيَشْرَبُ، وَيَلْبَسُ وَيَتَمَتَّعُ، وَالْمُؤْمِنُ يَجُوعُ وَيَعْرَى، وَذَلِكَ
لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْهَا حِكْمَةُ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ عَلِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
أَجِدِ الثِّيَابَ إِذَا اكْتَسَيْتَ فَإِنَّهَا زَيْنُ الرِّجَالِ بِهَا تُعَزُّ
وَتُكْرَمُ
وَدَعِ التَّوَاضُعَ فِي الثِّيَابِ تَخَوُّفًا فَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُجِنُّ
وَتَكْتُمُ
فَرَثَاثُ ثَوْبِكَ لَا يَزِيدُكَ زُلْفَةً عِنْدَ الْإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ
مُجْرِمٌ
وَبَهَاءُ ثَوْبِكَ لَا يَضُرُّكَ بَعْدَ أَنْ تَخْشَى الْإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا
يَحْرُمُ
وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى
صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى ثِيَابِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ
وَأَعْمَالِكُمْ ". وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَيْسَ الزُّهْدُ فِي
الدُّنْيَا بِلُبْسِ الْعَبَاءِ وَلَا
بِأَكْلِ الْخَشِنِ، إِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا قِصَرُ الْأَمَلِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسُ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْأَكْبَرِ
الْمُبَرِّدُ: كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى سَيْفِ عَلِيٍّ:
لِلنَّاسِ حِرْصٌ عَلَى الدُّنْيَا وَتَدْبِيرُ وَصَفْوُهَا لَكَ مَمْزُوجٌ
بِتَكْدِيرِ
لَمْ يُرْزَقُوهَا بِعَقْلٍ عِنْدَمَا قُسِمَتْ لَكِنَّهُمْ رُزِقُوهَا
بِالْمَقَادِيرِ
كَمْ مِنْ أَدِيبٍ لَبِيبٍ لَا تُسَاعِدُهُ وَمَائِقٍ نَالَ دُنْيَاهُ بِتَقْصِيرِ
لَوْ كَانَ عَنْ قُوةٍ أَوْ عَنْ مُغَالَبَةٍ طَارَ الْبُزَاةُ بِأَرْزَاقِ
الْعَصَافِيرِ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِرَجُلٍ كَرِهَ لَهُ
صُحْبَةَ رَجُلٍ:
فَلَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ آخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ إِذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ
وَلِلشِيءِ عَلَى الشَّيْءِ مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ
وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ دَلِيلٌ
حِينَ يَلْقَاهُ
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وَقَفَ عَلِيٌّ عَلَى قَبْرِ
فَاطِمَةَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
ذَكَرْتُ أَبَا أَرْوَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي بِرَدِّ الْهُمُومِ الْمَاضِيَاتِ
وَكِيلُ
لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَلِيلَيْنِ فُرْقَةٌ وَكُلِّ الَّذِي قَبْلَ الْمَمَاتِ
قَلِيلُ
وَإِنَّ افْتِقَادِي وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَدُومَ خَلِيلُ
سَيُعْرَضُ عَنْ ذِكْرِي وَتُنْسَى مَوَدَّتِي وَيَحْدُثُ بَعْدِي لِلْخَلِيلِ
خَلِيلُ
إِذَا انْقَطَعَتْ يَومًا مِنَ الْعَيْشِ مُدَّتِي فَإِنَّ عَنَاءَ الْبَاكِيَاتِ
قَلِيلُ
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
حَقِيقٌ بِالتَّوَاضُعِ مَنْ يَمُوتُ وَيَكْفِي الْمَرْءَ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتُ
فَمَا لِلْمَرِءِ يُصْبِحُ ذَا هُمُومٍ وَحِرْصٍ لَيْسَ تُدْرِكُهُ النُّعُوتِ
صَنِيعُ مَلِيكِنَا حَسَنٌ جَمِيلٌ وَمَا أَرْزَاقُهُ عَنَّا تَفُوتُ
فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عَنْ قَلِيلٍ إِلَى قَومٍ كَلَامُهُمُ السُّكُوتُ
وَهَذَا الْفَصْلُ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ مَا فِيهِ
مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، أَنَّهُ قَالَ:
مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ
فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ، وَمَنْ
أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُثْمَانَ فَقَدِ
اسْتَنَارَ بِنُورِ اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَمَنْ قَالَ الْحُسْنَى فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ.
غَرِيبَةٌ مِنَ الْغَرَائِبِ وَآبِدَةٌ مِنَ الْأَوَابِدِ
قَالَ ابْنُ أَبَى خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ سَيَّارٍ،
ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: قَالَ مَعْمَرٌ مَرَّةً وَأَنَا مُسْتَقْبِلُهُ،
وَتَبَسَّمَ وَلَيْسَ مَعَنَا أَحَدٌ فَقُلْتُ لَهُ: مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ:
عَجِبْتُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، كَأَنَّ الْكُوفَةَ إِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى
حُبِّ عَلِيٍّ، مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا وَجَدْتُ الْمُقْتَصِدَ
مِنْهُمُ الَّذِي يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ، مِنْهُمْ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. قَالَ: فَقُلْتُ لِمَعْمَرٍ: وَرَأَيْتَهُ ؟ - كَأَنِّي
أَعْظَمْتُ ذَاكَ - فَقَالَ مَعْمَرٌ: وَمَا ذَاكَ ؟ ! لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ:
عَلِيٌّ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْهُمَا. مَا عَنَّفْتُهُ إِذَا ذَكَرَ فَضْلَهُمَا
إِذَا قَالَ: عِنْدِي. وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: عُمَرُ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ
عَلِيٍّ وَأَبِي بَكْرٍ. مَا عَنَّفُتُهُ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لِوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَنَحْنُ خَالِيَانِ فَاشْتَهَاهَا أَبُو
سُفْيَانَ وَضَحِكَ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ سُفْيَانُ يَبْلُغُ بِنَا هَذَا
الْحَدَّ، وَلَكِنَّهُ أَفْضَى إِلَى مَعْمَرٍ مَا لَمْ يُفْضِ إِلَيْنَا،
وَكُنْتُ أَقُولُ لِسُفْيَانَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ
فَضَّلْنَا عَلِيًّا عَلَى أَبَى بَكْرٍ وَعُمَرَ، مَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ ؟
فَيَسْكُتُ سَاعَةً ثُمَّ يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ طَعْنًا عَلَى
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَكِنَّا نَقِفُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:
وَأَخْبَرَنَا ابْنُ التَّيْمِيِّ - يُعْنَى مُعْتَمِرًا - قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي
يَقُولُ: فَضَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِائَةِ مَنْقَبَةٍ، وَشَارَكَهُمْ فِي
مَنَاقِبِهِمْ، وَعُثْمَانُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ.
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " بِسَنَدِهِ، عَنِ
ابْنِ أَبَى خَيْثَمَةَ بِهِ. وَهَذَا الْكَلَامُ فِيهِ تَخْبِيطٌ كَثِيرٌ،
وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى مَعْمَرٍ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ بَعْضِ
الْكُوفِيِّينَ تَقْدِيمُ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ، فَأَمَّا عَلَى الشَّيْخَيْنِ
فَلَا، وَلَا يَخْفَى فَضْلُ الشَّيْخَيْنِ عَلَى سَائِرِ الصَّحَابَةِ إِلَّا
عَلَى غَبِيٍّ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ؟ ! بَلْ قَدْ
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَأَيُّوبَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ: مَنْ
قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ. وَهَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَصَحِيحٌ وَمَلِيحٌ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ أَبَى سُفْيَانَ: ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْأُوَيْسِيِّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ
أَبِي عَوْنٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ
الْحَنَفِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَخَذَ الْمُصْحَفَ
فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ، حَتَّى أَنِّي لَأَرَى وَرَقَهُ يَتَقَعْقَعُ. قَالَ:
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ مَنَعُونِي مَا فِيهِ فَأَعْطِنِي مَا فِيهِ.
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلَلْتُهُمْ وَمَلُّونِي وَأَبْغَضْتُهُمْ
وَأَبْغَضُونِي، وَحَمَلُونِي عَلَى غَيْرِ طَبِيعَتِي وَخُلُقِي وَأَخْلَاقٍ لَمْ
تَكُنْ تُعْرَفُ لِي، اللَّهُمَّ فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْرًا مِنْهُمْ،
وَأَبْدِلْهُمْ بِي شَرًّا مِنِّي، اللَّهُمَّ أَمِثْ قُلُوبَهُمْ مَيْثَ
الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ. قَالَ
إِبْرَاهِيمُ: يَعْنِي أَهْلَ
الْكُوفَةِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ،
ثَنَا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ الْجَنْبِيُّ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ
الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: قَالَ لِي
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ سَنَحَ لِيَ
اللَّيْلَةَ فِي مَنَامِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَقِيتُ مِنْ
أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَاللَّدَدِ ؟ قَالَ: " ادْعُ عَلَيْهِمْ ".
فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ أَبْدِلْنِي بِهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ،
وَأَبْدِلْهُمْ بِي مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي. فَخَرَجَ فَضَرَبَهُ الرَّجُلُ. الْأَوَدُ:
الْعِوَجُ، وَاللَّدَدُ: الْخُصُومَةُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْحَدِيثَ الْوَارِدَ
بِالْإِخْبَارِ بِمَقْتَلِهِ، وَأَنَّهُ تُخَضَّبُ لِحْيَتُهُ مِنْ قَرْنِ
رَأْسِهِ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى
رَسُولِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ " أَنَّهُ لَمَّا كَانَ
أَيَّامُ الْخَوَارِجِ كَانَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ يَحْرُسُونَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ
عَشَرَةٌ يَبِيتُونَ فِي الْمَسْجِدِ بِالسِّلَاحِ، فَرَآهُمْ عَلِيٌّ فَقَالَ:
مَا يُجْلِسُكُمْ ؟ فَقَالُوا: نَحْرُسُكَ. فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ ؟
ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ حَتَّى يُقْضَى فِي
السَّمَاءِ، وَإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جَنَّةً حَصِينَةً. وَفِي رِوَايَةٍ:
وَإِنَّ الْأَجَلَّ جَنَّةٌ حَصِينَةٌ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ
إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ
مَلَكٌ، فَلَا تُرِيدُهُ دَابَّةٌ
وَلَا شَيْءٌ إِلَّا قَالَ: اتَّقِهِ اتَّقِهِ. فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلَّى
عَنْهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: مَلَكَانِ يَدْفَعَانِ عَنْهُ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ
خَلَّيَا عَنْهُ - وَإِنَّهُ لَا يَجِدُ عَبْدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى
يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ
يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
وَكَانَ عَلِيٌّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ كُلَّ لَيْلَةٍ فَيُصَلِّي فِيهِ، فَلَمَّا
كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِي صَبِيحَتِهَا قَلِقَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ،
وَجَمَعَ أَهْلَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ صَرَخَ الْإِوَزُّ. فِي
وَجْهِهِ، فَسَكَّتُوهُنَّ عَنْهُ، فَقَالَ: ذَرُوهُنَّ فَإِنَّهُنَّ نَوَائِحُ.
فَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ ضَرَبَهَ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَكَانَ مَا
ذَكَرْنَا قَبْلُ. فَقَالَ النَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا نَقْتُلُ
مُرَادًا كُلَّهَا ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ احْبِسُوهُ وَأَحْسِنُوا إِسَارَهُ،
فَإِنْ مِتُّ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ عِشْتُ فَالْجُرُوحُ قِصَاصٌ. وَجَعَلَتْ أُمُّ
كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيٍّ تَقُولُ: مَا لِي وَلِصَلَاةِ الْغَدَاةِ، قُتِلَ
زَوْجِي عُمَرُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ، وَقُتِلَ أَبِي
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صَلَاةَ الْغَدَاةِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقِيلَ لِعَلِيٍّ: أَلَا تَسْتَخْلِفُ ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَتْرُكُكُمْ كَمَا
تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ يُرِدِ
اللَّهُ بِكُمْ خَيْرًا يَجْمَعْكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ كَمَا جَمَعَكُمْ عَلَى
خَيْرِكُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا
اعْتِرَافٌ مِنْهُ فِي آخِرِ وَقْتٍ مِنَ الدُّنْيَا بِفَضْلِ الصِّدِّيقِ. وَقَدْ
ثَبَتَ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ خَطَبَ بِالْكُوفَةِ فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ وَدَارِ إِمَارَتِهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ خَيْرَ
هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَلَوْ
شِئْتُ أَنْ أُسَمِّيَ الثَّالِثَ
لَسَمَّيْتُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَهُوَ نَازِلٌ مِنَ الْمِنْبَرِ: ثُمَّ
عُثْمَانُ ثُمَّ عُثْمَانُ. وَلَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ وَلِيَ غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ
أَهْلُهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ فَكَبَّرَ أَرْبَعًا وَقِيلَ:
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَدُفِنَ عَلِيٌّ بِدَارِ الْخِلَافَةِ بِالْكُوفَةِ.
وَقِيلَ: تُجَاهَ الْجَامِعِ مِنَ الْقِبْلَةِ، فِي حُجْرَةٍ مِنْ دُورِ آلِ
جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بِحِذَاءِ بَابِ الْوَرَّاقِينَ. وَقِيلَ: بِظَاهِرِ
الْكُوفَةِ. وَقِيلَ: بِالْكُنَاسَةِ. وَقِيلَ: دُفِنَ بِالثَّوِيَّةِ. وَقَالَ
شَرِيكٌ الْقَاضِي وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: نَقَلَهُ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ بَعْدَ صُلْحِهِ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنَهُ
بِالْبَقِيعِ إِلَى جَانِبِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عِيسَى بْنُ دَأْبٍ: بَلْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ
يَحْمِلُوهُ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَدْفِنُوهُ بِهَا جَعَلُوهُ فِي صُنْدُوقٍ
عَلَى بَعِيرٍ، فَلَمَّا مَرُّوا بِهِ بِبِلَادِ طَيِّئٍ أَضَلُّوا الْبَعِيرَ،
فَأَخَذَتْ طَيِّئٌ ذَلِكَ الْبَعِيرَ بِمَا عَلَيْهِ يَحْسَبُونَهُ مَالًا،
فَلَمَّا وَجَدُوا بِالصُّنْدُوقِ مَيِّتًا دَفَنُوهُ بِالصُّنْدُوقِ فِي
بِلَادِهِمْ، فَلَا يُعْرَفُ قَبْرُهُ إِلَى الْآنَ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ قَبْرَهُ إِلَى الْآنَ بِالْكُوفَةِ كَمَا ذَكَرَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ نَائِبَ
بَنِي أُمَيَّةَ فِي زَمَانِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، لَمَّا كَانَ
أَمِيرًا عَلَى الْعِرَاقِ هَدَمَ دُورًا لِيَبْنِيَهَا دَارًا وَجَدَ قَبْرًا فِيهِ
شَيْخٌ أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهَا
الْأَمِيرُ، إِنَّ بَنَى أُمَيَّةَ لَا يُرِيدُونَ مِنْكَ هَذَا كُلَّهُ.
فَلَفَّهُ فِي قَبَاطِيَّ وَدَفَنَهُ هُنَاكَ. قَالُوا: فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ
أَنْ يَسْكُنَ تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي
هُوَ فِيهَا إِلَّا ارْتَحَلَ مِنْهَا. كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ اسْتَحْضَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجَمٍ
مِنَ السِّجْنِ فَأَحْضَرَ النَّاسَ النِّفْطَ وَالْبَوَارِيَّ لِيُحَرِّقُوهُ،
فَقَالَ لَهُمْ أَوْلَادُ عَلِيٍّ: دَعَوْنَا نَشْتَفِي مِنْهُ. فَقُطِعَتْ
يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ، فَلَمْ يَجْزَعْ وَلَا فَتَرَ عَنِ الذِّكْرِ، ثُمَّ
كُحِلَتْ عَيْنَاهُ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَذْكُرُ اللَّهَ وَقَرَأَ سُورَةَ:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِلَى آخِرِهَا، وَإِنَّ عَيْنَيْهِ لَتَسِيلَانِ عَلَى
خَدَّيْهِ، ثُمَّ حَاوَلُوا لِسَانَهُ لِيَقْطَعُوهُ، فَجَزِعَ عِنْدَ ذَلِكَ
جَزَعًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ
أَمْكُثَ فِي الدُّنْيَا فَوَاقًا لَا أَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ. فَقُتِلَ عِنْدَ
ذَلِكَ وَحُرِّقَ بِالنَّارِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ابْنُ مُلْجَمٍ رَجُلًا أَسْمَرَ، حَسَنَ
الْوَجْهِ، أَبْلَجَ، شَعْرُهُ مَعَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ، فِي جَبْهَتِهِ أَثَرُ السُّجُودِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَمْ يُنْتَظَرْ بِقَتْلِهِ بُلُوغُ الْعَبَّاسِ بْنِ
عَلِيٍّ ; فَإِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا يَوْمَ قُتِلَ أَبُوهُ. قَالُوا: لِأَنَّهُ
كَانَ قُتِلَ مُحَارَبَةً لَا قِصَاصًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ طَعْنُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ الْجُمْعَةَ السَّابِعَ
عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، بِلَا خِلَافٍ. فَقِيلَ: مَاتَ مِنْ
يَوْمِهِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَحَدِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْهُ. قَالَ
الْفَلَّاسُ: وَقِيلَ: ضُرِبَ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَمَاتَ لَيْلَةَ
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ عَنْ تِسْعٍ أَوْ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
وَقِيلَ: عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. وَهُوَ
الْمَشْهُورُ. قَالَهُ مُحَمَّدُ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ،
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ: خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسَ سِنِينَ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقِيلَ:
أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: وَسِتَّةَ
أَيَّامٍ. وَقِيلَ: وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَ سِنِينَ
وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ، وَكَانَ
نَائِمًا مَعَ امْرَأَتِهِ فَاخِتَةَ بِنْتِ قَرَظَةَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، جَلَسَ
وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَجَعَلَ يَبْكِي،
فَقَالَتْ لَهُ فَاخِتَةُ: أَنْتَ بِالْأَمْسِ تَطْعَنُ عَلَيْهِ، وَالْيَوْمَ
تُبْكِي عَلَيْهِ ! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنَّمَا أَبْكِي لِمَا فَقَدَ النَّاسُ
مِنْ حِلْمِهِ وَعِلْمِهِ وَفَضْلِهِ وَسَوَابِقِهِ وَخَيْرِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ
" أَنَّ رَجُلًا مِنَ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أُمَرَاءِ مُعَاوِيَةَ غَضِبَ
ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى ابْنِهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَخَرَجَ الْغُلَامُ
لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَجَلَسَ وَرَاءَ الْبَابِ مِنْ خَارِجٍ، فَنَامَ
سَاعَةً ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَإِذَا هُوَ بَهِرٍّ أَسْوَدَ بَرِيٍّ قَدْ جَاءَ
إِلَى الْبَابِ الَّذِي لَهُمْ فَنَادَى: يَا سُوَيْدُ، يَا سُوَيْدُ. فَخَرَجَ
إِلَيْهِ الْهِرُّ الَّذِي فِي مَنْزِلِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْبَرِيُّ: وَيْحَكَ !
افْتَحْ. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! ائْتِنِي بِشَيْءٍ
أَتَبَلَّغُ بِهِ فَإِنِّي جَائِعٌ وَتَعْبَانُ، هَذَا أَوَانُ مَجِيئِي مِنَ
الْكُوفَةِ، وَقَدْ حَدَثَ اللَّيْلَةَ
حَدَثٌ عَظِيمٌ، قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْهِرُّ
الْأَهْلِيُّ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ ذَكَرُوا
اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ غَيْرَ سَفُّودٍ كَانُوا يَشْوُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ.
فَقَالَ: ائْتِنِي بِهِ. فَجَاءَ بِهِ فَجَعَلَ يَلْحَسُهُ حَتَّى أَخَذَ
حَاجَتَهُ وَانْصَرَفَ، وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ الْغُلَامِ وَمَسْمَعٍ، فَقَامَ
إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ فَقَالَ: مَنْ ؟ فَقَالَ
لَهُ: افْتَحْ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَفَتَحَ،
فَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! أَمَنَامٌ هَذَا ؟
قَالَ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ: وَيْحَكَ ! أَفَأَصَابَكَ جُنُونٌ بَعْدِي ؟ قَالَ:
لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا وَصَفْتُ لَكَ، فَاذْهَبْ إِلَى
مُعَاوِيَةَ الْآنَ فَاتَّخِذْ عِنْدَهُ يَدًا بِمَا قُلْتُ لَكَ. فَذَهَبَ
الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَخْبَرُهُ الْخَبَرَ عَلَى مَا
ذَكَرَ وَلَدُهُ، فَأَرَّخُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبُرُدِ،
وَلَمَّا جَاءَتِ الْبُرُدُ وَجَدُوا مَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ مُطَابِقًا لِمَا
كَانَ أَخْبَرَ بِهِ أَبُو الْغُلَامِ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا
زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَصَمِّ
قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ هَذِهِ الشِّيعَةَ يَزْعُمُونَ
أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ: كَذَبُوا
وَاللَّهِ، مَا هَؤُلَاءِ بِالشِّيعَةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَبْعُوثٌ مَا
زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ وَلَا قَسَمْنَا مَالَهُ. وَرَوَاهُ أَسْبَاطُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَصَمِّ،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بِنَحْوِهِ.
خِلَافَةُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ضَرَبَهُ ابْنُ
مُلْجَمٍ قَالُوا لَهُ: اسْتَخْلِفْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَا،
وَلَكِنْ أَدَعُكُمْ كَمَا تَرَكَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَنْهُ
وَسَلَّمَ - يَعْنِي بِغَيْرِ اسْتِخْلَافٍ - فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِكُمْ
خَيْرًا يَجْمَعْكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ، كَمَا جَمَعَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَصَلَّى
عَلَيْهِ ابْنُهُ الْحَسَنُ، لِأَنَّهُ أَكْبَرُ بَنِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ، وَدُفِنَ كَمَا ذَكَرْنَا بِدَارِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ، عَلَى
الصَّحِيحِ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِهِ كَانَ أَوَّلُ
مَنْ تَقَدَّمَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَيْسُ بْنُ
سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَالَ لَهُ: ابْسُطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى كِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ. فَسَكَتَ الْحَسَنُ، فَبَايَعَهُ ثُمَّ بَايَعَهُ
النَّاسُ بَعْدَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَ عَلِيٌّ، وَكَانَ مَوْتُهُ يَوْمَ
ضُرِبَ، عَلَى قَوْلٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ
رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّمَا مَاتَ بَعْدَ الطَّعْنَةِ
بِيَوْمَيْنِ. وَقِيلَ: مَاتَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَمِنْ
يَوْمَئِذٍ وَلِيَ الْحَسَنُ ابْنُهُ.
وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى إِمْرَةِ أَذْرَبِيجَانَ تَحْتَ يَدِهِ
أَرْبَعُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ قَدْ بَايَعُوا عَلِيًّا عَلَى الْمَوْتِ، فَلَمَّا
مَاتَ عَلِيٌّ أَلَحَّ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى الْحَسَنِ فِي النَّفِيرِ
لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ فَعَزْلَ قَيْسًا عَنْ إِمْرَةِ أَذْرَبِيجَانَ،
وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي نِيَّةِ
الْحَسَنِ أَنْ يُقَاتِلَ أَحَدًا، وَلَكِنْ غَلَبُوهُ عَلَى رَأْيِهِ،
فَاجْتَمَعُوا اجْتِمَاعًا عَظِيمًا
لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَأَمَرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَيْسَ بْنَ سَعْدِ
بْنِ عُبَادَةَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَسَارَ هُوَ بِالْجُيُوشِ فِي إِثْرِهِ قَاصِدًا بِلَادَ الشَّامِ لِيُقَاتِلَ
مُعَاوِيَةَ وَأَهْلَ الشَّامِ فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْمَدَائِنِ نَزَلَهَا
وَقَدَّمَ الْمُقَدِّمَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الْمَدَائِنِ
مُعَسْكِرٌ بِظَاهِرِهَا، إِذْ صَرَخَ فِي النَّاسِ صَارِخٌ: أَلَا إِنَّ قَيْسَ
بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَدْ قُتِلَ. فَثَارَ النَّاسُ فَانْتَهَبَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، حَتَّى انْتَهَبُوا سُرَادِقَ الْحَسَنِ. حَتَّى نَازَعُوهُ بِسَاطًا
كَانَ جَالِسًا عَلَيْهِ، وَطَعَنَهُ بَعْضُهُمْ حِينَ رَكِبَ طَعْنَةً
أَشْوَتْهُ، فَكَرِهَهُمُ الْحَسَنُ كَرَاهِيَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ رَكِبَ فَدَخَلَ
الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ مِنَ الْمَدَائِنِ فَنَزَلَهُ وَهُوَ جَرِيحٌ، وَكَانَ
عَامِلَهُ عَلَى الْمَدَائِنِ سَعْدُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، أَخُو أَبِي
عُبَيْدٍ صَاحِبِ يَوْمِ الْجِسْرِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْحَسَنُ بِالْقَصْرِ
قَالَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبَى عُبَيْدٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، لِعَمِّهِ سَعْدِ
بْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ فِي الشَّرَفِ وَالْغِنَى ؟ قَالَ: وَمَا ذَا ؟ قَالَ:
تَأْخُذُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَتُقَيِّدُهُ وَتَبْعَثُ بِهِ إِلَى
مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: قَبَّحَكَ اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ
! أَأَغْدِرُ بِابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
!
وَلَمَّا رَأَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَفَرُّقَ جَيْشِهِ عَلَيْهِ مَقَتَهُمْ،
وَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ - وَكَانَ قَدْ رَكِبَ فِي أَهْلِ
الشَّامِ فَنَزَلَ مَسْكِنَ - يُرَاوِضُهُ عَلَى الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فَبَعَثَ
إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
سَمُرَةَ، فَقَدِمَا عَلَيْهِ الْكُوفَةَ فَبَذَلًا لَهُ مَا أَرَادَ مِنَ
الْأَمْوَالِ، فَاشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ خَمْسَةَ
آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ يَكُونَ خَرَاجُ دَارَابْجِرْدَ لَهُ، وَأَنْ لَا
يُسَبَّ
عَلِيٌّ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَإِذَا
فُعِلَ ذَلِكَ نَزَلَ عَنِ الْإِمْرَةِ لِمُعَاوِيَةَ، وَيَحْقِنُ الدِّمَاءَ
بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاصْطَلَحُوا عَلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ
عَلَى مُعَاوِيَةَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ، وَقَدْ لَامَ
الْحُسَيْنُ أَخَاهُ الْحَسَنَ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ،
وَالصَّوَابُ مَعَ الْحَسَنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَنَذْكُرُ دَلِيلَهُ
قَرِيبًا.
ثُمَّ بَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى أَمِيرِ الْمُقَدِّمَةِ قَيْسِ بْنِ
سَعْدٍ أَنْ يَسْمَعَ وَيُطِيعَ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَبَى قَيْسٌ مِنْ قَبُولِ
ذَلِكَ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا، وَاعْتَزَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ،
ثُمَّ رَاجَعَ الْأَمْرَ فَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَرِيبَةٍ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ. ثُمَّ الْمَشْهُورُ أَنَّ مُبَايَعَةَ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ كَانَتْ
فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ، وَلِهَذَا يُقَالُ لَهُ: عَامُ الْجَمَاعَةِ.
لِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ فِيهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ ابْنِ
جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَائِلِ
سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعِينَ - الْمُغِيرَةُ
بْنُ شُعْبَةَ.
وَزَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَاشِدٍ، أَنَّ
الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ افْتَعَلَ كِتَابًا عَلَى لِسَانِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ
قَدْ وَلَّاهُ إِمْرَةَ الْحَجِّ عَامَئِذٍ، وَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ عُتْبَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ مَعَهُ كِتَابٌ مِنْ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ بِإِمْرَةِ
الْحَجِّ، فَتَعَجَّلَ الْمُغِيرَةُ فَوَقَفَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الثَّامِنِ
لِيَسْبِقَ عُتْبَةَ إِلَى الْإِمْرَةِ. وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
لَا يُقْبَلُ، وَلَا يُظَنُّ بِالْمُغِيرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ذَلِكَ،
وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَذَا، وَلَكِنْ هَذِهِ
نَزْعَةٌ شِيعِيَّةٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُويِعَ لِمُعَاوِيَةَ بِإِيلِيَاءَ. يَعْنِي لَمَّا مَاتَ عَلِيٌّ قَامَ أَهْلُ الشَّامِ فَبَايَعُوا مُعَاوِيَةَ عَلَى إِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عِنْدَهُمْ مُنَازِعٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَقَامَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لِيُمَانِعُوا بِهِ أَهْلَ الشَّامِ، فَلَمْ يُتِمَّ لَهُمْ مَا أَرَادُوهُ وَمَا حَاوَلُوهُ، وَإِنَّمَا كَانَ خِذْلَانُهُمْ مِنْ قِبَلِ تَدْبِيرِهِمُ السَّيِّئِ وَآرَائِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُخَالِفَةِ لِأُمَرَائِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ لَعَظَّمُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ مُبَايَعَتِهِمُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَيِّدَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحَدَ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَحُلَمَائِهِمْ وَذَوَى آرَائِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا ". وَإِنَّمَا كَمَلَتِ الثَّلَاثُونَ بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ لِمُعَاوِيَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَذَلِكَ كَمَالُ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ مَدَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَنِيعِهِ هَذَا، وَهُوَ تَرْكُهُ الدُّنْيَا الْفَانِيَةَ، وَرَغْبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، وَحَقْنُهُ دِمَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَنَزَلَ عَنِ الْخِلَافَةِ وَجَعَلَ الْمُلْكَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ، حَتَّى تَجْتَمِعَ الْكَلِمَةُ عَلَى أَمِيرٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا الْمَدْحُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَسَنُورِدُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الثَّقَفِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ يَوْمًا، وَجَلَسَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَانِبِهِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ أُخْرَى، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِيهَا سَلَّمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَمْرَ
لِمُعَاوِيَةَ بْنَ أَبَى سُفْيَانَ. ثُمَّ رَوَى عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ
قَالَ: لَمَّا بَايَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ طَفِقَ
يُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ، مُسَالِمُونَ مَنْ
سَالَمْتُ، مُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ. فَارْتَابَ بِهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ
وَقَالُوا: مَا هَذَا لَكُمْ بِصَاحِبٍ. فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى
طَعَنُوهُ فَأَشْوَوْهُ، فَازْدَادَ لَهُمْ بُغْضًا، وَازْدَادَ مِنْهُمْ ذُعْرًا،
فَعِنْدَ ذَلِكَ عَرَفَ تَفَرُّقَهُمْ وَاخْتِلَافَهُمْ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ يُسَالِمُهُ وَيُرَاسِلُهُ فِي الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَى
مَا يَخْتَارَانِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبَى مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ
يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبَى
سُفْيَانَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لَا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ: أَيْ عَمْرُو، إِنَّ قَتَلَ
هَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ هَؤُلَاءِ، مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ ؟ مَنْ
لِي بِضَيْعَتِهِمْ ؟ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ ؟ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ
قُرَيْشٍ مِنْ بَنَى
عَبْدِ شَمْسٍ ; عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ، فَقَالَ: اذْهَبَا إِلَى هَذَا
الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولَا لَهُ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ. فَأَتَيَاهُ
فَدَخَلَا عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا، وَقَالَا لَهُ، وَطَلَبَا إِلَيْهِ، فَقَالَ
لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا
مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا.
قَالَا: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ
وَيَسْأَلُكَ. قَالَ: فَمَنْ لِي بِهَذَا ؟ قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَمَا
سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالَا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَصَالَحَهُ. قَالَ
الْحَسَنُ: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى،
وَيَقُولُ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ
بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " قَالَ الْبُخَارِيُّ:
قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَنَا سَمَاعُ
الْحَسَنِ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْفِتَنِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، وَفِي فَضَائِلِ
الْحَسَنِ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ
بْنِ مُوسَى الْبَصْرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَيَحْيَى بْنُ
آدَمَ، كِلَاهُمَا عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الْجُعْفِيِّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ،
عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ الْبَصْرِيُّ، بِهِ. وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو
دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا
وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ
أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مُرْسَلًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي
مَنْ سَمْعِ الْحَسَنَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا يَوْمًا وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
فِي حِجْرِهِ، فَيُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيُحَدِّثُهُمْ، ثُمَّ يَقْبَلُ
عَلَى الْحَسَنِ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ،
إِنْ يَعِشْ يُصْلِحْ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". قَالَ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ، وَلَمْ يُسَمِّ الَّذِي
حَدَّثَهُ بِهِ عَنِ الْحَسَنِ، وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنِ الْحَسَنِ،
مِنْهُمْ ; أَبُو مُوسَى إِسْرَائِيلُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْصُورُ بْنُ
زَاذَانَ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَأَشْعَثُ بْنُ
سَوَّارٍ، وَالْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْقَدَرِيُّ.
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَطْرِيقِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا،
فَأَفَادَ وَأَجَادَ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنْ مَعْمَرًا رَوَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فَلَمْ
يُفْصِحُ بِاسْمِهِ، وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ
وَسَمَّاهُ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ هَاشِمٍ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ،
عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قَالَ الْحَسَنُ:
فَوَاللَّهِ وَاللَّهِ بَعْدَ أَنْ وَلِيَ لَمْ يُهْرَقْ فِي خِلَافَتِهِ مِلْءُ
مِحْجِمَةٍ مِنْ دَمٍ.
قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ
الْمِزِّيُّ فِي " أَطْرَافِهِ ": وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: ثَنَا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَسَنِ " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، يُصْلِحُ
اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ". وَكَذَا رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَغْرَاءَ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ; فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا
أَبُو بَكْرٍ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ
التَّمَّارُ الْمَدَنِيُّ، ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي سَعِيدٍ الْمَدَنِيِّ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِذْ جَاءَ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَسَلَّمَ فَرَدَدْنَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ
أَبُو هُرَيْرَةَ وَمَضَى، فَقُلْنَا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، هَذَا الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيٍّ قَدْ سَلَّمَ عَلَيْنَا. قَالَ: فَتَبِعَهُ فَلَحِقَهُ، وَقَالَ:
وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا سَيِّدِي. وَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " إِنَّهُ سَيِّدٌ ".
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ: كَانَ تَسْلِيمُ الْحَسَنِ الْأَمْرَ لِمُعَاوِيَةَ
فِي الْخَامِسِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ. وَيُقَالُ: فِي غُرَّةِ جُمَادَى الْأُولَى.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَحِينَئِذٍ دَخَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْكُوفَةِ
فَخَطَبَ النَّاسَ بِهَا بَعْدَ الْبَيْعَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَشَارَ عَلَى مُعَاوِيَةَ
أَنْ يَأْمُرَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَنْ يَخْطُبَ النَّاسَ وَيُعْلِمَهُمْ
بِنُزُولِهِ عَنِ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ الْحَسَنَ،
فَقَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ
وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاكُمْ
بِأَوَّلِنَا، وَحَقَنَ دِمَاءَكُمْ بِآخِرِنَا، وَإِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ
مُدَّةً، وَالدُّنْيَا دُوَلٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 111 ]. فَلَمَّا قَالَهَا غَضِبَ مُعَاوِيَةُ وَأَمَرَهُ
بِالْجُلُوسِ، وَعَتَبَ عَلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي إِشَارَتِهِ بِذَلِكَ،
وَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ ":
حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا
الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَامَ
رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بَعْدَ مَا بَايَعَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ:
سَوَّدْتَ وُجُوهَ الْمُؤْمِنِينَ - أَوْ: يَا مُسَوِّدَ وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ -
فَقَالَ: لَا تُؤَنِّبْنِي رَحِمَكَ اللَّهُ ; فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أُرِيَ بَنِي أُمَيَّةَ عَلَى مِنْبَرِهِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ يَا مُحَمَّدُ. يَعْنِي نَهْرًا فِي الْجَنَّةِ،
وَنَزَلَتْ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا
لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ يَمْلِكُهَا
بَعْدَكَ بَنُو أُمَيَّةَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ الْقَاسِمُ: فَعَدَدْنَا فَإِذَا
هِيَ أَلْفُ شَهْرٍ، لَا تَزِيدُ يَوْمًا وَلَا تَنْقُصُ. ثُمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ
الْقَاسِمِ بْنِ الْفَضْلِ، وَهُوَ ثِقَةٌ، وَثَّقَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ
مَهْدِيٍّ. قَالَ: وَشَيْخُهُ يُوسُفُ بْنُ سَعْدٍ - وَيُقَالُ: يُوسُفُ بْنُ
مَازِنٍ - رَجُلٌ مَجْهُولٌ. قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا
اللَّفْظِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَإِنَّهُ حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ
جِدًّا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ " التَّفْسِيرِ " بِمَا
فِيهِ كِفَايَةٌ، وَبَيَّنَّا وَجْهَ نَكَارَتِهِ، وَنَاقَشْنَا الْقَاسِمَ بْنَ
الْفَضْلِ فِيمَا ذَكَرَهُ، فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ فَلْيُرَاجِعِ "
التَّفْسِيرَ ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مَخْلَدِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْحَكِيمِيُّ، ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ،
ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثَنَا أَبُو رَوْقٍ الْهَمْدَانِيُّ، ثَنَا
أَبُو الْغَرِيفِ قَالَ: كُنَّا فِي مُقَدِّمَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ
عَشَرَ أَلْفًا بِمَسْكِنَ مُسْتَمِيتِينَ، تَقْطُرُ أَسْيَافُنَا مِنَ الْجِدِّ
عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ
وَعَلَيْنَا أَبُو الْعَمَرَّطَةِ، فَلَمَّا جَاءَنَا صُلْحُ الْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ كَأَنَّمَا كُسِرَتْ ظُهُورُنَا مِنَ الْغَيْظِ، فَلَمَّا قَدِمَ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفَةَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ: أَبُو
عَامِرٍ سُفْيَانُ بْنُ اللَّيْلِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذِلَّ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لَا تَقُلْ هَذَا يَا أَبَا عَامِرٍ، لَسْتُ بِمُذِلِّ
الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُمْ عَلَى الْمُلْكِ.
وَلَمَّا تَسَلَّمَ مُعَاوِيَةُ الْبِلَادَ وَدَخْلَ الْكُوفَةَ وَخَطْبَ بِهَا،
وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ،
وَرَجَعَ إِلَيْهِ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ أَحَدُ دُهَاةُ الْعَرَبِ، وَقَدْ كَانَ
عَزَمَ عَلَى الشِّقَاقِ، وَحَصَلَ عَلَى بَيْعَةِ مُعَاوِيَةَ عَامَئِذٍ
الْإِجْمَاعُ وَالِاتِّفَاقُ، تَرَحَّلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمَعَهُ أَخُوهُ
الْحُسَيْنُ وَبَقِيَّةُ إِخْوَتِهِمْ وَابْنُ عَمِّهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، عَلَى
سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَجَعَلَ كُلَّمَا مَرَّ بِحَيٍّ
مِنْ شِيعَتِهِمْ يُبَكِّتُونَهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ نُزُولِهِ عَنِ الْأَمْرِ لِمُعَاوِيَةَ،
وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُصِيبٌ بَارٌّ رَاشِدٌ مَمْدُوحٌ، وَلَيْسَ يَجِدُ فِي
صَدْرِهِ حَرَجًا وَلَا تَلَوُّمًا وَلَا نَدَمًا، بَلْ هُوَ رَاضٍ بِذَلِكَ
مُسْتَبْشِرٌ بِهِ، وَإِنَّ كَانَ قَدْ سَاءَ هَذَا خُلُقًا مِنْ ذَوِيهِ
وَأَهْلِهِ وَشِيعَتِهِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَدٍ، وَهَلُمَّ جَرًّا
إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَمَدْحُهُ
فِيمَا حَقَنَ بِهِ دِمَاءَ الْأُمَّةِ، كَمَا مَدَحَهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَسَيَأْتِي فَضَائِلَ الْحَسَنِ
عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ
الْفِرْدَوْسِ مُتَقَلَّبَهُ
وَمَثْوَاهُ، وَقَدْ فَعَلَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ
عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: خَطَبَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَوْمَ
جُمُعَةٍ، فَقَرَأَ سُورَةَ " إِبْرَاهِيمَ " عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى
خَتَمَهَا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ
سُورَةُ " الْكَهْفِ " فِي لَوْحٍ مَكْتُوبٍ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ
دَارَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، وَهُوَ فِي الْفِرَاشِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ذِكْرُ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
أَبَى سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمُلْكِهِ
قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ، ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا، وَقَدِ انْقَضَتِ
الثَّلَاثُونَ سَنَةً بِخِلَافَةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَيَّامُ مُعَاوِيَةَ
أَوَّلُ الْمُلْكِ، فَهُوَ أَوَّلُ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ وَخِيَارِهِمْ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ
جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَدَأَ رَحْمَةً وَنُبُوَّةً، ثُمَّ يَكُونُ
رَحْمَةً وَخِلَافَةً، ثُمَّ كَائِنٌ مُلْكًا عَضُوضًا، ثُمَّ كَائِنٌ عُتُوًّا
وَجَبْرِيَّةً وَفَسَادًا فِي الْأَرْضِ، يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْفُرُوجَ
وَالْخُمُورَ، وَيُرْزَقُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيُنْصَرُونَ حَتَّى يَلْقَوُا اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ ". إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ مِنْ طَرِيقِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ - وَفِيهِ ضَعْفٌ - عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ مَا حَمَلَنِي عَلَى
الْخِلَافَةِ إِلَّاقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِي: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ مَلَكْتَ فَأَحْسِنْ ". رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سَابِقٍ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، مِنْهَا
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ جَدِّهِ سَعِيدٍ
أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخَذَ الْإِدَاوَةَ فَتَبِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: " يَا مُعَاوِيَةَ،
إِنْ وَلَيْتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ وَاعْدِلْ ". قَالَ مُعَاوِيَةُ:
فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ
عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ ". قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ
سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ
حَوْشَبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْخِلَافَةُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمُلْكُ بِالشَّامِ ". غَرِيبٌ جِدًّا.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنْ أَبَى الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ
رَأَيْتُ عَمُودَ الْكُتَّابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ
مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بِصَرِي فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلَا
وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ ". وَقَدْ رَوَاهُ
سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ وَيُونُسَ بْنِ
مَيْسَرَةَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَرَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَفِيرِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ سُلَيْمِ
بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبَى أُمَامَةَ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ
السُّلَمِيِّ الْحِمْصِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ،
سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَأَيْتُ عَمُودًا مِنْ نُورٍ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ
رَأْسِي سَاطِعًا حَتَّى اسْتَقَرَّ بِالشَّامِ ".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ صِفِّينِ: اللَّهُمَّ الْعَنْ
أَهْلَ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: لَا تَسُبَّ أَهْلَ الشَّامِ جَمًّا
غَفِيرًا ; فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ، فَإِنَّ بِهَا الْأَبْدَالَ، فَإِنَّ
بِهَا الْأَبْدَالَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
مَرْفُوعًا.
فَضْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، خَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبُ وَحْيِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبَوْهُ وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاوِيَةَ
أَنَّهُ قَالَ أَسْلَمْتُ يَوْمَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ كَتَمْتُ
إِسْلَامِي مِنْ أَبِي وَأُمِّي إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ. وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ
مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَآلَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ قُرَيْشٍ
بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ فَكَانَ هُوَ أَمِيرَ الْحُرُوبِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ،
وَكَانَ رَئِيسًا مُطَاعًا ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، وَلَمَّا أَسْلَمَ قَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُ
الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ
كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: " نَعَمْ ". ثُمَّ سَأَلَ أَنْ
يُزَوِّجَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَتِهِ
الْأُخْرَى، وَهِيَ عَزَّةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ، وَاسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ
بِأُخْتِهَا أُمِّ حَبِيبَةَ، فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَأَفْرَدَنَا لَهُ
مُصَنَّفًا عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنْ مُعَاوِيَةَ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمَّا فُتِحَتِالشَّامُ وَلَّاهُ عُمَرُ نِيَابَةَ دِمَشْقَ
بَعْدَ أَخِيهِ يَزِيدَ
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَأَقَرَّهُ
عَلَى ذَلِكَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَزَادَهُ بِلَادًا أُخْرَى، وَهُوَ الَّذِي
بَنَى الْقُبَّةَ الْخَضْرَاءَ بِدِمَشْقَ، وَسَكَنَهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَهُ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ. وَلَمَّا وَلِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
الْخِلَافَةَ أَشَارَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أُمَرَائِهِ، مِمَّنْ بَاشَرَ قَتْلَ
عُثْمَانَ، أَنْ يَعْزِلَ مُعَاوِيَةَ عَنِ الشَّامِ، وَيُوَلِّيَ عَلَيْهَا
سَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ، فَعَزَلَهُ فَلَمْ يَنْتَظِمْ لَهُ عَزْلُهُ، وَالْتَفَّ
عَلَى مُعَاوِيَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ أَهْلِ الشَّامِ وَمَانَعَ عَلِيًّا عَنْهَا،
وَقَدْ قَالَ: لَا أُبَايِعُهُ حَتَّى يُسَلِّمَنِي قَتَلَةَ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُ
قُتِلَ مَظْلُومًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا
فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ: 33 ].
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا زِلْتُ مُوقِنًا
أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَيَلِي الْمُلْكَ وَالسُّلْطَانَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ
أَوْرَدْنَا سَنَدَهُ وَمَتْنَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. فَلَمَّا
امْتَنَعَ مُعَاوِيَةُ مِنَ الْبَيْعَةِ لِعَلِيٍّ حَتَّى يُسَلِّمَهُ
الْقَتَلَةَ، كَانَ مِنْ أَمْرِ صِفِّينِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ، ثُمَّ آلَ
الْأَمْرُ إِلَى التَّحْكِيمِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي
مُوسَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ جَانِبِ أَهْلِ الشَّامِ فِي الصُّورَةِ
الظَّاهِرَةِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ مُعَاوِيَةَ جِدًّا، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُ
عَلَيٍّ فِي اخْتِلَافٍ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى قَتَلَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ كَمَا
تَقَدَّمَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَايَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ،
وَبَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ثُمَّ رَكِبَ
الْحَسَنُ فِي جُنُودِ الْعِرَاقِ عَنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ مِنْهُ، وَرَكِبَ
مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ وَتَقَابَلَ
الْفَرِيقَانِ، سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا
فِي الصُّلْحِ، فَانْتَهَى الْحَالُ
إِلَى أَنْ خَلَعَ الْحَسَنُ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَسَلَّمَ الْمُلْكَ
إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ - وَدَخْلَ
مُعَاوِيَةُ إِلَى الْكُوفَةِ فَخَطْبَ النَّاسَ بِهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً بَعْدَ
مَا بَايَعَهُ النَّاسُ، وَاسْتَوْسَقَتْ لَهُ الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَبُعْدًا
وَقُرْبًا، وَسُمِّيَ هَذَا الْعَامُ عَامُ الْجَمَاعَةِ ; لِاجْتِمَاعِ
الْكَلِمَةِ فِيهِ عَلَى أَمِيرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَوَلِيَ
مُعَاوِيَةُ قَضَاءَ الشَّامِ لِفَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، ثُمَّ بَعْدَهُ لِأَبِي
إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، وَكَانَ عَلَى شُرْطَتِهِ قَيْسُ بْنُ حَمْزَةَ،
وَكَانَ كَاتِبَهُ وَصَاحِبَ أَمْرِهِ سَرْجُونُ بْنُ مَنْصُورِ الرُّومِيُّ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحَرَسَ، وَأَوَّلُ مِنْ حَزَمَ
الْكُتُبَ وَخَتَمَهَا. وَكَانَ أَوَّلَ الْأَحْدَاثِ فِي دَوْلَتِهِ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ
خُرُوجُ طَائِفَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلَيْهِ
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنْ مُعَاوِيَةَ لَمَّا دَخَلَ الْكُوفَةَ وَخَرَجَ
الْحَسَنُ وَأَهْلُهُ مِنْهَا قَاصِدِينَ إِلَى الْحِجَازِ، قَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ
الْخَوَارِجِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ: جَاءَ مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ، فَسِيرُوا
إِلَى مُعَاوِيَةَ فَجَاهِدُوهُ. فَسَارُوا حَتَّى قَرَبُوا مِنَ الْكُوفَةِ
وَعَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُعَاوِيَةُ خَيْلًا
مِنَ أَهْلِ الشَّامِ، فَطَرَدُوا الشَّامِيِّينَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِأَهْلِ
الْكُوفَةِ: لَا أَمَانَ لَكُمْ عِنْدِي حَتَّى تَكُفُّوا بَوَائِقَكُمْ.
فَخَرَجُوا إِلَى الْخَوَارِجِ، فَقَالَتْ لَهُمُ الْخَوَارِجُ: وَيْلَكُمْ، مَا
تَبْغُونَ ؟ أَلَيْسَ مُعَاوِيَةُ عَدُوَّكُمْ
وَعَدُوَّنَا ؟ فَدَعَوْنَا حَتَّى
نُقَاتِلَهُ، فَإِنْ أَصَبْنَاهُ كُنَّا قَدْ كَفَيْنَاكُمُوهُ، وَإِنْ أَصَابَنَا
كُنْتُمْ قَدْ كَفَيْتُمُونَا. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ حَتَّى نُقَاتِلَكُمْ.
فَقَالَتِ الْخَوَارِجُ: يَرْحَمُ اللَّهُ إِخْوَانَنَا مِنْ أَهْلِ النَّهْرِ
كَانُوا أَعْلَمَ بِكُمْ يَا أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَهُمْ
أَهْلُ الْكُوفَةِ وَطَرَدُوهُمْ، ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنْ
يَسْتَخْلِفَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،
فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: أَتُوَلِّيهِ الْكُوفَةَ وَأَبُوهُ
بِمِصْرَ وَتَبْقَى أَنْتَ بَيْنَ لَحْيَيِ الْأَسَدِ ؟ ! فَثَنَاهُ عَنْ ذَلِكَ،
وَوَلَّى عَلَيْهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، فَاجْتَمَعَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ بِمُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: أَتَجْعَلُ الْمُغِيرَةَ عَلَى الْخَرَاجِ،
هَلَّا وَلَّيْتَ الْخَرَاجَ رَجُلًا آخَرَ. فَعَزَلَهُ عَنِ الْخَرَاجِ
وَوَلَّاهُ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِعَمْرٍو فِي ذَلِكَ، فَقَالَ
لَهُ: أَلَسْتَ الْمُشِيرَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَهَذِهِ بِتِلْكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ حُمْرَانِ بْنُ أَبَانَ عَلَى الْبَصْرَةَ
فَأَخَذَهَا وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا
لِيَقْتُلُوهُ وَمَنْ مَعَهُ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرَةَ الثَّقَفِيُّ إِلَى
مُعَاوِيَةَ، فَسَأَلَهُ فِي الصَّفْحِ عَنْهُمْ وَالْعَفْوِ، فَعَفَا عَنْهُمْ
وَأَطْلَقَهُمْ، وَوَلَّى عَلَى الْبَصْرَةِ بُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ،
فَتَسَلَّطَ عَلَى أَوْلَادِ زِيَادٍ يُرِيدُ قَتْلَهُمْ ; وَذَلِكَ أَنْ
مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى أَبِيهِمْ لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ فَتَلَبَّثَ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ بُسْرٌ: لَئِنْ لَمْ تُسْرِعُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِلَّا
قَتَلْتُ بَنِيكَ. فَبَعَثَ أَبُو بَكْرَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ،
فَأَخَذَ لَهُ أَمَانًا مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ لَأَبَى بَكْرَةَ: هَلْ
مِنْ عَهِدٍ تَعْهَدُهُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَعْهَدُ إِلَيْكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَنْظُرَ لِنَفْسِكَ وَرَعِيَّتِكَ وَتَعْمَلَ صَالِحًا،
فَإِنَّكَ قَدْ تَقَلَّدْتَ عَظِيمًا، خِلَافَةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، فَاتَّقِ
اللَّهَ، فَإِنَّ لَكَ غَايَةً لَا تَعْدُوهَا، وَمِنْ وَرَائِكَ طَالِبٌ
حَثِيثٌ، وَأَوْشَكَ أَنْ تَبْلُغَ
الْمَدَى، فَيَلْحَقَ الطَّالِبُ، فَتَصِيرَ إِلَى مِنْ يَسْأَلُكُ عَمَّا كُنْتَ
فِيهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ، وَإِنَّمَا هِيَ مُحَاسَبَةٌ وَتَوْقِيفٌ،
فَلَا تُؤْثِرَنَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ شَيْئًا.
ثُمَّ وَلَّى مُعَاوِيَةُ فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ الْبَصْرَةَ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَهَا
لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَامِرٍ: إِنَّ لِي بِهَا
أَمْوَالًا وَوَدَائِعَ، وَإِنْ لَمْ تُوَلِّنِيهَا هَلَكَتْ. فَوَلَّاهُ
إِيَّاهَا وَأَجَابَهُ إِلَى سُؤَالِهِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُتْبَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا حَجَّ بِهِمْ عَنْبَسَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ
رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ: شَهِدَ الْعَقَبَةَ
وَبَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ،
وَهُوَ الَّذِي صَارَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَصَرَعَهُ، وَكَانَ رُكَانَةُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ، وَكَانَ صَرْعُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، كَمَا
قَدَّمْنَا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ. أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَقِيلَ:
قَبْلَ ذَلِكَ
بِمَكَّةَ لَمَّا صَرَعَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ، أَبُو وَهَبٍ
الْقُرَشِيُّ، أَحَدُ الرُّؤَسَاءِ، تَقَدَّمَ أَنَّهُ هَرَبَ يَوْمَ الْفَتْحِ،
ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ الَّذِي اسْتَأْمَنَ لَهُ
عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ وَكَانَ صَاحِبُهُ وَصَدِيقُهُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدِمَ بِهِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ،
فَاسْتَأْمَنَ لَهُ، فَأَمَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، وَاسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا وَسِلَاحًا
وَمَالًا، وَحَضَرَ صَفْوَانُ حُنَيْنًا مُشْرِكًا، ثُمَّ أَسْلَمَ وَدَخَلَ
الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، فَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا كَانَ مِنْ
سَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثُمَّ لَمْ يَزَلْ صَفْوَانُ
مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ، أَسْلَمَ هُوَ
وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَمَانٍ
قَبْلَ الْفَتْحِ. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ حَدِيثًا طَوِيلًا عَنْهُ فِي صِفَةِ
إِسْلَامِهِ. وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ رَدَّهُ
إِلَيْهِ وَهُوَ يَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ: 58 ]. وَقَالَ لَهُ:
خُذْهَا يَا عُثْمَانُ خَالِدَةً
تَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ ". وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ
طَلَبَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: نَزَلَ الْمَدِينَةَ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا مَاتَ نَزَلَ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى
مَاتَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيُّ: كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ،
وَكَانَتْ لَهُ حُلَّةً بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ يَلْبَسُهَا إِذَا قَامَ إِلَى
صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَضَعَ يَمِينَهُ
عَلَى شِمَالِهِ مَخَافَةَ الْخُيَلَاءِ، رَوَى عَنْ مُعَاذٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ، وَالْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي " الزُّهْدِ ": ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا
أَبُو بَكْرٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَا: قَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَدْيِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَدْيِ عَمْرِو
بْنِ الْأَسْوَدِ.
عَاتِكَةُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى:
وَهِيَ أُخْتُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدُ الْعَشَرَةِ، أَسْلَمَتْ وَهَاجَرَتْ،
وَكَانَتْ مِنْ حِسَانِ النِّسَاءِ وَعُبَّادِهِنَّ، تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَتَتَيَّمَ بِهَا، فَلَمَّا قُتِلَ عَنْهَا فِي غَزْوَةِ
الطَّائِفِ آلَتْ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ بَعْدَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا - فَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا
قُتِلَ عَنْهَا خَلَفَ بَعْدَهُ عَلَيْهَا الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، فَقُتِلَ عَنْهَا بِوَادِي السِّبَاعِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا عَلِيُّ بْنُ أَبَى طَالِبٍ يَخْطُبُهَا فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ. فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ لَقُتِلَ عَنْهَا أَيْضًا، ثُمَّ لَمْ تَزَلْ بِلَا زَوْجٍ حَتَّى مَاتَتْ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ الْلَّانَ وَالرُّومَ، فَقَتَلُوا مِنْ أُمَرَائِهِمْ
وَبَطَارِقَتِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا وَسَلِمُوا.
وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ،
وَعَلَى مَكَّةَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَعَلَى قَضَائِهَا شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ قَيْسُ بْنُ
الْهَيْثَمِ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَاسْتَقْضَى مَرْوَانُ
عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ
عُمَيْرَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَتِ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَفَا
عَنْهُمْ عَلِيٌّ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ وَقَدْ عُوفِيَ جَرْحَاهُمْ وَثَابَتْ
إِلَيْهِمْ قُوَاهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَقْتَلُ عَلِيٍّ تَرَحَّمُوا عَلَى
قَاتِلِهِ ابْنِ مُلْجَمٍ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَا يَقْطَعُ اللَّهُ يَدًا
عَلَتْ قَذَالَ عَلِيٍّ بِالسَّيْفِ. وَجَعَلُوا يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى قَتْلِ
عَلِيٍّ، ثُمَّ عَزَمُوا عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ، وَتَوَافَقُوا عَلَى
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ
قَدِ امْتَنَعَ عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ فِي قَلْعَةٍ عُرِفَتْ بِهِ يُقَالُ
لَهَا: قَلْعَةُ زِيَادٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى
أَنْ تُهْلِكَ نَفْسَكَ ؟ أَقْدِمْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِمَا صَارَ إِلَيْكَ
مِنْ أَمْوَالِ فَارِسَ
وَمَا صَرَفْتَ مِنْهَا وَمَا بَقِيَ عِنْدَكَ، فَائْتِنِي بِهِ وَأَنْتَ آمِنٌ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَنَا فَعَلْتَ، وَإِلَّا ذَهَبْتَ حَيْثُمَا شِئْتَ مِنَ الْأَرْضِ فَأَنْتَ آمِنٌ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَزْمَعَ زِيَادٌ السَّيْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَبَلَغَ الْمُغِيرَةَ قُدُومَهُ، فَخَشِيَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِمُعَاوِيَةَ قَبْلَهُ، فَسَارَ نَحْوَ دِمَشْقَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَسَبَقَهُ زِيَادٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِشَهْرٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْمُغِيرَةِ: مَا هَذَا وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْكَ وَأَنْتَ جِئْتَ بَعْدَهُ بِشَهْرٍ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ يَنْتَظِرُ الزِّيَادَةَ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ النُّقْصَانَ. فَأَكْرَمَ مُعَاوِيَةُ زِيَادًا، وَقَبَضَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَصَدَّقَهُ فِيمَا صَرَفَهُ وَمَا بَقِيَ عِنْدَهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ بِلَادَ الرُّومِ، فَوَغَلَ فِيهَا
حَتَّى بَلَغَ مَدِينَةَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَشَتَّى بِبِلَادِهِمْ فِيمَا
زَعَمَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ آخَرُونَ، وَقَالُوا: لَمْ يَكُنْ
بِهَا مَشْتًى لِأَحَدٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا مَاتَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِمِصْرَ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ مَسْلَمَةَ. قُلْتُ: وَسَنَذْكُرُ تَرْجَمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي آخِرِهَا.
فَوَلَّى مُعَاوِيَةُ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ وَلَدَهُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَعَمِلَ لَهُ عَلَيْهَا
سَنَتَيْنِ.
وَقَدْ كَانَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ -
وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَجُنْدِ الْكُوفَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ
صَمَّمُوا، كَمَا قَدَّمْنَا، عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ فِي هَذَا الْحِينِ،
فَاجْتَمَعُوا فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، عَلَيْهِمُالْمُسْتَوْرِدُ بْنُ
عُلَّفَةَ، فَجَهَّزَ إِلَيْهِمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ جُنْدًا عَلَيْهِمْ
مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ، وَقَدِمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ أَبَا الرَّوَّاغِ فِي طَلِيعَةٍ، هِيَ ثَلَاثُمِائَةٌ عَلَى عِدَّةِ
الْخَوَارِجِ، فَلَقِيَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
الْمَذَارُ. فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ، فَهَزَمَتْهُمُ الْخَوَارِجُ، ثُمَّ كَرُّوا
عَلَيْهِمْ، فَهَزَمَتْهُمُ الْخَوَارِجُ، وَلَكِنْ لَمْ يُقْتَلْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ، فَلَزِمُوا
مَكَانَهُمْ فِي مُقَابَلَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَ أَمِيرِ الْجَيْشِ مَعْقِلِ بْنِ قَيْسٍ عَلَيْهِمْ، فَمَا قَدِمَ عَلَيْهِمْ إِلَّا فِي آخِرِ نَهَارٍ بَعْدَ أَنْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَنَزَلَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي مَدْحِ أَبِي الرَّوَّاغِ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنْ لَهُمْ شَدَّاتٍ مُنْكَرَةً، فَكُنْ أَنْتَ رِدْءَ النَّاسِ، وَمُرِ الْفُرْسَانَ فَلْيُقَاتِلُوا بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ: نِعْمَ مَا رَأَيْتَ. فَمَا كَانَ إِلَّا رَيْثَمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى حَمَلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى مَعْقِلٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْجَفَلَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، فَتَرَجَّلَ عِنْدَ ذَلِكَ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، الْأَرْضَ الْأَرْضَ. فَتَرَجَّلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالشُّجْعَانِ قَرِيبٌ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ مِنْهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ الشَّاكِرِيُّ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ عُلَّفَةَ أَمِيرُ الْخَوَارِجِ بِأَصْحَابِهِ، فَاسْتَقْبَلُوهُمْ بِالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَلَحِقَ بَقِيَّةَ الْجَيْشِ بَعْضُ الْفُرْسَانِ، فَذَمَّرُهُمْ وَعَيَّرَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ عَلَى الْفِرَارِ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى مَعْقِلٍ وَهُوَ يُقَاتِلُ الْخَوَارِجَ بِمَنْ مَعَهُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَالنَّاسُ يَتَرَاجَعُونَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، فَصَفَّهُمْ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَرَتَّبَهُمْ وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا عَلَى مَصَافِّكُمْ حَتَّى نُصْبِحَ فَنَحْمِلَ عَلَيْهِمْ. فَمَا أَصْبَحُوا حَتَّى هُزِمَتِ الْخَوَارِجُ، فَرَجَعُوا مِنْ حَيْثُ أَتَوْا، فَسَارَ مَعْقِلٌ فِي طَلَبِهِمْ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبَا الرَّوَّاغِ فِي سِتِّمِائَةٍ، فَالْتَقَوْا بِهِمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَثَارَ إِلَيْهِمُ الْخَوَارِجُ، فَتَبَارَزُوا سَاعَةً، ثُمَّ حَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَصَبَرَ لَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ بِمَنِّ مَعَهُ، وَجَعَلَ يُذَمِّرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْفِرَارِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا فِي الثَّبَاتِ، حَتَّى رَدُّوا الْخَوَارِجَ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ، فَلَمَّا رَأَتِ الْخَوَارِجُ ذَلِكَ خَافُوا مِنْ هُجُومِ مَعْقِلٍ عَلَيْهِمْ، فَمَا يَكُونُ دُونَ
قَتْلِهِمْ شَيْءٌ فَهَرَبُوا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ حَتَّى قَطَعُوا دِجْلَةَ، وَوَقَعُوا فِي أَرْضِ بَهُرَسِيرَ،
وَتَبِعَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ، وَلَحِقَهُ مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، وَوَصَلَتِ
الْخَوَارِجُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْعَتِيقَةِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ سِمَاكُ بْنُ
عُبَيْدٍ نَائِبُ الْمَدَائِنِ، وَلَحِقَهُمْ أَبُو الرَّوَّاغِ بِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْمُقَدِّمَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بِهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
أَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ الْقُرَشِيُّ
السَّهْمِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: أَبُو مُحَمَّدٍ. أَحَدُ رُؤَسَاءِ
قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ
لِيَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ هَاجَرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمْ
يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ لِعَدْلِهِ، وَوَعَظَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي ذَلِكَ،
فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنَّمَا
أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ
وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ. وَكَانَ أَحَدَ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ،
وَهُوَ أَمِيرُ غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، وَأَمَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَدَدٍ، عَلَيْهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ وَمَعَهُ
الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ الْفَارُوقُ، وَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُمَانَ، فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا مُدَّةَ
حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَرَّهُ
عَلَيْهَا الصِّدِّيقُ.
وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا
قُتَيْبَةُ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ ثَنَا مِشْرَحُ بْنُ هَاعَانَ، عَنْ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ".
وَقَالَ أَيْضًا: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ
نَافِعِ بْنِ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ
طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ
". وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ "
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " نِعْمَ أَهْلُ الْبَيْتِ عَبْدُ اللَّهِ وَأَبُو
عَبْدِ اللَّهِ وَأُمُّ عَبْدِ اللَّهِ " رَوَوْهُ فِي فَضَائِلِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ
ثُمَّ إِنَّ الصِّدِّيقَ بَعَثَهُ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَعَثَ مِنْ أُمَرَاءِ
الْجَيْشِ إِلَى الشَّامِ، فَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ تِلْكَ الْحُرُوبَ، وَكَانَتْ
لَهُ الْآرَاءُ السَّدِيدَةُ، وَالْمَوَاقِفُ الْحَمِيدَةُ، وَالْأَحْوَالُ
السَّعِيدَةُ، ثُمَّ بَعَثَهُ عُمَرُ إِلَى مِصْرَ فَافْتَتَحَهَا وَاسْتَنَابَهُ
عَلَيْهَا، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أَرْبَعَ سِنِينَ،
ثُمَّ عَزَلَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ
بْنِ أَبِي سَرْحٍ، فَاعْتَزَلَ عَمْرٌو بِفِلَسْطِينَ، وَبَقِيَ فِي نَفْسِهِ
مِنْ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ سَارَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ، فَشَهِدَ مَوَاقِفَهُ كُلَّهَا بِصِفِّينَ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ هُوَ
أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ، ثُمَّ لَمَّا أَنِ اسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ مِصْرَ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ اسْتَعْمَلَ
عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَزَلْ نَائِبَهَا إِلَى أَنَّ مَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ مَعْدُودًا مِنْ دُهَاةِ الْعَرَبِ وَشُجْعَانِهِمْ وَذَوِي
آرَائِهِمْ، وَلَهُ أَمْثَالٌ حَسَنَةٌ وَأَشْعَارٌ جَيِّدَةٌ. وَقَدْ رُوِيَ
أَنَّهُ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَلْفَ مَثَلٍ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ وَلَمْ يُنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا
حَيْثُ يَمَّمَا قَضَى وَطَرًا مِنْهُ وَغَادَرَ سُبَّةً
إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ الْفَمَا
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ - أَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي
يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شِمَاسَةَ حَدَّثَهُ
قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ الْوَفَاةُ بَكَى، فَقَالَ لَهُ
ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ: لِمَ تَبْكِي ؟ أَجَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ ؟ فَقَالَ: لَا
وَاللَّهِ، وَلَكِنْ مِمَّا بَعْدَ الْمَوْتِ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتَ عَلَى
خَيْرٍ. فَجَعَلَ يُذَكِّرُهُ صُحْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَفُتُوحَهُ الشَّامَ. فَقَالَ عَمْرٌو: تَرَكْتَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ ; شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنَّى كُنْتُ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَطْبَاقٍ، لَيْسَ فِيهَا طَبَقٌ إِلَّا عَرَفْتُ نَفْسِي فِيهِ، كُنْتُ
أَوَّلَ شَيْءٍ كَافِرًا، وَكُنْتُ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ مِتُّ حِينَئِذٍ وَجَبَتْ لِيَ النَّارُ،
فَلَمَّا بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ
أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً مِنْهُ، فَمَا مَلَأْتُ عَيْنَي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَاجَعْتُهُ فِيمَا أُرِيدُ، حَتَّى
لَحِقَ بِاللَّهِ ; حَيَاءً مِنْهُ، فَلَوْ مِتُّ
يَوْمَئِذٍ قَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لِعَمْرٍو ; أَسْلَمَ وَكَانَ عَلَى خَيْرٍ فَمَاتَ عَلَيْهِ، نَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ. ثُمَّ تَلَبَّسْتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسُّلْطَانِ وَأَشْيَاءَ، فَلَا أَدْرِي عَلَيَّ أَمْ لِي، فَإِذَا مِتُّ فَلَا تَبْكِيَنَّ عَلَيَّ بَاكِيَةٌ، وَلَا تُتْبِعْنِي مَادِحًا وَلَا نَارًا، وَشُدُّوا عَلَيَّ إِزَارِي فَإِنِّي مُخَاصِمٌ، وَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، فَإِنَّ جَنْبِي الْأَيْمَنَ لَيْسَ بِأَحَقَّ بِالتُّرَابِ مِنْ جَنْبِي الْأَيْسَرِ، وَلَا تَجْعَلُنَّ فِي قَبْرِي خَشَبَةً وَلَا حَجَرًا، وَإِذَا وَارَيْتُمُونِي فَاقْعُدُوا عِنْدِي قَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ وَتَقْطِيعِهَا ; أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ عَلَى هَذَا السِّيَاقِ حَسَنَةٌ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ: كَيْ أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ لِأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ بَعْدَ هَذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَمَرْتَنَا فَعَصَيْنَا، وَنَهَيْتَنَا فَمَا انْتَهَيْنَا، وَلَا يَسَعُنَا إِلَّا عَفْوُكَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْغُلِّ مِنْ عُنُقِهِ، وَرَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا قَوِيٌّ فَأَنْتَصِرَ، وَلَا بَرِيءٌ فَأَعْتَذِرَ، وَلَا مُسْتَكْبِرٌ بَلْ مُسْتَغْفِرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهَا حَتَّى مَاتَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
الْأَنْصَارِيُّ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَبْلَ
أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا
إِلَّا تَبُوكَ ; فَإِنَّهُ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي قَوْلٍ، وَقِيلَ: اسْتَخْلَفَهُ فِي
قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ. وَكَانَ فِيمَنْ قَتَلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ
الْيَهُودِيَّ، وَقِيلَ: إِنَّهُ الَّذِي قَتَلَ مَرْحَبًا الْيَهُودِيَّ يَوْمَ
خَيْبَرَ أَيْضًا. وَقَدْ أَمَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَرِيَّةً، وَكَانَ مِمَّنِ
اعْتَزَلَ تِلْكَ الْحُرُوبَ بِالْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَغَيْرِهِمَا، وَاتَّخَذَ
سَيْفًا مِنْ خَشَبٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ قَدَّمْنَاهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى
الرَّبَذَةِ. وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ هُوَ بَرِيدَ عُمَرَ
إِلَى عُمَّالِهِ، وَهُوَ الَّذِي شَاطَرَهُمْ عَنْ أَمْرِهِ، وَلَهُ وَقَائِعُ
عَظِيمَةٌ وَصِيَانَةٌ وَأَمَانَةٌ بَلِيغَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
وَاسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى صَدَقَاتِ جُهَيْنَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ
سَنَةَ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ، وَتَرَكَ بَعْدَهُ عَشَرَةَ ذُكُورٍ وَسِتَّ بَنَاتٍ، وَكَانَ
أَسْمَرَ شَدِيدَ السُّمْرَةِ طَوِيلًا أَصْلَعَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، أَبُو يُوسُفَ
الْإِسْرَائِيلِيُّ، أَحَدُ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، كَانَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي نَخْلٍ لَهُ، قَالَ:
لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ
انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
رَأَيْتُ وَجْهَهُ
عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشَوُا السَّلَامَ، وَأَطْعَمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ". وَقَدْ ذَكَرْنَا صِفَةَ إِسْلَامِهِ أَوَّلَ الْهِجْرَةِ، وَمَاذَا سَأَلَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ النَّافِعَةِ الْحَسَنَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَهُوَ مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ،
وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَشَتُّوا هُنَالِكَ. وَفِيهَا غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي
أَرْطَاةَ فِي الْبَحْرِ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ عَنْ إِمْرَةِ
الْبَصْرَةِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا الْفَسَادُ بِسَبَبِ لَيِنَهِ ;
لِأَنَّهُ كَانَ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ، سَهْلًا كَرِيمًا، وَكَانَ لَا يَأْخُذُ
عَلَى أَيْدَى السُّفَهَاءِ، وَلَا يَقْطَعُ لِصًّا، وَيُرِيدُ أَنْ يَتَأَلَّفَ
النَّاسُ فَفَسَدَتِ الْبَصْرَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: شَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ إِلَى زِيَادٍ فَسَادَ
النَّاسِ، فَقَالَ: جَرِّدْ فِيهِمُ السَّيْفَ. فَقَالَ ابْنُ عَامِرٍ: إِنِّي
أَكْرَهُ أَنْ أُصْلِحَهُمْ بِفَسَادِ نَفْسِي. قَالَ: فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي أَوْفَى الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْكَوَّاءِ فَشَكَاهُ إِلَى
مُعَاوِيَةَ، فَعَزَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ عَامِرٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَبَعْثَ
إِلَيْهَا الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَزْدِيَّ، وَيُقَالُ: إِنَّ
مُعَاوِيَةَ اسْتَدْعَاهُ إِلَيْهِ لِيَزُورَهُ، فَقَدِمَ ابْنُ عَامِرٍ عَلَى
مُعَاوِيَةَ دِمَشْقَ، فَأَكْرَمَهُ وَرَدَّهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ
قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: ثَلَاثٌ أَسْأَلُكَهُنَّ فَقُلْ: هُنَّ لَكَ. قَالَ:
هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ أُمِّ حَكِيمٍ. قَالَ: مُعَاوِيَةُ: تَرُدُّ عَلَيَّ
عَمَلِي وَلَا تَغْضَبْ. قَالَ ابْنُ عَامِرٍ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَتَهَبُ لِي
مَالَكَ بِعَرَفَةَ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ:
وَتَهَبُ لِي دَوْرَكَ بِمَكَّةَ.
قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ. فَقَالَ
ابْنُ عَامِرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّى سَائِلُكَ ثَلَاثًا فَقُلْ:
هِيَ لَكَ. قَالَ: هُنَّ لَكَ وَأَنَا ابْنُ هِنْدٍ. قَالَ: تَرُدُّ عَلَيَّ
مَالِي بِعَرَفَةَ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ قَالَ: وَلَا تُحَاسِبْ لِي عَامِلًا
وَلَا تَتَّبِعْ لِي أَثَرًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: وَتُنْكِحُنِي
ابْنَتَكَ هِنْدًا. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ خَيَّرَهُ
بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ وَبَيْنَ الْوِلَايَةِ عَلَى الْبَصْرَةِ، فَاخْتَارَ
هَذِهِ الثَّلَاثَ، وَانْعَزَلَ عَنِ الْبَصْرَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ زِيَادَ
ابْنِ أَبِيهِ فَأَلْحَقَهُ بِأَبِي سُفْيَانَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا شَهِدَ
عَلَى إِقْرَارِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ عَاهَرَ بِسُمَيَّةَ أُمِّ زِيَادٍ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَّهَا حَمَلَتْ بِزِيَادٍ هَذَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ،
فَلَمَّا اسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ قِيلَ لَهُ: زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُنْكِرُ هَذَا الِاسْتِلْحَاقَ، وَيَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ:
لَمَّا ادَّعَى زِيَادٌ لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ
؟ إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمْعُ أُذُنِي مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: " مَنِ
ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ
أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا
سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْرَجْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْهُمَا. قُلْتُ: أَبُو بَكْرَةَ
اسْمُهُ نُفَيْعٌ، وَاسْمُ أُمِّهِ
سُمَيَّةُ أَيْضًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُعَاوِيَةُ. وَفِيهَا عَمِلَ
مُعَاوِيَةُ الْمَقْصُورَةَ بِالشَّامِ، وَعَمِلَ مَرْوَانُ مَثَلَهَا
بِالْمَدِينَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْمُهَا رَمْلَةُ، أُخْتُ مُعَاوِيَةَ. أَسْلَمَتْ قَدِيمًا،
وَهَاجَرَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ إِلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ، فَتَنَصَّرَ هُنَاكَ زَوجُهَا، وَثَبَتَتْ هِيَ عَلَى دِينِهَا،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَحَبِيبَةُ هِيَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهَا مِنْهُ،
وَلَدَتْهَا بِالْحَبَشَةِ. وَقِيلَ: بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ. وَمَاتَ
زَوْجُهَا هُنَالِكَ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ. وَلَمَّا تَأَيَّمَتْ بَعْدَ
زَوْجِهَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ، وَوَلِيَ
الْعَقْدَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ
النَّجَاشِيُّ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، وَحَمَلَهَا إِلَيْهِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ،
وَلَمَّا جَاءَ أَبُوهَا عَامَ الْفَتْحِ لِيَشُدَّ الْعَقْدَ، دَخَلَ عَلَيْهَا،
فَثَنَتْ عَنْهُ فِرَاشَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ لَهَا: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ، مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِهَذَا
الْفِرَاشِ عَنِّي أَمْ بِي عَنْهُ ؟ ! فَقَالَتْ: بَلْ هُوَ فِرَاشُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ. فَقَالَ
لَهَا: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةَ لَقَدْ لَقِيتِ بَعْدِي شَرًّا. وَقَدْ كَانَتْ
مِنْ سَيِّدَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنَ الْعَابِدَاتِ الْوَرِعَاتِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلٍ، عَنْ عَوْفِ
بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ:
دَعَتْنِي أُمُّ حَبِيبَةَ عِنْدَ مَوْتِهَا فَقَالَتْ: قَدْ يَكُونُ بَيْنَنَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ. فَقُلْتُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَتَجَاوَزَ وَحَلَّلَكِ. فَقَالَتْ: سَرَرْتِنِي سَرَّكِ اللَّهُ. وَأَرْسَلَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ لِلْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَزْدِيِّ، ثُمَّ عَزَلَهُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَوَلَّى زِيَادًا،
فَقَدِمَ زِيَادٌ الْكُوفَةَ وَعَلَيْهَا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَأَقَامَ
بِهَا لِيَأْتِيَهُ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ بِوِلَايَةِ الْبَصْرَةِ، فَظَنَّ
الْمُغِيرَةُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ لِيَعْلَمَ لَهُ خَبَرَهُ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ
مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، فَجَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى زِيَادٍ أَنَّ يَسِيرَ إِلَى
الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ، ثُمَّ جَمَعَ لَهُ
الْهِنْدَ وَالْبَحْرَيْنَ وَعُمَانَ. وَدَخَلَ زِيَادٌ الْبَصْرَةَ فِي
مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى، فَقَامَ فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا، وَقَدْ
وَجَدَ الْفِسْقَ ظَاهِرًا فِي الْبَصْرَةِ، فَقَالَ فِيهَا: أَيُّهَا النَّاسُ،
كَأَنَّكُمْ لَمْ تُسْمِعُوا مَا أَعَدَّ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ لِأَهْلِ
الطَّاعَةِ، وَالْعَذَابِ لِأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، أَتَكُونُونَ كَمَنْ طَرَفَتْ عَيْنُهُ
الدُّنْيَا، وَسَدَّتْ مَسَامِعَهَ الشَّهَوَاتُ فَاخْتَارَ الْفَانِيَةَ عَلَى
الْبَاقِيَةِ. ثُمَّ مَا زَالَ يُقِيمُ أَمْرَ السُّلْطَانِ وَيُجَرِّدُ السَّيْفَ
حَتَّى خَافَهُ النَّاسُ خَوْفًا عَظِيمًا، وَتَرَكُوا مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ
الْمَعَاصِي الظَّاهِرَةِ، وَاسْتَعَانَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَوَلَّى
عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ الْقَضَاءَ بِالْبَصْرَةِ، وَوَلَّى الْحَكَمَ بْنَ
عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ، وَوَلَّى سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ
وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ.
وَكَانَ زِيَادٌ حَازِمَ الرَّأْيِ، ذَا هَيْبَةَ، دَاهِيَةً، وَكَانَ مُفَوَّهًا
فَصِيحًا بَلِيغًا ; قَالَ
الشَّعْبِيُّ: مَا سَمِعْتُ
مُتَكَلِّمًا قَطُّ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يَسْكُتَ ;
خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسِيءَ إِلَّا زِيَادًا ; فَإِنَّهُ كَانَ كُلَّمَا أَكْثَرَ
كَانَ أَجْوَدَ كَلَامًا. وَقَدْ كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو نَائِبُ زِيَادٍ عَلَى
خُرَاسَانَ جَبَلَ الْأَشَلِّ، عَنْ أَمْرِ زِيَادٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَمَّةً، فَكَتَبَ إِلَيْهِ زِيَادٌ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ جَاءَ كِتَابَهُ أَنَّ يُصْطَفَى لَهُ كُلُّ صَفْرَاءَ
وَبَيْضَاءَ - يَعْنِي الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ - يُجْمَعُ كُلُّهُ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ
لِبَيْتِ الْمَالِ. فَكَتَبَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو إِلَيْهِ: إِنَّ كِتَابَ
اللَّهِ مُقَدَّمٌ عَلَى كِتَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ
لَوْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ عَلَى عَبْدٍ فَاتَّقَى اللَّهَ، لَجَعَلَ
لَهُ مَخْرَجًا. ثُمَّ نَادَى فِي النَّاسِ أَنِ اغْدُوَا عَلَى قَسْمِ
غَنِيمَتِكُمْ. فَقَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَخَالَفَ زِيَادًا فِيمَا كَتَبَ
إِلَيْهِ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَعَزَلَ الْخُمُسَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ الْحَكَمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ
لِي عِنْدَكَ خَيْرٌ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. فَمَاتَ بِمَرْوَ مِنْ خُرَاسَانَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةَ. وَكَانَتِ الْوُلَاةُ وَالْعُمَّالُ هُمُ
الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ أَحَدُ كُتَّابِ الْوَحْيِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
تَرْجَمَتَهُ فِيهِمْ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَتَبَ هَذَا
الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ الَّذِي بِالشَّامِ، عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
وَهُوَ خَطٌّ جَيِّدٌ قَوِّيٌّ جِدًّا فِيمَا رَأَيْتُهُ، وَقَدْ كَانَ زَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ ذَكَاءً، تَعَلَّمَ لِسَانَ يَهُودَ
وَكِتَابَهُمْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الْبَرَاءِ: تَعَلَّمَ الْفَارِسِيَّةَ مِنْ رَسُولِ كِسْرَى فِي ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ يَوْمًا، وَتَعَلَّمَ الْحَبَشِيَّةَ وَالرُّومِيَّةَ وَالْقِبْطِيَّةَ
مِنْ خُدَّامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ:
" وَأَعْلَمَهُمْ بِالْفَرَائِضِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ". وَقَدِ
اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى الْقَضَاءِ.
وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
أَخَذَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالرِّكَابِ فَقَالَ لَهُ: تَنَحَّ يَا ابْنَ عَمِّ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: لَا هَكَذَا
نَفْعَلُ بِعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ ثَابِتِ
بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ أَفْكَهِ النَّاسِ فِي
بَيْتِهِ، وَمَنْ أَزْمَتِهِ إِذَا خَرَجَ إِلَى الرِّجَالِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: خَرَجَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى الصَّلَاةِ،
فَوَجَدَ النَّاسَ رَاجِعِينَ مِنْهَا، فَتَوَارَى عَنْهُمْ وَقَالَ: مَنْ لَا
يَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ لَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ.
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ خَمَسٍ وَخَمْسِينَ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ
مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ
مَاتَ الْيَوْمَ عَلَمٌ كَثِيرٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَاتَ حَبْرُ هَذِهِ
الْأُمَّةِ.
وَفِيهَا مَاتَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً،
وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَلَا عَقِبَ لَهُ.
وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ عَلَى قُبَاءَ وَأَهْلِ
الْعَالِيَةِ، وَشَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَتُوُفِّيَ عَنْ خَمْسَ
عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ إِلَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ
فَحَرَّقَاهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ،
وَهَاجَرَتْ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا بَعْدَ بَدْرٍ،
فَلَمَّا انْقَضَتْ عُدَّتُهَا عَرَضَهَا أَبُوهَا عَلَى عُثْمَانَ بَعْدَ وَفَاةِ
زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَبَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، فَعَرَضَهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَرُدَّ
عَلَيْهِ شَيْئًا، فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا، فَعَاتَبَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ ذَكَرَهَا، فَمَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ
سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ تَرَكَهَا
لَتَزَوَّجْتُهَا.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا. وَفِي رِوَايَةٍأَنَّ جِبْرِيلَ
أَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا، وَقَالَ: إِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ، وَهِيَ
زَوْجَتُكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ
فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهَا
تُوُفِّيَتْ أَيَّامَ عُثْمَانَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةَ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى الْمُسْلِمُونَ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ أَمِيرِهِمْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَقِيلَ: كَانَ أَمِيرُهُمْ غَيْرَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
أَخُو مُعَاوِيَةَ، وَالْعُمَّالُ عَلَى الْبِلَادِ هُمُ الْمُتَقَدِّمُ
ذِكْرُهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، أَحَدُ
الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا
مِنَ الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا.
سُرَاقَةُ بْنُ كَعْبٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ،
وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَعْرُوفِينَ وَالْأَبْطَالِ الْمَشْهُورِينَ
كَأَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ بِبِلَادِ الشَّامِ كَذَلِكَ حَتَّى خَافَ مِنْهُ
مُعَاوِيَةُ، وَمَاتَ وَهُوَ مَسْمُومٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبَى عُمَرَ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ
قَيْسٍ رَوَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحِجَامَةِ بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
يَعْنِي مُرْسَلًا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
كَانَ عَظِيمَ الْقَدْرِ فِي أَهْلِ الشَّامِ، شَهِدَ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ،
وَكَانَ كَعْبُ بْنُ جُعَيْلٍ مَدَّاحًا لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ مُهَاجِرٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ سُمَيْعٍ: كَانَ يَلِي الصَّوَائِفَ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ
حَفِظَ عَنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ ابْنُ أُثَالٍ
- وَكَانَ رَئِيسَ الذِّمَّةِ بِأَرْضِ حِمْصَ - سَقَاهُ شَرْبَةً فِيهَا سُمٌّ
فَمَاتَ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ لَهُ فِي
ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
أَبُوكَ الَّذِي قَادَ الْجُيُوشَ مَغْرِبًا إِلَى الرُّومِ لَمَّا أَعْطَتِ
الْخَرْجَ فَارِسُ وَكَمْ مِنْ فَتًى نَبَّهْتَهُ بَعْدَ هَجْعَةٍ
بِقَرْعِ اللِّجَامِ وَهُوَ أَكْتَعُ نَاعِسُ وَمَا يَسْتَوِي الصَّفَّانِ صَفٌّ
لِخَالِدٍ
وَصَفٌّ عَلَيْهِ مِنْ دِمَشْقَ الْبَرَانِسُ
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: مَا
فَعَلَ ابْنُ أَثَالٍ ؟ فَسَكَتَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى حِمْصَ فَثَارَ عَلَى ابْنِ أُثَالٍ فَقَتَلَهُ، فَحَبَسَهُ مُعَاوِيَةُ ثُمَّ
أَطْلَقَهُ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ،
فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: مَا فَعَلَ
ابْنُ أُثَالٍ ؟ فَقَالَ: قَدْ كَفَيْتُكَ إِيَّاهُ، وَلَكِنْ مَا فَعَلَ ابْنُ
جُرْمُوزٍ ؟ فَسَكَتَ عُرْوَةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فِي قَوْلٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.
هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ الْعَبْدِيُّ، كَانَ أَحَدَ عُمَّالِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَلَقِيَ - أُوَيْسًا الْقَرْنِيَّ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ النَّاسِ
وَعُلَمَائِهِمْ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا دُفِنَ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَرَشَّتْ
قَبْرَهُ وَحْدَهُ، وَنَبَتَ الْعُشْبُ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِهِ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سُنَّةُ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى الْمُسْلِمُونَ بِبِلَادِ الرُّومِ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا
مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ،
وَقِيلَ: أَخُوهُ عَنْبَسَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيُّ، كَانَ مِنْ
سَادَاتِ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ
الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَكِرَ يَوْمًا، فَعَبِثَ
بِذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَهَرَبَتْ مِنْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ فِي
ذَلِكَ فَحَرَّمَهَا، وَأَنْشَدَ ذَلِكَ:
رَأَيْتُ الْخَمْرَ مَصْلَحَةً وَفِيهَا مَقَابِحُ تَفْضَحُ الرَّجُلَ الْكَرِيمَا
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا حَيَاتِي
وَلَا أَشْفِي بِهَا أَبَدًا سَقِيمًا
وَكَانَ إِسْلَامُهُ مَعَ وَفْدِ بَنَى تَمِيمٍ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَذَا سَيِّدُ
أَهْلِ الْوَبَرِ ". وَكَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا كَرِيمًا، وَهُوَ الَّذِي
يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ يَوْمَ مَاتَ:
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ
وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ وَأَبَا
سُفْيَانَ بْنَ الْعَلَاءِ يَقُولَانِ: قِيلَ لِلْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: مِمَّنْ
تَعَلَّمْتِ الْحِلْمَ ؟ قَالَ: مِنْ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ ; لَقَدِ
اخْتَلَفْنَا إِلَيْهِ فِي الْحُكْمِ كَمَا يُخْتَلَفُ إِلَى الْفُقَهَاءِ فِي
الْفِقْهِ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَهُ يَوْمًا وَهُوَ قَاعِدٌ بِفِنَائِهِ
مُحْتَبٍ بِكِسَائِهِ، إِذْ أَتَتْهُ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ مَقْتُولٌ وَمَكْتُوفٌ،
فَقَالُوا: هَذَا ابْنُكَ قَتَلَهُ ابْنُ أَخِيكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا حَلَّ
حَبَوْتَهُ حَتَّى فَرَغَ مِنْ كَلَامِهِ، ثُمَّ الْتَفَتْ إِلَى ابْنٍ لَهُ فِي
الْمَجْلِسِ فَقَالَ: أَطْلِقْ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ، وَوَارِ أَخَاكَ، وَاحْمِلْ
إِلَى أُمِّهِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَإِنَّهَا غَرِيبَةٌ. ثُمَّ نَظَرَ لَهُ
فَقَالَ: نَقَصْتَ عَدَدَكَ، وَقَطَعْتَ رَحِمَكَ، وَعَصَيْتَ رَبَّكَ، وَأَطَعْتَ
شَيْطَانَكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَلَسَ حَوْلَهُ بَنُوهُ،
وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ ذَكَرًا، فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ،
سَوِّدُوا عَلَيْكُمْ أَكْبَرَكُمْ تَخْلُفُوا أَبَاكُمْ، وَلَا تَسُوِّدُوا
أَصْغَرَكُمْ فَيَزْدَرِي بِكُمْ أَكْفَاؤُكُمْ، وَعَلَيْكُمْ بِالْمَالِ
وَاصْطِنَاعِهِ فَإِنَّهُ مَأْبَهَةٌ لِلْكَرِيمِ، وَيُسْتَغْنَي بِهِ عَنِ
اللَّئِيمِ، وَإِيَّاكُمْ وَمَسْأَلَةَ النَّاسِ ; فَإِنَّهَا مِنْ أَخَسِّ
مَكْسَبَةِ الرَّجُلِ، وَلَا تَنُوحُوا عَلَيَّ ; فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنَحْ عَلَيْهِ، وَلَا تَدْفِنُونِي حَيْثُ
يَشْعُرُ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ ; فَإِنِّي كُنْتُ أُعَادِيهِمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ. وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
عَلَيْكَ سَلَامُ اللَّهِ قَيْسُ بْنَ
عَاصِمٍ وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
تَحِيَّةَ مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْكَ مِنَّةً إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلَأُ
الْفَمَا
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ
تَهَدَّمَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا شَتَّى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَيْنِيُّ بِالْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ
أَنْطَاكِيَةَ. وَفِيهَا غَزَا عُقَبَةُ بْنُ عَامِرٍ بِأَهْلِ مِصْرَ الْبَحْرَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ
فِيهَا غَزَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى بَلَغَ
قُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ ;
ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَبُو أَيُّوبَ
الْأَنْصَارِيُّ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُونَ
مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ " فَكَانَ هَذَا الْجَيْشُ أَوَّلَ مَنْ
غَزَاهَا، وَمَا وَصَلُوا إِلَيْهَا حَتَّى بَلَغُوا الْجَهْدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقِيلَ:
لَمْ يَمُتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، بَلْ بَعْدَهَا سَنَةَ إِحْدَى أَوْ
ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى
عَلَيْهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَاسْتَقْضَى سَعِيدٌ عَلَيْهَا أَبَا سَلَمَةَ
بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
وَفِيهَا شَتَّى مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ بِأَرْضِ الرُّومِ.
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَشَتَّى هُنَالِكَ، فَفَتَحَ
الْبَلَدَ وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا كَانَتْ صَائِفَةُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ كُرْزٍ الْبَجَلِيِّ.
وَفِيهَا وَقَعَ الطَّاعُونُ
بِالْكُوفَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا الْمُغِيرَةُ فَارًّا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ
الطَّاعُونُ رَجَعَ إِلَيْهَا، فَأَصَابَهُ الطَّاعُونُ فَمَاتَ، وَالصَّحِيحُ
أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
فَجَمَعَ مُعَاوِيَةُ لِزِيَادٍ الْكُوفَةَ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ
مِنْ جُمِعَ لَهُ بَيْنَهُمَا، فَكَانَ زِيَادٌ يُقِيمُ فِي هَذِهِ سِتَّةَ
أَشْهُرٍ، وَفِي هَذِهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْبَصْرَةِ
سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، سِبْطُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْنُ ابْنَتِهِ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ
وَرَيْحَانَتُهُ، وَأَشْبَهُ خَلْقِ اللَّهِ بِهِ فِي وَجْهِهِ، وُلِدَ لِلنِّصْفِ
مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَحَنَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيقِهِ، وَسَمَّاهُ حَسَنًا، وَهُوَ
أَكْبَرُ وَلَدِ أَبَوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا حَتَّى كَانَ يُقَبِّلُ زَبِيبَتَهُ
وَهُوَ صَغِيرٌ، وَرُبَّمَا مَصَّ لِسَانَهُ وَاعْتَنَقَهُ وَدَاعَبَهُ،
وَرُبَّمَا جَاءَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ
فِي الصَّلَاةِ فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُطِيلُ
السُّجُودَ مِنْ أَجْلِهِ، وَرُبَّمَا صَعِدَ مَعَهُ إِلَى الْمِنْبَرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ،بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ إِذْ رَأَى الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ
مُقْبِلِينِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمَا فَاحْتَضَنَهُمَا، وَأَخَذَهُمَا مَعَهُ إِلَى
الْمِنْبَرِ، وَقَالَ: " صَدَقَ اللَّهُ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، إِنِّي رَأَيْتُ هَذَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ،
فَلَمْ أَمْلِكْ أَنْ نَزَلْتُ إِلَيْهِمَا ". ثُمَّ قَالَ: " إِنَّكُمْ
لِمَنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَإِنَّكُمْ لَتُبَخِّلُونَ وَتُجَبِّنُونَ ".
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعِيدِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ،
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ صَلَّى بِهِمُ الْعَصْرَ -
بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَيَالٍ -
ثُمَّ خَرَجَ هُوَ وَعَلِيٌّ يَمْشِيَانِ، فَرَأَى الْحَسَنَ يَلْعَبُ مَعَ
الْغِلْمَانِ فَاحْتَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: بِأَبِي بِأَبِي
شِبْهُ النَّبِيِّ، لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيٍّ. قَالَ: وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ.
وَرَوَى سُفْيَانُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا: ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ،
سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ
يَقُولُ:رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. قَالَ وَكِيعٌ: لَمْ يَسْمَعْ إِسْمَاعِيلُ مِنْ
أَبِي جُحَيْفَةَ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا زَمْعَةُ، عَنِ
ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ تَنْقُزُ الْحَسَنَ بْنَ
عَلِيٍّ، وَتَقُولُ:
يَا بِأَبِي شِبْهُ النَّبِيِّ لَيْسَ شَبِيهًا بِعَلِيِّ
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُهُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَنَسٍ قَالَ:كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَشْبَهَهُمْ وَجْهًا بِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَجَّاجٌ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنْ هَانِئٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:الْحَسَنُ أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى الرَّأْسِ، وَالْحُسَيْنُ
أَشْبَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَسْفَلَ مِنْ
ذَلِكَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ،
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: ثَنَا قَيْسٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ أَشْبَهَ
النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهِهِ
إِلَى سُرَّتِهِ، وَكَانَ الْحُسَيْنُ أَشْبَهَ النَّاسِ بِهِ مَا أَسْفَلَ مِنْ
ذَلِكَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ كَانَ يُشْبِهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا تَمِيمَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ،
يُحَدِّثُهُ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُنِي فَيُقْعِدُنِي عَلَى فَخِذِهِ،
وَيَقْعُدُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَضُمُّنَا ثُمَّ يَقُولُ:
" اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا ". وَكَذَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، عَنِ النَّهْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ عَارِمٌ بِهِ،
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي تَمِيمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ،
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَمُسَدَّدٍ، عَنْ
مُعْتَمِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ، فَلَمْ يَذْكُرْ
أَبَا تَمِيمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي رِوَايَةٍ " اللَّهُمَّ إِنِّي
أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ".
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ
ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
" اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ
شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ
عَدِيٍّ، عَنِ الْبَرَاءِ، فَزَادَ: " وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ ".
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأُحِبَّ مَنْ
يُحِبُّهُ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَحْمَدَ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ
شُعْبَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو النَّضْرِ، ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
عَنْ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ
الْمَدِينَةِ فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ مَعَهُ، فَجَاءَ إِلَى فِنَاءِ فَاطِمَةَ،
فَنَادَى الْحَسَنَ فَقَالَ: " أَيْ لُكَعُ، أَيْ لُكَعُ، أَيْ لُكَعُ
". فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ
مَعَهُ، فَجَاءَ إِلَى فِنَاءِ
عَائِشَةَ فَقَعَدَ. قَالَ: فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ. قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ ظَنَنَّا أَنَّ أُمَّهُ حَبَسَتْهُ لِتَجْعَلَ فِي عُنُقِهِ
السِّخَابَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَالْتَزَمَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ
يُحِبُّهُ ". ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا حَمَّادٌ الْخَيَّاطُ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ
نُعَيمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُجْمِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ
مُتَّكِئًا عَلَى يَدِي، فَطَافَ فِيهَا، ثُمَّ رَجَعَ فَاحْتَبَى فِي الْمَسْجِدِ،
وَقَالَ: " أَيْنَ لُكَاعُ ؟ ادْعُوَا لِي لُكَاعُ ". فَجَاءَ الْحَسَنُ
فَاشْتَدَّ حَتَّى وَثَبَ فِي حَبْوَتِهِ، فَأَدْخَلَ فَمَهُ فِي فَمِهِ، ثُمَّ
قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ
" ثَلَاثًا. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ الْحَسَنَ إِلَّا فَاضَتْ
عَيْنِي. أَوْ قَالَ: دَمَعِتْ عَيْنِي. أَوْ: بَكَيْتُ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ نُعَيمٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ أَوْ
نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ. وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ
عَلِيٍّ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ. وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
الْكَنَّاتِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ
زِيَادَةٌ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ،
عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ فَقَدْ
أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي " غَرِيبٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا الْحَجَّاجُ - يَعْنِي ابْنَ
دِينَارٍ - عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، هَذَا عَلَى عَاتِقِهِ وَهَذَا
عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَلْثَمُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى
إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ لَتُحِبُّهُمَا.
فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا
فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلَّى،
فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، فَجَعَلَا يَتَوَثَّبَانِ عَلَى ظَهْرِهِ إِذَا
سَجَدَ، فَأَرَادَ النَّاسُ زَجْرَهُمَا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ:
" هَذَانِ ابْنَايَ، مَنْ أَحَبَّهُمَا
فَقَدْ أَحَبَّنِي ". وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
صَالِحٍ، عَنْ عَاصِمٍ بِهِ.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ وَأُمِّهِمَا وَأَبِيهِمَا، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ
أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَسَدِيُّ، ثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
سَابِطٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى سَيِّدِ
شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ".
وَقَدْ رَوَاهُ وَكِيعٌ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ،
وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ وَبُرَيْدَةَ وَحُذَيْفَةَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا
".
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ خُثَيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ
قَالَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، فَجَعَلَ
يَدَهُ فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى إِبِطِهِ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ
فَجَعَلَ يَدَهُ الْأُخْرَى فِي رَقَبَتِهِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى إِبِطِهِ، ثُمَّ
قَبَّلَ هَذَا، ثُمَّ قَبَّلَ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي
أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ،
إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ ".
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي خُثَيمٍ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَسَنًا فَقَبَّلَهُ، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: " إِنَّ الْوَلَدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ
".
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ ثَنَا عَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ،
ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ( ح ) وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَبُو
خَيْثَمَةَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ،
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَعْثُرَانِ وَيَقُومَانِ،
فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمَا
فَأَخَذَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا فِي حِجْرِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ:
" صَدَقَ اللَّهُ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ.
رَأَيْتُ هَذَيْنِ الصَّبَّيْنِ فَلَمْ أَصْبِرْ عَنْهُمَا ". ثُمَّ أَخَذَ
فِي خُطْبَتِهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ،
مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ
مُحَمَّدٌ الضَّمْرِيُّ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَرْقَمَ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ لِلْحَسَنِ وَحْدَهُ.
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشِيِّ،
فَسَجَدَ سَجْدَةً أَطَالَ فِيهَا السُّجُودَ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ النَّاسُ
لَهُ فِي ذَلِكَ، قَالَ: " إِنَّ ابْنِي - يَعْنِي الْحَسَنَ - ارْتَحَلَنِي
فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ ".
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ حَامِلٌ الْحَسَنَ
وَالْحُسَيْنَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَهُوَ يَمْشِي بِهِمَا عَلَى أَرْبَعٍ، فَقُلْتُ:
نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا. فَقَالَ: " وَنِعْمَ الْعَدْلَانِ هُمَا
". إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَبُو هِشَامٍ، ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، ثَنَا زَمْعَةُ
بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
حَامِلٌ الْحَسَنَ عَلَى عَاتِقِهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا غُلَامُ، نِعْمَ
الْمَرْكَبُ رَكِبْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُوَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا تَلِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا أَبُو
الْجَحَّافِ، عَنْ أَبِي
حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ وَحَسَنٍ
وَحُسَيْنٍ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: " أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ وَسِلْمٌ
لِمَنْ سَالَمْتُمْ " وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
نُعَيْمٍ، وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ وَكِيعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي عَوْفٍ - قَالَ وَكِيعٌ: وَكَانَ
مَرْضِيًّا - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: "
مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي
". وَقَدْ رَوَاهُ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلَى أُمِّ
سَلَمَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ بَقِيَّةُ، عَنْ بِحِيرِ بْنِ سَعِدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنِ
الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْحَسَنُ مِنِّي وَالْحُسَيْنُ مِنْ عَلِيٍّ
". فِيهِ نَكَارَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ
عُمَيْرِ بْنِ
إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَلَقِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ:أَرِنِي أُقَبِّلْ
مِنْكَ حَيْثُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقَبِّلُ. فَقَالَ بِقَمِيصِهِ. قَالَ: فَقَبَّلَ سُرَّتَهُ. تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ. ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ لِسَانَهُ - أَوْ
قَالَ: شَفَتَهُ. يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ
لِسَانٌ أَوْ شَفَتَانِ مَصَّهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَرَوَى
أَحْمَدُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
". وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ،
وَتَقَدَّمَ قَرِيبًا عِنْدَ نُزُولِ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ،
وَوَقَعَ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا،
وَكَذَلِكَ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ يُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُحِبُّهُ
وَيَتَفَدَّاهُ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ; فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ
مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ
التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنْ
عُمَرَ لَمَّا عَمِلَ الدِّيوَانَ فَرَضَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ مَعَ أَهْلِ
بَدْرٍ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ. وَكَذَلِكَ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكْرِمُ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيُحِبُّهُمَا. وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
يَوْمَ الدَّارِ - وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ مَحْصُورٌ - عِنْدَهُ وَمَعَهُ
السَّيْفُ مُتَقَلِّدًا بِهِ يُجَاحِفُ عَنْ عُثْمَانَ، فَخَشِيَ عُثْمَانُ
عَلَيْهِ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهِ لَيَرْجِعَنَّ إِلَى مَنْزِلِهِمْ تَطْيِيبًا
لِقَلْبِ عَلِيٍّ وَخَوْفًا عَلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَكَانَ عَلِيٌّ يُكْرِمُ الْحَسَنَ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيُعَظِّمُهُ
وَيُبَجِّلُهُ، وَقَدْ قَالَ لَهُ يَوْمًا: يَا بُنَيَّ، أَلَا تَخْطُبُ حَتَّى
أَسْمَعَكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي أَنْ أَخْطُبَ وَأَنَا أَرَاكَ. فَذَهَبَ
عَلِيٌّ فَجَلَسَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْحَسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ فِي
النَّاسِ خَطِيبًا وَعَلِيٌّ يَسْمَعُ، فَأَدَّى خُطْبَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً،
فَلَمَّا انْصَرَفَ جَعَلَ عَلِيٌّ يَقُولُ: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 34 ]. وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَأْخُذُ الرِّكَابَ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إِذَا رَكِبَا، وَيَرَى هَذَا مِنْ
نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَكَانَا إِذَا طَافَا بِالْبَيْتِ يَكَادُ النَّاسُ
يُحَطِّمُونَهُمَا مِمَّا يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِمَا لِلسَّلَامِ عَلَيْهِمَا،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا قَامَتِ النِّسَاءُ عَنْ مِثْلِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الْحَسَنُ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ
اللَّهَ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، وَيَجْلِسُ إِلَيْهِ مِنْ يَجْلِسُ مِنْ
سَادَاتِ النَّاسِ يَتَحَدَّثُونَ
عِنْدَهُ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَدْخُلُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُسَلِّمُ
عَلَيْهِنَّ. وَرُبَّمَا أَتْحَفْنَهُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ.
وَلَمَّا نَزَلَ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْخِلَافَةِ مِنْ وَرَعِهِ صِيَانَةً
لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَانَ لَهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ
جَائِزَةٌ، وَكَانَ يَفِدُ إِلَيْهِ، فَرُبَّمَا أَجَازَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَرَاتِبُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةُ أَلْفٍ، فَانْقَطَعَ
سَنَةً عَنِ الذَّهَابِ، وَجَاءَ وَقْتُ الْجَائِزَةِ، فَاحْتَاجَ الْحَسَنُ
إِلَيْهَا - وَكَانَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ - فَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ لِيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَأَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ:
" يَا بُنَيَّ، أَتَكْتُبُ إِلَى مَخْلُوقٍ بِحَاجَتِكَ ؟ ! "
وَعَلَّمَهُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ، فَتَرَكَ الْحَسَنُ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنَ
الْكِتَابَةِ، فَذَكَرَهُ مُعَاوِيَةُ وَافْتَقَدَهُ، وَقَالَ: ابْعَثُوا إِلَيْهِ
بِمِائَتَيْ أَلْفٍ، فَلَعَلَّ لَهُ ضَرُورَةً فِي تَرْكِهِ الْقُدُومَ عَلَيْنَا.
فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ.
قَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
مَدَنِيٌّ ثِقَةٌ. حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ".
قَالُوا: وَقَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَخَرَجَ مِنْ مَالِهِ
مَرَّتَيْنِ، وَحَجَّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً مَاشِيًا وَإِنَّ الْجَنَائِبَ
لَتُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ. وَرَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ
بْنِ جُدْعَانَ. وَقَدْ عَلَّقَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "
أَنَّهُ حَجَّ مَاشِيًا وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَرَوَى دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: حَجَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مَاشِيًا، وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ إِلَى جَنْبِهِ
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي، عَزَّ
وَجَلَّ، أَنْ أَلْقَاهُ وَلَمْ أَمْشِ إِلَى بَيْتِهِ. فَمَشَى عِشْرِينَ مَرَّةً
مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى رِجْلَيْهِ.
قَالُوا: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ سُورَةَ " إِبْرَاهِيمَ
". وَكَانَ يَقْرَأُ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ " الْكَهْفِ " قَبْلَ
أَنْ يَنَامَ، يَقْرَؤُهَا مِنْ لَوْحٍ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ مِنْ بُيُوتِ
نِسَائِهِ، فَيَقْرَؤُهُ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ فِي الْفِرَاشِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَ مِنَ الْكَرَمِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
سِيرِينَ: رُبَّمَا أَجَازَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ
بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ إِلَى
جَانِبِهِ رَجُلًا يَدْعُو اللَّهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ،
فَقَامَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّ الْحَسَنَ رَأَى
غُلَامًا أَسْوَدَ يَأْكُلُ مِنْ رَغِيفٍ لُقْمَةً، وَيُطْعِمُ كَلْبًا هُنَاكَ
لُقْمَةً، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي أَسْتَحِي
مِنْهُ أَنْ آكُلَ وَلَا أُطْعِمَهُ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: لَا تَبْرَحْ مِنْ
مَكَانِكَ حَتَّى آتِيَكَ. فَذَهَبَ إِلَى سَيِّدِهِ، فَاشْتَرَاهُ وَاشْتَرَى
الْحَائِطَ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَأَعْتَقَهُ وَمَلَّكَهُ الْحَائِطَ، فَقَالَ
الْغُلَامُ: يَا مَوْلَايَ، قَدْ وَهَبْتُ الْحَائِطَ لِلَّذِي وَهَبَتْنِي لَهُ.
قَالُوا: وَكَانَ كَثِيرَ التَّزَوُّجِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُهُ أَرْبَعُ
حَرَائِرَ، وَكَانَ مِطْلَاقًا مِصْدَاقًا. يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْصَنَ بِسَبْعِينَ
امْرَأَةً. وَذَكَرُوا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَيْنِ فِي يَوْمٍ ; وَاحِدَةً مِنْ
بَنِي أَسَدٍ وَأُخْرَى فَزَارِيَّةً، وَبَعَثَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَبِزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ، وَقَالَ لِلْغُلَامِ: اسْمَعْ مَا
تَقُولُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. فَأَمَّا الْفَزَارِيَّةُ فَقَالَتْ: جَزَاهُ
اللَّهُ خَيْرًا. وَدَعَتْ لَهُ، وَأَمَّا الْأَسَدِيَّةُ فَقَالَتْ
:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
فَرَجَعَ الْغُلَامُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَارْتَجَعَ الْأَسْدِيَةَ وَتَرَكَ
الْفَزَارِيَّةَ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ: لَا
تُزَوِّجُوهُ فَإِنَّهُ مِطْلَاقٌ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
لَوْ خَطَبَ إِلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ لَزَوَّجَنَاهُ مِنَّا مَنْ شَاءَ ;
ابْتِغَاءً فِي صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ نَامَ مَعَ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ مَنْظُورٍ
الْفَزَارِيِّ - وَقِيلَ: هِنْدَ بِنْتِ سُهَيْلٍ - فَوْقَ إِجَّارٍ، فَعَمَدَتِ
الْمَرْأَةُ فَرَبَطَتْ رِجْلَهُ بِخِمَارِهَا إِلَى خَلْخَالِهَا، فَلَمَّا
اسْتَيْقَظَ قَالَ لَهَا: مَا هَذَا ؟
فَقَالَتْ: خِفْتُ أَنْ تَقُومَ مِنْ وَسَنِ النَّومِ فَتَسْقُطَ، فَأَكُونُ
أَشْأَمَ سَخْلَةٍ عَلَى الْعَرَبِ. فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَاسْتَمَرَّ
بِهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
فَاسْتَعَانَ بِهِ فِي حَاجَةٍ، فَوَجَدَهُ مُعْتَكِفًا، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ،
فَذَهَبَ إِلَى الْحَسَنِ فَاسْتَعَانَ بِهِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ وَقَالَ:
لَقَضَاءُ حَاجَةِ أَخٍ لِي فِي اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ اعْتِكَافِ شَهْرٍ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ لَا يَدْعُو إِلَى طَعَامِهِ أَحَدًا ; يَقُولُ: هُوَ أَهْوَنُ مِنْ
أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أَحَدٌ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: قَالَ عَلِيٌّ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا تُزَوِّجُوا
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ مِطْلَاقٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ:
وَاللَّهِ لَنُزَوِّجَنَّهُ، فَمَا رَضِيَ أَمْسَكَ، وَمَا كَرِهَ طَلَّقَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَرَائِطِيُّ فِي كِتَابِ " مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ
": ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْدِ، ثَنَا الْقَوَارِيرِيُّ، ثَنَا
عَبْدُ الْأَعْلَى، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تَزَوَّجَ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ امْرَأَةً، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ جَارِيَةٍ، مَعَ
كُلِّ جَارِيَةٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: مَتَّعَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ امْرَأَتَيْنِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا
وَزُقَاقٍ مِنْ عَسَلٍ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا وَأُرَاهَا الْحَنَفِيَّةَ:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقِ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مِطْلَاقًا
لِلنِّسَاءِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ امْرَأَةً إِلَا وَهِيَ تُحِبُّهُ.
وَقَالَ جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ: لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بَكَى عَلَيْهِ
مَرْوَانُ فِي جِنَازَتِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ كُنْتُ
تُجَرِّعُهُ مَا تُجَرِّعُهُ ؟ ! فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَى
أَحْلَمَ مِنْ هَذَا. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْجَبَلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدِيُّ،
عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: مَا تَكَلَّمَ عِنْدِي
أَحَدٌ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ إِذَا تَكَلَّمَ أَلَّا يَسْكُتَ مِنَ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ، وَمَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةَ فُحْشٍ قَطُّ إِلَّا مَرَّةً ;
فَإِنَّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
خُصُومَةٌ، فَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا إِلَّا مَا رَغِمَ أَنْفُهُ.
فَهَذِهِ أَشَدُّ كَلِمَةِ فُحِشٍ سَمِعْتُهَا مِنْهُ قَطُّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، أَنَا مُسَافِرٌ
الْجَصَّاصُ، عَنْ رُزَيْقِ بْنِ سَوَّارٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَبَيْنَ
مَرْوَانَ خُصُومَةٌ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يُغْلِظُ لِلْحَسَنِ، وَحَسَنٌ سَاكِتٌ،
فَامْتَخَطَ مَرْوَانُ بِيَمِينِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: وَيْحَكَ ! أَمَا
عَلِمْتَ أَنَّ الْيُمْنَى لِلْوَجْهِ
وَالشِّمَالَ لِلْفَرَجِ ؟ ! أُفٍّ لَكَ. فَسَكَتَ مَرْوَانُ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: قِيلَ لِلْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى،
وَالسَّقَمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ. فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا
ذَرٍّ، أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: مَنِ اتَّكَلَ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ اللَّهِ
لَهُ لَمْ يَتَمَنَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْحَالَةِ الَّتِي اخْتَارَ اللَّهُ
لَهُ، وَهَذَا حَدُّ الْوُقُوفِ عَلَى الرِّضَا بِمَا تَصَرَّفَ بِهِ الْقَضَاءُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ كَيْسَانَ الْأَصَمُّ: قَالَ الْحَسَنُ ذَاتَ
يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَخٍ لِي كَانَ مِنْ أَعْظَمِ
النَّاسِ فِي عَيْنِي، وَكَانَ عَظِيمَ مَا عَظَّمَهُ فِي عَيْنِي صِغَرُ
الدُّنْيَا فِي عَيْنِهِ، كَانَ خَارِجًا مِنْ سُلْطَانِ بَطْنِهِ، فَلَا
يَشْتَهِي مَا لَا يَجِدُ، وَلَا يُكْثِرُ إِذَا وَجَدَ، وَكَانَ خَارِجًا مِنْ
سُلْطَانِ فَرْجِهِ، فَلَا يَسْتَخِفُّ لَهُ عَقْلُهُ وَلَا رَأْيُهُ، وَكَانَ
خَارِجًا مِنْ سُلْطَانِ الْجَهَلَةِ، فَلَا يَمُدُّ يَدًا إِلَّا عَلَى ثِقَةِ
الْمَنْفَعَةِ، كَانَ لَا يَسْخَطُ وَلَا يَتَبَرَّمُ، كَانَ إِذَا جَامَعَ
الْعُلَمَاءَ يَكُونُ عَلَى أَنْ يَسْمَعَ أَحْرَصَ مِنْهُ عَلَى أَنْ
يَتَكَلَّمَ، وَكَانَ إِذَا غُلِبَ عَلَى الْكَلَامِ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى
الصَّمْتِ، كَانَ أَكْثَرَ دَهْرِهِ صَامِتًا، فَإِذَا قَالَ بَذَّ الْقَائِلِينَ،
وَكَانَ لَا يُشَارِكُ فِي دَعْوَى، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِرَاءٍ، وَلَا يُدْلِي
بِحُجَّةٍ حَتَّى يَرَى قَاضِيًا، يَقُولُ مَا يَفْعَلُ، وَيَفْعَلُ مَا لَا
يَقُولُ تَفَضُّلًا وَتَكَرُّمًا، كَانَ لَا يَغْفُلُ عَنْ إِخْوَانِهِ، وَلَا
يَسْتَخِصُّ بِشَيْءٍ دُونَهُمْ، كَانَ لَا يَلُومُ أَحَدًا فِيمَا يَقَعُ
الْعُذْرُ بِمِثْلِهِ، كَانَ إِذَا ابْتَدَأَهُ أَمْرَانِ لَا يَرَى
أَيُّهُمَا أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ،
نَظَرَ فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى هَوَاهُ فَخَالَفَهُ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
وَالْخَطِيبُ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ: ثَنَا بَدْرُ
بْنُ الْهَيْثَمِ الْحَضْرَمِيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ الطَّرِيقِيُّ،
ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
أَبُو رَجَاءٍ مِنْ أَهْلِ تُسْتَرَ ثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ
الْوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ
الْأَعْوَرِ، أَنْ عَلِيًّا سَأَلَ ابْنَهُ - يَعْنِي الْحَسَنَ - عَنْ أَشْيَاءَ
مِنَ الْمُرُوءَةِ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا السَّدَادُ ؟ قَالَ: يَا أَبَةِ،
السَّدَادُ دَفْعُ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ. قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ ؟ قَالَ:
اصْطِنَاعُ الْعَشِيرَةِ وَحَمْلُ الْجَرِيرَةِ. قَالَ: فَمَا الْمُرُوءَةُ ؟
قَالَ: الْعَفَافُ وَإِصْلَاحُ الْمَرْءِ مَالَهُ. قَالَ: فَمَا الدِّقَّةُ ؟
قَالَ: النَّظَرُ فِي الْيَسِيرِ وَمَنْعُ الْحَقِيرِ. قَالَ: فَمَا اللُّؤْمُ ؟
قَالَ: إِحْرَازُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَبَذْلُهُ عِرْسَهُ. قَالَ: فَمَا
السَّمَاحَةُ ؟ قَالَ: الْبَذْلُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ. قَالَ: فَمَا
الشُّحُّ ؟ قَالَ: أَنْ تَرَى مَا فِي يَدَيْكَ شَرَفًا وَمَا أَنْفَقْتَهُ
تَلَفًا. قَالَ: فَمَا الْإِخَاءُ ؟ قَالَ: الْوَفَاءُ فِي الشِّدَّةِ
وَالرَّخَاءِ. قَالَ: فَمَا الْجُبْنُ ؟ قَالَ: الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّدِيقِ
وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوِّ. قَالَ: فَمَا الْغَنِيمَةُ ؟ قَالَ: الرَّغْبَةُ
فِي التَّقْوَى، وَالزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا هِيَ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ.
قَالَ: فَمَا الْحِلْمُ ؟ قَالَ: كَظْمُ الْغَيْظِ وَمَلْكُ النَّفْسِ. قَالَ:
فَمَا الْغِنَى ؟ قَالَ: رِضَا
النَّفْسِ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهَا وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ. قَالَ: فَمَا الْفَقْرُ ؟ قَالَ: شَرَهُ النَّفْسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. قَالَ: فَمَا الْمَنَعَةُ ؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَأْسِ وَمُقَارَعَةُ أَشَدِّ النَّاسِ. قَالَ: فَمَا الذُّلُّ ؟ قَالَ: الْفَزَعُ عِنْدَ الْمَصْدُوقَةِ. قَالَ: فَمَا الْجُرْأَةُ ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الْأَقْرَانِ. قَالَ: فَمَا الْكُلْفَةُ ؟ قَالَ: كَلَامُكَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ. قَالَ: فَمَا الْمَجْدُ ؟ قَالَ: أَنْ تُعْطِي فِي الْغُرْمِ وَأَنْ تَعْفُوَ عَنِ الْجُرْمِ. قَالَ: فَمَا الْعَقْلُ ؟ قَالَ: حِفْظُ الْقَلْبِ كُلَّ مَا اسْتَرْعَيْتَهُ. قَالَ: فَمَا الْخُرْقُ ؟ قَالَ: مُعَادَاتُكَ إِمَامَكَ وَرَفْعُكَ عَلَيْهِ كَلَامَكَ. قَالَ: فَمَا الثَّنَاءُ ؟ قَالَ: إِتْيَانُ الْجَمِيلِ وَتَرْكُ الْقَبِيحِ. قَالَ: فَمَا الْحَزْمُ ؟ قَالَ: طُولُ الْأَنَاةِ، وَالرِّفْقُ بِالْوُلَاةِ، وَالِاحْتِرَاسُ مِنَ النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ، هُوَ الْحَزْمُ. قَالَ: فَمَا الشَّرَفُ ؟ قَالَ: مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ، وَحِفْظُ الْجِيرَانِ. قَالَ: فَمَا السَّفَهُ ؟ قَالَ: اتِّبَاعُ الدُّنَاةِ، وَمُصَاحَبَةُ الْغُوَاةِ. قَالَ: فَمَا الْغَفْلَةُ ؟ قَالَ: تَرْكُكَ الْمَسْجِدَ وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ. قَالَ: فَمَا الْحِرْمَانُ ؟ قَالَ: تَرْكُكَ حَظَّكَ وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْكَ. قَالَ: فَمَا السَّيِّدُ ؟ قَالَ: الْأَحْمَقُ فِي الْمَالِ، الْمُتَهَاوِنُ بِعِرْضِهِ ; يُشْتَمُ فَلَا يُجِيبُ، الْمُتَحَزِّنُ بِأَمْرِ الْعَشِيرَةِ، هُوَ السَّيِّدُ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا بُنَيَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ، وَلَا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلَا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَا مُظَاهَرَةَ أَوْثَقُ مِنَ الْمُشَاوَرَةِ، وَلَا عَقْلَ كَالتَّدْبِيرِ، وَلَا حَسَبَ كَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلَا وَرَعَ كَالْكَفِّ، وَلَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ،
وَلَا إِيمَانَ كَالْحَيَاءِ، وَرَأْسُ
الْإِيمَانِ الصَّبْرُ، وَآفَةُ الْحَدِيثِ الْكَذِبُ، وَآفَةُ الْعِلْمِ
النِّسْيَانُ، وَآفَةُ الْحِلْمِ السَّفَهُ، وَآفَةُ الْعِبَادَةِ الْفَتْرَةُ،
وَآفَةُ الظَّرْفِ الصَّلَفُ، وَآفَةُ الشُّجَاعَةِ الْبَغْيُ، وَآفَةُ السَّمَاحَةِ
الْمَنُّ، وَآفَةُ الْجَمَالِ الْخُيَلَاءُ، وَآفَةُ الْحُبِّ الْفَخْرُ ".
ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَا بُنَيَّ، لَا تَسْتَخِفَّنَّ بِرَجُلٍ تَرَاهُ أَبَدًا،
فَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْكَ فَعُدَّ أَنَّهُ أَبُوكَ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَكَ
فَهُوَ أَخُوكَ، وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْكَ فَاحْسَبْ أَنَّهُ ابْنُكَ. فَهَذَا
مَا سَاءَلَ عَلِيٌّ ابْنَهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُرُوءَةِ. قَالَ الْقَاضِي
أَبُو الْفَرَجِ: فَفِي هَذَا الْخَبَرِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَجَزِيلِ الْفَائِدَةِ
مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ رَاعَاهُ وَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ، وَعَمِلَ بِهِ،
وَأَدَّبَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ عَلَيْهِ، وَهَذَّبَهَا بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ،
وَتَتَوَفَّرُ فَائِدَتُهُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَهُ، وَفِيمَا رَوَاهُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ وَأَضْعَافَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا لَا غِنَى لِكُلِّ لَبِيبٍ عَلِيمٍ، وَمِدْرَهٍ حَكِيمٍ عَنْ حِفْظِهِ
وَتَأَمُّلِهِ، وَالْمَسْعُودُ مَنْ هُدِيَ لِتَقَبُّلِهِ، وَالْمَجْدُودُ مِنْ
وُفِّقَ لِامْتِثَالِهِ وَتَقَبُّلِهِ.
قُلْتُ: وَلَكِنَّ إِسْنَادَ هَذَا الْأَثَرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ
الْمَرْفُوعِ ضَعِيفٌ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي عِبَارَتِهَا مَا يَدُلُّ
مَا فِي بَعْضِهَا مِنَ النَّكَارَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْعُتْبِيُّ وَالْمَدَائِنِيُّ
وَغَيْرُهُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَأَلَ الْحَسَنَ عَنْ أَشْيَاءَ تُشْبِهُ هَذَا،
فَأَجَابَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، لَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ أَطْوَلُ
بِكَثِيرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ الطَّبَرَانِيُّ: كَانَ عَلَى خَاتَمِ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ مَكْتُوبٌ:
قَدِّمْ لِنَفْسِكَ مَا اسْتَطَعْتَ
مِنَ التُّقَى إِنَّ الْمَنِيَّةَ نَازِلٌ بِكَ يَا فَتَى
أَصْبَحْتَ ذَا فَرَحٍ كَأَنَّكَ لَا تَرَى أَحْبَابَ قَلْبِكَ فِي الْمَقَابِرِ
وَالْبِلَى
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُطَّلِبُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو مُحَمَّدٍ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ لِبَنِيهِ
وَبَنِي أَخِيهِ: تَعَلَّمُوا فَإِنَّكُمْ صِغَارُ قَوْمٍ الْيَوْمَ، وَتَكُونُونَ
كِبَارَهُمْ غَدًا، فَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْكُمْ فَلْيَكْتُبْ. رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى وَأَحْمَدُ بْنُ
يُونُسَ قَالَا: ثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ هَذِهِ
الشِّيعَةَ تَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا مَبْعُوثٌ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ:
كَذَبُوا وَاللَّهِ، مَا هَؤُلَاءِ بِالشِّيعَةِ، لَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ
مَبْعُوثٌ مَا زَوَّجْنَا نِسَاءَهُ وَلَا اقْتَسَمْنَا مَالَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيٍّ سُوَيْدٌ
الطَّحَّانُ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا أَبُو رَيْحَانَةَ عَنْ
سَفِينَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْخِلَافَةُ
مِنْ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ". فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ حَاضِرًا فِي
الْمَجْلِسِ: قَدْ دَخَلَتْ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِينَ سِتَّةُ شُهُورٍ فِي
خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: مِنْ هَاهُنَا أُتِيتَ، تِلْكَ الشُّهُورَ
كَانَتِ الْبَيْعَةُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، بَايَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا أَوِ
اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ أَلْفًا.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: بَايَعَ الْحَسَنَ
تِسْعُونَ أَلْفًا، فَزَهِدَ
فِي الْخِلَافَةِ وَصَالَحَ
مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُسْفَكْ فِي أَيَّامِهِ مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا أَبِي، ثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ
قَالَ: قَالَ أَبِي: فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ بَايَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ الْحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ وَأَطَاعُوهُ وَأَحَبُّوهُ أَشَدَّ مِنْ حُبِّهِمْ لِأَبِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ سَارَ الْحَسَنُ فِي أَهْلِ
الْعِرَاقِ، وَسَارَ مُعَاوِيَةُ فِي أَهْلِ الشَّامِ فَالْتَقَوْا، فَكَرِهَ
الْحَسَنُ الْقِتَالَ، وَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ جَعَلَ الْعَهْدَ
لِلْحَسَنِ مِنْ بَعْدِهِ. قَالَ فَكَانَ أَصْحَابُ الْحَسَنِ يَقُولُونَ: يَا
عَارَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَيَقُولُ لَهُمْ: الْعَارُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ
هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ بَايَعَ النَّاسُ الْحَسَنَ
بْنَ عَلِيٍّ فَوَلِيَهَا سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ
غَيْرُ عَبَّاسٍ: بَايَعَ الْحَسَنَ أَهْلُ الْكُوفَةِ، وَبَايَعَ أَهْلُ الشَّامِ
مُعَاوِيَةَ بِإِيلِيَاءَ بَعْدَ قَتْلِ عَلِيٍّ، وَبُويِعَ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ آخِرِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ
لَقِيَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ بِمَسْكِنَ - مِنْ سَوَادِ الْكُوفَةِ - فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، فَاصْطَلَحَا وَبَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ صُلْحُهُمَا وَدُخُولُ مُعَاوِيَةَ الْكُوفَةَ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى
تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ اصْطَلَحَ
مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ الَّذِي
بِالْكُوفَةِ، فَوَفَّى لَهُ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ، فَإِذَا فِيهِ خَمْسَةُ آلَافِ
أَلْفٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةُ آلَافِ أَلْفٍ. وَعَلَى أَنْ يَكُونَ خَرَاجُ
الْبَصْرَةِ - وَقِيلَ: دَارَابْجِرْدَ - لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ. فَامْتَنَعَ
أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَنْ أَدَاءِ الْخَرَاجِ إِلَيْهِ، فَعَوَّضَهُ
مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ عَامٍ، فَلَمْ
يَزَلْ يَتَنَاوَلُهَا مَعَ مَا لَهُ فِي كُلِّ عَامٍ فِي وِفَادَتِهِ ; مِنَ
الْجَوَائِزِ وَالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا
الْعَامِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ وَبَايَعَهُ
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ لِمُعَاوِيَةَ: مُرِ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَنْ يَخْطُبَ ; فَإِنَّهُ حَدِيثُ السِّنِّ عَيِيٌ،
فَلَعَلَّهُ يَتَلَعْثَمُ فَيَتَّضِعَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ. فَأَمَرَهُ، فَقَامَ
فَاخْتَطَبَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللَّهِ لَوِ
ابْتَغَيْتُمْ بَيْنَ جَابَلْقَ وَجَابَرْسَ رَجُلًا جَدُّهُ نَبِيٌّ غَيْرِي
وَغَيْرَ أَخِي لَمْ تَجِدُوهُ، وَإِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا بَيْعَتَنَا
لِمُعَاوِيَةَ، وَرَأَيْنَا أَنَّ حَقْنَ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ إِهْرَاقِهَا،
وَاللَّهِ مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ.
وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا أَرَدْتَ مِنْ
هَذِهِ ؟ قَالَ: أَرَدْتُ مِنْهَا مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهَا. فَصَعِدَ
مُعَاوِيَةُ وَخَطَبَ بَعْدَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَقَدَّمْنَا أَنْ
مُعَاوِيَةَ عَتَبَ عَلَى أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، ثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
خُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيرٍ الْحَضْرَمِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ
تُرِيدُ الْخِلَافَةَ. فَقَالَ: كَانَتْ جَمَاجِمُ الْعَرَبِ بِيَدِي،
يُسَالِمُونَ مَنْ سَالَمْتُ وَيُحَارِبُونَ مَنْ حَارَبْتُ، فَتَرَكْتُهَا
ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، ثُمَّ أُثِيرُهَا بِأَتْيَاسِ أَهْلِ الْحِجَازِ ؟ !
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: دَخْلَ رَجُلٌ عَلَى الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ الْمَدِينَةَ وَفِي يَدِهِ صَحِيفَةٌ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ ؟
فَقَالَ: مِنْ مُعَاوِيَةَ يَعِدُ فِيهَا وَيَتَوَعَّدُ. قَالَ: قَدْ كُنْتَ عَلَى
النِّصْفِ مِنْهُ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ خَشِيتُ أَنْ يَجِيءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا، أَوْ ثَمَانُونَ أَلْفًا، أَوْ أَكْثَرُ أَوْ
أَقَلُّ، كُلُّهُمْ تَنْضَحُ أَوْدَاجُهُمْ دَمًا، كُلُّهُمْ يَسْتَعْدِي اللَّهَ
فِيمَ هُرِيقَ دَمُهُ ؟.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: رَأَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي مَنَامِهِ أَنَّهُ
مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَفَرَحِ بِذَلِكَ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ رَأَى هَذِهِ
الرُّؤْيَا فَقَلَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَجْلِهِ. قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثِ الْحَسَنُ
بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَيَّامًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
صَالِحٍ الْعَتَكِيُّ وَمُحَمَّدُ
بْنُ عُثْمَانَ الْعِجْلِيُّ، قَالَا:
ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ:
دَخَلْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَامَ
فَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: لَقَدْ لَفَظْتُ طَائِفَةً مِنْ
كَبِدِي أُقَلِّبُهَا بِهَذَا الْعُودِ، وَلَقَدْ سُقِيتُ السُّمَّ مِرَارًا،
وَمَا سُقِيتُ مَرَّةً هِيَ أَشَدُّ مِنْ هَذِهِ. قَالَ: وَجَعَلَ يَقُولُ
لِذَلِكَ الرَّجُلِ: سَلْنِي قَبْلَ أَنْ لَا تَسْأَلَنِي. فَقَالَ: مَا
أَسْأَلُكَ شَيْئًا، يُعَافِيكَ اللَّهُ. قَالَ: فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ
عُدْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْغَدِ وَقَدْ أَخَذَ فِي السُّوقِ، فَجَاءَ حُسَيْنٌ
حَتَّى قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ: أَيْ أَخِي، مَنْ صَاحِبُكَ ؟ قَالَ:
تُرِيدُ قَتْلَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ كَانَ صَاحِبَيِ الَّذِي
أَظُنُّ، لَلَّهُ أَشَدُّ نِقْمَةً - وَفِي رِوَايَةٍ: فَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا
وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا - وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ مَا أُحِبُّ أَنْ تَقْتُلَ بِي
بَرِيئًا. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي
عَوْنٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ عَنْ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمِسْوَرِ قَالَتْ: كَانَ الْحَسَنُ سُقِيَ
مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يُفْلِتُ مِنْهُ، حَتَّى كَانَتِ الْمَرَّةُ الْآخِرَةُ
الَّتِي مَاتَ فِيهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَخْتَلِفُ كَبِدُهُ، فَلَمَّا مَاتَ
أَقَامَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِ النَّوْحَ شَهْرًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَتْنَا
عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَدَّ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ
عَلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ قَالَ: كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ كَثِيرَ نِكَاحِ
النِّسَاءِ، وَكَانَ قَلَّ مَا يَحْظَيْنَ عِنْدَهُ، وَكَانَ قَلَّ امْرَأَةٌ
يَتَزَوَّجُهَا إِلَّا أَحَبَّتْهُ وَصَبَتْ بِهِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ
سُقِيَ، ثُمَّ أَفْلَتَ، ثُمَّ سُقِيَ فَأَفْلَتَ، ثُمَّ كَانَتِ الْآخِرَةُ
تُوُفِّيَ فِيهَا، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ الطَّبِيبُ وَهُوَ
يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ: هَذَا رَجُلٌ قَدْ قَطَّعَ السُّمُّ أَمْعَاءَهُ. فَقَالَ
الْحُسَيْنُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَخْبِرْنِي مَنْ سَقَاكَ ؟ قَالَ: وَلِمَ يَا
أَخِي ؟ قَالَ: أَقْتُلُهُ وَاللَّهِ قَبْلَ أَنْ أَدْفِنَكَ، أَوْ لَا أَقْدِرَ
عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ بِأَرْضٍ أَتَكَلَّفُ الشُّخُوصَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: يَا
أَخِي، إِنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا لَيَالٍ فَانِيَةٌ، دَعْهُ حَتَّى أَلْتَقِيَ
أَنَا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ. وَأَبَى أَنْ يُسَمِّيَهُ. وَقَدْ سَمِعْتُ بَعْضَ
مِنْ يَقُولُ: كَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ تَلَطَّفَ لِبَعْضِ خَدَمِهِ أَنْ
يَسْقِيَهُ سُمًّا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، أَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أُمِّ مُوسَى، أَنَّ جَعْدَةَ بِنْتَ
الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ سَقَتِ الْحَسَنَ السُّمَّ، فَاشْتَكَى مِنْهُ شَكَاةً.
قَالَ: فَكَانَ يُوضَعُ تَحْتَهُ طَسْتٌ وَيُرْفَعُ آخَرُ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بَعْثَ إِلَى جَعْدَةَ بِنْتِ
الْأَشْعَثِ أَنْ
سُمِّي الْحَسَنَ وَأَنَا
أَتَزَوَّجُكِ بَعْدَهُ. فَفَعَلَتْ، فَلَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بَعَثَتْ إِلَيْهِ،
فَقَالَ: إِنَّا وَاللَّهِ لَمْ نَرْضَكِ لِلْحَسَنِ أَفَنَرْضَاكِ لِأَنْفُسِنَا
؟ وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَعَدَمُ صِحَّتِهِ عَنْ أَبِيهِ
مُعَاوِيَةَ بِطَرِيقِ الْأُولَى وَالْأَحْرَى، وَقَدْ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ
فِي ذَلِكَ:
يَا جَعْدُ بَكِّيهِ وَلَا تَسْأَمِي بُكَاءَ حَقٍّ لَيْسَ بِالْبَاطِلِ
لَنْ تَسْتُرِي الْبَيْتَ عَلَى مَثَلِهِ فِي النَّاسِ مِنْ حَافٍ وَلَا نَاعِلِ
أَعْنَى الَّذِي أَسْلَمَهُ أَهْلُهُ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَخْرَجِ الْمَاحِلِ
كَانَ إِذَا شَبَّتْ لَهُ نَارُهُ يَرْفَعُهَا بِالنَّسَبِ الْمَاثِلِ
كَيْمَا يَرَاهَا بَائِسٌ مُرْمِلٌ أَوْ فَرْدُ قَوْمٍ لَيْسَ بِالْآهِلِ
يُغْلِي بِنِيِّ اللَّحْمِ حَتَّى إِذَا أُنْضِجَ لَمْ يَغْلُ عَلَى آكِلِ
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مِصْقَلَةَ قَالَ: لَمَّا
حُضِرَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: أَخْرِجُونِي إِلَى الصَّحْنِ حَتَّى
أَنْظُرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. فَأَخْرَجُوا فِرَاشَهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ،
فَنَظَرَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَحْتَسِبُ نَفْسِي عِنْدَكَ، فَإِنَّهَا
أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيَّ. قَالَ: فَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ
احْتَسَبَ نَفْسَهُ عِنْدَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: لَمَّا اشْتَدَّ بِسُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ الْمَرَضَ جَزِعَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرْحُومُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: مَا هَذَا الْجَزَعُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟
تَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ عَبَدْتَهُ سِتِّينَ سَنَةً، صُمْتَ لَهُ، صَلَّيْتَ لَهُ،
حَجَجْتَ لَهُ، قَالَ:
فَسُرِّيَ عَنِ الثَّوْرِيِّ. قَالَ
أَبُو نُعَيْمٍ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَجَعُ جَزِعَ،
فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَا هَذَا الْجَزَعُ
؟ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ تُفَارِقَ رُوحُكَ جَسَدَكَ فَتَقْدَمَ عَلَى أَبَوَيْكَ
عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، وَعَلَى جَدَّيْكَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَخَدِيجَةَ، وَعَلَى أَعْمَامِكَ حَمْزَةَ وَجَعْفَرٍ، وَعَلَى
أَخْوَالِكَ الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَمُطَهِّرٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى
خَالَاتِكَ رُقَيَّةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ وَزَيْنَبَ. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْقَائِلَ لَهُ ذَلِكَ الْحُسَيْنُ، وَأَنَّ الْحَسَنَ
قَالَ لَهُ: يَا أَخِي، إِنِّي أَدْخُلُ فِي أَمْرٍ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ لَمْ
أَدْخُلْ فِي مَثَلِهِ، وَأَرَى خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ
قَطُّ. قَالَ: فَبَكَى الْحُسَيْنُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَرَوَاهُ عَبَّاسُ
الدُّورِيُّ، عَنِ ابْنِ مَعِينٍ بِهِ. وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُمَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي عَتِيقٍ
قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: شَهِدْنَا حَسَنَ بْنَ
عَلِيٍّ يَوْمَ مَاتَ، فَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ
أَنْ يُدْفَنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ
خَافَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ قِتَالٌ أَوْ شَرٌّ فَلْيُدْفَنْ بِالْبَقِيعِ.
فَأَبَى مَرْوَانُ أَنْ يَدَعَهُ، وَمَرْوَانُ يَوْمَئِذٍ مَعْزُولٌ يُرِيدُ أَنْ
يُرْضِيَ مُعَاوِيَةَ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ مَرْوَانُ عَدُوًّا لِبَنِي هَاشِمٍ
حَتَّى مَاتَ. قَالَ جَابِرٌ: فَكَلَّمْتُ يَوْمَئِذٍ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ
فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ ; فَإِنَّ أَخَاكَ كَانَ لَا
يُحِبُّ مَا تَرَى، فَادْفِنْهُ بِالْبَقِيعِ مَعَ أُمِّهِ. فَفَعَلَ.
ثُمَّ رَوَى الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَضَرْتُ
مَوْتَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَقُلْتُ لِلْحُسَيْنِ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا
تُثِرْ فِتْنَةً وَلَا تَسْفِكِ الدِّمَاءَ، وَادْفِنْ أَخَاكَ إِلَى جَنْبِ
أُمِّهِ ; فَإِنَّ أَخَاكَ قَدْ عَهِدَ بِذَلِكَ إِلَيْكَ. قَالَ: فَفَعَلَ
الْحُسَيْنُ. وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوًا مِنْ
هَذَا.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْحَسَنَ بَعَثَ يَسْتَأْذِنُ عَائِشَةَ فِي ذَلِكَ،
فَأَذِنَتْ لَهُ، فَلَمَّا مَاتَ لَبِسَ الْحُسَيْنُ السِّلَاحَ وَتَسَلَّحَ بَنُو
أُمَيَّةَ، وَقَالُوا: لَا نَدَعُهُ يُدْفَنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيُدْفَنُ عُثْمَانُ بِالْبَقِيعِ، وَيُدْفَنُ الْحَسَنُ
بْنُ عَلِيٍّ فِي الْحُجْرَةِ ؟ فَلَمَّا خَافَ النَّاسُ وُقُوعَ الْفِتْنَةِ
أَشَارَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عُمَرَ
عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ، فَامْتَثَلَ وَدَفَنَ أَخَاهُ قَرِيبًا
مِنْ قَبْرِ أُمِّهِ بِالْبَقِيعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ أَبِي
حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدَّمَ يَوْمَئِذٍ سَعِيدَ
بْنِ الْعَاصِ فَصَلَّى عَلَى الْحَسَنِ. وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّهَا سُنَّةٌ مَا
قَدَّمْتُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُسَاوِرٌ مَوْلَى بَنِي سَعْدِ
بْنِ بَكْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَائِمًا عَلَى مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
وَهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَاتَ الْيَوْمَ
حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَابْكُوا.
وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ لِجِنَازَتِهِ، حَتَّى مَا كَانَ الْبَقِيعُ يَسَعُ
أَحَدًا مِنَ الزِّحَامِ، وَقَدْ بَكَاهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ سَبْعًا،
وَاسْتَمَرَّ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ يَنُحْنَ عَلَيْهِ شَهْرًا، وَحَدَّتْ
نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَيْهِ
سَنَةً.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُتِلَ عَلِيٌّ
وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَاتَ لَهَا حَسَنٌ، وَقُتِلَ لَهَا
الْحُسَيْنُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: تُوُفِّيَ سَعْدٌ
وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي أَيَّامٍ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ إِمَارَةِ
مُعَاوِيَةَ عَشْرُ سِنِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
تُوُفِّيَ الْحَسَنُ وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَقَالَ آخَرُونَ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
أَوْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
سَنَةُ خَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فِي قَوْلٍ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ، وَقِيلَ: ابْنُهُ يَزِيدُ. وَكَانَ
نَائِبَ الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَعَلَى
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْمَشْرِقِ وَسِجِسْتَانَ وَفَارِسَ وَالسِّنْدِ
وَالْهِنْدِ زِيَادٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْدَى بَنُو نَهْشَلٍ عَلَى الْفَرَزْدَقِ زِيَادًا،
فَهَرَبَ الْفَرَزْدَقُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ
عَرَّضَ بِمُعَاوِيَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، فَطَلَبَهُ زِيَادٌ أَشَدَّ الطَّلَبِ
فَفَرَّ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَاسْتَجَارَ بِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ،
وَمَدَحَهُ بِأَشْعَارٍ فَأَجَارَهُ، وَلَمْ يَزَلِ الْفَرَزْدَقُ يَتَرَدَّدُ
فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ زِيَادٌ، فَرَجَعَ إِلَى
بِلَادِهِ، وَقَدْ طَوَّلَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا رَوَاهُ
مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى تَحْوِيلِ الْمِنْبَرِ
النَّبَوِيِّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَنْ يَأْخُذَ الْعَصَا الَّتِي
كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ إِذَا خَطَبَ، فَيَقِفُ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَهُوَ مُمْسِكُهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنَّ تَفْعَلَ هَذَا،
فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنَّ تُخْرِجَ الْمِنْبَرَ مِنْ مَوْضِعٍ وَضَعَهُ
فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ تُخْرِجَ
عَصَاهُ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَتَرَكَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ، وَلَكِنْ زَادَ فِي
الْمِنْبَرِ سِتَّ دَرَجَاتٍ، وَاعْتَذَرَ إِلَى النَّاسِ.
ثُمَّ رَوَى الْوَاقِدِيُّ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ هَمَّ بِذَلِكَ وَعَزَمَ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ
كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَذَا ثُمَّ تَرَكَهُ، وَإِنَّهُ لَمَّا حَرَّكَ
الْمِنْبَرَ، كَسَفَتِ الشَّمْسُ ; فَتَرَكَ ذَلِكَ. ثُمَّ لَمَّا حَجَّ
الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ ذَلِكَ أَيْضًا، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ
مُعَاوِيَةَ وَأَبَاكَ أَرَادَا ذَلِكَ ثُمَّ تَرَكَاهُ. وَكَانَ السَّبَبَ فِي
تَرْكِهِ أَنَّ سَعِيدَ بْنِ الْمُسَيَّبِ كَلَّمَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ وَيَعِظَهُ، فَتَرَكَ. ثُمَّ لَمَّا حَجَّ
سُلَيْمَانُ أَخْبَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمَا كَانَ عَزَمَ
عَلَيْهِ الْوَلِيدُ، وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ: مَا أُحِبُّ أَنَّ يُذْكَرَ هَذَا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَا عَنِ
الْوَلِيدِ، وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ هَذَا، مَالَنَا وَلِهَذَا، وَقَدْ
أَخَذْنَا الدُّنْيَا فَهِيَ فِي أَيْدِينَا فَنُرِيدُ أَنْ نَعْمِدَ إِلَى عَلَمٍ
مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ يُوفَدُ إِلَيْهِ، فَنَحْمِلَهُ إِلَى مَا قِبَلَنَا،
هَذَا مَا لَا يَصْلُحُ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ
مُعَاوِيَةُ عَنْ مِصْرَ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ وَوَلَّى عَلَيْهَا
وَإِفْرِيقِيَةَ مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ
وَفِيهَا افْتَتَحَ عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ الْفِهْرِيُّ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ،
بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ، وَاخْتَطَّ الْقَيْرَوَانَ - وَكَانَ مَكَانُهَا غَيْضَةً
تَأْوِي إِلَيْهَا السِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ وَالْحَيَّاتُ الْعِظَامُ - فَدَعَا
اللَّهَ تَعَالَى، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى إِنِ
السِّبَاعَ صَارَتْ تَخْرُجُ مِنْهَا تَحْمِلُ أَوْلَادَهَا، وَالْحَيَّاتُ
يَخْرُجْنَ مِنْ أَجْحَارِهِنَّ هَوَارِبَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَسْلَمَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ وَسُفْيَانُ بْنُ
عَوْفٍ أَرْضَ الرُّومِ، وَفِيهَا غَزَا فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْبَحْرَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِدْلَاجُ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ،
شَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَمْ أَرَ لَهُ ذِكْرًا فِي الصَّحَابَةِ.
وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظِمِ
"، أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ، وَحَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ،
وَدِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ
الْكَلْبِيُّ، وَعَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ،
وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، وَأُمُّ شَرِيكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: أَبُو عَدِيٍّ
الْمَدَنِيُّ، فَإِنَّهُ قَدِمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ فِي فِدَاءِ أَسَارَى بَدْرٍ
فَلَمَّا سَمِعَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
سُورَةِ " الطُّورِ ": أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ
الْخَالِقُونَ [ الطُّورِ: 35 ]. دَخَلَ فِي قَلْبِهِ الْإِسْلَامُ، ثُمَّ
أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ وَقِيلَ: زَمَنَ الْفَتْحِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ،
وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَأَعْلَمِهَا بِالْأَنْسَابِ، أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ
الصِّدِّيقِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ،
وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ
شَاعِرُ الْإِسْلَامِ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ،
كَمَا سَيَأْتِي.
وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُجَدَّعٍ الْغِفَارِيُّ، أَخُو رَافِعِ
بْنِ عَمْرٍو
الْغِفَارِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ:
الْحَكَمُ بْنُ الْأَقْرَعِ. فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، لَهُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ
حَدِيثٌ وَاحِدٌ فِي النَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْإِنْسِيَّةِ، وَقَدِ
اسْتَنَابَهُ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ عَلَى غَزْوِ جَبَلِ الْأَشَلِّ، فَغَنِمَ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَجَاءَهُ كِتَابُ
زِيَادٍ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ أَنْ يَصْطَفِيَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مِنَ
الْغَنِيمَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الْحَكَمُ: إِنَّ كِتَابَ
اللَّهِ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ كِتَابِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ سَبَقَ كِتَابُ
اللَّهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
" لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ". ثُمَّ نَادَى
فِي النَّاسِ أَنِ اغْدُوَا عَلَى غَنَائِمِكُمْ، فَقَسَّمَهَا فِي النَّاسِ
وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا الْخُمُسَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ حُبِسَ إِلَى أَنَّ مَاتَ
بِمَرْوَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ.
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، كَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ، فَلِهَذَا كَانَ جِبْرِيلُ
يَأْتِي عَلَى صُورَتِهِ كَثِيرًا. وَأَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصَرَ. أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَلَكِنْ لَمْ يَشْهَدْ
بَدْرًا، وَشَهِدَ مَا بَعْدَهَا، ثُمَّ شَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَأَقَامَ
بِالْمِزَّةِ غَرْبِيَّ دِمَشْقَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو سَعِيدٍ الْعَبْشَمِيُّ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ،
وَقِيلَ: شَهِدَ مُؤْتَهَ، وَغَزَا
خُرَاسَانَ وَفَتْحَ سِجِسْتَانَ
وَكَابُلَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ، وَأَقَامَ
بِالْبَصْرَةِ، وَقِيلَ: بِمَرْوَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ
خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ زِيَادٌ،
وَتَرَكَ عِدَّةً مِنَ الذُّكُورِ، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ
كُلَالٍ، وَقِيلَ: عَبْدُ كَلُوبٍ. وَقِيلَ: عَبْدُ الْكَعْبَةِ. فَسَمَّاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَكَانَ
أَحَدَ السَّفِيرَيْنِ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ; فَإِنَّكَ إِنْ
أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنَّ أُعْطِيتَهَا عَنْ
غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ".
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيُّ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الطَّائِفِيُّ، لَهُ وَلِأَخِيهِ الْحَكَمِ صُحْبَةٌ، قَدِمَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ،
فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الطَّائِفِ، وَأَمَّرَهُ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَكَانَ أَمِيرَهُمْ
وَإِمَامَهُمْ مُدَّةً طَوِيلَةً حَتَّى مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
أَخُو عَلِيٍّ، فَكَانَ أَكْبَرَ مِنْ جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَجَعْفَرٌ
أَكْبَرُ مِنْ عَلِيٍّ بِعَشْرِ سِنِينَ، كَمَا أَنَّ طَالِبًا أَكْبَرُ مِنْ
عَقِيلٍ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكُلُّهُمْ أَسْلَمَ إِلَّا طَالِبًا، أَسْلَمَ
عَقِيلٌ قَبْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَشَهِدَ مُؤْتَةَ، وَكَانَ مِنْ أَنْسَبِ
قُرَيْشٍ، وَكَانَ قَدْ وَرِثَ أَقَارِبَهُ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَتَرَكُوا
أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ بِمَكَّةَ،
وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ أَسْلَمَ بَعْدَ أُحِدٍ، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ بِئْرُ
مَعُونَةَ، وَكَانَ سَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
بَعَثَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي تَزْوِيجِ أُمِّ حَبِيبَةَ، وَأَنْ يَأْتِيَ
بِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ هُنَاكَ، وَلَهُ أَفْعَالٌ حَسَنَةٌ، وَآثَارٌ
مَحْمُودَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ.
وَكَانَ لَا يُلْحَقُ وَلَا يُسْبَقُ بِالْخَيْلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ عَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ بْنِ الْكَاهِنِ الْخُزَاعِيِّ،
أَسْلَمَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَهَاجَرَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ عَامَ
حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ أَنْ يُمَتِّعَهُ اللَّهُ بِشَبَابِهِ ;
فَبَقِيَ ثَمَانِينَ سَنَةً لَا يُرَى فِي لِحْيَتِهِ شَعْرَةٌ بَيْضَاءُ، وَمَعَ
هَذَا كَانَ أَحَدَ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا عَلَى عُثْمَانَ، ثُمَّ
صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ، فَشَهِدَ مَعَهُ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ،
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الَّذِينَ قَامُوا مَعَ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَتَطَلَّبَهُ
زِيَادٌ، فَهَرَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى نَائِبِهَا،
فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدِ اخْتَفَى فِي غَارٍ فَنَهَشَتْهُ حَيَّةٌ، فَمَاتَ
فَقَطَعَ رَأْسَهُ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَطِيفَ بِهِ فِي الشَّامِ
وَغَيْرِهَا، فَكَانَ أَوَّلَ رَأْسٍ طِيفَ بِهِ، ثُمَّ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ
بِرَأْسِهِ إِلَى زَوْجَتِهِ آمِنَةَ بِنْتِ الشَّرِيدِ - وَكَانَتْ فِي سِجْنِهِ
- فَأُلْقِيَ فِي حِجْرِهَا، فَوَضَعَتْ كَفَّهَا عَلَى جَبِينِهِ وَلَثَمَتْ
فَمَهُ، وَقَالَتْ: غَيَّبْتُمُوهُ عَنِّي طَوِيلًا، ثُمَّ أَهْدَيْتُمُوهُ
إِلَيَّ قَتِيلًا، فَأَهْلًا بِهَا مِنْ هَدِيَّةٍ غَيْرَ قَالِيَةٍ وَلَا
مَقْلِيَّةٍ.
وَأَمَّا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ
الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
شَاعِرُ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ
يَشْهَدْ بَدْرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي سِيَاقِ
تَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ كَانَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ
عَلَيْهِمْ مِنْ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ
مُفَصَّلًا فِي " التَّفْسِيرِ "، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ، وَغَلِطَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا.
وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ. فَإِنَّ الْوَاقِدِيَّ
- وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ - قَالَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسِينَ. وَقَالَ
الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَبُو
عِيسَى، وَيُقَالُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. الثَّقَفِيُّ. وَعُرْوَةُ بْنُ
مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَمُّ أَبِيهِ، كَانَ الْمُغِيرَةُ مِنْ دُهَاةِ
الْعَرَبِ، وَذَوِي آرَائِهَا، أَسْلَمَ عَامَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ مَا قَتَلَ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ مَرْجِعَهُمْ مِنْ عِنْدِ الْمُقَوْقِسِ،
وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، فَغَرِمَ دِيَاتِهِمْ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَشَهِدَ
الْحُدَيْبِيَةَ، وَكَانَ وَاقِفًا يَوْمَ الصُّلْحِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ صَلْتًا،
وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِسْلَامِ أَهْلِ الطَّائِفِ هُوَ وَأَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَهَدَمَا اللَّاتَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَيْفِيَّةَ
ذَلِكَ، وَبَعَثَهُ الصِّدِّيقُ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ
وَالْيَرْمُوكَ، فَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ، وَقِيلَ: بَلْ نَظَرَ إِلَى
الشَّمْسِ وَهِيَ كَاسِفَةٌ، فَذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ. وَشَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ،
وَوَلَّاهُ عُمَرُ فُتُوحًا كَثِيرَةً، مِنْهَا هَمَذَانُ وَمَيْسَانُ، وَهُوَ
الَّذِي كَانَ رَسُولَ سَعْدٍ إِلَى رُسْتُمَ، فَكَلَّمَهُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ
الْبَلِيغِ، فَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَصْرَةِ فَلَمَّا شُهِدَ عَلَيْهِ
بِالزِّنَا وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ، عَزَلَهُ عَنْهَا، وَوَلَّاهُ الْكُوفَةَ،
وَاسْتَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ حِينًا، ثُمَّ عَزَلَهُ، فَبَقِيَ مَعْزُولًا حَتَّى
كَانَ أَمْرُ الْحَكَمَيْنِ، فَلَحِقَ بِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ
وَصَالَحَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ وَدَخَلَ الْكُوفَةَ، وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ
عَلَيْهَا، فَلَمْ يَزَلْ أَمِيرَهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى
الْمَشْهُورِ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا،
عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
وَهُوَ غَلَطٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَكَانَ الْمُغِيرَةُ أَصْهَبَ الشَّعْرِ جِدًّا،
أَكْشَفَ، مُقَلَّصَ الشَّفَتَيْنِ، أَهْتَمَ، ضَخْمَ الْهَامَةِ، عَبْلَ
الذِّرَاعَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، وَكَانَ يَفْرُقُ رَأْسَهُ
أَرْبَعَةَ قُرُونٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الْقُضَاةُ أَرْبَعَةٌ ; عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ
مَسْعُودٍ، وَأَبُو مُوسَى، وَالدُّهَاةُ أَرْبَعَةٌ ; مُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ، وَزِيَادٌ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الدُّهَاةُ فِي الْفِتْنَةِ خَمْسَةٌ ; مُعَاوِيَةُ،
وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَكَانَ مُعْتَزِلًا،
وَقَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلِ بْنِ
وَرْقَاءَ، وَكَانَا مَعَ عَلِيٍّ.
قُلْتُ: وَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: الْأَشْيَاخُ خَمْسَةٌ ; رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ،
وَالْأَضْدَادُ خَمْسَةٌ ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَمُعَاوِيَةُ، وَعَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: سَمِعْتُ
الْمُغِيرَةَ يَقُولُ: مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ إِلَّا فَتًى مَرَّةً، أَرَدْتُ أَنْ
أَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَاسْتَشَرْتُهُ فِيهَا، فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، لَا
أَرَى لَكَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا. فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ
رَجُلًا يُقَبِّلُهَا. ثُمَّ بَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا،
فَقُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَزْعُمْ أَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا يُقَبِّلُهَا ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ رَأَيْتُ أَبَاهَا يُقَبِّلُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: سَمِعْتُ قَبِيصَةَ بْنَ جَابِرٍ يَقُولُ: صَحِبْتُ الْمُغِيرَةَ
بْنَ شُعْبَةَ، فَلَوْ أَنَّ مَدِينَةً لَهَا ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ لَا يُخْرَجُ
مِنْ بَابٍ مِنْهَا إِلَّا بِمَكْرٍ لَخَرَجَ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَبْوَابِهَا
كُلِّهَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ
شُعْبَةَ يَقُولُ: صَاحِبُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ يَحِيضُ مَعَهَا وَيَمْرَضُ
مَعَهَا، وَصَاحِبُ الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَ نَارَيْنِ تَشْتَعِلَانِ. وَكَانَ
يَتَزَوَّجُ أَرْبَعَةً مَعًا وَيُطَلِّقُهُنَّ مَعًا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ نَافِعٍ الصَّائِغُ: أَحْصَنَ الْمُغِيرَةُ ثَلَاثَمِائَةِ امْرَأَةٍ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: أَلْفَ امْرَأَةٍ. وَقِيلَ: مِائَةَ امْرَأَةٍ. وَقِيلَ: ثَمَانِينَ
امْرَأَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيَّةُ
الْمُصْطَلِقِيَّةُ
أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ، فَسَبَاهَا رَسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ ; وَهِيَ غَزْوَةُ
بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكَهُمْ فَأَسْلَمَتْ، فَأَعْتَقَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَهَا، وَكَانَتْ
قَدْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَكَاتَبَهَا
فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَ: أَوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ "
قَالَتْ: وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " أَشْتَرِيكِ وَأُعْتِقُكِ
وَأَتَزَوَّجُكِ " فَأَعْتَقَهَا فَقَالَ النَّاسُ: أَصْهَارُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَعْتَقُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ
سَبْيِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا أَعْلَمٌ امْرَأَةً أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى أَهْلِهَا
مِنْهَا. وَكَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُوَيْرِيَةَ. وَكَانَتِ امْرَأَةً مُلَّاحَةً - أَيْ حُلْوَةَ
الْكَلَامِ - تُوُفِّيَتْ فِي هَذَا الْعَامِ سَنَةَ خَمْسِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ
بْنِ سَعْيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ
أَبِي حَبِيبِ بْنِ النَّضِيرِ بْنِ النَّحَّامِ بْنِ يَنْحَوْمَ، أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ
النَّضَرِيةُ، فَمِنْ سُلَالَةِ
هَارُونَ أَخِي مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانَتْ مَعَ أَبِيهَا وَعَمِّهَا
جُدَيِّ بْنِ أَخْطَبَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي النَّضِيرِ سَارُوا إِلَى خَيْبَرَ وَقُتِلَ
أَبُوهَا مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ صَبْرًا، كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَمَّا
فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ كَانَتْ فِي
جُمْلَةِ السَّبْيِ، فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ،
فَذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَالَهَا وَأَنَّهَا
بِنْتُ مَلِكِهِمْ، فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ وَعَوَّضَ دِحْيَةَ عَنْهَا،
وَأَسْلَمَتْ فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا حَلَّتْ بِالصَّهْبَاءِ
بَنَى بِهَا، وَكَانَتْ مَاشِطَتَهَا أُمُّ سُلَيْمٍ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ
عَمٍّ لَهَا، يُقَالُ لَهُ: كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ
وَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَدِّهَا لَطْمَةً،
فَقَالَ: " مَا هَذِهِ ؟ " فَقَالَتْ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ
الْقَمَرَ أَقْبَلَ مِنْ يَثْرِبَ، فَسَقَطَ فِي حِجْرِي، فَقَصَصْتُ الْمَنَامَ
عَلَى ابْنِ عَمِّي، فَلَطَمَنِي وَقَالَ: تَتَمَنَّيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَكِ
مَلِكُ يَثْرِبَ ؟ فَهَذِهِ مِنْ لَطْمَتِهِ. وَكَانَتْ مِنْ سَيِّدَاتِ
النِّسَاءِ عِبَادَةً وَوَرَعًا وَزَهَادَةً وَبِرًّا وَصَدَقَةً، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَأَمَّا أُمُّ شَرِيكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ
وَيُقَالُ: الْعَامِرِيَّةُ، فَهِيَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ، قَبِلَهَا. وَقِيلَ: لَمْ
يَقْبَلْهَا. وَلَمْ تَتَزَوَّجْ حَتَّى مَاتَتْ ; تَرْجُو بِذَلِكَ أَنْ تَكُونَ
مِنْ أَزْوَاجِهِ، وَهِيَ الَّتِي سُقِيَتْ بِدَلْوٍ مِنَ السَّمَاءِ لَمَّا
مَنَعَهَا
الْمُشْرِكُونَ الْمَاءَ، فَأَسْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ، وَاسْمُهَا غُزَيَّةُ، وَقِيلَ: عُزَيْلَةُ. بِنْتُ دُودَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَيْصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَسْلَمَتْ قَدِيمًا مَاتَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَاتَتْ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ حُجْرُ بْنُ
عَدِيِّ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
الْأَكْرَمِينِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مَرْتَعِ بْنِ
كِنْدِيٍّ الْكُوفِيُّ. وَيُقَالُ لَهُ: حُجْرُ الْخَيْرِ. وَيُقَالُ لَهُ: حُجْرُ
بْنُ الْأَدْبَرِ. لِأَنَّ أَبَاهُ عَدِيٍّا طُعِنَ مُولِّيًا فَسُمِّيَ
الْأَدْبَرَ، وَيُكَنَّى حُجْرٌ بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ مِنْ كِنْدَةَ
مِنْ رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَفَدَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَسَمِعَ عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَشَرَاحِيلَ بْنَ مُرَّةَ. وَيُقَالُ:
شُرَحْبِيلُ بْنُ مُرَّةَ. وَرَوَى عَنْهُ أَبُو لَيْلَى مَوْلَاهُ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَابِسٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ. وَغَزَا الشَّامَ
فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ افْتَتَحُوا عَذْرَاءَ وَشَهِدَ صِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ
أَمِيرًا، وَقُتِلَ بِعَذْرَاءَ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ. وَمَسْجِدُ قَبْرِهِ بِهَا
مَعْرُوفٌ. ثُمَّ سَاقَ ابْنُ
عَسَاكِرَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَى حُجْرٍ، فَذَكَرَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ
رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ
الصَّحَابَةِ، وَذَكَرَ لَهُ وِفَادَةً، ثُمَّ ذَكَرَهُ فِي الْأُولَى مِنْ
تَابِعِي أَهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً مَعْرُوفًا، وَلَمْ يَرْوِ عَنْ
غَيْرِ عَلِيٍّ شَيْئًا. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: بَلْ قَدْ رَوَى عَنْ عَمَّارٍ
وَشُرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ: أَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ لَا
يُصَحِّحُونَ لَهُ صُحْبَةً، شَهِدَ الْقَادِسِيَّةَ، وَافْتَتَحَ مَرْجَ
عَذْرَاءَ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ وَصِفِّينِ، وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حُجْرُ
الْخَيْرِ، وَهُوَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ هَذَا، وَحُجْرُ الشَّرِّ، وَهُوَ حُجْرُ
بْنُ يَزِيدَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَالَ الْمَرْزُبَانِيُّ: قَدْ رَوَى أَنَّ حُجْرَ بْنَ عَدِيٍّ وَفَدَ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ
عَدِيٍّ.
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ عُبَّادِ
النَّاسِ وَزُهَّادِهِمْ، وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ. قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: مَا أَحْدَثَ قَطُّ إِلَّا تَوَضَّأَ، وَلَا
تَوَضَّأَ إِلَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ. هَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
النَّاسِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنِي
الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ لِحُجْرٍ: يَا ابْنَ
أُمِّ حُجْرٍ، لَوْ تَقَطَّعْتَ أَعْضَاءً مَا بَلَغْتَ الْإِيمَانَ. وَكَانَ،
إِذْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَى الْكُوفَةِ إِذَا ذَكَرَ عَلِيًّا
فِي خُطْبَتِهِ يَتَنَقَّصُهُ بَعْدَ مَدْحِ عُثْمَانَ وَشِيعَتِهِ، فَيَغْضَبُ
حُجْرٌ هَذَا، وَيُظْهِرُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُغِيرَةُ
فِيهِ حِلْمٌ وَأَنَاةٌ، فَكَانَ يَصْفَحُ عَنْهُ وَيَعِظُهُ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ، وَيُحَذِّرُهُ غَبَّ هَذَا الصَّنِيعِ، فَإِنَّ مُعَارَضَةَ
السُّلْطَانِ شَدِيدٌ وَبَالُهَا، فَلَمْ يَرْجِعْ حُجْرٌ عَنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا
كَانَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ قَامَ حُجْرٌ يَوْمًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ
فِي الْخُطْبَةِ وَصَاحَ بِهِ، وَذَمَّهُ بِتَأْخِيرِهِ الْعَطَاءِ عَنِ النَّاسِ،
وَقَامَ مَعَهُ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ لِقِيَامِهِ، يُصَدِّقُونَهُ وَيُشَنِّعُونَ
عَلَى الْمُغِيرَةِ، وَدَخَلَ الْمُغِيرَةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ قَصْرَ
الْإِمَارَةِ، وَدَخَلَ مَعَهُ جُمْهُورُ النَّاسِ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَغَيْرِهِمْ، فَأَشَارُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِأَنْ يَرُدَّ حُجْرًا عَمَّا
يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى السُّلْطَانِ وَشَقِّ الْعَصَا وَالْقِيَامِ
عَلَى الْأَمِيرِ وَذَمَرَوهُ
وَحَثُّوهُ عَلَى التَّنْكِيلِ بِهِ،
فَصَفَحَ عَنْهُ وَحَلُمَ.
وَذَكَرَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى الْمُغِيرَةِ
يَسْتَمِدُّهُ بِمَالٍ يَبْعَثُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ عِيرًا تَحْمِلُ
مَالًا فَاعْتَرَضَ لَهَا حُجْرٌ، فَأَمَسَكَ بِزِمَامِ أَوَّلِهَا، وَقَالَ: لَا
وَاللَّهِ حَتَّى يُوَفِّيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فَقَالَ شَبَابُ ثَقِيفٍ
لِلْمُغِيرَةِ: أَلَّا نَأْتِيكَ بِرَأْسِهِ ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ
ذَلِكَ بِحُجْرٍ. فَتَرَكَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ ذَلِكَ عَزَلَ
الْمُغِيرَةَ وَوَلَّى زِيَادًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَعْزِلِ الْمُغِيرَةَ
حَتَّى مَاتَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَجُمِعَتِ الْكُوفَةُ مَعَ الْبَصْرَةِ لِزِيَادٍ دَخَلَهَا، وَقَدِ
الْتَفَّ عَلَى حُجْرٍ جَمَاعَاتٌ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ يُقَوُّونَهُ وَيَشُدُّونَ
أَمْرَهُ عَلَى يَدِهِ، وَيَسُبُّونَ مُعَاوِيَةَ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ،
فَلَمَّا كَانَ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا زِيَادٌ بِالْكُوفَةِ، ذَكَرَ فِي
آخِرِهَا فَضْلَ عُثْمَانَ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ.
فَقَامَ حُجْرٌ كَمَا كَانَ يَقُومُ فِي أَيَّامِ الْمُغِيرَةِ، وَتَكَلَّمَ
بِنَحْوٍ مِمَّا قَالَ لِلْمُغِيرَةِ، فَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ زِيَادٌ، ثُمَّ رَكِبَ
زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ حُجْرًا مَعَهُ إِلَى
الْبَصْرَةِ لِئَلَّا يُحْدِثُ حَدَثًا، فَقَالَ: إِنِّي مَرِيضٌ. فَقَالَ:
وَاللَّهِ إِنَّكَ لَمَرِيضُ الدِّينِ وَالْقَلْبِ وَالْعَقْلِ وَاللَّهِ لَئِنْ
أَحْدَثْتَ شَيْئًا لَأَسْعَيَنَّ فِي قَتْلِكَ ثُمَّ سَارَ زِيَادٌ إِلَى
الْبَصْرَةِ فَبَلَغَهُ أَنَّ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ أَنْكَرُوا عَلَى نَائِبِهِ
بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، وَحَصَبُوهُ وَهُوَ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَرَكِبَ زِيَادٌ إِلَى الْكُوفَةِ فَنَزَلَ
الْقَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ قَبَاءُ سُنْدُسٍ،
وَمِطْرَفُ خَزٍّ أَحْمَرُ، قَدْ فَرَقَ شَعْرَهُ، وَحُجْرٌ جَالِسٌ وَحَوْلَهُ
أَصْحَابُهُ أَكْثَرَ مَا كَانُوا يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مَنْ لَبِسَ مِنْ
أَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ،
وَجَلَسُوا حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ
فِي الْحَدِيدِ وَالسِّلَاحِ، فَخَطَبَ زِيَادٌ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ غِبَّ الْبَغْيِ وَالْغَيِّ
وَخِيمٌ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ جَمُّوا فَأَشِرُوا وَأَمِنُونِي
فَاجْتَرَءُوا عَلَيَّ، وَايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمَّ تَسْتَقِيمُوا
لِأُدَاوِيَنَّكُمْ بِدَوَائِكُمْ. ثُمَّ قَالَ: مَا أَنَا بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ
أَمْنَعْ سَاحَةَ الْكُوفَةِ مِنْ حُجْرٍ، وَأَدَعْهُ نَكَالًا لِمَنْ بَعْدَهُ،
وَيْلُ أُمِّكُ يَا حُجْرُ، سَقَطَ بِكَ الْعَشَاءُ عَلَى سِرْحَانٍ. ثُمَّ قَالَ:
أَبْلِغْ نُصَيْحَةَ أَنَّ رَاعِيَ إِبْلِهَا سَقَطَ الْعَشَاءُ بِهِ عَلَى
سِرْحَانِ
وَجَعَلَ زِيَادٌ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ حُجْرٌ:
كَذَبْتَ. فَسَكَتَ زِيَادٌ وَنَظَرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ عَادَ زِيَادٌ: إِنَّ مِنْ
حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. يَعْنِي
كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَ حُجْرٌ كَفًّا مِنْ حَصًا فَحَصَبَهُ، وَقَالَ: كَذَبْتَ
عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ. فَانْحَدَرَ زِيَادٌ فَصَلَّى، ثُمَّ دَخَلَ
الْقَصْرَ، وَاسْتَحْضَرَ حُجْرًا، وَيُقَالُ: إِنْ زِيَادًا لَمَّا خَطَبَ
طَوَّلَ الْخُطْبَةَ وَأَخَّرَ الصَّلَاةَ، فَقَالَ لَهُ حُجْرٌ: الصَّلَاةَ.
فَمَضَى فِي خِطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الصَّلَاةَ. فَمَضَى فِي خِطْبَتِهِ
فَلَمَّا خَشِيَ حُجْرٌ فَوْتَ الصَّلَاةِ عَمِدَ إِلَى كَفٍّ مِنْ حَصَا، وَثَارَ
إِلَى الصَّلَاةِ، وَثَارَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ زِيَادٌ
نَزَلَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ،
فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِهِ وَكَثَّرَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ شُدَّهُ فِي الْحَدِيدِ وَاحْمِلْهُ إِلَيَّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ زِيَادٌ وَالِيَ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ شَدَّادُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَمَعَهُ أَعْوَانُهُ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَمِيرَ يَطْلُبُكَ. فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ إِلَى زِيَادٍ، وَقَامَ دُونَهُ أَصْحَابُهُ، فَرَجَعَ الْوَالِي إِلَى زِيَادٍ فَأَعْلَمَهُ، فَاسْتَنْهَضَ زِيَادٌ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْقَبَائِلِ، فَرَكِبُوا مَعَ الْوَالِي إِلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْعِصِيِّ، فَعَجَزُوا عَنْهُ، فَنَدَبَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ، وَأَمْهَلَهُ ثَلَاثًا، وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا، فَرَكِبُوا فِي طَلَبِهِ وَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى أَحْضَرُوهُ إِلَى زِيَادٍ، وَمَا أَغْنَى عَنْهُ قَوْمُهُ وَلَا مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَيَّدَهُ زِيَادٌ وَسَجَنَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ مَعَهُ جَمَاعَةً يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَبَّ الْخَلِيفَةَ، وَأَنَّهُ حَارَبَ الْأَمِيرَ، وَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا فِي آلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ ; أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَوَائِلُ بْنُ حُجْرٍ، وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِسْحَاقُ وَإِسْمَاعِيلُ وَمُوسَى بَنُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ، وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كُتِبَتْ شَهَادَةُ شُرَيْحٍ الْقَاضِي فِيهِمْ، وَإِنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لِزِيَادٍ: إِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا. ثُمَّ بَعَثَ زِيَادٌ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ مَعَ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ شِهَابٍ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ مَعَ حُجْرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ جَبَلَةَ الْكِنْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ قِيلَ: عِشْرُونَ رَجُلًا. وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. مِنْهُمُ ; الْأَرْقَمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ الْحَضْرَمِيُّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ بْنِ حَرْمَلَةَ الْعَبْسِيُّ، وَكَرِيمُ بْنُ عَفِيفٍ الْخَثْعَمِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ عَوْفٍ الْبَجَلِيُّ، وَوَرْقَاءُ بْنُ سُمَيٍّ الْبَجَلِيُّ، وَكِدَامُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنَزِيَّانُ مِنْ بَنَى تَمِيمٍ، وَمُحْرِزُ بْنُ شِهَابٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوِيَّةَ السَّعْدِيُّ التَّمِيمِيُّ أَيْضًا. فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ الَّذِينَ وَصَلُوا مَعَهُ، فَسَارُوا بِهِمْ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ إِنَّ زِيَادًا أَتْبَعَهُمْ بِرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ ; عُتْبَةَ بْنِ الْأَخْنَسِ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ نَمِرَانَ الْهَمْدَانِيِّ، فَكَمَلُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَيُقَالُ: إِنَّ حُجْرًا لَمَّا دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ فَتَلَقَّاهُمْ إِلَى مَرْجِ عَذْرَاءَ. وَيُقَالُ: بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ تَلَقَّاهُمْ إِلَى عَذْرَاءَ تَحْتَ الثَّنِيَّةِ ; ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ فَقُتِلُوا هُنَاكَ، وَكَانَ الَّذِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ، وَهُمْ ; هُدْبَةُ بْنُ فَيَّاضٍ الْقُضَاعِيُّ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِلَابِيُّ، وَأَبُو شَرِيفٍ
الْبَدِّيُّ، فَجَاءُوا إِلَيْهِمْ عَشَاءً
فَبَاتَ حُجْرٌ وَأَصْحَابُهُ يَصِلُونَ طُولَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا صَلَّوُا
الصُّبْحَ قَتَلُوهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ رَدَّهُمْ، فَقُتِلُوا
بِعَذْرَاءَ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدِ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِيهِمْ حِينَ
وَصَلُوا إِلَى مَرْجِ عَذْرَاءَ وَقِيلَ: إِنَّهُمْ حُبِسُوا بِهَا. فَمِنْ
مُشِيرٍ بِقَتْلِهِمْ، وَمِنْ مُشِيرٍ بِتَفْرِيقِهِمْ فِي الْبِلَادِ، فَكَتَبَ
مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ كِتَابًا آخَرَ فِي أَمْرِهِمْ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ
بِقَتْلِهِمْ إِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ فِي مُلْكِ الْعِرَاقِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، فَاسْتَوْهَبَ مِنْهُ الْأُمَرَاءُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ،
حَتَّى اسْتَوْهَبُوا مِنْهُ سِتَّةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ سِتَّةً، أَوَّلُهُمْ
حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَرَجَعَ آخَرُ، فَعَفَا عَنْهُ مُعَاوِيَةُ، وَبَعَثَ
بِآخَرَ نَالَ مِنْ عُثْمَانَ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَارَ فِي الْحُكْمِ،
وَمَدَحَ عَلِيًّا، فَبَعَثَ بِهِ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ، وَقَالَ لَهُ: لَمْ
تَبْعَثْ إِلَيَّ فِيهِمْ أَرْدَى مِنْ هَذَا. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى زِيَادٍ
دَفَنَهُ فِي قُسِّ النَّاطِفِ حَيًّا، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ
الْعَنَزِيُّ.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِعَذْرَاءَ ; حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ
وَشَرِيكُ بْنُ شَدَّادٍ،
وَصَيْفِيُّ بْنُ فَسِيلٍ
الشَّيْبَانِيُّ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ضُبَيْعَةَ الْعَبْسِيُّ، وَمُحْرِزُ بْنُ
شِهَابٍ الْمِنْقَرِيُّ السَّعْدِيُّ، وَكِدَامُ بْنُ حَيَّانَ، وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ الْعَنَزِيُّ الْمَبْعُوثُ إِلَى زِيَادٍ الْمَدْفُونُ
فِي قُسِّ النَّاطِفِ، فَلَمَّا قُتِلُوا صُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَدُفِنُوا. وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِمَسْجِدِ الْقَصَبِ، -
وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِمَسْجِدِ السَّبْعَةِ خَارِجَ
بَابِ تُومَاءَ - وَإِنَّمَا نُسِبَتِ السَّبْعَةُ إِلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ
سَبْعَةٌ - فِي شَرْقِيَّهِ، وَقِيلَ: هُمْ فِي غَرْبِيِّ مَسْجِدِ الْقَصَبِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مَدْفُونُونَ بِعَذْرَاءَ مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَيُذْكَرُ أَنَّ حُجْرًا لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: دَعُونِي حَتَّى
أَتَوَضَّأَ. فَقَالُوا: تَوَضَّأْ. فَقَالَ: دَعَونِي حَتَّى أُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ. فَصَلَّاهُمَا وَخَفَّفَ فِيهِمَا. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا
صَلَّيْتُ صَلَاةً قَطُّ أَخَفَّ مِنْهُمَا، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ مَا
بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ. لَطَوَّلْتُهُمَا. ثُمَّ قَالَ: قَدْ تَقَدَّمَ
لَهُمَا صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ. ثُمَّ قَدَّمُوهُ لِلْقَتْلِ وَقَدْ حُفِرَتْ
قُبُورُهُمْ وَنُشِرَتْ أَكْفَانُهُمْ، فَلَمَّا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ السَّيَّافُ
ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ قُلْتَ: لَسْتُ بِجَازِعٍ مِنَ
الْقَتْلِ. فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَجْزَعُ وَأَنَا أَرَى قَبْرًا مَحْفُورًا
وَكَفَنًا مَنْشُورًا وَسَيْفًا مَشْهُورًا. فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا. ثُمَّ
تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْأَعْوَرُ هُدْبَةُ بْنُ فَيَّاضٍ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ
لَهُ: امْدُدْ عُنُقَكَ. فَقَالَ: لَا أُعِينُ عَلَى
قَتْلِ نَفْسِي. فَضَرَبَهُ
فَقَتَلَهُ. وَكَانَ قَدْ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي قُيُودِهِ، فَفَعَلُوا بِهِ
ذَلِكَ، وَقِيلَ: بَلْ غَسَّلُوهُ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ.
وَرَوَى أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ: أَصَلَّوْا عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ فِي
قُيُودِهِ ؟ ! قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: حَجَّهُمْ وَاللَّهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَائِلَ هَذَا إِنَّمَا هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّ
حُجْرًا إِنَّمَا قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْحَسَنُ كَانَ قَدْ مَاتَ قَبْلَهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَرَحِمَ اللَّهُ حُجْرًا
وَأَصْحَابَهُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
عَائِشَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، وَذَلِكَ بَعْدَ
مَقْتَلِ حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَتْ لَهُ: أَيْنَ ذَهَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ يَا
مُعَاوِيَةَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ ؟ فَقَالَ لَهَا: فَقَدْتُهُ
حِينَ غَابَ عَنِّي مِنْ قَوْمِي مِثْلُكِ يَا أُمَّاهُ. ثُمَّ قَالَ لَهَا:
فَكَيْفَ بِرِّي بِكِ يَا أُمَّهْ ؟ فَقَالَتْ: إِنَّكَ بِي لَبَارٌّ. فَقَالَ:
يَكْفِينِي هَذَا عِنْدَ اللَّهِ، وَغَدًا لِي وَلِحُجْرٍ مَوْقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وفِي
رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا:
إِنَّمَا قَتَلَهُ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوتُ جَعْلَ
يُغَرْغِرُ بِرُوحِهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ يَوْمِي بِكَ يَا حُجْرُ بْنَ عَدِيٍّ
لَطَوِيلٌ. قَالَهَا ثَلَاثًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي " الطَّبَقَاتِ ": ذَكَرَ بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُجْرًا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِيهِ هَانِئِ بْنِ عَدِيٍّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
عَلِيٍّ، فَلَمَّا قَدِمَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَالِيًا عَلَى الْكُوفَةِ
دَعَا بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، فَقَالَ: تَعْلَمُ أَنِّي أَعْرِفُكَ، وَقَدْ كُنْتُ
أَنَا وَإِيَّاكَ عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ - يَعْنِي مِنْ حُبِّ عَلِيٍّ -
وَأَنَّهُ قَدْ جَاءَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تُقْطِرَ
لِي مِنْ دَمِكَ قَطْرَةً فَأَسْتَفْرِغَهُ كُلَّهُ، امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ،
وَلْيَسَعْكَ مَنْزِلُكَ، وَهَذَا سَرِيرِي فَهُوَ مَجْلِسُكَ، وَحَوَائِجُكَ
مَقْضِيَّةٌ لَدَيَّ، فَاكْفِنِي نَفْسَكَ فَإِنِّي أَعْرِفُ عِجْلَتَكَ،
فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَهَذِهِ السَّفِلَةَ وَهَؤُلَاءِ
السُّفَهَاءَ أَنْ يَسْتَنَزِلُّوكَ عَنْ رَأْيِكَ. فَقَالَ حُجْرٌ: قَدْ
فَهِمْتُ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَتَاهُ الشِّيعَةُ فَقَالُوا: مَا
قَالُ لَكَ ؟ قَالَ: قَالَ لِي كَذَا وَكَذَا. فَقَالُوا: مَا نَصَحَ لَكَ. وَسَارَ
زِيَادٌ إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ يَقُولُونَ
لَهُ: أَنْتَ شَيْخُنَا. وَإِذَا جَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ مَشَوْا مَعَهُ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ نَائِبُ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ،
يَقُولُ: مَا هَذِهِ
الْجَمَاعَةُ وَقَدْ أَعْطَيْتَ الْأَمِيرَ مَا قَدْ عَلِمْتَ ؟ فَقَالَ لِلرَّسُولِ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، إِلَيْكَ وَرَاءَكَ أَوْسَعَ لَكَ. فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ إِلَى زِيَادٍ: إِنْ كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ بِالْكُوفَةِ فَالْعَجَلَ. فَأَعْجَلَ زِيَادٌ السَّيْرَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ بَعَثَ إِلَيْهِ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ، وَخَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِيَنْهَوْهُ عَنْ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَأَتَوْهُ فَجَعَلُوا يُحَدِّثُونَهُ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، بَلْ جَعَلَ يَقُولُ: يَا غُلَامُ، اعْلِفِ الْبَكْرَ. لِبَكْرٍ مَرْبُوطٍ فِي الدَّارِ. فَقَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَمْجَنُونٌ أَنْتَ ؟ نُكَلِّمُكَ وَأَنْتَ تَقُولُ: يَا غُلَامُ، اعْلِفِ الْبَكْرَ ! ثُمَّ قَالَ عَدِيٌّ لِأَصْحَابِهِ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا الْبَائِسَ بَلَغَ بِهِ الضَّعْفُ كُلَّ مَا أَرَى. ثُمَّ نَهَضُوا فَأَخْبَرُوا زِيَادًا بِبَعْضِ الْخَبَرِ وَكَتَمُوهُ بَعْضًا، وَحَسَّنُوا أَمْرَهُ وَسَأَلُوهُ الرِّفْقَ بِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، بَلْ بَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ وَالْبُخَارِيَّةَ، فَأَتَى بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: زِيَادٌ: وَيْلَكَ مَا لَكَ ؟ قَالَ: إِنِّي عَلَى بَيْعَتِي لِمُعَاوِيَةَ. فَجَمَعَ زِيَادٌ سَبْعِينَ مِنْ وُجُوهِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا شَهَادَتَكُمْ عَلَى حُجْرٍ وَأَصْحَابِهِ. فَفَعَلُوا ثُمَّ أَوْفَدَهُمْ إِلَى مُعَاوِيَةَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائِشَةَ، فَأَرْسَلَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ تَسْأَلُهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَرَأَ كِتَابَ زِيَادٍ، وَشَهِدَ الشُّهُودُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اخْرُجُوا بِهِمْ إِلَى عَذْرَاءَ، فَاقْتُلُوهُمْ هُنَاكَ. فَذَهَبُوا بِهِمْ، ثُمَّ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ مُعَاوِيَةَ بِالتَّخْلِيَةِ عَنْهُمْ، وَأَنْ يُطْلِقُوهُمْ كُلَّهُمْ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنْهُمْ سَبْعَةً فَأَطْلَقُوا السَّبْعَةَ
الْبَاقِينَ، وَلَكِنْ كَانَ حُجْرٌ
فِيمَنْ قُتِلَ، وَكَانَ قَدْ سَأَلَهُمْ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ
يَقْتُلُوهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَطَوَّلَ فِيهِمَا، وَقَالَ: إِنَّهُمَا
لَأَخَفُّ صَلَاةٍ صَلَّيْتُهَا. وَجَاءَ رَسُولُ عَائِشَةَ بَعْدَ مَا فُرِغَ
مِنْ شَأْنِهِمْ، فَلَمَّا حَجَّ مُعَاوِيَةُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: أَيْنَ
عَزَبَ عَنْكَ حِلْمُكَ حِينَ قَتَلْتَ حُجْرًا ؟ فَقَالَ: حِينَ غَابَ عَنِّي
مِثْلُكِ مِنْ قَوْمِي.
وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ
أَقَتَلْتَ حُجْرَ بْنَ الْأَدْبَرِ ؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَتْلُهُ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ مَعَهُ مِائَةَ أَلْفٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
وَغَيْرُهُ عَنْ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنَالُونَ
مِنْ عُثْمَانَ، وَيَقُولُونَ فِيهِ مَقَالَةَ الْجَوْرِ، وَيَنْتَقِدُونَ عَلَى
الْأُمَرَاءِ، وَيُسَارِعُونَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَالِغُونَ فِي
ذَلِكَ، وَيَتَوَلَّوْنَ شِيعَةَ عَلِيٍّ، وَيَتَشَدَّدُونَ فِي الدِّينِ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُخِذَ فِي قُيُودِهِ سَائِرًا مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
الشَّامِ، تَلَقَّتْهُ بَنَاتُهُ فِي الطَّرِيقِ وَهُنَّ يَبْكِينَ، فَمَالَ
نَحْوَهُنَّ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: إِنِ الَّذِي يُطْعِمُكُنَّ
وَيَسْقِيكُنَّ وَيَكْسُوكُنَّ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ بَاقٍ لَكُنَّ بَعْدِي،
فَعَلَيْكُنَّ بِتَقْوَى اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، وَالصَّبْرِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ،
وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ أَبَدًا، فَاتَّقِينَ
اللَّهَ وَاصْبِرْنَ، فَإِنِّي لَأَرْجُو مِنْ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، فِي وَجْهِي
هَذَا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ; إِمَّا
الشَّهَادَةَ وَهِيَ السَّعَادَةُ
الْكُبْرَى، وَإِمَّا الِانْصِرَافَ إِلَيْكُنَّ فِي عَافِيَةٍ، وَإِنِّي
لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ الَّذِي كَانَ يَكْفِينِي مُؤْنَتَكُنَّ أَنْ لَا
يُضَيِّعَكُنَّ وَأَنْ يَحْفَظَنِي فَيْكُنَّ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَمَرَّ بِقَوْمِهِ
فَجَعَلُوا يَدْعُونَ اللَّهَ لَهُ بِالْعَافِيَةِ، فَأَتَوْا بِهِ
وَبِأَصْحَابِهِ مَرْجَ عَذْرَاءَ فَقُتِلُوا وَدَفَنُوهُمْ مُسْتَقْبِلِي
الْقِبْلَةِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعَفَا عَنْهُمْ. وَقَدْ قَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ
الْمُتَشَيِّعَاتِ تَرْثِي حُجْرًا، وَهِيَ هِنْدُ بِنْتُ زَيْدِ بْنِ مَخْرَمَةَ
- الْأَنْصَارِيَّةُ - وَيُقَالُ: إِنَّهَا لِهِنْدٍ أُخْتِ حُجْرٍ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ -:
تَرَفَّعْ أَيُّهَا الْقَمَرُ الْمُنِيرُ تَبَصَّرْ هَلْ تَرَى حُجْرًا يَسِيرُ
يَسِيرُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حَرْبٍ لِيَقْتُلَهُ كَمَا زَعَمَ الْأَمِيرُ
يَرَى قَتْلَ الْخِيَارِ عَلَيْهِ حَقًّا لَهُ مِنْ شَرِّ أُمَّتِهِ وَزِيرُ
أَلَّا يَا لَيْتَ حُجْرًا مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُنْحَرْ كَمَا نُحِرَ الْبَعِيرُ
تَجَبَّرَتِ الْجَبَابِرُ بَعْدَ حُجْرٍ وَطَابَ لَهَا الْخَوَرْنَقُ وَالسَّدِيرُ
وَأَصْبَحَتِ الْبِلَادُ لَهُ مُحُولًا كَأَنْ لَمْ يُحْيِهَا مُزْنٌ مَطِيرُ
أَلَّا يَا حُجْرُ حُجْرَ بَنِي عَدِيٍّ تَلَقَّتْكَ السَّلَامَةُ وَالسُّرُورُ
أَخَافُ عَلَيْكَ مَا أَرْدَى عَدِيٍّا
وَشَيْخًا فِي دِمَشْقَ لَهُ زَئِيرُ
فَإِنْ تَهْلِكْ فَكُلُّ زَعِيمِ قَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى هُلْكٍ يَصِيرُ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ لَهُ مَرَاثِيَ كَثِيرَةً.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ
عَلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ عَلَى قَتْلِ أَهْلِ عَذْرَاءَ حُجْرٍ
وَأَصْحَابِهِ ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي رَأَيْتُ فِي
قَتْلِهِمْ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ، وَفِي بَقَائِهِمْ فَسَادًا لِلْأُمَّةِ.
فَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" سَيُقْتَلُ بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ
السَّمَاءِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ
أَبِي الْأَسْوَدِ، أَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: بَلَغَنِي أَنَّهُ سَيُقْتَلُ
بِعَذْرَاءَ أُنَاسٌ يَغْضَبُ اللَّهُ لَهُمْ وَأَهْلُ السَّمَاءِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ
لَهِيعَةَ،
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زُرَيرٍ الْغَافِقِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا
يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، سَيُقْتَلُ مِنْكُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ
بِعَذْرَاءَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ. قَالَ: فَقُتِلَ حُجْرٌ
وَأَصْحَابُهُ. ابْنُ لَهِيعَةَ ضَعِيفٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ
نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ فِي السُّوقِ، فَنُعِيَ لَهُ حُجْرٌ،
فَأَطْلَقَ حُبْوَتَهُ، وَقَامَ وَغَلَبَ عَلَيْهِ النَّحِيبُ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ عَفَّانَ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ
أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَقَتَلْتَ
حُجْرًا ؟ فَقَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي وَجَدْتُ قَتْلَ رَجُلٍ فِي
صَلَاحِ النَّاسِ خَيْرًا مِنِ اسْتِحْيَائِهِ فِي فَسَادِهِمْ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ
عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: يَا مُعَاوِيَةُ، قَتَلْتَ
حُجْرًا وَأَصْحَابَهُ وَفَعَلْتَ الَّذِي فَعَلْتَ، أَمَّا خَشِيتَ أَنْ
أُخَبِّئَ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ ؟ فَقَالَ: لَا، إِنِّي فِي بَيْتِ الْأَمَانِ،
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ،
لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ". يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ أَنَا فِيمَا
سِوَى ذَلِكَ مِنْ حَاجَاتِكَ وَأَمْرِكَ ؟ قَالَتْ: صَالِحٌ. قَالَ: فَدَعِينِي
وَحُجْرًا حَتَّى نَلْتَقِيَ عِنْدَ رَبِّنَا، عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا حَجَبَتْهُ وَقَالَتْ: لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا.
فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ حَتَّى دَخَلَ، فَلَامَتْهُ فِي قَتْلِهِ حُجْرًا،
فَلَمْ يَزَلْ يَعْتَذِرُ حَتَّى عَذَرَتْهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا كَانَتْ تَتَوَعَّدُهُ وَتَقُولُ: لَوْلَا يَغْلِبُنَا
سُفَهَاؤُنَا لَكَانَ لِي وَلِمُعَاوِيَةَ فِي قَتْلِهِ حُجْرًا شَأْنٌ. فَلَمَّا
اعْتَذَرَ إِلَيْهَا عَذَرَتْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى زِيَادٌ عَلَى خُرَاسَانَ
بَعْدَ مَوْتِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو، الرَّبِيعَ بْنَ زِيَادٍ الْحَارِثِيَّ،
فَفَتَحَ بَلْخَ صُلْحًا، وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوهَا بَعْدَمَا صَالَحَهُمُ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَفَتَحَ قُوهِسْتَانَ عَنْوَةً، وَكَانَ عِنْدَهَا
أَتْرَاكٌ فَقَتَلَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا نَيْزَكُ طَرْخَانَ،
فَقَتَلَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَفِيهَا
غَزَا الرَّبِيعُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَكَانَ قَدْ قَطَعَ
مَا وَرَاءَ النَّهْرِ قَبْلَهُ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ
شَرِبَ مِنَ النَّهْرِ غُلَامٌ لِلْحَكَمِ، فَسَقَى سَيِّدَهُ، وَتَوَضَّأَ
الْحَكَمُ وَصَلَّى وَرَاءَ النَّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ
الرَّبِيعُ هَذَا غَزَا مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، فَغَنِمَ وَسَلِمَ. وَفِيهَا حَجَّ
بِالنَّاسِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، فِيمَا قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ
وَالْوَاقِدِيُّ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
" الْمُنْتَظِمِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ
الْأَكَابِرِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَحُجْرُ بْنُ
عَدِيٍّ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَنِيسٍ، وَأَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ الثَّقَفِيُّ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَأَمَّا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
فَأَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ فِي رَمَضَانَ
سَنَةَ عَشْرٍ، وَكَانَ قُدُومُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، وَكَانَ قَدْ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: " إِنَّهُ يَقْدَمُ
عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْفَجِّ مِنْ خَيْرِ ذِي يَمَنٍ، وَإِنَّ عَلَى وَجْهِهِ
مَسْحَةَ مَلَكٍ ". فَلَمَّا دَخَلَ جَرِيرٌ رَمَاهُ النَّاسُ
بِأَبْصَارِهِمْ يَنْظُرُونَ. وَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى.
وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
جَالَسَهُ بَسَطَ لَهُ رِدَاءَهُ وَقَالَ: " إِذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ
فَأَكْرَمُوهُ ". وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى ذِي الْخَلَصَةِ - وَهُوَ بَيْتٌ كَانَتْ تُعَظِّمُهُ دَوْسٌ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ - فَذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: "
اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا ". فَذَهَبَ إِلَيْهِ
فَهَدَمَهُ. وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا
حَجَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمْتُ،
وَلَا رَآنِي إِلَّا تَبَسَّمَ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: جَرِيرٌ
يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
عُمَيْرٍ: رَأَيْتُ جَرِيرًا كَأَنَّ وَجْهَهُ شَقَّةُ قَمَرٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ جَرِيرٌ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَ عُمَرَ فِي بَيْتٍ،
فَاشْتَمَّ عُمَرُ مِنْ بَعْضِهِمْ رِيحًا، فَقَالَ: عَزَمْتُ عَلَى صَاحِبِ
هَذِهِ الرِّيحِ لَمَا قَامَ فَتَوَضَّأَ. فَقَالَ جَرِيرٌ أَوَ نَقُومُ كُلُّنَا
فَنَتَوَضَّأَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ السَّيِّدُ
كَنْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِعْمَ السَّيِّدُ أَنْتَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ كَانَ عَامِلًا لِعُثْمَانَ عَلَى هَمَذَانَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُصِيبَتْ
عَيْنُهُ هُنَاكَ. فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ،
وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِالْجَزِيرَةِ حَتَّى تُوُفِّيَ بِالسَّرَاةِ سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَقِيلَ:
سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ.
وَأَمَّا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
فَأَسْلَمَ مَعَ أَبِيهِ حِينَ تَلَقَّيَاهُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَامَ
الْفَتْحِ، فَلَمَّا رَدَّهُمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَئِنْ
لَمْ يَأْذَنْ لِي لَآخُذَنَّ بِيَدِ
بُنَيَّ هَذَا فَأَذْهَبَنَّ فِي الْأَرْضِ، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ أَذْهَبُ.
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ
لَهُ وَأَذِنَ لَهُ، وَقَبِلَ إِسْلَامَهُمَا، فَأَسْلَمَا إِسْلَامًا حَسَنًا،
بَعْدَ مَا كَانَ أَبُو سُفْيَانَ هَذَا يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذًى كَثِيرًا، وَشَهِدَ حُنَينًا، وَكَانَ مِمَّنْ ثَبَتَ
يَوْمَئِذٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَأَمَّا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ
فَشَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنْ
فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَقَاعِدِ يَتَحَدَّثَانِ بَعْدَ
خَيْبَرَ. وَأَنَّهُ رَآهُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ. وَفِي
الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
قِرَاءَتَهُ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانِ كَانَ قَدْ كُفَّ
بَصَرُهُ، فَجَعَلَ خَيْطًا مِنْ مُصَلَّاهِ إِلَى بَابِ حُجْرَتِهِ، وَكَانَ
يَضَعُ عِنْدَهُ مِكْتَلًا فِيهِ تَمْرٌ وَغَيْرُهُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْمِسْكِينُ
أَخَذَ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ، ثُمَّ أَخَذَ يُمْسِكُ
بِذَلِكَ الْخَيْطِ حَتَّى يَضَعَ
ذَلِكَ فِي يَدِ الْمِسْكِينِ، وَكَانَ أَهْلُهُ يَقُولُونَ لَهُ: نَحْنُ
نَكْفِيكَ ذَلِكَ. فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ مُنَاوَلَةَ الْمِسْكِينِ تَقِي مَيْتَةَ
السُّوءِ ". وَأَمَّا حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ
مَبْسُوطَةً.
وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْقُرَشِيُّ أَبُو
الْأَعْوَرِ الْعَدَوِيُّ
فَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُخْتُهُ عَاتِكَةُ زَوْجَةُ عُمَرَ، وَأُخْتُ عُمَرَ
فَاطِمَةُ زَوْجَةُ سَعِيدٍ. أَسْلَمَ قَبْلَ عُمَرَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ،
وَهَاجَرَا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ.
قَالَ عُرْوَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
وَالْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ
بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَطَلْحَةُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ قُرَيْشٍ، فَلَمْ
يَرْجِعَا حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ، فَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِمَا وَأَجْرِهِمَا.
وَلَمْ يَذْكُرْهُ عُمَرُ فِي أَهْلِ الشُّورَى لِئَلَّا يُحَابَى بِسَبَبِ
قَرَابَتِهِ مِنْ عُمَرَ فَيُوَلَّى، فَتَرَكَهُ لِذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ
مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْجَنَّةِ فِي جُمْلَةِ الْعَشَرَةِ، كَمَا صَحَّتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ
الْمُتَعَدِّدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَلَمْ يَتَوَلَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِلَايَةً، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ
بِالْكُوفَةِ، وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ. وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قَالَ الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُ: سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَكَانَ رَجُلًا طُوَالًا أَشْعَرَ، وَقَدْ غَسَّلَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ،
وَحُمِلَ مِنَ الْعَقِيقِ عَلَى رِقَابِ الرِّجَالِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَ
عُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَأَمَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ الْجُهَنِيُّ أَبُو يَحْيَى الْمُدْنِيُّ
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَشَهِدَ مَا
بَعْدَهَا، وَكَانَ هُوَ وَمُعَاذٌ يَكْسِرَانِ أَصْنَامَ الْأَنْصَارِ. لَهُ فِي
" الصَّحِيحِ " حَدِيثٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ. وَهُوَ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ، فَقَتَلَهُ بَعُرَنَةَ،
وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِخْصَرَةً،
وَقَالَ: " هَذِهِ آيَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
فَأَمْرَ بِهَا. فَدُفِنَتْ مَعَهُ فِي أَكْفَانِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ ثَمَانِينَ.
وَأَمَّا أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ
الْحَارِثِ
بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلَاجِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ،
فَصَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَيُقَالُ: كَانَ اسْمَهُ مَسْرُوحٌ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرَةَ. لِأَنَّهُ تَدَلَّى فِي بَكْرَةَ يَوْمَ
الطَّائِفِ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكُلَّ مَنْ نَزَلَ مِنْ مَوَالِيهِمْ يَوْمَئِذٍ. وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ هِيَ
أُمُّ زِيَادٍ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
بِالزِّنَى هُوَ وَأَخُوهُ زِيَادٌ، وَمَعَهُمَا شِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ، وَنَافِعُ
بْنُ الْحَارِثِ، فَلَمَّا تَلَكَّأَ زِيَادٌ فِي الشَّهَادَةِ جَلَدَ عُمَرُ
الثَّلَاثَةَ الْبَاقِينَ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ فَتَابُوا إِلَّا أَبَا بَكْرَةَ
فَإِنَّهُ صَمَّمَ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، اشْفِنِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ. فَنَهَرَهُ عُمَرُ وَقَالَ لَهُ:
اسْكُتْ لَوْ كَمَلَتِ الشَّهَادَةُ لَرَجَمْتُكَ بِأَحْجَارِكَ. وَكَانَ أَبُو
بَكْرَةَ خَيْرَ هَؤُلَاءِ الشُّهُودِ، وَكَانَ مِمَّنِ اعْتَزَلَ الْفِتَنَ،
فَلَمْ يَحْضُرْ شَيْئًا مِنْهَا، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ:
قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو
بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ، وَكَانَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ
الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ، تَزَوَّجَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ
سَنَةَ سَبْعٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ ابْنَ أُخْتِهَا أُمِّ الْفَضْلِ
لُبَابَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ: تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. أَخْرَجَاهُ. وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " عَنْهَا أَنَّهُمَا كَانَا حَلَالَيْنِ. وَقَوْلُهَا مُقَدَّمٌ
عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي رَافِعٍ - وَكَانَ هُوَ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا
- أَنَّهُمَا كَانَا حَلَالَيْنِ. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهَا بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ. وَتُوُفِّيتُ
بِسَرَفٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ حَيْثُ بَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَالْمَشْهُورُ
الْأَوَّلُ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ أُخْتِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ
فِيهَا غَزَا بِلَادَ الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ
الْأَزْدِيُّ، فَمَاتَ هُنَالِكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْجُنْدِ بَعْدَهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنِ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ
الْغَزْوِ بِبِلَادِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ،
وَمَعَهُ سُفْيَانُ بْنُ عَوْفٍ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ
بْنُ الْعَاصِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ
وَغَيْرُهُمَا. وَغَزَا الصَّائِفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ.
وَعُمَّالُ الْأَمْصَارِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَّالُهَا فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ.
ذِكْرُ مِنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ، أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ
الْخَزْرَجِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْعَقَبَةَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَشَهِدَ
مَعَ عَلِيٍّ قِتَالَ الْحَرَورِيَّةِ، وَفِي دَارِهِ كَانَ نُزُولُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا
مِنْ مَكَّةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ شَهْرًا حَتَّى بَنَى الْمَسْجِدَ وَمَسَاكِنَهُ
حَوْلَهُ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ أَبُو أَيُّوبَ أَنْزَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفْلِ الدَّارِ، ثُمَّ
تَحَرَّجَ مِنْ أَنْ يَعْلُوَ فَوْقَهُ، فَسَأَلَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصْعَدَ إِلَى الْعُلْوِ، وَيَكُونُ هُوَ
وَأُمُّ أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو أَيُّوبَ الْبَصْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ
نَائِبَهَا، فَخَرَجَ لَهُ عَنْ دَارِهِ وَأَنْزَلَهُ بِهَا، فَلَمَّا أَرَادَ
الِانْصِرَافَ خَرَجَ لَهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِهَا، وَزَادَهُ تُحَفًا وَخَدَمًا
كَثِيرًا، وَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعِينَ عَبْدًا ; إِكْرَامًا
لَهُ لِمَا كَانَ أَنْزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
دَارِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الشَّرَفِ لَهُ. وَهُوَ الْقَائِلُ
لِزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبَ حِينَ قَالَتْ لَهُ: أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ
النَّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ فَقَالَ لَهَا: أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أُمَّ
أَيُّوبَ ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَهِيَ خَيْرٌ مِنْكِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا الْآيَةَ [ النُّورِ: 12 ]. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِبِلَادِ الرُّومِ قَرِيبًا مِنْ سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبِلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا.
وَكَانَ فِي جَيْشِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَإِلَيْهِ أَوْصَى، وَهُوَ الَّذِي
صَلَّى عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ، ثَنَا
عَاصِمٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ أَهْلِ مَكَّةَ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ
أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي غَزَا فِيهِ أَبُو أَيُّوبَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاقْرَءُوا عَلَى النَّاسِ
مِنِّي السَّلَامَ، وَأَخْبِرُوهُمْ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا
جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ ". وَلِيَنْطَلِقُوا بِي فَيَبْعُدُوا بِي
فِي أَرْضِ الرُّومِ مَا اسْتَطَاعُوا. قَالَ: فَحَدَّثَ النَّاسَ لَمَّا مَاتَ
أَبُو أَيُّوبَ، فَاسْتَلْأَمَ النَّاسُ وَانْطَلَقُوا بِجِنَازَتِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي ظَبْيَانَ قَالَ: غَزَا أَبُو أَيُّوبَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ: فَقَالَ: إِذَا مُتُّ فَأَدْخَلُونِي فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ، فَادْفِنُونِي
تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ حَيْثُ تَلْقَونَ الْعَدُوَّ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ
لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ الْجَنَّةَ ". وَرَوَاهُ أَحْمَدُ
عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ وَيَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، سَمِعْتُ أَبَا
ظَبْيَانَ، فَذَكَرَهُ، وَقَالَ فِيهِ: وَسَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْلَا حَالِي هَذَا
مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخْلَ
الْجَنَّةَ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ قَاصُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي
صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ: قَدْ كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لَوْلَا أَنَّكُمْ
تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ قَوْمًا يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ".
وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَالَّذِي قَبِلَهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَ يَزِيدَ
بْنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الْأَرْجَاءِ، وَرَكِبَ بِسَبَبِهِ أَفْعَالًا
كَثِيرَةً أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي تَرْجَمَتِهِ. وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ..
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ أَبُو أَيُّوبَ بِأَرْضِ الرُّومِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ، وَدُفِنَ عِنْدَ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَقَبْرُهُ
هُنَالِكَ يَسْتَسْقِي بِهِ الرُّومُ إِذَا قَحَطُوا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَدْفُونٌ
فِي حَائِطِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَعَلَى قَبْرِهِ مَزَارٌ وَمَسْجِدٌ، وَهُمْ
يُعَظِّمُونَهُ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ. وَالْأَوَّلُ أَثْبَتُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ،
ثَنَا دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، ثَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ
مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَتَوَجَّهَانِ إِلَى الْمَسْجِدِ
فَيُصَلِّيَانِ، فَيَنْصَرِفُ أَحَدُهُمَا وَصَلَاتُهُ أَوزَنُ مِنْ أُحِدٍ
وَيَنْصَرِفُ الْآخَرُ وَمَا تَعْدِلُ صَلَاتُهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ".
فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعَدِيُّ: وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَحْسَنَهُمَا عَقْلًا ". قَالَ:
وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: " إِذَا كَانَ أَوْرَعَهُمَا عَنْ مَحَارِمِ
اللَّهِ وَأَحْرَصَهُمَا عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنْ كَانَ
دُونَهُ فِي التَّطَوُّعِ ".
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ وَيُوجِزَ،
فَقَالَ لَهُ: " إِذَا صَلَّيْتَ
صَلَاةً فَصَلِّ صَلَاةَ مُودِّعٍ، وَلَا تَكَلَّمَنَّ بِكَلَامٍ تَعْتَذِرُ
مِنْهُ، وَأَجْمِعِ الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ".
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سُلَيْمِ
بْنِ حِضَارِ بْنِ حَرْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَنْزِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
عُذْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ نَاجِيَةِ بْنِ جُمَاهِرِ بْنِ الْأَشْعَرِ
الْأَشْعَرِيِّ الْيَمَانِيِّ، أَسْلَمَ بِبِلَادِهِ، وَقَدِمَ مَعَ جَعْفَرٍ
وَأَصْحَابِهِ عَامَ خَيْبَرَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ هَاجَرَ
أَوَّلًا إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَلَيْسَ هَذَا
بِالْمَشْهُورِ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَعَ مُعَاذٍ عَلَى الْيَمَنَ، وَاسْتَنَابَهُ عُمَرُ عَلَى
الْبَصْرَةِ، وَفَتَحَ تُسْتَرَ وَشَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ،
وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ وَكَانَ أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ بَيْنَ عَلِيٍّ
وَمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا خَدَعَ عَمْرٌو أَبَا مُوسَى.
وَكَانَ مِنْ قُرَّاءِ الصَّحَابَةِ وَفُقَهَائِهِمْ، وَكَانَ أَحْسَنَ
الصَّحَابَةِ صَوْتًا فِي زَمَانِهِ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: مَا
سَمِعْتُ صَوْتَ صَنْجٍ وَلَا بِرَبْطٍ وَلَا مِزْمَارٍ أَطْيَبَ مِنْ صَوْتِ
أَبِي مُوسَى. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ
مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ ". وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَهُ: ذَكِّرْنَا رَبَّنَا
يَا أَبَا مُوسَى.
فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْمَعُونَ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَتَبَ عُمَرُ فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ لَا يُقَرَّ لِي
عَامِلٌ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ إِلَّا أَبَا مُوسَى، فَلْيُقَرَّ أَرْبَعَ سِنِينَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ
قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ
غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ لَمَّا
اعْتَزَلَ النَّاسَ بَعْدَ التَّحْكِيمِ، وَقِيلَ: بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
الثَّوِيَّةُ. عَلَى مِيلَيْنِ مِنِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ قَصِيرًا نَحِيفَ
الْجِسْمِ، أَثَطَّ، أَيْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا مِنَ
الصَّحَابَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ الْمُزَنِيُّ
وَكَانَ أَحَدَ الْبَكَّائِينَ، وَأَحَدَ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ عُمَرُ
إِلَى الْبَصْرَةِ لِيُفَقِّهُوا النَّاسَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ تُسْتَرَ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَتْحِهَا. لَكِنِ الصَّحِيحَ مَا حَكَاهُ
الْبُخَارِيُّ عَنْ مُسَدَّدٍ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ،
وَكَانَ هُنَاكَ مَكَانٌ مِنْ
وَصَلَ إِلَيْهِ نَجَا، فَجَعَلَ
يُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ
وَعِنْدَكَ مَا عِنْدَكَ ؟ فَاسْتَيْقَظَ، فَعَمَدَ إِلَى عَيْبَةٍ عِنْدَهُ
فِيهَا ذَهَبٌ كَثِيرٌ، فَلَمْ يُصْبِحْ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ إِلَّا وَقَدْ
فَرَّقَهَا فِي الْمَسَاكِينِ وَالْمَحَاوِيجِ وَالْأَقَارِبِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ خَلَفٍ، أَبُو
نُجَيدٍ الْخُزَاعِيُّ
أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ خَيْبَرَ وَشَهِدَ غَزَوَاتٍ، وَكَانَ
مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، اسْتَقْضَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَلَى
الْبَصْرَةِ فَحَكَمَ بِهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَاهُ فَأَعْفَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا
حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ: مَا قَدِمَ
الْبَصْرَةَ رَاكِبٌ خَيْرٌ مِنْهُ.
وَقَدْ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اكْتَوَى انْقَطَعَ
عَنْهُ سَلَامُهُمْ، ثُمَّ عَادُوا فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِقَلِيلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ أَيْضًا.
كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي نَزَلَتَ فِيهِ آيَةُ الْفِدْيَةِ فِي
الْحَجِّ. مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِسَنَةٍ. عَنْ خَمْسٍ
أَوْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجِ بْنِ جَفْنَةَ بْنِ قَتِيرَةَ الْكِنْدِيُّ
الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
صَحَابِيٌّ
عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ،
وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي التَّابِعَيْنِ مِنَ " الثِّقَاتِ "،
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ شَهِدَ فَتَحَ مِصْرَ، وَهُوَ الَّذِي وَفَدَ إِلَى
عُمَرَ بِفَتْحِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَشَهِدَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ
بْنِ أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ الْبَرْبَرِ، وَذَهَبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَئِذٍ، وَوَلِيَ
حُرُوبًا كَثِيرَةً فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ عُثْمَانِيًّا فِي أَيَّامِ
عَلِيٍّ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَمْ يُبَايِعْ عَلِيًّا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا
أَخَذَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِصْرَ أَكْرَمَهُ، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ
بِهَا بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَإِنَّهُ نَابَ بِهَا
بَعْدَ أَبِيهِ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ عَزَلَهُ مُعَاوِيَةُ وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ بْنَ
حُدَيْجٍ هَذَا، فَلَمْ يَزَلْ بِمِصْرَ حَتَّى مَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ، أَبُو بُرْدَةَ الْبَلْوِيُّ، وَهُوَ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ
الْمَخْصُوصُ بِذَبْحِ الْعَنَاقِ وَإِجْزَائِهَا عَنْ غَيْرِهَا مِنَ
الْأَضَاحِيِّ، وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا،
وَكَانَتْ رَايَةُ بَنِي حَارِثَةَ مَعَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ
فَفِيهَا غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ بِلَادَ
الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا. وَفِيهَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ - وَعَلَيْهِمْ
جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ - جَزِيرَةَ رُودِسَ، فَأَقَامَ بِهَا طَائِفَةٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَى الْكُفَّارِ، يَعْتَرِضُونَ
لَهُمْ فِي الْبَحْرِ، وَيَقْطَعُونَ سَبِيلَهُمْ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُدِرُّ
عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ وَالْأُعْطِيَاتِ الْجَزِيلَةَ، وَكَانُوا عَلَى حَذَرٍ
شَدِيدٍ مِنَ الْفِرِنْجِ، يَبِيتُونَ فِي حِصْنٍ عَظِيمٍ عِنْدَهُمْ فِيهِ
حَوَائِجُهُمْ وَدَوَابُّهُمْ وَحَوَاصِلُهُمْ، وَلَهُمْ نَوَاطِيرُ عَلَى
الْبَحْرِ يُنْذِرُونَهُمْ إِنْ قَدِمَ عَدُوٌّ أَوْ كَادَهُمْ أَحَدٌ وَمَا
زَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ إِمَارَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ
أَبِيهِ، فَأَقْفَلَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ
لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَزِرَاعَاتٌ غَزِيرَةٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَالِي
الْمَدِينَةِ. قَالَهُ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ،
كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ هَذِهِ التَّرَاجِمِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الرَّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْحَارِثِيُّ اخْتُلِفَ فِي
صُحْبَتِهِ، وَكَانَ نَائِبَ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ حُجْرَ
بْنَ عَدِيٍّ فَتَأَسَّفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ ثَارَتِ الْعَرَبُ
لَهُ لَمَا قُتِلَ صَبْرًا، وَلَكِنْ أَقَرَّتِ الْعَرَبُ فَذَلَّتْ. ثُمَّ لَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ دَعَا اللَّهَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يَقْبِضَهُ
إِلَيْهِ، فَمَا عَاشَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
عَمَلِهِ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الرَّبِيعِ، فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ عَلَى ذَلِكَ، فَمَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ
بِشَهْرَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى عَمَلِهِ بِخُرَاسَانَ خُلَيْدَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَنَفِيَّ، فَأَقَرَّهُ زِيَادٌ.
وَرُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَلَهُ آثَارٌ جَيِّدَةٌ فِي فَتْحِ
بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَمَاتَ بِبَرْقَةَ وَالِيًا مِنْ جِهَةِ مَسْلَمَةَ بْنِ
مُخَلَّدٍ نَائِبِ مِصْرَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِيَادُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - وَيُقَالُ لَهُ زِيَادُ ابْنُ
أَبِيهِ وَ: زِيَادُ ابْنُ سُمَيَّةَ. وَهِيَ أُمُّهُ - فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ مَطْعُونًا، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ
يَقُولُ لَهُ: إِنِّي قَدْ ضَبَطْتُ لَكَ الْعِرَاقَ بِشِمَالِي، وَيَمِينِي
فَارِغَةٌ. وَهُوَ يُعَرِّضُ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَهُ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ أَيْضًا،
فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَ الْحِجَازِ ذَلِكَ جَاءُوا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَخَافُوا أَنْ يَلِيَ
عَلَيْهِمْ زِيَادٌ، فَيَعْسِفَهُمْ كَمَا عَسَفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَقَامَ
ابْنُ عُمَرَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَدَعَا عَلَى زِيَادٍ وَالنَّاسُ
يُؤَمِّنُونَ، فَطُعِنَ زِيَادٌ بِالْعِرَاقِ فِي يَدِهِ فَضَاقَ ذَرْعًا
بِذَلِكَ، وَاسْتَشَارَ شُرَيْحًا الْقَاضِيَ فِي قَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ
شُرَيْحٌ: إِنِّي لَا أَرَى لَكَ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ، فَإِنَّهُ إِنْ
لَمْ يَكُنْ فِي الْأَجَلِّ فُسْحَةٌ لَقِيتَ اللَّهَ أَجْذَمَ قَدْ قَطَعْتَ
يَدَكَ جَزَعًا مِنْ لِقَائِهِ، وَإِنْ كَانَ لَكَ أَجْلٌ بَقِيتَ فِي النَّاسِ
أَجْذَمَ فَيُعَيَّرُ وَلَدُكَ بِذَلِكَ. فَصَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ
شُرَيْحٌ مِنْ عِنْدِهِ عَاتَبَهُ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالُوا: هَلَّا تَرَكَتْهُ
فَقَطَعَ يَدَهُ ؟ فَقَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ ". وَيُقَالُ: إِنَّ
زِيَادًا جَعَلَ يَقُولُ: أَأَنَامَ
أَنَا وَالطَّاعُونُ فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ ؟ فَعَزَمَ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ،
فَلَمَّا جِيءَ بِالْمَكَاوِي وَالْحَدِيدِ خَافَ مِنْ ذَلِكَ، فَتَرَكَ ذَلِكَ.
وَذُكِرَ أَنَّهُ جَمَعَ مِائَةً وَخَمْسِينَ طَبِيبًا لِيُدَاوُوهُ مِمَّا يَجِدُ
مِنَ الْحَرِّ فِي بَاطِنِهِ، مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَطِبَّاءَ مِمَّنْ كَانَ
يَطِبُّ كِسْرَى بْنَ هُرْمُزَ فَعَجَزُوا عَنْ رَدِّ الْقَدَرِ الْمَحْتُومِ
وَالْأَمْرِ الْمَحْمُومِ، فَمَاتَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَقَدْ قَامَ فِي إِمْرَةِ الْعِرَاقِ خَمْسَ سِنِينَ. وَدُفِنَ بِالثَّوِيَّةِ
خَارِجَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ كَانَ بَرَزَ مِنْهَا قَاصِدًا الْحِجَازَ أَمِيرًا
عَلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَوْتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ:
اذْهَبْ إِلَيْكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، فَلَا الدُّنْيَا بَقِيَتْ لَكَ، وَلَا
الْآخِرَةَ أَدْرَكْتَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ ثَعْلَبَةَ أَبُو الْمُقَوَّمِ
الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ السَّائِبِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: جَمَعَ زِيَادٌ أَهْلَ الْكُوفَةِ،
فَمَلَأَ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ وَالرَّحْبَةَ وَالْقَصْرَ ; لِيَعْرِضَهُمْ عَلَى
الْبَرَاءَةِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ
فَإِنِّي لَمَعَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ
عَظِيمٍ مِنْ ذَلِكَ وَفِي حَصْرٍ. قَالَ: فَهَوَّمْتُ تَهْوِيمَةً - أَيْ
نَعَسْتُ نَعْسَةً - فَرَأَيْتُ شَيْئًا أَقْبَلَ طَوِيلَ الْعُنُقِ، لَهُ عُنُقٌ
مِثْلَ عُنُقِ الْبَعِيرِ، أَهْدَبَ أَهْدَلَ فَقُلْتُ: مَا أَنْتَ ؟
فَقَالَ: أَنَا النَّقَّادُ ذُو
الرَّقَبَةِ، بُعِثْتُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْقَصْرِ. فَاسْتَيْقَظْتُ فَزِعًا،
فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: هَلْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ ؟ قَالُوا: لَا.
فَأَخْبَرْتُهُمْ، وَخَرَجَ عَلَيْنَا خَارِجٌ مِنَ الْقَصْرِ فَقَالَ: إِنَّ
الْأَمِيرَ يَقُولُ لَكُمْ: انْصَرِفُوا عَنِّي، فَإِنِّي عَنْكُمْ مَشْغُولٌ.
وَإِذَا الطَّاعُونُ قَدْ أَصَابَهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ زِيَادًا لَمَّا وَلِيَ الْكُوفَةَ سَأَلَ
عَنْ أَعَبْدِ أَهْلِهَا، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْمُغِيرَةِ الْحِمْيَرِيُّ.
فَجَاءَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: الْزَمْ بَيْتَكَ وَلَا تَخْرُجْ مِنْهُ وَأَنَا
أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ مَا شِئْتَ. فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مُلْكَ
الْأَرْضِ مَا تَرَكْتُ خُرُوجِي لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ. فَقَالَ: الْزَمِ
الْجَمَاعَةَ وَلَا تَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ تَرْكَ
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَلَمَّا احْتَضَرَ قَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَةِ، قَدْ هَيَّأْتُ لَكَ سِتِّينَ
ثَوْبًا أُكَفِّنُكَ فِيهَا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، قَدْ دَنَا مِنْ أَبِيكَ
أَمْرٌ ; إِمَّا لِبَاسٌ خَيْرٌ مِنْ لِبَاسِهِ وَإِمَّا سَلْبٌ سَرِيعٌ.
وَصَعْصَعَةُ بْنُ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ
مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمٍ الدَّارِمِيُّ
كَانَ سَيِّدًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِي الْإِسْلَامِ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَحْيَا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ مَوْءُودَةً. وَقِيلَ:
أَرْبَعَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سِتًّا وَتِسْعِينَ مَوْءُودَةً. فَلَمَّا أَسْلَمَ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَكَ
أَجْرُ ذَلِكَ إِذْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالْإِسْلَامِ ".
وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا
أَحْيَى الْمَوْءُودَةَ أَنَّهُ ذَهَبَ فِي طَلَبِ نَاقَتَيْنِ شَرَدَتَا لَهُ.
قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا فِي اللَّيْلِ أَسِيرُ إِذَا أَنَا بِنَارٍ تُضِيءُ
مَرَّةً وَتَخْبُو أُخْرَى، فَجَعَلْتُ لَا أَهْتَدِي إِلَيْهَا، فَقُلْتُ:
اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ إِنْ أَوْصَلْتَنِي إِلَيْهَا أَنْ أَدْفَعَ عَنْ
أَهْلِهَا ضَيْمًا إِنْ وَجَدْتُهُ بِهِمْ. قَالَ: فَوَصَلْتُ إِلَيْهَا، وَإِذَا
شَيْخٌ كَبِيرٌ يُوقِدُ نَارًا، وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ، فَقُلْتُ: مَا
أَنْتُنَّ ؟ فَقُلْنَ: إِنَّ هَذِهِ امْرَأَةٌ قَدْ حَبَسَتْنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ،
تَطْلَقُ وَلَمْ تَخْلُصْ. فَقَالَ الشَّيْخُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ: وَمَا خَبَرُكَ
؟ فَقُلْتُ: إِنِّي فِي طَلَبِ نَاقَتَيْنِ شَرَدَتَا لِي. فَقَالَ: قَدْ
وَجَدْتُهُمَا، إِنَّهُمَا لَفِي إِبِلِنَا. قَالَ: فَنَزَلْتُ عِنْدَهُ. قَالَ:
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ نَزَلْتُ إِذْ قُلْنَ: وَضَعَتْ. فَقَالَ الشَّيْخُ: إِنْ
كَانَ ذَكَرًا فَارْتَحِلُوا، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَلَا تُسْمِعْنَنِي
صَوْتَهَا. فَقُلْتُ: عَلَامَ تَقْتُلُ وَلَدَكَ وَرِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ ؟
فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا. فَقُلْتُ: أَنَا أَفْتَدِيهَا مِنْكَ
وَأَتْرُكُهَا عِنْدَكَ حَتَّى تَبِينَ عَنْكَ أَوْ تَمُوتَ. قَالَ: بِكَمْ ؟
قُلْتُ. بِإِحْدَى نَاقَتَيَّ. قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَبِهِمَا. قَالَ: لَا إِلَّا
أَنَّ تَزِيدَنِي بَعِيرَكَ هَذَا، فَإِنِّي أَرَاهُ شَابًّا حَسَنَ اللَّوْنِ.
قُلْتُ: نَعَمْ، عَلَى أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى أَهْلِي. قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا
خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِمْ، رَأَيْتُ أَنَّ الَّذِي صَنَعْتُهُ نِعْمَةٌ مِنَ
اللَّهِ مَنَّ بِهَا عَلَيَّ هَدَانِي إِلَيْهَا، فَجَعَلْتُ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ
لَا أَجِدَ مَوْءُودَةً إِلَّا افْتَدَيْتُهَا كَمَا افْتَدَيْتُ هَذِهِ. قَالَ:
فَمَا جَاءَ الْإِسْلَامُ حَتَّى أَحْيَيْتُ مِائَةَ مَوْءُودَةٍ إِلَّا أَرْبَعًا،
وَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ الْمَذْكُورِينَ
جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ الْغَسَّانِيُّ مَلِكُ نَصَارَى الْعَرَبِ، وَهُوَ
جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ،
وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ
الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ مَارِيَةَ ذَاتِ الْقُرْطَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ ثَعْلَبَةَ
بْنِ عَمْرِو بْنِ جَفْنَةَ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ
امْرِئِ الْقَيْسِ، وَمَارِيَةُ هِيَ بِنْتُ أَرْقَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ جَفْنَةَ، وَيُقَالُ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ، وَكُنْيَةُ
جَبَلَةَ أَبُو الْمُنْذِرِ الْغَسَّانِيُّ الْجَفْنِيُّ، وَكَانَ مَلِكُ
غَسَّانَ، وَهُمْ نَصَارَى الْعَرَبِ أَيَّامَ هِرَقْلَ، وَغَسَّانُ أَوْلَادُ
عَمِّ الْأَنْصَارِ ; أَوْسِهَا وَخَزْرَجِهَا، وَكَانَ جَبَلَةُ آخِرَ مُلُوكِ
غَسَّانَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كِتَابًا مَعَ شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ
وَكَتَبَ بِإِسْلَامِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ قَطُّ. وَهَكَذَا صَرَّحَ
بِهِ الْوَاقِدِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: شَهِدَ الْيَرْمُوكَ مَعَ الرُّومِ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، فَاتَّفَقَ
أَنَّهُ وَطِئَ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ بِدِمَشْقَ، فَلَطَمَهُ ذَلِكَ
الْمُزْنِيُّ، فَرَفَعَهُ أَصْحَابُ جَبَلَةَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالُوا:
هَذَا لَطَمَ جَبَلَةَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: فَلْيَلْطِمْهُ جَبَلَةُ.
فَقَالُوا: أَوَمَا يُقْتَلُ ؟ ! قَالَ: لَا. قَالُوا: فَمَا تُقْطَعُ يَدُهُ ؟ !
قَالَ: لَا، إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْقَوَدِ. فَقَالَ جَبَلَةُ أَتَرَوْنَ
أَنِّي جَاعِلٌ وَجْهِي بَدَلًا لِوَجْهِ مُزَنِيٍّ جَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ
الْمَدِينَةِ ؟ بِئْسَ الدِّينُ هَذَا. ثُمَّ ارْتَدَّ نَصْرَانِيًّا، وَتَرَحَّلَ
بِأَهْلِهِ حَتَّى دَخَلَ أَرْضَ الرُّومِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَشَقَّ
عَلَيْهِ، وَقَالَ لِحَسَّانَ: إِنَّ صَدِيقَكَ جَبَلَةَ ارْتَدَّ عَنِ
الْإِسْلَامِ. فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ
قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لَطَمَهُ رَجُلٌ مِنْ مُزَيْنَةَ. فَقَالَ: وَحُقَّ لَهُ.
فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ فَضَرَبَهُ بِهَا. وَرَوَاهُ
الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ
وَغَيْرِهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَاقَ ذَلِكَ بِأَسَانِيدِهِ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْكَلْبِيِّ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا بَلَغَهُ إِسْلَامُ
جَبَلَةَ فَرِحَ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ بَعَثَ يَسْتَدْعِيهِ لِيَرَاهُ
بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: بَلِ اسْتَأْذَنَهُ جَبَلَةُ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ،
فَأَذِنَ لَهُ، فَرَكِبَ فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، قِيلَ: مِائَةٌ
وَخَمْسُونَ رَاكِبًا. وَقِيلَ: خَمْسُمِائَةٍ. وَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا عُمَرَ
وَنُزُلُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِمَرَاحِلَ، وَكَانَ يَوْمُ
دُخُولِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا، دَخَلَهَا وَقَدْ أَلْبَسَ خُيُولَهُ قَلَائِدَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَبِسَ هُوَ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ، مُرَصَّعًا
بِاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ، وَفِيهِ قُرْطَا مَارِيَةَ جَدَّتِهِ، وَخَرَجَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
سَلَّمَ عَلَى عُمَرَ رَحَّبَ بِهِ عُمَرُ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، وَشَهِدَ
الْحَجَّ مَعَ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ إِذْ وَطِئَ إِزَارَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ فَانْحَلَّ،
فَرَفَعَ جَبَلَةُ يَدَهُ فَهَشَّمَ أَنْفَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ قَلَعَ عَيْنَهُ. فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الْفَزَارِيُّ
عُمَرَ، وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، فَاسْتَحْضَرَهُ عُمَرُ،
فَاعْتَرَفَ جَبَلَةُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَقِدْهُ. فَقَالَ جَبَلَةُ: كَيْفَ
وَأَنَا مَلِكٌ وَهُوَ سُوقَةٌ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ جَمَعَكَ وَإِيَّاهُ،
فَلَسْتَ تَفْضُلُهُ إِلَّا بِالتَّقْوَى. فَقَالَ جَبَلَةُ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ
أَنْ أَكُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَعَزَّ مِنِّي فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ
عُمَرُ: دَعْ ذَا عَنْكَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُرْضِ الرَّجُلَ أَقَدْتُهُ
مِنْكَ. فَقَالَ: إِذَنْ أَتَنَصَّرَ. فَقَالَ: إِنْ تَنَصَّرْتَ ضَرَبْتُ
عُنُقَكَ. فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ قَالَ: سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي هَذِهِ
اللَّيْلَةَ. فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمَّا ادْلَهَمَّ اللَّيْلُ
رَكِبَ
فِي قَوْمِهِ وَمَنْ أَطَاعَهُ،
فَسَارَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، وَدَخَلَ عَلَى هِرَقْلَ
فِي مَدِينَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَرَحَّبَ بِهِ هِرَقْلُ وَأَقْطَعَهُ
بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَجْرَى عَلَيْهِ أَرْزَاقًا جَزِيلَةً، وَأَهْدَى إِلَيْهِ
هَدَايَا جَمِيلَةً، وَجَعَلَهُ مِنْ سُمَّارِهِ، فَمَكَثَ عِنْدَهُ دَهْرًا ;
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى هِرَقْلَ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ:
جَثَّامَةُ بْنُ مُسَاحِقٍ الْكِنَانِيُّ. فَلَمَّا بَلَغَ هِرَقْلَ كِتَابُ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ: هَلْ لَقِيتَ ابْنَ عَمِّكَ جَبَلَةَ
؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَالْقَهُ. فَذَكَرَ اجْتِمَاعَهُ بِهِ، وَمَا هُوَ فِيهِ
مِنَ النِّعْمَةِ وَالسُّرُورِ وَالْحُبُورِ الدُّنْيَوِيِّ، فِي لِبَاسِهِ
وَفَرْشِهِ وَمَجْلِسِهِ وَطِيبِهِ، وَجَوَارِيهِ حَوَالَيْهِ الْحِسَانِ مِنَ
الْخَدَمِ وَالْقِيَانِ، وَمَطْعَمِهِ وَشَرَابِهِ وَسُرُرِهِ وَدَارِهِ الَّتِي
تَعَوَّضَ بِهَا عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى
الْإِسْلَامِ وَالْعَوْدِ إِلَى الشَّامِ فَقَالَ: أَبْعَدَ مَا كَانَ مِنِّي مِنَ
الِارْتِدَادِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ ارْتَدَّ
وَقَاتَلَهُمْ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ قَبِلُوهُ مِنْهُ،
وَزَوَّجَهُ الصِّدِّيقُ بِأُخْتِهِ أُمِّ فَرْوَةَ. قَالَ: فَالْتَهَى عَنْهُ
بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ الْخَمْرَ فَأَبَى عَلَيْهِ،
وَشَرِبَ جَبَلَةُ مِنَ الْخَمْرِ شَيْئًا كَثِيرًا حَتَّى سَكِرَ، ثُمَّ أَمَرَ
جَوَارِيَهُ الْقِيَانَ، فَغَنَّيْنَهُ بِالْعِيدَانِ مِنْ قَوْلِ حَسَّانَ،
يَمْدَحُ بَنِي عَمِّهِ مِنْ غَسَّانَ، وَالشِّعْرُ فِي وَالِدِ جَبَلَةَ هَذَا
الْحَيَوَانِ.
لِلَّهِ دَرُّ عِصَابَةٍ نَادَمْتُهُمْ يَوْمًا بِجِلَّقَ فِي الزَّمَانِ
الْأَوَّلِ أَوْلَادِ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهُمُ
قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِلِ
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ الْبَرِيصَ
عَلَيْهِمُ
صَهْبًا تُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ بِيضِ الْوُجُوهِ كَرَيْمَةٍ
أَحْسَابُهُمْ
شُمِّ الْأُنُوفِ مِنَ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ
كِلَابُهُمْ
لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ
قَالَ: فَأَعْجَبَهُ قَوْلُهُنَّ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بْنِ
ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ فِينَا وَفِي مُلْكِنَا، ثُمَّ قَالَ لِي: كَيْفَ حَالُ
حَسَّانَ ؟ قُلْتُ لَهُ: تَرَكْتُهُ ضَرِيرًا شَيْخًا كَبِيرًا. ثُمَّ قَالَ
لَهُنَّ: أَطْرِبْنَنِي. فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِقَوْلِ حَسَّانَ أَيْضًا:
لِمَنِ الدَّارُ أَقْفَرَتْ بِمَعَانِ بَيْنَ فَرْعِ الْيَرْمُوكِ فَالصَّمَّانِ
فَالْقُرَيَّاتِ مِنْ بَلَاسَ فَدَارَيَّا فَسَكَّاءَ فَالْقُصُورِ الدَّوَانِي
فَحِمَى جَاسِمٍ إِلَى مَرْجِ ذِي الصُّفَّرِ مَغْنَى قَبَائِلٍ وَهِجَانِ
تِلْكَ دَارُ الْعَزِيزِ بَعْدَ أَلُوفٍ وَحُلُولٍ عَظِيمَةِ الْأَرْكَانِ
صَلَوَاتُ الْمَسِيحِ فِي ذَلِكَ الدَّيْ رِ دُعَاءُ الْقِسِّيسِ وَالرُّهْبَانِ
ذَاكَ مَغْنًى لِآلِ جَفْنَةَ فِي الدَّهْ رِ مَحَاهُ تَعَاقُبُ الْأَزْمَانِ
فَأُرَانِي هُنَاكَ حَقَّ مَكِينٍ عِنْدَ ذِي التَّاجِ مَجْلِسِي وَمَكَانِي
ثَكِلَتْ أُمُّهُمْ وَقَدْ ثَكِلَتْهُمْ يَوْمَ حَلُّوًا بِحَارِثِ الْجَوْلَانِ
قَدْ - دَنَا الْفِصْحُ فَالْوَلَائِدُ
يَنْظِمْ نَ سِرَاعًا أَكِلَّةَ الْمَرْجَانِ
قَالَ: هَذَا لِابْنِ الْفُرَيْعَةِ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فِينَا وَفِي
مُلْكِنَا وَفِي مَنَازِلِنَا بِأَكْنَافِ غُوطَةِ دِمَشْقَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ
طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ: بَكِّينَنِي. فَوَضَعْنَ عِيدَانَهُنَّ
وَنَكَّسْنَ رُءُوسَهُنَّ وَقُلْنَ:
تَنَصَّرَتِ الْأَشْرَافُ مِنْ عَارِ لَطْمَةٍ وَمَا كَانَ فِيهَا لَوْ صَبَرْتُ
لَهَا ضَرَرْ
تَكَنَّفَنِي فِيهَا لَجَاجٌ وَنَخْوَةٌ وَبِعْتُ بِهَا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ
بِالْعَوَرْ
فَيَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي وَلَيْتَنِي رَجَعْتُ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي
قَالَهُ عُمَرْ
وَيَا لَيْتَنِي أَرْعَى الْمَخَاضَ بِقَفْرَةٍ وَكُنْتُ أَسِيرًا فِي رَبِيعَةَ
أَوْ مُضَرْ
وَيَا لَيْتَ لِي بِالشَّامِ أَدْنَى مَعِيشَةٍ أُجَالِسُ قَوْمِي ذَاهِبَ
السَّمْعِ وَالْبَصَرْ
أَدِينُ بِمَا دَانُوا بِهِ مِنْ شَرِيعَةٍ وَقَدْ يَصْبِرُ الْعَوْدُ الْكَبِيرُ
عَلَى الدَّبَرْ
قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ
بِدُمُوعِهِ، وَبَكَيْتُ مَعَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ
هِرَقْلِيَّةٍ، فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ فَأَوْصِلْهَا إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
وَجَاءَ بِأُخْرَى فَقَالَ: خُذْ هَذِهِ لَكَ. فَقُلْتُ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا،
وَلَا أَقْبَلُ مِنْكَ شَيْئًا وَقَدِ ارْتَدَدْتَ عَنِ الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَى الَّتِي لِحَسَّانَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ
دِينَارٍ هِرَقْلِيَةٍ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَبْلِغْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنِّي
السَّلَامَ وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ أَخْبَرْتُهُ
خَبَرَهُ، فَقَالَ: وَرَأَيْتَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ:
أَبْعَدَهُ اللَّهُ، تَعَجَّلَ فَانِيَةً بِبَاقِيَةٍ، فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَمَا الَّذِي وَجَّهَ بِهِ لِحَسَّانَ ؟ قُلْتُ:
خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ هِرَقْلِيَّةٍ،
فَدَعَا حِسَانًا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأَخَذَهَا وَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ ابْنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَعْشَرٍ لَمْ يَغْذُهُمْ آبَاؤُهُمْ
بِاللُّومِ
لَمْ يَنْسَنِي بِالشَّامِ إِذْ هُوَ رَبُّهَا كَلًّا وَلَا مُتَنَصِّرًا
بِالرُّومِ
يُعْطِي الْجَزِيلَ وَلَا يَرَاهُ عِنْدَهُ إِلَّا كَبَعْضِ عَطِيَّةِ
الْمَحْرُومِ
وَأَتَيْتُهُ يَوْمًا فَقَرَّبَ مَجْلِسِي وَسَقَى فَرَوَّانِي مِنَ الْخُرْطُومِ
ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعَثَ
مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ رَسُولًا إِلَى مَلِكِ
الرُّومِ، فَاجْتَمَعَ بِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، فَرَأَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ
السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَمْوَالِ ; مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ
وَالذَّهَبِ وَالْخُيُولِ، فَقَالَ لَهُ جَبَلَةُ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ
مُعَاوِيَةَ يُقْطِعُنِي أَرْضَ الْبَثْنِيَّةِ فَإِنَّهَا مَنَازِلُنَا،
وَعِشْرِينَ قَرْيَةً مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ وَيَفْرِضُ لِجَمَاعَتِنَا،
وَيُحْسِنُ جَوَائِزَنَا، لَرَجَعْتُ إِلَى الشَّامِ. فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعَدَةَ مُعَاوِيَةَ بِقَوْلِهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أُعْطِيهُ
ذَلِكَ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا مَعَ الْبَرِيدِ بِذَلِكَ، فَمَا أَدْرَكَهُ
الْبَرِيدُ إِلَّا وَقَدْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَذَكَرَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ "، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ هَذِهِ
السَّنَةَ، أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " فَأَطَالَ التَّرْجَمَةَ وَأَفَادَ،
ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: بَلَغَنِي أَنَّ جَبَلَةَ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ
مُعَاوِيَةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، بَعْدَ سَنَةِ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ
وَفِيهَا شَتَّى مُحَمَّدُ بْنُ مَالِكٍ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَغَزَا الصَّائِفَةَ
مَعْنُ بْنُ يَزِيدَ السُّلَمِيُّ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ
الْعَاصِ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَرَدَّ إِلَيْهَا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ
وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَيَصْطَفِي
أَمْوَالَهُ الَّتِي بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَجَاءَ مَرْوَانُ إِلَى دَارِ سَعِيدٍ
لِيَهْدِمَهَا فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا كُنْتَ لِتَفْعَلَ ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنَّ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَتَبَ إِلَيَّ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْكَ فِي
دَارِي لَفَعَلْتَهُ. فَقَامَ سَعِيدٌ، فَأَخْرَجَ إِلَيْهِ كِتَابَ مُعَاوِيَةَ
إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ الْمَدِينَةَ أَنْ يَهْدِمَ دَارَ مَرْوَانَ وَيَصْطَفِيَ
أَمْوَالَهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُجَاحِفُ دُونَهُ حَتَّى صَرَفَ
ذَلِكَ عَنْهُ، فَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ الْكُتُبَ إِلَى سَعِيدٍ بِذَلِكَ،
ثَنَاهُ ذَلِكَ عَنْ دَارِ سَعِيدٍ، وَعَنْ أَخْذِ مَالِهِ، وَلَمْ يَزَلْ
يُدَافِعُ عَنْهُ حَتَّى تَرَكَهُ مُعَاوِيَةُ فِي دَارِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِ
أَمْوَالَهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدَبٍ عَنِ الْبَصْرَةِ وَكَانَ
زِيَادٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا، فَأَقَرَّهُ مُعَاوِيَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ،
ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سُمْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَطَعْتُ
اللَّهَ كَمَا أَطَعْتُ مُعَاوِيَةَ لَمَا عَذَّبَنِي أَبَدًا. وَهَذَا لَا
يَصِحُّ عَنْهُ. وَأَقَرَّ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ
عَلَى نِيَابَةِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ
زِيَادٌ قَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا. وَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدَ
اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ نُوَّابِ
أَبِيهِ عَلَى الْبِلَادِ، فَأَخْبَرَهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ وَلَّاهُ إِمْرَةَ
خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَسَارَ إِلَى مُقَاطَعَتِهِ،
وَتَجَهَّزَ مِنْ فَوْرِهِ غَادِيًا إِلَيْهَا، فَقَطَعَ النَّهْرَ إِلَى جِبَالِ
بُخَارَى، فَفَتَحَ رَامِيثَنَ وَنِصْفَ بَيْكَنْدَ - وَهُمَا مِنْ مُعَامَلَةِ
بُخَارَى - وَلَقِيَ التُّرْكَ هُنَاكَ، فَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا،
وَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً فَظِيعَةً، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَعْجَلُوا
امْرَأَةَ الْمَلِكِ أَنَّ تَلْبِسَ خُفَّيْهَا، فَلَبِسَتْ وَاحِدَةً وَتَرَكَتِ
الْأُخْرَى، فَأَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَقَوَّمُوا جَوْرَبَهَا بِمِائَتَيْ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَغَنِمُوا مَعَ ذَلِكَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَأَقَامَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِخُرَاسَانَ سَنَتَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ. وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَالِدِ بْنِ
أَسِيدٍ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ عَلَيْهَا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ. وَكَانَ عَلَى
الْبَصْرَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْكَلْبِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَوْلَاهُ،
وَحِبُّهُ وَابْنُ حِبِّهِ، وَأُمُّهُ بَرَكَةُ أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَاضِنَتُهُ، وَلَّاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِمْرَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ،
فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمْرَتِهِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ
فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ كَانَ لَخَلِيقًا
بِالْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ
أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ ".
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجْلِسُ الْحَسَنَ عَلَى فَخِذِهِ،
وَيُجْلِسُ أُسَامَةَ عَلَى فَخْذِهِ الْأُخْرَى وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ
إِنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا،
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْرُهُ تِسْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا لَقِيَهُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ
أَيُّهَا الْأَمِيرُ. وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ تُوُفِّيَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثَوْبَانُ بْنُ بُجْدُدٍ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقَدَّمَتْ
تَرْجَمَتُهُ فِي الْمَوَالِي، وَمَنْ كَانَ يَخْدُمُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ. أَصْلُ ثَوْبَانَ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَصَابَهُ سِبَاءٌ،
فَاشْتَرَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْتَقَهُ،
فَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفَرًا وَحَضَرًا،
فَلَمَّا مَاتَ أَقَامَ بِالرَّمْلَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى حِمْصٍ
فَابْتَنَى بِهَا دَارَا، وَلَمْ يَزَلْ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
عَلَى الصَّحِيحِ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ. وَهُوَ غَلَطٌ.
وَيُقَالُ إِنَّهُ تُوُفِّيَ بِمِصْرَ.
وَالصَّحِيحُ بِحِمْصَ.
جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ
تَقَدَّمَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ. سَنَةَ خَمْسِينَ.
الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ النُّعْمَانُ بْنُ رِبْعِيٍّ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
عَمْرُو بْنُ رِبْعِيٍّ. وَهُوَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
الْمَدَنِيُّ فَارِسُ الْإِسْلَامِ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ لَهُ
يَوْمَ ذِي قَرَدٍ سَعْيٌ مَشْكُورٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ: " خَيْرُ
فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ
الْأَكْوَعِ ". وَزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا،
وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْرُوفٍ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَخْبَرَنِي
مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارٍ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ
الْبَاغِيَةُ ".
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ - بِالْمَدِينَةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً. وَزَعَمَ
الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. وَهَذَا
غَرِيبٌ.
حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ
قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ أَبُو خَالِدٍ الْمَكِّيُّ
وَأُمُّهُ فَاخِتَةُ بِنْتُ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ
بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَعَمَّتُهُ
خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأُمُّ أَوْلَادِهِ سِوَى إِبْرَاهِيمَ. وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِي جَوْفِ
الْكَعْبَةِ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً ; وَذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتِ
الْكَعْبَةَ تَزُورُ، فَضَرَبَهَا الطَّلْقُ، فَوَضَعَتْهُ عَلَى نِطْعٍ.
وَكَانَ شَدِيدَ الْمَحَبَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَمَّا كَانَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ لَا
يُبَايَعُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ، كَانَ حَكِيمٌ يُقْبِلُ بِالْعِيرِ تَقْدَمُ
مِنَ الشَّامِ فَيَشْتَرِيهَا مَكَانَهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ بِهَا، فَيَضْرِبُ
أَدْبَارَهَا حَتَّى تَلِجَ الشِّعْبَ تَحْمِلُ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ ;
تَكْرِمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِعَمَّتِهِ
خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
أَوَّلًا، فَابْتَاعَتْهُ مِنْهُ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، فَوَهَبَتْهُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهُ. وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَى
حُلَّةَ ذِي يَزَنَ، فَأَهْدَاهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَبِسَهَا. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ فِيهَا.
وَمَعَ هَذَا مَا أَسْلَمَ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ هُوَ وَأَوْلَادُهُ كُلُّهُمْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: عَاشَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً،
وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ
وَكُرَمَائِهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ بِالنَّسَبِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ
وَالْبِرِّ وَالْعَتَاقَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ
مِنْ خَيْرٍ ". وَقَدْ كَانَ حَكِيمٌ شَهِدَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بَدْرًا،
وَتَقَدَّمَ إِلَى
الْحَوْضِ، فَكَادَ حَمْزَةُ أَنْ
يَقْتُلَهُ، فَمَا سُحِبَ إِلَّا سَحْبًا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَلِهَذَا كَانَ
إِذَا اجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ يَقُولُ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ.
وَلَمَّا نَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
الْفَتْحِ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ وَمَعَهُ الْجُنُودُ خَرَجَ حَكِيمٌ وَأَبُو سُفْيَانَ
يَتَجَسَّسَانِ الْأَخْبَارَ، فَلَقِيَهُمَا الْعَبَّاسُ، فَأَخَذَ أَبَا
سُفْيَانَ فَأَجَارَهُ، وَأَخَذَ لَهُ أَمَانًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَتَئِذٍ كُرْهًا
وَمِنْ صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَسْلَمَ حَكِيمٌ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَينًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ
سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: " يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا
الْمَالُ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّهُ مَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ
لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ،
وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ ". فَقَالَ حَكِيمٌ: وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا. فَلَمْ يَرْزَأْ
أَحَدًا بَعْدَهُ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى،
وَكَذَلِكَ عُمَرُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ الْعَطَاءَ فَيَأْبَى، فَكَانَ عُمَرُ
يُشْهِدُ عَلَيْهِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَعَ هَذَا كَانَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ ;
مَاتَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ مَاتَ وَلِحَكِيمٍ عَلَيْهِ مِائَةُ أَلْفٍ.
وَقَدْ كَانَ بِيَدِهِ، حِينَ أَسْلَمَ، الرِّفَادَةُ وَدَارُ النَّدْوَةِ،
فَبَاعَهَا بَعْدُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ:
بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: بِعْتَ
مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ لَهُ حَكِيمٌ: ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ إِلَّا
التَّقْوَى، يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي اشْتَرَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِزِقِّ
خَمْرٍ، وَلَأَشْتَرِيَنَّ بِهَا دَارًا فِي الْجَنَّةِ، أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ
جَعَلْتُهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَهَذِهِ الدَّارُ
كَانَتْ لِقُرَيْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ
إِلَّا وَقَدْ صَارَ سِنُّهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، إِلَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ،
فَإِنَّهُ دَخَلَهَا وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ
بْنُ بَكَّارٍ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ أَنَّ حَكِيمًا حَجَّ عَامًا، فَأَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةٍ
مُجَلِّلَةٍ، وَأَلْفَ شَاةٍ، وَأَوْقَفَ مَعَهُ بِعَرَفَاتٍ مِائَةَ وَصَيْفٍ فِي
أَعْنَاقِهِمْ أَطَوِقَةُ الْفِضَّةِ، وَقَدْ نُقِشَ فِيهَا: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ
اللَّهِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ. فَأَعْتَقَهُمْ وَأَهْدَى جَمِيعَ تِلْكَ
الْأَنْعَامِ. رِضَى اللَّهِ عَنْهُ. تُوُفِّيِّ حَكِيمٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَلَى الصَّحِيحِ.، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمَرِ مِائَةٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ قَدْ عُمِّرَ دَهْرًا
طَوِيلًا، وَلِهَذَا جَعَلَهُ عُمَرُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ جَدَّدُوا أَنْصَابَ
الْحَرَمِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ
يَوْمَئِذٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَشَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَسَعَى فِي
الصُّلْحِ، فَلَمَّا كَانَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ كَانَ هُوَ وَسُهَيْلٌ هُمَا
اللَّذَانِ أَمَرَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، فَأَمَرَ بِلَالًا أَنْ لَا تَغْرُبَ الشَّمْسُ
وَبِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ: وَفِي كُلِّ هَذِهِ الْمَوَاطِنِ
أَهُمُّ بِالْإِسْلَامِ، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا مَا يُرِيدُ، فَلَمَّا كَانَ
زَمَنُ الْفَتْحِ خِفْتُ خَوْفًا شَدِيدًا وَهَرَبْتُ، فَلَحِقَنِي أَبُو ذَرٍّ،
وَكَانَ لِي خَلِيلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: يَا حُوَيْطِبُ، مَا لَكَ ؟
فَقُلْتُ: خَائِفٌ. فَقَالَ: لَا تَخَفْ ; فَإِنَّهُ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ
النَّاسِ، وَأَنَا جَارٌ لَكَ،
فَاقْدَمْ مَعِي. فَرَجَعْتُ مَعَهُ، فَوَقَفَ بِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَقَدْ عَلَّمَنِي أَبُو ذَرٍّ أَنْ أَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَلَمَّا قُلْتُ ذَلِكَ قَالَ: " حُوَيْطِبٌ ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ ". وَسُرَّ بِذَلِكَ وَاسْتَقْرَضَنِي مَالًا، فَأَقْرَضْتُهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَشَهِدْتُ مَعَهُ حُنَيْنًا وَالطَّائِفَ، وَأَعْطَانِي مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ مِائَةَ بَعِيرٍ ثُمَّ قَدِمَ حُوَيْطِبٌ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَهَا، وَلَهُ بِهَا دَارٌ. وَلَمَّا وَلِيَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ جَاءَهُ حُوَيْطِبٌ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَجَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ عِنْدَهُ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا، ثُمَّ اجْتَمَعَ حُوَيْطِبٌ بِمَرْوَانَ يَوْمًا آخَرَ، فَسَأَلَهُ مَرْوَانُ عَنْ عُمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَأَخَّرَ إِسْلَامُكَ أَيُّهَا الشَّيْخُ حَتَّى سَبَقَكَ الْأَحْدَاثُ. فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ بِالْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَعُوقُنِي أَبُوكَ يَقُولُ: تَضَعُ شَرَفَكَ وَتَدَعُ دِينَ آبَائِكَ لِدِينٍ مُحْدَثٍ وَتَصِيرُ تَابِعًا ؟ قَالَ: فَأَسْكَتَ مَرْوَانُ وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ قَالَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ حُوَيْطِبٌ: أَمَا كَانَ أَخْبَرَكَ عُثْمَانُ مَا كَانَ لَقِيَ مِنْ أَبِيكَ حِينَ أَسْلَمَ ؟ قَالَ: فَازْدَادَ مَرْوَانُ غَمًّا. وَكَانَ حُوَيْطِبٌ مِمَّنْ شَهِدَ دَفْنَ عُثْمَانَ. وَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ دَارَهُ بِمَكَّةَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَاسْتَكْثَرَهَا النَّاسُ، فَقَالَ حُوَيْطِبٌ: وَمَا هِيَ فِي رَجُلٍ لَهُ خَمْسَةٌ مِنَ الْعِيَالِ ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَ حُوَيْطِبٌ حَمِيدَ
الْإِسْلَامِ، وَكَانَ أَكْثَرَ
قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ رَبْعًا جَاهِلِيًّا. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: عَاشَ حُوَيْطِبٌ
فِي الْجَاهِلِيَّةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَفِي الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً،
وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْمَدِينَةِ وَلَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ بِالشَّامِ. لَهُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ
عَنْهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّعْدِيِّ عَنْ عُمَرَ فِي الْعُمَالَةِ،
وَهُوَ مِنْ عَزِيزِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعَةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ، رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ.
سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ
أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَكَانَ اسْمُهُ
صُرْمًا، وَفِي رِوَايَةٍ: أَصْرَمَ، فَسَمَّاهُ سَعِيدًا، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ
النَّفَرِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ عُمَرُ بِتَجْدِيدِ أَنْصَابِ الْحَرَمِ، وَقَدْ
أُصِيبَ بَصَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَتَاهُ عُمَرُ يُعَزِّيهِ فِيهِ. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْمَدِينَةِ - وَقِيلَ:
بِمَكَّةَ - وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ
ذَلِكَ.
مُرَّةُ بْنُ شُرَاحِيلَ الْهَمْدَانِيُّ
وَيُقَالُ لَهُ: مُرَّةُ الطَّيِّبُ، وَمُرَّةُ الْخَيْرِ. رَوَى عَنْ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ. كَانَ يُصَلِّي كُلَّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ، فَلَمَّا كَبُرَ صَلَّى أَرْبَعَمِائَةِ
رَكْعَةٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَجَدَ حَتَّى أَكَلَ التُّرَابُ جَبْهَتَهُ،
فَلَمَّا مَاتَ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَكَانُ نُورًا،
فَقِيلَ لَهُ: أَيْنَ مَنْزِلُكَ ؟ فَقَالَ: بِدَارٍ لَا يَظْعَنُ أَهْلُهَا وَلَا
يَمُوتُونَ.
النُّعَيْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُؤْتَى
بِهِ فِي الشَّرَابِ فَيَجْلِدُهُ النَّبِيُّ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَعَنَهُ اللَّهُ،
مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " لَا تَلْعَنُهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ".
سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ الْقُرَشِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
خَدِيجَةَ، وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ السَّكْرَانِ بْنِ عَمْرٍو أَخِي سُهَيْلِ
بْنِ عَمْرٍو فَلَمَّا كَبِرَتْ هَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِطَلَاقِهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ طَلَّقَهَا. فَسَأَلَتْهُ أَنْ
يُبْقِيَهَا فِي نِسَائِهِ وَتَهَبَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، فَقَبِلَ ذَلِكَ
مِنْهَا وَأَبْقَاهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 128 ]. وَكَانَتْ ذَاتَ عِبَادَةٍ وَوَرَعٍ وَزَهَادَةٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا مِنِ امْرَأَةٍ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ فِي مِسْلَاخِهَا إِلَّا سَوْدَةَ، إِلَّا أَنَّ فِيهَا حِدَّةً تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: تُوُفِّيَتْ فِي آخِرِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ
فِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ عَنِ
الْبَصْرَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَكَانَ سَبَبَ
عَزْلِهِ عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ، فَحَصَبَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
ضَبَّةَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ، فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ:
إِنَّهُ مَتَى بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي هَذَا
الصُّنْعِ، فَعَلَ بِهِ وَبِقَوْمِهِ نَظِيرَ مَا فَعَلَ بِحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ،
فَاكْتُبْ لَنَا كِتَابًا أَنَّكَ قَطَعْتَ يَدَهُ فِي شُبْهَةٍ. فَكَتَبَ لَهُمْ،
فَتَرَكُوهُ عِنْدَهُمْ حِينًا، ثُمَّ جَاءُوا مُعَاوِيَةَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ
نَائِبَكَ قَطَعَ يَدَ صَاحِبِنَا فِي شُبْهَةٍ فَأَقِدْنَا مِنْهُ. فَقَالَ: لَا
سَبِيلَ إِلَى الْقَوْدِ مِنْ نُوَّابِي وَلَكِنِ الدِّيَةُ. فَأَعْطَاهُمُ
الدِّيَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَعَزَلَ ابْنَ غَيْلَانَ، وَقَالَ لَهُمُ:
اخْتَارُوا مَنْ تُرِيدُونَ أُوَلِّيهِ عَلَيْكُمْ. فَذَكَرُوا رِجَالًا، فَقَالَ:
لَا، وَلَكِنْ أُوَلِّي عَلَيْكُمُ ابْنَ أَخِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ
فَوَلَّاهُ، فَاسْتَخْلَفَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ أَسْلَمَ بْنَ
زُرْعَةَ، فَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يَفْتَحْ شَيْئًا، وَوَلَّى قَضَاءَ الْبَصْرَةِ
لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى ابْنَ أُذَيْنَةَ
الْعَبْدِيَّ، وَوَلَّى شُرْطَتَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حِصْنٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ. وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَالِدِ بْنِ
أَسِيدٍ عَنِ الْكُوفَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ
الْفِهْرِيَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنَ
الْأَعْيَانِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
أَسْلَمَ قَدِيمًا، يُقَالُ: سَابِعُ سَبْعَةٍ. وَكَانَتْ دَارُهُ كَهْفًا
لِلْمُسْلِمِينَ، يَأْوِي إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ الصَّفَا، وَقَدْ
صَارَتْ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمَهْدِيِّ، فَوَهَبَهَا لِامْرَأَتِهِ
الْخَيْزُرَانِ أُمِّ مُوسَى الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ، فَبَنَتْهَا
وَجَدَّدَتْهَا، فَعُرِفَتْ بِهَا، ثُمَّ صَارَتْ لِغَيْرِهَا. وَقَدْ شَهِدَ
الْأَرْقَمُ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، أَوْصَى
بِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَهُ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
سَحْبَانُ بْنُ زُفْرَ بْنِ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ الْأَحَبِّ
الْبَاهِلِيُّ الْوَائِلِيُّ
الَّذِي يُضْرَبُ بِفَصَاحَتِهِ الْمَثَلُ، فَيُقَالُ: أَفْصَحُ مِنْ سَحْبَانِ
وَائِلٍ. وَوَائِلٌ هُوَ ابْنُ مَعْنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ، وَبَاهِلَةُ امْرَأَةُ
مَالِكِ بْنِ أَعْصُرَ، يُنْسَبُ إِلَيْهَا وَلَدُهَا، وَهِيَ بَاهِلَةُ بَنْتُ
صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: سَحْبَانُ
الْمَعْرُوفُ بِسَحْبَانِ وَائِلٍ، بَلَغَنِي أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ
فَتَكَلَّمَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ الشَّيْخُ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ. وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ عَسَاكِرَ عَلَى هَذَا. وَقَدْ نَسَبَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ "، كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ
قَالَ: وَكَانَ بَلِيغًا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِفَصَاحَتِهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى
مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ خُطَبَاءُ الْقَبَائِلِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ خَرَجُوا ;
لِعِلْمِهِمْ بِقُصُورِهِمْ عَنْهُ، فَقَالَ سَحْبَانُ:
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ الْيَمَانُونَ أَنَّنِي إِذَا قُلْتُ أَمَّا بَعْدُ أَنِّي
خَطِيبُهَا
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اخْطُبْ. فَقَالَ: انْظُرُوا لِي عَصَا تُقِيمُ مِنْ
أَوَدِي. فَقَالُوا: وَمَاذَا تَصْنَعُ بِهَا وَأَنْتَ بِحَضْرَةِ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهَا مُوسَى وَهُوَ يُخَاطِبُ
رَبَّهُ. فَأَخَذَهَا وَتَكَلَّمَ مِنَ الظُّهْرِ إِلَى أَنْ قَارَبَتِ الْعَصْرُ،
مَا تَنَحْنَحَ وَلَا سَعَلَ وَلَا تَوَقَّفَ وَلَا ابْتَدَأَ فِي مَعْنَى
فَخَرَجَ عَنْهُ وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيَّةٌ فِيهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
الصَّلَاةُ. فَقَالَ: الصَّلَاةُ أَمَامَكَ، أَلَسْنَا فِي تَحْمَيْدٍ
وَتَمْجِيدٍ، وَعِظَةٍ وَتَنْبِيهٍ وَتَذْكِيرٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ ؟ فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: أَنْتَ أَخْطَبُ الْعَرَبِ. قَالَ: الْعَرَبُ وَحْدَهَا ؟ بَلْ
أَخْطَبُ الْجِنِّ وَالْإِنَسِ. قَالَ: كَذَلِكَ أَنْتَ.
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ،
أَبُو إِسْحَاقَ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ
لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَحَدُ السِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى الَّذِينَ
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَنْهُمْ
رَاضٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا. قَالُوا: وَكَانَ يَوْمَ أَسْلَمَ عُمْرُهُ سَبْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً.
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ
" أَنَّهُ قَالَ: مَا أَسْلَمَ أَحَدٌ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أَسْلَمْتُ
فِيهِ، وَلَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الْإِسْلَامِ.
وَهُوَ الَّذِي كَوَّفَ الْكُوفَةَ وَنَفَى عَنْهَا الْأَعَاجِمَ، وَكَانَ مُجَابَ
الدَّعْوَةِ، وَهَاجَرَ وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا مِنْ أُمَرَاءِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي أَيَّامِ
الصِّدِّيقِ مُعَظِّمًا جَلِيلَ الْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ،
وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَهُوَ الَّذِي فَتَحَ الْمَدَائِنَ
وَكَانَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقْعَةُ جَلُولَاءَ وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا،
وَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنِ الْكُوفَةِ عَنْ غَيْرِ عَجْزٍ وَلَا خِيَانَةٍ، وَلَكِنْ
لِمَصْلَحَةٍ ظَهَرَتْ لِعُمَرَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي السِّتَّةِ
أَصْحَابِ الشُّورَى، ثُمَّ وَلَّاهُ عُثْمَانُ الْكُوفَةَ بَعْدَهَا، ثُمَّ
عَزَلَهُ عَنْهَا.
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ قَالَ: شَهِدَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ دَوْمَةَ
الْجَنْدَلِ يَوْمَ الْحَكَمَيْنِ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّ ابْنَهُ عُمَرَ جَاءَ إِلَيْهِ
وَهُوَ مُعْتَزِلٌ فِي إِبِلِهِ فَقَالَ: النَّاسُ يَتَنَازَعُونَ الْإِمَارَةَ
وَأَنْتَ هَاهُنَا ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْعَبْدَ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ الْتَقِيَّ ".
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ابْنَ أَخِيهِ
هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ جَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمُّ،
هَاهُنَا مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ يَرَوْنَكَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا
الْأَمْرِ. فَقَالَ: أُرِيدُ مِنْ
مِائَةِ أَلْفِ سَيْفًا وَاحِدًا ; إِذَا ضَرَبْتُ بِهِ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَصْنَعْ
شَيْئًا، وَإِذَا ضَرَبْتُ بِهِ الْكَافِرَ قَطَعَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ
عَمْرٍو، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَقَامَ
عِنْدَهُ شَهْرَ رَمَضَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
فَبَايَعَهُ: وَمَا سَأَلَهُ سَعْدٌ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ.
قَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ،
عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ:
قَالَ سَعْدٌ: إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ رَمَى بِسَهْمٍ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَمَا
جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ
قَبْلِي، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي
".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: وَاللَّهُ
إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَقَدْ كُنَّا
نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا
طَعَامٌ نَأْكُلُهُ إِلَّا وَرَقَ الْحُبْلَةِ وَهَذَا السَّمُرُ، حَتَّى إِنَّ
أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةَ مَا لَهُ خِلْطٌ، ثُمَّ أَصْبَحَتْ
بَنُو
أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ،
لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي. وَقَدْ رَوَاهُ شُعْبَةُ وَوَكِيعٌ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: جَمَعَ لِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحِدٍ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ سَعْدٍ. وَرَوَاهُ النَّاسُ مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ،
عَنْ أَبِيهِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: " فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ".
وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: " ارْمِ وَأَنْتَ
الْغُلَامُ الْحَزَوَّرُ ". قَالَ
سَعِيدٌ: وَكَانَ سَعْدٌ جَيِّدَ الرَّمْيِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:
أَوَّلُ النَّاسِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَعْدٌ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، سَمِعْتُ عَلِيًّا
يَقُولُ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُفَدِّي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلَّا سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ، وَإِنِّي سَمِعْتُهُ
يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ: " ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بِهِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَرَوَاهُ
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ
بِنْتَ سَعْدٍ تَقُولُ: أَنَا ابْنَةُ الْمُهَاجِرِ الَّذِي فَدَاهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ بِالْأَبَوَيْنِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي
عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا قَالَ:
لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَرْمِي بِالسَّهْمِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَيَرُدُّهُ عَلَيَّ
رَجُلٌ أَبْيَضُ حَسَنُ الْوَجْهِ لَا أَعْرِفُهُ، حَتَّى كَانَ بَعْدُ،
فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ،
ثَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ،
يُقَاتِلَانِ عَنْهُ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا
بَعْدُ.
وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى سَعْدٍ، عَنْ
سَعْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلَانِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ
وَالْآخَرُ عَنْ يَسَارِهِ، وَإِنَّى لِأَرَاهُ يَنْظُرُ إِلَى ذَا مَرَّةً
وَإِلَى ذَا مَرَّةً ; سُرُورًا بِمَا ظَفَّرَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: اشْتَرَكْتُ أَنَا وَسَعْدٌ
وَعَمَّارٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِيمَا أَصَبْنَا مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَجَاءَ سَعْدٌ
بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ بَدْرٍ يُقَاتِلُ
قِتَالَ الْفَارِسِ لِلرَّاجِلِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرِقًا ذَاتَ لَيْلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: " لَيْتَ
رَجُلًا صَالِحًا يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ ". قَالَتْ: إِذْ سَمِعْنَا صَوْتَ
السِّلَاحِ، فَقَالَ: " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ: أَنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ، أَنَا أَحْرُسُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ: فَنَامَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ.
أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَدَعَا لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَامَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا رِشْدِينُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَدَخْلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الرَّقَاشِيُّ الْخَرَّازُ، بَصْرِيٌّ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ ذَا
الْبَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". قَالَ: فَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ
إِلَّا وَهُوَ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِذَا سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ طَلَعَ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي
عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ:بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ حَتَّى إِذَا
كَانَ الْغَدُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ
ذَلِكَ. قَالَ: فَاطَّلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى تَرْتِيبِهِ
الْأَوَّلِ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ عَلَى تَرْتِيبِهِ، فَلَمَّا قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي غَاضَبْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا
أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ
حَتَّى تَنْحَلَّ يَمِينِي، فَعَلْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ لَيْلَةً، حَتَّى إِذَا كَانَ مَعَ الْفَجْرِ فَلَمْ
يَقُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ
شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا
انْقَلَبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ، وَكَبَّرَهُ حَتَّى يَقُومَ مَعَ
الْفَجْرِ، فَإِذَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَأَتَمَّهُ، ثُمَّ
يُصْبِحُ مُفْطِرًا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: فَرَمَقَتْهُ ثَلَاثَ
لَيَالٍ وَأَيَّامَهُنَّ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَسْمَعُهُ
يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ اللَّيَالِي الثَّلَاثُ وَكِدْتُ
أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ قُلْتُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ
وَلَا هِجْرَةٌ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ قَبْلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ: "
يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَاطَّلَعْتَ أَنْتَ
أُولَئِكَ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثَ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ حَتَّى أَنْظُرَ
مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا
الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
؟ فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا الَّذِي رَأَيْتَ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ
انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَدَعَانِي حِينَ وَلَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا
رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي سُوءًا لِأَحَدٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَلَا أَنْوِي لَهُ شَرًّا وَلَا أَقُولُهُ. قَالَ: هَذِهِ
الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا أُطِيقُ. وَهَكَذَا رَوَاهُ صَالِحٌ
الْمُرِّيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ مَوْلَى آلِ الزُّبَيْرِ، عَنْ سَالِمٍ
عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ مِثْلَ رِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ
شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ،
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [ الْأَنْعَامِ: 52 ]. نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ،
أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا
[ الْعَنْكَبُوتِ: 8 ]. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ امْتَنَعَتْ أُمُّهُ
مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ أَيَّامًا، فَقَالَ لَهَا: تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ
لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ، فَخَرَجَتْ نَفْسًا نَفْسًا، مَا تَرَكْتُ
دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، إِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَأْكُلِي.
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الشَّهَادَةِ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ، فَثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَاءَ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ حِرَاءَ، ذَكَرَ سَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ
جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَقْبَلَ سَعْدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" هَذَا خَالِيَ، فَلْيُرَنِي امْرُؤٌ خَالَهُ ". رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
الضَّحَّاكِ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو،
عَنْ مَاعِزٍ التَّمِيمِيِّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَقْبَلَ سَعْدٌ فَقَالَ: " هَذَا
خَالِي ".
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ يَعُودُهُ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ
بِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ذُو مَالٍ وَلَا يَرِثُنِي إِلَّا
ابْنَةٌ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ:
فَالشَّطْرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " لَا ". قُلْتُ: فَالثُّلُثُ
؟ قَالَ: " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ
أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ،
وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ
بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيِّ امْرَأَتِكَ " - وَفِي رِوَايَةٍ:حَتَّى
اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فَمِ امْرَأَتِكَ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي ؟ فَقَالَ: " إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ
عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً
وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلِّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ
وَيَضُرَّ بِكَ آخَرُونَ ". ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ أَمْضِ
لِأَصْحَابِي
هِجْرَتَهُمْ، وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ". يَرْثِي لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْجَعْدِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ
عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: قَالَ:
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ وَبَطْنَهُ،
وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اشْفِ سَعْدًا وَأَتِمَّ لَهُ هِجْرَتَهُ ".
قَالَ سَعْدٌ: فَمَا زِلْتُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أَجِدُ بَرْدَ يَدِهِ عَلَى
كَبِدِي حَتَّى السَّاعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ سَعْدًا
فَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الْبَاسَ، إِلَهَ النَّاسِ، مَلِكَ
النَّاسِ، أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ لَهُ إِلَّا أَنْتَ، بِسْمِ اللَّهِ
أَرْقِيكَ مَنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ حَسَدٍ وَعَيْنٍ، اللَّهُمَّ أَصِحَّ
قَلْبَهُ وَجِسْمَهُ، وَاكْشِفْ سَقَمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ ".
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ:
سَأَلْتُ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ: " وَعَسَى أَنْ تَبْقَى يَنْتَفِعُ بِكَ
أَقْوَامٌ وَيَضُرُّ بِكَ آخَرُونَ ". فَقَالَ: أُمِّرَ سَعْدٌ عَلَى
الْعِرَاقِ، فَقَتَلَ قَوْمًا عَلَى الرِّدَّةِ فَضَرَّهُمْ،
وَاسْتَتَابَ قَوْمًا كَانُوا سَجَعُوا
سَجْعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، فَتَابُوا فَانْتَفَعُوا بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا مَعَانُ بْنُ
رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا وَرَقَّقَنَا، فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ، فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ، وَقَالَ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ. فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا سَعْدُ، أَعِنْدِي تَتَمَنَّى
الْمَوْتَ ! " فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: " يَا
سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ لِلْجَنَّةِ خُلِقْتَ، فَمَا طَالَ عُمْرُكَ أَوْ حَسُنَ مِنْ
عَمَلِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ ".
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ،
عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ
".
وَرَوَاهُ بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
لِسَعْدٍ: " اللَّهُمَّ سَدِّدْ سَهْمَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ، وَحَبِّبْهُ
إِلَى عِبَادِكَ ".
وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ،
عَنْ مُطْعِمِ بْنِ الْمِقْدَامِ وَغَيْرِهِ، أَنَّ سَعْدًا قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُجِيبَ دَعْوَتِي. فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ
لَا يَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ عَبْدٍ حَتَّى يُطَيِّبَ مَطْعَمَهُ ". فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُطَيِّبَ طُعْمَتِي. فَدَعَا لَهُ.
قَالُوا: فَكَانَ سَعْدٌ يَتَوَرَّعُ مِنَ السُّنْبُلَةِ يَجِدُهَا فِي زَرْعِهِ،
فَيَرُدُّهَا مِنْ حَيْثُ أُخِذَتْ.
وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، لَا يَكَادُ يَدْعُو بِدُعَاءٍ إِلَّا
اسْتُجِيبَ لَهُ، فَمِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ
" مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ،
أَنْ أَهْلَ الْكُوفَةِ شَكَوَا سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى
قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي. فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَّا إِنِّي لَا آلُو أَنْ
أُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ;
أُطِيلُ الْأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ. فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ
بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَكَانَ قَدْ بَعَثَ مِنْ يَسْأَلُ عَنْهُ بِمَحَالِّ
الْكُوفَةِ، فَجَعَلُوا لَا يَسْأَلُونَ أَهْلَ مَسْجِدٍ إِلَّا أَثْنَوْا
خَيْرًا، حَتَّى مَرُّوا بِمَسْجِدٍ لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ
يُقَالُ لَهُ: أَبُو سَعْدَةَ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ. فَقَالَ: إِنَّ سَعْدًا
كَانَ لَا يَسِيرُ فِي السَّرِيَّةِ،
وَلَا يِقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَا
يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. فَبَلَغَ سَعْدًا قَوْلُهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ
كَانَ عَبْدُكَ هَذَا قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، فَأَطِلْ عُمْرَهُ
وَأَدِمْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ
ذَلِكَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، يَقِفُ فِي
الطَّرِيقِ، فَيَغْمِزُ الْجَوَارِيَ، فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ:
شَيْخٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْهُ دَعْوَةُ سَعْدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ غَرِيبَةٍ،
أَنَّهُ أَدْرَكَ فِتْنَةَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ فَقُتِلَ فِيهَا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا يُوسُفُ الْقَاضِي، ثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ،
ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ لِسَعْدٍ يُقَالُ لَهَا: زَبْرَاءُ. وَعَلَيْهَا
قَمِيصٌ جَدِيدٌ، فَكَشَفَتْهَا الرِّيحُ، فَشَدَّ عَلَيْهَا عُمَرُ بِالدِّرَّةِ،
وَجَاءَ سَعْدٌ لِيَمْنَعَهُ، فَتَنَاوَلَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ، فَذَهَبَ سَعْدٌ
يَدْعُو عَلَى عُمَرَ، فَنَاوَلَهُ الدِّرَّةَ وَقَالَ: اقْتَصَّ. فَعَفَا عَنْ
عُمَرَ.
وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ سَعْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ كَلَامٌ، فَهَمَّ
سَعْدٌ أَنْ يَدْعُوَ
عَلَيْهِ، فَخَافَ ابْنُ مَسْعُودٍ،
وَجَعَلَ يَشْتَدُّ فِي الْهَرَبِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْقَادِسِيَّةِ كَانَ
سَعْدٌ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحٌ، فَلَمْ يَشْهَدْ يَوْمَ
الْفَتْحِ، يَعْنِي فَتْحَ الْقَادِسِيَّةِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَظْهَرَ دِينَهُ وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ
مُعْصَمُ
فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ
أَيِّمُ
فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ اكْفِنَا يَدَهُ وَلِسَانَهُ. فَجَاءَهُ سَهْمٌ
غَرْبٌ، فَأَصَابَهُ فَخَرِسَ وَيَبِسَتْ يَدَاهُ جَمِيعًا.
وَقَدْ أَسْنَدَ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ وَسَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَفِيهِ: ثُمَّ خَرَجَ سَعْدٌ، فَأَرَى النَّاسَ مَا بِهِ مِنَ
الْقُرُوحِ فِي ظَهْرِهِ ; لِيَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بَلْجٍ،
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَجُلًا نَالَ مِنْ عَلِيٍّ، فَنَهَاهُ سَعْدٌ
فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَدْعُو عَلَيْكَ. فَلَمْ يَنْتَهِ، فَدَعَا
اللَّهَ عَلَيْهِ فَمَا بَرِحَ حَتَّى جَاءَ بَعِيرٌ نَادٌّ فَتَخَبَّطَهُ.
وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ سَعْدًا رَأَى
جَمَاعَةً عُكُوفًا عَلَى رَجُلٍ، فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ مِنْ بَيْنِ اثْنَيْنِ،
فَإِذَا هُوَ يَسُبُّ عَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَلَمْ يَنْتَهِ، فَقَالَ: أَدْعُو عَلَيْكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: تَتَهَدَّدُنِي
كَأَنَّكَ نَبِيٌّ ! فَانْصَرَفَ سَعْدٌ، فَدَخَلَ دَارَ آلِ فُلَانٍ،
فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ
إِنَّ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَبَّ أَقْوَامًا قَدْ سَبَقَ
لَهُمْ مِنْكَ سَابِقَةُ الْحَسَنَى، وَأَنَّهُ قَدْ أَسْخَطَكَ سَبُّهُ
إِيَّاهُمْ، فَاجْعَلْهُ الْيَوْمَ آيَةً وَعِبْرَةً. قَالَ: فَخَرَجَتْ
بُخْتِيَّةٌ نَادَّةٌ مِنْ دَارِ آلِ فُلَانٍ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حَتَّى
دَخَلَتْ بَيْنَ أَضْعَافِ النَّاسِ، فَافْتَرَقَ النَّاسُ، فَأَخَذَتْهُ بَيْنَ
قَوَائِمِهَا، فَلَمْ تَزَلْ تَتَخَبَّطُهُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ: فَلَقَدْ
رَأَيْتُ النَّاسَ يَشْتَدُّونَ وَرَاءَ سَعْدٍ يَقُولُونَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ
دُعَاءَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مِينا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَطَّلِعُ عَلَى سَعْدٍ، فَنَهَاهَا فَلَمْ
تَنْتَهِ، فَاطَّلَعَتْ يَوْمًا وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: شَاهَ وَجْهُكِ.
فَعَادَ وَجْهُهَا فِي قَفَاهَا.
وَقَالَ كَثِيرٌ النَّوَّاءُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُلَيْلٍ قَالَ: دَخَلَ
سَعْدٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تُقَاتِلْ مَعَنَا ؟
فَقَالَ: إِنِّي مَرَّتْ بِي رِيحٌ مُظْلِمَةٌ فَقُلْتُ: أَخْ أَخْ. فَأَنَخْتُ
رَاحِلَتِي حَتَّى انْجَلَتْ عَنِّي، ثُمَّ عَرَفَتِ الطَّرِيقَ فَسِرْتُ. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَخْ أَخْ، وَلَكِنْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [ الْحُجُرَاتِ: 9 ]. فَوَاللَّهِ
مَا كُنْتُ مَعَ الْبَاغِيَةِ عَلَى الْعَادِلَةِ، وَلَا مَعَ الْعَادِلَةِ عَلَى
الْبَاغِيَةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: مَا كُنْتُ لِأُقَاتِلَ رَجُلًا قَالَ لَهُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: مَنْ سَمِعَ هَذَا مَعَكَ ؟ فَقَالَ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَأُمُّ
سَلَمَةَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا إِنِّي لَوْ سَمِعْتُهُ مِنْهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَا قَاتَلْتُ عَلِيًّا. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ
وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَانَ بَيْنَهُمَا وَهُمَا بِالْمَدِينَةِ
فِي حَجَّةٍ حَجَّهَا مُعَاوِيَةُ، وَأَنَّهُمَا قَامَا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ
فَسَأَلَاهَا فَحَدَّثَتْهُمَا بِمَا حَدَّثَ بِهِ سَعْدٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
لَوْ سَمِعْتُ هَذَا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ لَكَنْتُ خَادِمًا لِعَلِيٍّ حَتَّى
يَمُوتَ أَوْ أَمُوتَ. وَفِي إِسْنَادِ هَذَا ضَعْفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدٍ، أَنَّهُ
سَمِعَ رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي عَلِيٍّ وَفِي خَالِدٍ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ
يَبْلُغْ مَا بَيْنَنَا دِينَنَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: طَافَ سَعْدٌ عَلَى تِسْعِ جَوَارٍ فِي
لَيْلَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْعَاشِرَةِ أَخَذَهُ النَّوْمُ،
فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تُوقِظَهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ مُصْعَبٍ: يَا بُنَيَّ، إِذَا
طَلَبْتَ شَيْئًا فَاطْلُبْهُ بِالْقَنَاعَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ لَا قَنَاعَةَ لَهُ
لَمْ يُغْنِهِ الْمَالُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ
سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رَأْسُ أَبِي فِي حِجْرِي وَهُوَ يَقْضِي فَبَكَيْتُ،
فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا بُنَيَّ ؟ وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُنِي
أَبَدًا، وَإِنِّي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِنَّ اللَّهَ يَدِينُ لِلْمُؤْمِنِينَ
بِحَسَنَاتِهِمْ فَاعْمَلُوا لِلَّهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ
بِحَسَنَاتِهِمْ، فَإِذَا نَفِدَتْ قَالَ: لِيَطْلُبْ كُلُّ عَامِلٍ ثَوَابَ
عَمَلِهِ مِمَّنْ عَمِلَ لَهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا حَضَرَتْ سَعْدًا الْوَفَاةُ دَعَا بِخَلَقِ جُبَّةٍ
فَقَالَ: كَفِّنُونِي فِيهَا، فَإِنِّي لَقِيتُ فِيهَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ
بَدْرٍ، وَإِنَّمَا كُنْتُ أُخَبِّئُهَا لِهَذَا الْيَوْمِ.
وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعْدٍ بِالْعَقِيقِ
خَارِجَ الْمَدِينَةِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ،
فَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ، وَصَلَّى بِصَلَاتِهِ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ
الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ - سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ - عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْأَكْثَرُونَ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، عَلَى الصَّحِيحِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَهُوَ آخِرُ الْعَشَرَةِ وَفَاةً. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ آخِرَ الْمُهَاجِرِينَ وَفَاةً. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: سَنَةَ خَمْسِينَ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَقَعْنَبُ بْنُ الْمُحَرِّرِ: تُوُفِّيَ
سَعْدٌ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ قَعْنَبٌ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ
سَلَمَةَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; خَمْسٌ وَخَمْسِينَ.
قَالُوا: وَكَانَ سَعْدٌ قَصِيرًا غَلِيظًا شَثْنَ الْأَصَابِعِ أَفْطَسَ،
أَشْعَرَ الْجَسَدِ،
يُخَضِّبُ بِالسَّوَادِ، وَكَانَ
مِيرَاثُهُ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا.
فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ
أَوَّلُ مَشَاهِدِهِ أُحُدٌ وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَدَخَلَ الشَّامَ،
وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَبِي
الدَّرْدَاءِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
كَانَ أَشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
تَوَلَّى نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ عَلِيٍّ، وَشَهِدَ فَتْحَ
سَمَرْقَنْدَ مِمَّا وَرَاءَ النَّهَرِ، فَاسْتُشْهِدَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الْيَسَرِ الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ
شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَدْرًا، وَأَسَرَ يَوْمئِذٍ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ، وَشَهِدَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاهِدِ كُلِّهَا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ. زَادَ
غَيْرُهُ: وَهُوَ آخِرُ
مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَخَمْسِينَ
وَذَلِكَ فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ. فَفِيهَا شَتَّى جُنَادَةُ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودٍ.
وَقِيلَ: فِيهَا غَزَا فِي الْبَحْرِ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ، وَفِي الْبَرِّ
عِيَاضُ بْنُ الْحَارِثِ. وَفِيهَا اعْتَمَرَ مُعَاوِيَةُ فِي رَجَبٍ، وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَفِيهَا
وَلَّى مُعَاوِيَةُ سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بِلَادَ خُرَاسَانَ وَعَزَلَ عَنْهَا
عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، فَسَارَ سَعِيدٌ إِلَى خُرَاسَانَ، وَالْتَقَى
مَعَ التُّرْكِ عِنْدَ صُغْدِ سَمَرْقَنْدَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَاسْتُشْهِدَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ - فِيمَا قِيلَ - قُثَمُ بْنُ
الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ سَأَلَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مُعَاوِيَةَ
أَنْ يُوَلِّيَهُ خُرَاسَانَ، فَقَالَ: إِنَّ بِهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ. فَقَالَ سَعِيدٌ لِمُعَاوِيَةَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدِ اصْطَنَعَكَ
أَبِي وَرَقَّاكَ، حَتَّى بَلَغْتَ بِاصْطِنَاعِهِ الْمَدَى الَّذِي لَا يُجَارَى
إِلَيْهِ وَلَا يُسَامَى، فَمَا شَكَرْتَ بَلَاءَهُ وَلَا جَازَيْتَهُ بِآلَائِهِ،
وَقَدَّمْتَ عَلَيَّ هَذَا - يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ - وَبَايَعْتَ
لَهُ، وَوَاللَّهِ لَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أَبًا وَأُمًّا وَنَفْسًا. فَقَالَ
لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَّا بَلَاءُ
أَبِيكَ عِنْدِي فَقَدْ يَحِقُّ عَلَيَّ الْجَزَاءُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ
شُكْرِي لِذَلِكَ أَنِّي طَلَبْتُ بِدَمِهِ حَتَّى تَكَشَّفَتِ الْأُمُورُ،
وَلَسْتُ بِلَائِمٍ لِنَفْسِي فِي التَّشْمِيرِ، وَأَمَّا فَضْلُ أَبِيكَ عَلَى
أَبِيهِ، فَأَبُوكَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنِّي وَأَقْرَبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فَضْلُ أُمِّكَ عَلَى أُمِّهِ فَمَا لَا
يُنْكَرُ، فَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ كَلْبٍ،
وَأَمَّا فَضْلُكَ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ الْغُوطَةَ دُحِسَتْ
لِيَزِيدَ رِجَالًا مِثْلَكَ. يَعْنِي أَنَّ الْغُوطَةَ لَوْ مُلِئَتْ رِجَالًا
مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ عُثْمَانَ كَانَ يَزِيدُ خَيْرًا وَأَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُمْ.
فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْتَ
أَحَقُّ مَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ، وَقَدْ عَتَبَ عَلَيْكَ فِيَّ فَأَعْتِبْهُ.
قَالَ: فَوَلَّاهُ حَرْبَ خُرَاسَانَ: فَأَتَى سَمَرْقَنْدَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ
أَهْلُ الصُّغْدِ مِنَ التَّرْكِ، فَقَاتَلَهُمْ وَهَزَمَهُمْ وَحَصَرَهُمْ فِي
مَدِينَتِهِمْ، فَصَالَحُوهُ وَأَعْطَوْهُ رَهْنًا خَمْسِينَ غُلَامًا يَكُونُونَ
فِي يَدِهِ مِنْ أَبْنَاءِ عُظَمَائِهِمْ، فَأَقَامَ بِالتِّرْمِذِ، وَلَمْ يَفِ
لَهُمْ، وَجَاءَ بِالْغِلْمَانِ الرَّهْنِ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا دَعَا مُعَاوِيَةُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ وَلَدِهِ أَنْ
يَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى
هَذَا فِي حَيَاةِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ; فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ
طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ،
وَاسْتَعْفَاهُ مِنْ إِمْرَةِ الْكُوفَةِ فَأَعْفَاهُ لِكِبَرِهِ وَضَعْفِهِ،
وَعَزَمَ عَلَى تَوْلِيَتِهَا سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الْمُغِيرَةَ كَأَنَّهُ نَدِمَ، فَجَاءَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْأَلَ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِهِ، فَسَأَلَ ذَلِكَ يَزِيدُ مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ: مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟
قَالَ: الْمُغِيرَةُ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ مِنَ الْمُغِيرَةِ وَرَدَّهُ
إِلَى عَمَلِ الْكُوفَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْعَى
فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ سَعَى الْمُغِيرَةُ فِي تَوْطِيدِ ذَلِكَ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى زِيَادٍ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ، فَكَرِهَ زِيَادٌ ذَلِكَ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ لَعِبِ يَزِيدَ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّعِبِ وَالصَّيْدِ، فَبَعَثَ زِيَادٌ إِلَيْهِ مَنْ يَثْنِي رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ كَعْبٍ النُّمَيْرِيُّ - وَكَانَ صَاحِبًا أَكِيدًا لِزِيَادٍ - فَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعَ بِيَزِيدَ أَوَّلًا، فَكَلَّمَهُ عَنْ زِيَادٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ ذَلِكَ، فَإِنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنَ السَّعْيِ فِيهِ، فَانْزَجَرَ يَزِيدُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ بِأَبِيهِ وَاتَّفَقَا عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ، وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، شَرَعَ مُعَاوِيَةُ فِي نَظْمِ الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَعَقَدَ الْبَيْعَةَ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِذَلِكَ، فَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، إِلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَالْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَ عَبَّاسٍ، فَرَكِبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَلَمَّا اجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ مَرْجِعَهُ مِنْ مَكَّةَ اسْتَدْعَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةِ، فَأَوْعَدَهُ وَتَهَدَّدَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَلَيْهِ رَدًّا وَأَجْلَدِهِمْ فِي الْكَلَامِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أَلْيَنَهُمْ كَلَامًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، ثُمَّ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ وَهَؤُلَاءِ حُضُورٌ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِيَزِيدَ وَهُمْ قُعُودٌ، وَلَمْ يُوَافِقُوا وَلَمْ يُظْهِرُوا خِلَافًا ; لِمَا تَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَاتَّسَقَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَوَفَدَتِ الْوُفُودُ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَى يَزِيدَ. فَكَانَ فِيمَنْ قَدِمَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَأَمَرَهُ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُحَادِثَ يَزِيدَ، فَجَلَسَا ثُمَّ خَرَجَ الْأَحْنَفُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَاذَا رَأَيْتَ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّا نَخَافُ اللَّهَ إِنْ كَذَبْنَا وَنَخَافُكُمْ إِنْ صَدَقْنَا، وَأَنْتَ
أَعْلَمُ بِهِ فِي لَيْلِهِ
وَنَهَارِهِ، وَسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَمَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَأَنْتَ
أَعْلَمُ بِهِ بِمَا أَرَدْتَ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَسْمَعَ وَنُطِيعَ،
وَعَلَيْكَ أَنْ تَنْصَحَ لِلْأُمَّةِ. وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا صَالَحَ
الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَهِدَ لِلْحَسَنِ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا
مَاتَ الْحَسَنُ قَوِيَ أَمْرُ يَزِيدَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، وَرَأَى أَنَّهُ
لِذَلِكَ أَهْلًا، وَذَاكَ مِنْ شِدَّةِ مَحَبَّةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلِمَا
كَانَ يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ النَّجَابَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَسِيَّمَا
أَوْلَادِ الْمُلُوكِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْحُرُوبِ وَتَرْتِيبِ الْمُلْكِ
وَالْقِيَامِ بِأُبَّهَتِهِ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقُومُ أَحَدٌ مِنْ
أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ فِي الْمُلْكِ مَقَامَهُ، وَلِهَذَا قَالَ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: إِنِّي خِفْتُ أَنْ أَذَرَ
الرَّعِيَّةَ مِنْ بَعْدِي كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ. فَقَالَ
لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا بَايَعَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَايَعْتُهُ، وَلَوْ كَانَ
عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ. وَقَدْ عَاتَبَ مُعَاوِيَةَ فِي
وِلَايَتِهِ يَزِيدَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ
يُوَلِّيَهُ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْ مُلِئَتِ الْغُوطَةُ
رِجَالًا مِثْلَكَ لَكَانَ يَزِيدُ أَحَبَّ مِنْكُمْ كُلِّكُمْ.
وَرُوِّينَا عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ: اللَّهُمَّ
إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي وَلَّيْتُهُ لِأَنَّهُ فِيمَا أَرَاهُ أَهْلٌ
لِذَلِكَ فَأَتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي
إِنَّمَا وَلَّيْتُهُ لِأَنِّي أُحِبُّهُ فَلَا تُتْمِمْ لَهُ مَا وَلَّيْتُهُ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ سَمَرَ
لَيْلَةً، فَتَكَلَّمَ أَصْحَابُهُ فِي
الْمَرْأَةِ الَّتِي يَكُونُ وَلَدُهَا
نَجِيبًا، فَذَكَرُوا صِفَةَ الْمَرْأَةِ الَّتِي يَكُونُ وَلَدُهَا نَجِيبًا.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَدِدْتُ لَوْ عُرِّفْتُ بِامْرَأَةٍ تَكُونُ بِهَذِهِ
الْمَثَابَةِ. فَقَالَ أَحَدُ جُلَسَائِهِ: قَدْ وَجَدْتُ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَمَنْ ؟ قَالَ: ابْنَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَتَزَوَّجَهَا مُعَاوِيَةُ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَجَاءَ
نَجِيبًا ذَكِيًّا حَاذِقًا. ثُمَّ خَطَبَ امْرَأَةً أُخْرَى فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ،
وَوَلَدَتْ لَهُ غُلَامًا آخَرَ، وَهَجَرَ أُمَّ يَزِيدَ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ فِي
جَنْبِ دَارِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا فِي النَّظَّارَةِ، وَمَعَهُ
امْرَأَتُهُ الْأُخْرَى، إِذْ نَظَرَ إِلَى أُمِّ يَزِيدَ وَهِيَ تُسَرِّحُهُ،
فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: قَبَّحَهَا اللَّهُ وَقَبَّحَ مَا تُسَرِّحُ. فَقَالَ:
وَلِمَ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ وَلَدَهَا لَأَنْجَبُ مِنْ وَلَدِكِ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ
بَيَّنْتُ لَكِ ذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَنَّ لَهُ أَنْ يُطْلِقَ لَكَ مَا تَتَمَنَّاهُ عَلَيْهِ،
فَاطْلُبْ مِنِّي مَا شِئْتَ. فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يُطْلِقَ لِي كِلَابًا لِلصَّيْدِ، وَخَيْلًا وَرِجَالًا يَكُونُونَ مَعِي فِي
الصَّيْدِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَمَرْنَا لَكَ بِذَلِكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى
يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لِأَخِيهِ، فَقَالَ يَزِيدُ: أَوَيُعْفِينِي
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ
تَسْأَلَ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُ - وَأَطَالَ اللَّهُ عُمُرَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ - أَنْ أَكُونَ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ
بَلَغَنِي أَنَّ عَدْلَ يَوْمٍ فِي الرَّعِيَّةِ كَعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ.
فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: كَيْفَ
رَأَيْتِ ؟ فَعَلِمَتْ وَتَحَقَّقَتْ فَضْلَ يَزِيدَ عَلَى وَلَدِهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَاةَ أُمِّ حَرَامٍ
بِنْتِ مِلْحَانَ الْأَنْصَارِيَّةِ امْرَأَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،
وَالصَّحِيحُ الَّذِي لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ غَيْرَهُ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ
سَنَةَ
سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا مَعَ مُعَاوِيَةَ حِينَ دَخَلَ قُبْرُسَ وَقَصَتْهَا بَغْلَتُهَا فَمَاتَتْ هُنَاكَ وَقَبْرُهَا بِقُبْرُسَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ أَوْرَدَ فِي تَرْجَمَتِهَا حَدِيثَهَا الْمُخَرَّجَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِيقَيْلُولَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهَا، وَرُؤْيَاهُ فِي مَنَامِهِ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ الْبَحْرِ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا، ثُمَّ نَامَ فَرَأَى كَذَلِكَ، فَقَالَتِ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ: " أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ " وَهُمُ الَّذِينَ فَتَحُوا قُبْرُسَ، فَكَانَتْ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ غَزَوْا بِلَادَ الرُّومِ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ! وَمَعَهُمْ أَبُو أَيُّوبَ، وَقَدْ تُوُفِّيَ هُنَاكَ، فَقَبْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ سُورِ قُسْطَنْطِينِيَّةَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا مُقَرَّرًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ
فِيهَا كَانَ مَشْتَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ بِأَرْضِ الرُّومِ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَفِي شَوَّالِهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ
عَنِ الْمَدِينَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ; لِأَنَّهُ
صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَةِ الضَّحَّاكُ
بْنُ قَيْسٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى
خُرَاسَانَ سَعِيدُ بْنُ عُثْمَانَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ
الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وَهُوَ أَخُو عُبَادَةَ وَسَهْلٍ ابْنَيْ حُنَيْفٍ،
بَعَثَهُ عُمَرُ لِمِسَاحَةِ خَرَاجِ السَّوَادِ بِالْعِرَاقِ، وَاسْتَنَابَهُ
عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ صُحْبَةَ
عَائِشَةَ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ دَارِ الْإِمَارَةِ نُتِفَتْ لِحْيَتُهُ
وَحَوَاجِبُهُ وَأَشْفَارُ عَيْنَيْهِ وَمُثِّلَ بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ
وَسَلَّمَهُ الْبَلَدَ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارَقَتُكَ ذَا
لِحْيَةٍ، وَاجْتَمَعْتُ بِكَ أَمَرَدَ. فَتَبَسَّمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَقَالَ: لَكَ أَجْرُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَلَهُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السُّنَنِ " حَدِيثُ
الْأَعْمَى الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ
يَدْعُوَ لَهُ لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَوْءَ بَصَرِهِ، فَرَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَلَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ السَّنَةِ سِوَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ
فِيهَا غَزَا مَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيُّ أَرْضَ الرُّومِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ فِي الْبَحْرِ.
وَقِيلَ: بَلْ غَزَا الْبَحْرَ وَبِلَادَ الرُّومِ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ. وَقِيلَ: إِنَّمَا شَتَّى بِأَرْضِ الرُّومِ عَمْرُو بْنُ يَزِيدَ
الْجُهَنِيُّ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ
عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ. وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ لِعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثَّقَفِيِّ،
وَهُوَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ، وَأُمُّ الْحَكَمِ هِيَ أُخْتُ مُعَاوِيَةَ،
وَعَزَلَ عَنْهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، فَوَلَّى ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ عَلَى
شُرْطَتِهِ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَخَرَجَتِ الْخَوَارِجُ فِي أَيَّامِ ابْنِ
أُمِّ الْحَكَمِ، وَكَانَ رَئِيسَهُمْ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ حَيَّانُ بْنُ
ظِبْيَانَ السُّلَمِيُّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَقَتَلُوا الْخَوَارِجَ
جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ أَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَهْلِ
الْكُوفَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ طَرِيدًا، فَرَجَعَ إِلَى
خَالِهِ مُعَاوِيَةَ، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَأُوَلِّيَنَّكَ مِصْرًا
هُوَ خَيْرٌ لَكَ. فَوَلَّاهُ مِصْرَ، فَلَمَّا
سَارَ إِلَيْهَا تَلَقَّاهُ
مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ لَهُ:
ارْجِعْ إِلَى خَالِكَ مُعَاوِيَةَ، فَلَعَمْرِي لَا تَسِيرُ فِينَا سِيرَتَكَ فِي
إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَرَجَعَ ابْنُ أُمِّ الْحَكَمِ إِلَى
مُعَاوِيَةَ، وَلَحِقَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ وَافِدًا عَلَى مُعَاوِيَةَ،
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَ عِنْدَهُ أُخْتَهُ أُمَّ الْحَكَمِ، وَهِيَ أُمُّ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الَّذِي طَرَدَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَهْلُ مِصْرَ، فَلَمَّا
رَآهُ مُعَاوِيَةُ قَالَ: بَخٍ بَخٍ، هَذَا مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ. فَقَالَتْ
أُمُّ الْحَكَمِ: لَا مَرْحَبًا بِهِ، تَسْمَعُ بِالْمُعَيْدِيِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَرَاهُ. فَقَالَ: مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ عَلَى رِسْلِكِ يَا أُمَّ الْحَكَمِ،
أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ تَزَوَّجْتِ فَمَا أَكْرَمْتِ، وَوَلَدْتِ فَمَا
أَنْجَبْتِ، أَرَدْتِ أَنْ يَلِيَ ابْنُكِ الْفَاسِقُ عَلَيْنَا، فَيَسِيرَ فِينَا
كَمَا سَارَ فِي إِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُرِيَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَضَرَبْنَاهُ ضَرْبًا يُطَأْطِئُ
مِنْهُ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ الْجَالِسُ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ
فَقَالَ: كُفِّي.
قِصَّةٌ غَرِيبَةٌ
ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ " الْمُنْتَظَمِ "
بِسَنَدِهِ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ مُعَاوِيَةَ بَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عَلَى
السِّمَاطِ إِذَا شَابٌّ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ قَدْ مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَأَنْشَدَهُ شِعْرًا مَضْمُونُهُ التَّشَوُّقُ إِلَى زَوْجَتِهِ سُعَادَ،
فَاسْتَدْنَاهُ مُعَاوِيَةُ، وَاسْتَحْكَاهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ مُزَوَّجًا بِابْنَةِ عَمٍّ لِي، وَكَانَ لِي
إِبِلٌ وَغَنَمٌ، فَأَنْفَقَتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا قَلَّ مَا بِيَدِي
رَغِبَ عَنِّي أَبُوهَا وَشَكَانِي إِلَى عَامِلِكَ
بِالْكُوفَةِ ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ،
وَبَلَغَهُ جَمَالُهَا فَحَبَسَنِي فِي الْحَدِيدِ، وَحَمَلَنِي عَلَى أَنْ
أُطَلِّقَهَا، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أَعْطَاهُ عَامِلُكَ عَشَرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ، فَزَوَّجَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ أَتَيْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَنْتَ غِيَاثُ الْمَحْرُوبِ، وَسَنَدُ الْمَسْلُوبِ، فَهَلْ مَنْ فَرَجٍ ؟
ثُمَّ بَكَى وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فِي الْقَلْبِ مِنِّي نَارُ وَالنَّارُ فِيهَا شَرَارُ وَالْجِسْمُ مِنِّي نَحِيلُ
وَاللَّوْنُ فِيهِ اصْفِرَارُ وَالْعَيْنُ تَبْكِي بِشَجْوٍ
فَدَمْعُهَا مِدْرَارُ وَالْحُبُّ دَاءٌ عَسِيرٌ
فِيهِ الطَّبِيبُ يَحَارُ حَمَلْتُ فِيهِ عَظِيمًا
فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبَارُ فَلَيْسَ لَيْلِي بِلَيْلٍ
وَلَا نَهَارِي نَهَارُ
قَالَ: فَرَقَّ لَهُ مُعَاوِيَةُ، وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ أُمِّ الْحَكَمِ
يُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَعِيبُهُ عَلَيْهِ، وَيَأْمُرُهُ بِطَلَاقِهَا
قَوْلًا وَاحِدًا، فَلَمَّا جَاءَهُ كِتَابُ مُعَاوِيَةَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ،
وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَلَّى بَيْنِي وَبَيْنَهَا
سَنَةً، ثُمَّ عَرَضَنِي عَلَى السَّيْفِ. وَجَعَلَ يُؤَامِرُ نَفْسَهُ عَلَى
طَلَاقِهَا، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا تُجِيبُهُ نَفْسُهُ، وَجَعَلَ
الْبَرِيدُ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ يَسْتَحِثُّهُ، فَطَلَّقَهَا وَأَخْرَجَهَا
عَنْهُ وَسَيَّرَهَا مَعَ الْوَفْدِ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ بَيْنَ
يَدَيْهِ رَأَى مَنْظَرًا جَمِيلًا، فَلَمَّا اسْتَنْطَقَهَا، فَإِذَا هِيَ
أَفْصَحُ النَّاسِ وَأَحْلَاهُمْ كَلَامًا، وَأَكْمَلُهُمْ جَمَالًا وَدَلَالًا،
فَقَالَ لِابْنِ عَمِّهَا: يَا أَعْرَابِيُّ، هَلْ مِنْ سُلُوٍّ عَنْهَا
بِأَفْضَلِ الرَّغْبَةِ ؟ قَالَ: نَعَمَ إِذَا فَرَّقْتَ بَيْنَ رَأْسِي
وَجَسَدِي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَا تَجْعَلَنِّي وَالْأَمْثَالُ
تُضْرَبُ بِي كَالْمُسْتَغِيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ
ارْدُدْ سُعَادَ عَلَى حَيْرَانَ مُكْتَئِبٍ يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي هَمٍّ
وَتِذْكَارِ
قَدْ شَفَّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلُهُ قَلَقٌ وَأَسْعَرَ الْقَلْبُ مِنْهُ أَيُ
إِسْعَارِ
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَى مَحَبَّتَهَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي رَمْسٍ
وَأَحْجَارِ
كَيْفَ السُّلُوُّ وَقَدْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهَا وَأَصْبَحَ الْقَلْبُ عَنْهَا
غَيْرَ صَبَّارِ
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: فَإِنَّا نُخَيِّرُهَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ ابْنِ
أُمِّ الْحَكَمِ. فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ:
هَذَا وَإِنْ أَصْبَحَ فِي أَطْمَارِ وَكَانَ فِي نَقْصٍ مِنَ الْيَسَارِ
أَكْثَرُ عِنْدِي مِنْ أَبِي وَجَارِي وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ
أَخْشَى إِذَا غَدَرْتُ حَرَّ النَّارِ
قَالَ: فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ، وَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ
وَمَرْكَبٍ وَوَطَاءٍ. وَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا زَوَّجَهُ بِهَا
وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ. حَذَفْنَا مِنْهَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً مُطَوَّلَةً.
وَجَرَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فُصُولٌ طَوِيلَةٌ بَيْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ وَالْخَوَارِجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمْعًا غَفِيرًا،
وَحَبْسَ مِنْهُمْ آخَرِينَ، وَكَانَ صَارِمًا كَأَبِيهِ، مِقْدَامًا فِي
أَمْرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مُنَافٍ الْقُرَشِيُّ
الْأُمَوِيُّ، قُتِلَ أَبُوهُ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ وَنَشَأَ سَعِيدٌ فِي حِجْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عُمْرُ سَعِيدٍ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ سِنِينَ، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْأَجْوَادِ الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ جَدُّهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ -
وَيُكَنَّى بِأَبِي أُحَيْحَةَ - رَئِيسًا فِي قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ: ذُو
التَّاجِ. لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا اعْتَمَّ لَا يَعْتَمُّ أَحَدٌ يَوْمَئِذٍ ;
إِعْظَامًا لَهُ، وَكَانَ سَعِيدٌ هَذَا مِنْ عُمَّالِ عُمَرَ عَلَى السَّوَادِ
وَجَعَلَهُ عُثْمَانُ فِيمَنْ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ ; لِفَصَاحَتِهِ، قَالُوا:
وَكَانَ أَشْبَهُ النَّاسِ لَهْجَةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا الَّذِينَ
يَسْتَخْرِجُونَ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ، مِنْهُمْ أُبَيُّ
بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. وَاسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْكُوفَةِ
بَعْدَ عَزْلِهِ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، فَافْتَتَحَ طَبَرِسْتَانَ
وَجُرْجَانَ، وَنَقَضَ الْعَهْدَ أَهْلُ أَذْرَبِيجَانَ فَغَزَاهُمْ فَفَتَحَهَا،
فَلَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ اعْتَزَلَ الْفِتْنَةَ، فَلَمْ يَشْهَدِ الْجَمَلَ وَلَا
صِفِّينَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمُعَاوِيَةَ وَفَدَ إِلَيْهِ، فَعَتَبَ
عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَعَذَرَهُ، فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ
جِدًّا، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ
مَرَّتَيْنِ، وَعَزَلَهُ عَنْهَا مَرَّتَيْنِ بِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَ
سَعِيدٌ هَذَا لَا يَسُبُّ عَلِيًّا، وَمَرْوَانُ يَسُبُّهُ، وَرَوَى عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَعُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ، وَعَنْهُ ابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ،
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُرْوَةُ
بْنُ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَيْسَ لَهُ فِي " الْمُسْنَدِ "
وَلَا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ شَيْءٌ. وَقَدْ كَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ
السَّرِيرَةِ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَجْمَعُ أَصْحَابَهُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ
فَيُطْعِمُهُمْ وَيَكْسُوهُمُ الْحُلَلَ، وَيُرْسِلُ إِلَى بُيُوتِهِمْ
بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْبِرِّ الْكَثِيرِ، وَكَانَ يُصِرُّ الصُّرَرَ
فَيَضَعُهَا بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ تُعْرَفُ بَعْدَهُ
بِدَارِ نَعِيمٍ، وَحَمَّامِ نَعِيمٍ، بِنَوَاحِي الدِّيمَاسِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا
مُمَدَّحًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ حَدِيثِهِ مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ،
حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْجُعْفِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ،
ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ".
وَمِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ
بَكَّارٍ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبَانٍ، حَدَّثَنِي
خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبُرْدٍ، فَقَالَتْ:
إِنِّي نَوَيْتُ أَنْ أُعْطِيَ هَذَا الثَّوْبَ أَكْرَمَ الْعَرَبِ. فَقَالَ:
" أَعْطِيهِ هَذَا الْغُلَامَ "، يَعْنِي سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَهُوَ
وَاقِفٌ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الثِّيَابَ السَّعِيدِيَّةَ.
وَأَنْشَدَ الْفَرَزْدَقُ قَوْلَهُ فِيهِ:
تَرَى الْغُرَّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ إِذَا مَا الْخَطْبُ فِي الْحَدَثَانِ
عَالَا قِيَامًا يَنْظُرُونَ إِلَى سَعِيدٍ
كَأَنَّهُمُ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالَا
وَذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ عَزَلَ عَنِ الْكُوفَةِ الْمُغِيرَةَ، وَوَلَّاهَا
سَعِيدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ،
ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، فَأَقَامَ بِهَا حِينًا، وَلَمْ
تُحْمَدْ سِيرَتُهُ فِيهِمْ وَلَمْ يُحِبُّوهُ، ثُمَّ رَكِبَ مَالِكُ بْنُ
الْحَارِثِ - وَهُوَ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - فِي جَمَاعَةٍ إِلَى عُثْمَانَ،
وَسَأَلُوهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ سَعِيدًا، فَلَمْ يَعْزِلْهُ، وَكَانَ
عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ فَبَعْثَهُ إِلَيْهِمْ، وَسَبَقَ الْأَشْتَرُ إِلَى
الْكُوفَةِ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ مِنَ الدُّخُولِ
إِلَيْهِمْ، وَرَكِبَ الْأَشْتَرُ فِي جَيْشٍ يَمْنَعُونَهُ مِنَ
الدُّخُولِ، قِيلَ: تَلَقَّوْهُ إِلَى
الْعُذَيْبِ - وَقَدْ نَزَلَ سَعِيدٌ بِالْعُذَيْبِ - فَمَنَعُوهُ مِنَ الدُّخُولِ
إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى رَدُّوهُ إِلَى عُثْمَانَ، وَوَلَّى
الْأَشْتَرُ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّغْرِ،
وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ عَلَى الْفَيْءِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ أَهْلُ
الْكُوفَةِ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ فَأَمْضَاهُ، وَسَرَّهُ ذَلِكَ
فِيمَا أَظْهَرَهُ، وَلَكِنْ كَانَ هَذَا أَوَّلَ وَهَنٍ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ.
وَأَقَامَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَ زَمَنُ حَصْرِ
عُثْمَانَ، فَكَانَ عِنْدَهُ بِالدَّارِ، ثُمَّ لَمَّا رَكِبَ طَلْحَةُ
وَالزُّبَيْرُ مَعَ عَائِشَةَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُونَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ رَكِبَ
مَعَهُمْ، ثُمَّ انْفَرَدَ عَنْهُمْ هُوَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ
وَغَيْرُهُمَا، فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ حَتَّى انْقَضَتْ تِلْكَ الْحُرُوبُ
كُلُّهَا، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ إِمْرَةَ الْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ، وَعَزَلَ مَرْوَانَ، فَأَقَامَ سَبْعًا، ثُمَّ رَدَّ مَرْوَانَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ:
بَعَثَنِي زِيَادٌ فِي شُغُلٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ أُمُورِي
قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لِمَنْ يَكُونُ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ ؟
فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَكُونُ بَيْنَ جَمَاعَةٍ، أَمَّا كَرِيمَةُ
قُرَيْشٍ فَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَأَمَّا فَتَى قُرَيْشٍ حَيَاءً وَدَهَاءً
وَسَخَاءً فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، وَأَمَّا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
فَرَجُلٌ سَيِّدٌ كَرِيمٌ، وَأَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ اللَّهِ الْفَقِيهُ فِي
دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ فِي حُدُودِ اللَّهِ فَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ،
وَأَمَّا رَجُلُ نَفْسِهِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَمَّا رَجُلٌ
يَرُدُّ الشَّرِيعَةَ مَعَ دَوَاهِي
السِّبَاعِ وَيَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَرُوِّينَا أَنَّهُ اسْتَسْقَى يَوْمًا فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ،
فَأَخْرَجَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ دَارِهِ مَاءً فَشَرِبَ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ رَأَى
ذَلِكَ الرَّجُلَ يَعْرِضُ دَارَهُ لِلْبَيْعِ، فَسَأَلَ عَنْهُ: لِمَ يَبِيعُ
دَارَهُ ؟ فَقَالُوا: عَلَيْهِ دَيْنٌ ; أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، فَبَعَثَ
إِلَى غَرِيمِهِ فَقَالَ: هِيَ لَكَ عَلَيَّ. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبِ الدَّارِ
فَقَالَ: اسْتَمْتِعْ بِدَارِكَ.
وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ يُجَالِسُونَهُ قَدِ افْتَقَرَ
وَأَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّ أَمِيرَنَا
هَذَا يُوصَفُ بِكَرَمٍ، فَلَوْ ذَكَرْتَ لَهُ حَالَكَ فَلَعَلَّهُ يَسْمَحُ لَكَ
بِشَيْءٍ. فَقَالَ: وَيْحَكِ، لَا تُخْلِقِي وَجْهِي، فَأَلَحَّتْ عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ، فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ مَكَثَ
الرَّجُلُ جَالِسًا فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَظُنُّ جُلُوسَكَ
لِحَاجَةٍ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَقَالَ سَعِيدٌ لِغِلْمَانِهِ: انْصَرِفُوا.
ثُمَّ قَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَمْ يَبْقَ غَيْرِي وَغَيْرُكَ. فَسَكَتَ، فَأَطْفَأَ
الْمِصْبَاحَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، لَسْتَ تَرَى وَجْهِي،
فَاذْكُرْ حَاجَتَكَ. فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَصَابَتْنَا فَاقَةٌ
وَحَاجَةٌ فَأَحْبَبْتُ ذِكْرَهَا لَكَ فَاسْتَحْيَيْتُ. فَقَالَ لَهُ: إِذَا
أَصْبَحْتَ فَالْقَ فُلَانًا وَكِيلِي. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ لَقِيَ
الْوَكِيلَ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنَّ الْأَمِيرَ قَدْ أَمَرَ لَكَ بِشَيْءٍ
فَأْتِ بِمَنْ يَحْمِلُهُ مَعَكَ. فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَنْ يَحْمِلُهُ. ثُمَّ
انْصَرَفَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلَامَهَا، وَقَالَ: حَمَلْتِينِي عَلَى
بَذْلِ وَجْهِيَ لِلْأَمِيرِ، فَقَدْ أَمَرَ لِي بِشَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ
يَحْمِلُهُ، وَمَا أَرَاهُ أَمَرَ لِي إِلَّا بِدَقِيقٍ أَوْ طَعَامٍ، وَلَوْ
كَانَ مَالًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى مَنْ يَحْمِلُهُ، وَلَأَعْطَانِيهِ. فَقَالَتْ
لَهُ الْمَرْأَةُ: فَمَهْمَا أَعْطَاكَ فَإِنَّهُ يَقُوتُنَا
فَخُذْهُ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى
الْوَكِيلِ، فَقَالَ لَهُ الْوَكِيلُ: إِنِّي أَخْبَرْتُ الْأَمِيرَ أَنَّهُ
لَيْسَ لَكَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ، وَقَدْ أَرْسَلَ بِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ
السُّودَانِ يَحْمِلُونَهُ مَعَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
مَنْزِلِهِ إِذَا عَلَى رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ،
فَقَالَ لِلْغِلْمَانِ: ضَعُوا مَا مَعَكُمْ وَانْصَرِفُوا. فَقَالُوا: إِنَّ
الْأَمِيرَ قَدْ أَطْلَقْنَا لَكَ، فَإِنَّهُ مَا بَعَثَ مَعَ خَادِمٍ هَدِيَّةً
إِلَى أَحَدٍ إِلَّا كَانَ الْخَادِمُ الَّذِي يَحْمِلُهَا مِنْ جُمْلَتِهَا.
قَالَ: فَحَسُنَ حَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ إِلَى
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِهَدَايَا وَأَمْوَالٍ وَكِتَابٍ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ
يَخْطُبُ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ أُمَّ عُثْمَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بِنْتِ جَرِيرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، فَلَمَّا وَصَلَتِ الْهَدَايَا وَالْأَمْوَالُ
وَالْكِتَابُ قَرَأَهُ، ثُمَّ فَرَّقَ الْهَدَايَا فِي جُلَسَائِهِ، ثُمَّ كَتَبَ
إِلَيْهِ كِتَابًا لَطِيفًا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [
الْعَلَقِ: 6، 7 ]. وَالسَّلَامُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ سَعِيدًا خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عَلِيٍّ مِنْ
فَاطِمَةَ، الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَجَابَتْ إِلَى
ذَلِكَ وَشَاوَرَتْ أَخَوَيْهَا فَكَرِهَا ذَلِكَ - وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّمَا
كَرِهَ ذَلِكَ الْحُسَيْنُ وَأَجَابَ الْحَسَنُ - فَهَيَّأَتْ دَارَهَا وَنَصَبَتْ
سَرِيرًا وَتَوَاعَدُوا لِلْكِتَابِ، وَأَمَرَتِ ابْنَهَا زَيْدَ بْنَ عُمَرَ أَنْ
يُزَوِّجَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ - وَفِي رِوَايَةٍ:
بِمِائَتَيْ أَلْفٍ - مَهْرًا. وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ لِيَذْهَبُوا
مَعَهُ،
فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ
أُحْرِجَ ابْنَيْ فَاطِمَةَ. فَتَرَكَ التَّزْوِيجَ، وَأَطْلَقَ جَمِيعَ ذَلِكَ
الْمَالِ لَهَا.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَعَبْدُ الْأَعَلَى بْنُ حَمَّادٍ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ
سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَالَ الْخَادِمُ:
خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرْتُكَ
بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَإِذْ قَدْ جَاشَ فِي نَفْسِكَ أَنَّهَا دَنَانِيرُ،
فَادْفَعْ إِلَيْهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا قَبَضَهَا الْأَعْرَابِيُّ
جَلَسَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَالِكٌ ؟ أَلَمْ تَقْبِضْ نَوَالَكَ ؟ قَالَ:
بَلَى وَاللَّهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى الْأَرْضِ كَيْفَ تَأْكُلُ مِثْلَكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: جَاءَ رَجُلٌ فِي حَمَالَةِ أَرْبَعِ
دِيَاتٍ سَأَلَ فِيهَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ بِالْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ،
أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ. فَانْطَلَقَ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَإِذَا
سَعِيدٌ دَاخِلٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ: سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ.
فَقَصَدَهُ فَذَكَرَ لَهُ مَا أَقْدَمَهُ، فَتَرَكَهُ حَتَّى انْصَرَفَ مِنَ
الْمَسْجِدِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ: ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ
مَعَكَ ؟ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مَالًا لَا تَمْرًا.
فَقَالَ: أَعْرِفُ، ائْتِ بِمَنْ يَحْمِلُ مَعَكَ ؟ فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا، فَأَخَذَهَا الْأَعْرَابِيُّ، وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَسْأَلْ غَيْرَهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، أَخْزَى اللَّهُ الْمَعْرُوفُ
إِذَا لَمْ يَكُنِ
ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ،
فَأَمَّا إِذَا أَتَاكَ الرَّجُلُ تَكَادُ تَرَى دَمَهُ فِي وَجْهِهِ، أَوْ
جَاءَكَ مُخَاطِرًا لَا يَدْرِي أَتُعْطِيهِ أَمْ تَمْنَعُهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ
خَرَجْتَ لَهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِكِ مَا كَافَأْتَهُ.
وَقَالَ سَعِيدٌ: لِجَلِيسِي عَلَيَّ ثَلَاثٌ ; إِذَا دَنَا رَحَّبْتُ بِهِ،
وَإِذَا جَلَسَ أَوْسَعْتُ لَهُ، وَإِذَا حَدَّثَ أَقْبَلْتُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: يَا بُنَيَّ، لَا تُمَازِحِ الشَّرِيفَ فَيَحْقِدَ عَلَيْكَ،
وَلَا الدَّنِيءَ فَتَهُونَ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَجْتَرِئَ عَلَيْكَ.
وَخَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فَلْيَكُنْ
أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، إِنَّمَا يَتْرُكُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا
مُصْلِحٌ فَيَسْعَدُ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ وَتَخِيبُ أَنْتَ، وَالْمُصْلِحُ لَا
يَقِلُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِمَّا مُفْسِدٌ فَلَا يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: جَمَعَ أَبُو عُثْمَانَ طُرَفَ الْكَلَامِ.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ: مَوْطِنَانِ لَا أَسْتَحْيِي مِنْ رِفْقِي فِيهِمَا وَالتَّأَنِّي
عِنْدَهُمَا، مُخَاطَبَتِي جَاهِلًا أَوْ سَفِيهًا، وَعِنْدَ مَسْأَلَتِي حَاجَةً
لِنَفْسِي.
وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْكُوفَةِ،
فَأَكْرَمهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: لَا جَعَلَ اللَّهُ لَكَ إِلَى
لَئِيمٍ حَاجَةً، وَلَا زَالَتِ الْمِنَّةُ لَكَ فِي أَعْنَاقِ الْكِرَامِ،
وَإِذَا أَزَالَ عَنْ كَرِيمٍ نِعْمَةً جَعَلَكَ سَبَبًا لِرَدِّهَا عَلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ
الْوَلَدِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ أُمَّ الْبَنِينَ بِنْتَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أُخْتَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ. وَلَمَّا حَضَرَتْ سَعِيدًا الْوَفَاةُ جَمَعَ بَنِيهِ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا يَفْقِدْنَ أَصْحَابِي غَيْرَ وَجْهِي، وَصِلُوهُمْ بِمَا كُنْتُ أَصِلُهُمْ بِهِ، وَأَجْرُوا عَلَيْهِمْ مَا كُنْتُ أُجْرِي عَلَيْهِمْ، وَاكْفُوهُمْ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ ; فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ اضْطَرَبَتْ أَرْكَانُهُ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ ; مَخَافَةَ أَنْ يُرَدَّ، فَوَاللَّهِ لَرَجُلٌ يَتَمَلْمَلُ عَلَى فِرَاشِهِ يَرَاكُمْ مَوْضِعًا لِحَاجَتِهِ، أَعْظَمُ مِنَّةً عَلَيْكُمْ مِمَّا تُعْطُونَهُ. ثُمَّ أَوْصَاهُمْ بِوَصَايَا كَثِيرَةٍ، مِنْهَا أَنْ يُوَفُّوا مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ وَالْوُعُودِ، وَأَنْ لَا يُزَوِّجُوا أَخَوَاتِهِمْ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ، وَأَنْ يُسَوِّدُوا أَكْبَرَهُمْ. فَتَكَفَّلَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ابْنُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَنَهُ بِالْبَقِيعِ، ثُمَّ رَكِبَ عَمْرٌو إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَعَزَّاهُ فِيهِ، وَاسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ وَحَزِنَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: هَلْ تَرَكَ مِنْ دَيْنٍ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَكَمْ ؟ قَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيَ عَلَيَّ. فَقَالَ ابْنُهُ: لَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَقْضِيَ دَيْنَهُ إِلَّا مِنْ ثَمَنِ أَرَاضِيهِ. فَاشْتَرَى مِنْهُ مُعَاوِيَةُ أَرَاضِيَ بِمَبْلَغِ الدَّيْنِ، وَسَأَلَ مِنْهُ عَمْرٌو أَنْ يَحْمِلَهَا لَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَحَمَلَهَا لَهُ، ثُمَّ شَرَعَ عَمْرٌو يَقْضِي مَا عَلَى أَبِيهِ مِنَ الدَّيْنِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ طَالَبَهُ شَابٌّ مَعَهُ رُقْعَةٌ مِنْ أَدِيمٍ فِيهَا عِشْرُونَ أَلْفًا، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: كَيْفَ اسْتَحْقَقْتَ هَذِهِ عَلَى أَبِي ؟ فَقَالَ الشَّابُّ: إِنَّهُ كَانَ يَوْمًا يَمْشِي وَحْدَهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمَّا وَصَلَ قَالَ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ ؟ فَقُلْتُ: لَا إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ الْأَمِيرَ يَمْشِي وَحْدَهُ فَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: أَبْغِنِي رُقْعَةً مِنْ أَدِيمٍ. فَذَهَبْتُ إِلَى الْخَرَّازِينَ
فَأَتَيْتُهُ بِهَذِهِ، فَكَتَبَ لِي
فِيهَا هَذَا الْمَبْلَغَ، وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ
شَيْءٌ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ عَمْرٌو ذَلِكَ الْمَالَ، وَزَادَهُ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ: مَنْ تَرَكَ مِثْلَكَ
لَمْ يَمُتْ. ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُثْمَانَ. ثُمَّ قَالَ: قَدْ
مَاتَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي وَمَنْ هُوَ أَصْغَرُ مِنِّي، ثُمَّ أَنْشَدَ
قَوْلَ الشَّاعِرِ:
إِذَا سَارَ مَنْ دُونَ امْرِئٍ وَأَمَامَهُ وَأَوْحَشَ مِنْ إِخْوَانِهِ فَهُوَ
سَائِرُ
وَكَانَتْ وَفَاةُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي
الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ
وَفَاتُهُ قَبْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِجُمُعَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
شَدَّادُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامٍ، أَبُو يَعْلَى
الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ.
وَحَكَى ابْنُ مَنْدَهْ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ
بَدْرًا. قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: وَهُوَ وَهْمٌ. وَكَانَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي
الْعِبَادَةِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ يُعَلِّقُ
عَلَى فِرَاشِهِ، وَيَتَقَلَّبُ عَلَيْهِ وَيَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ،
وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّ خَوْفَ النَّارِ قَدْ أَقْلَقَنِي. ثُمَّ يَقُومُ
إِلَى صَلَاتِهِ.
قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: كَانَ شَدَّادٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ.
نَزَلَ شَدَّادٌ فِلَسْطِينَ وَبَيْتَ
الْمَقْدِسِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً،
وَقِيلَ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ،
ابْنُ خَالِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَلَ
فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَبْتَلِعُ رِيقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " إِنَّهُ لَمِسْقَاءٌ ". فَكَانَ لَا يُعَالِجُ
أَرْضًا إِلَّا ظَهَرَ لَهُ الْمَاءُ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا مَيْمُونَ
النَّقِيبَةِ، اسْتَنَابَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْبَصْرَةِ بَعْدَ أَبِي مُوسَى،
وَوَلَّاهُ بِلَادَ فَارِسَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَعُمْرُهُ
إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَفَتَحَ خُرَاسَانَ كُلَّهَا وَأَطْرَافَ
فَارِسَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَبِلَادَ غَزْنَةَ، وَقُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ
الْمُلُوكِ فِي أَيَّامِهِ - وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ - ثُمَّ أَحْرَمَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَامِرٍ بِحَجَّةٍ - وَقِيلَ: بِعُمْرَةٍ - مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ، شُكْرًا
لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَفَرَّقَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً
جَزِيلَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الْخَزَّ بِالْبَصْرَةِ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْحِيَاضَ بِعَرَفَةَ وَأَجْرَى إِلَيْهَا الْمَاءَ
الْمَعِينَ وَالْعَيْنَ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى الْبَصْرَةِ حَتَّى قُتِلَ
عُثْمَانُ، فَأَخَذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَتَلَقَّى بِهَا طَلْحَةَ
وَالزُّبَيْرَ، وَحَضَرَ مَعَهُمُ الْجَمَلَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَمْ
يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ فِي صِفِّينَ، وَلَكِنْ
وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ الْبَصْرَةَ
بَعْدَ صُلْحِهِ مَعَ الْحَسَنِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِهِ
بِعَرَفَاتٍ، وَأَوْصَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. لَهُ حَدِيثٌ
وَاحِدٌ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْكُتُبِ شَيْءٌ.
رَوَى مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ
قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ
قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ".
وَقَدْ زَوَّجَهُ مُعَاوِيَةُ بِابْنَتِهِ هِنْدَ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، فَكَانَتْ
تَلِي خِدْمَتَهُ بِنَفْسِهَا مِنْ مَحَبَّتِهَا لَهُ، فَنَظَرَ يَوْمًا فِي
الْمِرْآةِ، فَرَأَى صَبَاحَةَ وَجْهِهَا وَشَيْبَةً فِي لِحْيَتِهِ فَطَلَّقَهَا،
وَبَعَثَ إِلَى أَبِيهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا بِشَابٍّ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ
مُصْحَفٍ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. قَالَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ
بَكَّارٍ قَالَ: وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ. وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ أُمُّ
عَائِشَةَ فَهُوَ شَقِيقُهَا، بَارَزَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ مَعَ
الْمُشْرِكِينَ، وَأَرَادَ قَتْلَ أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ
أَبُوهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " أَمْتِعْنَا بْنفْسِكَ ". ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْهُدْنَةِ،
وَهَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَرَزَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ كُلَّ سَنَةٍ أَرْبَعِينَ وَسْقًا، وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمَ مَاتَ، وَعَائِشَةُ مُسْنِدَتُهُ إِلَى صَدْرِهَا، وَمَعَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ سِوَاكٌ رَطْبٌ، فَأَمَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَصَرَهُ، فَأَخَذَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ السِّوَاكَ، فَقَضَمَتْهُ
وَطَيَّبَتْهُ، ثُمَّ دَفَعَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْتَنَّ بِهِ أَحْسَنَ اسْتِنَانٍ، ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ
فِي الرَّفِيقِ الْأَعَلَى ". ثُمَّ قَضَى.
قَالَتْ: فَجَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ، وَمَاتَ بَيْنَ سَحْرِي
وَنَحْرِي، فِي بَيْتِي وَيَوْمِي، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا.
وَقَدْ شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَتْحَ الْيَمَامَةِ وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ
سَبْعَةً، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ مُحَكَّمَ بْنَ الطُّفَيْلِ صَدِيقَ مُسَيْلِمَةَ
عَلَى بَاطِلِهِ، كَانَ مُحَكَّمٌ وَاقِفًا فِي ثُلْمَةِ حَائِطٍ، فَرَمَاهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَسَقَطَ مُحَكَّمٌ، فَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تِلْكَ
الثُّلْمَةِ فَخَلَصُوا إِلَى مُسَيْلِمَةَ فَقَتَلُوهُ. وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ
الشَّامَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَنُفِلَ لَيْلَى
بِنْتَ الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ، نَفَلَهُ إِيَّاهَا خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ عَنْ أَمْرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - وَلَمْ يُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ
- ذَكَرَ عَنْهُ حِكَايَةً ; أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لِمَرْوَانَ:
جَعَلْتُمُوهَا وَاللَّهِ هِرَقْلِيَّةً وَكِسْرَوِيَّةً. يَعْنِي جَعَلْتُمْ
مُلْكَ الْمَلِكِ لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ وَلَدِهِ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: اسْكُتْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ
أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ [ الْأَحْقَافِ: 17 ]. فَقَالَتْ
عَائِشَةُ: وَاللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِينَا شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ،
إِلَّا أَنَّهُ أَنْزَلَ عُذْرِي. وَيُرْوَى أَنَّهَا بَعَثَتْ إِلَى مَرْوَانَ
تَعْتِبُهُ وَتُؤَنِّبُهُ وَتُخْبِرُهُ بِخَبَرٍ فِيهِ ذَمٌّ لَهُ وَلِأَبِيهِ لَا
يَصِحُّ عَنْهَا.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: بَعَثَ
مُعَاوِيَةُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ بَعْدَ أَنْ أَبَى الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَرَدَّهَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا، وَقَالَ: أَبِيعُ دِينِي بِدُنْيَايَ ؟ !
وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، ثَنَا مَالِكٌ
قَالَ: تُوُفِّيَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
فِي نَوْمَةٍ نَامَهَا. وَرَوَاهُ أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ، فَذَكَرَهُ وَزَادَ: فَأَعْتَقَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ رِقَابًا. وَرَوَاهُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ، فَذَكَرَهُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْحُبْشِيُّ -
عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا -
فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى دُفِنَ بِأَعَلَى مَكَّةَ
فَلَمَّا قَدِمَتْ عَائِشَةُ مَكَّةَ زَارَتْهُ، وَقَالَتْ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ
شَهِدْتُكَ لَمْ أَبْكِ عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَكَ لَمْ أَنْقُلْكَ مِنْ
مَوْضِعِكَ الَّذِي مِتَّ فِيهِ. ثُمَّ تَمَثَّلَتْ بِشِعْرِ مُتَمِّمِ بْنِ
نُوَيْرَةَ فِي أَخِيهِ مَالِكٍ:
وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ
يَتَصَدَّعَا
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ
لَيْلَةً مَعَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَأَى فُسْطَاطًا مَضْرُوبًا عَلَى
قَبْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - ضَرَبَتْهُ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا ارْتَحَلَتْ -
فَأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ بِنَزْعِهِ وَقَالَ: إِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ
التَّارِيخِ، وَيُقَالُ: إِنَّ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ تُوُفِّيَ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ وَكَاتِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ
وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ مَعَ لَيْلَى بِنْتِ
الْجُودِيِّ مَلِكِ عَرَبِ الشَّامِ
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ
الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَدِمَ الشَّامَ فِي تِجَارَةٍ -
يَعْنِي فِي زَمَانِ جَاهِلِيَّتِهِ - فَرَأَى هُنَالِكَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا:
لَيْلَى ابْنةُ الْجُودِيِّ. عَلَى طُنْفُسَةٍ، حَوْلَهَا وَلَائِدُهَا،
فَأَعْجَبَتْهُ - قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَآهَا بِأَرْضِ بُصْرَى، فَقَالَ
فِيهَا:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى وَالسَّمَاوَةُ دُونَهَا فَمَا لِابْنَةِ الْجُودِيِّ لَيْلَى
وَمَا لِيَا وَأَنَّى تَعَاطَى قَلْبُهُ حَارِثِيَّةً
تُدَمِّنُ بُصْرَى أَوْ تَحُلُّ الْجَوَابِيَا
وَأَنَّى تُلَاقِيهَا بَلَى وَلَعَلَّهَا
إِنِ النَّاسُ حَجُّوا قَابِلًا أَنْ تُوَافِيَا
قَالَ: فَلَمَّا بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ جَيْشَهُ إِلَى الشَّامِ قَالَ
لِلْأَمِيرِ عَلَى الْجَيْشِ: إِنْ ظَفِرْتَ بِلَيْلَى بِنْتِ الْجُودِيِّ
عَنْوَةً فَادْفَعْهَا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. فَظَفِرَ
بِهَا فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَأُعْجِبَ بِهَا وَآثَرَهَا عَلَى نِسَائِهِ، حَتَّى
جَعَلْنَ يَشْكُونَهُ إِلَى عَائِشَةَ، فَعَاتَبَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى ذَلِكَ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ كَأَنِّي أَرْشُفُ بِأَنْيَابِهَا حَبَّ الرُّمَّانِ.
فَأَصَابَهَا وَجَعٌ سَقَطَ لَهُ فُوهَا، فَجَفَاهَا حَتَّى شَكَتْهُ إِلَى
عَائِشَةَ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، لَقَدْ أَحْبَبْتَ
لَيْلَى فَأَفْرَطْتَ، وَأَبْغَضَتْهَا فَأَفْرَطَتْ، فَإِمَّا أَنْ تُنْصِفَهَا،
وَإِمَّا أَنْ تُجَهِّزَهَا إِلَى أَهْلِهَا. فَجَهَّزَهَا إِلَى أَهْلِهَا.
قَالَ الزُّبَيْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي
بَكْرٍ لَيْلَى بِنْتَ الْجُودِيِّ حِينَ فَتَحَ دِمَشْقَ، وَكَانَتِ ابْنةَ
مَلِكِ دِمَشْقَ. يَعْنِي ابْنَةَ مَلِكِ الْعَرَبِ الَّذِينَ هُمْ حَوْلَ
دِمَشْقَ فِي زَمَنِ الرُّومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْقُرَشِيُّ
الْهَاشِمِيُّ
ابْنُ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ
أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بِسَنَةٍ. وَأُمُّهُمَا أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ. وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرِيمًا جَمِيلًا
وَسِيمًا، يُشْبِهُ أَبَاهُ فِي الْجَمَالِ.
رُوِّينَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِفُ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ
اللَّهِ وَكَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُ: " مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا
". فَيَسْتَبِقُونَ إِلَيْهِ فَيَقَعُونَ عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرِهِ
فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْتَزِمُهُمْ.
وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ عَلَى
الْيَمَنِ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسَنَةَ سَبْعٍ
وَثَلَاثِينَ، فَلَمَّا كَانَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ اخْتَلَفَ هُوَ
وَيَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ الرَّهَاوِيُّ الَّذِي قَدِمَ عَلَى الْحَجِّ مِنْ جِهَةِ
مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ،
فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَئِذٍ، ثُمَّ لَمَّا صَارَتِ الشَّوْكَةُ
لِمُعَاوِيَةَ تَسَلَّطَ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بُسْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ،
فَقَتَلَ لَهُ وَلَدَيْنِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ بِالْيَمَنِ قَدْ ذَكَرْنَا
بَعْضَهَا. وَكَانَ يَقْدُمُ هُوَ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ الْمَدِينَةَ
فَيُوسِعُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ عِلْمًا، وَيُوسِعُهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ كَرَمًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، مَعَ مَوْلًى لَهُ عَلَى خَيْمَةِ
رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَلَمَّا رَآهُ الْأَعْرَابِيُّ أَعْظَمَهُ
وَأَجَلَّهُ، وَرَأَى حُسْنَهُ وَشَكْلَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَيْحَكِ !
مَاذَا عِنْدَكِ لِضَيْفِنَا هَذَا ؟ فَقَالَتْ: لَيْسَ عِنْدَنَا إِلَّا هَذِهِ
الشُّوَيْهَةُ الَّتِي حَيَاةُ ابْنَتِكَ مِنْ لَبَنِهَا. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا
بُدَّ مِنْ ذَبْحِهَا. فَقَالَتْ: أَتَقْتُلُ ابْنَتَكَ ؟ فَقَالَ: وَإِنْ.
فَأَخَذَ الشَّفْرَةَ وَالشَّاةَ، وَجَعَلَ يَذْبَحُهَا وَيَسْلُخُهَا، وَهُوَ
يَقُولُ مُرْتَجِزًا:
يَا جَارَتِي لَا تُوقِظِي الْبُنَيَّهْ
إِنْ تُوقِظِيهَا تَنْتَحِبْ عَلَيَّهْ
وَتَنْزِعِ الشَّفْرَةَ مِنْ يَدَيَّهْ
ثُمَّ هَيَّأَهَا طَعَامًا، فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ
وَمَوْلَاهُ فَعَشَّاهُمَا، وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَدْ سَمِعَ مُحَاوَرَتَهُ
لِامْرَأَتِهِ فِي الشَّاةِ، فَلَمَّا أَرَادَ الِارْتِحَالَ قَالَ لِمَوْلَاهُ:
وَيْلَكَ ! مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْمَالِ ؟ فَقَالَ: مَعِي خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ
فَضَلَتْ مِنْ نَفَقَتِكَ. فَقَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى الْأَعْرَابِيِّ. فَقَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ، تُعْطِيهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَإِنَّمَا ذَبْحَ لَكَ
شَاةً وَاحِدَةً تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ؟ ! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَاللَّهِ
لَهْوَ أَسْخَى مِنَّا وَأَجْوَدُ ; لِأَنَّا إِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُ بَعْضَ مَا
نَمْلِكُ، وَجَادَ هُوَ عَلَيْنَا بِجَمِيعِ مَا يَمْلُكُ، وَآثَرَنَا عَلَى
مُهْجَةِ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لِلَّهِ
دَرُّ عُبَيْدِ اللَّهِ ! مِنْ أَيِّ بَيْضَةٍ خَرَجَ ؟ ! وَمَنْ أَيِّ شَيْءٍ
دَرَجَ ؟ !
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ. وَلَهُ حَدِيثٌ
وَاحِدٌ.
قَالَ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: جَاءَتِ الْغُمَيْصَاءُ - أَوِ الرُّمَيْصَاءُ - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا ; تَزْعُمُ أَنَّهُ لَا
يَصِلُ إِلَيْهَا، فَمَا كَانَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ زَوْجُهَا، فَزَعَمَ
أَنَّهَا كَاذِبَةً، وَأَنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا
الْأَوَّلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
لَيْسَ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ ".
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ هُشَيْمٍ بِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ بِنْتُ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَبُّ
أَزْوَاجِهِ إِلَيْهِ، الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، وَأُمُّهَا هِيَ أُمُّ رُومَانَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ
الْكِنَانِيَّةُ، تُكَنَّى عَائِشَةُ بِأُمِّ عَبْدِ اللَّهِ، قِيلَ: كَنَّاهَا
بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; بِابْنِ أُخْتِهَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُقْطًا، فَسَمَّاهُ عَبْدُ اللَّهِ.
وَلَمْ يَتَزَوَّجْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا
غَيْرَهَا، وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي لِحَافِ امْرَأَةٍ غَيْرِهَا،
وَلَمْ يَكُنْ فِي أَزْوَاجِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهَا، تَزَوَّجَهَا بِمَكَّةَ
بَعْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَقَدْ أَتَاهُ الْمَلَكُ بِهَا فِي الْمَنَامِ فِي
سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَيَقُولُ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ.
قَالَ: " فَأَكْشِفُ عَنْكِ فَإِذَا هِيَ أَنْتِ ". فَأَقُولُ: "
إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ يُمْضِهِ ". فَخَطَبَهَا
مِنْ أَبِيهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحِلُّ لَكَ ؟ قَالَ: "
نَعَمْ ". قَالَ: أَوَلَسْتُ أَخَاكَ ؟ قَالَ: " بَلَى، فِي
الْإِسْلَامِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ " فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَظِيَتْ عِنْدَهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي
أَوَّلِ السِّيرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَتَيْنِ، وَقِيلَ:
بِسَنَةٍ وَنِصْفٍ. وَقِيلَ: بِثَلَاثِ سِنِينَ. وَكَانَ عُمْرُهَا إِذْ ذَاكَ
سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ بَعْدَ بَدْرٍ
فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَأَحَبَّهَا. وَلَمَّا
تَكَلَّمَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ غَارَ اللَّهُ
لَهَا، فَأَنْزَلَ لَهَا بَرَاءَتَهَا فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ تُتْلَى
عَلَى تَعَاقُبِ الْأَزْمَانِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِيمَا سَلَفَ،
وَشَرَحْنَا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ
الْمُرَيْسِيعِ، وَبَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي كِتَابِ " التَّفْسِيرِ
" بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَىتَكْفِيرِ مَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ بَرَاءَتِهَا،
وَاخْتَلَفُوا فِي بَقِيَّةِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَذَفَهُنَّ
أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَكْفُرُ ; لِأَنَّ
الْمَقْذُوفَةَ زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا غَضِبَ لَهَا، لِأَنَّهَا زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهِيَ وَغَيْرُهَا مِنْهُنَّ سَوَاءٌ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَ لَهَا فِي الْقَسْمِ
يَوْمَانِ ; يَوْمُهَا وَيَوْمُ سَوْدَةَ حِينَ وَهَبَتْهَا ذَلِكَ تَقَرُّبًا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي
يَوْمِهَا وَفِي بَيْتِهَا، وَبَيْنَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا، وَجَمْعَ اللَّهُ
بَيْنَ رِيقِهِ وَرِيقِهَا فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِهِ مِنَ الدُّنْيَا،
وَأَوَّلِ سَاعَةٍ مِنَ الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ فِي بَيْتِهَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: " إِنَّهُ لَيُهَوِّنُ عَلَيَّ أَنِّي رَأَيْتُ بَيَاضَ كَفِّ
عَائِشَةَ فِي الْجَنَّةِ ".. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ
مَا يَكُونُ مِنَ الْمَحَبَّةِ الْعَظِيمَةِ ; أَنَّهُ يَرْتَاحُ لِأَنَّهُ رَأَى
بَيَاضَ كَفِّهَا أَمَامَهُ فِي الْجَنَّةِ.
وَمِنْ خَصَائِصِهَا أَنَّهَا أَعْلَمُ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ هِيَ أَعْلَمُ النِّسَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ; قَالَ
الزُّهْرِيُّ: لَوْ جُمِعَ عِلْمُ عَائِشَةَ إِلَى عِلْمِ جَمِيعِ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِلْمِ جَمِيعِ النِّسَاءِ،
لَكَانَ عِلْمُ عَائِشَةَ أَفْضَلَ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ كَانَتْ
عَائِشَةُ أَفْقَهَ النَّاسِ، وَأَعْلَمَ النَّاسِ، وَأَحْسَنَ النَّاسِ رَأْيًا
فِي الْعَامَّةِ. وَقَالَ عُرْوَةُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِفِقْهٍ وَلَا
طِبٍّ وَلَا شِعْرٍ مِنْ عَائِشَةَ. وَلَمْ تَرْوِ امْرَأَةٌ وَلَا رَجُلٌ، غَيْرُ
أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ
الْأَحَادِيثِ بِقَدْرِ رِوَايَتِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا - أَصْحَابَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا
عَائِشَةَ، إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ: رَأَيْتُ مَشْيَخَةَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ
الْأَكَابِرَ يَسْأَلُونَهَا عَنِ الْفَرَائِضِ.
فَأَمَّا مَا يَلْهَجُ بِهِ كَثِيرٌ
مِنَ الْفُقَهَاءِ وَعُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ إِيرَادِ حَدِيثِ: " خُذُوا
شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ ". فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ،
وَلَا هُوَ مُثْبَتٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَسَأَلَتُ عَنْهُ
شَيْخَنَا أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ فَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ.
ثُمَّ لَمْ يَكُنْ فِي النِّسَاءِ أَعْلَمُ مِنْ تِلْمِيذَاتِهَا ; عَمْرَةَ
بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، وَعَائِشَةَ بِنْتِ
طَلْحَةَ، وَقَدْ تَفَرَّدَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا، بِمَسَائِلَ مِنْ بَيْنِ الصَّحَابَةِ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا عِنْدَهَا،
وَانْفَرَدَتْ بِاخْتِيَارَاتٍ أَيْضًا، وَرَدَّتْ أَخْبَارًا بِخِلَافِهَا
بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ مَسْرُوقٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ:
حَدَّثَتْنِي الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ اللَّهِ،
الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ ". قُلْتُ:
وَمِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ: " أَبُوهَا ".
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَيْضًا، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ
كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ،
وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَفَضْلُ
عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ".
وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِ
عَائِشَةَ عَلَى خَدِيجَةَ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهِ سَائِرُ
النِّسَاءِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرُهُنَّ.
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ لِذَلِكَ، فَقَالَ:
" اللَّهُمَّ هَالَةَ ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا
تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ،
هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ؟ هَكَذَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَأَمَّا مَا يُرْوَى فِيهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: " مَا
أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ". فَلَيْسَ يَصِحُّ سَنَدُهَا. وَقَدْ
ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُطَوَّلًا عِنْدَ وَفَاةِ خَدِيجَةَ، وَذَكَرْنَا حُجَّةَ مَنْ
ذَهَبَ إِلَى تَفْضِيلِهَا عَلَى عَائِشَةَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
هَاهُنَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ
يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
يَوْمًا: " يَا عَائِشُ، هَذَا
جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ ". فَقُلْتُ: وَعَلَيْهِ السَّلَامُ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، تَرَى مَا لَا أَرَى.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ
بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَاجْتَمَعَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَقُلْنَ لَهَا: قُولِي لَهُ
يَأْمُرُ النَّاسَ أَنْ يُهْدُوا إِلَيْهِ حَيْثُ كَانَ. فَقَالَتْ أُمُّ
سَلَمَةَ: فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنِّي. ثُمَّ
قُلْنَ لَهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ لَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا، ثُمَّ لَمَّا دَارَ
إِلَيْهَا قَالَتْ لَهُ، فَقَالَ: " يَا أُمَّ سَلَمَةَ، لَا تُؤْذِينِي فِي
عَائِشَةَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا نَزَلَ عَلَيَّ الْوَحْيُ وَأَنَا فِي لِحَافِ
امْرَأَةٍ مِنْكُنَّ غَيْرِهَا ". وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ بَعَثْنَ فَاطِمَةَ
ابْنَتَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: إِنَّ نِسَاءَكَ يَنْشُدُونَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنةِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ. فَقَالَ: " يَا بُنَيَّةُ، أَلَّا
تُحِبِّينَ مَنْ أُحِبُّ ؟ " قَالَتْ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: "
فَأَحِبِّي هَذِهِ ". ثُمَّ بَعَثْنَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ فَدَخَلَتْ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ،
فَتَكَلَّمَتْ زَيْنَبُ، وَنَالَتْ مِنْ عَائِشَةَ، فَانْتَصَرَتْ عَائِشَةُ
مِنْهَا، وَكَلَّمَتْهَا حَتَّى أَفْحَمَتْهَا، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى عَائِشَةَ، وَيَقُولُ: " إِنَّهَا
ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ". وَذَكَرْنَا أَنَّ عَمَّارًا لَمَّا جَاءَ
يَسْتَصْرِخُ النَّاسَ وَيَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى قِتَالِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ
أَيَّامَ الْجَمَلِ، صَعِدَ هُوَ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى مِنْبَرِ
الْكُوفَةِ فَسَمِعَ عَمَّارُ رَجُلًا يَنَالُ مِنْ عَائِشَةَ فَقَالَ لَهُ:
اسْكُتْ مَقْبُوحًا مَنْبُوحًا، وَاللَّهِ إِنَّهَا لِزَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا
وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ
ابْتَلَاكُمْ لِيَعْلَمَ إِيَّاهُ تُطِيعُونَ أَوْ إِيَّاهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا
زَائِدَةُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُثَيْمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ ذَكْوَانُ حَاجِبُ عَائِشَةَ، أَنَّهُ جَاءَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ، فَجِئْتُ وَعِنْدَ
رَأْسِهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقُلْتُ:
هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ. فَأَكَبَّ عَلَيْهَا ابْنُ أَخِيهَا عَبْدُ
اللَّهِ فَقَالَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَأْذِنُ. وَهِيَ
تَمُوتُ، فَقَالَتْ: دَعْنِي مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ، إِنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ صَالِحِ بَنِيكِ يُسَلِّمُ عَلَيْكِ وَيُوَدِّعُكِ.
فَقَالَتِ: ائْذَنْ لَهُ إِنْ شِئْتَ. قَالَ: فَأَدْخَلْتُهُ، فَلَمَّا جَلَسَ
قَالَ: أَبْشِرِي. فَقَالَتْ: بِمَاذَا ؟ فَقَالَ: مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ
تَلْقَيْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَحِبَّةَ إِلَّا
أَنَّ تَخْرُجَ الرُّوحُ مِنَ الْجَسَدِ، كُنْتِ أَحَبَّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ إِلَّا طَيِّبًا، وَسَقَطَتْ
قِلَادَتُكِ لَيْلَةَ الْأَبْوَاءِ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُصْبِحَ فِي الْمَنْزِلِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ
وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَكَانَ ذَلِكَ
فِي سَبَبِكِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الرُّخْصَةِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ بَرَاءَتَكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، جَاءَ بِهَا
الرُّوحُ الْأَمِينُ، فَأَصْبَحَ لَيْسَ لِلَّهِ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِ اللَّهِ
إِلَّا يُتْلَى فِيهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. فَقَالَتْ: دَعْنِي
مِنْكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ
نَسْيًا مَنْسِيًّا. وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِهَا وَمَنَاقِبِهَا كَثِيرَةٌ
جِدًّا. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي هَذَا الْعَامِ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: قَبْلَهُ بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: بَعْدَهُ بِسَنَةٍ.
وَالْمَشْهُورُ فِي رَمَضَانَ مِنْهُ، وَقِيلَ: فِي
شَوَّالٍ. وَالْأَشْهَرُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعُ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ بِالْبَقِيعِ لَيْلًا، وَصَلَّى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ صَلَاةِ الْوِتْرِ، وَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا خَمْسَةٌ، وَهُمْ ; عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مِنْ أُخْتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاسِمُ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَخِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ عُمْرُهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعًا وَسِتِّينَ سَنَةً ; لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمْرُهَا ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهَا عَامَ الْهِجْرَةِ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ
فِيهَا شَتَّى عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ الْجُهَنِيُّ فِي أَرْضِ الرُّومِ فِي
الْبَرِّ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا غَزْوٌ فِي الْبَحْرِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ غَزَا فِي الْبَحْرِ عَامَئِذٍ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ.
وَفِيهَا عَزَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ أُمِّ الْحَكَمِ عَنِ الْكُوفَةِ ; لِسُوءِ
سِيرَتِهِ فِيهِمْ، وَوَلَّى عَلَيْهَا النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ.
وَفِيهَا وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ وِلَايَةَ
خُرَاسَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا سَعِيدَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَصَارَ
عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَعَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَلَى سِجِسْتَانَ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى خُرَاسَانَ وَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهَا
إِلَى زَمَنِ يَزِيدَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ
لَهُ: كَمْ قَدِمْتَ بِهِ مِنَ الْمَالِ ؟ قَالَ: عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفٍ.
فَقَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ حَاسَبْنَاكَ، وَإِنْ شِئْتَ سَوَّغْنَاكَهَا
وَعَزَلْنَاكَ عَنْهَا، عَلَى أَنْ تُعْطِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ
خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. قَالَ: بَلْ تُسَوِّغُنِيهَا، وَأَمَّا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ فَأُعْطِيهُ مَا قُلْتَ، وَمِثْلَهَا مَعَهَا. فَعَزَلَهُ
وَوَلَّى غَيْرَهُ، وَبَعَثَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادٍ إِلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ
مِنْ جِهَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ قِبَلِي.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ،
وَمَعَهُ أَشْرَافُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْعِرَاقِ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُمْ
عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْهُ، فَكَانَ آخِرَ مَنْ
أَدْخَلَهُ==
20. البداية والنهاية عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
عَلَى مُعَاوِيَةَ الْأَحْنَفُ بْنُ
قَيْسٍ، وَلَمْ يَكُنْ عُبَيْدُ اللَّهِ يُجِلُّهُ، فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ
الْأَحْنَفَ رَحَّبَ بِهِ وَعَظَّمَهُ وَأَجَلَّهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى
السَّرِيرِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ الْقَوْمُ فَأَثْنَوْا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ،
وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا لَكَ يَا أَبَا بَحْرٍ لَا
تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُ الْقَوْمَ. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: انْهَضُوا فَقَدْ عَزَلْتُهُ عَنْكُمْ، فَاطْلُبُوا وَالِيًا
تَرْضَوْنَهُ. فَمَكَثُوا أَيَّامًا يَتَرَدَّدُونَ إِلَى أَشْرَافِ بَنِي
أُمَيَّةَ، يَسْأَلُونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَوَلَّى عَلَيْهِمْ،
فَلَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ جَمَعَهُمْ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ:
مَنِ اخْتَرْتُمْ ؟ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ
مُعَاوِيَةُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ غَيْرَ أَهْلِ بَيْتِكَ فَرَاءٍ رَأْيَكَ. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: قَدْ أَعَدْتُهُ إِلَيْكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: قَالَ
الْأَحْنَفُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ وَلَّيْتَ عَلَيْنَا مِنْ أَهْلِ
بَيْتِكَ فَإِنَّا لَا نَعْدِلُ بِعُبَيْدِ اللَّهِ أَحَدًا، وَإِنَّ وَلَّيْتَ
عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِهِمْ فَانْظُرْ لَنَا فِي ذَلِكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قَدْ
أَعَدْتُهُ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَوْصَى عُبَيْدَ اللَّهِ
بِالْأَحْنَفِ خَيْرًا، وَقَبَّحَ رَأْيَهُ فِي مُبَاعَدَتِهِ، فَكَانَ
الْأَحْنَفُ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَصَّ أَصْحَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَلَمَّا وَقَعَتِ
الْفِتْنَةُ لَمْ يَفِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ غَيْرُ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ.
قِصَّةُ يَزِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مُفَرِّغٍ الْحِمْيَرِيِّ مَعَ ابْنَيْ
زِيَادٍ عُبَيْدِ اللَّهِ وَعَبَّادٍ
ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى
وَغَيْرِهِ، أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ مَعَ عَبَّادِ بْنِ
زِيَادٍ بِسِجِسْتَانَ، فَاشْتَغَلَ عَنْهُ بِحَرْبِ التُّرْكِ، وَضَاقَ
عَلَى النَّاسِ عَلَفُ الدَّوَابِّ،
فَقَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ شِعْرًا يَهْجُو بِهِ عَبَّادَ بْنَ زِيَادٍ عَلَى مَا
كَانَ مِنْهُ فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ اللِّحَى كَانَتْ حَشِيشًا فَنَعْلِفُهَا خُيُولَ الْمُسْلِمِينَا
وَكَانَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ عَظِيمَ اللِّحْيَةِ كَبِيرَهَا جِدًّا، فَبَلَغَهُ
ذَلِكَ فَغَضِبَ، وَتَطَلَّبَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ، وَقَالَ فِيهِ قَصَائِدَ
يَهْجُوهُ بِهَا كَثِيرَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا أَوْدَى مُعَاوِيَةُ بْنُ حَرْبٍ فَبَشِّرْ شِعْبَ قَعْبِكَ بِانْصِدَاعِ
فَأَشْهَدُ أَنَّ أُمَّكَ لَمْ تُبَاشِرْ أَبَا سُفْيَانَ وَاضِعَةَ الْقِنَاعِ
وَلَكِنْ كَانَ أَمْرًا فِيهِ لَبْسٌ عَلَى وَجِلٍ شَدِيدٍ وَارْتِيَاعِ
وَقَالَ أَيْضًا:
أَلَا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ مُغَلْغَلَةً مِنَ الرَّجُلِ الْيَمَانِي
أَتَغْضَبُ أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ عَفٌّ وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي
فَأَشْهَدُ أَنَّ رَحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ كَرَحْمِ الْفِيلِ مِنْ وَلَدِ الْأَتَانِ
فَكَتَبَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ إِلَى أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ وَافِدٌ
عَلَى مُعَاوِيَةَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، فَقَرَأَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي قَتْلِهِ، فَقَالَ: لَا تَقْتُلْهُ، وَلَكِنْ
أَدِّبْهُ وَلَا تَبْلُغْ بِهِ الْقَتْلَ. فَلَمَّا رَجَعَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى
الْبَصْرَةِ اسْتَحْضَرَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَجَارَ بِوَالِدِ زَوْجَةِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ، وَكَانَتِ ابِنْتُهُ
بَحْرِيَّةُ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَأَجَارَهُ وَآوَاهُ إِلَى دَارِهِ،
وَجَاءَ الْمُنْذِرُ مُسَلِّمًا عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَبَعَثَ عُبَيْدُ
اللَّهِ الشُّرَطَ إِلَى دَارِ الْمُنْذِرِ، فَجَاءُوا بِابْنِ مُفَرِّغٍ، فَأُوقِفَ
بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ: إِنِّي
قَدْ أَجَرْتُهُ. فَقَالَ: يَمْدَحُكَ وَيَمْدَحُ أَبَاكَ فَتَرْضَى عَنْهُ،
وَيَهْجُونِي وَيَهْجُو أَبِي ثُمَّ تُجِيرُهُ عَلَيَّ ؟ ! ثُمَّ أَمَرَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بِابْنِ مُفَرِّغٍ فَسُقِيَ دَوَاءً مُسْهِلًا، وَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ
عَلَيْهِ إِكَافٌ، وَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ وَهُوَ يَسْلَحُ،
وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إِلَى سِجِسْتَانَ،
إِلَى عِنْدِ أَخِيهِ عَبَّادٍ، فَقَالَ ابْنُ مُفَرِّغٍ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ:
يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَوْلِي رَاسِخٌ مِنْكَ فِي الْعِظَامِ
الْبَوَالِي
وَكَلَّمَ الْيَمَانِيُّونَ مُعَاوِيَةَ فِي أَمْرِ ابْنِ مُفَرِّغٍ، وَأَنَّهُ
إِنَّمَا بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ لِيَقْتُلَهُ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
ابْنِ مُفَرِّغٍ فَأَحْضَرَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بَكَى وَشَكَى
إِلَى مُعَاوِيَةَ مَا فَعَلَ بِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
إِنَّكَ هَجَوْتَهُ، أَلَسْتَ الْقَائِلَ كَذَا ؟ أَلَسْتَ الْقَائِلَ كَذَا ؟
فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَذَكَرَ أَنَّ الْقَائِلَ
ذَلِكَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ أَخُو مَرْوَانَ، وَأَحَبَّ أَنْ
يُسْنِدَهَا إِلَيَّ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَكَمِ وَمَنَعَهُ الْعَطَاءَ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ وَأَنْشَدَ ابْنُ مُفَرِّغٍ مَا قَالَهُ فِي الطَّرِيقِ فِي مُعَاوِيَةَ
يُخَاطِبُ رَاحِلَتَهُ:
عَدَسْ مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إِمَارَةٌ نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ
لَعَمْرِي لَقَدْ نَجَّاكِ مِنْ هُوَّةِ الرَّدَى إِمَامٌ وَحَبْلٌ لِلْأَنَامِ
وَثِيقُ
سَأَشْكُرُ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ حُسْنِ نِعْمَةٍ وَمِثْلِي بِشُكْرِ
الْمُنْعِمِينَ حَقِيقُ
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَمَا لَوْ كُنَّا نَحْنُ الَّذِينَ هَجَوْتَنَا لَمْ
يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
ثُمَّ خَيَّرَهُ أَيُّ الْبِلَادِ أُعْجِبُ
إِلَيْهِ يُقِيمُ بِهَا، فَاخْتَارَ الْمَوْصِلَ فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهَا، ثُمَّ
اسْتَأْذَنَ عُبَيْدُ اللَّهِ فِي الْقَدْومِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَالْمُقَامِ
بِهَا، فَأَذِنَ لَهُ.
ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ رَكِبَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَاسْتَرْضَاهُ،
فَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَنْشَدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
لَأَنْتَ زِيَادَةٌ فِي آلِ حَرْبٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِحْدَى بَنَانِي
أَرَاكَ أَخًا وَعَمًّا وَابْنَ عَمٍّ وَلَا أَدْرِي بِغَيْبٍ مَا تَرَانِي
فَقَالَ لَهُ عُبَيْدٌ: أَرَاكَ وَاللَّهِ شَاعِرَ سُوءٍ. ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ،
وَأُعِيدَ إِلَيْهِ مَا كَانَ مُنِعَ مِنَ الْعَطَاءِ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ
الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى الْكُوفَةِ النُّعْمَانُ
بْنُ بَشِيرٍ وَقَاضِيهَا شُرَيْحٌ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ وَقاضِيهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى سِجِسْتَانَ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى
كَرْمَانَ شَرِيكُ بْنُ الْأَعْوَرِ الْحَارِثِيُّ، مِنْ قِبَلِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ زِيَادٍ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ.
وَالصَّحِيحُ قَبْلَهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
الْحُطَيْئَةُ الشَّاعِرُ
وَاسْمُهُ جَرْوَلُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُؤَيَّةَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ
مَالِكِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْسٍ، أَبُو مُلَيْكَةَ، الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ
بِالْحُطَيْئَةِ لِقَصَرِهِ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَأَسْلَمَ فِي زَمَنِ
الصِّدِّيقِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْهِجَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ هَجَا أَبَاهُ
وَأُمَّهُ، وَخَالَهُ وَعَمَّهُ، وَنَفْسَهُ وَعِرْسَهُ. فَمِمَّا قَالَ فِي
أُمِّهِ قَوْلُهُ:
تَنَحِّي فَاقْعُدِي عَنِّي بَعِيدًا أَرَاحَ اللَّهُ مِنْكِ الْعَالَمِينَا
أَغِرْبَالًا إِذَا اسْتُودِعْتِ سِرًّا
وَكَانَونًا عَلَى الْمُتَحَدِّثِينَا جَزَاكِ اللَّهُ شَرًّا مِنْ عَجُوزٍ
وَلَقَّاكِ الْعُقُوقَ مِنَ الْبَنِينَا
وَقَالَ فِي أَبِيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ:
لَحَاكَ اللَّهُ ثُمَّ لَحَاكَ حَقًّا أَبًا وَلَحَاكَ مِنْ عَمٍّ وَخَالِ
فَنِعْمَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى
الْمَخَازِي وَبِئْسَ الشَّيْخُ أَنْتَ لَدَى الْمَعَالِي
وَمِمَّا قَالَ فِي نَفْسِهِ يَذُمُّهَا:
أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إِلَّا تَكَلُّمًا بِشَرٍّ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا
قَائِلُهْ
أَرَى لِي وَجْهًا شَوَّهَ اللَّهُ خَلْقَهُ فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ
حَامِلُهْ
وَقَدْ شَكَاهُ النَّاسُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَأَحْضَرَهُ وَحَبَسَهُ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ
شَكَاهُ لِعُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ يَهْجُوهُ:
دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الطَّاعِمُ الْكَاسِي
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَرَاهُ هَجَاكَ، أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ طَاعِمًا
كَاسِيًا ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ لَا يَكُونُ هِجَاءٌ
أَشَدَّ مِنْ هَذَا. فَبَعَثَ عُمَرُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَسَأَلَهُ
عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا هَجَاهُ وَلَكِنْ سَلَحَ
عَلَيْهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ حَبَسَهُ عُمَرُ، وَقَالَ: يَا خَبِيثُ،
لَأَشْغَلَنَّكَ عَنْ أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ شَفَعَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ، فَأَخْرَجَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَهْجُوَ النَّاسَ
وَاسْتَتَابَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ لِسَانَهُ، فَشَفَعُوا
فِيهِ حَتَّى أَطْلَقَهُ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ بْنِ
عُثْمَانَ الْحِزَامِيٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ حَدَّثَنِي عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ
عُمَرُ بِإِخْرَاجِ الْحُطَيْئَةِ مِنَ الْحَبْسِ، وَقَدْ كَلَّمَهُ فِيهِ عَمْرُو
بْنُ الْعَاصِ
وَغَيْرُهُ، فَأُخْرِجَ وَأَنَا
حَاضِرٌ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ زُغْبِ الْحَوَاصِلِ لَا مَاءٌ وَلَا
شَجَرُ
غَادَرْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ فَارْحَمْ هَدَاكَ مَلِيكُ النَّاسِ
يَا عُمَرُ
أَنْتَ الْإِمَامُ الَّذِي مِنْ بَعْدِ صَاحِبِهِ أَلْقَى إِلَيْكَ مَقَالِيدَ
النُّهَى الْبَشَرُ
لَمْ يُؤْثِرُوكَ بِهَا إِذْ قَدَّمُوكَ لَهَا لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِكَ
الْإِثَرُ
فَامْنُنْ عَلَى صِبْيَةٍ بِالرَّمْلِ مَسْكَنُهُمْ بَيْنَ الْأَبَاطِحِ
يَغْشَاهُمْ بِهَا الْقَدْرُ
نَفْسِي فِدَاؤُكَ كَمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمُ مِنْ عَرْضِ دَاوِيَّةٍ يَعْمَى
بِهَا الْخُبُرُ
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ الْحُطَيْئَةُ:
مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذِي مَرَخٍ
بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلَا
أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَعْدَلَ مِنْ رَجُلٍ يَبْكِي عَلَى تَرْكِهِ
الْحُطَيْئَةَ. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَرَادَ قَطْعَ لِسَانِ الْحُطَيْئَةِ
لِئَلَّا يَهْجُوَ بِهِ النَّاسَ، فَأَجْلَسَهُ عَلَى كُرْسِيٍّ، وَجِيءَ
بِالْمُوسَى، فَقَالَ النَّاسُ: لَا يَعُودُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَشَارُوا إِلَيْهِ قُلْ: لَا أَعُودُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: النِّجَاءَ.
فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ: ارْجِعْ يَا حُطَيْئَةُ. فَرَجَعَ، فَقَالَ
لَهُ: كَأَنِّي بِكَ عِنْدَ شَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ كَسَرَ لَكَ نُمْرُقَةً،
وَبَسَطَ لَكَ أُخْرَى، وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ، غَنِّنَا. فَانْدَفَعْتَ
تُغَنِّيهِ بِأَعْرَاضِ النَّاسِ. قَالَ أَسْلَمُ: فَرَأَيْتُ الْحُطَيْئَةَ
بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَقَدْ كَسَرَ لَهُ
نُمْرُقَةً، وَبَسَطَ لَهُ أُخْرَى، وَقَالَ: يَا حُطَيْئَةُ، غَنِّنَا.
فَانْدَفَعَ حُطَيْئَةُ يُغَنِّي،
فَقُلْتُ لَهُ: يَا حُطَيْئَةُ،
أَتَذْكُرُ يَوْمَ عُمَرَ حِينَ قَالَ لَكَ مَا قَالَ ؟ فَفَزِعَ وَقَالَ: رَحِمَ
اللَّهُ ذَلِكَ الْمَرْءَ، لَوْ كَانَ حَيًّا مَا فَعَلْنَا هَذَا. فَقَلَتُ
لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَكُنْتَ
أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ لِلْحُطَيْئَةِ: دَعْ قَوْلَ الشِّعْرِ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ.
قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ: هُوَ مَأْكَلَةُ عِيَالِي، وَنَمْلَةٌ عَلَى لِسَانِي.
قَالَ: فَدَعِ الْمِدْحَةَ الْمُجْحِفَةَ. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: تَقُولُ: بَنُو فُلَانٍ أَفْضَلُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ.
امْدَحْ وَلَا تُفَضِّلْ. فَقَالَ: أَنْتَ أَشْعَرُ مِنِّي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ مَدِيحِهِ الْجَيِّدِ الْمَشْهُورِ قَوْلُهُ:
أَقِلُّوا عَلَيْهِمْ لَا أَبَا لِأَبِيكُمُ مِنَ اللَّوْمِ أَوْ سُدُّوا
الْمَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
أُولَئِكَ قَوْمِي إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَا وَإِنْ عَاهَدُوا أَوْفُوا
وَإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
وَإِنْ كَانَتِ النَّعْمَاءُ فِيهِمْ جَزَوْا بِهَا وَإِنْ أَنْعَمُوا لَا
كَدَّرُوهَا وَلَا
كَدُّوا
قَالُوا: وَلَمَّا احْتُضِرَ الْحُطَيْئَةُ قِيلَ لَهُ: أَوْصِ. فَقَالَ:
أُوصِيكُمْ بِالشِّعْرِ. ثُمَّ قَالَ:
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لَا
يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ وَالشِّعْرُ لَا يَسْطِيعُهُ مَنْ
يَظْلِمُهْ
يُرِيدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ":
تُوُفِّيَ الْحُطَيْئَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَذَكَرَ أَيْضًا فِيهَا وَفَاةَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْقِشْبِ
وَاسْمُهُ جُنْدَبُ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ الْأَزْدِيُّ،
أَبُو مُحَمَّدٍ، حَلِيفُ بَنِي الْمُطَّلِبِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بُحَيْنَةَ،
وَهِيَ أُمُّهُ بُحَيْنَةُ بِنْتُ الْأَرَتِّ، وَاسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ
الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَصَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ نَاسِكًا صَوَّامًا قَوَّامًا،
وَكَانَ مِمَّنْ يَسْرُدُ صَوْمَ الدَّهْرِ كُلِّهِ.
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: كَانَ يَنْزِلُ بَطْنَ رِيمٍ عَلَى ثَلَاثِينَ مِيلًا مِنَ
الْمَدِينَةِ. وَمَاتَ فِي عَمَلِ مَرْوَانَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، مَا
بَيْنَ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ إِلَى ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ، وَالْعَجَبُ أَنَّ
ابْنَ الْجَوْزِيِّ نَقَلَ مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ
ذَكَرَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، يَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ كَأَبِيهِ، لَهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " حَدِيثٌ،
وَهُوَ الْقِيَامُ لِلْجِنَازَةِ، وَلَهُ فِي " الْمُسْنَدِ " حَدِيثٌ
فِي
صَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَحَدِيثُ غُسْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِمْ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ، وَخَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ
سِنِينَ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ
قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ مِنَ الْأَمِيرِ. وَحَمَلَ لِوَاءَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ، وَاسْتَعْمَلَهُ
عَلَى الصَّدَقَةِ. وَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجِرَّاحِ، وَمَعَهُ ثَلَاثُمِائَةٍ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَأَصَابَهُمْ ذَلِكَ الْجَهْدُ الْكَثِيرُ،
فَنَحَرَ لَهُمْ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ تِسْعَ جَزَائِرَ، حَتَّى وَجَدُوا تِلْكَ
الدَّابَّةَ عَلَى سَيْفِ الْبَحْرِ، فَأَكَلُوا مِنْهَا، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا
شَهْرًا حَتَّى سَمِنُوا.
وَكَانَ قَيْسٌ سَيِّدًا مُطَاعًا كَرِيمًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، وَلَّاهُ عَلِيٌّ
نِيَابَةَ مِصْرَ، وَكَانَ يُقَاوِمُ بِدَهَائِهِ وَخَدِيعَتِهِ وَسِيَاسَتِهِ
لِمُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ يَزَلْ مُعَاوِيَةُ يَعْمَلُ
عَلَيْهِ حَتَّى عَزَلَهُ عَلِيٌّ عَنْ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَاسْتَخَفَّهُ مُعَاوِيَةُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى
أَخَذَ مِنْهُ مِصْرَ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. وَأَقَامَ قَيْسٌ عِنْدَ
عَلِيٍّ، فَشَهِدَ مَعَهُ صِفِّينَ وَالنَّهْرَوَانَ، وَلَزِمَهُ حَتَّى قُتِلَ،
ثُمَّ صَارَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ
جَاءَهُ لِيُبَايِعَهُ، كَمَا بَايَعَهُ أَصْحَابُهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: قَدِمَ قَيْسُ بْنُ
سَعْدٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ ;
لِيُبَايِعَهُ كَمَا بَايَعَ
أَصْحَابُهُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: وَأَنْتَ يَا قَيْسُ تُلْجِمُ عَلَيَّ
مَعَ مَنْ أَلْجَمَ ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ
هَذَا الْيَوْمَ إِلَّا وَقَدْ ظَفِرَ بِكَ ظُفْرٌ مِنْ أَظَافِرِي مُوجِعٌ.
فَقَالَ لَهُ قَيْسٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ كُنْتُ كَارِهًا أَنْ أَقُومَ فِي
هَذَا الْمُقَامِ فَأُحَيِّيَكَ بِهَذِهِ التَّحِيَّةِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
وَلِمَ ؟ وَهَلْ أَنْتَ إِلَّا حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ ؟ فَقَالَ لَهُ
قَيْسٌ: وَأَنْتَ يَا مُعَاوِيَةُ كُنْتَ صَنَمًا مِنْ أَصْنَامِ الْجَاهِلِيَّةِ،
دَخَلَتْ فِي الْإِسْلَامِ كَارِهًا، وَخَرَجْتَ مِنْهُ طَائِعًا. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: اللَّهُمَّ غَفْرًا، مُدَّ يَدَكَ. فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ:
إِنْ شِئْتَ زِدْتَ وَزِدْتُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَتْ عَجُوزٌ لِقَيْسٍ: أَشْكُو إِلَيْكَ
قِلَّةَ الْجِرْذَانِ. فَقَالَ قَيْسٌ: مَا أَحْسَنَ هَذِهِ الْكِنَايَةَ !
امْلَئُوا بَيْتَهَا خُبْزًا وَلَحْمًا وَسَمْنًا وَتَمْرًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَانَتْ لَهُ صَحْفَةٌ يُدَارُ بِهَا حَيْثُ دَارَ، وَكَانَ
يُنَادِي لَهُ مُنَادٍ: هَلُمُّوا إِلَى اللَّحْمِ وَالثَّرِيدِ. وَكَانَ أَبُوهُ
وَجَدُّهُ مِنْ قَبْلِهِ يَفْعَلَانِ كَفِعْلِهِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: بَاعَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ مُعَاوِيَةَ
أَرْضًا بِتِسْعِينَ أَلْفًا، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ
أَرَادَ الْقَرْضَ فَلْيَأْتِ. فَأَقْرَضَ مِنْهَا خَمْسِينَ أَلْفًا وَأَطْلَقَ
الْبَاقِيَ، ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَلَّ عُوَّادُهُ، فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ
قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي عَتِيقٍ أُخْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: إِنِّي أَرَى
قِلَّةَ عُوَّادِي فِي مَرَضِي هَذَا، وَإِنِّي لَأَرَى ذَلِكَ
مِنْ أَجْلِ مَا لِي عَلَى النَّاسِ
مِنَ الْقَرْضِ. فَبَعَثَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ
بِصَكِّهِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ، فَوَهَبَهُمْ مَا لَهُ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيَهُ فَنَادَى: مَنْ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَلَيْهِ
دِينٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ. فَمَا أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ
مِنْ كَثْرَةِ الْعُوَّادِ، وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي مَالًا
وَفَعَالًا، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ الْفَعَالُ إِلَّا بِالْمَالِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: اقْتَرَضَ رَجُلٌ مِنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا جَاءَ لِيُوَفِّيَهُ إِيَّاهَا قَالَ لَهُ قَيْسٌ:
إِنَّا قَوْمٌ إِذَا أَعْطَيْنَا أَحَدًا شَيْئًا لَا نَرْجِعُ فِيهِ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: اخْتَلَفَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي
أَكْرَمِ أَهْلِ زَمَانِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ.
وَقَالَ الْآخَرُ: قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ. وَقَالَ الْآخَرُ: عَرَابَةُ الْأَوْسِيُّ.
فَتَمَارَوْا فِي ذَلِكَ حَتَّى ارْتَفَعَ ضَجِيجُهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ،
فَقَالَ لَهُمْ رَجُلٌ: فَلْيَذْهَبْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ إِلَى صَاحِبِهِ
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَكْرَمُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلْيَنْظُرْ مَا يُعْطِيهِ
وَلْيُحْكَمْ عَلَى الْعَيَانِ. فَذَهَبَ صَاحِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ
إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ قَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ لِيَذْهَبَ إِلَى
ضَيْعَةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، ابْنُ سَبِيلٍ
وَمُنْقَطَعٌ بِهِ. قَالَ: فَأَخْرَجَ رِجْلَهُ مِنَ الْغَرْزِ وَقَالَ: ضَعْ
رِجْلَكَ وَاسْتَوِ عَلَيْهَا، فَهِيَ لَكَ بِمَا عَلَيْهَا، وَخُذْ مَا فِي
الْحَقِيبَةِ وَلَا تُخْدَعَنَّ عَنِ السَّيْفِ، فَإِنَّهُ مِنْ سُيُوفِ عَلِيٍّ.
فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ بِنَاقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَإِذَا فِي الْحَقِيبَةِ
أَرْبَعَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَمَطَارِفُ مِنْ خَزٍّ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَأَجَلُّ
ذَلِكَ سَيْفُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمَضَى صَاحِبُ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَقَالَتْ
لَهُ الْجَارِيَةُ: مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: ابْنُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ
بِهِ. قَالَتْ: فَحَاجَتُكَ أَيْسَرُ مِنْ إِيقَاظِهِ، هَذَا كِيسٌ فِيهِ
سَبْعُمِائَةِ دِينَارٍ مَا فِي دَارِ قَيْسٍ مَالٌ غَيْرُهُ الْيَوْمَ، وَاذْهَبْ
إِلَى مَوْلَانَا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ، فَخُذْ لَكَ نَاقَةً وَعَبْدًا،
وَاذْهَبْ رَاشِدًا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَيْسٌ مِنْ رَقْدَتِهِ أَخْبَرَتْهُ
الْجَارِيَةُ بِمَا صَنَعَتْ، فَأَعْتَقَهَا شُكْرًا عَلَى صَنِيعِهَا ذَلِكَ،
وَقَالَ: هَلَّا أَيْقَظْتِنِي حَتَّى أُعْطِيَهُ مَا يَكْفِيهِ، فَلَعَلَّ
الَّذِي أَعْطَيْتِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَوْقِعَ حَاجَتِهِ. وَذَهَبَ صَاحِبُ
عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ إِلَيْهِ، فَوَجَدَهُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ
الصَّلَاةَ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَبْدَيْنِ، وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ، فَقَالَ
لَهُ: يَا عَرَابَةُ. فَقَالَ: قُلْ. فَقَالَ: ابْنُ سَبِيلٍ وَمُنْقَطَعٌ بِهِ.
قَالَ: فَخَلَّى عَنِ الْعَبْدَيْنِ ثُمَّ صَفَّقَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى
الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ: أَوَّهْ أَوَّهْ، وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُ وَلَا
أَمْسَيْتُ وَقَدْ تَرَكَتِ الْحُقُوقُ مِنْ مَالِ عَرَابَةَ شَيْئًا، وَلَكِنْ
خُذْهُمَا. يَعْنِي الْعَبْدَيْنِ. فَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ. فَقَالَ: إِنْ
لَمْ تَأْخُذْهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ فَإِنْ شِئْتَ فَأَعْتِقْ، وَإِنْ شِئْتَ
فَخُذْ. وَأَقْبَلَ يَلْتَمِسُ الْحَائِطَ بِيَدِهِ، قَالَ: فَأَخَذَهُمَا وَجَاءَ
بِهِمَا. قَالَ: فَحَكَمَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدْ جَادَ بِمَالٍ
عَظِيمٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَنْكَرٍ لَهُ، إِلَّا أَنَّ السَّيْفَ
أَجَلُّهَا، وَأَنَّ قَيْسًا أَحَدُ الْأَجْوَادِ ; حَكَّمَ مَمْلُوكَتَهُ فِي
مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَاسْتِحْسَانِهِ مَا فَعَلَتْهُ، وَعِتْقِهِ لَهَا
وَمَا تَكَلَّمَ بِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَسْخَى الثَّلَاثَةِ عَرَابَةُ
الْأَوْسِيُّ ; لِأَنَّهُ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَسَّمَ
سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ مَالَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، وَخَرَجَ إِلَى الشَّامِ
فَمَاتَ بِهَا، فَوُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَجَاءَ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ إِلَى قَيْسِ
بْنِ سَعْدٍ فَقَالَا: إِنَّ أَبَاكَ قَسَّمَ مَالَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ
هَذَا الْوَلَدِ إِذْ كَانَ حَمْلًا، فَاقْسِمُوا لَهُ مَعَكُمْ. فَقَالَ قَيْسٌ:
إِنِّي لَا أُغَيِّرُ مَا فَعَلَهُ سَعْدٌ، وَلَكِنَّ نَصِيبِي لَهُ. وَرَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ،
فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي
عَطَاءٌ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ مَعْبَدِ
بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ لَا يَزَالُ هَكَذَا رَافِعًا
أُصْبُعَهُ الْمُسَبِّحَةَ. يَعْنِي يَدْعُو.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا الْجَرَّاحُ بْنُ مَلِيحٍ، ثَنَا أَبُو
رَافِعٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي
النَّارِ ". لَكُنْتُ مِنْ أَمْكَرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: دُهَاةُ الْعَرَبِ حِينَ ثَارَتِ الْفِتْنَةُ خَمْسَةٌ ;
مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَقَيْسُ
بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُدَيْلٍ، وَكَانَا مَعَ عَلِيٍّ، وَكَانَ
الْمُغِيرَةُ مُعْتَزِلًا بِالطَّائِفِ حَتَّى حَكَمَ الْحَكَمَانِ، فَصَارَ إِلَى
مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ
عَلَى مِصْرَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ
نَائِبَ عُثْمَانَ بَعْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا
عَلَى مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، ثُمَّ
عَزَلَهُ بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا سَارَ فِيهَا سِيرَةً حَسَنَةً
وَضَبَطَهَا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَثَقُلَ أَمْرُهُ عَلَى
مُعَاوِيَةَ وعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَكَاتَبَاهُ لِيَكُونَ مَعَهُمَا عَلَى
عَلِيٍّ فَامْتَنَعَ، وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ مُنَاصَحَتَهُ لَهُمَا، فَشَاعَ
الْخَبَرُ حَتَّى بَلَغَ عَلِيًّا فَعَزَلَهُ، وَبَعَثَ إِلَى مِصْرَ الْأَشْتَرَ
النَّخَعِيَّ، فَمَاتَ الْأَشْتَرُ فِي الرَّمْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا،
فَبَعَثَ عَلِيٌّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَخَفَّ أَمْرُهُ عَلَى
مُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو، فَلَمْ يَزَالَا حَتَّى أَخَذَا مِنْهُ الدِّيَارَ
الْمِصْرِيَّةَ، وَقُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَأُحْرِقَ فِي جِيفَةِ
حِمَارٍ، وَسَارَ قَيْسٌ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيٍّ
بِالْكُوفَةِ، فَكَانَ مَعَهُ فِي حُرُوبِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلِيٌّ، ثُمَّ عَلَى
مُقَدِّمَةِ الْحَسَنِ، فَلَمَّا بَايَعَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ سَاءَ قَيْسًا
ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنْ طَاعَةِ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى
الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي وَفْدٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،
فَبَايَعَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مُعَاتَبَةٍ، وَكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ، ثُمَّ
أَكْرَمَهُ مُعَاوِيَةُ وَقَدَّمَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ مَعَ
الْوُفُودِ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ إِذْ قَدِمَ كِتَابُ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَفِيهِ أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِسَرَاوِيلِ أَطْوَلِ رَجُلٍ مِنَ
الْعَرَبِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِقَيْسٍ: مَا أَظُنُّنَا إِلَّا قَدِ احْتَجْنَا
إِلَى سَرَاوِيلِكَ. وَكَانَ قَيْسٌ مَدِيدُ الْقَامَةِ جِدًّا، لَا يَصِلُ
أَطْوَلُ الرِّجَالِ إِلَى صَدْرِهِ، فَقَامَ قَيْسٌ فَتَنَحَّى، ثُمَّ خَلَعَ سَرَاوِيلَهُ،
فَأَلْقَاهَا إِلَى مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ،
مَا أَرَدْتُ إِلَى هَذَا، هَلَّا ذَهَبْتَ إِلَى مَنْزِلِكَ ثُمَّ أَرْسَلْتَ
بِهَا إِلَيْنَا. فَأَنْشَأَ قَيْسٌ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ:
أَرَدْتُ بِهَا كَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سَرَاوِيلُ قَيْسٍ وَالْوُفُودُ
شُهُودُ
وَأَنْ لَا يَقُولُوا غَابَ قَيْسٌ وَهَذِهِ سَرَاوِيلُ عَادِيٌّ نَمَتْهُ ثَمُودُ
وَإِنِّي مِنَ الْحَيِّ الْيَمَانِي لَسَيِّدٌ وَمَا النَّاسُ إِلَّا سَيِّدٌ
وَمَسُودُ
فَكِدْهُمْ بِمِثْلِي إِنَّ مِثْلِي
عَلَيْهِمُ شَدِيدٌ وَخَلْقِي فِي الرِّجَالِ مَزِيدُ
وَفَضَّلَنِي فِي النَّاسِ أَصْلِي وَوَالِدِي وَبَاعٌ بِهِ أَعْلُو الرِّجَالَ
مَدِيدُ
قَالَ: فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ أَطْوَلَ رَجُلٍ فِي الْوَفْدِ، فَوَضَعَهَا عَلَى
أَنْفِهِ فَوَقَعَتْ بِالْأَرْضِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ بَعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِرَجُلَيْنِ
مِنْ جَيْشِهِ يَزْعُمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَقْوَى الرُّومِ، وَالْآخَرَ أَطْوَلُ
الرُّومِ، فَإِنْ كَانَ فِي جَيْشِكَ مَنْ يَفُوقُهُمَا فِي قُوَّةِ هَذَا وَطُولِ
هَذَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْأَسَارَى كَذَا وَكَذَا وَمَنَ التُّحَفِ كَذَا
وَكَذَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَيْشِكَ مَنْ يُشْبِهُهُمَا فَهَادِنِي ثَلَاثَ
سِنِينَ. فَلَمَّا حَضَرَا عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ: مَنْ لِهَذَا الْقَوِيِّ ؟
فَقَالُوا: مَا لَهُ إِلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ ; إِمَّا مُحَمَّدُ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. فَجِيءَ بِمُحَمَّدِ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ابْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ
النَّاسُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَتَعْلَمُ فِيمَ أُرْسَلْتُ
إِلَيْكَ ؟ قَالَ: لَا. فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَ الرُّومِيِّ وَشِدَّةَ بِأُسِهِ.
فَقَالَ لَهُ: مَا تُرِيدُ ؟ فَقَالَ: تَجْلِسُ لِي أَوْ أَجْلِسُ لَكَ،
وَتُنَاوِلُنِي يَدَكَ أَوْ أُنَاوِلُكَ يَدِي، فَأَيُّنَا قَدَرَ عَلَى أَنْ
يُقِيمَ الْآخَرَ مِنْ مَكَانِهِ غَلَبَهُ، وَإِلَّا فَقَدْ غُلِبَ. فَقَالَ لَهُ:
مَاذَا تُرِيدُ ; تَجْلِسُ أَوْ أَجْلِسُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرُّومِيُّ: بَلِ
اجْلِسْ أَنْتَ. فَجَلَسَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَعْطَى الرُّومِيَّ
يَدَهُ، فَاجْتَهَدَ الرُّومِيُّ بِكُلِّ مَا يَقَدْرُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ
أَنْ يُزِيلَهُ مِنْ مَكَانَهِ أَوْ يُحَرِّكَهُ لِيُقِيمَهُ، فَلَمْ يَقَدِرْ
عَلَى ذَلِكَ، وَلَا وَجَدَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَغَلَبَ الرُّومِيَّ عِنْدَ
ذَلِكَ، وَظَهَرَ لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْوُفُودِ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ أَنَّهُ
قَدْ غَلَبَ، ثُمَّ قَامَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالَ
لِلرُّومِيِّ: اجْلِسْ لِي. فَجَلَسَ
وَأَعْطَى مُحَمَّدًا يَدَهُ، فَمَا لَبِثَ أَنْ أَقَامَهُ سَرِيعًا، وَرَفَعَهُ
فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ أَلْقَاهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ
سُرُورًا عَظِيمًا، وَنَهَضَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ، فَتَنَحَّى عَنِ النَّاسِ، ثُمَّ
خَلَعَ سَرَاوِيلَهُ، وَأَعْطَاهَا لِذَلِكَ الرُّومِيِّ الطَّوِيلِ، فَلَبِسَهَا
فَبَلَغَتْ إِلَى ثَدْيَيْهِ وَأَطْرَافُهَا تَخُطُّ بِالْأَرْضِ، فَاعْتَرَفَ
الرُّومُ بِالْغَلَبِ، وَبَعَثَ مَلِكُهُمْ مَا كَانَ الْتَزَمَهُ لِمُعَاوِيَةَ،
وَعَاتَبَ الْأَنْصَارُ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ فِي خَلْعِهِ سَرَاوِيلَهُ بِحَضْرَةِ
النَّاسِ، فَقَالَ ذَلِكَ الشِّعْرُ الْمُتَقَدِّمَ مُعْتَذِرًا بِهِ إِلَيْهِمْ،
وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَلْزَمَ لِلْحُجَّةِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى الرُّومِ،
وَأَقْطَعَ لِمَا حَاوَلُوهُ.
وَرَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ قَالَ: كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ رَجُلًا ضَخْمًا جَسِيمًا صَغِيرَ
الرَّأْسِ، لَهُ لِحْيَةٌ فِي ذَقَنِهِ، وَكَانَ إِذَا رَكِبَ الْحِمَارَ خَطَّتْ
رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ فِي آخِرِ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ. وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَتَبِعْنَاهُ فِي ذَلِكَ.
مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَكَانَ هُوَ الَّذِي يَرْفَعُ
أَغْصَانَ الشَّجَرَةِ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ يُبَايِعُ النَّاسَ تَحْتَهَا، وَكَانَتْ مِنَ السَّمُرِ، وَهِيَ
الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ الْفَتْحِ: 18 ]. وَقَدْ
وَلَّاهُ عُمَرُ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ، فَحَفَرَ بِهَا النَّهْرَ الْمَنْسُوبَ
إِلَيْهِ، فَيُقَالُ: نَهْرُ مَعْقِلٍ. وَلَهُ بِهَا دَارٌ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى
مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ
مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ لَمْ أَكُنْ عَلَى حَالَتِي هَذِهِ لَمْ
أُحَدِّثْكَ بِهِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ
رَعِيَّةً فَلَمْ يُحِطْهَا بْنصِيحَةٍ، لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ،
وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ مِائَةِ عَامٍ ".
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَاسْمِ أَبِيهِ
عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ قَدْ بَسَطْنَا أَكْثَرَهَا فِي كِتَابِنَا "
التَّكْمِيلِ "، وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي "
تَارِيخِهِ "، وَالْأَشْهُرُ أَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ،
وَهُوَ مِنَ الْأَزْدِ، ثُمَّ مِنْ دَوْسٍ. وَيُقَالُ: كَانَ اسْمُهُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدَ شَمْسٍ. وَقِيلَ: عَبْدَ نِهْمٍ. وَقِيلَ: عَبْدَ غَنْمٍ.
وَيُكَنَّى بِأَبِي الْأُسُودِ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ. وَكَنَّاهُ
بِأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: وَجَدْتُ هُرَيْرَةً وَحْشِيَّةً، فَأَخَذْتُ
أَوْلَادَهَا، فَقَالَ لِي أَبِي: مَا هَذِهِ فِي حِجْرِكَ ؟ فَأَخْبَرْتُهُ،
فَقَالَ: أَنْتَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ "
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " يَا
أَبَا هِرٍّ ". وَثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ
".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَابْنُ الْكَلْبِيِّ وَالطَّبَرَانِيُّ: وَاسْمُ
أُمِّهِ مَيْمُونَةُ بِنْتُ صُبَيْحِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي صَعْبِ بْنِ
هُنَيَّةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. أَسْلَمَتْ وَمَاتَتْ مُسْلِمَةً.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْكَثِيرَ الطَّيِّبَ، وَكَانَ مِنْ حُفَّاظِ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْ أَبَى
بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَبَصْرَةَ
بْنِ أَبِي بَصْرَةَ، وَالْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ،
وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلَائِقُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ، قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي "
التَّكْمِيلِ "، كَمَا ذَكَرَهُمْ شَيْخُنَا فِي " تَهْذِيبِهِ ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ رَجُلٍ أَوْ
أَكْثَرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ: كَانَ يَنْزِلُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ
إِسْلَامُهُ سَنَةَ خَيْبَرَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لَهُ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ دَارٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ آدَمَ اللَّوْنِ، بَعِيدَ مَا
بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، ذَا ضَفِيرَتَيْنِ، أَفْرَقَ الثَّنِيَّتَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي خَلْدَةَ
خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِمَّنْ أَنْتَ ؟ " فَقُلْتُ: مِنْ دَوْسٍ. فَوَضَعَ
يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: " مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ فِي دَوْسٍ
رَجُلًا فِيهِ خَيْرٌ ".
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ،
عَنْ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: جِئْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ بَعْدَ مَا
فَرَغُوا مِنَ الْقِتَالِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا
الدَّرَاوَرْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي خُثَيْمُ بْنُ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَصَلَّيْتُ
الصُّبْحَ وَرَاءَ سِبَاعٍ، فَقَرَأَ فِي السَّجْدَةِ الْأُولَى سُورَةَ "
مَرْيَمَ "، وَفِي الثَّانِيَةِ " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَيْلٌ لِأَبِي فُلَانٍ. لِرَجُلٍ
كَانَ بِأَرْضِ الْأَزْدِ، كَانَ لَهُ مِكْيَالَانِ ; مِكْيَالٌ يَكْتَالُ بِهِ
لِنَفْسِهِ، وَمِكْيَالٌ يَبْخَسُ بِهِ النَّاسَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ضَلَّ غُلَامٌ لَهُ فِي
اللَّيْلَةِ الَّتِي اجْتَمَعَ فِي صَبِيحَتِهَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ يُنْشِدُ:
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ
نَجَّتِ
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " هَذَا غُلَامُكَ ".
فَقَالَ: هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ لَزِمَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَمْ يُفَارِقْهُ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ،
وَكَانَ أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ مِنْهُ، وَتَفَقَّهَ عَنْهُ،
وَكَانَ يَلْزَمُهُ عَلَى شِبَعِ بَطْنِهِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - وَقَدْ تَمَخَّطَ يَوْمًا فِي قَمِيصٍ لَهُ مِنْ
كَتَّانٍ -: بَخٍ بَخٍ أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الْكَتَّانِ ! لَقَدْ
رَأَيْتُنِي أَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَالْحُجَرِ مِنَ الْجُوعِ،
فَيَمُرُّ الْمَارُّ فَيَقُولُ: بِهِ جُنُونٌ. وَمَا بِي إِلَّا الْجُوعُ،
وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كُنْتُ أَعْتَمِدُ بِكَبِدِي
عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ، وَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ،
وَلَقَدْ كُنْتُ أَسْتَقْرِئُ أَحَدَهُمُ الْآيَةَ وَأَنَا أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُ،
وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَسْتَتْبِعَنِي إِلَى مَنْزِلِهِ فَيُطْعِمُنِي شَيْئًا.
وَذَكَرَ حَدِيثَ اللَّبَنِ مَعَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي
ذِكْرِ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ
عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو كَثِيرٍ، وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
أُذَيْنَةَ السُّحَيْمِيُّ الْأَعْمَى، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَ
لَنَا: وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِنًا يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي
إِلَّا أَحَبَّنِي. قُلْتُ: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؟
قَالَ: إِنَّ أُمِّي كَانَتِ امْرَأَةً مُشْرِكَةً، وَإِنِّي كُنْتُ أَدْعُوهَا
إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا،
فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا
أَبْكِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى
الْإِسْلَامِ فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ، وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ
فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي
هُرَيْرَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ " فَخَرَجْتُ أَعْدُو أُبَشِّرُهَا
بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَيْتُ
الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٍ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، وَسَمِعْتُ خَشْفَ
رِجْلٍ - يَعْنِي وَقْعَهَا - فَقَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَمَا أَنْتَ. ثُمَّ
فَتَحَتِ الْبَابَ، وَقَدْ لَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا،
فَقَالَتْ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنَ الْحُزْنِ، فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ، فَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ، وَقَدْ هَدَى
أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ
يُحَبِّبَنِي وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ
حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَمَا خَلَقَ اللَّهُ
مِنْ مُؤْمِنٍ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي أَوْ يَرَى أُمِّي إِلَّا وَهُوَ
يُحِبُّنِي وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةِ بْنِ عَمَّارٍ
بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
مُحَبَّبٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَقَدْ شَهَرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ بِمَا
قَدَّرَهُ مِنْ إِيرَادِ هَذَا الْخَبَرِ عَنْهُ، الَّذِي رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
عِنْدَ الْخُطْبَةِ، عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فِي الْمَحَافِلِ الْكَثِيرَةِ
الْمُتَعَدِّدَةِ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، وَهَذَا قَدَّرَهُ اللَّهُ
وَيَسَّرَهُ مِنْ شَهْرِ ذِكْرِهِ، وَمَحَبَّةِ النَّاسِ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا
سَعِيدٌ، ثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ
سَالِمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "
إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ
اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ آذَيْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَوْ جَلْدَتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ
قُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ لَقَدْ رَفَعَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا الدِّرَّةَ لِيَضْرِبَنِي بِهَا، لَأَنْ يَكُونُ ضَرَبَنِي
بِهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ; ذَلِكَ بِأَنِّي أَرْجُو أَنْ
أَكُونَ مُؤْمِنًا، وَأَنْ يُسْتَجَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَعْوَتُهُ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا
أَنْسَاهُ. فَقَالَ: " ابْسُطْ رِدَاءَكَ ". فَبَسَطْتُهُ، ثُمَّ قَالَ:
" ضُمَّهُ ". فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ حَدِيثًا بَعْدُ. رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّكُمْ
تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً
مِسْكِينًا، أَصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالْأَسْوَاقِ،
وَكَانَتِ
الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَجْلِسًا، فَقَالَ: " مَنْ بَسَطَ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ
مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضُهُ إِلَيْهِ، فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي
". فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حَتَّى قَضَى حَدِيثَهُ، ثُمَّ قَبَضْتُهَا
إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتَهُ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْهُ. وَقَدْ قِيلَ:
إِنَّ هَذَا كَانَ خَاصًّا بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَمْ يَنْسَ
مِنْهَا شَيْئًا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ نَسِيَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ كَمَا هُوَ
مُصَرَّحٌ بِهِ فِي " الصَّحِيحِ "، حَيْثُ نَسِيَ حَدِيثَ: " لَا
عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ ". مَعَ حَدِيثِهِ " لَا يُورِدُ مُمَرِضٌ عَلَى
مُصِحٍّ ". وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا كَانَ عَامًّا فِي تِلْكَ الْمَقَالَةِ
وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدٍ
الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ
أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ: " لَقَدْ
ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلَّا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ
أَوَّلُ مِنْكَ ; لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، إِنَّ أَسْعَدَ
النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ عَمْرِو ابْنِ أَبِي عَمْرٍو بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ
سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ:حَفِظْتُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ، فَأَمَّا
أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ
لَقُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي
ذِئْبٍ، وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَهَذَا الْوِعَاءُ الَّذِي كَانَ لَا يَتَظَاهَرُ بِهِ هُوَ الْفِتَنُ
وَالْمَلَاحِمُ، وَمَا وَقَعَ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ وَمَا
سَيَقَعُ، الَّتِي لَوْ أَخْبَرَ بِهَا قَبْلَ كَوْنِهَا لَبَادَرَ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ إِلَى تَكْذِيبِهِ، وَرَدُّوا مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا
قَالَ: لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّكُمْ تَقْتُلُونَ إِمَامَكُمْ وَتَقْتَتِلُونَ
فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالسُّيُوفِ لَمَا صَدَّقْتُمُونِي. وَقَدْ يَتَمَسَّكُ
بِهَذَا الْحَدِيثِ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ،
وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ، وَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْجِرَابِ الَّذِي
لَمْ يَقُلْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ كَانَ
فِي هَذَا الْجِرَابِ الَّذِي لَمْ يُخْبِرْ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمَا مِنْ
مُبْطِلٍ - مَعَ تَضَادِّ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ - إِلَّا وَيَدَّعِي
شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَكُلُّهُمْ يَكْذِبُونَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَبُو
هُرَيْرَةَ قَدْ أَخْبَرَ بِهِ فَمَنْ عَلِمَهُ مِنْ بَعْدِهِ ؟ ! وَإِنَّمَا
كَانَ الَّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ قَدْ أَخْبَرَ بِهَا
هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَمِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي
كِتَابِ " الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ ".
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: ثَنَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ،
ثَنَا أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ مَرْوَانَ
دَعَا أَبَا هُرَيْرَةَ - وَأَقْعَدَهُ خَلْفَ السَّرِيرِ - وَجَعَلَ
مَرْوَانُ يَسْأَلُ وَجَعَلْتُ
أَكْتُبُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوَلِ دَعَا بِهِ - وَأَقْعَدَهُ
مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ - فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، فَمَا
زَادَ وَلَا نَقْصَ، وَلَا قَدَّمَ وَلَا أَخَّرَ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ أَحْفَظِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ بِأَفْضَلِهِمْ. وَقَالَ
الرَّبِيعُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى
الْحَدِيثَ فِي دَهْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، ثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ:
تَوَاعَدَ النَّاسُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي إِلَى قُبَّةٍ مِنْ قِبَابِ
مُعَاوِيَةَ، فَاجْتَمَعُوا فِيهَا، فَقَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَحَدَّثَهُمْ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ وَهَبِ بْنِ مُنَبِّهٍ،
عَنْ أَخِيهِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
مَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ
أَكْثَرُ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو ; فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلَا أَكْتُبُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زُرْعَةَ
الرُّعَيْنِيُّ، ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ
يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ:
لَتَتْرُكَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ. وَقَالَ لِكَعْبِ
الْأَحْبَارِ: لَتَتْرُكَنَّ الْحَدِيثَ أَوْ لَأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ
الْقِرَدَةِ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ وَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا مُسْهِرٍ يَذْكُرُهُ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَحْوًا مِنْهُ، وَلَمْ يُسْنِدْهُ. وَهَذَا
مَحْمُولٌ مِنْ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ خَشِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَضَعُهَا
النَّاسُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، وَأَنَّهُمْ يَتَّكِلُونَ عَلَى مَا فِيهَا
مِنْ أَحَادِيثِ الرُّخْصِ، أَوْ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ
رُبَّمَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِهِ بَعْضُ الْغَلَطِ أَوِ الْخَطَأِ فَيَحْمِلُهَا
النَّاسُ عَنْهُ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عُمَرَ أَذِنَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ، فَقَالَ
مُسَدَّدٌ: ثَنَا خَالِدٌ الطَّحَّانُ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَبَلَغَ عُمَرَ حَدِيثِي، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ
فَقَالَ: كُنْتَ مَعَنَا يَوْمَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ فُلَانٍ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ
لِمَ سَأَلَتْنِي عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ سَأَلْتُكَ ؟ قُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ: " مَنْ كَذَبَ
عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". قَالَ:
إِمَّا لَى فَاذْهَبْ فَحَدِّثْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ - يَعْنِي
ابْنَ زِيَادٍ - ثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ - وَكَانَ يَبْتَدِئُ
حَدِيثَهُ بِأَنْ يَقُولَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّادِقُ
الْمَصْدُوقُ -:مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ ". وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَجْلَانَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأُحَدِّثُ أَحَادِيثَ
لَوْ تَكَلَّمْتُ بِهَا فِي زَمَانِ عُمَرَ - أَوْ عِنْدَ عُمَرَ - لَشَجَّ
رَأْسِي.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَبِي الْأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ،
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَقُولَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى قُبِضَ عُمَرُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: أَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا فِيمَا يُعْمَلُ بِهِ.
قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَفَكُنْتُ مُحَدِّثَكُمْ بِهَذِهِ
الْأَحَادِيثِ وَعُمَرُ حَيٌّ ؟ ! أَمَا وَاللَّهِ إِذًا لَأَيْقَنْتُ أَنَّ
الْمِخْفَفَةَ سَتُبَاشِرُ ظَهْرِي.
فَإِنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: اشْتَغِلُوا بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ
كَلَامُ اللَّهِ. وَلِهَذَا لَمَّا بَعَثَ أَبَا مُوسَى إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ
لَهُ: إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا لَهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ دَوِيٌّ بِالْقُرْآنِ
كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَدَعْهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَا تَشْغَلْهُمْ بِالْأَحَادِيثِ،
وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، أَنَّهُ مَرَّ بِأَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَصَلَّى
عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ،
الْقِيرَاطُ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ ". فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرُ: أَبَا
هِرٍّ، انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ حَتَّى انْطَلَقَ بِهِ إِلَى
عَائِشَةَ، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكِ بِاللَّهِ
أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "
مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً فَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَإِنْ شَهِدَ
دَفْنَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ " ؟ ؟ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ نَعَمْ.فَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْسُ الْوَدِيِّ وَلَا صَفْقٌ بِالْأَسْوَاقِ،
إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ أَطْلُبُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَلِمَةً يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ أَكْلَةً يُطْعِمُنِيهَا. فَقَالَ لَهُ
ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمَنَا بِحَدِيثِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي جِنَازَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَمْشِي
أَمَامَهَا وَيُكْثِرُ التَّرَحُّمَ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: كَانَ مِمَّنْ يَحْفَظُ
حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ رَوَى أَنَّ عَائِشَةَ تَأَوَّلَتْ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مِنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَوَهَّمَتْهُ فِي بَعْضِهَا. وَفِي " الصَّحِيحِ "
أَنَّهَا عَابَتْ عَلَيْهِ سَرْدَ الْحَدِيثِ. أَيِ الْإِكْثَارَ مِنْهُ فِي
السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْكِنْدِيُّ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، أَنَّ
عَائِشَةَ قَالَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: أَكْثَرَتِ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. قَالَ: إِنِّي
وَاللَّهِ مَا كَانَتْ تَشْغَلُنِي عَنْهُ الْمُكْحُلَةُ وَالْخِضَابُ، وَلَكِنِّي
أَرَى ذَلِكَ شَغَلَكَ عَمَّا اسْتَكْثَرْتُ مِنْ حَدِيثِي. قَالَتْ: لَعَلَّهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ الشَّامِيُّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ أَتَى
أَبَا هُرَيْرَةَ فِي حُلَّةٍ يَتَبَخْتَرُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ، إِنَّكَ تُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ يَقُولُ فِي حُلَّتِي هَذِهِ شَيْئًا ؟
قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتُؤْذُونَنَا، وَلَوْلَا مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى
أَهْلِ الْكِتَابِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ مَا
حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَيْنَمَا هُوَ
يَتَبَخْتَرُ فِي حُلَّةٍ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ
يَتَجَلْجَلُ فِيهَا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ". فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي
لَعَلَّهُ كَانَ مِنْ قَوْمِكَ. أَوْ: مِنْ رَهْطِكَ. شَكَّ أَبُو يَعْلَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي كَثِيرُ
بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ
يَقُولُ لِمَرْوَانَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتَ وَالٍ، وَإِنَّ الْوَالِيَ لَغَيْرُكَ
فَدَعْهُ - يَعْنِي حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْفِنُوا الْحَسَنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّكَ تَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ،
إِنَّمَا تُرِيدُ بِهَذَا إِرْضَاءَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْكَ. يَعْنِي
مُعَاوِيَةَ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مَرْوَانُ مُغْضَبًا، فَقَالَ: يَا أَبَا
هُرَيْرَةَ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ قَالُوا: إِنَّكَ أَكْثَرْتَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا قَدِمْتَ
قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ. فَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ، قَدِمْتُ وَاللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ سَنَةَ
سَبْعٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ
زِدْتُ عَلَى الثَّلَاثِينَ سَنَةً سَنَوَاتٍ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ حَتَّى
تُوُفِّيَ، أَدُورُ مَعَهُ فِي بُيُوتِ نِسَائِهِ وَأَخْدِمُهُ، وَأَنَا وَاللَّهِ
يَوْمَئِذٍ مُقِلٌّ، وَأُصَلِّي خَلْفَهُ وَأَغْزُو وَأَحُجُّ مَعَهُ، فَكُنْتُ
وَاللَّهِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِحَدِيثِهِ، قَدْ وَاللَّهِ سَبَقَنِي قَوْمٌ -
بِصُحْبَتِهِ وَالْهِجْرَةِ - مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ، فَكَانُوا
يَعْرِفُونَ لُزُومِي لَهُ، فَيَسْأَلُونِي عَنْ حَدِيثِهِ، مِنْهُمْ عُمَرُ
وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَلَا وَاللَّهِ مَا يَخْفَى
عَلَيَّ كُلُّ حَدَثٍ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةٌ، وَكُلُّ صَاحِبٍ لَهُ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
صَاحِبَهُ فِي الْغَارِ، وَغَيْرُهُ قَدْ أَخْرَجَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَنْ يُسَاكِنَهُ. يُعَرِّضُ
بِأَبِي مَرْوَانَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
لِيَسْأَلْنِي أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ
عِنْدِي مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا وَمَقَالًا. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ
مَرْوَانُ يَقْصُرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيَتَّقِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَخَافُهُ
وَيَخَافُ جَوَابَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِمَرْوَانَ: إِنِّي أَسْلَمْتُ
وَهَاجَرْتُ اخْتِيَارًا وَطَوْعًا، وَأَحْبَبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا شَدِيدًا، وَأَنْتُمْ أَهْلُ الدَّارِ وَمَوْضِعُ
الدَّعْوَةِ، أَخْرَجْتُمُ الدَّاعِيَ مِنْ أَرْضِهِ، وَآذَيْتُمُوهُ
وَأَصْحَابَهُ، وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُكُمْ عَنْ إِسْلَامِي إِلَى الْوَقْتِ
الْمَكْرُوهِ إِلَيْكُمْ. فَنَدِمَ مَرْوَانُ عَلَى كَلَامِهِ لَهُ وَاتَّقَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ - يَعْنِي عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ
بْنِ الْعَوَّامِ - قَالَ: قَالَ لِي
أَبِي الزُّبَيْرُ: أَدْنِنِي مِنْ هَذَا الْيَمَانِيِّ - يَعْنِي أَبَا
هُرَيْرَةَ - فَإِنَّهُ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَأَدْنَيْتُهُ مِنْهُ، فَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ
يُحَدِّثُ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ: صَدَقَ، كَذَبَ، صَدَقَ، كَذَبَ. قَالَ:
قُلْتُ: يَا أَبَهْ، مَا قَوْلُكَ: صَدَقَ، كَذَبَ ؟ قَالَ: يَا بُنَيَّ، أَمَّا
أَنْ يَكُونَ سَمِعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَشُكُّ، وَلَكِنَّ مِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى
مَوَاضِعِهِ، وَمِنْهَا مَا وَضَعَهُ عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي أَنَسِ
بْنِ أَبِي عَامِرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِذْ
دَخَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا نَدْرِي هَذَا
الْيَمَانِيُّ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْكُمْ، أَمْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا لَمْ يَقُلْ ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: وَاللَّهِ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ نَسْمَعْ، وَعَلِمَ
مَا لَمْ نَعْلَمْ، إِنَّا كُنَّا قَوْمًا أَغْنِيَاءَ، لَنَا بُيُوتَاتٌ
وَأَهْلُونَ، وَكُنَّا نَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ، ثُمَّ نَرْجِعُ، وَكَانَ مِسْكِينًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا
أَهْلَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ يَدُهُ مَعَ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ، فَمَا نَشُكُّ
أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ مَا لَمْ نَعْلَمْ، وَسَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ. وَقَدْ
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بْنحْوِهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا أَيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُحَدِّثُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ ؟ ! فَقَالَ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ نَسْمَعْ،
وَإِنِّي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يَعْنِي: مَا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْهُ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ:
ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا مَرْوَانُ
الدِّمَشْقِيُّ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ
قَالَ: قَالَ لَنَا بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ: اتَّقُوا اللَّهَ وَتَحَفَّظُوا مِنَ
الْحَدِيثِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نُجَالِسُ أَبَا هُرَيْرَةَ،
فَيُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَيُحَدِّثُنَا عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، ثُمَّ يَقُومُ فَأَسْمَعُ بَعْضَ مَنْ
كَانَ مَعَنَا يَجْعَلُ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ كَعْبٍ، وَحَدِيثَ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَجْعَلُ مَا قَالَهُ كَعْبٌ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَعْبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَتَحَفَّظُوا فِي
الْحَدِيثِ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: سَمِعْتُ شُعْبَةَ يَقُولُ: أَبُو هُرَيْرَةَ
كَانَ يُدَلِّسُ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَكَانَ شُعْبَةُ يُشِيرُ بِهَذَا
إِلَى حَدِيثِهِ: " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صِيَامَ لَهُ ".
فَإِنَّهُ لَمَّا حُوقِقَ عَلَيْهِ قَالَ: أَخْبَرَنِيهِ مُخْبِرٌ، وَلَمْ
أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا
يَدَعُونَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَرَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
قَالَ: مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ بِكُلِّ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ
فِي أَحَادِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ شَيْئًا، وَمَا
كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ جَنَّةٍ أَوْ
نَارٍ. وَقَدِ انْتَصَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَدَّ هَذَا
الَّذِي قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَقَدْ قَالَ مَا قَالَهُ
إِبْرَاهِيمُ طَائِفَةٌ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِمْ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنَ الصِّدْقِ
وَالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجَرِيرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ،
وَامْرَأَتُهُ ثُلُثَهُ، وَابْنَتُهُ ثُلُثَهُ، يَقُومُ هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ
هَذَا، ثُمَّ يُوقِظُ هَذَا وَهَذَا.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:أَوْصَانِي خَلِيلِي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ
شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوَتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنِّي
أُجَزِّئُ اللَّيْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجُزْءٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ،
وَجُزْءٌ أَنَامُ فِيهِ، وَجُزْءٌ أَتَذَكَّرُ فِيهِ حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ عُثْمَانَ الْقُرَشِيُّ، ثَنَا أَبُو أَيُّوبَ قَالَ: كَانَ
لِأَبِي هُرَيْرَةَ مَسْجِدٌ فِي مُخْدَعِهِ، وَمَسْجِدٌ فِي بَيْتِهِ، وَمَسْجِدٌ
فِي حُجْرَتِهِ، وَمَسْجِدٌ عَلَى بَابِ دَارِهِ، إِذَا خَرَجَ صَلَّى فِيهَا
جَمِيعِهَا، وَإِذَا دَخَلَ صَلَّى
فِيهَا جَمِيعِهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ، وَيَقُولُ: أُسَبِّحُ عَلَى قَدْرِ دِيَتِي.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي
مَيْسَرَةَ قَالَ: كَانَتْ لِأَبِي هُرَيْرَةَ صَيْحَتَانِ فِي كُلِّ يَوْمٍ،
أَوَّلَ النَّهَارِ يَقُولُ: ذَهَبَ اللَّيْلُ وَجَاءَ النَّهَارُ، وَعُرِضَ آلُ
فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ. وَإِذَا كَانَ الْعَشِيُّ يَقُولُ: ذَهَبَ النَّهَارُ
وَجَاءَ اللَّيْلُ، وَعُرِضَ آلُ فِرْعَوْنَ عَلَى النَّارِ. فَلَا يَسْمَعُ
أَحَدٌ صَوْتَهُ إِلَّا اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ
زِيَادِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا
بِنِعْمَةٍ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ طَالِبًا حَثِيثًا طَلَبُهُ ; جَهَنَّمُ
كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 97 ].
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ
صَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمًا، فَلَمَّا سَلَّمَ رَفْعَ صَوْتَهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ قَوَامًا، وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا،
بَعْدمَا كَانَ أَجِيرًا لِابْنةِ غَزْوَانَ عَلَى شِبَعِ بَطْنِهِ وَحُمُولَةِ
رِجْلِهِ. ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ يَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، إِنْ كَانَتْ
إِجَارَتِي مَعَهُمْ إِلَّا عَلَى كِسْرَةٍ يَابِسَةٍ،
وَعُقْبَةٍ فِي لَيْلَةٍ غَبْرَاءَ
مُظْلِمَةٍ، ثُمَّ زَوَّجَنِيهَا اللَّهُ، فَكُنْتُ أَرْكَبُ إِذَا رَكِبُوا،
وَأَخْدِمُ إِذَا نَزَلُوا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ: ثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا
سُلَيْمُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: نَشَأَتُ يَتِيمًا، وَهَاجَرَتُ مِسْكِينًا، وَكُنْتُ أَجِيرًا لِابْنةِ
غَزْوَانَ بِطَعَامِ بَطْنِي وَعُقْبَةِ رِجْلِي، أَحْدُو بِهِمْ إِذَا رَكِبُوا،
وَأَحْتَطِبُ إِذَا نَزَلُوا، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الدِّينَ
قَوَامًا وَجَعَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ إِمَامًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الْجَوْزَجَانِيُّ: ثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ
نُصَيْرٍ، ثَنَا هِلَالُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو
ذَرٍّ: بَابٌ مِنَ الْعِلْمِ نَتَعَلَّمُهُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ
تَطَوُّعًا، وَبَابٌ نُعَلِّمُهُ - عَمِلْنَا بِهِ أَوْ لَمْ نَعْمَلْ بِهِ -
أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ مِائَةِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا. وَقَالَا: سَمِعَنَا رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا جَاءَ طَالِبَ
الْعِلْمِ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ ".
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي
سُجُودِهِ أَنْ يَزْنِيَ أَوْ يَسْرِقَ أَوْ يَكْفُرَ أَوْ يَعْمَلَ بِكَبِيرَةٍ.
فَقِيلَ لَهُ: أَتَخَافُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: مَا يُؤَمِّنُنِي وَإِبْلِيسُ حَيٌّ،
وَمُصَرِّفُ الْقُلُوبِ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ ؟
وَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: يَا أَبَتِ،
إِنَّ الْبَنَاتَ يُعَيِّرْنَنِي يَقُلْنَ: لِمَ لَا يَحْلِيكِ أَبُوكِ
بِالذَّهَبِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ، قُولِي لَهُنَّ: إِنَّ أَبِي يَخْشَى
عَلَيَّ حَرَّ اللَّهَبِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقُمْتُ لَهُ
وَهُوَ يُسَبِّحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَانْتَظَرْتُهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ
دَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَقْرِئْنِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - قَالَ:
وَمَا أُرِيدُ إِلَّا الطَّعَامَ - قَالَ: فَأَقْرَأَنِي آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ
" آلِ عِمْرَانَ "، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَهُ دَخَلَ وَتَرَكَنِي عَلَى
الْبَابِ فَأَبْطَأَ، فَقُلْتُ: يَنْزِعُ ثِيَابَهُ ثُمَّ يَأْمُرُ لِي بِطَعَامٍ.
فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ قُمْتُ فَمَشَيْتُ، فَاسْتَقْبَلَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَنِي فَقَالَ: "
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّ خُلُوفَ فَمِكَ اللَّيْلَةَ لَشَدِيدٌ ".
فَقُلْتُ: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ ظَلَلْتُ صَائِمًا وَمَا أَفْطَرْتُ
بَعْدُ، وَمَا أَجِدُ مَا أُفْطِرُ عَلَيْهِ. قَالَ: " فَانْطَلَقَ ".
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ حَتَّى أَتَى بَيْتَهُ، فَدَعَا جَارِيَةً لَهُ سَوْدَاءَ،
فَقَالَ: " ائْتِينَا بِتِلْكَ الْقَصْعَةِ ". فَأَتَتْنَا بِقَصْعَةٍ
فِيهَا وَضُرٌ مِنْ طَعَامٍ، أَرَاهُ شَعِيرًا قَدْ أُكِلَ وَبَقِيَ فِي
جَوَانِبِهَا بَعْضُهُ وَهُوَ يَسِيرٌ، فَسَمَّيْتُ وَجَعَلْتُ أَتَتَبَّعُهُ،
فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ لِابْنَتِهِ: لَا تَلْبَسِي الذَّهَبَ، فَإِنِّي أَخْشَى
عَلَيْكِ حَرَّ اللَّهَبِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ
طُرُقٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي
الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْكُنَاسَةَ
مَهْلَكَةُ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ. يَعْنِي الشَّهَوَاتِ وَمَا يَأْكُلُونَهُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَعَاهُ لِيَسْتَعْمِلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ،
فَقَالَ: أَتَكْرَهُ الْعَمَلَ، وَقَدْ عَمِلَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ - أَوْ
قَالَ: قَدْ طَلَبَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ؟ - قَالَ: مَنْ ؟ قَالَ: يُوسُفُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُوسُفُ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ،
وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بْنُ أُمَيْمَةَ، فَأَخْشَى ثَلَاثًا وَاثْنَتَيْنِ.
فَقَالَ عُمَرُ: أَفَلَا قُلْتَ خَمْسًا ؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ
عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ حُكْمٍ، وَأَنْ يُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُنْتَزَعَ مَا
لِي، وَيُشْتَمَ عِرْضِي.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَلَا تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ
الْغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ ؟ " فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ أَنْ
تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ. قَالَ: فَنَزَعْتُ نَمِرَةً عَلَى
ظَهْرِي، فَبَسَطْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْقَمْلِ
يَدِبُّ عَلَيْهَا، فَحَدَّثَنِي حَتَّى إِذَا اسْتَوْعَبَ حَدِيثَهُ قَالَ:
" اجْمَعْهَا إِلَيْكَ فَصُرَّهَا ". فَأَصْبَحْتُ لَا أُسْقِطُ حَرْفًا
مِمَّا حَدَّثَنِي.
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: كَيْفَ تَصُومُ
؟ قَالَ: أَصُومُ أَوَّلَ الشَّهْرِ ثَلَاثًا، فَإِنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ كَانَ لِي
أَجْرُ شَهْرِي.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ فِي
سَفَرٍ وَمَعَهُ قَوْمٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا وَضَعُوا السُّفْرَةَ وَبَعَثُوا
إِلَيْهِ لِيَأْكُلَ مَعَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي صَائِمٌ. فَلَمَّا كَادُوا أَنْ
يَفْرَغُوا مِنْ أَكْلِهِمْ جَاءَ فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ
يَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِهِمُ الَّذِي أَرْسَلُوهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ:
أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، قَدْ وَاللَّهِ أَخْبَرَنِي أَنَّهُ صَائِمٌ.
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: صَدَقَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ وَصَوْمُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ ". وَقَدْ صُمْتُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، فَأَنَا مُفْطِرٌ فِي تَخْفِيفِ
اللَّهِ، صَائِمٌ فِي تَضْعِيفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمرٍو، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ
هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ إِذَا صَامُوا يَجْلِسُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالُوا:
نُظَهِّرُ صِيَامَنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ الْحِدَادُ، حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ الشَّحَّامُ أَبُو سَلَمَةَ، ثَنَا فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ قَالَ: كَانَ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلٌ لِي مِنْ بَطْنِي،
إِنْ أَشْبَعْتُهُ كَظَّنِي، وَإِنْ أَجَعْتُهُ أَضْعَفَنِي.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ
كُلَّ يَوْمٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَذَلِكَ عَلَى قَدْرِ دِيَتِي.
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ لَهُ
خَيْطٌ فِيهِ اثَنَا عَشَرَ أَلْفَ عُقَدْةٍ يُسَبِّحُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَلْفَا عُقَدْةٍ، فَلَا يَنَامُ حَتَّى يُسَبِّحَ بِهِ. وَهُوَ
أَصَحُّ مِنَ الَّذِي قَبِلَهُ.
وَلِمَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بَكَى فَقِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ: مَا
أَبْكِي عَلَى دُنْيَاكُمْ هَذِهِ، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى بُعْدِ سَفَرِي
وَقِلَّةِ زَادِي، وَإِنِّي أَصْبَحْتُ فِي صُعُودٍ مُهْبِطٍ عَلَى جَنَّةٍ
وَنَارٍ، لَا أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا يُؤْخَذُ بِي.
وَرَوَى قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا زَوَّقْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ
وَحَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ فَالدَّمَارُ عَلَيْكُمْ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: بَلَغَنِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِجِنَازَةٍ قَالَ: رُوحُوا فَإِنَّا غَادُونَ، أَوِ
اغْدُوَا فَإِنَّا رَائِحُونَ، مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ، وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ،
يَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَيَبْقَى الْآخِرُ لَا عَقْلَ لَهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ لَيْثُ بْنُ خَالِدٍ
الْبَلْخِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ
قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يَزِيدَ
الْمَدِينِيَّ يَقُولُ: قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ
اقْتَرَبَ، وَيْلٌ لَهُمْ مِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ ; يَحْكُمُونَ فِيهِمْ
بِالْهَوَى وَيَقْتُلُونَ بِالْغَضَبِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أُسَامَةَ
بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: كَانَتْ لِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَمَرَةً، فَأَفْطَرْتُ عَلَى خَمْسٍ،
وَتَسَحَّرْتُ بِخَمْسٍ، وَأَبْقَيْتُ خَمْسًا لِفِطْرِي.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ
- يَعْنِي الْعَبْدِيَّ - عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
كَانَتْ لَهُمْ زِنْجِيَّةٌ قَدْ غَمَّتْهُمْ بِعَمَلِهَا، فَرَفَعَ عَلَيْهَا
يَوْمًا السَّوْطَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْلَا الْقِصَاصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لَأَغْشَيْتُكِ بِهِ، وَلَكِنْ سَأَبِيعُكِ مِمَّنْ يُوَفِّينِي ثَمَنَكِ أَحْوَجَ
مَا أَكُونُ إِلَيْهِ، اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرِضَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ
أَعُودُهُ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اشْفِ أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا
تُرْجِعْهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى
النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمَوْتُ أَحَبَّ إِلَى أَحَدِهِمْ مِنَ الذَّهَبِ
الْأَحْمَرِ.
وَرَوَى عَطَاءٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ سِتًّا، فَإِنْ
كَانَتْ نَفْسُ أَحَدِكُمْ فِي يَدِهِ فَلْيُرْسِلْهَا، فَلِذَلِكَ أَتَمَنَّى
الْمَوْتَ أَخَافُ أَنْ تُدْرِكَنِي ; إِذَا أُمِّرَتِ السُّفَهَاءُ،
وَبِيعَ الْحُكْمُ، وَتُهُوِّنُ
بِالدَّمِ، وَقُطَّعَتِ الْأَرْحَامُ، وَكَثُرَتِ الْجَلَاوِزَةُ، وَنَشَأَ نَشْءٌ
يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
زِيَادٍ الْقُرَظِيِّ، أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيَّ،
حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَقْبَلَ فِي السُّوقِ يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ
- وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ - فَقَالَ: أَوْسِعِ
الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ يَا ابْنَ أَبِي مَالِكٍ. فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ
يَكْفِي هَذَا. فَقَالَ: أَوْسِعِ الطَّرِيقَ لِلْأَمِيرِ وَالْحُزْمَةُ عَلَيْهِ.
وَلَهُ فَضَائِلُ وَمَنَاقِبُ وَمَآثِرُ وَكَلَامٌ حَسَنٌ وَمَوَاعِظُ جَمَّةٌ،
أَسْلَمَ كَمَا قَدَّمْنَا عَامَ خَيْبَرَ، فَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُفَارِقْهُ إِلَّا حِينَ بَعَثَهُ مَعَ
الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَوَصَّاهُ بِهِ، فَجَعَلَهُ
الْعَلَاءُ مُؤَذِّنًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا تَسْبِقْنِي
بِآمِينَ أَيُّهَا الْأَمِيرُ. وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ إِمَارَتِهِ، وَقَاسَمَهُ مَعَ جُمْلَةِ الْعُمَّالِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ، أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ،
فَقَدِمَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اسْتَأْثَرْتَ بِهَذِهِ
الْأَمْوَالِ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّ كِتَابِهِ ؟ فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: لَسْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ وَلَا عَدُوِّ كتَابِهِ، وَلَكِنِّي عَدُوُّ
مَنْ عَادَاهُمَا. فَقَالَ: فَمِنْ أَيْنَ هِيَ لَكَ ؟ قَالَ: خَيْلٌ
نُتِجَتْ، وَغَلَّةٌ وَرَقِيقٌ لِي،
وَأَعْطِيَةٌ تَتَابَعَتْ عَلَيَّ. فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ كَمَا قَالَ. فَلَمَّا
كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَاهُ عُمَرُ لِيَسْتَعْمِلَهُ، فَأَبَى أَنْ يَعْمَلَ
لَهُ، فَقَالَ لَهُ: تَكْرَهُ الْعَمَلَ، وَقَدْ طَلَبَهُ مَنْ كَانَ خَيْرًا
مِنْكَ ؟ طَلَبَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَقَالَ: إِنَّ يُوسُفَ نَبِيٌّ
ابْنُ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ ابْنِ نَبِيٍّ، وَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ بْنُ
أُمَيْمَةَ وَأَخْشَى ثَلَاثًا وَاثْنَتَيْنِ. قَالَ عُمَرُ: فَهَلَّا قُلْتَ
خَمْسَةً ؟ قَالَ: أَخْشَى أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَقْضِيَ بِغَيْرِ
حُكْمٍ، أَوْ يُضْرَبَ ظَهْرِي، وَيُنْتَزَعَ مَالِي، وَيُشْتَمُ عِرْضِي.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ أَغْرَمَهُ فِي الْعِمَالَةِ الْأُولَى اثْنَيْ
عَشَرَ أَلْفًا، فَلِهَذَا امْتَنَعَ فِي الثَّانِيَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ:
كَانَ مُعَاوِيَةُ يَبْعَثُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا غَضِبَ
عَلَيْهِ عَزَلَهُ وَوَلَّى مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ فَإِذَا جَاءَ أَبُو
هُرَيْرَةَ إِلَى مَرْوَانَ حَجَبَهُ عَنْهُ، فَعَزَلَ مَرْوَانَ وَرَجَعَ أَبُو
هُرَيْرَةَ، فَقَالَ لِمَوْلَاهُ: مَنْ جَاءَكَ فَلَا تَرُدَّهُ، وَاحَجُبْ
مَرْوَانَ. فَلَمَّا جَاءَ مَرْوَانُ دَفَعَ الْغُلَامُ فِي صَدْرِهِ، فَمَا
دَخَلَ إِلَّا بَعْدَ جُهْدٍ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: إِنَّ الْغُلَامَ حَجَبَنَا
عَنْكَ. فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّكَ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ لَا
تَغْضَبَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ مَرْوَانَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِيبُ
أَبَا هُرَيْرَةَ فِي إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ كَانَ يَكُونُ عَنْ إِذْنِ
مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ: كَانَ
مَرْوَانُ رُبَّمَا
اسْتَخْلَفَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ،
فَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: الطَّرِيقَ، قَدْ جَاءَ
الْأَمِيرُ. يَعْنِي نَفْسَهُ، وَكَانَ يَمُرُّ بِالصِّبْيَانِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ
بِاللَّيْلِ لُعْبَةَ الْأَعْرَابِ، فَلَا يَشْعُرُونَ بِهِ حَتَّى يُلْقِي
نَفْسَهُ بَيْنَهُمْ وَيَضْرِبُ بِرِجْلَيْهِ كَأَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَيَفْزَعُ
الصِّبْيَانُ مِنْهُ وَيَفِرُّونَ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: وَرُبَّمَا دَعَانِي
أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى عَشَائِهِ بِاللَّيْلِ، فَيَقُولُ: دَعِ الْعِرَاقَ
لِلْأَمِيرِ - يَعْنِي قِطَعَ اللَّحْمِ - قَالَ: فَأَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ ثَرِيدٌ
بِزَيْتٍ.
وَقَالَ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ كَاتِبُ مَرْوَانَ: بَعَثَ مَرْوَانُ إِلَى أَبِي
هُرَيْرَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَعْثَ إِلَيْهِ: إِنِّي
غَلِطْتُ وَلَمْ أُرِدْكَ بِهَا، وَإِنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ غَيْرَكَ. فَقَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ: قَدْ أَخْرَجْتُهَا، فَإِذَا خَرَجَ عَطَائِي فَخُذْهَا مِنْهُ.
وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا. وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ اخْتِبَارَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ، قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ إِذَا أَعْطَى أَبَا هُرَيْرَةَ سَكَتَ،
وَإِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ تَكَلَّمَ.
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ جَاءَهُ شَابٌّ فَقَالَ:
يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا، فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي،
فَجَاءَنِي بِخُبْزٍ وَلَحْمٍ، فَأَكَلْتُ نَاسِيًا. فَقَالَ: طُعْمَةٌ
أَطْعَمَكَهَا اللَّهُ، لَا عَلَيْكَ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ دَارًا لِأَهْلِي
فَجِيءَ بِلَبَنِ لَقْحَةٍ، فَشَرِبْتُهُ نَاسِيًا. قَالَ: لَا عَلَيْكَ. قَالَ:
ثُمَّ نِمْتُ، فَاسْتَيْقَظْتُ، فَشَرِبْتُ مَاءً - وَفِي
رِوَايَةٍ: وَجَامَعْتُ نَاسِيًا -
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّكَ يَا ابْنَ أَخِي لَمْ تَعَوَّدِ الصِّيَامَ.
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ، أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَكَى، فَقِيلَ
لَهُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ: عَلَى قِلَّةِ الزَّادِ وَشِدَّةِ الْمَفَازَةِ،
وَأَنَا عَلَى عَقَبَةِ هُبُوطٍ ; إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى نَارٍ،
فَمَا أَدْرِي إِلَى أَيِّهِمَا أَصِيرُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: دَخَلَ
مَرْوَانُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَقَالَ:
شَفَاكَ اللَّهُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ
إِنِّي أُحِبُّ لِقَاءَكَ فَأَحِبَّ لِقَائِي. قَالَ: فَمَا بَلَغَ مَرْوَانُ
أَصْحَابَ الْقَطَا حَتَّى مَاتَ أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ
جَابِرٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اللَّهُمَّ
لَا تُدْرِكْنِي سَنَةَ سِتِّينَ. قَالَ: فَتُوُفِّيَ فِيهَا أَوْ قَبْلَهَا
بِسَنَةٍ. وَهَكَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى عَائِشَةَ فِي رَمَضَانَ،
وَعَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ
أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَهُمَا فِيهَا. كَذَا قَالَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ تَأَخَّرَتْ بَعْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ:
إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ - وَقِيلَ: سَبْعٍ
- وَخَمْسِينَ. وَالْمَشْهُورُ تِسْعٌ
وَخَمْسِينَ. قَالُوا: وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ وَفِي الْقَوْمِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَخَلْقٌ، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي دَارِهِ بِالْعَقِيقِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ دُفِنَ بِالْبَقِيعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. وَكَتَبَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِوَفَاةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَنِ انْظُرْ وَرَثَتَهُ فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ، وَاصْرِفْ إِلَيْهِمْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَحْسِنْ جِوَارَهُمْ، وَاعْمَلْ إِلَيْهِمْ مَعْرُوفًا ; فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ نَصَرَ عُثْمَانَ، وَكَانَ مَعَهُ فِي الدَّارِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سَنَةُ سِتِّينَ مِنَ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَدِينَةَ سُورِيَّةَ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا دَخَلَ جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ جَزِيرَةَ رُودِسَ
وَهَدَمَ مَدِينَتَهَا. وَفِيهَا أَخَذَ مُعَاوِيَةُ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ مِنَ
الْوَفْدِ الَّذِينَ قَدِمُوا صُحْبَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى
دِمَشْقَ. وَفِيهَا مَرِضَ مُعَاوِيَةُ مَرَضَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ فِي
رَجَبٍ مِنْهَا، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّ
مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَرِضَ مَرْضَتَهُ الَّتِي هَلَكَ فِيهَا، دَعَا ابْنَهُ
يَزِيدَ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ الرِّحْلَةَ وَالرِّجَالَ،
وَوَطَّأْتُ لَكَ الْأَشْيَاءَ، وَذَلَّلْتُ لَكَ الْأَعْدَاءَ، وَأَخْضَعْتُ لَكَ
أَعْنَاقَ الْعَرَبِ، وَإِنِّي لَا أَتَخَوَّفُ أَنْ يُنَازِعَكَ هَذَا الْأَمْرَ
الَّذِي اسْتَتَبَّ لَكَ إِلَّا أَرْبَعَةُ نَفَرٍ ; الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ - كَذَا قَالَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَانَ
قَدْ تُوُفِّيَ قَبْلَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بِسَنَتَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا -
فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَجُلٌ قَدْ وَقَذَتْهُ الْعِبَادَةَ، وَإِذَا لَمْ
يَبْقَ أَحَدٌ غَيْرُهُ بَايَعَكَ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَإِنَّ أَهْلَ
الْعِرَاقِ لَا يَدْعُونَهُ حَتَّى يُخْرِجُوهُ، فَإِنْ
خَرَجَ عَلَيْكَ فَظَفِرْتَ بِهِ
فَاصْفَحْ عَنْهُ، فَإِنَّ لَهُ رَحِمًا مَاسَّةً، وَحَقًّا عَظِيمًا، وَأَمَّا
ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَرَجُلٌ إِنْ رَأَى أَصْحَابَهُ صَنَعُوا شَيْئًا صَنَعَ
مِثْلَهُ، لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ وَاللَّهْوِ، وَأَمَّا
الَّذِي يَجْثُمُ لَكَ جُثُومَ الْأَسَدِ، وَيُرَاوِغُكَ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ،
وَإِذَا أَمْكَنَتْهُ فُرْصَةٌ وَثَبَ، فَذَاكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنْ هُوَ
فَعَلَهَا بِكَ فَقَدَرْتَ عَلَيْهِ فَقَطِّعْهُ إِرْبًا إِرْبًا.
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: فَحِينَ حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ الْوَفَاةُ كَانَ يَزِيدُ فِي
الصَّيْدِ، فَاسْتَدْعَى مُعَاوِيَةُ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ -
وَكَانَ عَلَى شُرْطَةِ دِمَشْقَ - وَمُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ فَأَوْصَى
إِلَيْهِمَا أَنْ يُبَلِّغَا يَزِيدَ السَّلَامَ وَيَقُولَا لَهُ يَتَوَصَّى
بِأَهْلِ الْحِجَازِ، وَإِنْ سَأَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْ
يَعْزِلَ عَنْهُمْ عَامِلًا وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ آخَرَ فَلْيَفْعَلْ، فَعَزْلُ
وَاحِدٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ يُسَلَّ عَلَيْكَ مِائَةُ أَلْفِ سَيْفٍ،
وَأَنْ يَتَوَصَّى بِأَهْلِ الشَّامِ خَيْرًا، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ أَنْصَارَهُ،
وَأَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ قُرَيْشٍ سِوَى
ثَلَاثَةٍ ; الْحُسَيْنِ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ - وَلَمْ يَذْكُرْ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ وَهَذَا أَصَحُّ - فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ
فَقَدْ وَقَذَتْهُ الْعِبَادَةُ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَرَجُلٌ خَفِيفٌ،
وَأَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْ قَتَلَ أَبَاهُ وَخَذَلَ
أَخَاهُ، وَإِنَّ لَهُ رَحِمًا مَاسَّةً وَحَقًّا عَظِيمًا، وَقَرَابَةً مِنْ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَظُنُّ أَهْلَ الْعِرَاقِ
تَارِكِيهِ حَتَّى يُخْرِجُوهُ، فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَاصْفَحْ عَنْهُ،
فَإِنِّي لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ عَفَوْتُ عَنْهُ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ
فَإِنَّهُ خَبٌّ ضَبٌّ، فَإِنْ شَخَصَ لَكَ فَالْبَدْ لَهُ إِلَّا
أَنْ يَلْتَمِسَ مِنْكَ صُلْحًا،
فَإِنْ فَعَلَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَاصْفَحْ عَنْ دِمَاءِ قَوْمِكَ مَا
اسْتَطَعْتَ.
وَكَانَ مَوْتُ مُعَاوِيَةَ لِاسْتِهْلَالِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ
هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقِيلَ: لِلنِّصْفِ مِنْهُ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَقِيلَ: يَوْمَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْهُ. قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ هَلَكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
وَكَانَ مُدَّةُ مُلْكِهِ اسْتِقْلَالًا مِنْ جُمَادَى سَنَةَ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ حِينَ بَايَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ بِأَذْرُحَ، فَذَلِكَ
تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَكَانَ نَائِبًا فِي الشَّامِ
عِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ
سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ
سَنَةً. وَقِيلَ: خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ
فِي ذَلِكَ فِي آخِرِ تَرْجَمَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو السِّكِّينِ زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى: حَدَّثَنِي عَمُّ أَبِي
زَحْرُ بْنُ حِصْنٍ، عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مِنْهَبٍ قَالَ: كَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ
عُتْبَةَ عِنْدَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَكَانَ
الْفَاكِهُ مِنْ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ لِلضِّيَافَةِ يَغْشَاهُ
النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، فَخَلَا ذَلِكَ الْبَيْتُ يَوْمًا، فَاضْطَجَعَ
الْفَاكِهُ وَهِنْدُ فِيهِ فِي وَقْتِ الْقَائِلَةِ، ثُمَّ خَرَجَ الْفَاكِهُ
لِبَعْضِ شَأْنِهِ، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَغْشَاهُ، فَوَلَجَ
الْبَيْتَ، فَلَمَّا رَأَى الْمَرْأَةَ
وَلَّى هَارِبًا، وَأَبْصَرَهُ الْفَاكِهُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْبَيْتِ، فَأَقْبَلَ إِلَى هِنْدَ فَضَرَبَهَا بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي كَانَ عِنْدَكِ ؟ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، وَلَا انْتَبَهْتُ حَتَّى أَنْبَهْتَنِي أَنْتَ. فَقَالَ لَهَا: الْحَقِي بِأَبِيكِ. وَتَكَلَّمَ فِيهَا النَّاسُ، فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَكْثَرُوا فِيكِ، فَأَنْبِئِينِي نَبَأَكِ، فَإِنْ يَكُنِ الرَّجُلُ عَلَيْكِ صَادِقًا دَسَسْتُ إِلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ فَيَنْقَطِعُ عَنْكِ الْقَالَةُ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا حَاكَمْتُهُ إِلَى بَعْضِ كُهَّانِالْيَمَنِ. فَحَلَفَتْ لَهُ بِمَا كَانُوا يَحْلِفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ عَلَيْهَا. فَقَالَ عُتْبَةُ لِلْفَاكِهِ: يَا هَذَا، إِنَّكَ قَدْ رَمَيْتَ ابْنَتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَحَاكِمْنِي إِلَى بَعْضِ كُهَّانِ الْيَمَنِ. فَخَرَجَ الْفَاكِهُ فِي بَعْضِ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَخَرَجَ عُتْبَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِهِنْدَ وَنِسْوَةٍ مَعَهَا، فَلَمَّا شَارَفُوا الْبِلَادَ وَقَالُوا: غَدًا نَرِدُ عَلَى الْكَاهِنِ. تَنَكَّرَتْ حَالُ هِنْدَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: يَا بُنَيَّةُ، قَدْ أَرَى مَا بِكِ مِنْ تَنَكُّرِ الْحَالِ، وَمَا ذَاكَ عِنْدَكِ إِلَّا لِمَكْرُوهٍ فَأَلَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُشْتَهَرَ فِي النَّاسِ مَسِيرُنَا ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَبَتَاهُ مَا هَذَا الَّذِي تَرَاهُ مِنِّي لِمَكْرُوهٍ وَقْعَ مِنِّي، وَإِنِّي لَبَرِيئَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا الَّذِي تَرَاهُ مِنَ الْحُزْنِ وَتَغَيُّرِ الْحَالِ هُوَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَأْتُونَ هَذَا الْكَاهِنَ، وَهُوَ بَشَرٌ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَا آمَنُهُ أَنْ يَسِمَنِي مَيْسَمًا يَكُونُ عَلَيَّ سُبَّةً فِي
الْعَرَبِ. فَقَالَ لَهَا أَبُوهَا: لَا تَخَافِي فَإِنِّي سَوْفَ أَخْتَبِرُهُ وَأَمْتَحِنُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي شَأْنِكِ وَأَمْرِكِ، فَإِنْ أَخْطَأَ فِيمَا أَمْتَحِنُهُ بِهِ لَمْ أَدَعْهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِكِ. ثُمَّ إِنَّهُ انْفَرَدَ عَنِ الْقَوْمِ - وَكَانَ رَاكِبًا مُهْرًا - حَتَّى تَوَارَى عَنْهُمْ خَلْفَ رَابِيَةٍ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، ثُمَّ صَفَّرَ لَهُ حَتَّى أَدْلَى، ثُمَّ أَخَذَ حَبَّةَ بُرٍّ، فَأَدْخَلَهَا فِي إِحْلِيلِ الْمُهْرِ، وَأَوْكَى عَلَيْهَا بِسَيْرٍ، فَلَمَّا وَرَدُوا عَلَى الْكَاهِنِ أَكْرَمَهُمْ وَنَحَرَ لَهُمْ، فَلَمَّا تَغَدُّوا قَالَ لَهُ عُتْبَةُ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكَ فِي أَمْرٍ، وَلَكِنْ لَا أَدْعُكَ تَتَكَلَّمُ فِيهِ حَتَّى تُبَيِّنَ لَنَا مَا خَبَّأْتُ لَكَ، فَإِنِّي قَدْ خَبَّأْتُ لَكَ خَبِيئًا، فَانْظُرْ مَا هُوَ. قَالَ الْكَاهِنُ: ثَمَرَةٌ فِي كَمَرَةٍ. قَالَ: أُرِيدُ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا. قَالَ: حَبَّةٌ مِنْ بُرٍّ فِي إِحْلِيلِ مُهْرٍ. قَالَ: صَدَقْتَ، فَخُذْ لِمَا جِئْنَاكَ لَهُ، انْظُرْ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةِ. فَأَجْلَسَ النِّسَاءَ خَلْفَهُ، وَهِنْدُ مَعَهُمْ لَا يَعْرِفُهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ فَيَضْرِبُ كَتِفَهَا وَيَقُولُ: انْهَضِي. حَتَّى دَنَا مِنْ هِنْدَ، فَضَرَبَ كَتِفَهَا وَقَالَ: انْهَضِي، غَيْرَ رَسْحَاءَ، وَلَا زَانِيَةٍ، وَلَتَلِدِنَّ مَلِكًا يُقَالُ لَهُ: مُعَاوِيَةُ. فَوَثَبَ إِلَيْهَا الْفَاكِهُ فَأَخْذَ بِيَدِهَا، فَنَتَرَتْ يَدَهَا مِنْ يَدِهِ، وَقَالَتْ لَهُ إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَكَ وِسَادَةٌ، وَاللَّهِ لَأَحْرِصَنَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَلِكُ مِنْ غَيْرِكَ. فَتَزَوَّجَهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَجَاءَتْ مِنْهُ بِمُعَاوِيَةَ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مُعَاوِيَةَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِهِ، وَدَوْلَتِهِ، وَمَا
وَرَدَ فِي مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ
هُوَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، خَالُ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاتِبُ وَحْيِ رَسُولِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ. وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ.
أَسْلَمَ مُعَاوِيَةُ عَامَ الْفَتْحِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ
يَوْمَ الْقَضِيَّةِ، وَلَكِنْ كَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنْ أَبِي، ثُمَّ عَلِمَ
بِذَلِكَ فَقَالَ لِي: هَذَا أَخُوكَ يَزِيدُ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ عَلَى دِينِ
قَوْمِهِ. فَقُلْتُ لَهُ: لَمْ آلُ نَفْسِي جُهْدًا. قَالَ مُعَاوِيَةُ: وَلَقَدْ
دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ وَإِنِّي لَمُصَدِّقٌ بِهِ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ
أَظْهَرْتُ إِسْلَامِي، فَجِئْتُهُ فَرَحَّبَ بِي، وَكَتَبْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَشَهِدَ مَعَهُ حُنَيْنًا، وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنَ
الْإِبِلِ، وَأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ، وَزَنَهَا لَهُ بِلَالٌ.
وَشَهِدَ الْيَمَامَةَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ
مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَقَدْ يَكُونُ لَهُ شِرْكٌ
فِي قَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي طَعَنَهُ وَحْشِيٌّ، وَجَلَّلَهُ أَبُو
دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ بِالسَّيْفِ.
وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ سَادَاتِ
قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَفَرَّدَ فِيهِمْ بِالسُّؤْدَدِ بَعْدَ يَوْمِ
بَدْرٍ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمَ حَسُنَ بَعْدَ ذَلِكَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ لَهُ
مَوَاقِفُ شَرِيفَةٌ، وَآثَارٌ مَحْمُودَةٌ فِي يَوْمِ الْيَرْمُوكِ وَمَا
قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ.
وَصَحِبَ مُعَاوِيَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَتَبَ الْوَحْيَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ الْكُتَّابِ، وَرَوَى عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً فِي "
الصَّحِيحَيْنِ "، وَغَيْرَهُمَا مِنَ " السُّنَنِ " وَ "
الْمَسَانِيدِ "، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعَينِ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَ مُعَاوِيَةُ طَوِيلًا أَبْيَضَ
جَمِيلًا، إِذَا ضَحِكَ انْقَلَبَتْ شَفَتُهُ الْعُلْيَا، وَكَانَ يُخَضِّبُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْأَدَمِيُّ، ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ رَبٍّ قَالَ: رَأَيْتُ
مُعَاوِيَةَ يُصَفِّرُ لِحْيَتَهُ كَأَنَّهَا الذَّهَبُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَبْيَضَ طَوِيلًا، أَجْلَحَ أَبْيَضَ الرَّأْسِ
وَاللِّحْيَةِ، يُخَضِّبُهُمَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَقَدْ أَصَابَتْهُ
لَقْوَةٌ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَكَانَ يَسْتُرُ وَجْهَهُ، وَيَقُولُ: رَحِمَ
اللَّهُ عَبْدًا دَعَا لِي بِالْعَافِيَةِ، فَقَدْ رُمِيتُ فِي أَحْسَنِي وَمَا
يَبْدُو مِنِّي، وَلَوْلَا هَوَايَ فِي يَزِيدَ لَأَبْصَرْتُ رُشْدِي. وَكَانَ
حَلِيمًا وَقُورًا رَئِيسًا سَيِّدًا فِي النَّاسِ، كَرِيمًا عَادِلًا شَهْمًا.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ صَالِحِ
بْنِ حَسَّانَ قَالَ: رَأَى بَعْضُ مُتَفَرِّسِي الْعَرَبِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ
صَبِيٌّ صَغِيرٌ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّ هَذَا الْغُلَامَ سَيَسُودُ قَوْمَهُ.
فَقَالَتْ هِنْدُ: ثَكِلْتُهُ إِنْ كَانَ لَا يَسُودُ إِلَّا قَوْمَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: رَأَيْتُ هِنْدَ بِمَكَّةَ
كَأَنَّ وَجْهَهَا فِلْقَةُ قَمَرٍ، وَخَلْفَهَا مِنْ عَجِيزَتِهَا مِثْلُ الرَّجُلِ
الْجَالِسِ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ يَلْعَبُ، فَمَرَّ رَجُلٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ
فَقَالَ: إِنِّي لَأَرَى غُلَامًا إِنْ عَاشَ لَيَسُودَنَّ قَوْمَهُ. فَقَالَتْ
هِنْدُ: إِنْ لَمْ يَسُدْ إِلَّا قَوْمَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ. وَهُوَ
مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَيْفٍ قَالَ: نَظَرَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمًا إِلَى
مُعَاوِيَةَ وَهُوَ غُلَامٌ، فَقَالَ لِهِنْدَ: إِنَّ ابَنِي هَذَا لَعَظِيمُ
الرَّأْسِ، وَإِنَّهُ لَخَلِيقٌ أَنْ يَسُودَ قَوْمَهُ. فَقَالَتْ هِنْدُ:
قَوْمَهُ فَقَطْ ؟ ! ثَكِلْتُهُ إِنْ لَمْ يَسُدِ الْعَرَبَ قَاطِبَةً. وَكَانَتْ
هِنْدُ تَحْمِلُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَتَقُولُ:
إِنَّ بُنَيَّ مُعْرِقٌ كَرِيمُ مُحَبَّبٌ فِي أَهْلِهِ حَلِيمُ لَيْسَ بِفَحَّاشٍ
وَلَا لَئِيمُ
وَلَا بِطُخْرُورٍ وَلَا سَئُومُ صَخْرُ بَنِي فَهْرٍ بِهِ زَعِيمُ
لَا يُخْلِفُ الظَّنَّ وَلَا يَخِيمُ
قَالَ: فَلَمَّا وَلَّى عُمَرُ يَزِيدَ
بْنَ أَبِي سُفْيَانَ مَا وَلَّاهُ مِنَ الشَّامِ، خَرَجَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ،
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدَ: كَيْفَ رَأَيْتِ صَارَ ابْنُكِ تَابِعًا
لِابْنِي ؟ فَقَالَتْ: إِنِ اضْطَرَبَ حَبْلُ الْعَرَبِ فَسَتَعْلَمُ أَيْنَ
يَقَعُ ابْنُكَ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ ابْنِي.
فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَنَةَ بِضْعَ عَشْرَةَ، وَجَاءَ
الْبَرِيدُ إِلَى عُمَرَ بِمَوْتِهِ، رَدَّ عُمَرُ الْبَرِيدَ إِلَى الشَّامِ
بِوِلَايَةِ مُعَاوِيَةَ مَكَانَ أَخِيهِ يَزِيدَ، ثُمَّ عَزَّى أَبَا سُفْيَانَ
فِي ابْنِهِ يَزِيدَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنْ وَلَّيْتَ
مَكَانَهُ ؟ قَالَ: أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ هِنْدُ لِمُعَاوِيَةَ فِيمَا كَتَبَتْ بِهِ إِلَيْهِ:
وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ، إِنَّهُ قَلَّ أَنْ تَلِدَ حُرَّةٌ مِثْلَكَ، وَإِنَّ
هَذَا الرَّجُلَ قَدِ اسْتَنْهَضَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ
فِيمَا أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ. وَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ
هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ سَبَقُونَا وَتَأَخَّرْنَا،
فَرَفَعَهُمْ سَبْقُهُمْ، وَقَصَّرَ بِنَا تَأَخُّرُنَا، فَصَارُوا قَادَةً،
وَصِرْنَا أَتْبَاعًا، وَقَدْ وَلَّوْكَ جَسِيمًا مِنْ أُمُورِهِمْ فَلَا
تُخَالِفْهُمْ، فَإِنَّكَ تَجْرِي إِلَى أَمَدٍ فَنَافِسْ فِيهِ، فَإِنْ
بَلَغْتَهُ أَوْرَثَتْهُ عَقِبَكَ.
فَلَمْ يَزَلْ مُعَاوِيَةُ نَائِبًا عَلَى الشَّامِ فِي الدَّوْلَةِ
الْعُمَرِيَّةِ وَالْعُثْمَانِيَّةِ مُدَّةَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَافْتَتَحَ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ جَزِيرَةَ قُبْرُسَ، وَسَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ
قَرِيبًا
مِنْ سِتِّينَ سَنَةً فِي أَيَّامِهِ
وَمِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ تَزَلِ الْفُتُوحَاتُ وَالْجِهَادُ قَائِمًا عَلَى
سَاقِهِ فِي أَيَّامِهِ فِي بِلَادِ الرُّومِ وَالْفِرِنْجِ وَغَيْرِهَا، فَلَمَّا
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ مَا كَانَ، لَمْ
يَقَعْ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فَتْحٌ بِالْكُلِّيَّةِ، لَا عَلَى يَدَيْهِ وَلَا
عَلَى يَدَيْ عَلِيٍّ، وَطَمِعَ فِي مُعَاوِيَةَ مَلِكُ الرُّومِ بَعْدَ أَنْ
كَانَ قَدْ أَخْسَأَهُ وَأَذَلَّهُ، وَقَهَرَ جُنْدَهُ وَدَحَاهُمْ، فَلَمَّا
رَأَى مَلِكُ الرُّومِ اشْتِغَالَ مُعَاوِيَةَ بِحَرْبِ عَلِيٍّ تَدَانَى إِلَى
بَعْضِ الْبِلَادِ فِي جُنُودٍ عَظِيمَةٍ، وَطَمِعَ فِيهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ وَتَرْجِعْ إِلَى بِلَادِكَ يَا
لَعِينُ لَأَصْطَلِحَنَّ أَنَا وَابْنُ عَمِّي عَلَيْكَ وَلَأُخْرِجَنَّكَ مِنْ
جَمِيعِ بِلَادِكَ، وَلَأُضَيِّقَنَّ عَلَيْكَ الْأَرْضَ بِمَا رَحُبَتْ. فَعِنْدَ
ذَلِكَ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ وَانْكَفَّ، وَبَعَثَ يَطْلُبُ الْهُدْنَةَ.
ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ التَّحْكِيمِ مَا كَانَ، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ إِلَى
وَقْتِ اصْطِلَاحِهِ مَعَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ، فَانْعَقَدَتِ
الْكَلِمَةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَاجْتَمَعَتِ الرَّعَايَا عَلَى بَيْعَتِهِ فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ كَمَا قَدَّمْنَا، فَلَمْ يَزَلْ مُسْتَقِلًّا
بِالْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا
وَفَاتُهُ، وَالْجِهَادُ فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ قَائِمٌ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ
عَالِيَةٌ، وَالْغَنَائِمُ تَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ،
وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فِي رَاحَةٍ وَعَدْلٍ وَصَفْحٍ وَعَفْوٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ
عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ سِمَاكِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثَلَاثٌ أَعْطِنِيهِنَّ. قَالَ: "
نَعَمْ ". قَالَ: تُؤَمِّرُنِي حَتَّى أُقَاتِلَ الْكُفَّارَ كَمَا كُنْتُ
أُقَاتِلُ
الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: " نَعَمْ
". قَالَ: وَمُعَاوِيَةُ تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ: "
نَعَمْ ". وَذَكَرَ الثَّالِثَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِابْنَتِهِ الْأُخْرَى
عَزَّةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ. وَاسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِأُخْتِهَا أُمِّ
حَبِيبَةَ، فَقَالَ: " إِنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِي " وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وَذَكَرْنَا أَقْوَالَ
الْأَئِمَّةِ وَاعْتِذَارَهُمْ عَنْهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَالْمَقْصُودُ
مِنْهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْكُتَّابِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْوَحْيَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ
" مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ الْوَضَّاحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ:كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَاءَ فَقُلْتُ: مَا جَاءَ إِلَّا
إِلَيَّ. فَاخْتَبَأْتُ عَلَى بَابٍ، فَجَاءَنِي فَحَطَأَنِي حَطْأَةً ثُمَّ قَالَ:
" اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ ". وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ.
قَالَ: فَذَهَبْتُ فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَأْكُلُ. فَأَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يَأْكُلُ.
فَقَالَ: " اذْهَبْ فَادْعُهُ ". فَأَتَيْتُهُ الثَّانِيَةَ فَقِيلَ:
إِنَّهُ يَأْكُلُ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: " لَا أَشْبَعَ اللَّهُ بَطْنَهُ
". قَالَ: فَمَا شَبِعَ بَعْدَهَا.
وَقَدِ انْتَفَعَ مُعَاوِيَةُ بِهَذِهِ
الدَّعْوَةِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَمَّا
صَارَ فِي الشَّامِ أَمِيرًا، كَانَ يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ،
يُجَاءُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا لَحْمٌ كَثِيرٌ وَبَصَلٌ فَيَأْكُلُ مِنْهَا،
وَيَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ أَكَلَاتٍ بِلَحْمٍ، وَمِنَ الْحَلْوَى
وَالْفَاكِهَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشْبَعُ، وَإِنَّمَا
أَعْيَى. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ وَمَعِدَةٌ يَرْغَبُ فِيهَا كُلُّ الْمُلُوكِ.
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَدِ أَتْبَعَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْحَدِيثِ
الَّذِي رَوَاهُ هُوَ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا عَبْدٍ
سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ أَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَهْلًا،
فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ". فَرَكَّبَ مُسْلِمٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهَذَا
الْحَدِيثِ فَضِيلَةً لِمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُورِدْ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:أَتَى جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ مُعَاوِيَةَ السَّلَامَ،
وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا ; فَإِنَّهُ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى كِتَابِهِ
وَوَحْيِهِ، وَنِعْمَ الْأَمِينُ.
ثُمَّ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمانَ، ثُمَّ أَوْرَدَهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ وَجَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي اسْتِكْتَابِهِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: اسْتَكْتِبْهُ
فَإِنَّهُ أَمِينٌ. وَلَكِنْ فِي الْأَسَانِيدِ إِلَيْهِمَا غَرَابَةٌ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَنْ عَلِيٍّ فِي
ذَلِكَ غَرَائِبَ كَثِيرَةً، وَكَذَا عَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ الْأَقْمَرِ الزُّبَيْدِيِّ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصَّيْدَلَانِيُّ، ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُمِّ حَبِيبَةَ مِنَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَقَّ الْبَابَ دَاقٌّ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْظُرُوا مَنْ هَذَا
". قَالُوا: مُعَاوِيَةُ. قَالَ: " ائْذَنُوا لَهُ ". فَدَخَلَ
وَعَلَى أُذُنِهِ قَلَمٌ لَمْ يُخَطَّ بِهِ، فَقَالَ: " مَا هَذَا الْقَلَمُ
عَلَى أُذُنِكَ يَا مُعَاوِيَةُ ؟ " قَالَ: قَلَمٌ أَعْدَدْتُهُ لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ. فَقَالَ: " جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ نَبِيِّكَ خَيْرًا،
وَاللَّهِ مَا اسْتَكْتَبْتُكَ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، وَمَا أَفْعَلُ مِنْ
صَغِيرَةٍ وَلَا كَبِيرَةٍ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، كَيْفَ بِكَ لَوْ
قَمَّصَكَ اللَّهُ قَمِيصًا ؟ ". يَعْنِي الْخِلَافَةَ. فَقَامَتْ
أُمُّ حَبِيبَةَ، فَجَلَسَتْ بَيْنَ
يَدَيْهِ وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ مُقَمِّصُهُ قَمِيصًا ؟
! قَالَ: " نَعَمْ، وَلَكِنْ فِيهِ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ وَهَنَاتٌ ".
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ. فَقَالَ: "
اللَّهُمَّ اهْدِهِ بِالْهُدَى، وَجَنِّبْهُ الرَّدَى، وَاغْفِرْ لَهُ فِي
الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ". قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ السَّرِيُّ
بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ
هِشَامٍ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ
وَغَيْرِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ. وَقَدْ
أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ بَعْدَ هَذَا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مَوْضُوعَةً،
وَالْعَجَبُ مِنْهُ مَعَ حِفْظِهِ وَاطِّلَاعِهِ كَيْفَ لَا يُنَبِّهُ عَلَيْهَا
وَعَلَى نَكَارَتِهَا وَضَعْفِ رِجَالِهَا. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ
الْأَسْقَعِ مَرْفُوعًا: " الْأُمَنَاءُ ثَلَاثَةٌ ; جِبْرِيلُ، وَأَنَا،
وَمُعَاوِيَةُ ". وَلَا يَصِحُّ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ. وَمِنْ رِوَايَةِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: " الْأُمَنَاءُ سَبْعَةٌ ; الْقَلَمُ، وَاللَّوْحُ،
وَإِسْرَافِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَجِبْرِيلُ، وَأَنَا، وَمُعَاوِيَةُ ".
وَهَذَا أَنْكَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَأَضْعَفُ إِسْنَادًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ، يَعْنِي ابْنَ
صَالِحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ سَيْفٍ،
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ، عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ
السُّلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَدْعُونَا إِلَى السَّحُورِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ: " هَلُمَّ إِلَى
الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ ". ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ
عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ ".
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيٍّ،
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَسَدُ بْنُ مُوسَى، وَبِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ. وَفِي
رِوَايَةِ بِشْرِ بْنِ السَّرِيِّ: وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ".
وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَغَيْرُهُ، مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْ
مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ وَالْحَسَنُ بْنُ
مُوسَى الْأَشْيَبُ قَالَا: ثَنَا أَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمٍ، ثَنَا
جَبَلَةُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ
مَسْلَمَةَ بْنَ مُخَلَّدٍ، وَقَالَ
الْأَشْيَبُ: قَالَ أَبُو هِلَالٍ: أَوْ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ
مُخَلَّدٍ. وَقَالَ سُلَيْمانُ بْنُ حَرْبٍ: أَوْ حَدَّثَهُ مَسْلَمَةُ عَنْ
رَجُلٍ، أَنَّهُ رَأَى مُعَاوِيَةَ يَأْكُلُ، فَقَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ:
إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ هَذَا لَمِخْضَدٌ. قَالَ: أَمَا إِنِّي أَقُولُ لَكَ هَذَا،
وَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ، وَمَكِّنْ لَهُ فِي الْبِلَادِ، وَقِهِ
الْعَذَابَ ". وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ،
مِنْهُمُ ; الزُّهْرِيُّ وَعُرْوَةُ بْنُ رُوَيْمٍ وَحَرِيزُ بْنُ عُثْمَانَ
الرَّحَبِيُّ الْحِمْصِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: ثَنَا أَبُو زُرْعَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ الدِّمَشْقِيَّانِ قَالَا: ثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، ثَنَا
سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ الْمُزَنِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: " اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ
الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وَقِهِ الْعَذَابَ ". قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ:
وَهَذَا غَرِيبٌ، وَالْمَحْفُوظُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ
الَّذِي تَقَدَّمَ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي
مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
عُمَيْرَةَ الْمُزَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
يَقُولُ لِمُعَاوِيَةَ: "
اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِهِ وَاهْدِ بِهِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ الْأَزْدِيِّ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِي
مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمانَ
الْحَرَّانِيُّ، كَمَا رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَأَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ
سَعِيدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
عُمَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الطَّاطَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِمُعَاوِيَةَ فَقَالَ: "
اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْعِلْمَ، وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِهِ
وَاهْدِ بِهِ ". وَقَدْ رَوَاهُ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ
صَالِحٍ وَعِيسَى بْنُ هِلَالٍ وَأَبُو الْأَزْهَرِ، عَنْ مَرْوَانَ
الطَّاطَرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَبَا إِدْرِيسَ فِي إِسْنَادِهِ. وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدَانَ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَهْلٍ
الرَّمْلِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي
عُمَيْرَةَ الْمُزَنِيِّ، أَنَّهُ
سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ مُعَاوِيَةَ
فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ ".
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ هُوَ الصَّوَابُ. وَقَدِ اعْتَنَى
ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَأَطْنَبَ فِيهِ وَأَطْيَبَ وَأَطْرَبَ،
وَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، كَمْ لَهُ
مِنْ مَوْطِنٍ قَدْ بَرَّزَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحُفَّاظِ وَالنُّقَّادِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
حَلْبَسٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: لَمَّا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ عَنِ الشَّامِ، وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ، قَالَ
النَّاسُ: عَزَلَ عُمَيْرًا وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: لَا
تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اهْدِ بِهِ ".
تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ، وَعَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ
ضَعِيفٌ. هَكَذَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ فِي مُسْنَدِ عُمَيْرِ بْنِ
سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ. وَعِنْدِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ رِوَايَةِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَيَكُونُ الصَّوَابُ: فَقَالَ عُمَرُ: لَا تَذْكُرُوا
مُعَاوِيَةَ إِلَّا بِخَيْرٍ. لِيَكُونَ عُذْرًا لَهُ فِي تَوْلِيَتِهِ لَهُ.
وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي السَّائِبِ، وَهُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ،
قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَلَّى
مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالُوا: وَلَّى حَدَثَ السِّنِّ. فَقَالَ:
تَلُومُونَنِي فِي وِلَايَتِهِ، وَأَنَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا، وَاهْدِ بِهِ
". وَهَذَا مُنْقَطِعٌ يُقَوِّيهِ مَا قَبْلَهُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ، ثَنَا
نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ سَابُورَ، ثَنَا
مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُسْرٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي أَمْرٍ، فَقَالَ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ
". فَقَالَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ: " ادْعُوا
مُعَاوِيَةَ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: أَمَا كَانَ فِي رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنْ رِجَالِ قُرَيْشٍ
مَا يُتْقِنُونَ أَمْرَهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِ قُرَيْشٍ ؟ ! فَقَالَ: "
ادْعُوَ لِي مُعَاوِيَةَ ". فَدُعِيَ لَهُ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحْضِرُوهُ
أَمْرَكُمْ وَأَشْهِدُوهُ أَمْرَكُمْ، فَإِنَّهُ قَوِيٌّ أَمِينٌ " وَرَوَاهُ
بَعْضُهُمْ عَنْ نُعَيْمٍ، وَزَادَ: " وَحَمِّلُوهُ أَمْرَكُمْ ". ثُمَّ
سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً مَوْضُوعَةً، بِلَا شَكٍّ، فِي فَضْلِ
مُعَاوِيَةَ، أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا، وَاكْتَفَيْنَا بِمَا أَوْرَدْنَاهُ
مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمُسْتَجَادَاتِ، عَمَّا سِوَاهَا
مِنَ الْمَوْضَعَاتِ وَالْمُنْكَرَاتِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ:
وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ مُعَاوِيَةَ حَدِيثُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ كَانَ كَاتِبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُنْذُ أَسْلَمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ ". وَبَعْدَهُ
حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ: اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ ".
وَبَعْدَهُ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا
مَهْدِيًّا ".
قُلْتُ: وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ: ذِكْرُ مُعَاوِيَةَ
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، ثَنَا الْمُعَافَى، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: أَوْتَرَ
مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعَشَاءِ بِرَكْعَةٍ، وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ،
فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ، ثَنَا ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
مُعَاوِيَةَ ؟ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ ! قَالَ: أَصَابَ، إِنَّهُ
فَقِيهٌ.
ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، ثَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
التَّيَّاحِ قَالَ:
سَمِعْتُ حُمْرَانَ عَنْ أَبَانٍ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ قَالَ:إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً لَقَدْ صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهِمَا، وَلَقَدْ
نَهَى عَنْهُمَا. يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: ذِكْرُ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ: وَقَالَ عَبْدَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، ثَنَا يُونُسُ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:جَاءَتْ هِنْدُ
بِنْتُ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ
الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ،
ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبُّ
إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ. فَقَالَ: " وَأَيْضًا
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي
لَهُ عِيَالَنَا ؟ قَالَ: " لَا، بِالْمَعْرُوفِ ". فَالْمِدْحَةُ فِي
قَوْلِهِ: " وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ". وَهُوَ أَنَّهُ
كَانَ يَوَدُّ أَنَّ هِنْدَ وَأَهْلَهَا وَكُلَّ
كَافِرٍ يَذِلُّوا فِي حَالِ كُفْرِهِمْ،
فَلَمَّا أَسْلَمُوا كَانَ يُحِبُّ أَنْ يَعِزُّوا، فَأَعَزَّهُمُ اللَّهُ يَعْنِي
أَهْلَ خِبَائِهَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا أَبُو أُمَيَّةَ عَمْرُو
بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّي يُحَدِّثُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ
أَخَذَ الْإِدَاوَةَ بَعْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَتَبِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا - وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدِ اشْتَكَى -
فَبَيْنَمَا هُوَ يُوَضِّئُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ،
فَقَالَ: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ
وَاعْدِلْ ". قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي سَأُبْتَلَى
بِعَمَلٍ ; لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
ابْتُلِيتُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
الدُّنْيَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ سَعِيدِ بْنِ زُنْبُورِ بْنِ
ثَابِتٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ مِنْ
حَدِيثِ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى بِهِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: اتَّبَعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ نَظَرَ
إِلَيَّ فَقَالَ: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ وُلِّيتَ أَمْرًا فَاتَّقِ اللَّهَ
وَاعْدِلْ ". فَمَا زِلْتُ أَظُنُّ أَنِّي مُبْتَلًى بِعَمَلٍ ; لِقَوْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى وُلِّيتُ.
وَرَوَاهُ غَالِبٌ الْقَطَّانُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ
يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ:
صَبَبْتُ يَوْمًا عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءَهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ
فَقَالَ: " أَمَا إِنَّكَ سَتَلِي أَمْرَ أُمَّتِي بَعْدِي، فَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ فَاقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ ".
وَقَالَ: فَمَا زِلْتُ أَرْجُو حَتَّى قُمْتُ مَقَامِي هَذَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ
مُعَاوِيَةُ: وَاللَّهِ مَا حَمَلَنِي عَلَى الْخِلَافَةِ إِلَّا قَوْلُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مُعَاوِيَةُ، إِنْ
مَلَكْتَ فَأَحْسِنْ ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
هَذَا ضَعِيفٌ، إِلَّا أَنَّ لِلْحَدِيثِ شَوَاهِدَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ: ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا
رَاقَدٌ فِي كَنِيسَةِ يُوحَنَّا - وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَسْجِدٌ يُصَلَّى فِيهَا -
إِذِ انْتَبَهْتُ مِنْ نَوْمِي، فَإِذَا أَنَا بِأَسَدٍ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيَّ،
فَوَثَبْتُ إِلَى سِلَاحِي، فَقَالَ الْأَسَدُ: مَهْ، إِنَّمَا أُرْسِلْتُ
إِلَيْكَ بِرِسَالَةٍ لِتُبَلِّغَهَا. قُلْتُ: وَمَنْ أَرْسَلَكَ ؟ قَالَ: اللَّهُ
أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِتُبَلِّغَ مُعَاوِيَةَ السَّلَامَ، وَتُعْلِمَهُ أَنَّهُ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَقُلْتُ لَهُ: وَمَنْ مُعَاوِيَةُ ؟ قَالَ: مُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ
الْقَرَاطِيسِيِّ، عَنِ الْمُعَلَى بْنِ الْوَلِيدِ الْقَعْقَاعِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ حَرْبٍ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْغَسَّانِيِّ. وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا،
وَلَعَلَّ الْجَمِيعَ مَنَامٌ، وَيَكُونُ
قَوْلُهُ: إِذِ انْتَبَهْتُ مِنْ
نَوْمِي. مُدْرَجًا لَمْ يَضْبِطْهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ
يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَدِمَ عُمَرُ الْجَابِيَةَ فَنَزَعَ
شُرَحْبِيلَ، وَأَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِالْمَسِيرِ إِلَى مِصْرَ، وَبَقِيَ
الشَّامُ عَلَى أَمِيرَيْنِ ; أَبِي عُبَيْدَةَ وَيَزِيدَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ أَبُو
عُبَيْدَةَ، فَاسْتَخْلَفَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ ثُمَّ تُوُفِّيَ يَزِيدُ،
فَأَمَّرَ مُعَاوِيَةَ مَكَانَهَ، ثُمَّ نَعَاهُ عُمَرُ لِأَبِي سُفْيَانَ،
فَقَالَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، احْتَسِبْ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ:
مَنْ أَمَّرْتَ مَكَانَهُ ؟ قَالَ: مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ: وَصَلَتْكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ رَحِمٌ. فَكَانَ عَلَى الشَّامِ مُعَاوِيَةُ، وَعُمَيْرُ بْنُ
سَعْدٍ، حَتَّى قُتِلَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسَ
وَاسْتَخْلَفَ مُعَاذًا، فَمَاتَ مُعَاذٌ، وَاسْتَخْلَفَ يَزِيدَ بْنَ أَبِي
سُفْيَانَ فَمَاتَ، وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ مُعَاوِيَةَ، فَأَقَرَّهُ عُمَرُ،
وَوَلَّى عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِلَسْطِينَ وَالْأُرْدُنَّ، وَمُعَاوِيَةَ
دِمَشْقَ وَبَعْلَبَكَّ وَالْبَلْقَاءَ، وَوَلَّى سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ
حِذْيَمٍ حِمْصَ، ثُمَّ جَمَعَ الشَّامَ كُلَّهَا لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى الشَّامِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: أَفْرَدَ عُمرُ مُعَاوِيَةَ بِإِمْرَةِ
الشَّامِ وَجَعَلَ لَهُ فِي كُلِّ
شَهْرٍ ثَمَانِينَ دِينَارًا.
وَالصَّوَابُ أَنَّ الَّذِي جَمَعَ لِمُعَاوِيَةَ الشَّامَ كُلَّهَا عُثْمَانُ
بْنُ عَفَّانَ وَأَمَّا عُمَرُ إِنَّمَا وَلَّاهُ بَعْضَ أَعْمَالِهَا. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: لَمَّا عُزِّيَتْ هِنْدُ فِي يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - وَلَمْ
يَكُنْ مِنْهَا - قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ قَدْ جَعَلَ مُعَاوِيَةَ أَمِيرًا
مَكَانَهُ. فَقَالَتْ: أَوَ مِثْلُ مُعَاوِيَةَ يُجْعَلُ خَلَفًا مِنْ أَحَدٍ ؟ !
فَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ الْعَرَبَ اجْتَمَعَتْ مُتَوَافِرَةً، ثُمَّ رُمِيَ بِهِ
فِيهَا لَخَرَجَ مِنْ أَيِّ أَعْرَاضِهَا شَاءَ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذُكِرَ
مُعَاوِيَةُ عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: دَعُوا فَتَى قُرَيْشٍ وَابْنَ سَيِّدِهَا،
إِنَّهُ لَمَنْ يَضْحَكُ فِي الْغَضَبِ وَلَا يُنَالُ مِنْهُ إِلَّا عَلَى
الرِّضَا، وَمَنْ لَا يَأْخُذُ مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ إِلَّا مِنْ تَحْتِ قَدْمَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ
الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ بَحْرٍ، عَنْ شَيْخٍ لَهُ
قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الشَّامَ تَلَقَّاهُ مُعَاوِيَةُ
فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ عُمَرَ قَالَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ
الْمَوْكِبِ الْعَظِيمِ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَعَ
مَا بَلَغَنِي مِنْ طُولِ وُقُوفِ ذَوِي الْحَاجَاتِ بِبَابِكَ ؟ قَالَ: مَعَ مَا
بَلَغَكَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ تَفْعَلُ هَذَا ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا بِأَرْضٍ جَوَاسِيسُ الْعَدُوِّ فِيهَا كَثِيرَةٌ،
فَيَجِبُ أَنْ يَظْهَرَ مَنْ عِزِّ السُّلْطَانِ مَا يُرْهِبُهُمْ بِهِ، فَإِنْ
أَمَرْتَنِي فَعَلْتُ، وَإِنْ نَهَيْتَنِي انْتَهَيْتُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
يَا مُعَاوِيَةُ، مَا سَأَلْتُكَ عَنْ
شَيْءٍ إِلَّا تَرَكْتَنِي فِي مِثْلِ رَوَاجِبِ الضِّرْسِ، لَئِنْ كَانَ مَا
قُلْتَ حَقًّا، إِنَّهُ لَرَأْيُ أَرِيبٍ، وَلَئِنْ كَانَ بَاطِلًا إِنَّهُ
لَخَدِيعَةُ أَدِيبٍ. قَالَ: فَمُرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا آمُرُكَ
وَلَا أَنْهَاكَ. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَحْسَنَ مَا
صَدَرَ الْفَتَى عَمَّا أَوْرَدْتَهُ فِيهِ ! فَقَالَ عُمَرُ: لِحُسْنِ
مَصَادِرِهِ وَمَوَارِدِهِ جَشَّمْنَاهُ مَا جَشَّمْنَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَلَقَّى عُمَرَ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ
وَمُعَاوِيَةُ فِي مَوْكِبٍ كَثِيفٍ، فَاجْتَازَ بِعُمَرَ وَهُوَ وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَاكِبَانِ عَلَى حِمَارٍ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمَا،
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ جَاوَزْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَرَجَعَ، فَلَمَّا
رَأَى عُمَرَ تَرَجَّلَ، وَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ مَا ذَكَرْنَا، فَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: مَا أَحْسَنَ مَا صَدَرَ عَمَّا أَوْرَدْتَهُ فِيهِ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! فَقَالَ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جَشَّمْنَاهُ مَا
جَشَّمْنَاهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ ":
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدَبٍ، عَنْ
أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ، وَهُوَ أَبْيَضُ
أَوْ أَبَضُّ النَّاسِ وَأَجْمَلُهُمْ، فَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ مَعَ عُمَرَ،
فَكَانَ عُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَيُعْجَبُ لَهُ، ثُمَّ يَضَعُ أُصْبُعَهُ عَلَى
مَتْنِهِ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا عَنْ مِثْلِ الشِّرَاكِ، فَيَقُولُ: بَخٍ بَخٍ،
نَحْنُ إِذًا خَيْرُ النَّاسِ ; أَنْ جُمِعَ لَنَا خَيْرُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، سَأُحَدِّثُكَ ;
إِنَّا بِأَرْضِ الْحَمَّامَاتِ وَالرِّيفِ. فَقَالَ عُمَرُ: سَأُحَدِّثُكَ ; مَا
بِكَ إِلْطَافُكَ نَفْسَكَ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَتَصَبُّحُكَ حَتَّى تَضْرِبَ
الشَّمْسُ مَتْنَيْكَ، وَذَوُو الْحَاجَاتِ وَرَاءَ الْبَابِ. قَالَ: فَلَمَّا
جِئْنَا ذَا طَوًى أَخْرَجَ مُعَاوِيَةُ حُلَّةً فَلَبِسَهَا، فَوَجَدَ عُمَرُ
مِنْهَا رِيحًا كَأَنَّهُ رِيحُ طِيبٍ، فَقَالَ: يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَخْرُجُ
حَاجًّا تَفِلًا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَعْظَمَ بُلْدَانَ اللَّهِ حُرْمَةً
أَخْرَجَ ثَوْبَيْهِ كَأَنَّهُمَا كَانَا فِي الطِّيبِ فَلَبِسَهُمَا ! فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: إِنَّمَا لَبِسْتُهُمَا لِأَدْخُلَ فِيهِمَا عَلَى عَشِيرَتِي أَوْ
قَوْمِي. وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَذَاكَ هَاهُنَا وَبِالشَّامِ، وَاللَّهُ
يَعْلَمُ أَنِّي لَقَدْ عَرَفْتُ الْحَيَاءَ فِيهِ. ثُمَّ نَزَعَ مُعَاوِيَةُ
ثَوْبَيْهِ، وَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ أَحْرَمَ فِيهِمَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ هِشَامِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَدَنِيِّ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ إِذَا رَأَى مُعَاوِيَةَ قَالَ: هَذَا كِسْرَى الْعَرَبِ. وَهَكَذَا
حَكَى الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
دَخَلَ مُعَاوِيَةُ عَلَى عُمَرَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ خَضْرَاءُ، فَنَظَرَ
إِلَيْهَا الصَّحَابَةُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عُمَرُ وَثَبَ إِلَيْهِ
بِالدِّرَّةِ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِهَا، وَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ اللَّهَ فِيَّ. فَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى
مَجْلِسِهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: لِمَ ضَرَبْتَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَا فِي قَوْمِكَ
مِثْلُهُ ؟ ! فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
رَأَيْتُ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا بَلَغَنِي إِلَّا خَيْرٌ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُهُ -
وَأَشَارَ بِيَدِهِ - فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَضَعَ مِنْهُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الدِّمَشْقِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَنَّ
الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا مَرْيَمَ الْأَزْدِيَّ
أَخْبَرَهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا أَنْعَمَنَا بِكَ
أَبَا فَلَانٍ ؟ - وَهِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ - فَقُلْتُ: حَدِيثٌ
سَمِعْتُهُ أُخْبِرُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - شَيْئًا مِنْ
أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ
وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ ".
قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيُّ، ثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ
مُعَاوِيَةُ عَلَى النَّاسِ، فَقَامُوا لَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ
لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ".
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: خَرَجَ
مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَامَ لَهُ ابْنُ
عَامِرٍ، وَلَمْ يَقُمْ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ
عَامِرٍ: اجْلِسْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الْعِبَادُ
قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ". وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ: مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ الْمُقْرَائِيِّ الْحِمْصِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ إِنْ
تَتَبَّعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ. أَوْ: كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ
". قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ نَفَعَهُ
اللَّهُ بِهَا. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ جَيِّدَ
السِّيرَةِ، حَسَنَ التَّجَاوُزِ، جَمِيلَ الْعَفْوِ، كَثِيرَ السِّتْرِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ يُرِدِ
اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ
وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ
أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " وَهُمْ عَلَى
ذَلِكَ ". وَقَدْ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مَالِكُ
بْنُ يُخَامِرَ يُخْبِرُ عَنْ مُعَاذٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " وَهُمْ بِالشَّامِ " فَحَثَّ بِهَذَا
أَهْلَ الشَّامِ عَلَى مُنَاجَزَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ - وَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ
هُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا. وَهَذَا مِمَّا كَانَ يَحْتَجُّ
بِهِ مُعَاوِيَةُ لِأَهْلِ الشَّامِ فِي قِتَالِهِمْ أَهْلَ الْعِرَاقِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ فَتَحَ مُعَاوِيَةُ قَيْسَارِيَّةَ سَنَةَ تِسْعَ
عَشْرَةَ فِي دَوْلَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفَتَحَ
قُبْرُسَ سَنَةَ خَمْسٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ.
فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ. قَالُوا: وَكَانَ عَامَ غَزْوَةِ الْمَضِيقِ - يَعْنِي
مَضِيقَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ - فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ الْأَمِيرُ
عَلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَجَمَعَ عُثْمَانُ لِمُعَاوِيَةَ جَمِيعَ الشَّامِ، وَقَدِ اسْتَقْضَى
مُعَاوِيَةُ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ بَعْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، ثُمَّ كَانَ مَا
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ بَعْدَ قَتَلِ عُثْمَانَ، عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِهَادِ
وَالرَّأْيِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا قِتَالٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ
الْحَقُّ وَالصَّوَابُ مَعَ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةُ مَعْذُورٌ عِنْدَ جُمْهُورِ
الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَقَدْ شَهِدَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ
بِالْإِسْلَامِ لِلْفَرِيقَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ; أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ
الشَّامِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ " الصَّحِيحِ ": تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى
حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَيَقْتُلُهَا أَدْنَى
الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ ". فَكَانَتِ الْمَارِقَةُ الْخَوَارِجَ،
وَقَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قُتِلَ عَلِيٌّ، فَاسْتَقَلَّ
مُعَاوِيَةُ بِالْأَمْرِ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ يَغْزُو الرُّومَ
فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ ; مَرَّةً فِي الصَّيْفِ، وَمَرَّةً فِي الشِّتَاءِ،
وَيَأْمُرُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ فَيَحُجُّ بِالنَّاسِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ خَمْسِينَ، وَحَجَّ ابْنُهُ يَزِيدُ سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَفِيهَا أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا أَغْزَاهُ بِلَادَ
الرُّومِ، فَسَارَ مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كُبَرَاءِ الصَّحَابَةِ حَتَّى
حَاصَرَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ ":
أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَغْفُورٌ لَهُمْ ". وَقَدْ
تَقَدَّمَ هَذَا كُلُّهُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ الْحَادِي
يَحْدُو بِعُثْمَانَ فَيَقُولُ:
إِنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ مَرْضِيُّ
فَقَالَ كَعْبٌ: بَلْ هُوَ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ. يَعْنِي
مُعَاوِيَةَ. فَأَتَاهُ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، تَقُولُ هَذَا،
وَهَاهُنَا عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ: أَنْتَ صَاحِبُهَا. وَرَوَاهُ سَيْفٌ، عَنْ بَدْرِ بْنِ
الْخَلِيلِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطِيَّةَ الْأَسَدِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي
أَسَدٍ قَالَ: مَا زَالَ مُعَاوِيَةُ يَطْمَعُ فِيهَا مُنْذُ سَمِعَ الْحَادِي فِي
أَيَّامِ عُثْمَانَ يَقُولُ:
إِنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ مَرْضِيُّ
فَقَالَ كَعْبٌ: كَذَبْتَ، بَلْ
صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ بَعْدَهُ. يَعْنِي مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ
فِيَّ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ الْأَمِيرُ بَعْدَهُ، وَلَكِنَّهَا
وَاللَّهِ لَا تَصِلُ إِلَيْكَ حَتَّى تُكَذِّبَ بِحَدِيثِي هَذَا، فَوَقَعَتْ فِي
نَفْسِ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْمَكِّيُّ،
ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ:
إِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ بَعْدِي، فَإِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ
بِالشَّامِ، وَسَتَعْلَمُونَ إِذَا وُكِلْتُمْ إِلَى رَأْيِكُمْ كَيْفَ
يَسْتَبِزُّهَا دُونَكُمْ. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ
عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ عَلِيًّا حِينَ
بَعَثَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ إِلَى مُعَاوِيَةَ قَبْلَ
وَقْعَةِ صِفِّينَ - وَذَلِكَ حِينَ عَزَمَ عَلِيٌّ عَلَى قَصْدِ الشَّامِ،
وَجَمَعَ الْجُيُوشَ لِذَلِكَ - وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى مُعَاوِيَةَ
يَذْكُرُ لَهُ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَتْهُ بَيْعَتُهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ
بَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، فَإِنْ لَمْ تُبَايِعِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ
عَلَيْكَ وَقَاتَلْتُكَ. وَقَدْ أَكْثَرْتَ الْقَوْلَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ،
فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إِلَيَّ
أَحْمِلْكَ وَإِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ، وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَكْثَرَهُ فِيمَا سَلَفَ - فَقَرَأَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى النَّاسِ،
وَقَامَ جَرِيرٌ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَأَمَرَ فِي خُطْبَتِهِ مُعَاوِيَةَ
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَذَّرَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَالْمُعَانَدَةِ،
وَنَهَاهُ عَنْ إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنْ يَضْرِبَ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا بِالسُّيُوفِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: انْتَظِرْ حَتَّى آخُذَ رَأْيَ
أَهْلِ الشَّامِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَمَرَ مُعَاوِيَةُ مُنَادِيًا،
فَنَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ
الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي جَعَلَ الدَّعَائِمَ لِلْإِسْلَامِ أَرْكَانًا، وَالشَّرَائِعَ لِلْإِيمَانِ بُرْهَانًا، يَتَوَقَّدُ مِصْبَاحُهُ بِالسَّنَةِ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ مَحِلَّ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، فَأَحَلَّهَا أَهْلَ الشَّامِ وَرَضِيَهُمْ لَهَا، وَرَضِيَهَا لَهُمْ ; لِمَا سَبَقَ مِنْ مَكْنُونِ عِلْمِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُنَاصَحَتِهِمْ أَوْلِيَاءَهُ فِيهَا، وَالْقُوَّامَ بِأَمْرِهِ، الذَّابِّينَ عَنْ دِينِهِ وَحُرُمَاتِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ نِظَامًا، وَفِي أَعْلَامِ الْخَيْرِ عِظَامًا، يَرْدَعُ اللَّهُ بِهِمُ النَّاكِثِينَ، وَيَجْمَعُ بِهِمْ أُلْفَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهَ نَسْتَعِينُ عَلَى مَا تَشَعَّثَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَبَاعَدَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْقُرْبِ وَالْأُلْفَةِ، اللَّهُمَّ انْصُرْنَا عَلَى قَوْمٍ يُوقِظُونَ نَائِمًا، وَيُخِيفُونَ آمِنَنًا، وَيُرِيدُونَ هِرَاقَةَ دِمَائِنَا، وَإِخَافَةَ سَبِيلِنَا، وَقَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّا لَا نُرِيدُ لَهُمْ عِقَابًا، وَلَا نَهْتِكُ لَهُمْ حِجَابًا، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ الْحَمِيدَ كَسَانَا مِنَ الْكَرَامَةِ ثَوْبًا لَنْ نَنْزِعَهُ طَوْعًا مَا جَاوَبَ الصَّدَى، وَسَقَطَ النَّدَى، وَعُرِفَ الْهُدَى، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى خِلَافِنَا الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ لَنَا، فَاللَّهَ نَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ، أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي خَلِيفَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَنِّي خَلِيفَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي لَمْ أُقِمْ رَجُلًا مِنْكُمْ عَلَى خِزَايَةٍ قَطُّ، وَأَنِّي وَلِيُّ عُثْمَانَ وَابْنُ عَمِّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ الْإِسْرَاءِ: 33 ]. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تُعْلِمُونِي ذَاتَ أَنْفُسِكُمْ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ. فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَجْمَعِهِمْ: بَلْ نَطْلُبُ بِدَمِهِ. فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَبَايَعُوهُ، وَوَثَّقُوا لَهُ أَنْ يَبْذُلُوا فِي ذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، أَوْ يُدْرِكُوا بِثَأْرِهِ، أَوْ يُفْنِيَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا رَأَى جَرِيرٌ مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ
الشَّامِ لِمُعَاوِيَةَ مَا رَأَى،
أَفْزَعَهُ ذَلِكَ، وَعَجِبَ مِنْهُ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِجَرِيرٍ: إِنْ
وَلَّانِي عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ بَايَعْتُهُ عَلَى أَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ
بَعْدَهُ عَلَيَّ بَيْعَةٌ. فَقَالَ: اكْتُبْ إِلَى عَلِيٍّ بِمَا شِئْتَ، وَأَنَا
أَكْتُبُ مَعَكَ. فَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا الْكِتَابُ قَالَ: هَذِهِ خَدِيعَةٌ،
وَقَدْ سَأَلَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنْ أُوَلِّيَ مُعَاوِيَةَ الشَّامَ
وَأَنَا بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَيْتُ ذَلِكَ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ
عَضُدًا. ثُمَّ كَتَبَ إِلَى جَرِيرٍ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ، فَمَا قَدِمَ إِلَّا
وَقَدِ اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى عَلِيٍّ، وَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - وَكَانَ مُعْتَزِلًا بِفِلَسْطِينَ حِينَ قُتِلَ
عُثْمَانُ - وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ عَزَلَهُ عَنْ مِصْرَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
مُعَاوِيَةُ يَسْتَدْعِيهِ لِيَسْتَشِيرَهُ فِي أُمُورِهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِ،
فَاجْتَمَعَا عَلَى حَرْبِ عَلِيٍّ.
وَقَدْ قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فِي كِتَابِ
مُعَاوِيَةَ إِلَى عَلِيٍّ حِينَ سَأَلَهُ نِيَابَةَ الشَّامِ وَمِصْرَ، فَكَتَبَ
إِلَى مُعَاوِيَةَ يُؤَنِّبُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَرِّضُ بِأَشْيَاءَ
فِيهِ:
مُعَاوِيَ إِنَّ الشَّامَ شَامُكَ فَاعْتَصِمْ بِشَامِكَ لَا تُدْخِلْ عَلَيْكَ
الْأَفَاعِيَا
وَحَامِ عَلَيْهَا بِالْقَبَائِلِ وَالْقَنَا وَلَا تَكُ مَخْشُوشَ الذِّرَاعَيْنِ
وَانِيَا
فَإِنَّ عَلِيًّا نَاظِرٌ مَا تُجِيبُهُ فَأَهْدِ لَهُ حَرْبًا تُشِيبُ
النَّوَاصِيَا
وَإِلَّا فَسَلِّمْ إِنَّ فِي الْأَمْنِ رَاحَةً لِمَنْ لَا يُرِيدُ الْحَرْبَ
فَاخْتَرْ مُعَاوِيَا
وَإِنَّ كِتَابًا يَا ابْنَ حَرْبٍ كَتَبْتَهُ عَلَى طَمَعٍ جَانٍ عَلَيْكَ
الدَّوَاهِيَا
سَأَلْتَ عَلِيًّا فِيهِ مَا لَا تَنَالُهُ وَلَوْ نِلْتَهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا
لَيَالِيَا
إِلَى أَنْ تَرَى مِنْهُ الَّتِي لَيْسَ بَعْدَهَا بَقَاءٌ فَلَا تُكْثِرْ
عَلَيْكَ الْأَمَانِيَا
وَمِثْلُ عَلِيٍّ تَغْتَرِرْهُ
بِخَدْعَةٍ وَقَدْ كَانَ مَا جَرَّبْتَ مِنْ قَبْلُ كَافِيَا
وَلَوْ نَشِبَتْ أَظْفَارُهُ فِيكَ مَرَّةً حَذَاكَ ابْنَ هِنْدَ بَعْدَ مَا
كُنْتَ حَاذَيَا
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيَّ
وَجَمَاعَةً مَعَهُ دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ تُنَازِعُ
عَلِيًّا أَمْ أَنْتَ مِثْلُهُ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ
خَيْرٌ مِنِّي وَأَفْضَلُ، وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنِّي، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ
تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا ابْنُ عَمِّهِ، وَأَنَا
أَطْلُبُ بِدَمِهِ، وَأَمْرُهُ إِلَيَّ ؟ فَقُولُوا لَهُ فَلْيُسَلِّمْ إِلَيَّ
قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَأَنَا أُسَلِّمُ لَهُ أَمْرَهُ. فَأَتَوْا عَلِيًّا،
فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِمْ أَحَدًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ
صَمَّمَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ مُعَاوِيَةَ.
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنْ عَامِرٍ
الشَّعْبِيِّ أَوْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، قَالَ: بَعَثَ عَلِيٌّ رَجُلًا
إِلَى دِمَشْقَ يُنْذِرُهُمْ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ نَهَدَ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ
إِلَيْكُمْ ; لِيَسْتَعْلِمَ طَاعَتَهُمْ لِمُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ، أَمَرَ
مُعَاوِيَةُ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَمَلَئُوا
الْمَسْجِدَ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ عَلِيًّا
قَدْ نَهَدَ إِلَيْكُمْ فِي أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَمَا الرَّأْيُ ؟ فَضَرَبَ كُلٌّ
مِنْهُمْ عَلَى صَدْرِهِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَا رَفَعُوا
إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَقَامَ ذُو الْكَلَاعِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، عَلَيْكَ الرَّأْيُ وَعَلَيْنَا امْفِعَالٌ. يَعْنِي: الْفِعَالَ.
ثُمَّ نَادَى مُعَاوِيَةُ فِي النَّاسِ أَنِ اخْرُجُوا
إِلَى مُعَسْكَرِكُمْ فِي ثَلَاثٍ،
فَمَنْ تَخَلَّفَ فَقَدْ أَحَلَّ بْنَفْسِهِ. فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ، فَرَكِبَ
ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ مُنَادِيًا
فَنَادَى: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعُوا، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ:
إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ جَمَعَ النَّاسَ لِحَرْبِكُمْ، فَمَا الرَّأْيُ ؟ فَقَالَ
كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مَقَالَةً، وَاخْتَلَطَ كَلَامُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ،
فَلَمْ يَدِرِ عَلِيٌّ مِمَّا قَالُوا شَيْئًا، فَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَهُوَ
يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ذَهَبَ وَاللَّهِ بِهَا
ابْنُ آكِلَةِ الْأَكْبَادِ. ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ الْفَرِيقَيْنِ بِصِفِّينَ
مَا كَانَ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مَبْسُوطًا فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: أَنْبَأَنَا أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي فِي الرِّكَابِ،
وَهَمَمْتُ يَوْمَ صِفِّينَ بِالْهَزِيمَةِ، فَمَا مَنَعَنِي إِلَّا قَوْلُ ابْنِ
الْإِطْنَابَةِ حَيْثُ يَقُولُ:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ
وَإِكْرَاهِي عَلَى الْمَكْرُوهِ نَفْسِي وَضَرْبِي هَامَةَ الْبَطَلِ الْمُشِيحِ
وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ مَكَانَكِ تُحْمَدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْخُلَفَاءُ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ. فَقِيلَ لَهُ: فَمُعَاوِيَةُ ؟
قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحَقَّ بِالْخِلَافَةِ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ مِنْ
عَلِيٍّ، وَرَحِمَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ:
مَا كَانَتْ فِي عَلِيٍّ خَصْلَةٌ تَقْصُرُ بِهِ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَلَمْ يَكُنْ
فِي مُعَاوِيَةَ خَصْلَةٌ يُنَازِعُ عَلِيًّا بِهَا.
وَقِيلَ لِشَرِيكٍ الْقَاضِي: كَانَ
مُعَاوِيَةُ حَلِيمًا ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِحَلِيمٍ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَقَاتَلَ
عَلِيًّا. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ ذَكَرَ مُعَاوِيَةَ وَأَنَّهُ لَبَّى عَشِيَّةَ عَرَفَةَ،
فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيًّا لَبَّى عَشِيَّةَ
عَرَفَةَ، فَتَرَكَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ مُوسَى،
ثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ جَالِسَانِ
عِنْدَهُ، فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ أُتِيَ
بَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَأُدْخِلَا بَيْتًا وَأُجِيفَ الْبَابُ وَأَنَا
أَنْظُرُ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ: قُضِيَ
لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ مَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ
مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَقُولُ: غُفِرَ لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ: إِنِّي أُبْغِضُ مُعَاوِيَةَ. فَقَالَ لَهُ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ
قَاتَلَ عَلِيًّا. فَقَالَ لَهُ أَبُو زُرْعَةَ: وَيْحَكَ ! إِنَّ رَبَّ
مُعَاوِيَةَ رَبٌّ رَحِيمٌ، وَخَصْمُ مُعَاوِيَةَ خَصْمٌ كَرِيمٌ، فَأَيْشِ
دُخُولُكَ أَنْتَ بَيْنَهُمَا ؟ ! رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَمَّا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ،
فَقَرَأَ:
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا
كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [
الْبَقَرَةِ: 134 ]. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَمَّا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ فَقَالَ: كَانَتْ لِهَذَا سَابِقَةٌ وَلِهَذَا سَابِقَةٌ، وَلِهَذَا
قَرَابَةٌ وَلِهَذَا قَرَابَةٌ، فَابْتُلِيَ هَذَا وَعُوفِيَ هَذَا. وَسُئِلَ
عَمَّا جَرَى بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ فَقَالَ: كَانَتْ لِهَذَا قَرَابَةٌ
وَلِهَذَا قَرَابَةٌ، وَلِهَذَا سَابِقَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ لِهَذَا سَابِقَةٌ،
فَابْتُلِيَا جَمِيعًا.
وَقَالَ كُلْثُومُ بْنُ جَوْشَنٍ: سَأَلَ النَّضْرُ أَبُو عُمَرَ الْحَسَنَ
الْبَصْرِيَّ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ أَمْ عَلِيٌّ ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ
اللَّهِ ! وَلَا سَوَاءَ، سَبَقَتْ لِعَلِيٍّ سَوَابِقُ شَرِكَهُ فِيهَا أَبُو
بَكْرٍ، وَأَحْدَثَ عَلِيٌّ أَحْدَاثًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ،
أَبُو بَكْرٍ أَفْضَلُ. فَقَالَ: فَعُمَرُ أَفْضَلُ أَمْ عَلِيٌّ ؟ فَقَالَ مِثْلَ
قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: عُمَرُ أَفْضَلُ. ثُمَّ قَالَ: عُثْمَانُ
أَفْضَلُ أَمْ عَلِيٌّ ؟ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ:
عُثْمَانُ أَفْضَلُ. قَالَ: فِعَلِيٌّ أَفْضَلُ أَمْ مُعَاوِيَةُ ؟ فَقَالَ:
سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَلَا سَوَاءَ، سَبَقَتْ لِعَلِيٍّ سَوَابِقُ لَمْ يُشْرِكْهُ
فِيهَا مُعَاوِيَةُ، وَأَحْدَثَ عَلِيٌّ أَحْدَاثًا شَرِكَهُ فِيهَا مُعَاوِيَةُ،
عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَنْقِمُ عَلَى
مُعَاوِيَةَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ ; قِتَالَهُ عَلِيًّا، وَقَتْلَهُ حُجْرَ بْنَ
عَدِيٍّ وَاسْتِلْحَاقَهُ زِيَادَ بْنَ أَبِيهِ، وَمُبَايَعَتَهُ لِيَزِيدَ
ابْنِهِ.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: لَمَّا جَاءَ
خَبَرُ قَتْلِ عَلِيٍّ إِلَى
مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَبْكِي، فَقَالَتْ
لَهُ امْرَأَتُهُ: أَتَبْكِيهِ وَقَدْ قَاتَلْتَهُ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ ! إِنَّكِ
لَا تَدْرِينَ مَا فَقَدَ النَّاسُ مِنَ الْفَضْلِ وَالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ. وَفِي
رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: بِالْأَمْسِ تُقَاتِلُهُ وَالْيَوْمَ تَبْكِيهِ
؟ !
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مَقْتَلُ عَلِيٍّ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ كَمَا
قَدَّمْنَا. وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ بُويِعَ
لَهُ بِإِيلِيَاءَ بَيْعَةَ الْجَمَاعَةِ، وَدَخَلَ الْكُوفَةَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْجُمْهُورُ ;
أَنَّهُ بُويِعَ لَهُ بِإِيلِيَاءَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، حِينَ
بَلَغَ أَهْلَ الشَّامِ مَقْتَلُ عَلِيٍّ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا دَخَلَ الْكُوفَةَ
بَعْدَ مُصَالَحَةِ الْحَسَنِ لَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ، وَهُوَ عَامُ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
أَذْرُحُ. وَقِيلَ: بِمَسْكِنَ. مِنْ أَرْضِ سَوَادِ الْعِرَاقِ مِنْ نَاحِيَةِ
الْأَنْبَارِ، فَاسْتَقَلَّ مُعَاوِيَةُ بِالْأَمْرِ إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ
سِتِّينَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ مُعَاوِيَةَ: لِكُلِّ
عَمَلٍ ثَوَابٌ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَ: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَا ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، ثَنَا الْأَعْمَشُ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا
مُعَاوِيَةُ بِالنُّخَيْلَةِ - يَعْنِي خَارِجَ الْكُوفَةِ - الْجُمُعَةِ فِي
الضُّحَى، ثُمَّ خَطَبَنَا فَقَالَ: مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتَصُومُوا، وَلَا لِتُصَلُّوا،
وَلَا لِتَحُجُّوا، وَلَا لِتُزَكُّوا، قَدْ عَرَفْتُ
أَنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ،
وَلَكِنْ إِنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لِأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، فَقَدْ أَعْطَانِي
اللَّهُ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ
يَعْلَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَارِمٌ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ عَمِلَ سَنَتَيْنِ عَمَلَ
عُمَرَ مَا يَخْرِمُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعِدَ.
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ اللَّيْلِ قَالَ:
قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَمَّا قَدِمَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى
الْمَدِينَةِ: يَا مُذِلَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ، فَإِنِّي
سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَمْلِكَ
مُعَاوِيَةُ. فَعَلِمْتُ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ وَاقِعٌ، فَكَرِهْتُ أَنْ تُهْرَاقَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ قَالَ: قَالَ
عَلِيٌّ بَعْدَ مَا رَجَعَ مِنْ صِفِّينَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَكْرَهُوا
إِمَارَةَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّكُمْ لَوْ فَقَدْتُمُوهُ رَأَيْتُمُ الرُّءُوسَ
تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا كَأَنَّهَا الْحَنْظَلُ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، ثَنَا
أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ
قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: أَلَا تَعْجَبِينَ لِرَجُلٍ مِنَ الطُّلَقَاءِ
يُنَازِعُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْخِلَافَةِ ؟ فَقَالَتْ: وَمَا تَعْجَبُ مِنْ
ذَلِكَ ؟ هُوَ سُلْطَانُ اللَّهِ
يُؤْتِيَهُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، وَقَدْ مَلَكَ فِرْعَوْنُ أَهْلَ مِصْرَ
أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ
حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ يُرِيدُ الْحَجَّ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَكَلَّمَهَا
خَالِيَيْنِ لَمْ يَشْهَدْ كَلَامَهُمَا أَحَدٌ إِلَّا ذَكْوَانُ أَبُو عَمْرٍو
مَوْلَى عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: أَمِنْتَ أَنْ أُخَبِّئَ لَكَ رَجُلًا يَقْتُلُكَ
بِقَتْلِكَ أَخِي مُحَمَّدًا ؟ فَقَالَ: صَدَقْتِ. فَكَلَّمَهَا مُعَاوِيَةُ،
فَلَمَّا قَضَى كَلَامَهُ مَعَهَا تَشَهَّدَتْ عَائِشَةُ، ثُمَّ ذَكَرَتْ مَا
بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ، وَالَّذِي سَنَّ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَحَضَّتْ مُعَاوِيَةَ
عَلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِمْ، فَقَالَتْ فِي ذَلِكَ فَلَمْ تَتَّرِكْ، فَلَمَّا
قَضَتْ مَقَالَتَهَا قَالَ لَهَا مُعَاوِيَةُ: أَنْتِ وَاللَّهِ الْعَالِمَةُ
بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النَّاصِحَةُ
الْمُشْفِقَةُ الْبَلِيغَةُ الْمَوْعِظَةِ، حَضَضْتِ عَلَى الْخَيْرِ وَأَمَرْتِ
بِهِ، وَلَمْ تَأْمُرِينَا إِلَّا بِالَّذِي هُوَ لَنَا، وَأَنْتِ أَهْلٌ أَنْ
تُطَاعِي. وَتَكَلَّمَتْ هِيَ وَمُعَاوِيَةُ كَلَامًا كَثِيرًا. فَلَمَّا قَامَ
مُعَاوِيَةُ اتَّكَأَ عَلَى ذَكْوَانَ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ خَطِيبًا
لَيْسَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْلَغَ مِنْ
عَائِشَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْبَجَلِيُّ،
ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ أَبِي عَلْقَمَةَ،
عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ،
فَأَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيَّ بِأَنْبِجَانِيَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَعْرِهِ، فَأَرْسَلَتْ بِهِ مَعِي
أَحْمِلُهُ، حَتَّى دَخَلْتُ بِهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ الْأَنْبِجَانِيَّةَ،
فَلَبِسَهَا، وَأَخَذَ
شَعْرَهُ فَدَعَا بِمَاءٍ، فَغَسَلَهُ
وَشَرِبَهُ، وَأَفَاضَ عَلَى جِلْدِهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ الْهُذَلِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا
قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ عَامَ الْجَمَاعَةِ تَلَقَّتْهُ رِجَالٌ مِنْ
وُجُوهِ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّ نَصْرَكَ،
وَأَعْلَى أَمْرَكَ. فَمَا رَدَّ عَلَيْهِمْ جَوَابًا حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ،
فَقَصَدَ الْمَسْجِدَ وَعَلَا الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا وَلِيتُ أَمْرَكُمْ حِينَ
وَلِيتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تُسَرُّونَ بِوِلَايَتِي وَلَا
تُحِبُّونَهَا، وَإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ، وَلَكِنِّي
خَالَسْتُكُمْ بِسَيْفِي هَذَا مُخَالَسَةً، وَلَقَدْ رُمْتُ نَفْسِي عَلَى عَمَلِ
ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْهَا تَقُومُ بِذَلِكَ، وَأَرَدْتُهَا عَلَى
عَمَلِ ابْنِ الْخَطَّابِ، فَكَانَتْ أَشَدَّ نُفُورًا، وَحَاوَلْتُهَا عَلَى
مِثْلِ سُنَيَّاتِ عُثْمَانَ، فَأَبَتْ عَلَيَّ، وَأَيْنَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ ؟ !
هَيْهَاتَ أَنْ يُدْرِكَ فَضْلَهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، رَحْمَةُ اللَّهِ
وَرِضْوَانُهُ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنِّي سَلَكْتُ بِهَا طَرِيقًا لِي فِيهِ
مَنْفَعَةٌ، وَلَكُمْ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِكُلٍّ فِيهِ مُؤَاكَلَةٌ حَسَنَةٌ،
وَمُشَارَبَةٌ جَمِيلَةٌ، مَا اسْتَقَامَتِ السِّيرَةُ وَحَسُنَتِ الطَّاعَةُ،
فَإِنْ لَمْ تَجِدُونِي خَيْرَكُمْ فَأَنَا خَيْرٌ لَكُمْ، وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُ
السَّيْفَ عَلَى مَنْ لَا سَيْفَ مَعَهُ، وَمَهْمَا تَقَدَّمَ مِمَّا قَدْ
عَلِمْتُمُوهُ فَقَدْ جَعَلْتُهُ دَبْرَ أُذُنِي، وَإِنْ لَمْ تَجِدُونِي أَقُومُ
بِحَقِّكُمْ كُلِّهِ فَارْضَوْا مِنِّي بِبَعْضِهِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ
بِقَائِبَةِ قُوبِهَا، وَإِنَّ السَّيْلَ إِذَا جَاءَ تَتْرَى - وَإِنْ قَلَّ -
أَغْنَى، وَإِيَّاكُمْ وَالْفِتْنَةَ فَلَا تَهُمُّوا بِهَا، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ
الْمَعِيشَةَ، وَتُكَدِّرُ النِّعْمَةَ، وَتُورِثُ الِاسْتِئْصَالَ، أَسْتَغْفِرُ
اللَّهَ لِي وَلَكُمْ. ثُمَّ نَزَلَ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْقَائِبَةُ:
الْبَيْضَةُ، وَالْقُوبُ: الْفَرْخُ، قَابَتِ
الْبَيْضَةُ تَقُوبُ إِذَا انْفَلَقَتْ
عَنِ الْفَرْخِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ كَانَتْ عَامَ حَجَّ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ، أَوْ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ، لَا فِي عَامِ الْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُلْوَانُ بْنُ دُوَادَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ
كَيْسَانَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَوَّلَ حَجَّةٍ حَجَّهَا
بَعْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَلَقِيَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ
وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَتَوَجَّهَ إِلَى دَارِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،
فَلَمَّا دَنَا إِلَى بَابِ الدَّارِ صَاحَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ،
وَنَدَبَتْ أَبَاهَا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِمَنْ مَعَهُ: انْصَرِفُوا إِلَى
مَنَازِلِكُمْ فَإِنَّ لِي حَاجَةً فِي هَذِهِ الدَّارِ. فَانْصَرَفُوا وَدَخَلَ،
فَسَكَّنَ عَائِشَةَ، وَأَمَرَهَا بِالْكَفِّ، وَقَالَ لَهَا: يَا بِنْتَ أَخِي،
إِنَّ النَّاسَ أَعْطَوْنَا سُلْطَانًا فَأَظْهَرْنَا لَهُمْ حِلْمًا تَحْتَهُ
غَضَبٌ، وَأَظْهَرُوا لَنَا طَاعَةً تَحْتَهَا حِقْدٌ، فَبِعْنَاهُمْ هَذَا،
وَبَاعُونَا هَذَا، فَإِنْ أَعْطَيْنَاهُمْ غَيْرَ مَا اشْتَرَوْا شَحُّوا عَلَى
حَقِّهِمْ، وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ شِيعَةٌ، وَهُوَ يَرَى مَكَانَ
شِيعَتِهِمْ، فَإِنْ نَكَثْنَاهُمْ نَكَثُوا بِنَا، ثُمَّ لَا نَدْرِي أَتَكُونُ
لَنَا الدَّائِرَةُ أَمْ عَلَيْنَا ؟ وَأَنْ تَكُونِي ابْنَةَ عُثْمَانَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونِي أَمَةً مِنْ إِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ،
وَنِعْمَ الْخَلَفُ أَنَا لَكِ بَعْدَ أَبِيكِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ، مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ،
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ مُجَالِدٍ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ أَيْضًا، عَنْ
أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنْبَرِي فَاقْتُلُوهُ ". أَسْنَدَهُ
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ بْنِ ظُهَيْرٍ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، عَنْ عَاصِمٍ،
عَنْ زِرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ كَذِبٌ بِلَا
شَكٍّ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَبَادَرَ الصَّحَابَةُ إِلَى فِعْلِ ذَلِكَ ;
لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَأَرْسَلَهُ
عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ أَيُّوبُ: وَهُوَ
كَذِبٌ. وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادٍ مَجْهُولٍ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا " إِذَا رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ
يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِي فَاقْبَلُوهُ فَإِنَّهُ أَمِينٌ مَأْمُونٌ ".
وَقَدْ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ،
عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: أَدْرَكَتْ خِلَافَةَ مُعَاوِيَةَ عِدَّةٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ ; مِنْهُمْ أُسَامَةُ، وَسَعْدٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ،
وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَرَافِعُ
بْنُ خَدِيجٍ، وَأَبُو أُمَامَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَرِجَالٌ أَكْثَرُ
مِمَّنْ سَمَّيْنَا بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، كَانُوا مَصَابِيحَ الْهُدَى، وَأَوْعِيَةَ
الْعِلْمِ، حَضَرُوا مِنَ الْكِتَابِ تَنْزِيلَهُ، وَأَخَذُوا عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْوِيلَهُ ; وَمِنَ التَّابِعِينَ
لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْهُمُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ،
وَفِي أَشْبَاهٍ لَهُمْ لَمْ يَنْزِعُوا يَدًا عَنْ
مُجَامَعَةٍ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَازِيَةٌ
تَغْزُو، حَتَّى كَانَ عَامُ الْجَمَاعَةِ فَأَغْزَا مُعَاوِيَةُ أَرْضَ الرُّومِ
سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً، تَذْهَبُ سَرِيَّةٌ فِي الصَّيْفِ وَتَشْتُو بِأَرْضِ
الرُّومِ، ثُمَّ تَقْفِلُ وَتَعْقُبُهَا أُخْرَى، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
أَغَزَا ابْنُهُ يَزِيدُ، وَمَعَهُ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَجَازَ بِهِمُ
الْخَلِيجَ، وَقَاتَلُوا أَهْلَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عَلَى بَابِهَا، ثُمَّ
قَفَلَ بِهِمْ، وَكَانَ آخِرَ مَا أَوْصَى بِهِ مُعَاوِيَةُ أَنْ قَالَ: شُدُّوا
خِنَاقَ الرُّومِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَجَّ بِالنَّاسِ
مُعَاوِيَةُ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ مَرَّتَيْنِ، وَكَانَتْ أَيَّامُهُ
عِشْرِينَ سَنَةً إِلَّا شَهْرًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: حَجَّ بِالنَّاسِ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَسَنَةَ خَمْسِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا بُكَيْرٌ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ،
أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ عُثْمَانَ
أَقْضَى بِحَقٍّ مِنْ صَاحِبِ هَذَا الْبَابِ. يَعْنِي مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
ثَنَا الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ
أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ - حَسِبْتُ
أَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْتُ عَلَيْهِ - فَقَالَ: مَا فَعَلَ طَعْنُكَ عَلَى
الْأَئِمَّةِ يَا مِسْوَرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: ارْفُضْنَا مِنْ هَذَا وَأَحْسِنْ
فِيمَا قَدِمْنَا لَهُ. فَقَالَ: لَتُكَلِّمَنِّي بِذَاتِ نَفْسِكَ. قَالَ: فَلَمْ
أَدَعْ شَيْئًا أَعِيبُهُ عَلَيْهِ إِلَّا أَخْبَرْتُهُ بِهِ. فَقَالَ: لَا
بَرَاءَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَهَلْ لَكَ مِنْ ذُنُوبٍ تَخَافُ أَنْ تُهْلِكَكَ إِنْ
لَمْ يَغْفِرْهَا اللَّهُ لَكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا يَجْعَلُكَ
أَحَقَّ بِأَنْ تَرْجُوَ الْمَغْفِرَةَ مِنِّي، فَوَاللَّهِ لَمَا أَلِيَ مِنَ
الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَالْأُمُورِ الْعِظَامِ الَّتِي نُحْصِيهَا وَالَّتِي لَا نُحْصِيهَا
أَكْثَرُ مِمَّا تَلِي، وَإِنِّي لَعَلَى دِينٍ يَقْبَلُ اللَّهُ فِيهِ
الْحَسَنَاتِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَوَاللَّهُ عَلَى ذَلِكَ مَا كُنْتُ
لِأُخَيَّرَ بَيْنَ اللَّهِ وَغَيْرِهِ إِلَّا اخْتَرْتُ اللَّهَ عَلَى مَا
سِوَاهُ. قَالَ: فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ لِي مَا قَالَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ
خَصَمَنِي. قَالَ: فَكَانَ الْمِسْوَرُ إِذَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعَا لَهُ
بِخَيْرٍ. وَقَدْ رَوَاهُ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ
الْمِسْوَرِ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعُتْبِيِّ قَالَ: قَالَ
مُعَاوِيَةُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا أَنَا بِخَيْرِكُمْ، وَإِنَّ مِنْكُمْ
لَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو، وَغَيْرُهُمَا مَنَ الْأَفَاضِلِ، وَلَكِنْ عَسَى أَنْ أَكُونَ
أَنْفَعَكُمْ وِلَايَةً، وَأَنْكَاكُمْ فِي عَدُوِّكُمْ، وَأَدَرَّكُمْ حَلْبًا.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
مُصْعَبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى سُفْيَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ
يَقُولُ نَحْوَ ذَلِكَ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ
وَاقَدٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَلْبَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى مِنْبَرِ
دِمَشْقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اعْقِلُوا قَوْلِي، فَلَنْ
تَجِدُوا أَعْلَمَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنِّي، أَقِيمُوا
وُجُوهَكُمْ وَصُفُوفَكُمْ فِي الصَّلَاةِ، فَلَتُقِيمُنَّ وُجُوهَكُمْ
وَصُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، خُذُوا عَلَى
أَيْدِي سُفَهَائِكُمْ، أَوْ لَيُسَلِّطُنَّهُمُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
فَلْيَسُومُنَّكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، تَصَدَّقُوا وَلَا يَقُولُنَّ الرَّجُلُ:
إِنِّي مُقِلٌّ. فَإِنَّ صَدَقَةَ الْمُقِلِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ الْغَنِيِّ،
وَإِيَّاكُمْ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: سَمِعْتُ. وَ:
بَلَغَنِي. فَلَوْ قَذَفَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ نُوحٍ لَسُئِلَ
عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ طَهْمَانَ
الرَّقَاشِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ إِذَا
حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُتَّهَمْ.
وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ضِمَامِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَبْعَثُ رَجُلًا
يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْجَيْشِ. فِي
كُلِّ يَوْمٍ، فَيَدُورُ عَلَى
الْمَجَالِسِ يَسْأَلُ هَلْ وُلِدَ لِأَحَدٍ مَوْلُودٌ، أَوْ قَدِمَ أَحَدٌ مِنَ
الْوُفُودِ، فَإِذَا أُخْبِرَ بِذَلِكَ أَثْبَتَ فِي الدِّيوَانِ. يَعْنِي لِيُجْرِيَ
عَلَيْهِ الرِّزْقَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مُعَاوِيَةُ مُتَوَاضِعًا، لَيْسَ لَهُ مَجَالِدُ إِلَّا
كَمَجَالِدِ الصِّبْيَانِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَخَارِيقَ، فَيَضْرِبُ بِهَا
النَّاسَ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ
مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ فِي سُوقِ دِمَشْقَ وَهُوَ
مُرْدِفٌ وَرَاءَهُ وَصِيفًا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعُ الْجَيْبِ، وَهُوَ
يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِ دِمَشْقَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ
لَقُلْتُمْ: هَذَا الْمَهْدِيُّ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: قُلْتُ:
وَلَا عُمَرَ ؟ قَالَ: كَانَ عُمَرُ خَيْرًا مِنْهُ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَسْوَدَ
مِنْهُ. وَرَوَاهُ أَبُو سُفْيَانَ الْحِمْيَرِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ
حَوْشَبٍ بِهِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ. قِيلَ: وَلَا أَبَا بَكْرٍ
؟ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ خَيْرًا مِنْهُ، وَهُوَ
أَسْوَدُ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ مَنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا
كَانَ أَخْلَقَ بِالْمُلْكِ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ:
أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا
ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: أَنَا أَوَّلُ
الْمُلُوكِ وَآخِرُ خَلِيفَةٍ.
قُلْتُ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: مَلِكٌ. وَلَا يُقَالُ لَهُ:
خَلِيفَةٌ. لِحَدِيثِ سَفِينَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ
مُلْكًا عَضُوضًا ".
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا، وَذَكَرَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ:
مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ فِي حِلْمِهِ وَاحْتِمَالِهِ وَكَرَمِهِ.
وَقَالَ قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَعْظَمَ حِلْمًا، وَلَا
أَكْثَرَ سُؤْدُدًا، وَلَا أَبَعْدَ أَنَاةً، وَلَا أَلْيَنَ مَخْرَجًا، وَلَا
أَرْحَبَ بَاعًا بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْمَعَ رَجُلٌ
مُعَاوِيَةَ كَلَامًا شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: لَوْ سَطَوْتَ عَلَيْهِ ! فَقَالَ:
إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ يَضِيقَ حِلْمِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِي. وَفِي
رِوَايَةٍ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَحْلَمَكَ !
فَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحْيِي أَنْ يَكُونَ جُرْمُ رَجُلٍ أَعْظَمَ مِنْ حِلْمِي.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنِّي
لَأَسْتَحِي أَنْ يَكُونَ ذَنْبٌ أَعْظَمَ مِنْ عَفْوِي، أَوْ جَهْلٌ أَكْبَرَ
مِنْ حِلْمِي، أَوْ تَكُونَ عَوْرَةٌ لَا أُوَارِيهَا بِسَتْرِي.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ - وَالْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ - قَالَا: جَرَى بَيْنَ
رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْجَهْمِ. وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ كَلَامٌ، فَتَكَلَّمَ
أَبُو الْجَهْمِ بِكَلَامٍ فِيهِ غَمٌّ لِمُعَاوِيَةَ، فَأَطْرَقَ، ثُمَّ رَفَعَ
رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا الْجَهْمِ، إِيَّاكَ وَالسُّلْطَانَ، فَإِنَّهُ
يَغْضَبُ غَضَبَ الصِّبْيَانِ، وَيَأْخُذُ أَخْذَ الْأَسَدِ، وَإِنَّ قَلِيلَهُ
يَغْلِبُ كَثِيرَ النَّاسِ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ، فَقَالَ أَبُو الْجَهْمِ
فِي ذَلِكَ يَمْدَحُ مُعَاوِيَةَ:
نَمِيلُ عَلَى جَوَانِبِهِ كَأَنَّا إِذَا مِلْنَا نَمِيلُ عَلَى أَبِينَا
نُقَلِّبُهُ لِنُخْبِرَ حَالَتَيْهِ فَنُخْبَرُ مِنْهُمَا كَرَمًا وَلِينًا
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: طَافَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَكَانَ
مُعَاوِيَةُ
يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ
الْحَسَنُ: مَا أَشْبَهَ أَلْيَتَيْهِ بِأَلْيَتَيْ هِنْدَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ
مُعَاوِيَةُ فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ كَانَ يُعْجِبُ أَبَا سُفْيَانَ.
وَقَالَ ابْنُ أُخْتِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ لِمُعَاوِيَةَ:
إِنَّ فُلَانًا يَشْتُمُنِي. فَقَالَ لَهُ: تَطَأْطَأْ لَهَا تَمُرَّ
فَتُجَاوِزَكَ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: قَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: مَا رَأَيْتُ
أَنْذَلَ مِنْكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: بَلَى، مَنْ وَاجَهَ الرِّجَالَ بِمِثْلِ
هَذَا.
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا يَسُرُّنِي بَدَلَ
الْكَرَمِ حُمْرُ النَّعَمِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا بَنِي
أُمَيَّةَ، قَارِبُوا قُرَيْشًا بِالْحِلْمِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَلْقَى
الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَيُوسِعُنِي شَتْمًا وَأَوْسِعُهُ حِلْمًا،
فَأَرْجِعُ وَهُوَ لِي صَدِيقٌ، أَسْتَنْجِدُهُ فَيُنْجِدُنِي، وَأَثُورُ بِهِ
فَيَثُورُ مَعِي، وَمَا رَفَعَ الْحِلْمُ عَنْ شَرِيفٍ شَرَفَهُ، وَلَا زَادَهُ
إِلَّا كَرَمًا. وَقَالَ: آفَةُ الْحِلْمِ الذُّلُّ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَبْلُغُ
الرَّجُلُ مَبْلَغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَصَبْرُهُ
شَهْوَتَهُ، وَلَا يَبْلُغُ ذَلِكَ إِلَّا بِقُوَّةِ الْحِلْمِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ: لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ هِنْدَ، وَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَنُفْرِقُهُ -
وَمَا اللَّيْثُ عَلَى بَرَاثِنِهِ بِأَجْرَأَ مِنْهُ - فَيَتَفَارَقُ لَنَا،
وَإِنْ كُنَّا لَنَخْدَعُهُ - وَمَا ابْنُ لَيْلَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
بِأَدْهَى مِنْهُ - فَيَتَخَادَعُ لَنَا، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّا مُتِّعْنَا
بِهِ مَا دَامَ فِي هَذَا الْجَبَلِ حَجَرٌ. وَأَشَارَ إِلَىأَبِي قُبَيْسٍ.
وَقَالَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ أَسْوَدُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ: أَسْخَاهُمْ
نَفْسًا حِينَ يُسْأَلُ، وَأَحْسَنُهُمْ فِي الْمَجَالِسِ خُلُقًا، وَأَحْلَمُهُمْ
حِينَ يُسْتَجْهَلُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: كَانَ مُعَاوِيَةُ
يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ كَثِيرًا:
فَمَا قَتَلَ السَّفَاهَةَ مِثْلُ حِلْمٍ يَعُودُ بِهِ عَلَى الْجَهْلِ الْحَلِيمُ
فَلَا تَسْفَهْ وَإِنْ مُلِّئْتَ غَيْظًا عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّ الْفُحْشَ لَوْمُ
وَلَا تَقْطَعْ أَخًا لَكَ عِنْدَ ذَنْبٍ فَإِنَّ الذَّنْبَ يَغْفِرُهُ الْكَرِيمُ
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:
قَدْ عَلِمْتُ بِمَ غَلَبَ مُعَاوِيَةُ النَّاسَ، كَانُوا إِذَا طَارُوا وَقَعَ،
وَإِذَا وَقَعُوا طَارَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى نَائِبِهِ زِيَادٍ: إِنَّهُ لَا
يَنْبَغِي أَنْ نَسُوسَ النَّاسَ سِيَاسَةً وَاحِدَةً ; بِاللِّينِ فَيَمْرَحُوا،
وَلَا بِالشِّدَّةِ فَنَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْمَهَالِكِ، وَلَكِنْ كُنْ أَنْتَ
لِلشِّدَّةِ وَالْفَظَاظَةِ وَالْغِلْظَةِ، أَكُونُ أَنَا لِلِّينِ وَالْأُلْفَةِ
وَالرَّحْمَةِ، فَإِذَا خَافَ خَائِفٌ وَجَدَ بَابًا يَدْخُلُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: قَضَى
مُعَاوِيَةُ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ
دِينَارٍ كَانَتْ عَلَيْهَا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَفَرَّقَتْهَا مِنْ يَوْمِهَا،
فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا دِرْهَمٌ، فَقَالَتْ لَهَا خَادِمَتُهَا: هَلَّا أَبْقَيْتِ
لَنَا دِرْهَمًا نَشْتَرِي بِهِ لَحْمًا. فَقَالَتْ: لَوْ أَذْكَرْتِنِي
لَفَعَلْتُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ - وَهِيَ بِمَكَّةَ -
بِطَوْقٍ قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَبِلَتْهُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ:
قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى
مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لَأُجِيزَنَّكَ بِجَائِزَةٍ لَمْ يُجِزْ بِهَا أَحَدٌ كَانَ
قَبْلِي. فَأَعْطَاهُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ.
وَوَفَدَ إِلَيْهِ مَرَّةً الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَأَجَازَهُمَا عَلَى الْفَوْرِ
بِمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ لَهُمَا: مَا أَجَازَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي. فَقَالَ
لَهُ الْحُسَيْنُ: وَلَمْ تُعْطِ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنَّا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا جَرِيرٌ
عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: أَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلَانِهِ الْمَالَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا أَوْ
إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ
لَهُمَا: أَلَا تَسْتَحِيَانِ ; رَجُلٌ نَطْعَنُ فِي عَيْنِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً
تَسْأَلَانِهِ الْمَالَ ؟ ! فَقَالَا: بَلْ حَرَمْتَنَا وَجَادَ لَنَا.
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ قَالَ: وَفَدَ الْحَسَنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لِلْحَسَنِ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِابْنِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَرَ لَهُ
بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا
بِابْنِ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَرَ
لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ أَبُو مَرْوَانَ الْمَرْوَانِيُّ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيٍّ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ: لِجُلَسَائِهِ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا
فَهُوَ لَهُ. وَبَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَسَمَهَا عَلَى
جُلَسَائِهِ، وَكَانُوا عَشَرَةً، فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ عَشَرَةَ آلَافٍ. وَبَعَثَ
إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ
بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَاسْتَوْهَبَتْهَا مِنْهُ امْرَأَتُهُ، فَأَطْلَقَهَا لَهَا.
وَبَعَثَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَسَمَ مِنْهَا
خَمْسِينَ أَلْفًا، وَحَبَسَ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَفَرَّقَ مِنْهَا تِسْعِينَ أَلْفًا، وَاسْتَبْقَى
عَشَرَةَ آلَافٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّهُ لَمُقْتَصِدٌ يُحِبُّ
الِاقْتِصَادَ، وَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمِائَةِ أَلْفٍ
فَقَالَ لِلرَّسُولِ: لِمَ جِئْتَ بِهَا بِالنَّهَارِ ؟ هَلَّا جِئْتَ بِهَا
بِاللَّيْلِ. ثُمَّ حَبَسَهَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا أَحَدًا شَيْئًا،
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّهُ لَخِبٌّ ضَبٌّ، كَأَنَّكَ بِهِ قَدْ رَفَعَ ذَنَبَهُ
وَقُطِعَ.
وَقَالَ ابْنُ دَابٍّ: كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ
فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ، وَيَقْضِي لَهُ مَعَهَا مِائَةَ حَاجَةٍ،
فَقَدِمَ عَلَيْهِ عَامًا، فَأَعْطَاهُ الْمَالَ، وَقَضَى لَهُ الْحَاجَاتِ،
وَبَقِيَتْ مِنْهَا حَاجَةٌ وَاحِدَةٌ، فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَهُ إِذْ قَدِمَ
أَصْبَهْبَذُ سِجِسْتَانَ يَطْلُبُ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُمَلِّكَهُ تِلْكَ
الْبِلَادَ، وَوَعَدَ مَنْ قَضَى لَهُ هَذِهِ الْحَاجَةَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ
أَلْفٍ، فَطَافَ عَلَى رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأُمَرَاءِ
الْعِرَاقِ، مِمَّنْ قَدِمَ مَعَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ فَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ
لَهُ: عَلَيْكَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ. فَقَصَدَهُ الدِّهْقَانُ،
فَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ جَعْفَرٍ مُعَاوِيَةَ، فَقَضَى حَاجَتَهُ تَكْمِلَةَ
الْمِائَةِ حَاجَةٍ، وَأَمَرَ الْكَاتِبَ فَكَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ، وَخَرَجَ بِهِ
ابْنُ جَعْفَرٍ إِلَى الدِّهْقَانِ، فَسَجَدَ لَهُ وَحَمَلَ إِلَيْهِ أَلْفَ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ: اسْجُدْ لِلَّهِ، وَاحْمِلْ
مَالَكَ إِلَى مَنْزِلِكَ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نُتْبِعُ الْمَعْرُوفَ بِالْمَنِّ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لَأَنْ يَكُونَ يَزِيدُ قَالَهَا أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ خَرَاجِ الْعِرَاقِ، أَبَتْ بَنُو هَاشِمٍ إِلَّا كَرَمًا.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ،
فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دَيْنٌ خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ،
فَأَلَحَّ عَلَيْهِ غُرَمَاؤُهُ، فَاسْتَنْظَرَهُمْ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، فَيَسْأَلَهُ أَنْ يُسْلِفَهُ شَيْئًا مِنَ الْعَطَاءِ، فَرَكِبَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَقْدَمَكَ يَا ابْنَ جَعْفَرٍ ؟ فَقَالَ: دَيْنٌ
أَلَحَّ عَلِيَّ غُرَمَاؤُهُ. فَقَالَ: وَكَمْ هُوَ: قَالَ: خَمْسُمِائَةِ أَلْفٍ.
فَقَضَاهَا عَنْهُ. وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْأَلْفَ أَلْفٍ سَتَأْتِيكَ فِي
وَقْتِهَا.
وَقَالَ ابْنُ سَعِيدٍ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو
هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا عَجَبًا لِلْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ ! شَرِبَ شَرْبَةَ عَسَلٍ يَمَانِيَّةً بِمَاءِ رُومَةَ فَقَضَى نَحْبَهُ.
ثُمَّ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَا يَسُوءُكَ اللَّهُ وَلَا يُخْزِيكَ فِي
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ: لَا يُخْزِينِي
اللَّهُ وَلَا يَسُوءُنِي مَا أَبْقَى اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ:
فَأَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعُرُوضًا وَأَشْيَاءَ، وَقَالَ: خُذْهَا
فَاقْسِمْهَا فِي أَهْلِكَ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ:
قِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: أَيُّكُمْ كَانَ أَشْرَفَ ; أَنْتُمْ أَوْ بَنُو هَاشِمٍ ؟
قَالَ: كُنَّا أَكْثَرَ أَشْرَافًا وَكَانُوا أَشْرَفَ وَاحِدًا ; لَمْ يَكُنْ فِي
عَبْدِ مَنَافٍ مِثْلُ هَاشِمٍ، فَلَمَّا هَلَكَ كُنَّا أَكْثَرَ عَدَدًا
وَأَكْثَرَ أَشْرَافًا، وَكَانَ فِيهِمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَلَمْ يَكُنْ
فِينَا مِثْلُهُمْ، فَصِرْنَا أَكْثَرَ عَدَدًا وَأَكْثَرَ أَشْرَافًا وَلَمْ
يَكُنْ فِيهِمْ وَاحِدٌ كَوَاحِدِنَا، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا كَقَرَارِ الْعَيْنِ
حَتَّى جَاءَ شَيْءٌ لَمْ يَسْمَعِ الْأَوَّلُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَا يَسْمَعُ
الْآخِرُونَ بِمِثْلِهِ ; مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ
مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ،
عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
قَصَّ عَلَى مُعَاوِيَةَ مَنَامًا رَأَى فِيهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ،
وَهُمْ يُحَاسَبُونَ عَلَى مَا وُلُّوهُ فِي أَيَّامِهِمْ، وَرَأَى مُعَاوِيَةَ
وَهُوَ مُوَكَّلٌ بِهِ رَجُلَانِ يُحَاسِبَانِهِ عَلَى مَا عَمِلَ فِي أَيَّامِهِ،
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا رَأَيْتَ ثَمَّ دَنَانِيرَ مِصْرَ ؟ !
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعُتْبِيِّ قَالَ: دَخَلَ
عَمْرٌو عَلَى مُعَاوِيَةَ وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِيهِ تَعْزِيَةٌ لَهُ
فِي بَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَاسْتَرْجَعَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ
الْعَاصِ:
يَمُوتُ الصَّالِحُونَ وَأَنْتَ حَيٌّ تَخَطَّاكَ الْمَنَايَا لَا تَمُوتُ
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
أَتَرْجُو أَنْ أَمُوتَ وَأَنْتَ حَيٌّ فَلَسْتُ بِمَيِّتٍ حَتَّى تَمُوتَ
وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: كُلُّ النَّاسِ أَسْتَطِيعُ أَنْ
أُرْضِيَهُ إِلَّا حَاسِدَ نِعْمَةٍ ; فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيَهُ إِلَّا
زَوَالُهَا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي
بَحْرِيَّةَ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: الْمُرُوءَةُ فِي أَرْبَعٍ ; الْعَفَافِ
فِي الْإِسْلَامِ، وَاسْتِصْلَاحِ الْمَالِ، وَحِفْظِ الْإِخْوَانِ، وَحِفْظِ
الْجَارِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ:
كَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ قَالَ لَهُ
أَهْلُهُ: قَدْ بَلَغْتَ الْغَايَةَ، فَمَاذَا تَصْنَعُ بِالشِّعْرِ ؟ فَارْتَاحَ
يَوْمًا فَقَالَ
سَرَحْتُ سَفَاهَتِي وَأَرَحْتُ حِلْمِي وَفِيَّ عَلَى تَحَلُّمِيَ اعْتِرَاضُ
عَلَى أَنِّي أُجِيبُ إِذَا دَعَتْنِي إِلَى حَاجَاتِهَا الْحَدَقُ الْمِرَاضُ
وَقَالَ مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ جَالِسًا مُعَاوِيَةُ
حِينَ كَثُرَ شَحْمُهُ وَعَظُمَ بَطْنُهُ. وَكَذَا رَوَى مُغِيرَةُ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ جَالِسًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
مُعَاوِيَةُ. وَقَالَ أَبُو الْمَلِيحِ، عَنْ مَيْمُونٍ: أَوَّلُ مَنْ جَلَسَ
عَلَى الْمِنْبَرِ مُعَاوِيَةُ، وَاسْتَأْذَنَ النَّاسَ فِي الْجُلُوسِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: أَوَّلُ مَنْ أَذَّنَ
وَأَقَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ مُعَاوِيَةُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: كَانَتْ أَبْوَابُ مَكَّةَ لَا أَغْلَاقَ
لَهَا، وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ لَهَا الْأَبْوَابَ مُعَاوِيَةُ.
وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ:مَضَتِ السُّنَّةُ
أَنْ لَا يَرِثَ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَلَا الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَأَوَّلُ
مَنْ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ مُعَاوِيَةُ، وَقَضَى بِذَلِكَ بَنُو
أُمَيَّةَ بَعْدَهُ، حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَاجَعَ
السُّنَّةَ،
وَأَعَادَ هِشَامٌ مَا قَضَى بِهِ
مُعَاوِيَةُ وَبَنُو أُمَيَّةَ مِنْ بَعْدِهِ. وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ:وَمَضَتِ
السُّنَّةُ أَنَّ دِيَةَ الْمُعَاهَدِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ
أَوَّلَ مَنْ قَصَرَهَا إِلَى النِّصْفِ، وَأَخَذَ النِّصْفَ لِنَفْسِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي: اسْمَعْ يَا زُهْرِيُّ، مَنْ مَاتَ مُحِبًّا لِأَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَشَهِدَ لِلْعَشَرَةِ بِالْجَنَّةِ،
وَتَرَحَّمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، كَانَ حَقِيقًا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا
يُنَاقِشَهُ الْحِسَابَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالْقَانِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْمُبَارَكِ يَقُولُ: تُرَابٌ فِي أَنْفِ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: مَا أَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمْدَهُ ".
فَقَالَ خَلْفَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ؟ ! فَقِيلَ لَهُ: أَيُّمَا أَفْضَلُ
؟ هُوَ أَمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؟ فَقَالَ: لَتُرَابٌ فِي مَنْخَرَيْ
مُعَاوِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ
وَأَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: مُعَاوِيَةُ عِنْدَنَا مِحْنَةٌ
فَمَنْ رَأَيْنَاهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ شَزْرًا اتَّهَمْنَاهُ عَلَى الْقَوْمِ.
يَعْنِي الصَّحَابَةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِليُّ وَغَيْرُهُ: سُئِلَ الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ
أَيُّمَا أَفْضَلُ مُعَاوِيَةُ أَمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؟ فَغَضِبَ
وَقَالَ لِلسَّائِلِ: تَجْعَلُ رَجُلًا مِنَ الصَّحَابَةِ مِثْلَ رَجُلٍ مِنَ
التَّابِعِينِ ؟ ! مُعَاوِيَةُ صَاحِبُهُ وَصِهْرُهُ وَكَاتِبُهُ وَأَمِينُهُ
عَلَى وَحْيِ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " دَعَوْا لِي أَصْحَابِي وَأَصْهَارِي، فَمَنْ سَبَّهُمْ
فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ".
وَكَذَا قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَنْبَسَةَ.
وَقَالَ أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ الْحَلَبِيُّ: مُعَاوِيَةُ سِتْرٌ
لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا كَشَفَ
الرَّجُلُ السِّتْرَ اجْتَرَأَ عَلَى مَا وَرَاءَهُ.
وَقَالَ الْمَيْمُونِيُّ: قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا الْحَسَنِ،
إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا يَذْكُرُ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ بِسُوءٍ فَاتَّهِمْهُ
عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ
رَجُلٍ تَنَقَّصَ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ: أَيُقَالُ لَهُ رَافِضِيٌّ
؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجْتَرِ عَلَيْهِمَا إِلَّا وَلَهُ خَبِيئَةُ سُوءٍ، مَا
انْتَقَصَ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَّا وَلَهُ دَاخِلَةُ سُوءٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مَيْسَرَةَ
قَالَ: مَا رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ ضَرَبَ إِنْسَانًا قَطُّ إِلَّا إِنْسَانًا شَتَمَ مُعَاوِيَةَ،
فَإِنَّهُ ضَرَبَهُ أَسْوَاطًا.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: بَيْنَا أَنَا عَلَى جَبَلٍ بِالشَّامِ إِذْ سَمِعْتُ
هَاتِفًا يَقُولُ: مَنْ أَبْغَضَ الصِّدِّيقَ فَذَاكَ زِنْدِيقٌ، وَمَنْ أَبْغَضَ
عُمَرَ فَإِلَى جَهَنَّمَ زُمَرَ، وَمَنْ أَبْغَضَ عُثْمَانَ فَذَاكَ خَصْمُهُ
الرَّحْمَنُ، وَمَنْ أَبْغَضَ عَلِيَّ فَذَاكَ خَصْمُهُ النَّبِيُّ، وَمَنْ
أَبْغَضَ مُعَاوِيَهْ، سَحَبَتْهُ الزَّبَانِيَهْ، إِلَى جَهَنَّمَ الْحَامِيَهْ،
وَيُرْمَى بِهِ فِي الْهَاوِيَهْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْمَنَامِ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ
وَمُعَاوِيَةُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
يَنْتَقِصُنَا. فَكَأَنَّهُ انْتَهَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَا أَنْتَقِصُ هَؤُلَاءِ،
وَلَكِنْ أَنْتَقِصُ هَذَا. يَعْنِي مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَكَ ! أَوَ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِي ؟ !
قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَرْبَةً، فَنَاوَلَهَا مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: جَأْ بِهَا فِي لَبَّتِهِ.
فَضَرَبَهُ بِهَا، وَانْتَبَهْتُ فَبَكَّرْتُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَإِذَا ذَلِكَ
الرَّجُلُ قَدْ أَصَابَتْهُ الذَّبْحَةُ مِنَ اللَّيْلِ وَمَاتَ. وَهُوَ رَاشِدٌ
الْكِنْدِيُّ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:
مُعَاوِيَةُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنَ الْعُلَمَاءِ الْكِبَارِ، وَلَكِنِ ابْتُلِيَ
بِحُبِّ الدُّنْيَا.
وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: قِيلَ
لِمُعَاوِيَةَ: أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ. فَقَالَ: كَيْفَ لَا وَلَا أَزَالُ
أَرَى رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَائِمًا عَلَى رَأْسِي يُلْقِحُ لِي كَلَامًا
يُلْزِمُنِي جَوَابَهُ، فَإِنْ أَصَبْتُ لَمْ أُحْمَدْ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ سَارَتْ
بِهَا الْبُرُدُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ: أَصَابَتْ مُعَاوِيَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
لَقْوَةٌ.
وَذَكَرَ ابْنَ جَرِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدِمَ فِي وَفْدِ أَهْلِ
مِصْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى
مُعَاوِيَةَ فَلَا تُسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُحِبُّ
ذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرٌو قَبْلَهُمْ قَالَ مُعَاوِيَةُ
لِحَاجِبِهِ: أَدْخِلْهُمْ. وَأَوْعَزَ إِلَيْهِ أَنْ يُخَوِّفَهُمْ فِي
الدُّخُولِ وَيُرْعِبَهُمْ، وَقَالَ: إِنِّي لَأَظُنُّ عَمْرًا قَدْ تَقَدَّمَ
إِلَيْهِمْ فِي شَيْءٍ. فَلَمَّا أَدْخَلُوهُمْ عَلَيْهِ - وَقَدْ أَهَانُوهُمْ -
جَعَلَ أَحَدُهُمْ إِذَا دَخَلَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ. فَلَمَّا نَهَضَ عَمْرٌو مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: قَبَّحَكُمُ اللَّهُ !
نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَنْ تُسَلِّمُوا
عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ فَسَلَّمْتُمْ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ !
وَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ مِنْ مُعَاوِيَةَ أَنْ يُسَاعِدَهُ فِي بْناءِ
دَارٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ جِذْعٍ مِنَ الْخَشَبِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
أَيْنَ دَارُكَ ؟ قَالَ: بِالْبَصْرَةِ. وَكَمِ اتِّسَاعُهَا ؟ قَالَ: فَرْسَخَانِ
فِي فَرْسَخَيْنِ. قَالَ: لَا تَقُلْ دَارِي بِالْبَصْرَةِ، وَلَكِنْ قُلِ
الْبَصْرَةُ فِي دَارِي.
وَذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ بِابْنٍ مَعَهُ، فَجَلَسَا عَلَى سِمَاطِ
مُعَاوِيَةَ، فَجَعَلَ وَلَدُهُ يَأْكُلُ أَكْلًا ذَرِيعًا، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ
يُلَاحِظُهُ، وَجَعَلَ أَبُوهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا
يَفْطِنُ، فَلَمَّا خَرَجَا لَامَهُ أَبُوهُ، وَقَطَعَهُ عَنِ الدُّخُولِ، فَقَالَ
لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَيْنَ ابْنُكَ التِّلْقَامَةُ ؟ قَالَ: اشْتَكَى. قَالَ: قَدْ
عَلِمْتُ أَنَّ أَكْلَهُ سَيُورِثُهُ دَاءً.
قَالَ: وَنَظَرَ مُعَاوِيَةُ إِلَى رَجُلٍ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ يُخَاطِبُهُ
وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ، فَجَعَلَ يَزْدَرِيهِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ لَا تُخَاطِبُ الْعَبَاءَةَ، إِنَّمَا يُخَاطِبُكَ مَنْ
فِيهَا.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَقَلَ وَحَلُمَ ; مَنْ إِذَا
أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا غَضِبَ كَظَمَ، وَإِذَا
قَدَرَ غَفَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَنْجَزَ، وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ.
وَكَتَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادُهَا وَاضْطَرَبَتْ مِنْ كِبَرٍ أَعَضَادُهَا
وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا
فَهِيَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ نَعَى إِلَيَّ نَفْسِي.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ السَّهْمِيِّ، حَدَّثَنِي ثُمَامَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، أَنَّ آخِرَ خُطْبَةٍ
خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ أَنْ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي مِنْ زَرْعٍ قَدِ
اسْتَحْصَدَ، وَإِنِّي قَدْ وَلِيتُكُمْ، وَلَنْ يَلِيَكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي إِلَّا
مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي، كَمَا كَانَ مَنْ وَلِيَكُمْ قَبْلِي خَيْرًا مِنِّي،
وَيَا يَزِيدُ، إِذَا وَفَى أَجْلِي فَوَلِّ غُسْلِي رَجُلًا لَبِيبًا ; فَإِنَّ
اللَّبِيبَ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ، فَلْيُنْعِمِ الْغُسْلَ وَلْيَجْهَرْ
بِالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ اعْمِدْ إِلَى مَنْدِيلٍ فِي الْخِزَانَةِ فِيهِ ثَوْبٌ
مِنْ ثِيَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُرَاضَةٌ
مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ، فَاسْتَوْدِعِ الْقُرَاضَةَ أَنْفِي وَفَمِي
وَأُذُنَيَّ وَعَيْنَيَّ، وَاجْعَلِ الثَّوْبَ يَلِي جِلْدِي دُونَ أَكْفَانِي،
وَيَا يَزِيدُ، احْفَظْ وَصِيَّةَ اللَّهِ فِي الْوَالِدَيْنِ، فَإِذَا
أَدْرَجْتُمُونِي فِي جَرِيدَتِي، وَوَضَعْتُمُونِي فِي حُفْرَتِي فَخَلُّوا
مُعَاوِيَةَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا احْتُضِرَ مُعَاوِيَةُ جَعَلَ يَقُولُ:
لَعَمْرِي لَقَدْ عُمِّرْتُ فِي الدَّهْرِ بُرْهَةً وَدَانَتْ لِيَ الدُّنْيَا
بِوَقْعِ الْبَوَاتِرِ
وَأُعْطِيتُ حُمْرَ الْمَالِ وَالْحُكْمَ وَالنُّهَى وَسِلْمَ قَمَاقِيمِ
الْمُلُوكِ الْجَبَابِرِ
فَأَضْحَى الَّذِي قَدْ كَانَ مِمَّا
يَسُرُّنِي كَحُلْمٍ مَضَى فِي الْمُزْمِنَاتِ الْغَوَابِرِ
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ فِي الْمُلْكِ سَاعَةً وَلَمْ أُعْنَ فِي لَذَّاتِ
عَيْشٍ نَوَاضِرِ
وَكُنْتُ كَذِي طِمْرَيْنِ عَاشَ بِبُلْغَةٍ مِنَ الْعَيْشِ حَتَّى زَارَ ضِيقَ
الْمَقَابِرِ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ الْحَكَمِ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا احْتُضِرَ أَوْصَى
بْنصْفِ مَالِهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ
يُطَيَّبَ لَهُ ; لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَاسَمَ عُمَّالَهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ فِي آخِرِ عُمْرِهِ اشْتَدَّ بِهِ الْبَرْدُ، فَكَانَ إِذَا
لَبِسَ أَوْ تَغَطَّى بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ يَغُمُّهُ، فَاتُّخِذَ لَهُ ثَوْبٌ مِنْ
حَوَاصِلِ الطَّيْرِ، ثُمَّ ثَقُلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: تَبًّا لَكِ
مِنْ دَارٍ، مَلَكْتُكِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ; عِشْرِينَ أَمِيرًا، وَعِشْرِينَ
خَلِيفَةً، ثُمَّ هَذَا حَالِي فِيكِ، وَمَصِيرِي مِنْكِ، تَبًّا لِلدُّنْيَا
وَمُحِبِّيهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ
الثَّقَفِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ:
لَمَّا ثَقُلَ مُعَاوِيَةُ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّهُ بِالْمَوْتِ قَالَ
لِأَهْلِهِ: احْشُوَا عَيْنَيَّ إِثْمِدًا، وَأَوْسِعُوا رَأْسِي دُهْنًا.
فَفَعَلُوا وَبَرَّقُوا وَجْهَهُ بِالدُّهْنِ، ثُمَّ مُهِّدَ لَهُ فَجَلَسَ
وَقَالَ: أَسْنَدُونِي. ثُمَّ قَالَ: ائْذَنُوا لِلنَّاسِ فَلْيُسَلِّمُوا عَلَيَّ
قِيَامًا وَلَا يَجْلِسْ أَحَدٌ. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ
قَائِمًا فَيَرَاهُ مُتَكَحِّلًا مُتَدَهِّنًا، فَيَقُولُ مُتَقَوِّلُ النَّاسِ:
هُوَ لَمًّا بِهِ، وَهُوَ أَصَحُّ النَّاسِ. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ
قَالَ مُعَاوِيَةُ:
وَتَجَلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا
أَتَضَعْضَعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لَا
تَنْفَعُ
قَالَ: وَكَانَ بِهِ الْتِفَاتَةٌ، يَعْنِي لَقْوَةً، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ
ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ: لَمَّا نَزَلَ بِمُعَاوِيَةَ الْمَوْتَ قَالَ:
يَا لَيْتَنِي كُنْتُ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ بِذِي طَوًى وَلَمْ أَلِ مِنْ هَذَا
الْأَمْرِ شَيْئًا.
وَقَالَ أَبُو السَّائِبِ الْمَخْزُومِيُّ: لَمَّا حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ
الْوَفَاةُ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا رَبِّ عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ
أَوْ تُجَاوِزْ تَجَاوُزَ الْعَفْوِ فَاصْفَحْ عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ
كَالتُّرَابِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا احْتُضِرَ
مُعَاوِيَةُ جَعَلَ أَهْلُهُ يُقَلِّبُونَهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَيَّ شَيْخٍ
تُقَلِّبُونَ ؟ إِنْ نَجَّاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ غَدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: جَعَلَ مُعَاوِيَةُ لَمَّا احْتُضِرَ يَضَعُ
خَدًّا عَلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ يُقَلِّبُ وَجْهَهُ، وَيَضَعُ الْخَدَّ الْآخَرَ،
وَيَبْكِي وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ: إِنَّ اللَّهَ لَا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [
النِّسَاءِ: 48 ]. اللَّهُمَّ فَاجْعَلْنِي مِمَّنْ تَشَاءُ أَنْ تَغْفِرَ لَهُ.
وَقَالَ الْعُتْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ: تَمَثَّلَ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ
بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ:
هُوَ الْمَوْتُ لَا مَنْجَى مِنَ الْمَوْتِ وَالَّذِي نُحَاذِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ
أَدْهَى وَأَفْظَعُ
ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَقِلِ الْعَثْرَةَ، وَاعْفُ عَنِ الزَّلَّةِ،
وَتَجَاوَزْ بِحِلْمِكَ عَنْ جَهْلِ مَنْ لَمْ يَرْجُ غَيْرَكَ، فَإِنَّكَ وَاسِعُ
الْمَغْفِرَةِ، لَيْسَ لِذِي خَطِيئَةٍ مِنْ خَطِيئَتِهِ مَهْرَبٌ إِلَّا
إِلَيْكَ. وَرَوَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ،
عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: ثُمَّ مَاتَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ لِأَهْلِهِ: اتَّقُوا
اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقِي مَنِ اتَّقَاهُ، وَلَا يَقِي مَنْ لَا
يَتَّقِي. ثُمَّ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ صَعِدَ
الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَأَكْفَانُ مُعَاوِيَةَ
عَلَى يَدَيْهِ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَنَاءِ عَلَيْهِ: إِنَّ
مُعَاوِيَةَ الَّذِي كَانَ عَوْدَ الْعَرَبِ وَحَدَّ الْعَرَبِ، قَطَعَ اللَّهُ
بِهِ الْفِتْنَةَ، وَمَلَّكَهُ عَلَى الْعِبَادِ، وَفَتَحَ بِهِ الْبِلَادَ، أَلَا
إِنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهَذِهِ أَكْفَانُهُ، فَنَحْنُ مُدْرِجُوهُ فِيهَا،
وَمُدْخِلُوهُ قَبْرَهُ وَمُخَلُّونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَلِهِ، ثُمَّ هُوَ
الْبَرْزَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ أَنْ
يَشْهَدَهُ فَلْيَحْضُرْ عِنْدَ الْأُولَى. ثُمَّ نَزَلَ وَبَعَثَ الْبَرِيدَ
إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ وَيَسْتَحِثُّهُ عَلَى الْمَجِيءِ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ: لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ. وَقِيلَ: لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: لِأَرْبَعٍ
خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ. قَالَهُ اللَّيْثُ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:
لِمُسْتَهَلِّ رَجَبٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَالشَّافِعِيُّ: صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ
يَزِيدُ. وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ
يُكَفَّنَ فِي ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
كَسَاهُ إِيَّاهُ، وَكَانَ مُدَّخَرًا عِنْدَهُ لِهَذَا الْيَوْمِ، وَأَنْ
يَجْعَلَ مَا عِنْدَهُ مِنْ شَعْرِهِ وَقُلَامَةِ أَظْفَارِهِ فِي فَمِهِ
وَأَنْفِهِ
وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ابْنُهُ يَزِيدُ غَائِبًا، فَصَلَّى عَلَيْهِ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ، ثُمَّ دُفِنَ فَقِيلَ: بِدَارِ الْإِمَارَةِ. وَهِيَ الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ: بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ. وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَمَانِيًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: جَاوَزَ الثَّمَانِينَ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَكِبَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ فِي جَيْشٍ، وَخَرَجَ لِيَتَلَقَّى يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَزِيدُ بِحُوَّارِينَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ تَلَقَّتْهُمْ أَثْقَالُ يَزِيدَ، وَإِذَا يَزِيدُ رَاكِبٌ عَلَى بُخْتِيٍّ وَعَلَيْهِ الْحُزْنُ ظَاهِرٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْإِمَارَةِ، وَعَزَّوْهُ فِي أَبِيهِ، وَهُوَ يَخْفِضُ صَوْتَهُ فِي رَدِّهِ عَلَيْهِمْ، وَالنَّاسُ صَامِتُونَ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَهُ إِلَّا الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَانْتَهَى إِلَى بَابِ تُومَاءَ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَجَازَهُ مَعَ السُّورِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، فَقِيلَ: يَدْخُلُ مِنْهُ. لِأَنَّهُ بَابُ خَالِدٍ، فَجَازَهُ حَتَّى أَتَى الْبَابَ الصَّغِيرَ، فَعَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُ قَاصِدٌ قَبْرَ أَبِيهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى بَابِ الصَّغِيرِ تَرَجَّلَ عِنْدَ الْمَقْبَرَةِ، ثُمَّ دَخَلَ، فَصَلَّى عَلَى أَبِيهِ بَعْدَ مَا دُفِنَ، ثُمَّ انْفَتَلَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْمَقْبَرَةِ أَتَى بِمَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ، فَرَكِبَ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ فِي النَّاسِ أَنِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. وَدَخَلَ الْخَضْرَاءَ، فَاغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابًا حَسَنَةً، ثُمَّ خَرَجَ فَخَطَبَ النَّاسَ أَوَّلَ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِمَّنْ بَعْدَهُ، وَدُونَ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَا أُزَكِّيهِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ أَعْلَمُ بِهِ، إِنْ عَفَا عَنْهُ فَبِرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عَاقَبَهُ
فَبِذَنْبِهِ، وَقَدْ وَلِيتُ
الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَسْتُ آسَى عَلَى طَلَبٍ، وَلَا أَعْتَذِرُ مِنْ
تَفْرِيطٍ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ شَيْئًا كَانَ. وَقَالَ لَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ
هَذِهِ: وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُغْزِيكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ،
وَإِنِّي لَسْتُ حَامِلًا أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْبَحْرِ، وَإِنَّ
مُعَاوِيَةَ كَانَ يُشَتِّيكُمْ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَلَسْتُ مُشَتِّيًا أَحَدًا بِأَرْضِ
الرُّومِ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُخْرِجُ لَكُمُ الْعَطَاءَ أَثْلَاثًا،
وَأَنَا أَجْمَعُهُ لَكُمْ كُلَّهُ. قَالَ: فَافْتَرَقَ النَّاسُ عَنْهُ وَهُمْ
لَا يُفَضِّلُونَ عَلَيْهِ أَحَدًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ
الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ مَرِيضٌ إِلَى ابْنِهِ يَزِيدَ،
فَلَمَّا جَاءَهُ الْبَرِيدُ رَكِبَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَاءَ الْبَرِيدُ بِقِرْطَاسٍ يَخُبُّ بِهِ فَأَوْجَسَ الْقَلْبُ مِنْ قِرْطَاسِهِ
فَزَعًا
قُلْنَا لَكَ الْوَيْلُ مَاذَا فِي صَحِيفَتِكُمْ قَالَ الْخَلِيفَةُ أَمْسَى
مُثْبَتًا وَجِعًا
فَمَادَتِ الْأَرْضُ أَوْ كَادَتْ تَمِيدُ بِنَا كَأَنَّ أَغْبَرَ مِنْ
أَرْكَانِهَا انْقَلَعَا
ثُمَّ انْبَعَثْنَا إِلَى خُوصٍ مُضَمَّرَةٍ نَرْمِي الْفِجَاجَ بِهَا مَا
نَأْتَلِي سُرَعًا
فَمَا نُبَالِي إِذَا بَلَّغْنَ أَرْحُلَنَا مَا مَاتَ مِنْهُنَّ بِالْمَوْمَاةِ
أَوْ ظَلَعَا
وَزَادَ غَيْرُهُ:
لَمَّا انْتَهَيْنَا وَبَابُ الدَّارِ مُنْصَفِقٌ بِصَوْتِ رَمْلَةَ رِيعَ
الْقَلْبُ فَانْصَدَعَا
مَنْ لَا تَزَلْ نَفْسُهُ تُوفِي عَلَى شَرَفٍ تُوشِكُ مَقَادِيرُ تِلْكَ
النَّفْسِ أَنْ تَقَعَا
أَوْدَى ابْنُ هِنْدَ وَأَوْدَى الْمَجْدُ يَتْبَعُهُ كَانَا جَمِيعًا خَلِيطًا
سَالِمَيْنِ مَعَا
أَغَرُّ أَبْلَجُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِهِ لَوْ قَارَعَ النَّاسَ عَنْ
أَحْلَامِهِمْ قَرَعَا
لَا يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَى وَإِنْ جَهِدُوا أَنْ يَرْقَعُوهُ وَلَا
يُوهُونَ مَا رَقَعَا
قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَرَقَ يَزِيدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مِنَ الْأَعْشَى.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ دَخَلَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ أَوْصَى
إِلَيْهِ. وَهَذَا قَدْ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّ
الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ يَزِيدَ لَمْ يَدْخُلْ دِمَشْقَ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ
أَبِيهِ، وَأَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ بِالنَّاسِ، كَمَا قَدَّمْنَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو الْوَرْدِ الْعَنْبَرِيُّ يَرْثِي مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ:
أَلَا أَنْعَى مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ نَعَاهُ الْحِلُّ لِلشَّهْرِ الْحَرَامِ
نَعَاهُ النَّاعِجَاتُ بِكُلِّ فَجٍّ خَوَاضِعَ فِي الْأَزِمَّةِ كَالسِّهَامِ
فَهَاتِيكَ النُّجُومُ وَهُنَّ خُرْسٌ يَنُحْنَ عَلَى مُعَاوِيَةَ الشَّآمِ
وَقَالَ أَيْمَنُ بْنُ خُرَيْمٍ
يَرْثِيهِ أَيْضًا:
رَمَى الْحِدْثَانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ بِمِقَدْارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضَا وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ الْبِيضَ سُودَا
فَإِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ بُكَاءَ هِنْدَ وَرَمْلَةَ إِذْ يُصَفِّقْنَ الْخُدُودَا
بَكَيْتَ بُكَاءَ مُعْوِلَةٍ قَرِيحٍ أَصَابَ الدَّهْرُ وَاحِدَهَا الْفَرِيدَا
ذِكْرُ مَنْ تَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ وَمَنْ وُلِدَ لَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ
الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ
كَانَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ
ضَعِيفَ الْعَقْلِ، وَأُمُّهُمَا فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ بْنِ عَبْدِ عَمْرِو
بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا مُنْفَرِدَةً
عَنْهَا بَعْدَهَا، وَهِيَ كَنُودُ بِنْتُ قَرَظَةَ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ
حِينَ افْتَتَحَ قُبْرُسَ، وَتَزَوَّجَ نَائِلَةَ بِنْتَ عُمَارَةَ
الْكَلْبِيَّةَ، فَأَعْجَبَتْهُ، وَقَالَ لِمَيْسُونَ
بِنْتِ بَحْدَلٍ: ادْخُلِي فَانْظُرِي
إِلَى ابْنةِ عَمِّكِ، فَدَخَلَتْ فَسَأَلَهَا عَنْهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهَا
لَكَامِلَةُ الْجَمَالِ، وَلَكِنْ رَأَيْتُ تَحْتَ سُرَّتِهَا خَالًا، وَإِنِّي
لَأُرَى هَذِهِ يُقْتَلُ زَوْجُهَا، وَيُوضَعُ رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا.
فَطَلَّقَهَا مُعَاوِيَةُ فَتَزَوُّجَهَا بَعْدَهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ
الْفِهْرِيُّ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ،
فَقُتِلَ وَوُضِعَ رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا.
وَمِنْ أَشْهَرِ أَوْلَادِهِ يَزِيدُ، وَأُمُّهُ مَيْسُونُ بِنْتُ بَحْدَلِ بْنِ
أُنَيْفِ بْنِ دُلْجَةَ بْنِ قُنَافَةَ الْكَلْبِيِّ، وَهِيَ الَّتِي دَخَلَتْ
عَلَى نَائِلَةَ، فَأَخْبَرَتْ مُعَاوِيَةَ عَنْهَا بِمَا أَخْبَرَتْهُ، وَكَانَتْ
حَازِمَةً عَظِيمَةَ الشَّأْنِ جَمَالًا وَرِيَاسَةً وَعَقْلًا وَدِينًا، دَخَلَ
عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ يَوْمًا وَمَعَهُ خَادِمٌ خَصِيٌّ، فَاسْتَتَرَتْ مِنْهُ،
وَقَالَتْ: مَا هَذَا الرَّجُلُ مَعَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ خَصِيٌّ، فَاظْهَرِي
عَلَيْهِ. فَقَالَتْ: مَا كَانَتِ الْمُثْلَةُ لِتُحِلَّ لَهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ. وَحَجَبَتْهُ عَنْهَا. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: إِنَّ
مُجَرَّدَ مُثْلَتِكَ لَهُ لَنْ تُحِلَّ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ
وَلِيَ ابْنُهَا يَزِيدُ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
أَنَّ مَيْسُونَ هَذِهِ وَلَدَتْ لِمُعَاوِيَةَ بِنْتًا أُخْرَى يُقَالُ لَهَا:
أَمَةُ رَبِّ الْمَشَارِقِ. مَاتَتْ صَغِيرَةً.
وَرَمْلَةُ، تَزَوَّجَهَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، كَانَتْ دَارُهَا
بِدِمَشْقَ عِنْدَ عَقَبَةِ السَّمَكِ تُجَاهَ زُقَاقِ الرُّمَّانِ. قَالَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، قَالَ: وَلَهَا طَاحُونٌ مَعْرُوفَةٌ إِلَى الْآنَ.
وَهِنْدُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ،
تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بِالْخَضْرَاءِ،
أَرَادَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَتَمَنَّعَتْ عَلَيْهِ، وَأَبَتْ أَشَدَّ الْإِبَاءِ،
فَضَرَبَهَا فَصَرَخَتْ، فَلَمَّا سَمِعَ الْجَوَارِيَ صَوْتَهَا صَرَخْنَ
وَعَلَتْ أَصْوَاتُهُنَّ، فَسَمِعَ مُعَاوِيَةُ، فَنَهَضَ إِلَيْهِنَّ،
فَاسْتَعْلَمَهُنَّ مَا الْخَبَرُ، فَقُلْنَ: سَمِعْنَا صَوْتَ سَيِّدَتِنَا
فَصِحْنَا. فَدَخَلَ فَإِذَا بِهَا تَبْكِي مِنْ ضَرْبِهِ، فَقَالَ لِابْنِ
عَامِرٍ: وَيْحَكَ ! مِثْلُ هَذِهِ تُضْرَبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ ؟ !
ثُمَّ قَالَ لَهُ: اخْرُجْ مِنْ هَاهُنَا. فَخَرَجَ وَخَلَا بِهَا مُعَاوِيَةُ
فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّةُ، إِنَّهُ زَوْجُكِ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكِ،
أَوَ مَا سَمِعْتِ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
مِنَ الْخَفِرَاتِ الْبِيضِ أَمَّا حَرَامُهَا فَصَعْبٌ وَأَمَّا حِلُّهَا
فَذَلُولُ
ثُمَّ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عِنْدِهَا، وَقَالَ لِزَوْجِهَا: ادْخُلْ فَقَدْ
مَهَّدْتُ لَكَ خُلُقَهَا وَوَطَّأْتُهُ، فَدَخَلَ ابْنُ عَامِرٍ، فَوَجَدَهَا
قَدْ طَابَتْ أَخْلَاقُهَا، فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى.
فَصْلٌ ( فِيمَنِ اتَّخَذَهُمْ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْحِرَاسَةِ
وَالْحِجَابَةِ وَالشُّرْطَةِ )
وَكَانَ عَلَى قَضَاءِ مُعَاوِيَةَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثُمَّ مَاتَ
فَضَالَةُ فَوَلَّى أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ.
وَكَانَ عَلَى حَرَسِهِ رَجُلٌ مِنَ
الْمَوَالِي يُقَالُ لَهُ: الْمُخْتَارُ. وَقِيلَ: مَالِكٌ. وَيُكَنَّى أَبَا
الْمُخَارِقِ، مَوْلًى لِحِمْيَرَ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ
الْحَرَسَ، وَكَانَ عَلَى حُجَّابِهِ سَعْدٌ مَوْلَاهُ، وَعَلَى الشُّرْطَةِ
قَيْسُ بْنُ حَمْزَةَ، ثُمَّ زِمْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعُذْرِيُّ، ثُمَّ الضَّحَّاكُ
بْنُ قَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِ سَرْجُونُ بْنُ مَنْصُورٍ
الرُّومِيُّ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ أَوَّلَ مَنِ اتَّخَذَ دِيوَانَ الْخَاتَمِ
وَخَزْمِ الْكُتُبِ.
فَصْلٌ ( مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ )
وَمِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
سِتِّينَ - صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ بْنِ رَحَضَةَ بْنِ الْمُؤَمَّلِ بْنِ
خُزَاعِيٍّ، أَبُو عَمْرٍو، وَأَوَّلُ مَشَاهِدِهِ الْمُرَيْسِيعُ، وَكَانَ فِي
السَّاقَةِ يَوْمَئِذٍ، وَهُوَ الَّذِي رَمَاهُ أَهْلُ الْإِفْكِ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَبَرَّأَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهَا مِمَّا قَالُوا،
وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَنَامُ نَوْمًا شَدِيدًا حَتَّى
إِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ نَائِمٌ لَا
يَسْتَيْقِظُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ ". وَقَدْ قُتِلَ صَفْوَانُ شَهِيدًا.
وَأَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
ثُوَبٍ الْخَوْلَانِيُّ الْيَمَنِيُّ
مِنْ خَوْلَانَ بِبِلَادِ الْيَمَنِ. دَعَاهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ إِلَى أَنْ
يَشْهَدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ
اللَّهِ ؟ فَقَالَ: لَا أَسْمَعُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
فَأَجَّجَ لَهُ نَارًا، وَأَلْقَاهُ فِيهَا، فَلَمْ تَضُرَّهُ، وَأَنْجَاهُ
اللَّهُ مِنَ النَّارِ، فَكَانَ يُشَبَّهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، ثُمَّ
هَاجَرَ فَوَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ،
فَقَدِمَ عَلَى الصِّدِّيقِ، فَأَجْلَسَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُمَرَ، وَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْنِي حَتَّى أَرَانِي فِي أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ
بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَكَانَتْ لَهُ
أَحْوَالٌ وَمُكَاشَفَاتٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِيهَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
إِمَارَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَمَا جَرَى فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْحَوَادِثِ
وَالْفِتَنِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، فَكَانَ يَوْمَ بُويِعَ ابْنَ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأَقَرَّ نُوَّابُ أَبِيهِ عَلَى الْأَقَالِيمِ، لَمْ
يَعْزِلْ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَهَذَا مِنْ ذَكَائِهِ.
قَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى الْكُوفِيِّ
الْأَخْبَارِيِّ: وَلِيَ يَزِيدُ فِي هِلَالِ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَأَمِيرُ
الْمَدِينَةِ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمِيرُ
الْكُوفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأَمِيرُ الْبَصْرَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ، وَأَمِيرُ مَكَّةَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَلَمْ
يَكُنْ لِيَزِيدَ هِمَّةٌ حِينَ وَلِيَ إِلَّا بَيْعَةُ النَّفَرِ الَّذِينَ
أَبَوْا عَلَى مُعَاوِيَةَ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ، فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ
الْمَدِينَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،
مِنْ يَزِيدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، أَكْرَمَهُ
اللَّهُ وَاسْتَخْلَفَهُ وَخَوَّلَهُ وَمَكَّنَ لَهُ، فَعَاشَ بِقَدَرٍ، وَمَاتَ
بِأَجَلٍ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَدْ عَاشَ مَحْمُودًا، وَمَاتَ بَرًّا تَقِيًّا،
وَالسَّلَامُ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي صَحِيفَةٍ كَأَنَّهَا أُذُنُ الْفَأْرَةِ: أَمَّا بَعْدُ،
فَخُذْ حُسَيْنًا وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ
بِالْبَيْعَةِ أَخْذًا شَدِيدًا لَيْسَتْ فِيهِ رُخْصَةٌ حَتَّى يُبَايِعُوا،
وَالسَّلَامُ. فَلَمَّا أَتَاهُ نَعْيُ مُعَاوِيَةَ فَظِعَ بِهِ وَكَبُرَ
عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى مَرْوَانَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ،
وَاسْتَشَارَهُ فِي أَمْرِ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ، فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَدْعُوَهُمْ
قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْبَيْعَةِ، فَإِنْ أَبَوْا
ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْرِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو
بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ إِلَى الْحُسَيْنِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُمَا فِي
الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمَا: أَجِيبَا الْأَمِيرَ. فَقَالَا: انْصَرِفِ، الْآنَ
نَأْتِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُمَا قَالَ الْحُسَيْنُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ:
إِنِّي أَرَى طَاغِيَتَهُمْ قَدْ هَلَكَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَأَنَا مَا
أَظُنُّ غَيْرَهُ. قَالَ: ثُمَّ نَهَضَ حُسَيْنٌ فَأَخَذَ مَعَهُ مَوَالِيَهُ،
وَجَاءَ بَابَ الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ وَحْدَهُ،
وَأَجْلَسَ مَوَالِيَهُ عَلَى الْبَابِ، وَقَالَ: إِنْ سَمِعْتُمْ أَمْرًا
يُرِيبُكُمْ فَادْخُلُوا. فَسَلَّمَ وَجَلَسَ وَمَرْوَانُ عِنْدَهُ، فَنَاوَلَهُ
الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ الْكِتَابَ، وَنَعَى إِلَيْهِ
مُعَاوِيَةَ، فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ:
رَحِمَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ، وَعَظَّمَ لَكَ الْأَجْرَ. فَدَعَاهُ الْأَمِيرُ
إِلَى الْبَيْعَةِ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: إِنَّ مِثْلِي لَا يُبَايِعُ
سِرًّا، وَمَا أَرَاكَ تَجْتَزِئُ مِنِّي بِهَذَا، وَلَكِنْ إِذَا اجْتَمَعَ
النَّاسُ دَعَوْتَنَا مَعَهُمْ، فَكَانَ أَمْرًا وَاحِدًا. فَقَالَ لَهُ
الْوَلِيدُ وَكَانَ يُحِبُّ الْعَافِيَةَ: فَانْصَرِفْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ حَتَّى
تَأْتِيَنَا فِي جَمَاعَةِ النَّاسِ. فَقَالَ مَرْوَانُ لِلْوَلِيدِ: وَاللَّهِ
لَئِنْ فَارَقَكَ وَلَمْ يُبَايِعِ السَّاعَةَ، لَيَكْثُرَنَّ الْقَتْلُ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، فَاحْبِسْهُ وَلَا تُخْرِجْهُ حَتَّى يُبَايِعَ، وَإِلَّا
ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَنَهَضَ الْحُسَيْنُ وَقَالَ: يَابْنَ الزَّرْقَاءِ، أَنْتَ
تَقْتُلُنِي ؟ ! كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَأَثِمْتَ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِهِ،
فَقَالَ مَرْوَانُ لِلْوَلِيدِ: وَاللَّهِ لَا تَرَاهُ بَعْدَهَا أَبَدًا. فَقَالَ
الْوَلِيدُ: وَاللَّهِ يَا مَرْوَانُ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا وَأَنِّي قَتَلْتُ الْحُسَيْنَ، سُبْحَانَ اللَّهِ ! أَقْتُلُ حُسَيْنًا
أَنْ قَالَ: لَا أُبَايِعُ ؟ ! وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ مَنْ يَقْتُلُ
الْحُسَيْنَ يَكُونُ خَفِيفَ الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبَعَثَ
الْوَلِيدُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ
وَمَاطَلَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَكِبَ فِي
مَوَالِيهِ وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ أَخَاهُ جَعْفَرًا، وَسَارَ إِلَى مَكَّةَ عَلَى
طَرِيقِ الْفُرْعِ، وَبَعَثَ الْوَلِيدُ خَلْفَ ابْنِ الزُّبَيْرِ الرِّجَالَ
وَالْفُرْسَانَ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى رَدِّهِ، وَقَدْ قَالَ جَعْفَرٌ
لِأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُمَا سَائِرَانِ، مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ صَبِرَةَ
الْحَنْظَلِيِّ:
وَكُلُّ بَنِي أُمٍّ سَيُمْسُونَ لَيْلَةً وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَعْقَابِهِمْ
غَيْرُ وَاحِدِ
فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَرَدْتُ بِهِ شَيْئًا يَسُوءُكَ. فَقَالَ: إِنْ كَانَ إِنَّمَا جَرَى عَلَى
لِسَانِكَ فَهُوَ أَكْرَهُ إِلَيَّ. قَالُوا: وَتَطَيَّرَ بِهِ. وَأَمَّا
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَإِنَّ الْوَلِيدَ تَشَاغَلَ عَنْهُ بِابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ كُلَّمَا بَعَثَ
إِلَيْهِ يَقُولُ: حَتَّى تَنْظُرَ
وَنَنْظُرَ. ثُمَّ جَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ، وَرَكِبَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ،
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، بَعْدَ خُرُوجِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ بِلَيْلَةٍ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ
سِوَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا أَخِي،
لَأَنْتَ أَعَزُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلِيَّ، وَإِنِّي نَاصِحٌ لَكَ ; لَا
تَدْخُلَنَّ مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْصَارِ، وَلَكِنِ اسْكُنِ الْبَوَادِيَ
وَالرِّمَالَ، وَابْعَثْ إِلَى النَّاسِ، فَإِذَا بَايَعُوكَ وَاجْتَمَعُوا
عَلَيْكَ فَادْخُلِ الْمِصْرَ، وَإِنْ أَبَيْتَ إِلَّا سُكْنَى الْمِصْرِ
فَاذْهَبْ إِلَى مَكَّةَ، فَإِنْ رَأَيْتَ مَا تُحِبُّ، وَإِلَّا تَرَفَّعْتَ
إِلَى الرِّمَالِ وَالْجِبَالِ. فَقَالَ لَهُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ
نَصَحْتَ وَأَشْفَقْتَ. وَسَارَ الْحُسَيْنُ إِلَى مَكَّةَ، فَاجْتَمَعَ هُوَ
وَابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا، وَبَعَثَ الْوَلِيدُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
فَقَالَ: بَايِعْ لِيَزِيدَ. فَقَالَ: إِذَا بَايَعَ النَّاسُ بَايَعْتُ. فَقَالَ
رَجُلٌ: إِنَّمَا تُرِيدُ أَنْ يَخْتَلِفَ النَّاسُ وَيَقْتَتِلُوا حَتَّى
يَتَفَانَوْا، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُكَ بَايَعُوكَ ! فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
لَا أُحِبُّ شَيْئًا مِمَّا قُلْتَ، وَلَكِنْ إِذَا بَايَعَ النَّاسُ فَلَمْ
يَبْقَ غَيْرِي بَايَعْتُ. قَالَ: فَتَرَكُوهُ، وَكَانُوا لَا يَتَخَوَّفُونَهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ يَكُنِ ابْنُ عُمَرَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ
نَعْيُ مُعَاوِيَةَ، وَإِنَّمَا كَانَ هُوَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ،
فَلَقِيَهُمَا وَهُمَا مُقْبِلَانِ مِنْهَا، الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ،
فَقَالَا: مَا وَرَاءَكُمَا ؟ قَالَا: مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَالْبَيْعَةُ
لِيَزِيدَ. فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ عُمَرَ: اتَّقِيَا اللَّهَ، وَلَا تُفَرِّقَا
بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدِمَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْبَيْعَةُ مِنَ الْأَمْصَارِ بَايَعَا مَعَ
النَّاسِ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُمَا قَدِمَا
مَكَّةَ
فَوَجَدَا بِهَا عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ
بْنِ الْعَاصِ، فَخَافَاهُ وَقَالَا: إِنَّا جِئْنَا عُوَّاذًا بِهَذَا الْبَيْتِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، عَزَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ
الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ ; لِتَفْرِيطِهِ،
وَأَضَافَهَا إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ نَائِبِ مَكَّةَ، فَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ فِي رَمَضَانَ - وَقِيلَ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ - وَكَانَ مُفَوَّهًا
مُتَكَبِّرًا، وَسَلَّطَ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ - وَكَانَ عَدُوًّا لِأَخِيهِ
عَبْدِ اللَّهِ - عَلَى حَرْبِهِ وَجَرَّدَهُ لَهُ، وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ
يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ لِحَرْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ أَبَا شُرَيْحٍ
الْخُزَاعِيَّ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى
مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا قَامَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ
الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ
حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ ; إِنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
" إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَإِنَّهُ
لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهَا لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ
بَعْدِي، وَلَمْ تَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ قَدْ عَادَتْ
حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ
الْغَائِبَ ". وَفِي رِوَايَةٍ: " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا: إِنَّ
اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ". فَقِيلَ لِأَبِي
شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: نَحْنُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ
يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ
عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا
فَارًّا بِخَرْبَةٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَّى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ شُرْطَةَ الْمَدِينَةِ عَمْرَو
بْنَ الزُّبَيْرِ ; فَتَتَبَّعَ أَصْحَابَ أَخِيهِ وَمَنْ يَهْوَى هَوَاهُ،
فَضَرَبَهُمْ ضَرْبًا شَدِيدًا، حَتَّى ضَرَبَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ ضَرَبَ أَخَاهُ
الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ ثُمَّ جَاءَ
الْعَزْمُ مِنْ يَزِيدَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فِي تَطَلُّبِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ وَإِنْ بَايَعَ، حَتَّى يُؤْتَى بِهِ
إِلَيَّ فِي جَامِعَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ مِنْ فِضَّةٍ تَحْتَ بُرْنُسِهِ، فَلَا
تُرَى إِلَّا أَنَّهُ يُسْمَعُ صَوْتُهَا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ مَنَعَ
الْحَارِثَ بْنَ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيَّ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَهْلِ مَكَّةَ،
وَكَانَ نَائِبَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ صَمَّمَ عَمْرٌو
عَلَى تَجْهِيزِ سَرِيَّةٍ إِلَى مَكَّةَ بِسَبَبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَاسْتَشَارَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ: مَنْ يَصْلُحُ أَنْ
نَبْعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ لِأَجْلِ قِتَالِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ
الزُّبَيْرِ: إِنَّكَ لَا تَبْعَثُ إِلَيْهِ
مَنْ هُوَ أَنَكَى لَهُ مِنِّي.
فَعَيَّنَهُ عَلَى تِلْكَ السَّرِيَّةِ، وَجَعَلَ عَلَى مَقْدُمَتِهِ أُنَيْسَ
بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا عَيَّنَهُمَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ نَفْسُهُ،
وَبَعَثَ بِذَلِكَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فِي كِتَابٍ، فَعَسْكَرَ أُنَيْسٌ
بِالْجُرْفِ، وَأَشَارَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَنْ
لَا يَغْزُوَ مَكَّةَ، وَأَنْ يَتْرُكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا، فَإِنَّهُ عَمَّا
قَلِيلٍ إِنْ لَمْ يُقْتَلْ يَمُتْ، فَقَالَ أَخُوهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ
وَاللَّهِ لَنَغْزُوَنَّهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ
مَنْ رَغِمَ. فَقَالَ مَرْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَيَسُوءُنِي. فَسَارَ
أُنَيْسٌ وَاتَّبَعَهُ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ فِي بَقِيَّةِ الْجَيْشِ،
وَكَانُوا أَلْفَيْنِ، حَتَّى نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ، وَقِيلَ: بِدَارِهِ عِنْدَ
الصَّفَا. وَنَزَلَ أُنَيْسٌ بِذِي طَوًى، فَكَانَ عَمْرُو بْنُ الزُّبَيْرِ
يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَيُصَلِّي وَرَاءَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَأَرْسَلَ عَمْرٌو إِلَى أَخِيهِ يَقُولُ لَهُ: بَرَّ يَمِينَ
الْخَلِيفَةِ، وَأْتِهِ وَفِي عُنُقِكَ جَامِعَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَلَا
تَدَعِ النَّاسَ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَاتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّكَ فِي
بَلَدٍ حَرَامٍ. فَأَرْسَلَ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ لِأَخِيهِ: مَوْعِدُكَ
الْمَسْجِدُ. وَبَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي سَرِيَّةٍ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ أُنَيْسِ بْنِ
عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، فَهَزَمُوا أُنَيْسًا هَزِيمَةً قَبِيحَةً، وَتَفَرَّقَ
عَنْ عَمْرِو بْنِ الزُّبَيْرِ أَصْحَابُهُ، وَهَرَبَ عَمْرٌو إِلَى دَارِ ابْنِ
عَلْقَمَةَ، فَأَجَارَهُ أَخُوهُ عُبَيْدَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَامَهُ أَخُوهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: تُجِيرُ مَنْ فِي عُنُقِهِ حُقُوقُ
النَّاسِ ! ثُمَّ ضَرَبَهُ بِكُلِّ مَنْ ضَرَبَهُ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا
الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَابْنَهُ ; فَإِنَّهُمَا أَبَيَا أَنْ
يَسْتَقِيدَا مِنْ عَمْرٍو، وَسَجَنَهُ
وَمَعَهُ عَارِمٌ فَسُمِّيَ سِجْنَ عَارِمٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ الزُّبَيْرِ
مَاتَ تَحْتَ السِّيَاطِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
وَسَبَبُ خُرُوجِهِ بِأَهْلِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ فِي طَلَبِ
الْإِمَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَلْنَبْدَأْ قَبْلَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ تَرْجَمَتِهِ، ثُمَّ نُتْبِعُ
الْجَمِيعَ بِذِكْرِ مَنَاقِبِهِ وَفَضَائِلِهِ.
هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ
هَاشِمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، السِّبْطُ الشَّهِيدُ
بِكَرْبَلَاءَ، ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَرَيْحَانَتُهُ مِنَ الدُّنْيَا، وُلِدَ بَعْدَ أَخِيهِ
الْحَسَنِ، وَكَانَ مَوْلِدُ الْحَسَنِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ وَاحِدٌ وَمُدَّةُ
الْحَمْلِ. وَوُلِدَ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: وُلِدَ الْحُسَيْنُ
لِسِتِّ سِنِينَ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ مِنَ التَّارِيخِ، وَقُتِلَ يَوْمَ
الْجُمُعَةَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ،
وَلَهُ أَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَنِصْفٌ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَنَّكَهُ،
وَتَفَلَ فِي فِيهِ، وَدَعَا لَهُ، وَسَمَّاهُ حُسَيْنًا، وَقَدْ كَانَ سَمَّاهُ
أَبُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ حَرْبًا، وَقِيلَ: جَعْفَرًا. وَقِيلَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ
يَوْمَ سَابِعِهِ وَعَقَّ عَنْهُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ
هَانِئٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: الْحَسَنُ أَشْبَهُ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ الصَّدْرِ إِلَى
الرَّأْسِ، وَالْحُسَيْنُ أَشْبَهُ بِهِ مَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ
الْحِزَامِيُ قَالَ: كَانَ وَجْهُ الْحَسَنِ يُشْبِهُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ جَسَدُ الْحُسَيْنِ يُشْبِهُ جَسَدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ
وَأُخْتُهُ حَفْصَةُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، فَجِيءَ
بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِقَضِيبٍ فِي أَنْفِهِ وَيَقُولُ: مَا
رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا حُسْنًا. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْبَهِهِمْ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: قُلْتُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ: رَأَيْتَ
الْحُسَيْنَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَسْوَدُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ إِلَّا شَعَرَاتٍ
هَاهُنَا فِي مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ، فَلَا أَدْرِي أَخَضَبَ وَتَرَكَ ذَلِكَ
الْمَكَانَ تَشَبُّهًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ
لَمْ يَكُنْ شَابَ مِنْهُ غَيْرُ ذَلِكَ ؟
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْتُ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ يَصْبُغُ بِالْوَسْمَةِ، أَمَّا هُوَ فَكَانَ ابْنَ
سِتِّينَ، وَكَانَ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ شَدِيدَيِ السَّوَادِ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ، أَنَّ
فَاطِمَةَ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ أَنْ يَنْحَلَ وَلَدَيْهَا شَيْئًا، فَقَالَ: " أَمَّا الْحَسَنُ
فَلَهُ هَيْبَتِي وَسُؤْدُدِي، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ فَلَهُ جُرْأَتِي وُجُودِي
". فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ
أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ
الْمُعْتَبَرَةِ، وَقَدْ أَدْرَكَ الْحُسَيْنُ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ سِنِينَ أَوْ نَحْوَهَا، وَرَوَى عَنْهُ
أَحَادِيثَ.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: لَهُ رُؤْيَةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ
فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ. وَهَذَا غَرِيبٌ،
فَلَأَنْ يَقُولَ فِي الْحُسَيْنِ: إِنَّهُ تَابِعِيٌّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَسَنَذْكُرُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُكْرِمُهُمَا بِهِ، وَمَا كَانَ يُظْهِرُ مِنْ مَحَبَّتِهِمَا وَالْحُنُوِّ
عَلَيْهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحُسَيْنَ عَاصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحِبَهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا، ثُمَّ كَانَ الصِّدِّيقُ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ،
وَكَذَلِكَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَصَحِبَ أَبَاهُ وَرَوَى عَنْهُ، وَكَانَ مَعَهُ
فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا ; فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا
مُوَقَّرًا، وَلَمْ يَزَلْ فِي طَاعَةِ أَبِيهِ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا آلَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَى أَخِيهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَالِحَ مُعَاوِيَةَ شَقَّ ذَلِكَ
عَلَيْهِ، وَلَمْ يُسَدِّدْ رَأْيَ أَخِيهِ فِي ذَلِكَ، بَلْ حَثَّهُ عَلَى
قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ
أَسْجُنَكَ فِي بَيْتٍ، وَأُطْبِقَ عَلَيْكَ بَابَهُ حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ هَذَا
الشَّأْنِ، ثُمَّ أُخْرِجَكَ. فَلَمَّا رَأَى الْحُسَيْنُ ذَلِكَ سَكَتَ
وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمُعَاوِيَةَ كَانَ الْحُسَيْنُ
يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ مَعَ أَخِيهِ الْحَسَنِ، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُكْرِمُهُمَا
إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيَقُولُ لَهُمَا: مَرْحَبًا وَأَهْلًا. وَيُعْطِيهِمَا
عَطَاءً جَزِيلًا، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَتَيْ
أَلْفٍ، وَقَالَ: خُذَاهَا وَأَنَا ابْنُ هِنْدَ، وَاللَّهِ لَا يُعْطِيكُمَاهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا أَحَدٌ بَعْدِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَنْ تُعْطِيَ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ قَبْلَكَ وَلَا بَعْدَكَ رَجُلَيْنِ أَفْضَلَ مِنَّا. وَلِمَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ كَانَ الْحُسَيْنُ يَفِدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ فَيُعْطِيهِ وَيُكْرِمُهُ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ غَزَوُا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَعَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ يَزِيدَ، فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ. وَلَمَّا أَخُذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ سَنَةَ سِتِّينَ وَبُويِعَ لِيَزِيدَ، بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَصَمَّمَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَخَرَجَا مِنَ الْمَدِينَةِ فَارِّينَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا، فَعَكَفَ النَّاسُ عَلَى الْحُسَيْنِ يَفِدُونَ إِلَيْهِ وَيَقْدَمُونَ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسُونَ حَوَالَيْهِ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ، حِينَ سَمِعُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ وَخِلَافَةِ يَزِيدَ، وَأَمَّا ابْنُ الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ لَزِمَ مُصَلَّاهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَجَعَلَ يَتَرَدَّدُ فِي غُبُونِ ذَلِكَ إِلَى الْحُسَيْنِ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي نَفْسِهِ مَعَ وُجُودِ الْحُسَيْنِ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ تَعْظِيمِ النَّاسِ لَهُ وَتَقْدِيمِهِمْ إِيَّاهُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَتِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثِ إِلَى مَكَّةَ بِسَبَبِهِ، وَلَكِنْ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ آنِفًا، فَانْقَشَعَتِ السَّرَايَا عَنْ مَكَّةَ مَفْلُولِينَ، وَانْتَصَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مَنْ أَرَادَ هَلَاكَهُ مِنَ الْيَزِيدِيِّينَ، وَضَرَبَ أَخَاهُ عَمْرًا وَسَجَنَهُ، وَاقْتَصَّ مِنْهُ وَأَهَانَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُ ابْنِ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ذَلِكَ بِبِلَادِ الْحِجَازِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ وَبَعُدَ صِيتُهُ،
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَيْسَ هُوَ
مُعَظَّمًا عِنْدَ النَّاسِ مِثْلَ الْحُسَيْنِ، بَلِ النَّاسُ إِنَّمَا
مَيْلُهُمْ إِلَى الْحُسَيْنِ، لِأَنَّهُ السَّيِّدُ الْكَبِيرُ، وَابْنُ بِنْتِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ يُسَامِيهِ وَلَا يُسَاوِيهِ، وَلَكِنَّ الدَّوْلَةَ
الْيَزِيدِيَّةَ كُلَّهَا تُنَاوِئُهُ.
وَقَدْ كَثُرَ وُرُودُ الْكُتُبِ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ يَدْعُونَهُ
إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُمْ مَوْتُ مُعَاوِيَةَ وَوِلَايَةُ يَزِيدَ،
وَمَصِيرُ الْحُسَيْنِ إِلَى مَكَّةَ فِرَارًا مِنْ بَيْعَةِ يَزِيدَ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبْعٍ الْهَمْدَانِيُّ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، مَعَهُمَا كِتَابٌ فِيهِ السَّلَامُ وَالتَّهْنِئَةُ
بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، فَقَدِمَا عَلَى الْحُسَيْنِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعَثُوا بَعْدَهُمَا نَفَرًا ; مِنْهُمْ
قَيْسُ بْنُ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْكَوَّاءِ الْأَرْحَبِيُّ، وَعُمَارَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّلُولِيُّ،
وَمَعَهُمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ كِتَابًا إِلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ بَعَثُوا
هَانِئَ بْنَ هَانِئٍ السَّبِيعِيَّ وَسَعِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيَّ،
وَمَعَهُمَا كِتَابٌ فِيهِ الِاسْتِعْجَالُ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَحَجَّارُ بْنُ أَبْجَرَ، وَيَزِيدُ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ رُوَيْمٍ،
وَعَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَعَمْرُو بْنُ حَجَّاجٍ الزُّبَيْدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَقَدِ اخْضَرَّ الْجَنَابُ وَأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَطَمَّتِ الْجِمَامُ، فَإِذَا شِئْتَ فَاقْدَمْ عَلَى جُنْدٍ لَكَ مُجَنَّدٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. فَاجْتَمَعَتِ الرُّسُلُ كُلُّهَا بِكُتُبِهَا عِنْدَ الْحُسَيْنِ، وَجَعَلُوا يَسْتَحِثُّونَهُ وَيَسْتَقْدِمُونَهُ عَلَيْهِمْ، لِيُبَايِعُوهُ عِوَضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ; وَيَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَوْتِ مُعَاوِيَةَ، وَيَنَالُونَ مِنْهُ وَيَتَكَلَّمُونَ فِي دَوْلَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوا أَحَدًا إِلَى الْآنَ، وَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَ قُدُومَكَ إِلَيْهِمْ لِيُقَدِّمُوكَ عَلَيْهِمْ. فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْعِرَاقِ، لِيَكْشِفَ لَهُ حَقِيقَةَ هَذَا الْأَمْرِ وَالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَأَمْرًا حَازِمًا مُحْكَمًا، بَعَثَ إِلَيْهِ لِيَرْكَبَ فِي أَهْلِهِ وَذَوِيهِ، وَيَأْتِيَ الْكُوفَةَ لِيَظْفَرَ بِمَنْ يُعَادِيهِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا سَارَ مُسْلِمٌ مِنْ مَكَّةَ اجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا دَلِيلَيْنِ، فَسَارَا بِهِ عَلَى بَرَارِيَّ مَهْجُورَةِ الْمَسَالِكِ، فَكَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مِنْهُمَا أَوَّلَ هَالِكٍ، وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، وَقَدْ أَضَلُّوا الطَّرِيقَ، فَهَلَكَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَضِيقُ. مِنْ بَطْنِ خُبَيْتٍ، فَتَطَيَّرَ بِهِ مُسْلِمُ بْنُ
عَقِيلٍ، فَتَلَبَّثَ مُسْلِمٌ عَلَى مَا هُنَالِكَ، وَمَاتَ الدَّلِيلُ الْآخَرُ، فَكَتَبَ إِلَى الْحُسَيْنِ يَسْتَشِيرُهُ فِي أَمْرِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَعْزِمُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْعِرَاقَ، وَأَنْ يَجْتَمِعَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ ; لِيَسْتَعْلِمَ أَمْرَهُمْ وَيَسْتَخْبِرَ خَبَرَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ الْكُوفَةَ نَزَلَ عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَ فِي دَارِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَتَسَامَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِقُدُومِهِ فَجَاءُوا إِلَيْهِ فَبَايَعُوهُ عَلَى إِمْرَةِ الْحُسَيْنِ، وَحَلَفُوا لَهُ لَيَنْصُرُنَّهُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَى بَيْعَتِهِ مِنْ أَهْلِهَا اثَنَا عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ تَكَاثَرُوا حَتَّى بَلَغُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفًا، فَكَتَبَ مُسْلِمٌ إِلَى الْحُسَيْنِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَمَهَّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ وَالْأُمُورُ، فَتَجَهَّزَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدًا الْكُوفَةَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَانْتَشَرَ خَبَرُهُمْ حَتَّى بَلَغَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، أَخْبَرَهُ رَجُلٌ بِذَلِكَ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ عَنْ ذَلِكَ صَفْحًا وَلَا يَعْبَأُ بِهِ وَلَكِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتْنَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِائْتِلَافِ وَالسُّنَّةِ، وَقَالَ: إِنِّي لَا أُقَاتِلُ مَنْ لَا يُقَاتِلُنِي، وَلَا أَثِبُ عَلَى مَنْ لَا يَثِبُ عَلِيَّ، وَلَا آخُذُكُمْ بِالظِّنَّةِ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَئِنْ فَارَقْتُمْ إِمَامَكُمْ وَنَكَثْتُمْ بَيْعَتَهُ، لَأُقَاتِلَنَّكُمْ مَا دَامَ فِي يَدِي مِنْ سَيْفِي قَائِمَتُهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَضْرَمِيُّ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِالْغَشْمِ، وَإِنَّ الَّذِي سَلَكْتَهُ أَيُّهَا الْأَمِيرُ مَسْلَكُ الْمُسْتَضْعَفِينَ. فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: لِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْأَعَزِّينَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. ثُمَّ نَزَلَ،
فَكَتَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى
يَزِيدَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى يَزِيدَ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ
وَعُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَبَعَثَ يَزِيدُ، فَعَزَلَ
النُّعْمَانَ عَنِ الْكُوفَةِ وَضَمَّهَا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ
مَعَ الْبَصْرَةِ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ سَرْجُونَ مَوْلَى يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ وَكَانَ يَزِيدُ يَسْتَشِيرُهُ، فَقَالَ سَرْجُونُ: أَكُنْتَ قَابِلًا
مِنْ مُعَاوِيَةَ مَا أَشَارَ بِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَاقْبَلْ مِنِّي، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْكُوفَةِ إِلَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ، فَوَلِّهِ إِيَّاهَا، وَكَانَ يَزِيدُ يُبْغِضُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ، وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنِ الْبَصْرَةِ فَوَلَّاهُ
الْبَصْرَةَ وَالْكُوفَةَ مَعًا لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِ وَبِغَيْرِهِ.
ثُمَّ كَتَبَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ: إِذَا قَدِمْتَ الْكُوفَةَ فَتَطَلَّبْ
مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فَإِنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ أَوِ انْفِهِ.
وَبَعَثَ الْكِتَابَ مَعَ الْعَهْدِ مَعَ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرٍو الْبَاهِلِيِّ،
فَسَارَ ابْنُ زِيَادٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
دَخَلَهَا مُتَلَثِّمًا بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَأٍ
مِنَ النَّاسِ إِلَّا قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَمْ. فَيَقُولُونَ: وَعَلَيْكُمُ
السَّلَامُ، مَرْحَبًا يَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ. يَظُنُّونَ أَنَّهُ الْحُسَيْنُ،
وَقَدْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ قُدُومَهُ، وَتَكَاثَرَ النَّاسُ عَلَيْهِ،
وَدَخَلَهَا فِي سَبْعَةَ عَشَرَ رَاكِبًا، فَقَالَ لَهُمْ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو
الَّذِي مِنْ جِهَةِ يَزِيدَ: تَأَخَّرُوا، هَذَا الْأَمِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ فَلَمَّا عَلِمُوا ذَلِكَ عَلَتْهُمْ كَآبَةٌ وَحُزْنٌ شَدِيدٌ،
فَتَحَقَّقَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْخَبَرَ، وَنَزَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ مِنَ
الْكُوفَةِ.
وَلَمَّا انْتَهَى ابْنُ زِيَادٍ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ وَهُوَ مُتَلَثِّمٌ
ظَنَّهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْحُسَيْنَ قَدْ قَدِمَ، فَأَغْلَقَ بَابَ
الْقَصْرِ، وَقَالَ: مَا أَنَا بِمُسْلِمٍ إِلَيْكَ أَمَانَتِي. فَقَالَ لَهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ: افْتَحْ لَا فَتَحْتَ. فَفَتَحَ وَهُوَ يَظُنُّهُ الْحُسَيْنَ،
فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ عُبَيْدُ اللَّهِ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، فَدَخَلَ
عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى
أَنِ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ.
فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَصْلَحَهُ اللَّهُ،
وَلَّانِي مِصْرَكُمْ وَثَغْرَكُمْ وَفَيْئَكُمْ، وَأَمَرَنِي بِإِنْصَافِ
مَظْلُومِكُمْ، وَإِعْطَاءِ مَحْرُومِكُمْ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى سَامِعِكُمْ
وَمُطِيعِكُمْ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى مُرِيبِكُمْ وَعَاصِيكُمْ، وَأَنَا
مُمْتَثِلٌ فِيكُمْ أَمْرَهُ وَمُنَفِّذٌ عَهْدَهُ. ثُمَّ نَزَلَ وَأَمَرَ
الْعُرَفَاءَ أَنْ يَكْتُبُوا مَنْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ وَأَهْلِ
الرِّيَبِ وَالْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ، وَأَيُّمَا عَرِيفٍ لَمْ يُطْلِعْنَا عَلَى
ذَلِكَ صُلِبَ وَنُفِيَ وَأُسْقِطَتْ عِرَافَتُهُ مِنَ الدِّيوَانِ.
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ أَرْسَلَ مَوْلًى لِبَنِي تَمِيمٍ - وَقِيلَ: كَانَ
مَوْلًى لَهُ اسْمُهُ مَعْقِلٌ - وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي صُورَةِ
قَاصِدٍ مِنْ بِلَادِ حِمْصَ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِهَذِهِ الْبَيْعَةِ،
فَذَهَبَ ذَلِكَ الْمَوْلَى، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى
الدَّارِ الَّتِي يُبَايِعُونَ بِهَامُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، حَتَّى دَخَلَهَا،
وَهِيَ دَارُ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الَّتِي تَحَوَّلَ إِلَيْهَا مِنَ الدَّارِ
الْأُولَى، فَبَايَعَ وَأَدْخَلُوهُ عَلَى مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَلَزِمَهُمْ
أَيَّامًا حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى جَلِيَّةِ أَمْرِهِمْ، فَدَفَعَ الْمَالَ إِلَى
أَبِي ثُمَامَةَ الصَّائِدِيِّ بِأَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَكَانَ هُوَ
الَّذِي يَقْبِضُ مَا يُؤْتَى بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَيَشْتَرِي السِّلَاحَ
وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ - فَرَجَعَ ذَلِكَ الْمَوْلَى، وَأَعْلَمَ
عُبَيْدَ اللَّهِ بِالدَّارِ وَصَاحِبِهَا، وَقَدْ تَحَوَّلَ مُسْلِمُ بْنُ
عَقِيلٍ مِنْ دَارِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الْمُرَادِيِّ، إِلَى دَارِ شَرِيكِ
بْنِ الْأَعْوَرِ،
وَكَانَ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَكَابِرِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ يُرِيدُ عِيَادَتَهُ، فَبَعَثَ إِلَى هَانِئٍ يَقُولُ لَهُ: ابْعَثْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ حَتَّى يَكُونَ فِي دَارِي لِيَقْتُلَ عُبَيْدَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ يَعُودُنِي. فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: كُنْ أَنْتَ فِي الْخِبَاءِ، فَإِذَا جَلَسَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَإِنِّي أَطْلُبُ الْمَاءَ، وَهِيَ إِشَارَتِي إِلَيْكَ، فَاخْرُجْ فَاقْتُلْهُ. فَلَمَّا جَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ جَلَسَ عَلَى فِرَاشِ شَرِيكٍ وَعِنْدَهُ هَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، وَقَامَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ: مِهْرَانُ. فَتَحَدَّثَ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ شَرِيكٌ: اسْقُونِي مَاءً. فَتَجَبَّنَ مُسْلِمٌ عَنْ قَتْلِهِ، وَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ، فَوَجَدَتْ مُسْلِمًا فِي الْخِبَاءِ فَاسْتَحْيَتْ وَرَجَعَتْ. قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: اسْقُونِي وَلَوْ كَانَ فِيهِ ذَهَابُ نَفْسِي، أَتَحْمُونَنِي مِنَ الْمَاءِ ؟ فَفَهِمَمِهْرَانُ الْغَدْرَ، فَغَمَزَ مَوْلَاهُ، فَنَهَضَ سَرِيعًا وَخَرَجَ، فَقَالَ شَرِيكٌ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ إِلَيْكَ. فَقَالَ: إِنِّي سَأَعُودُ إِلَيْكَ. فَخَرَجَ بِهِ مَوْلَاهُ، فَأَذْهَبَهُ وَجَعَلَ يَطْرُدُ بِهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْقَوْمَ أَرَادُوا قَتْلَكَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنِّي بِهِمْ لَرَفِيقٌ، فَمَا بَالُهُمْ ؟ ! وَقَالَ شَرِيكٌ لِمُسْلِمٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَخْرُجَ فَتَقْتُلَهُ ؟ قَالَ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ". وَكَرِهْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ فِي بَيْتِكَ. فَقَالَ: أَمَا لَوْ قَتَلْتَهُ لَجَلَسْتَ فِي الْقَصْرِ لَمْ يَسْتَعِدَّ مِنْهُ أَحَدٌ وَلَتُكْفَيَنَّ أَمْرَ الْبَصْرَةِ، وَلَوْ قَتَلْتَهُ لَقَتَلْتَ ظَالِمًا فَاجِرًا. وَمَاتَ شَرِيكٌ بَعْدَ ثَلَاثٍ.
وَكَانَ هَانِئٌ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ
الْكِبَارِ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ مُنْذُ قَدِمَ وَتَمَارَضَ،
فَذَكَرَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَقَالَ: مَا بَالُ هَانِئٍ لَمْ يَأْتِنِي مَعَ الْأُمَرَاءِ
؟ فَقَالُوا: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّهُ يَشْتَكِي. فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي
أَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَادَهُ قَبْلَ شَرِيكِ بْنِ الْأَعْوَرِ وَمُسْلِمُ
بْنُ عَقِيلٍ عِنْدَهُ، وَقَدْ هَمُّوا بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ هَانِئٌ
لِكَوْنِهِ فِي دَارِهِ، فَجَاءَ الْأُمَرَاءُ إِلَى هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ،
فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ،
فَالْتَفَتَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الْقَاضِي شُرَيْحٍ، فَقَالَ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ
الشَّاعِرِ:
أُرِيدُ حَيَاتَهُ وَيُرِيدُ قَتْلِي عَذِيرُكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ
فَلَمَّا سَلَّمَ هَانِئٌ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: يَا هَانِئُ، أَيْنَ
مُسْلِمُ بْنَ عَقِيلٍ ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَامَ ذَلِكَ الْمَوْلَى
التَّمِيمِيُّ - الَّذِي دَخَلَ دَارَ هَانِئٍ فِي صُورَةِ قَاصِدٍ مِنْ حِمْصَ،
فَبَايَعَ فِي دَارِهِ، وَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ بِحَضْرَةِ هَانِئٍ إِلَى مُسْلِمٍ
- فَقَالَ: أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا رَآهُ هَانِئٌ قُطِعَ بِهِ
وَأُسْقِطَ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، وَاللَّهِ مَا
دَعَوْتُهُ إِلَى مَنْزِلِي، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فَطَرَحَ نَفْسَهُ عَلَيَّ.
فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأْتِنِي بِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ تَحْتَ
قَدَمَيَّ مَا رَفَعْتُهُمَا عَنْهُ. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي. فَأَدْنَوْهُ
فَضَرَبَهُ بِحَرْبَةٍ عَلَى وَجْهِهِ، فَشَجَّهُ عَلَى حَاجِبِهِ، وَكَسَرَ
أَنْفَهُ، وَتَنَاوَلَ هَانِئٌ سَيْفَ شُرْطِيٍّ لِيَسُلَّهُ، فَدُفِعَ عَنْ
ذَلِكَ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ لِي دَمَكَ ; لَأَنَّكَ
حَرُورِيٌّ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَحَبَسَهُ فِي جَانِبِ الدَّارِ، وَجَاءَ
قَوْمُهُ مِنْ بَنِي
مَذْحِجٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْحَجَّاجِ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ الْقَصْرِ، يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَسَمِعَ عُبَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ جَلَبَةً، فَقَالَ لِشُرَيْحٍ الْقَاضِي وَهُوَ عِنْدَهُ: اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ الْأَمِيرَ لَمْ يَحْبِسْهُ إِلَّا لَيَسْأَلَهُ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ صَاحِبَكُمْ حَيٌّ، وَقَدْ ضَرَبَهُ سُلْطَانُنَا ضَرْبًا لَمْ يَبْلُغْ نَفْسَهُ، فَانْصَرِفُوا وَلَا تُحِلُّوا بِأَنْفُسِكُمْ وَلَا بِصَاحِبِكُمْ. فَتَفَرَّقُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَسَمِعَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ الْخَبَرَ، فَرَكِبَ وَنَادَى بِشِعَارِهِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَمَعَهُ رَايَةٌ خَضْرَاءُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ بِرَايَةٍ حَمْرَاءَ، فَرَتَّبَهُمْ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً، وَسَارَ هُوَ فِي الْقَلْبِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي أَمْرِ هَانِئٍ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَأَشْرَافُ النَّاسِ وَأُمَرَاؤُهُمْ تَحْتَ مِنْبَرِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتِ النَّظَّارَةُ يَقُولُونَ: جَاءَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ. فَبَادَرَ عُبَيْدُ اللَّهِ فَدَخَلَ الْقَصْرَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا انْتَهَى مُسْلِمٌ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ وَقَفَ بِجَيْشِهِ هُنَاكَ، فَأَشْرَفَ أُمَرَاءُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي الْقَصْرِ، فَأَشَارُوا إِلَى قَوْمِهِمُ الَّذِينَ مَعَ مُسْلِمٍ بِالِانْصِرَافِ وَتَهَدَّدُوهُمْ وَوَعَدُوهُمْ وَتَوَعَّدُوهُمْ، وَأَخْرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا فِي الْكُوفَةِ يُخَذِّلُونَ النَّاسَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تَجِيءُ إِلَى ابْنِهَا وَأَخِيهَا فَتَقُولُ: ارْجِعِ، النَّاسُ يَكْفُونَكَ. وَيَقُولُ الرَّجُلُ لَابْنِهِ وَأَخِيهِ: كَأَنَّكَ غَدًا بِجُنُودِ الشَّامِ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَمَاذَا تَصْنَعُ مَعَهُمْ ؟ فَتَخَاذَلَ النَّاسُ وَقَصَّرُوا وَتَصَرَّمُوا وَانْصَرَفُوا عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ فَمَا أَمْسَى إِلَّا وَهُوَ فِي
خَمْسِمِائَةِ نَفْسٍ، ثُمَّ بَقِيَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا ثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وَقَصَدَ أَبْوَابَ كِنْدَةَ، فَخَرَجَ مِنْهَا فِي عَشَرَةٍ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَبَقِيَ وَحْدَهُ، لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَا مَنْ يُوَاسِيهِ بْنفْسِهِ، وَلَا مَنْ يَأْوِيهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَذَهَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وَاخْتَلَطَ الظَّلَامُ وَهُوَ وَحْدَهُ يَتَرَدَّدُ فِي الطَّرِيقِ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَأَتَى بَابًا فَنَزَلَ عِنْدَهُ وَطَرَقَهُ، فَخَرَجَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: طَوْعَةُ - كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَدْ كَانَ لَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ يُقَالُ لَهُ: بِلَالُ بْنُ أُسَيْدٍ. خَرَجَ مَعَ النَّاسِ، وَأُمُّهُ قَائِمَةٌ بِالْبَابِ تَنْتَظِرُهُ - فَقَالَ لَهَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ: اسْقِنِي مَاءً. فَسَقَتْهُ، ثُمَّ دَخَلَتْ وَخَرَجَتْ فَوَجَدَتْهُ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَشْرَبْ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَاذْهَبْ إِلَى أَهْلِكَ. فَسَكَتَ، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَهُوَ سَاكِتٌ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ ! قُمْ إِلَى أَهْلِكَ، عَافَاكَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ الْجُلُوسُ عَلَى بَابِي، وَلَا أُحِلُّهُ لَكَ. فَقَامَ فَقَالَ: يَا أَمَةَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي فِي هَذَا الْبَلَدِ مَنْزِلٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، فَهَلْ لَكِ إِلَى أَجْرٍ وَمَعْرُوفٍ وَفِعْلٍ نُكَافِئُكِ بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ، كَذَّبَنِي هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ وَغَرُّونِي. فَقَالَتْ: أَنْتَ مُسْلِمٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتِ: ادْخُلْ. فَأَدْخَلَتْهُ بَيْتًا مِنْ دَارِهَا غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، وَفَرَشَتْ لَهُ، وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ الْعَشَاءَ فَلَمْ يَتَعَشَّ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ جَاءَ ابْنُهَا فَرَآهَا تُكْثِرُ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ، فَسَأَلَهَا عَنْ شَأْنِهَا فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، الْهُ عَنْ هَذَا. فَأَلَحَّ عَلَيْهَا، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحَدِّثَ أَحَدًا، فَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَ مُسْلِمٍ، فَاضْطَجَعَ وَسَكَتَ إِلَى الصَّبَاحِ.
وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ
فَإِنَّهُ نَزَلَ مِنَ الْقَصْرِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ
بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَصَلَّى بِهِمُ الْعِشَاءَ فِي الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ، ثُمَّ خَطَبَهُمْ وَطَلَبَ مِنْهُمْ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، وَحَثَّ
عَلَى طَلَبِهِ، وَمِنْ وُجِدَ عِنْدِهِ وَلَمْ يُعْلِمْ بِهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ،
وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَلَهُ دِيَتُهُ، وَطَلَبَ الشُّرَطَ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى
تَطَلُّبِهِ وَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ابْنُ تِلْكَ
الْعَجُوزِ ذَهَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ،
فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ فِي دَارِهِمْ، فَجَاءَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ، فَسَارَّ أَبَاهُ بِذَلِكَ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ
ابْنُ زِيَادٍ: مَا سَارَّكَ بِهِ ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَّ مُسْلِمًا فِي
بَعْضِ دُورِنَا. فَنَخَسَ بِقَضِيبٍ فِي جَنْبِهِ، وَقَالَ: قُمْ فَأْتِنِي بِهِ
السَّاعَةَ.
وَبَعَثَ ابْنُ زِيَادٍ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيَّ - وَكَانَ صَاحِبَ
شُرْطَتِهِ - وَمَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ فِي
سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ فَارِسًا، فَلَمْ يَشْعُرْ مُسْلِمٌ إِلَّا وَقَدْ
أُحِيطَ بِالدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ
بِالسَّيْفِ فَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الدَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأُصِيبَتْ شَفَتُهُ
الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، ثُمَّ جَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ
وَيُلْهِبُونَ النَّارَ فِي أَطْنَانِ الْقَصَبِ وَيُلْقُونَهَا عَلَيْهِ، فَضَاقَ
بِهِمْ ذَرْعًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَهُمْ، فَأَعْطَاهُ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَمَانَ، فَأَمْكَنَهُ مِنْ يَدِهِ، وَجَاءُوا بِبَغْلَةٍ،
فَأَرْكَبُوهُ عَلَيْهَا، وَسَلَبُوا مِنْهُ سَيْفَهُ، فَلَمْ يَبْقَ يَمْلِكُ
مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا، فَبَكَى عِنْدَ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ،
فَيَئِسَ مِنْ نَفْسِهِ، وَقَالَ: إِنَّا لَلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَقَالَ
لَهُ بَعْضُ مَنْ حَوْلَهُ: إِنَّ مَنْ
يَطْلُبُ مِثْلَ الَّذِي تَطْلُبُ لَا يَبْكِي إِذَا نَزَلَ بِهِ هَذَا. فَقَالَ:
أَمَا وَاللَّهِ لَسْتُ أَبْكِي عَلَى نَفْسِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَى
الْحُسَيْنِ وَآلِ الْحُسَيْنِ، إِنَّهُ قَدْ خَرَجَ إِلَيْكُمُ الْيَوْمَ أَوْ
غَدًا مِنْ مَكَّةَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَقَالَ:
إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ عَلَى لَسَانِي تَأْمُرُهُ
بِالرُّجُوعِ فَافْعَلْ. فَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْحُسَيْنِ
يَأْمُرُهُ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يُصَدِّقِ الرَّسُولَ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: كُلُّ
مَا حُمَّ وَاقِعٌ.
قَالُوا: وَلَمَّا انْتَهَى مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ إِلَى بَابِ الْقَصْرِ إِذَا
عَلَى بَابِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ
يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونَهُ، يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُمْ عَلَى ابْنِ
زِيَادٍ، وَمُسْلِمٌ مُخَضَّبٌ بِالدِّمَاءِ وَجْهُهُ وَثِيَابُهُ، وَهُوَ
مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحِ، فِي غَايَةِ الْعَطَشِ، وَإِذَا قُلَّةٌ مِنْ مَاءٍ
بَارِدٍ هُنَالِكَ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا لَيَشْرَبَ مِنْهَا، فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ مِنْ أُولَئِكَ: وَاللَّهِ لَا تَشْرَبُ مِنْهَا حَتَّى تَشْرَبَ مِنَ
الْحَمِيمِ. فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا ابْنَ بَاهِلَةَ ! أَنْتَ أَوْلَى
بِالْحَمِيمِ وَالْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ مِنِّي. ثُمَّ جَلَسَ مُتَسَانِدًا
إِلَى الْحَائِطِ مِنَ التَّعَبِ وَالْكَلَالِ وَالْعَطَشِ، فَبَعَثَ عُمَارَةُ
بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مَوْلًى لَهُ إِلَى دَارِهِ، فَجَاءَ بِقُلَّةٍ
عَلَيْهَا مِنْدِيلٌ وَمَعَهُ قَدَحٌ، فَجَعَلَ يُفْرِغُ لَهُ فِي الْقَدَحِ،
وَيُعْطِيهِ فَيَشْرَبُ، فَلَا يَسْتَطِيعُ مِنْ كَثْرَةِ الدِّمَاءِ الَّتِي
تَعْلُو عَلَى الْمَاءِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَلَمَّا شَرِبَ سَقَطَتْ
ثَنْيَتَاهُ مَعَ الْمَاءِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لَلَّهِ، لَقَدْ كَانَ لِي مِنَ
الرِّزْقِ الْمَقْسُومِ شَرْبَةُ مَاءٍ.
ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ لَمْ
يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ
الْحَرَسِيُّ: أَلَا تُسَلِّمُ عَلَى الْأَمِيرِ ؟ ! فَقَالَ: لَا، إِنْ كَانَ يُرِيدُ قَتْلِي فَلَا حَاجَةَ لِي بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ قَتْلِي فَسَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ كَثِيرًا. فَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِيهِ يَا ابْنَ عَقِيلٍ، أَتَيْتَ النَّاسَ وَأَمْرُهُمْ جَمِيعٌ وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ ; لِتُشَتِّتَهُمْ، وَتُفَرِّقَ كَلِمَتَهُمْ، وَتَحْمِلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ؟ ! قَالَ: كَلَّا لَسْتُ لَذَلِكَ أَتَيْتُ، وَلَكِنْ أَهْلُ الْمِصْرِ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاكَ قَتَلَ خِيَارَهُمْ، وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ، وَعَمِلَ فِيهِمْ أَعْمَالَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَأَتَيْنَاهُمْ لَنَأْمُرَ بِالْعَدْلِ وَنَدْعُوَ إِلَى حُكْمِ الْكِتَابِ. قَالَ: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ يَا فَاسِقُ، أَوَ لَمْ نَكُنْ نَعْمَلُ بِذَلِكَ فِيهِمْ إِذْ أَنْتَ بِالْمَدِينَةِ تَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ فَقَالَ: أَنَا أَشْرَبُ الْخَمْرَ ! وَاللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ أَنَّكَ غَيْرُ صَادِقٍ، وَأَنَّكَ قُلْتَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِّي، فَإِنِّي لَسْتُ كَمَا ذَكَرْتَ، وَإِنَّ أَوْلَى بِهَا مِنِّي مَنْ يَلَغُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَغًا، وَيَقْتُلُ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَيَقْتُلُ عَلَى الْغَضَبِ وَالظَّنِّ، وَهُوَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ كَأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: يَا فَاسِقُ، إِنَّ نَفْسَكَ تُمَنِّيكَ مَا حَالَ اللَّهُ دُونَكَ وَدُونَهُ، وَلَمْ يَرَكَ أَهْلَهُ. قَالَ: فَمَنْ أَهْلُهُ يَا ابْنَ زِيَادٍ ؟ قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ. قَالَ: الْحَمْدُ لَلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، رَضِينَا بِاللَّهِ حَكَمًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ. قَالَ: كَأَنَّكَ تَظُنُّ أَنَّ لَكُمْ فِي الْأَمْرِ شَيْئًا ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالظَّنِّ، وَلَكِنَّهُ الْيَقِينُ. قَالَ لَهُ: قَتَلَنِي اللَّهُ إِنْ لَمْ أَقْتُلْكَ قِتْلَةً لَمْ يُقْتَلْهَا أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ النَّاسِ. قَالَ: أَمَا إِنَّكَ أَحَقُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ، أَمَا إِنَّكَ لَا تَدَعُ سُوءَ الْقِتْلَةِ، وَقُبْحَ الْمُثْلَةِ، وَخُبْثَ السِّيرَةِ الْمُكْتَسَبَةِ عَنْ آبَائِكُمْ وَجُهَّالِكُمْ. وَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ يَشْتُمُهُ وَيَشْتُمُ حُسَيْنًا وَعَلِيًّا، وَمُسْلِمٌ
سَاكِتٌ لَا يُكَلِّمُهُ. ذَكَرَهُ
ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَغَيْرِهِ مِنْ رُوَاةِ الشِّيعَةِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنِّي قَاتِلُكَ. قَالَ: كَذَلِكَ ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَدَعْنِي أُوصِي إِلَى بَعْضِ قَوْمِي. قَالَ: أَوْصِ. فَنَظَرَ
فِي جُلَسَائِهِ وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. فَقَالَ: يَا
عُمَرُ، إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ قَرَابَةٌ، وَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، وَهُوَ
سِرٌّ. فَأَبَى أَنْ يَقُومَ مَعَهُ حَتَّى أَذِنَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ، فَقَامَ
فَتَنَحَّى قَرِيبًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ مُسْلِمٌ: إِنَّ عَلَيَّ
دَيْنًا فِي الْكُوفَةِ ; سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاقْضِهَا عَنِّي،
وَاسْتَوْهِبْ جُثَّتِي مِنِ ابْنِ زِيَادٍ فَوَارِهَا، وَابْعَثْ إِلَى
الْحُسَيْنِ، فَإِنِّي قَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُهُ أَنَّ النَّاسَ مَعَهُ،
وَلَا أَرَاهُ إِلَّا مُقْبِلًا. فَقَامَ عُمَرُ فَعَرَضَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ مَا
قَالَ لَهُ، فَأَجَازَ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ: وَأَمَّا الْحُسَيْنُ
فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُرِدْنَا لَا نُرِدْهُ، وَإِنْ أَرَادَنَا لَمْ نَكُفَّ
عَنْهُ. ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ بِمُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، فَأُصْعِدَ إِلَى
أَعَلَى الْقَصْرِ، وَهُوَ يُكَبِّرُ وَيَسْتَغْفِرُ وَيُصَلِّي عَلَى مَلَائِكَةِ
اللَّهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ غَرُّونَا
وَخَذَلُونَا. ثُمَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بُكَيْرُ بْنُ
حُمْرَانَ. ثُمَّ أَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى أَسْفَلِ الْقَصْرِ، وَأَتْبَعَ رَأْسَهُ
بِجَسَدِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ بِهَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ الْمَذْحِجِيِّ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ
بِسُوقِ الْغَنَمِ، وَصُلِبَ بِمَكَانٍ مِنَ الْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ:
الْكُنَاسَةُ. فَقَالَ رَجُلٌ شَاعِرٌ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهَا
لَلْفَرَزْدَقِ:
فَإِنْ كُنْتِ لَا تَدْرِينَ مَا الْمَوْتُ فَانْظُرِي إِلَى هَانِئٍ فِي السُّوقِ
وَابْنِ عَقِيلِ
أَصَابَهُمَا أَمْرُ الْإِمَامِ
فَأَصْبَحَا أَحَادِيثَ مَنْ يَسْعَى بِكُلِّ سَبِيلِ
إِلَى بَطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَهُ وَآخَرُ يَهْوَى فِي طَمَارِ
قَتِيلِ
تَرَيْ جَسَدًا قَدْ غَيَّرَ الْمَوْتُ لَوْنَهُ وَنَضَحَ دَمٍ قَدْ سَالَ كُلَّ
مَسِيلِ
فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَثْأَرُوا بِأَخِيكُمُ فَكُونُوا بَغَايَا أُرْضِيَتْ
بِقَلِيلِ
ثُمَّ بُعِثَ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الشَّامِ،
وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا بِصُورَةِ مَا وَقَعَ مِنْ أَمْرِهِمَا.
وَقَدْ كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْبَصْرَةِ بِيَوْمٍ
خَطَبَ أَهْلَهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً، وَوَعَظَهُمْ فِيهَا وَحَذَّرَهُمْ
وَأَنْذَرَهُمْ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتْنَةِ وَالتَّفَرُّقِ.
وَذَلِكَ كَمَا رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ وَأَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ
الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: وَكَتَبَ
الْحُسَيْنُ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمانُ. كِتَابًا إِلَى
أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَكْرَمَهُ
بِنُبُوَّتِهِ، وَاخْتَارَهُ لِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ قَبَضَهُ إِلَيْهِ وَقَدْ
نَصَحَ لِعِبَادِهِ وَبَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ، وَكُنَّا أَهْلَهُ
وَأَوْلِيَاءَهُ وَأَوْصِيَاءَهُ وَوَرَثَتَهُ، وَأَحَقَّ النَّاسِ بِمَقَامِهِ
فِي النَّاسِ، فَاسْتَأْثَرَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا بِذَلِكَ، فَرَضِينَا
وَكَرِهْنَا الْفُرْقَةَ، وَأَحْبَبْنَا الْعَافِيَةَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّا
أَحَقُّ بِذَلِكَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْنَا مِمَّنْ تَوَلَّاهُ، وَقَدْ
أَحْسَنُوا وَأَصْلَحُوا، وَتَحَرَّوُا الْحَقَّ،
فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَغَفَرَ لَنَا وَلَهُمْ، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا الْكِتَابِ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ قَدْ أُمِيتَتْ، وَإِنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أُحْيِيَتْ، فَإِنْ تَسْمَعُوا قَوْلِي وَتُطِيعُوا أَمْرِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ - وَعِنْدِي فِي صِحَّةِ هَذَا عَنِ الْحُسَيْنِ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطَرَّزٌ بِكَلَامٍ مَزِيدٍ مِنْ بَعْضِ رُوَاةِ الشِّيعَةِ - قَالَ: فَكُلُّ مَنْ قَرَأَ الْكِتَابَ مِنَ الْأَشْرَافِ كَتَمَهُ إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الْجَارُودِ فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ دَسِيسَةٌ مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَجَاءَ بِهِ إِلَيْهِ، فَبَعَثَ خَلْفَ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ. وَصَعِدَ عُبَيْدُ اللَّهِ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ مَا بِي تُقْرَنُ الصَّعْبَةُ، وَمَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَإِنِّي لَنِكْلٌ لِمَنْ عَادَانِي، وَسِمَامٌ لِمَنْ حَارَبَنِي، أَنْصَفَ الْقَارَّةَ مَنْ رَامَاهَا، يَا أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَّانِي الْكُوفَةَ وَأَنَا غَادٍ إِلَيْهَا الْغَدَاةَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكَمْ عُثْمَانَ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخِلَافَ وَالْإِرْجَافَ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَئِنْ بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ خِلَافٌ لَأَقْتُلَنَّهُ وَعَرِيفَهُ وَوَلِيَّهُ، وَلَآخُذَنَّ الْأَدْنَى بِالْأَقْصَى، حَتَّى تَسْتَقِيمُوا لِي، وَلَا يَكُونُ فِيكُمْ مُخَالِفٌ وَلَا مُشَاقٌّ، أَنَا ابْنُ زِيَادٍ، أَشْبَهْتُهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى، وَلَمْ يَنْتَزِعْنِي شَبَهُ خَالٍ وَلَا عَمٍّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَصْرَةِ وَمَعَهُ مُسْلِمُ بْنُ عَمْرٍو الْبَاهِلِيُّ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الصَّقْعَبِ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: كَانَ مَخْرَجُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ لَثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَذَلِكَ يَوْمَ عَرَفَةَ سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ مِنْ مَكَّةَ قَاصِدًا أَرْضَ الْعِرَاقِ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ خُرُوجُ الْحُسَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ بَقِيَّةَ شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ وَشَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ.
صِفَةُ مَخْرَجِ الْحُسَيْنِ وَمَا
جَرَى لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ
لَمَّا تَوَاتَرَتِ الْكُتُبُ إِلَى الْحُسَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَجَاءَهُ كِتَابُ مُسْلِمِ بْنِ
عَقِيلٍ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ بِأَهْلِهِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ مَا
وَقَعَ مِنْ مَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَالْحُسَيْنُ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ وَالْقُدُومِ
عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقَ خُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَبْلَ
مَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ - فَإِنَّ مُسْلِمًا قُتِلَ
يَوْمَ عَرَفَةَ - وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ النَّاسُ خُرُوجَهُ أَشْفَقُوا عَلَيْهِ
مِنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرُوهُ مِنْهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ ذَوُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ
وَالْمَحَبَّةِ لَهُ بِعَدَمِ الْخُرُوجِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَمَرُوهُ
بِالْمُقَامِ بِمَكَّةَ، وَذَكَّرُوهُ مَا جَرَى لِأَبِيهِ وَأَخِيهِ مَعَهُمْ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ
طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَشَارَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي
الْخُرُوجِ فَقُلْتُ: لَوْلَا أَنْ يُزْرَى بِي وَبِكَ لَشَبِثْتُ يَدِي فِي
رَأْسِكَ. فَكَانَ الَّذِي رَدَّ عَلَيَّ أَنْ قَالَ: لَأَنْ أُقْتَلَ فِي
مَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ أَنْ أُقْتَلَ بِمَكَّةَ. قَالَ: فَكَانَ هَذَا الَّذِي سَلَا نَفْسِي
عَنْهُ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الْوَالِبِيِّ، عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ، أَنَّ حُسَيْنًا لَمَّا أَجْمَعَ الْمَسِيرُ إِلَى
الْكُوفَةِ أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنَّهُ
قَدْ أَرْجَفَ النَّاسُ أَنَّكَ سَائِرٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَيِّنْ لِي مَا
أَنْتَ صَانِعٌ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَجْمَعْتُ الْمَسِيرَ فِي أَحَدِ يَوْمَيَّ
هَذَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبِرْنِي
إِنْ كَانَ قَدْ دَعَوْكَ بَعْدَ مَا قَتَلُوا أَمِيرَهُمْ وَنَفَوْا عَدُوَّهُمْ
وَضَبَطُوا بِلَادَهُمْ، فَسِرْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَمِيرُهُمْ عَلَيْهِمْ
قَاهِرًا لَهُمْ، وَعُمَّالُهُ تَجْبِي بِلَادَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا
دَعَوْكَ لِلْفِتْنَةِ وَالْقِتَالِ، وَلَا آمَنُ عَلَيْكَ أَنْ يَسْتَنْفِرُوا
إِلَيْكَ النَّاسَ، فَيَكُونُ الَّذِينَ دَعَوْكَ أَشَدَّ النَّاسِ عَلَيْكَ.
فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنِّي أَسْتَخِيرُ اللَّهَ وَأَنْظُرُ مَا يَكُونُ.
فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَدَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ
لَهُ: مَا أَدْرِي مَا تَرْكُنَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَنَحْنُ أَبْنَاءَ
الْمُهَاجِرِينَ، وَوُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ دُونَهُمْ، أَخْبِرْنِي مَا تُرِيدُ
أَنْ تَصْنَعَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَدَّثْتُ نَفْسِي
بِإِتْيَانِ الْكُوفَةِ، وَلَقَدْ كَتَبَ إِلَيَّ شِيعَتِي بِهَا وَأَشْرَافُ
أَهْلِهَا، وَأَسْتَخِيرُ اللَّهَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَا لَوْ كَانَ
لِي بِهَا مِثْلُ شِيعَتِكَ مَا عَدَلْتُ عَنْهَا. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ
قَالَ الْحُسَيْنُ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ مَعِي شَيْءٌ،
وَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْدِلُوهُ بِي،
فَوَدَّ أَنِّي خَرَجْتُ لِتَخْلُوَ
لَهُ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَشِيِّ أَوْ مِنَ الْغَدِ جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ
إِلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنِّي أَتَصَبَّرُ وَلَا
أَصْبِرُ، إِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْوَجْهِ الْهَلَاكَ، إِنَّ
أَهْلَ الْعِرَاقِ قَوْمٌ غُدُرٌ فَلَا تَغْتَرَّنَّ بِهِمْ، أَقِمْ فِي هَذَا
الْبَلَدِ حَتَّى يَنْفِيَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَدُوَّهُمْ، ثُمَّ اقْدَمْ
عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَسِرْ إِلَى الْيَمَنِ فَإِنَّ بِهِ حُصُونًا وَشِعَابًا،
وَلِأَبِيكَ بِهِ شِيعَةٌ، وَكُنْ عَنِ النَّاسِ فِي مَعْزِلٍ، وَاكْتُبْ
إِلَيْهِمْ، وَبُثَّ دُعَاتَكَ فِيهِمْ، فَإِنِّي أَرْجُو إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ
أَنْ يَكُونَ مَا تُحِبُّ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا ابْنَ عَمِّ، وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ نَاصِحٌ شَفِيقٌ، وَلَكِنِّي قَدْ أَزْمَعْتُ
الْمَسِيرَ. فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ كُنْتَ وَلَا بُدَّ سَائِرًا فَلَا تَسِرْ
بِنِسَائِكَ وَصِبْيَتِكَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ تُقْتَلَ كَمَا
قُتِلَ عُثْمَانُ وَنِسَاؤُهُ وَوَلَدُهُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: أَقْرَرْتَ عَيْنَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِتَخْلِيَتِكَ إِيَّاهُ
بِالْحِجَازِ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ
إِذَا أَخَذْتُ بِشَعْرِكَ وَنَاصِيَتِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ
النَّاسُ أَطَعْتَنِي وَأَقَمْتَ، لَفَعَلْتُ ذَلِكَ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِ فَلَقِيَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَرَّتْ عَيْنُكَ يَا ابْنَ
الزُّبَيْرِ. ثُمَّ قَالَ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا
حُسَيْنٌ يَخْرُجُ إِلَى الْعِرَاقِ وَيُخَلِّيكَ وَالْحِجَازَ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ الْأَسَدِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ
يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ بِمَاءٍ لَهُ، فَبَلَغَهُ أَنَّ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَحِقَهُ عَلَى
مَسِيرَةِ ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ لَهُ:
الْعِرَاقَ. وَإِذَا مَعَهُ طَوَامِيرُ وَكُتُبٌ. فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُهُمْ
وَبَيْعَتُهُمْ. فَقَالَ: لَا تَأْتِهِمْ. فَأَبَى، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي
مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا ; إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ،
وَلَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ لَا يَلِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ أَبَدًا،
وَمَا صَرَفَهَا اللَّهُ عَنْكُمْ إِلَّا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ. فَأَبَى
أَنْ يَرْجِعَ. قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَبَكَى وَقَالَ:
أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، ثَنَا سُلَيْمُ بْنُ
حَيَّانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَا قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
يَقُولُ: عَجَّلَ حُسَيْنٌ قَدَرَهُ، عَجَّلَ حُسَيْنٌ قَدَرَهُ، وَاللَّهِ لَوْ
أَدْرَكْتُهُ مَا كَانَ لِيَخْرُجَ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَنِي ; بِبَنِي هَاشِمٍ
فُتِحَ،
وَبِبَنِي هَاشِمٍ خُتِمَ، فَإِذَا
رَأَيْتَ الْهَاشِمِيَّ قَدْ مَلَكَ فَقَدْ ذَهَبَ الزَّمَانُ. قُلْتُ: وَهَذَا
مَعَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَاطِمِيِّينَ أَدْعِيَاءُ،
لَمْ يَكُونُوا مِنْ سُلَالَةِ فَاطِمَةَ، كَمَا زَعَمُوا، وَإِنَّمَا كَانُوا
كَذَبَةً فِيمَا ادَّعَوْهُ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا
سُفْيَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ غَالِبٍ قَالَ:
قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِلْحُسَيْنِ: أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ ! إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا
أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ ؟ فَقَالَ: لِأَنْ أُقْتَلَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا
أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُسْتَحَلَّ بِي. يَعْنِي مَكَّةَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ هِشَامَ بْنَ يُوسُفَ يَقُولُ، عَنْ مَعْمَرٍ
قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ:
سَمِعْتُهُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَتَتْنِي بَيْعَةُ أَرْبَعِينَ
أَلْفًا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: أَتَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ
قَتَلُوا أَبَاكَ وَأَخْرَجُوا أَخَاكَ ؟ قَالَ هِشَامٌ: فَسَأَلْتُ مَعْمَرًا
عَنِ
الرَّجُلِ فَقَالَ: هُوَ ثِقَةٌ. قَالَ
الزُّبَيْرُ: وَقَالَ عَمِّي: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ هُوَ
الَّذِي قَالَ هَذَا.
وَقَدْ سَاقَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ هَذَا سِيَاقًا حَسَنًا
مَبْسُوطًا، فَقَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ لُوطِ بْنِ يَحْيَى
الْغَامِدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَشْرٍ الْهَمْدَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعَنْ هَارُونَ
بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ يَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ. قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدَّثَنِي أَيْضًا فِي هَذَا
الْحَدِيثِ بِطَائِفَةٍ، فَكَتَبْتُ جَوَامِعَ حَدِيثِهِمْ فِي مَقْتَلِ
الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، قَالُوا: لَمَّا بَايَعَ
النَّاسُ مُعَاوِيَةَ لِيَزِيدَ كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعْ لَهُ،
وَكَانَ أَهْلُ الْكُوفَةِ يَكْتُبُونَ إِلَى حُسَيْنٍ يَدْعُونَهُ إِلَى
الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَقَدِمَ
مِنْهُمْ قَوْمٌ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ
يَخْرُجَ مَعَهُمْ، فَأَبَى وَجَاءَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا عَرَضُوا
عَلَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْكُلُوا بِنَا،
وَيُشِيطُوا دِمَاءَنَا. فَأَقَامَ حُسَيْنٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ
الْهُمُومِ، مَرَّةً
يُرِيدُ أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَمَرَّةً يُجْمِعُ الْإِقَامَةَ. فَجَاءَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنِّي لَكُمْ نَاصِحٌ، وَإِنِّي عَلَيْكُمْ مُشْفِقٌ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ كَاتَبَكَ قَوْمٌ مِنْ شِيعَتِكُمْ بِالْكُوفَةِ يَدْعُونَكَ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ، فَلَا تَخْرُجْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ بِالْكُوفَةِ: وَاللَّهِ لَقَدْ مَلِلْتُهُمْ وَأَبْغَضْتُهُمْ، وَمَلُّونِي وَأَبْغَضُونِي، وَمَا بَلَوْتُ مِنْهُمْ وَفَاءً، وَمَنْ فَازَ بِهِمْ فَازَ بِالسَّهْمِ الْأَخْيَبِ، وَاللَّهِ مَا لَهُمْ ثَبَاتٌ وَلَا عَزْمٌ عَلَى أَمْرٍ، وَلَا صَبْرٌ عَلَى السَّيْفِ. قَالَ: وَقَدِمَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ فِي عِدَّةٍ مَعَهُ إِلَى الْحُسَيْنِ بَعْدَ وَفَاةِ الْحَسَنِ، فَدَعَوْهُ إِلَى خَلْعِ مُعَاوِيَةَ وَقَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا رَأْيَكَ وَرَأْيَ أَخِيكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يُعْطِيَ اللَّهُ أَخِي عَلَى نِيَّتِهِ فِي حُبِّهِ الْكَفَّ، وَأَنْ يُعْطِيَنِي عَلَى نِيَّتِي فِي حُبِّي جِهَادَ الظَّالِمِينَ. وَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: إِنِّي لَسْتُ آمَنُ أَنْ يَكُونَ حُسَيْنٌ مَرْصَدًا لِلْفِتْنَةِ، وَأَظُنُّ يَوْمَكُمْ مِنْ حُسَيْنٍ طَوِيلًا. فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحُسَيْنِ: إِنَّ مَنْ أَعْطَى اللَّهَ صَفْقَةَ يَمِينِهِ وَعَهْدِهِ لَجَدِيرٌ بِالْوَفَاءِ، وَقَدْ أُنْبِئْتُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدْ دَعَوْكَ إِلَى الشِّقَاقِ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ مَنْ قَدْ جَرَّبْتَ ; قَدْ أَفْسَدُوا عَلَى أَبِيكَ وَأَخِيكَ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَاذْكُرِ الْمِيثَاقَ ; فَإِنَّكَ مَتَى تَكِدْنِي أَكِدْكَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: أَتَانِي كِتَابُكَ وَأَنَا بِغَيْرِ الَّذِي بَلَغَكَ عَنِّي جَدِيرٌ، وَالْحَسَنَاتُ لَا يَهْدِي لَهَا إِلَّا اللَّهُ، وَمَا أَرَدْتُ لَكَ مُحَارَبَةً وَلَا عَلَيْكَ خِلَافًا، وَمَا أَظُنُّ لِي عِنْدَ اللَّهِ عُذْرًا فِي تَرْكِ جِهَادِكَ، وَمَا أَعْلَمُ فِتْنَةً أَعْظَمَ مِنْ وِلَايَتِكَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّ أَثَرْنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَسَدًا. وَكَتَبَ
إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَيْضًا فِي بَعْضِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ: إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ فِي رَأْسِكَ نَزْوَةً، فَوَدِدْتُ أَنِّي أُدْرِكُهَا فَأَغْفِرَهَا لَكَ. قَالُوا: فَلَمَّا حَضَرَ مُعَاوِيَةُ دَعَا يَزِيدَ فَأَوْصَاهُ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ، ابْنِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى النَّاسِ، فَصِلْ رَحِمَهُ، وَارْفُقْ بِهِ، يَصْلُحْ لَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَهُ اللَّهُ بِمَنْ قَتَلَ أَبَاهُ وَخَذَلَ أَخَاهُ. وَتُوُفِّيَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ، وَبَايَعَ النَّاسُ يَزِيدَ، فَكَتَبَ يَزِيدُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُوَيْسٍ الْعَامِرِيِّ - عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ - إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ ; أَنِ ادْعُ النَّاسَ فَبَايِعْهُمْ، وَابْدَأْ بِوُجُوهِ قُرَيْشٍ، وَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَنْ تَبْدَأُ بِهِ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَهِدَ إِلَيَّ فِي أَمْرِهِ الرِّفْقَ بِهِ وَاسْتِصْلَاحَهُ. فَبَعَثَ الْوَلِيدُ مِنْ سَاعَتِهِ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَخْبَرَهُمَا بِوَفَاةِ مُعَاوِيَةَ، وَدَعَاهُمَا إِلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ، فَقَالَا: نُصْبِحُ وَنَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ. وَوَثَبَ الْحُسَيْنُ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ: هُوَ يَزِيدُ الَّذِي نَعْرِفُ، وَاللَّهِ مَا حَدَثَ لَهُ حَزْمٌ وَلَا مُرُوءَةٌ. وَقَدْ كَانَ الْوَلِيدُ أَغْلَظَ لِلْحُسَيْنِ، فَشَتَمَهُ الْحُسَيْنُ، وَأَخَذَ بِعِمَامَتِهِ، وَنَزَعَهَا مِنْ رَأْسِهِ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: إِنْ هِجْنَا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ إِلَّا أَسَدًا. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ أَوْ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: اقْتُلْهُ. فَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَدَمٌ مَضْنُونٌ بِهِ فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. قَالُوا: وَخَرَجَ الْحُسَيْنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ لَيْلَتِهِمَا إِلَى مَكَّةَ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فَغَدَوْا عَلَى الْبَيْعَةِ لِيَزِيدَ، وَطُلِبَ الْحُسَيْنُ وَابْنُ
الزُّبَيْرِ، فَلَمْ يُوجَدَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ: عَجِلَ الْحُسَيْنُ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ يَلْفِتُهُ وَيُزْجِيهِ إِلَى الْعِرَاقِ لِيَخْلُوَ بِمَكَّةَ. فَقَدِمَا مَكَّةَ، فَنَزَلَ الْحُسَيْنُ دَارَ الْعَبَّاسِ، وَلَزِمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجْرَ، وَلَبِسَ الْمَعَافِرِيَّ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ يَغْدُو وَيَرُوحُ إِلَى الْحُسَيْنِ، وَيُشِيرُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْدَمَ الْعِرَاقَ، وَيَقُولُ: هُمْ شِيعَتُكَ وَشِيعَةُ أَبِيكَ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ: لَا تَفْعَلْ. وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ: إِنِّي فِدَاؤُكَ وَأَبِي وَأُمِّي، فَأَمْتِعْنَا بِنَفْسِكَ وَلَا تَسِرْ إِلَى الْعِرَاقِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلَكَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَيَتَّخِذُونَا عَبِيدًا وَخَوَلًا. قَالُوا: وَلَقِيَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بِالْأَبْوَاءِ مُنْصَرِفِينَ مِنَ الْعُمْرَةِ، فَقَالَ لَهُمَا ابْنُ عُمَرَ: أُذَكِّرُكُمَا اللَّهَ إِلَّا رَجَعْتُمَا فَدَخَلْتُمَا فِي صَالِحِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ النَّاسُ، وَتَنْظُرَا، فَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ لَمْ تَشِذَّا، وَإِنِ افْتَرَقَ عَلَيْهِ كَانَ الَّذِي تُرِيدَانِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لِلْحُسَيْنِ: لَا تَخْرُجْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ، وَإِنَّكَ بَضْعَةٌ مِنْهُ وَلَا تَنَالُهَا. يَعْنِي الدُّنْيَا، وَاعْتَنَقَهُ وَبَكَى وَوَدَّعَهُ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: غَلَبَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ بِالْخُرُوجِ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ رَأَى فِي أَبِيهِ وَأَخِيهِ عِبْرَةً، وَرَأَى مِنَ الْفِتْنَةِ وَخِذْلَانِ النَّاسِ لَهُمَا مَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَتَحَرَّكَ مَا عَاشَ، وَأَنْ يَدْخُلَ فِي صَالِحِ مَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ خَيْرٌ. وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْنَ تُرِيدُ يا ابْنَ فَاطِمَةَ ؟ فَقَالَ: الْعِرَاقَ وَشِيعَتِي. فَقَالَ: إِنِّي لَكَرِهٌ لِوَجْهِكَ هَذَا ; تَخْرُجُ إِلَى قَوْمٍ قَتَلُوا أَبَاكَ وَطَعَنُوا أَخَاكَ
حَتَّى تَرَكَهُمْ سَخْطَةً وَمَلَالَةً لَهُمْ ؟ ! أُذَكِّرُكَ اللَّهَ أَنْ تَغْرُرَ بِنَفْسِكَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: غَلَبَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَى الْخُرُوجِ، وَقَدْ قُلْتُ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَالْزَمْ بَيْتَكَ، وَلَا تَخْرُجْ عَلَى إِمَامِكَ. وَقَالَ أَبُو وَاقَدٍ اللِّيثِيُّ: بَلَغَنِي خُرُوجُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَدْرَكْتُهُ بِمَلَلٍ، فَنَاشَدْتُهُ اللَّهَ أَنْ لَا يَخْرُجَ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ فِي غَيْرِ وَجْهِ خُرُوجٍ، إِنَّمَا خَرَجَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَا أَرْجِعُ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: كَلَّمْتُ حُسَيْنًا فَقُلْتُ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَضْرِبِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فَوَاللَّهِ مَا حُمِدْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ. فَعَصَانِي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لَوْ أَنَّ حُسَيْنًا لَمْ يَخْرُجْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: قَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِحُسَيْنٍ أَنْ يَعْرِفَ أَهْلَ الْعِرَاقِ وَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، وَلَكِنْ شَجَّعَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ الزُّبَيْرِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِكُتُبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَبِقَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: الْحَقْ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ نَاصِرُوكَ. إِيَّاكَ أَنْ تَبْرَحَ الْحَرَمَ، فَإِنَّهُمْ إِنْ كَانَتْ لَهُمْ بِكَ حَاجَةٌ فَسَيَضْرِبُونَ إِلَيْكَ آبَاطَ الْإِبِلِ حَتَّى يُوَافُوكَ فَتَخْرُجَ فِي قُوَّةٍ وَعُدَّةٍ. فَجَزَاهُ خَيْرًا وَقَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي ذَلِكَ. وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ تُعَظِّمُ عَلَيْهِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَصْنَعَ، وَتَأْمُرُهُ بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَتُخْبِرُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُسَاقُ إِلَى مَصْرَعِهِ، وَتَقُولُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ إِنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُقْتَلُ الْحُسَيْنُ بِأَرْضِ بَابِلَ ". فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهَا قَالَ: فَلَا بُدَّ لِي إِذًا مِنْ مَصْرَعِي. وَمَضَى. وَأَتَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
هِشَامٍ فَقَالَ: يا ابْنَ عَمِّ،
إِنَّ الرَّحِمَ تَظْأَرُنِي عَلَيْكَ، وَمَا أَدْرِي كَيْفَ أَنَا عِنْدَكَ فِي
النَّصِيحَةِ لَكَ ؟ قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَنْتَ مِمَّنْ يُسْتَغَشُّ
وَلَا يُتَّهَمُ، فَقُلْ. قَالَ: قَدْ رَأَيْتَ مَا صَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ
بِأَبِيكَ وَأَخِيكَ، وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَسِيرَ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ عَبِيدُ
الدُّنْيَا، فَيُقَاتِلُكَ مَنْ قَدْ وَعَدَكَ أَنْ يَنْصُرَكَ، وَيَخْذُلُكَ مَنْ
أَنْتَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِمَّنْ يَنْصُرُهُ، فَأُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ.
فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ يا ابْنَ عَمِّ خَيْرًا، وَمَهْمَا يَقْضِ اللَّهُ مِنْ
أَمْرٍ يَكُنْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّا لِلَّهِ، عِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ كِتَابًا
يُحَذِّرُهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَيُنَاشِدُهُ اللَّهَ أَنْ يَشْخَصَ إِلَيْهِمْ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيَا، وَرَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَنِي بِأَمْرٍ، وَأَنَا مَاضٍ
لَهُ، وَلَسْتُ بِمُخْبِرٍ بِهَا أَحَدًا حَتَّى أُلَاقِيَ عَمَلِي. وَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ: إِنِّي
أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُلْهِمَكَ رُشْدَكَ، وَأَنْ يَصْرِفَكَ عَمَّا يُرْدِيكَ،
بَلَغَنِي أَنَّكَ قَدْ عَزَمْتَ عَلَى الشُّخُوصِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَإِنِّي
أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنَ الشِّقَاقِ، فَإِنْ كُنْتَ خَائِفًا فَأَقْبِلْ إِلَيَّ،
فَلَكَ عِنْدِي الْأَمَانُ وَالْبِرُّ وَالصِّلَةُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِالْحُسَيْنُ:
إِنْ كُنْتَ أَرَدْتَ بِكِتَابِكَ بِرِّي وَصِلَتِي فَجُزِيتَ خَيْرًا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يُشَاقِقْ مَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ
وَعَمِلَ صَالَحًا، وَقَالَ: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَخَيْرُ الْأَمَانِ
أَمَانُ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ مَنْ لَمْ يَخَفْهُ فِي الدُّنْيَا،
فَنَسْأَلُ اللَّهَ مَخَافَةً فِي الدُّنْيَا تُوجِبُ لَنَا أَمَانَ الْآخِرَةِ
عِنْدَهُ
وَقَالُوا: وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
يُخْبِرُهُ بِخُرُوجِ الْحُسَيْنِ
إِلَى مَكَّةَ وَيَحْسَبُهُ قَدْ
جَاءَهُ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمَشْرِقِ فَمَنَّوْهُ الْخِلَافَةَ،
وَعِنْدَكَ مِنْهُمْ خِبْرَةٌ وَتَجْرِبَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَعَلَ فَقَدْ قَطَعَ
وَاشِجَ الْقَرَابَةِ، وَأَنْتَ كَبِيرُ أَهْلِ بَيْتِكَ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ،
فَاكْفُفْهُ عَنِ السَّعْيِ فِي الْفُرْقَةِ، وَكَتَبَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ
إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنْ قُرَيْشٍ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْغَادِي لِطَيَّتِهِ عَلَى عُذَافِرَةٍ فِي سَيْرِهَا
قُحَمُ
أَبْلِغْ قُرَيْشًا عَلَى نَأْيِ الْمَزَارِ بِهَا بَيْنِي وَبَيْنَ حُسَيْنِ
اللَّهُ وَالرَّحِمُ
وَمَوْقِفٌ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ أَنْشُدُهُ عَهْدَ الْإِلَهِ وَمَا تُوفَى بِهِ
الذِّمَمُ
عَنَّيْتُمُ قَوْمَكُمْ فَخْرًا بِأُمِّكُمُ أُمٌّ لَعَمْرِي حَصَانٌ بَرَّةٌ
كَرَمُ
هِيَ الَّتِي لَا يُدَانِي فَضْلَهَا أَحَدٌ بِنْتُ الرَّسُولِ وَخَيْرُ النَّاسِ
قَدْ عَلِمُوا
وَفَضْلُهَا لَكُمُ فَضْلٌ وَغَيْرُكُمُ مِنْ قَوْمِكُمْ لَهُمْ فِي فَضْلِهَا
قِسَمُ
إِنِّي لَأَعْلَمُ أَوْ ظَنًّا كَعَالِمِهِ وَالظَّنُّ يَصْدُقُ أَحْيَانًا
فَيَنْتَظِمُ
أَنْ سَوْفَ يَتْرُكُكُمْ مَا تَدَّعُونَ بِهَا قَتْلَى تَهَادَاكُمُ الْعِقْبَانُ
وَالرَّخَمُ
يَا قَوْمَنَا لَا تُشِبُّوا الْحَرْبَ إِذْ سَكَنَتْ وَأَمْسِكُوا بِحِبَالِ
السِّلْمِ وَاعْتَصِمُوا
قَدْ غَرَّتِ الْحَرْبُ مَنْ قَدْ كَانَ قَبْلَكُمُ مِنَ الْقُرُونِ وَقَدْ
بَادَتْ بِهَا الْأُمَمُ
فَأَنْصِفُوا قَوْمَكُمْ لَا
تَهْلِكُوا بَذَخًا فَرُبَّ ذِي بَذَخٍ زَلَّتْ بِهِ الْقَدَمُ
قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ
خُرُوجُ الْحُسَيْنِ لِأَمْرٍ تَكْرَهُهُ، وَلَسْتُ أَدَعُ النَّصِيحَةَ لَهُ فِي
كُلِّ مَا يَجْمَعُ اللَّهُ بِهِ الْأُلْفَةَ وَتُطْفَى بِهِ النَّائِرَةُ.
وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْحُسَيْنِ، فَكَلَّمَهُ لَيْلًا
طَوِيلًا، وَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَهْلِكَ غَدًا بِحَالِ
مَضِيعَةٍ، لَا تَأْتِ الْعِرَاقَ، وَإِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَأَقِمْ
حَتَّى يَنْقَضِيَ الْمَوْسِمُ، وَتَلْقَى النَّاسَ وَتَعْلَمَ مَا يُصْدِرُونَ،
ثُمَّ تَرَى رَأْيَكَ. وَذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. فَأَبَى الْحُسَيْنُ
إِلَّا أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَظُنُّكَ سَتُقْتَلُ غَدًا بَيْنَ نِسَائِكَ وَبَنَاتِكَ، كَمَا قُتِلَ
عُثْمَانُ بَيْنَ نِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخَافُ أَنْ تَكُونَ
الَّذِي يُقَادُ بِهِ عُثْمَانُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَقَالَ: أَبَا الْعَبَّاسِ، إِنَّكَ شَيْخٌ قَدْ كَبِرْتَ. فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَوْلَا أَنْ يُزْرِيَ ذَلِكَ بِي أَوْ بِكَ لَنَشِبْتُ يَدِي فِي
رَأْسِكَ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّا إِذَا تَنَاصَيْنَا أَقَمْتَ لَفَعَلْتُ،
وَلَكِنْ لَا إِخَالُ ذَلِكَ نَافِعِي. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَأَنْ أُقْتَلَ
بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تُسْتَحَلَّ بِي. يَعْنِي
مَكَّةَ، قَالَ: فَبَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: أَقْرَرْتَ عَيْنَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ الَّذِي سَلَا نَفْسِي عَنْهُ. قَالَ: ثُمَّ
خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ
عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: يا ابْنَ الزُّبَيْرِ، قَدْ أَتَى مَا
أَحْبَبْتَ، قَرَّتْ عَيْنُكَ، هَذَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَخْرُجُ
وَيَتْرُكُكَ وَالْحِجَازَ. ثُمَّ
قَالَ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
قَالَ: وَبَعَثَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ مَنْ خَفَّ
مَعَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَنِسَاءٌ
وَصِبْيَانٌ مِنْ إِخْوَانِهِ وَبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِمْ، وَتَبِعَهُمْ مُحَمَّدُ
ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ فَأَدْرَكَ حُسَيْنًا بِمَكَّةَ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّ
الْخُرُوجَ لَيْسَ لَهُ بِرَأْيِ يَوْمِهِ هَذَا، فَأَبَى الْحُسَيْنُ أَنْ
يَقْبَلَ، فَحَبَسَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَلَدَهُ، فَلَمْ يَبْعَثْ
مَعَهُ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى وَجَدَ الْحُسَيْنُ فِي نَفْسِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ،
وَقَالَ: تَرْغَبُ بِوَلَدِكَ عَنْ مَوْضِعٍ أُصَابُ فِيهِ ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ:
وَمَا حَاجَتِي أَنْ تُصَابَ، وَيُصَابُونَ مَعَكَ ؟ وَإِنْ كَانَتْ مُصِيبَتُكَ
أَعْظَمَ عِنْدَنَا مِنْهُمْ. قَالُوا: وَبَعَثَ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى
الْحُسَيْنِ الرُّسُلَ وَالْكُتُبَ يَدْعُونَهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ مُتَوَجِّهًا
إِلَى الْعِرَاقِ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَسِتِّينَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتِّينَ.
فَكَتَبَ مَرْوَانُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ ابْنُ
فَاطِمَةَ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَبِاللَّهِ مَا أَحَدٌ يُسَلِّمُهُ اللَّهُ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ الْحُسَيْنِ،
فَإِيَّاكَ أَنْ تُهَيِّجَ عَلَى نَفْسِكَ مَا لَا يَسُدُّهُ شَيْءٌ، وَلَا
تَنْسَاهُ الْعَامَّةُ وَلَا تَدَعُ ذِكْرَهُ، وَالسَّلَامُ. وَكَتَبَ إِلَيْهِ
عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَيْكَ
الْحُسَيْنُ، وَفِي مِثْلِهَا تُعْتَقُ أَوْ تَكُونُ عَبْدًا تُسْتَرَقُّ
كَمَا تُسْتَرَقُّ الْعَبِيدُ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ
حُسَيْنًا قَدْ سَارَ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهِ زَمَانُكَ مِنْ
بَيْنِ الْأَزْمَانِ، وَبَلَدُكَ مِنْ بَيْنِ الْبُلْدَانِ، وَابْتُلِيتَ بِهِ
أَنْتَ مِنْ بَيْنِ الْعُمَّالِ، وَعِنْدَهَا تُعْتَقُ أَوْ تَعُودُ عَبْدًا كَمَا
تُعْتَبَدُ الْعَبِيدُ. فَقَتَلَهُ ابْنُ زِيَادٍ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَبْعَثْ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى الشَّامِ،
كَمَا سَيَأْتِي. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ يَزِيدَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ:
قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْعِرَاقِ. فَضَعِ
الْمَنَاظِرَ وَالْمَسَالِحَ، وَاحْتَرِسْ وَاحْبِسْ عَلَى الظِّنَّةِ وَخُذْ
عَلَى التُّهْمَةِ، غَيْرَ أَنْ لَا تَقْتُلَ إِلَّا مَنْ قَاتَلَكَ، وَاكْتُبْ
إِلَيَّ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ مِنْ خَبَرٍ، وَالسَّلَامُ.
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ قَالَ: خَرَجَ
الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا مَرَّ بِبَابِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ قَالَ:
لَا ذَعَرْتُ السَّوَامَ فِي فَلَقِ
الصُّبْ حِ مُغِيرًا وَلَا دُعِيتُ يَزِيدَا
يَوْمَ أُعْطَى مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضَيْمًا وَالْمَنَايَا تَرْصُدْنَنِي أَنْ
أَحِيدَا
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: قَالَ أَبُو جَنَابٍ يَحْيَى بْنُ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ
عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ الْأَسَدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ
وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: خَرَجْنَا
حَاجَّيْنَ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَخَلْنَا يَوْمَ
التَّرْوِيَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
قَائِمَيْنِ عِنْدَ ارْتِفَاعِ الضُّحَى فِيمَا بَيْنَ الْحِجْرِ وَالْبَابِ،
فَسَمِعْنَا ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِلْحُسَيْنِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ
تُقِيمَ أَقَمْتَ فَوُلِّيتَ هَذَا الْأَمْرَ، فَآزَرْنَاكَ وَسَاعَدْنَاكَ
وَنَصَحْنَا لَكَ وَبَايَعْنَاكَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ أَبِي حَدَّثَنِي
أَنَّ لَهَا كَبْشًا يَسْتَحِلُّ حُرْمَتَهَا، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَنَا
ذَلِكَ الْكَبْشَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَأَقِمْ إِنْ شِئْتَ
وَوَلِّنِي أَنَا الْأَمْرَ فَتُطَاعَ وَلَا تُعْصَى. فَقَالَ: وَمَا أُرِيدُ
هَذَا أَيْضًا. قَالَا: ثُمَّ إِنَّهُمَا أَخْفَيَا كَلَامَهُمَا دُونَنَا، فَمَا
زَالَا يَتَنَاجَيَانِ، حَتَّى سَمِعْنَا دُعَاءَ النَّاسِ رَائِحِينَ
مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مِنًى عِنْدَ الظَّهِيرَةِ. قَالَا: فَطَافَ الْحُسَيْنُ
بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَصَّرَ مِنْ شِعْرِهِ، وَحَلَّ مِنْ
عُمْرَتِهِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَتَوَجَّهْنَا نَحْنُ مَعَ
النَّاسِ إِلَى مِنًى.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ الْوَالِبِيُّ، عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْحُسَيْنُ مِنْ مَكَّةَ اعْتَرَضَهُ
رُسُلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ - يَعْنِي نَائِبَ مَكَّةَ -
عَلَيْهِمْ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ: انْصَرِفْ، أَيْنَ
تَذْهَبُ ؟
فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَمَضَى،
وَتَدَافَعَ الْفَرِيقَانِ فَاضْطَرَبُوا بِالسِّيَاطِ، ثُمَّ إِنَّ حُسَيْنًا
وَأَصْحَابَهُ امْتَنَعُوا مِنْهُمُ امْتِنَاعًا قَوِيًّا، وَمَضَى الْحُسَيْنُ
عَلَى وَجْهِهِ، فَنَادَاهُ: يَا حُسَيْنُ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ ! تَخْرُجُ
مِنَ الْجَمَاعَةِ وَتُفَرِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؟ ! قَالَ: فَتَأَوَّلَ
الْحُسَيْنُ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ
بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [ يُونُسَ: 41 ].
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ مَرَّ بِالتَّنْعِيمِ، فَلَقِيَ بِهَا عِيرًا قَدْ
بَعَثَ بِهَا بَحِيرُ بْنُ رَيْسَانَ الْحِمْيَرِيُّ نَائِبُ الْيَمَنِ، قَدْ
أَرْسَلَهَا مِنَ الْيَمَنِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَلَيْهَا وَرْسٌ
وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ، فَأَخَذَهَا الْحُسَيْنُ وَانْطَلَقَ بِهَا، وَاسْتَأْجَرَ
أَصْحَابَ الْجِمَالِ عَلَيْهَا إِلَى الْكُوفَةِ وَدَفَعَ إِلَيْهِمْ أُجْرَتَهُمْ.
ثُمَّ سَاقَ أَبُو مِخْنَفٍ بِإِسْنَادِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَرَزْدَقَ لَقِيَ
الْحُسَيْنَ فِي الطَّرِيقِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَعْطَاكَ اللَّهُ
سُؤْلَكَ وَأَمَلَكَ فِيمَا تُحِبُّ. فَسَأَلَهُ الْحُسَيْنُ عَنْ أَمْرِ النَّاسِ
وَمَا وَرَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: قُلُوبُ النَّاسِ مَعَكَ، وَسُيُوفُهُمْ مَعَ
بَنِي أُمَيَّةَ، وَالْقَضَاءُ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاللَّهُ يَفْعَلُ مَا
يَشَاءُ. فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ،
وَكُلَّ يَوْمٍ رَبُّنَا فِي شَأْنٍ، إِنْ نَزَلَ الْقَضَاءُ بِمَا نُحِبُّ
فَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى نَعْمَائِهِ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ عَلَى أَدَاءِ
الشُّكْرِ، وَإِنْ حَالَ الْقَضَاءُ دُونَ الرَّجَاءِ، فَلَمْ يَعْتَدِ مَنْ كَانَ
الْحَقُّ نِيَّتَهُ، وَالتَّقْوَى سَرِيرَتَهُ، ثُمَّ حَرَّكَ الْحُسَيْنُ
رَاحِلَتَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ. ثُمَّ افْتَرَقَا.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ لَبَطَةَ
بْنِ الْفَرَزْدَقِ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: حَجَجْتُ بِأُمِّي،
فَبَيْنَمَا أَنَا أَسُوقُ بَعِيرَهَا حِينَ دَخَلْتُ الْحَرَمَ فِي أَيَّامِ
الْحَجِّ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتِّينَ، إِذْ لَقِيتُ الْحُسَيْنَ خَارِجًا مِنْ
مَكَّةَ مَعَهُ أَسْيَافُهُ وَتِرَاسُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا
ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا أَعْجَلَكَ عَنِ الْحَجِّ ؟ فَقَالَ: لَوْ لَمْ أَعْجَلْ
لَأُخِذْتُ. ثُمَّ سَأَلَنِي: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: امْرُؤٌ مِنَ
الْعِرَاقِ. فَسَأَلَنِي عَنِ النَّاسِ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْفَرَزْدَقُ اجْتِمَاعَهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،
وَقَوْلَهُ لَهُ: إِنَّ الْحُسَيْنَ لَا يَحِيكُ فِيهِ السِّلَاحُ. فَنَدِمَ
الْفَرَزْدَقُ أَنْ لَا يَكُونُ تَابَعَ الْحُسَيْنَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ،
جَعَلَ يَتَذَكَّرُ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَا يَحِيكُ فِيهِ
السِّلَاحُ. وَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ، إِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ السِّلَاحَ لَا
يَضُرُّهُ فِي آخِرَتِهِ. وَكَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ. ذَكَرَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ،
وَقِيلَ: أَرَادَ الْهَزْلَ بِالْفَرَزْدَقِ. قَالُوا: ثُمَّ سَارَ الْحُسَيْنُ
لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ حَتَّى نَزَلَ ذَاتَ عِرْقٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ الْوَالِبِيُّ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا خَرَجْنَا مِنْ مَكَّةَ
كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ إِلَى الْحُسَيْنِ مَعَ ابْنَيْهِ عَوْنٍ وَمُحَمَّدٍ:
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ لَمَا انْصَرَفْتَ حِينَ تَنْظُرَ
فِي كِتَابِي هَذَا، فَإِنِّي مُشْفِقٌ عَلَيْكَ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي
تَوَجَّهْتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَلَاكُكَ وَاسْتِئْصَالُ أَهْلِ بَيْتِكَ،
إِنْ هَلَكْتَ الْيَوْمَ طَفِئَ نُورُ الْأَرْضِ، فَإِنَّكَ عَلَمُ
الْمُهْتَدِينَ، وَرَجَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا تَعْجَلْ بِالسَّيْرِ، فَإِنِّي
فِي إِثْرِ كِتَابِي، وَالسَّلَامُ. ثُمَّ نَهَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
جَعْفَرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ
نَائِبِ مَكَّةَ، فَقَالَ: اكْتُبْ إِلَى الْحُسَيْنِ كِتَابًا تَجْعَلُ لَهُ
فِيهِ الْأَمَانَ، وَتُمَنِّيهِ فِيهِ الْبِرَّ وَالصِّلَةَ، وَتُوَثِّقُ لَهُ فِي
كِتَابِكَ، وَتَسْأَلُهُ الرُّجُوعَ ; عَلَّهُ يَطْمَئِنُّ إِلَى ذَلِكَ
فَيَرْجِعَ. فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: اكْتُبْ عَنِّي مَا شِئْتَ وَأْتِنِي بِهِ
حَتَّى أَخْتِمَهُ. فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
سَعِيدٍ مَا أَرَادَ، ثُمَّ جَاءَ بِالْكِتَابِ إِلَى عَمْرٍو، فَخَتَمَهُ
بِخَاتَمِهِ، وَقَالَ لَهُ: ابْعَثْ مَعِي أَخَاكَ. فَبَعَثَ مَعَهُ أَخَاهُ
يَحْيَى، فَانْصَرَفَا حَتَّى لَحِقَا الْحُسَيْنَ، فَقَرَآ عَلَيْهِ الْكِتَابَ،
فَأَبَى أَنْ يَرْجِعَ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، وَأَنَا مَاضٍ
لَهُ. فَقَالَا: مَا تِلْكَ الرُّؤْيَا ؟ فَقَالَ: مَا حَدَّثْتُ بِهَا أَحَدًا
وَلَا أُحَدِّثُهُ حَتَّى أَلْقَى رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ الْحُسَيْنَ
أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْحَاجِرَ مِنْ بَطْنِ الرُّمَّةِ، بَعَثَ قَيْسَ
بْنَ مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيَّ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَتَبَ مَعَهُ
إِلَيْهِمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، سَلَامٌ
عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ كِتَابَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ جَاءَنِي يُخْبِرُنِي
فِيهِ بِحُسْنِ رَأْيِكُمْ، وَاجْتِمَاعِ مَلَئِكُمْ عَلَى نَصْرِنَا، وَالطَّلَبِ
بِحَقِّنَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ لَنَا الصَّنِيعَ، وَأَنْ يُثِيبَكُمْ
عَلَى ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَجْرِ، وَقَدْ شَخَصْتُ إِلَيْكُمْ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ،
فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَسُولِي فَاكْمِشُوا أَمْرَكُمْ وَجِدُّوا فَإِنِّي
قَادِمٌ عَلَيْكُمْ فِي أَيَّامِي هَذِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
قَالَ: وَكَانَ كِتَابُ مُسْلِمٍ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ بِسَبْعٍ
وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَمَضْمُونُهُ:
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الرَّائِدَ لَا
يَكْذِبُ أَهْلَهُ، وَإِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَكَ، فَأَقْبِلْ حِينَ
تَقْرَأُ كِتَابِي هَذَا، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. قَالَ: وَأَقْبَلَ قَيْسُ بْنُ
مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ بِكِتَابِ الْحُسَيْنِ، حَتَّى إِذَا
انْتَهَى إِلَى الْقَادِسِيَّةِ أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، فَبَعَثَ
بِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: اصْعَدْ
إِلَى أَعْلَى الْقَصْرِ فَسُبَّ الْكَذَّابَ ابْنَ الْكَذَّابِ. فَصَعِدَ
فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ
هَذَا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ، ابْنُ فَاطِمَةَ بِنْتِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ،
وَقَدْ فَارَقْتُهُ بِالْحَاجِزِ مِنْ بَطْنِ الرُّمَّةِ، فَأَجِيبُوهُ. ثُمَّ
لَعَنَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ، وَاسْتَغْفَرَ لِعَلِيٍّ
وَالْحُسَيْنِ. فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ، فَأُلْقِيَ مِنْ رَأَسِ الْقَصْرِ
فَتَقَطَّعَ، وَيُقَالُ: بَلْ تَكَسَّرَتْ عِظَامُهُ وَبَقِيَ فِيهِ بَقِيَّةُ
رَمَقٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّخْمِيُّ
فَذَبَحَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ إِرَاحَتَهُ مِنَ الْأَلَمِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ رَجُلٌ يُشْبِهُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ عُمَيْرٍ وَلَيْسَ بِهِ. وَفِي
رِوَايَةٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِكِتَابِ الْحُسَيْنِ إِنَّمَا هُوَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ بُقْطُرٍ أَخُو الْحُسَيْنِ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأُلْقِيَ مِنْ
أَعْلَى الْقَصْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ يَسِيرُ
نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَلَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْأَخْبَارِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ
مُصْعَبٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: وَكَانَ الْحُسَيْنُ لَا يَمُرُّ بِمَاءٍ مِنْ
مِيَاهِ الْعَرَبِ إِلَّا اتَّبَعُوهُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: لَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا لَمْ يَكُنْ لَنَا هِمَّةٌ إِلَّا اللَّحَاقُ بِالْحُسَيْنِ - فَذَكَرَا أَنَّهُمَا اتَّبَعَاهُ - فَأَدْرَكْنَاهُ وَقَدْ مَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ يُكَلِّمَهُ وَيَسْأَلَهُ فَتَرَكَ ذَلِكَ، فَجِئْنَا ذَلِكَ الرَّجُلَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَخْبَارِ النَّاسِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَمْ أَخْرُجْ مِنَ الْكُوفَةِ حَتَّى قُتِلَ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ وَهَانِئُ بْنُ عُرْوَةَ، وَرَأَيْتُهُمَا يَجُرَّانِ بِأَرْجُلِهِمَا فِي السُّوقِ. قَالَا: فَلَحِقْنَا الْحُسَيْنَ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. مِرَارًا. فَقُلْنَا لَهُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ. فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمَا. فَقُلْنَا: خَارَ اللَّهُ لَكَ. وَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَاللَّهِ مَا أَنْتَ مِثْلُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَلَوْ قَدِمْتَ الْكُوفَةَ لَكَانَ النَّاسُ إِلَيْكَ أَسْرَعَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: لَمَّا سَمِعَ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ بِمَقْتَلِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ وَثَبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نُدْرِكَ ثَأْرَنَا، أَوْ نَذُوقَ مَا ذَاقَ أَخُونَا. فَسَارَ الْحُسَيْنُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِزَرْوَدَ بَلَغَهُ خَبَرُ مَقْتَلِ الَّذِي بَعَثَهُ بِكِتَابِهِ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَوَصْلَ إِلَى حَاجِرٍ، فَقَالَ: قَدْ خَذَلَتْنَا شِيعَتُنَا، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمُ الِانْصِرَافَ فَلْيَنْصَرِفْ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنَّا ذِمَامٌ. قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ أَيَادِيَ سَبَا يَمِينًا وَشِمَالًا، حَتَّى بَقِيَ فِي أَصْحَابِهِ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ إِنَّمَا اتَّبَعُوهُ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَلَدًا قَدِ اسْتَقَامَتْ لَهُ طَاعَةُ أَهْلِهَا، فَكَرِهَ أَنْ يَسِيرُوا مَعَهُ إِلَّا وَهُمْ يَعْلَمُونَ عَلَامَ يُقْدِمُونَ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا بَيَّنَ لَهُمُ الْأَمْرَ لَمْ يَصْحَبْهُ إِلَّا مَنْ يُرِيدُ مُوَاسَاتَهُ فِي الْمَوْتِ مَعَهُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ السَّحَرِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَسْتَقُوا
مِنَ الْمَاءِ فَأَكْثَرُوا مِنْهُ،
ثُمَّ سَارَ حَتَّى مَرَّ بِبَطْنِ الْعَقَبَةِ، فَنَزَلَ بِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ
شَافَهَ الْحُسَيْنَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبْنِيَةً مَضْرُوبَةً بِفَلَاةٍ مِنَ
الْأَرْضِ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذِهِ ؟ قَالُوا: هَذِهِ لِحُسَيْنٍ. قَالَ:
فَأَتَيْتُهُ فَإِذَا شَيْخٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالدُّمُوعُ تَسِيلُ عَلَى
خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَابْنَ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ ! مَا أَنْزَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ وَالْفَلَاةَ الَّتِي لَيْسَ بِهَا
أَحَدٌ ؟ فَقَالَ: هَذِهِ كُتُبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيَّ وَلَا أَرَاهُمْ إِلَّا
قَاتِلِيَّ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يَدَعُوَا لِلَّهِ حُرْمَةً إِلَّا
انْتَهَكُوهَا، فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلُّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا
أَذَلَّ مِنْ فَرَمِ الْأُمَّةِ. يَعْنِي مِقْنَعَتَهَا.
وَأَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَيُعْتَدَنَّ
عَلَيَّ كَمَا اعْتَدَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي السَّبْتِ.
وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ
الضُّبَعِيِّ قَالَ: قَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَا يَدْعُونِي حَتَّى
يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ الْعَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ سَلَّطَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ يُذِلُّهُمْ حَتَّى يَكُونُوا أَذَلَّ مِنْ فَرَمِ
الْأَمَةِ. فَقُتِلَ بِنِينَوَى يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ، ثَنَا
سُفْيَانُ، ثَنَا شِهَابُ بْنُ
خِرَاشٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: كُنْتُ فِي الْجَيْشِ الَّذِي
بَعَثَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى الْحُسَيْنِ، وكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ
يُرِيدُونَ قِتَالَ الدَّيْلَمِ، فَصَرَفَهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى
الْحُسَيْنِ، فَلَقِيتُ حُسَيْنًا، فَرَأَيْتُهُ أَسْوَدَ الرَّأْسِ
وَاللِّحْيَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ.
فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. وَكَانَتْ فِيهِ غُنَّةٌ، فَقَالَ: لَقَدْ
بَاتَتْ مِنْكُمْ فِينَا سَلَّةٌ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. يَعْنِي: سَرَقٌ. قَالَ
شِهَابٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ فَأَعْجَبَهُ، وَكَانَتْ فِيهِ
غُنَّةٌ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَهِيَ فِي الْحُسَيْنِيَّيْنِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ
قَالَ: لَمَّا صَبَّحَتِ الْخَيْلُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ رَفَعَ يَدَيْهِ
فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ وَرَجَائِي فِي كُلِّ
شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، فَكَمْ مِنْ
هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ
الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ، فَأَنْزَلْتُهُ بِكَ وَشَكَوْتُهُ
إِلَيْكَ، رَغْبَةً فِيكَ إِلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفَتْهُ
وَكَفَيْتَنِيهِ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ،
وَمُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَتِهِ قَالَ: قَالَ
الْحُسَيْنُ حِينَ نَزَلُوا كَرْبَلَاءَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ ؟ قَالُوا:
كَرْبَلَاءُ. قَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ. وَبَعَثَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ
عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يُقَاتِلُهُمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا عُمَرُ ; اخْتَرْ مِنِّي
إِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ; إِمَّا أَنْ تَتْرُكَنِي أَرْجِعُ كَمَا جِئْتُ ;
فَإِنْ أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى يَزِيدَ فَأَضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ
فَيَحْكُمَ فِيَّ مَا رَأَى، فَإِنْ
أَبَيْتَ هَذِهِ فَسَيِّرْنِي إِلَى التُّرْكِ فَأُقَاتِلَهُمْ حَتَّى أَمُوتَ.
فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ، فَهَمَّ أَنْ يُسَيِّرَهُ إِلَى
يَزِيدَ، فَقَالَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: لَا، إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ عَلَى
حُكْمِكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللَّهِ لَا
أَفْعَلُ. وَأَبْطَأَ عُمَرُ عَنْ قِتَالِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ
شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ لَهُ: إِنْ تَقَدَّمَ عُمَرُ فَقَاتَلَ،
وَإِلَّا فَاقْتُلْهُ وَكُنْ أَنْتَ مَكَانَهُ. وَكَانَ مَعَ عُمَرَ قَرِيبٌ مِنْ
ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَالُوا لَهُمْ: يَعْرِضُ
عَلَيْكُمُ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهَا شَيْئًا ؟ ! فَتَحَوَّلُوا مَعَ
الْحُسَيْنِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ
الْعَوَّامِ، عَنْ حُصَيْنٍ قَالَ: أَدْرَكْتُ ذَاكَ - يَعْنِي مَقْتَلَ
الْحُسَيْنِ - قَالَ: فَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ: فَرَأَيْتُ
الْحُسَيْنَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ بَرُودٌ، وَرَمَاهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَمْرُو
بْنُ خَالِدٍ الطُّهَوِيُّ. بِسَهْمٍ، فَنَظَرْتُ إِلَى السَّهْمِ مُعَلَّقًا
بِجُبَّتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمَّارٍ الرَّازِيُّ،
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، ثَنَا
حُصَيْنٌ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بَعَثَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ: إِنَّ مَعَكَ
مِائَةَ أَلْفٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عَقِيلٍ. فَذَكَرَ قِصَّةَ
مَقْتَلِ مُسْلِمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ حُصَيْنٌ: فَحَدَّثَنِي هِلَالُ بْنُ يَسَافٍ، أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ أَمَرَ
بِأَخْذِ مَا بَيْنَ وَاقِصَةَ إِلَى طَرِيقِ الشَّامِ إِلَى طَرِيقِ الْبَصْرَةِ،
فَلَا يَدَعُونَ أَحَدًا يَلِجُ وَلَا أَحَدًا يَخْرُجُ،
وَأَقْبَلَ الْحُسَيْنُ وَلَا يَشْعُرُ
بِشَيْءٍ حَتَّى أَتَى الْأَعْرَابَ فَسَأَلَهُمْ، عَنِ النَّاسِ، فَقَالُوا:
وَاللَّهِ لَا نَدْرِي، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَلِجَ وَلَا
تَخْرُجَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ يَسِيرُ نَحْوَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
فَتَلَقَّتْهُ الْخُيُولُ بِكَرْبَلَاءَ، فَنَزَلَ يُنَاشِدُهُمُ اللَّهَ
وَالْإِسْلَامَ. قَالَ: وَكَانَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ
وَشَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ وَحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ، فَنَاشَدَهُمُ
الْحُسَيْنُ اللَّهَ وَالْإِسْلَامَ أَنْ يُسَيِّرُوهُ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ، فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ. فَقَالُوا لَهُ: لَا ;
إِلَّا عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ بَعَثَهُمْ
إِلَيْهِ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ الْحَنْظَلِيُّ ثُمَّ النَّهْشَلِيُّ عَلَى
خَيْلٍ، فَلَمَّا سَمِعَ مَا يَقُولُ الْحُسَيْنُ قَالَ لَهُمْ: أَلَا تَقْبَلُونَ
مِنْ هَؤُلَاءِ مَا يَعْرِضُونَ عَلَيْكُمْ، وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَكُمْ هَذَا
التُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ مَا حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَرُدُّوهُمْ. فَأَبَوْا إِلَّا
عَلَى حُكْمِ ابْنِ زِيَادٍ، فَضَرَبَ الْحُرُّ وَجْهَ فَرَسِهِ، وَانْطَلَقَ
إِلَى الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، فَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ
لِيُقَاتِلَهُمْ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ قَلَبَ تُرْسَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ،
ثُمَّ كَرَّ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
رَجُلَيْنِ ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَذُكِرَ أَنَّ زُهَيْرَ بْنَ الْقَيْنِ الْبَجَلِيَّ لَقِيَ الْحُسَيْنَ، وَكَانَ
حَاجًّا، فَأَقْبَلَ مَعَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ أَبِي بَحْرِيَّةَ
الْمُرَادِيُّ وَرَجُلَانِ آخَرَانِ ; وَهَمَا عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ وَمَعْنٌ
السُّلَمِيُّ، قَالَ الْحَصِينُ: وَقَدْ رَأَيْتُهُمَا. قَالَ: وَأَقْبَلَ
الْحُسَيْنُ يُكَلِّمُ مَنْ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ
مِنْ بَرُودٍ، فَلَمَّا كَلَّمَهُمُ انْصَرَفَ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ: عَمْرٌو الطُّهَوِيُّ. بِسَهْمٍ، فَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى
السَّهْمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ
مُتَعَلِّقًا بِجُبَّتِهِ، فَلَمَّا أَبَوْا
عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى مَصَافِّهِ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ قَرِيبٌ
مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، فِيهِمْ لِصُلْبِ عَلِيٍّ خَمْسَةٌ، وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ
سِتَّةَ عَشَرَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَرَجُلٌ مِنْ
بَنِي كِنَانَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَابْنُ عَمِّ ابْنِ زِيَادٍ.
وَقَالَ حُصَيْنٌ: وَحَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ قَالَ: إِنَّا
لَمُسْتَنْقَعُونَ فِي الْمَاءِ مَعَ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ
فَسَارَّهُ فَقَالَ لَهُ: قَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ ابْنُ زِيَادٍ جُوَيْرِيَةَ بْنَ
بَدْرٍ التَّمِيمِيَّ، وَأَمَرَهُ إِنْ لَمْ تُقَاتِلِ الْقَوْمَ أَنْ يَضْرِبَ
عُنُقَكَ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَى فَرَسِهِ فَرَكِبَهَا، ثُمَّ دَعَا بِسِلَاحِهِ
فَلَبِسَهُ وَإِنَّهُ لَعَلَى فَرَسِهِ، وَنَهَضَ بِالنَّاسِ إِلَيْهِمْ
فَقَاتَلُوهُمْ، فَجِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَوُضِعَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِقَضِيبِهِ فِي أَنْفِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ كَانَ شَمِطَ. قَالَ: وَجِيءَ بِنِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ
وَأَهْلِهِ. قَالَ: وَكَانَ أَحْسَنَ شَيْءٍ صَنَعَهُ أَنْ أَمَرَ لَهُمْ
بِمَنْزِلٍ فِي مَكَانٍ مُعْتَزِلٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ رِزْقًا، وَأَمَرَ
لَهُمْ بِنَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ. قَالَ: وَانْطَلَقَ غُلَامَانِ مِنْهُمْ لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ - أَوِ ابْنِ ابْنِ جَعْفَرٍ - فَأَتَيَا رَجُلًا مِنْ طَيِّئَ
فَلَجَآ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمَا، وَجَاءَ بِرَأْسَيْهِمَا حَتَّى
وَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ زِيَادٍ. قَالَ: فَهَمَّ ابْنُ زِيَادٍ بِضَرْبِ
عُنُقِهِ، وَأَمَرَ بِدَارِهِ فَهُدِمَتْ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي مَوْلًى
لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ يَزِيدُ بِرَأْسِ
الْحُسَيْنِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَأَيْتُهُ يَبْكِي وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحِمٌ مَا فَعَلَ هَذَا. يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ. قَالَ
الْحُصَيْنُ: وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ لَبِثُوا
شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، كَأَنَّمَا
تُلَطَّخُ الْحَوَائِطُ بِالدِّمَاءِ سَاعَةَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ حَتَّى
تَرْتَفِعَ.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ
الْعَاصِ، وَكَانَ عَامِلَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ لِيَزِيدَ، وَقَدْ عَزَلَ يَزِيدُ
عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَوَلَّاهَا عَمْرَو بْنَ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا. وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ عَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسِتِّينَ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ سَائِرٌ إِلَى
الْكُوفَةِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْعِرَاقِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ
وَقَرَابَاتُهُ، فَقُتِلَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي صَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قُتِلَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا. وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ.
وَهَذِهِ صِفَةُ مَقْتَلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مَأْخُوذَةً مِنْ كَلَامِ
أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ أَهْلُ التَّشَيُّعِ مِنَ
الْكَذِبِ الصَّرِيحِ وَالْبُهْتَانِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمٍ وَالْمَذْرِيِّ بْنِ الْمُشْمَعِلِّ
الْأَسَدِيَّيْنِ قَالَا: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا نَزَلَ شَرَافَ قَالَ
لِغِلْمَانِهِ وَقْتَ السَّحَرِ: اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ. فَأَكْثَرُوا ثُمَّ
سَارُوا إِلَى صَدْرِ النَّهَارِ، فَسَمِعَ الْحُسَيْنُ رَجُلًا يُكَبِّرُ فَقَالَ
لَهُ: مِمَّ كَبَّرْتَ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُ النَّخْلَ. فَقَالَ لَهُ
الْأَسَدِيَّانِ: إِنَّ هَذَا الْمَكَانَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْهُ نَخْلَةً.
فَقَالَ الْحُسَيْنُ: فَمَاذَا تَرَيَانِهِ رَأَى ؟
فَقَالَا: هَذِهِ الْخَيْلُ قَدْ
أَقْبَلَتْ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَمَا لَنَا مَلْجَأٌ نَجْعَلُهُ فِي ظُهُورِنَا
وَنَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ؟ فَقَالَا: بَلَى، ذُو حُسُمٍ.
فَأَخَذَ ذَاتَ الْيَسَارِ إِلَى ذِي حُسُمٍ فَنَزَلَ، وَأَمَرَ بِأَبْنِيَتِهِ
فَضُرِبَتْ، وَجَاءَ الْقَوْمُ وَهُمْ أَلْفُ فَارِسٍ مَعَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ
التَّمِيمِيِّ، وَهُمْ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ،
حَتَّى وَقَفُوا فِي مُقَابَلَتِهِ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، وَالْحُسَيْنُ
وَأَصْحَابُهُ مُعْتَمُّونَ مُتَقَلِّدُونَ سُيُوفَهُمْ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَرَوَّوْا مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقُوا خُيُولَهُمْ، وَأَنْ
يَسْقُوا خُيُولَ أَعْدَائِهِمْ أَيْضًا.
وَرَوَى هُوَ وَغَيْرُهُ قَالُوا: لَمَّا دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ أَمَرَ
الْحُسَيْنُ الْحَجَّاجَ بْنَ مَسْرُوقٍ الْجُعْفِيَّ فَأَذَّنَ، ثُمَّ خَرَجَ
الْحُسَيْنُ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَنَعْلَيْنِ، فَخَطَبَ النَّاسَ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ فِي مَجِيئِهِ هَذَا إِلَى
هَاهُنَا، بِأَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُمْ لَيْسَ
لَهُمْ إِمَامٌ، وَإِنْ أَنْتَ قَدِمْتَ عَلَيْنَا بَايَعْنَاكَ وَقَاتَلْنَا
مَعَكَ. ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: تُرِيدُ أَنْ
تُصَلِّيَ بِأَصْحَابِكَ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ صِلِّ أَنْتَ وَنُصَلِّي نَحْنُ
وَرَاءَكَ. فَصَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى خَيْمَتِهِ،
وَاجْتَمَعَ بِهِ أَصْحَابُهُ، وَانْصَرَفَ الْحُرُّ إِلَى جَيْشِهِ، وَكُلٌّ عَلَى
أُهْبَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ صَلَّى بِهِمُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ
انْصَرَفَ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ وَخَلْعِ
مَنْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَدْعِيَاءِ السَّائِرِينَ بِالْجَوْرِ فِي الرَّعِيَّةِ.
فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: إِنَّا لَا نَدْرِي مَا هَذِهِ الْكُتُبُ، وَلَا مَنْ
كَتَبَهَا. فَأَحْضَرَ الْحُسَيْنُ خُرْجَيْنِ مَمْلُوءَيْنِ كُتُبًا، فَنَثَرَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَرَأَ مِنْهَا طَائِفَةً، فَقَالَ الْحُرُّ: لَسْنَا مِنْ
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَتَبُوا إِلَيْكَ، وَقَدْ أُمِرْنَا إِذَا نَحْنُ لَقِينَاكَ
أَنْ لَا نُفَارِقُكَ حَتَّى نُقْدِمَكَ عَلَى
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ
الْحُسَيْنُ: الْمَوْتُ أَدْنَى إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ الْحُسَيْنُ
لِأَصْحَابِهِ: ارْكَبُوا، فَرَكِبُوا وَرَكِبَ النِّسَاءُ، فَلَمَّا أَرَادَ
الِانْصِرَافَ حَالَ الْقَوْمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِانْصِرَافِ، فَقَالَ
الْحُسَيْنُ لِلْحُرِّ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، مَا تُرِيدُ ؟ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ:
أَمَا وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهَا لِي مِنَ الْعَرَبِ وَهُوَ عَلَى مِثْلِ
الْحَالِ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا لَأَقْتَصَّنَّ مِنْهُ، وَلَمَا تَرَكْتُ
ذِكْرَ أُمِّهِ، وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذِكْرِ أُمِّكَ إِلَّا بِأَحْسَنِ مَا
نقَدْرُ عَلَيْهِ. وَتَقَاوَلَ الْقَوْمُ وَتَرَاجَعُوا، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ:
إِنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِقِتَالِكَ، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ لَا أُفَارِقَكَ
حَتَّى أُقْدِمَكَ الْكُوفَةَ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا أَبَيْتَ فَخُذْ
طَرِيقًا لَا تُقْدِمُكَ الْكُوفَةَ وَلَا تَرُدَّكَ إِلَى الْمَدِينَةِ،
وَأَكْتُبُ أَنَا إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَاكْتُبْ أَنْتَ إِلَى يَزِيدَ، أَوْ
إِلَى ابْنِ زِيَادٍ إِنْ شِئْتَ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَمْرٍ
يَرْزُقُنِي فِيهِ الْعَافِيَةَ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِكَ.
قَالَ: فَأَخَذَ الْحُسَيْنُ يَسَارًا عَنْ طَرِيقِ الْعُذَيْبِ
وَالْقَادِسِيَّةِ، وَالْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ يُسَايِرُهُ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا
حُسَيْنُ، إِنِّي أُذَكِّرُكَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَئِنْ
قَاتَلْتَ لَتُقْتَلَنَّ، وَلَئِنْ قُوتِلْتَ لَتَهْلِكَنَّ فِيمَا أَرَى. فَقَالَ
لَهُ الْحُسَيْنُ: أَفَبِالْمَوْتِ تُخَوِّفُنِي ؟ وَلَكِنْ أَقُولُ كَمَا قَالَ
أَخُو الْأَوْسِ لِابْنِ عَمِّهِ وَقَدْ لَقِيَهُ وَهُوَ يُرِيدُ نُصْرَةَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْنَ تَذْهَبُ فَإِنَّكَ
مَقْتُولٌ ؟ فَقَالَ:
سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ عَلَى الْفَتَى إِذَا مَا نَوَى حَقًّا
وَجَاهَدَ مُسْلِمًا وَآسَى الرِّجَالَ الصَّالِحِينَ بِنَفْسِهِ
وَفَارَقَ خَوْفًا أَنْ يَعِيشَ وَيُرْغَمَا
وَيُرْوَى عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى:
سَأَمْضِي وَمَا بِالْمَوْتِ عَارٌ
عَلَى امْرِئٍ إِذَا مَا نَوَى حَقًّا وَلَمْ يُلْفَ مُجْرِمًا
فَإِنْ مِتُّ لَمْ أَنْدَمْ وَإِنْ عِشْتُ لَمْ أُلَمْ كَفَى بِكَ مَوْتًا أَنْ
تُذَلَّ وَتُرْغَمَا
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْحُرُّ مِنْهُ تَنَحَّى عَنْهُ وَجَعَلَ يَسِيرُ
بِأَصْحَابِهِ نَاحِيَةً عَنْهُ، فَانْتَهَوْا إِلَى عُذَيْبِ الْهِجَانَاتِ،
وَكَانَ بِهَا هَجَائِنُ النُّعْمَانِ تَرْعَى هُنَالِكَ، وَإِذَا سَفْرٌ
أَرْبَعَةٌ - أَيْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ - قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الْكُوفَةِ عَلَى
رَوَاحِلِهِمْ يَخُبُّونَ وَيَجْنُبُونَ فَرَسًا لِنَافِعِ بْنِ هِلَالٍ يُقَالُ
لَهُ: الْكَامِلُ. يَقْصِدُونَ الْحُسَيْنَ، وَدَلِيلُهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
الطِّرِمَّاحُ بْنُ عَدِيٍّ. رَاكِبٌ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا نَاقَتِي لَا تُذْعَرِي مِنْ زَجْرِي وَشَمِّرِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ
بِخَيْرِ رُكْبَانٍ وَخَيْرِ سَفْرِ حَتَّى تَحَلِّي بِكَرِيمِ النَّجْرِ
الْمَاجِدِ الْحُرِّ رَحِيبِ الصَّدْرِ أَتَى بِهِ اللَّهُ لِخَيْرِ أَمْرِ
ثُمَّتَ أَبْقَاهُ بَقَاءَ الدَّهْرِ
فَأَرَادَ الْحُرُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحُسَيْنِ، فَمَنَعَهُ
الْحُسَيْنُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَلَصُوا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي
عَنِ النَّاسِ وَرَاءَكُمْ. فَقَالَ لَهُ مُجَمِّعُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْعَائِذِيُّ أَحَدُ النَّفَرِ الْأَرْبَعَةِ: أَمَّا أَشْرَافُ النَّاسِ فَهُمْ
أَلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكَ ; لِأَنَّهُمْ قَدْ عَظُمَتْ رِشْوَتُهُمْ وَمُلِئَتْ
غَرَائِرُهُمْ، يُسْتَمَالُ بِذَلِكَ وُدُّهُمْ وَيُسْتَخْلَصُ بِهِ
نَصِيحَتُهُمْ، وَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَأَفْئِدَتُهُمْ تَهْوَى إِلَيْكَ،
وَسُيُوفُهُمْ غَدًا مَشْهُورَةٌ عَلَيْكَ. قَالَ لَهُمْ: فَهَلْ لَكَمَ
بِرَسُولَيْ عِلْمٍ ؟ قَالُوا: وَمَنْ رَسُولُكَ ؟ قَالَ: قَيْسُ بْنُ
مُسْهِرٍ الصَّيْدَاوِيُّ. قَالُوا: نَعَمْ، أَخَذَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَمَرَهُ ابْنُ زِيَادٍ أَنْ يَلْعَنَكَ وَيَلْعَنَ أَبَاكَ، فَصَلَّى عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ، وَلَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ وَأَبَاهُ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى نُصْرَتِكَ وَأَخْبَرَهُمْ بِقُدُومِكَ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُلْقِيَ مِنْ رَأَسَ الْقَصْرِ فَمَاتَ. فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا الْحُسَيْنِ، وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ الْأَحْزَابِ: 23 ]. اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَنَازِلَهُمُ الْجَنَّةَ، وَاجْمَعْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مُسْتَقَرٍّ مِنْ رَحْمَتِكَ، وَرَغَائِبِ مَذْخُورِ ثَوَابِكَ. ثُمَّ إِنَّ الطِّرِمَّاحَ بْنَ عَدِيٍّ قَالَ لِلْحُسَيْنِ: أَنْظُرُ فَمَا أَرَى مَعَكَ أَحَدًا إِلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ الْيَسِيرَةَ، وَإِنِّي لَأَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ يُسَايِرُونَكَ أَكْفَاءً لِمَنْ مَعَكَ، فَكَيْفَ وَظَاهِرُ الْكُوفَةِ مَمْلُوءٌ بِالْخُيُولِ وَالْجُيُوشِ يُعْرَضُونَ لِيَقْصِدُوكَ ؟ ! فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُقْدِمَ إِلَيْهِمْ شِبْرًا إِلَّا فَعَلْتَ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَنْزِلَ بَلَدًا يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِ حَتَّى تَرَى رَأْيَكَ، فَسِرْ مَعِي حَتَّى أُنْزِلَكَ مَنَاعَ جَبَلِنَا، وَهُوَ أَجَأٌ مَنَعَنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ مُلُوكِ غَسَّانَ وَحِمْيَرَ، وَمِنَ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَمِنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، وَاللَّهِ إِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا ذُلٌّ قَطُّ ; فَأَسِيرُ مَعَكَ حَتَّى أُنْزِلَكَ الْقُرَيَّةَ، ثُمَّ نَبْعَثُ إِلَى الرِّجَالِ مِنْ أَجَأَ وَسَلْمَى مِنْ طَيِّئٍ، ثُمَّ أَقِمْ فِينَا مَا بَدَا لَكَ، فَأَنَا زَعِيمٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ طَائِيٍّ يَضْرِبُونَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِأَسْيَافِهِمْ، وَاللَّهِ لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ أَبَدًا وَمِنْهُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. وَلَمْ يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ، فَوَدَّعَهُ الطِّرِمَّاحُ، وَمَضَى الْحُسَيْنُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ أَمَرَ فِتْيَانَهُ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْمَاءِ كِفَايَتَهُمْ، ثُمَّ سَرَى، فَنَعَسَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى خَفَقَ بِرَأْسِهِ،
وَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ فَارِسًا عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: الْقَوْمُ يَسِيرُونَ وَالْمَنَايَا تَسْرِي إِلَيْهِمْ. فَعَلِمْتُ أَنَّهَا أَنْفُسُنَا نُعِيَتْ إِلَيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَعَجَّلَ الرُّكُوبَ، ثُمَّ تَيَاسَرَ فِي مَسِيرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِينَوَى، فَإِذَا رَاكِبٌ مُتَنَكِّبٌ قَوْسًا قَدْ قَدِمَ مِنَ الْكُوفَةِ فَسَلَّمَ عَلَى الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَدَفَعَ إِلَى الْحُرِّ كِتَابًا مِنِ ابْنِ زِيَادٍ، وَمَضْمُونُهُ أَنْ يَعْدِلَ بِالْحُسَيْنِ فِي السَّيْرِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي غَيْرِ قَرْيَةٍ وَلَا حِصْنٍ، حَتَّى تَأْتِيَهُ رُسُلُهُ وَجُنُودُهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ قَدْ جَهَّزَهُ ابْنُ زِيَادٍ فِي هَؤُلَاءِ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَخَيَّمَ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الْحُسَيْنِ قَالَ لَهُ: سِرْ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهُ فَسِرْ إِلَى الدَّيْلَمِ. فَاسْتَعْفَاهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنْ شِئْتَ أَعْفَيْتُكَ وَعَزَلْتُكَ عَنْ وِلَايَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي قَدِ اسْتَنَبْتُكَ عَلَيْهَا. فَقَالَ: حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي. فَجَعَلَ لَا يَسْتَشِيرُ أَحَدًا إِلَّا نَهَاهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى الْحُسَيْنِ، حَتَّى قَالَ لَهُ ابْنُ أُخْتِهِ حَمْزَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: إِيَّاكَ أَنْ تَسِيرَ إِلَى الْحُسَيْنِ فَتَعْصِيَ رَبَّكَ وَتَقْطَعَ رَحِمَكَ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ تَخْرُجَ مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ: إِنِّي أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ تَهَدَّدَهُ وَتَوَعَّدَهُ بِالْعَزْلِ وَالْقَتْلِ، فَسَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ، فَنَازَلَهُ فِي الْمَكَانَ الَّذِي ذَكَرْنَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ الرُّسُلَ: مَا الَّذِي أقْدَمَكَ ؟ فَقَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنْ أَقَدَمَ عَلَيْهِمْ، فَإِذْ قَدْ كَرِهُونِي فَأَنَا أَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ وَأَذَرُكُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ هَذَا قَالَ: أَرْجُو أَنْ يُعَافِيَنِي اللَّهُ مِنْ حَرْبِهِ. وَكَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ بِذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ زِيَادٍ أَنْ حُلْ بَيْنِهِمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ، كَمَا فُعِلَ بِالتَّقِيِّ الزَّكِيِّ
الْمَظْلُومِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَاعْرِضْ عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ يُبَايِعَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ رَأَيْنَا رَأْيَنَا. وَجَعَلَ أَصْحَابُ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْحُسَيْنِ مِنَ الْمَاءِ وَعَلَى سَرِيَّةٍ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ، فَدَعَا عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بِالْعَطَشِ، فَمَاتَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ. ثُمَّ إِنَّ الْحُسَيْنَ طَلَبَ مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ، فَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا، فَتَكَلَّمَا طَوِيلًا حَتَّى ذَهَبَ هَزِيعٌ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا قَالَا، وَلَكِنْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَيَتْرُكَا الْعَسْكَرَيْنِ مُتَوَاقِفَيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِذَنْ يَهْدِمُ ابْنُ زِيَادٍ دَارِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: أَنَا أَبْنِيهَا لَكَ. قَالَ: إِذَنْ يَأْخُذُ ضَيَاعِي. قَالَ: أَنَا أُعْطِيكَ خَيْرًا مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالْحِجَازِ. قَالَ: فَتَكَرَّهَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ سَأَلَ مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَذْهَبَا إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَتْرُكَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْحِجَازِ، أَوْ يَذْهَبُ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَيُقَاتِلَ التُّرْكَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بِذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَدْ قَبِلْتُ. فَقَامَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَى حُكْمِكَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ حُسَيْنًا وَعُمَرَ بْنَ سَعْدٍ يَجْلِسَانِ بَيْنَ الْعَسْكَرَيْنِ فَيَتَحَدَّثَانِ عَامَّةَ اللَّيْلِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُنْدَبٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: لَقَدْ صَحِبْتُ الْحُسَيْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى حِينِ قُتِلَ، وَاللَّهِ مَا مِنْ كَلِمَةٍ قَالَهَا فِي مَوْطِنٍ
إِلَّا وَقَدْ سَمِعْتُهَا، وَإِنَّهُ
لَمْ يَسْأَلْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ فَيَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، وَلَا
أَنْ يَذْهَبَ إِلَى ثَغْرٍ مِنَ الثُّغُورِ وَلَكِنْ طَلَبَ مِنْهُمْ أَحَدَ
أَمْرَيْنِ ; إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَإِمَّا أَنْ يَدَعُوهُ
يَذْهَبُ فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ حَتَّى يَنْظُرَ مَا يَصِيرُ أَمْرُ النَّاسِ
إِلَيْهِ. ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ بَعَثَ شَمِرَ بْنَ ذِي
الْجَوْشَنِ فَقَالَ: اذْهَبْ فَإِنْ جَاءَ حُسَيْنٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى حُكْمِي،
وَإِلَّا فَمُرْ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، فَإِنْ تَبَاطَأَ عَنْ
ذَلِكَ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، ثُمَّ أَنْتَ الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ. وَكَتَبَ
إِلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ يَتَهَدَّدُهُ عَلَى تَوَانِيهِ فِي قِتَالِ
الْحُسَيْنِ، وَأَمَرَهُ إِنْ لَمْ يَجِئِ الْحُسَيْنُ إِلَيْهِ أَنْ يُقَاتِلَهُ
وَمَنْ مَعَهُ، فَإِنَّهُمْ مُشَاقُّونَ. فَاسْتَأْمَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
الْمُحِلِّ لِبَنِي عَمَّتِهِ أُمِّ الْبَنِينَ بِنْتِ حِزَامٍ مِنْ عَلِيٍّ ;
وَهُمُ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ.
فَكَتَبَ لَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ كِتَابَ أَمَانٍ، وَبَعْثَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي الْمُحِلِّ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: كُزْمَانُ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ
ذَلِكَ قَالُوا: أَمَّا أَمَانُ ابْنِ سُمَيَّةَ فَلَا نُرِيدُهُ، وَإِنَّا
لَنَرْجُو أَمَانًا خَيْرًا مِنْ أَمَانِ ابْنِ سُمَيَّةَ. وَلَمَّا قَدِمَ شَمِرُ
بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِكِتَابِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ قَالَ لَهُ عُمَرُ: أَبْعَدَ اللَّهُ دَارَكَ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ،
وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ الَّذِي صَرَفْتَهُ عَنِ الَّذِي عَرَضْتُ عَلَيْهِ
مِنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي طَلَبَهَا الْحُسَيْنُ. فَقَالَ لَهُ شَمِرٌ:
فَأَخْبِرْنِي مَا أَنْتَ صَانِعٌ ; أَتُقَاتِلُهُمْ أَنْتَ أَوْ تَارِكِي
وَإِيَّاهُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ لَكَ، أَنَا أَتَوَلَّى
ذَلِكَ. وَجَعَلَهُ عَلَى الرَّجَّالَةِ، وَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ عَشِيَّةَ يَوْمِ
الْخَمِيسِ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَقَامَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ
فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو أُخْتِنَا ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ الْعَبَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ
وَجَعْفَرٌ وَعُثْمَانُ بَنُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَنْتُمْ
آمِنُونَ. فَقَالُوا: إِنْ أَمَّنْتَنَا وَابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمَانِكَ. قَالَ: ثُمَّ
نَادَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي الْجَيْشِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي
وَأَبْشِرِي. فَرَكِبُوا وَزَحَفُوا
إِلَيْهِمْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، هَذَا وَحُسَيْنٌ جَالِسٌ أَمَامَ خَيْمَتِهِ مُحْتَبِيًا بِسَيْفِهِ، وَنَعَسَ فَخَفَقَ بِرَأْسِهِ، وَسَمِعَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ الضَّجَّةَ فَدَنَتْ مِنْهُ فَأَيْقَظَتْهُ، فَرَجَعَ بِرَأْسِهِ كَمَا هُوَ، وَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: " إِنَّكَ تَرُوحُ إِلَيْنَا ". فَلَطَمَتْ وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا وَيْلَتَا. فَقَالَ: لَيْسَ لَكِ الْوَيْلُ يَا أُخَيَّةُ، اسْكُنِي رَحِمَكِ الرَّحْمَنُ. وَقَالَ لَهُ أَخُوهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ: يَا أَخِي، جَاءَكَ الْقَوْمُ. فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ مَا بَدَا لَهُمْ. فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ فَارِسًا فَقَالَ: مَا لَكُمْ ؟ فَقَالُوا: جَاءَ أَمْرُ الْأَمِيرِ ; إِمَّا أَنْ تَأْتُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَإِمَّا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ. فَقَالَ: مَكَانَكُمْ حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَأُعْلِمَهُ. فَرَجَعَ وَوَقَفَ أَصْحَابُهُ، فَجَعَلُوا يَتَرَاجَعُونَ الْقَوْلَ وَيُؤَنِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يَقُولُ أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ: بِئْسَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ، تُرِيدُونَ قَتْلَ ذُرِّيَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِيَارَ النَّاسِ فِي زَمَانِهِمْ ؟ ! ثُمَّ رَجَعَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ عِنْدِ الْحُسَيْنِ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: يَقُولُ لَكُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: انْصَرِفُوا عَشِيَّتَكُمْ هَذِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ لِشَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ: مَا تَقَولُ ؟ فَقَالَ: أَنْتَ الْأَمِيرُ وَالرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ سَلَمَةَ الزُّبَيْدِيُّ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! وَاللَّهِ لَوْ سَأَلَكُمْ ذَلِكَ رَجُلٌ مَنَ الدَّيْلَمِ لَكَانَ يَنْبَغِي إِجَابَتُهُ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَجِبْهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوكَ، فَلَعَمْرِي لَيُصَبِّحُنَّكَ بِالْقِتَالِ غُدْوَةً. وَهَكَذَا جَرَى الْأَمْرُ، فَإِنَّ الْحُسَيْنَ لَمَّا رَجَعَ الْعَبَّاسُ قَالَ لَهُ: ارْجِعْ فَارْدُدْهُمْ هَذِهِ الْعَشِيَّةَ، لَعَلَّنَا نُصَلِّي لِرَبِّنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ وَنَدْعُوهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنِّي أَنِّي أُحِبُّ الصَّلَاةَ لَهُ، وَتِلَاوَةَ كِتَابِهِ، وَالِاسْتِغْفَارَ وَالدُّعَاءَ. وَأَوْصَى الْحُسَيْنُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ إِلَى أَهْلِهِ، وَخَطَبَ
أَصْحَابَهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى أَهْلِهِ فِي لَيْلَتِهِ هَذِهِ، فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي. فَقَالَ مَالِكُ بْنُ النَّضْرِ: عَلَيَّ دَيْنٌ وَلِي عِيَالٌ. فَقَالَ: هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلًا، لِيَأْخُذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، ثُمَّ اذْهَبُوا فِي بَسِيطِ الْأَرْضِ فِي سَوَادِ هَذَا اللَّيْلِ إِلَى بِلَادِكُمْ وَمَدَائِنِكُمْ، فَإِنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا يُرِيدُونَنِي، فَلَوْ قَدْ أَصَابُونِي لَهَوْا عَنْ طَلَبِ غَيْرِي، فَاذْهَبُوا حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ إِخْوَتُهُ وَأَبْنَاؤُهُ وَبَنُو أَخِيهِ: لَا بَقَاءَ لَنَا بَعْدَكَ، وَلَا أَرَانَا اللَّهُ فِيكَ مَا نَكْرَهُ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: يَا بَنِي عَقِيلٍ، حَسْبُكُمْ بِمُسْلِمٍ أَخِيكُمْ، اذْهَبُوا فَقَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ. قَالُوا: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ ! أَنَّا تَرَكْنَا شَيْخَنَا وَسَيِّدَنَا وبَنِي عُمُومَتِنَا خَيْرَ الْأَعْمَامِ، لَمْ نَرْمِ مَعَهُمْ بِسَهْمٍ، وَلَمْ نَطْعَنْ مَعَهُمْ بِرُمْحٍ، وَلَمْ نَضْرِبْ مَعَهُمْ بِسَيْفٍ، رَغْبَةً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ؟ ! لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، وَلَكِنْ نَفْدِيكَ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَهْلِينَا، وَنُقَاتِلُ مَعَكَ حَتَّى نَرِدَ مَوْرِدَكَ، فَقَبَّحَ اللَّهُ الْعَيْشَ بَعْدَكَ. وَقَالَ نَحْوَ ذَلِكَ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ الْأَسَدِيُّ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَنَفِيُّ: وَاللَّهِ لَا نُخَلِّيكَ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّا قَدْ حَفِظْنَا غَيْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيكَ، وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أُقْتَلُ دُونَكَ أَلْفَ قَتْلَةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْقَتْلَ عَنْكَ وَعَنْ أَنْفُسِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، لَأَحْبَبْتُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ قَتْلَةٌ وَاحِدَةٌ. وَتَكَلَّمَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ بِكَلَامٍ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُفَارِقُكَ، وَأَنْفُسُنَا الْفِدَاءُ لَكَ، نَقِيكَ بِنُحُورِنَا وَجِبَاهِنَا، وَأَيْدِينَا وَأَبْدَانِنَا، فَإِذَا نَحْنُ قُتِلْنَا وَفَّيْنَا وَقَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا. وَقَالَ
أَخُوهُ الْعَبَّاسُ: لَا أَرَانَا
اللَّهُ يَوْمَ فَقْدِكَ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا فِي الْحَيَاةِ بَعْدَكَ.
وَتَتَابَعَ أَصْحَابُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو الضَّحَّاكِ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ
تِلْكَ الْعَشِيَّةَ الَّتِي قُتِلَ أَبِي فِي صَبِيحَتِهَا، وَعَمَّتِي زَيْنَبُ
تُمَرِّضُنِي، إِذِ اعْتَزَلَ أَبِي فِي خِبَائِهِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ،
وَعِنْدَهُ حُوَيٌّ مَوْلَى أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَهُوَ يُعَالِجُ سَيْفَهُ
وَيُصْلِحُهُ، وَأَبِي يَقُولُ:
يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ كَمْ لَكَ بِالْإِشْرَاقِ وَالْأَصِيلِ
مِنْ صَاحِبٍ أَوْ طَالِبٍ قَتِيلِ وَالدَّهْرُ لَا يَقْنَعُ بِالْبَدِيلِ
وَإِنَّمَا الْأَمْرُ إِلَى الْجَلِيلِ وَكُلُّ حَيٍّ سَالِكُ السَّبِيلِ
قَالَ: فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، فَفَهِمْتُ مَا أَرَادَ،
فَخَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ، فَرَدَدْتُهَا وَلَزِمْتُ السُّكُوتَ، وَعَلِمْتُ
أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ نَزَلَ، وَأَمَّا عَمَّتِي فَقَامْتَ حَاسِرَةً حَتَّى
انْتَهَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: وَاثُكْلَاهُ، لَيْتَ الْمَوْتَ أَعْدَمَنِي
الْحَيَاةَ الْيَوْمَ، مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ، وَعَلِيٌّ أَبِي، وَحَسَنٌ
أَخِي، يَا خَلِيفَةَ الْمَاضِي وَثِمَالَ الْبَاقِي. فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَقَالَ:
يَا أُخَيَّةُ، لَا يُذْهِبَنَّ حِلْمُكِ الشَّيْطَانُ. فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، اسْتُقْتِلْتَ. وَلَطَمَتْ وَجْهَهَا،
وَشَقَّتْ جَيْبَهَا، وَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَقَامَ إِلَيْهَا فَصَبَّ
عَلَى وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ، اتَّقِي اللَّهَ وَتَعَزِّي
بِعَزَاءِ اللَّهِ، وَاعْلَمِي أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَمُوتُونَ، وَأَنَّ أَهْلَ
السَّمَاءِ لَا يَبْقَوْنَ، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ
إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ
الْخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، وَيُمِيتُهُمْ بِقَهْرِهِ وَعِزَّتِهِ، وَيُعِيدُهُمْ
فَيَعُودُونَ، وَهُوَ فَرْدٌ وَحْدَهُ، وَاعْلَمِي أَنَّ أَبِي خَيْرٌ مِنِّي
وَأُمِّي خَيْرٌ مِنِّي، وَأَخِي خَيْرٌ مِنِّي، وَلِي وَلَهُمْ وَلِكُلِّ
مُسْلِمٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
ثُمَّ حَرَّجَ عَلَيْهَا أَلَّا تَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذَا بَعْدَ مَهْلِكِهِ،
ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا فَرَدَّهَا إِلَى عِنْدِي، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ
فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَرِّبُوا بُيُوتَهُمْ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى
تَدْخُلَ الْأَطْنَابُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَأَلَّا يَجْعَلُوا لِلْعَدُوِّ
مَخْلَصًا إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَتَكُونُ الْبُيُوتُ عَنْ
أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ وَرَائِهِمْ.
وَبَاتَ الْحُسَيْنُ وَأَصْحَابُهُ طُولَ لَيْلِهِمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ
وَيَدْعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ، وَخُيُولُ حَرَسِ عَدُوِّهِمْ تَدُورُ مِنْ
وَرَائِهِمْ، عَلَيْهَا عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ الْأَحْمَسِيُّ وَالْحُسَيْنُ
يَقْرَأُ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ
لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 179، 178 ].
فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ الْخَيْلِ الَّتِي كَانَتْ تَحْرُسُ مِنْ أَصْحَابِ
ابْنِ زِيَادٍ، فَقَالَ: نَحْنُ وَرَبِّ الْكَعْبةِ الطَّيِّبُونَ، مَيَّزَنَا
اللَّهُ مِنْكُمْ. قَالَ: فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ لِبُرَيْرِ بْنِ خُضَيْرٍ
أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: لَا. فَقُلْتُ: هَذَا أَبُو حَرْبٍ السَّبِيعِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَهْرٍ، وَكَانَ مِضْحَاكًا بَطَّالًا، وَكَانَ شَرِيفًا
شُجَاعًا فَاتِكًا، وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ رُبَّمَا حَبَسَهُ فِي جِنَايَةٍ.
فَقَالَ لَهُ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ:
يَا فَاسِقُ، مَتَى كُنْتَ مِنَ الطَّيِّبِينَ ؟ ! فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ، وَيْلَكَ ؟ ! قَالَ: أَنَا بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ. قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ، هَلَكْتَ وَاللَّهِ، عَزَّ وَاللَّهِ عَلَيَّ يَا بُرَيْرُ قَتْلَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا حَرْبٍ، هَلْ لَكَ أَنْ تَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذُنُوبِكَ الْعِظَامِ ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَحْنُ الطَّيِّبُونَ وَإِنَّكُمْ لَأَنْتُمُ الْخِبِيثُونَ. قَالَ: نَعَمْ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ. قَالَ: وَيْحَكَ ! أَفَلَا تَنْفَعُكَ مَعْرِفَتُكَ ؟ ! قَالَ: فَانْتَهَرَهُ عَزْرَةُ بْنُ قَيْسٍ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ الَّتِي تَحْرُسُنَا، فَانْصَرَفَ عَنَّا. قَالَ: فَلَمَّا صَلَّى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ الصُّبْحَ بِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: يَوْمَ السَّبْتِ - وَكَانَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ - انْتَصَبَ لِلْقِتَالِ، وَصَلَّى الْحُسَيْنُ أَيْضًا بِأَصْحَابِهِ، وَهُمُ اثَنَانِ وَثَلَاثُونَ فَارِسًا وَأَرْبَعُونَ رَاجِلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَصَفَّهُمْ، فَجَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ زُهَيْرَ بْنَ الْقَيْنِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ حَبِيبَ بْنَ مُظَهِّرٍ، وَأَعْطَى رَايَتَهُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيٍّ أَخَاهُ، وَجَعَلُوا الْبُيُوتَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَرَمِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَقَدْ أَمَرَ الْحُسَيْنُ مِنَ اللَّيْلِ، فَحَفَرُوا وَرَاءَ بُيُوتِهِمْ خَنْدَقًا، وَقَذَفُوا فِيهِ حَطَبًا وَخَشَبًا وَقَصَبًا، ثُمَّ أُضْرِمَتْ فِيهِ النَّارُ ; لِئَلَّا يَخْلُصَ أَحَدٌ إِلَى بُيُوتِهِمْ مِنْ وَرَائِهَا. وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَمْرَو بْنَ الْحَجَّاجِ الزُّبَيْدِيَّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ شَمِرَ بْنَ ذِي الْجَوْشَنِ - وَاسْمُ ذِي الْجَوْشَنِ شُرَحْبِيلُ بْنُ الْأَعْوَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ الضِّبَابُ بْنُ كِلَابٍ - وَعَلَى الْخَيْلِ عَزْرَةَ بْنَ قَيْسٍ
الْأَحْمَسِيَّ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، وَأَعْطَى الرَّايَةَ ذُوَيْدًا مَوْلَاهُ، وَتَوَاقَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَعَدَلَ الْحُسَيْنُ إِلَى خَيْمَةٍ قَدْ نُصِبَتْ لَهُ، فَاغْتَسَلَ فِيهَا، وَاطَّلَى بِالنُّورَةِ، وَتَطَيَّبَ بِمِسْكٍ كَثِيرٍ، وَدَخَلَ بَعْدَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، فَفَعَلُوا كَمَا فَعَلَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ ! فَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَعْنَا مِنْكَ، وَاللَّهِ مَا هَذِهِ بِسَاعَةِ بَاطِلٍ. فَقَالَ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي مَا أَحْبَبْتُ الْبَاطِلَ شَابًّا وَلَا كَهْلًا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ إِنِّي لَمُسْتَبْشِرٌ بِمَا نَحْنُ لَاقُونَ، وَاللَّهِ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْحُورِ الْعِينِ إِلَّا أَنْ يَمِيلَ عَلَيْنَا هَؤُلَاءِ فَيَقْتُلُونَا. ثُمَّ رَكِبَ الْحُسَيْنُ عَلَى فَرَسِهِ، وَأَخَذَ مُصْحَفًا فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَرَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ. إِلَى آخِرِهِ. وَأَرْكَبَ ابْنَهُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ - وَكَانَ ضَعِيفًا مَرِيضًا - فَرَسًا يُقَالُ لَهُ: لَاحِقٌ. وَنَادَى الْحُسَيْنُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اسْمَعُوا مِنِّي نَصِيحَةً أَقُولُهَا لَكُمْ. فَأَنْصَتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ والثَنَاءِ عَلَيْهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنْ قَبِلْتُمْ مِنِّي وَأَنْصَفْتُمُونِي، كُنْتُمْ بِذَلِكَ أَسْعَدَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلُوا مِنِّي فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ [ يُونُسَ: 71 ]، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [ الْأَعْرَافِ: 196 ]. فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَخَوَاتُهُ وَبَنَاتُهُ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ بِالْبُكَاءِ، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا يَبْعَدُ ابْنُ عَبَّاسٍ. يَعْنِي حِينَ أَشَارَ عَلَيْهِ أَلَّا يَخْرُجَ بِالنِّسَاءِ مَعَهُ، وَيَدَعَهُنَّ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ يَنْتَظِمَ لَهُ الْأَمْرُ. ثُمَّ بَعَثَ أَخَاهُ الْعَبَّاسَ وَابْنَهُ عَلِيًّا فَسَكَّتَاهُنَّ، ثُمَّ شَرَعَ يَذْكُرُ لِلنَّاسِ فَضْلَهُ وَعَظَمَةَ نَسَبِهِ، وَعُلُوَّ قَدْرِهِ،
وَشَرَفَهُ، وَيَقُولُ: رَاجِعُوا أَنْفُسَكُمْ، هَلْ يَصْلُحُ لَكُمْ قِتَالُ مِثْلِي، وَأَنَا ابْنُ بِنْتِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ابْنُ بِنْتِ نَبِيٍّ غَيْرِي، وَعَلِيٌّ أَبِي، وَجَعْفَرُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ عَمِّي، وَحَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عَمُّ أَبِي، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَخِي: هَذَانَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". فَإِنْ صَدَّقْتُمُونِي بِمَا أَقُولُ فَهُوَ الْحَقُّ، وَاللَّهِ مَا تَعَمَّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِلَّا فَاسْأَلُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ; جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا سَعِيدٍ، وَسَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُخْبِرُوكُمْ بِذَلِكَ، وَيْحَكُمْ ! أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ ؟ ! أَمَا فِي هَذَا حَاجِزٌ لَكُمْ عَنْ سَفْكِ دَمِي ؟ ! فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: هُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، إِنْ كُنْتُ أَدْرِي مَا يَقُولُ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: وَاللَّهِ يَا شَمِرُ، إِنَّكَ لَتَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى سَبْعِينَ حَرْفًا، وَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَقُولُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قَلْبِكَ. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ذَرُونِي أَرْجِعْ إِلَى مَأْمَنِي مِنَ الْأَرْضِ. فَقَالُوا: وَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ ؟ فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أُعْطِيَهُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ وَأُقِرَّ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ، عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [ غَافِرٍ: 27 ]. ثُمَّ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، وَأَمَرَ عُقْبَةَ بْنَ سَمْعَانَ فَعَقَلَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرُونِي أَتَطْلُبُونِي بِقَتِيلٍ لَكُمْ قَتَلْتُهُ ؟ أَوْ مَالٍ لَكُمْ أَكَلْتُهُ ؟ أَوْ بِقِصَاصٍ مِنْ جِرَاحَةٍ ؟ قَالَ: فَأَخَذُوا لَا يُكَلِّمُونَهُ. قَالَ: فَنَادَى: يَا شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، يَا حَجَّارُ بْنَ أَبْجَرَ،
يَا قَيْسُ بْنَ الْأَشْعَثِ، يَا زَيْدُ بْنَ الْحَارِثِ، أَلَمْ تَكْتُبُوا إِلَيَّ أَنَّهُ قَدْ أَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَاخْضَرَّ الْجَنَابُ، فَاقْدَمْ عَلَيْنَا، فَإِنَّكَ إِنَّمَا تَقْدَمُ عَلَى جُنْدٍ مُجَنَّدٍ. فَقَالُوا لَهُ: لَمْ نَفْعَلْ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُمْ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِذْ قَدْ كَرِهْتُمُونِي فَدَعُونِي أَنْصَرِفْ عَنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ قَيْسُ بْنُ الْأَشْعَثِ: أَلَا تَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ بَنِي عَمِّكَ ؟ فَإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْذُوكَ، وَلَا تَرَى مِنْهُمْ إِلَّا مَا تُحِبُّ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: أَنْتَ أَخُو أَخِيكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَطْلُبَكَ بَنُو هَاشِمٍ بِأَكْثَرَ مِنْ دَمِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أُعْطِيهِمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلَا أُقِرُّ لَهُمْ إِقْرَارَ الْعَبِيدِ. قَالَ: وَأَقْبَلُوا يَزْحَفُونَ نَحْوَهُ، وَقَدْ تَحَيَّزَ إِلَى جَيْشِ الْحُسَيْنِ مِنْ أُولَئِكَ طَائِفَةٌ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ فَارِسًا فِيمَا قِيلَ، مِنْهُمُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ مُقَدِّمَةُ الْكُوفِيِّينَ، فَاعْتَذَرَ إِلَى الْحُسَيْنِ مِمَّا كَانَ مِنْهُمْ. قَالَ: وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ لَسِرْتُ مَعَكَ إِلَى يَزِيدَ. فَقَبِلَ مِنْهُ الْحُسَيْنُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَخَاطَبَ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ، فَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! أَلَا تَقْبَلُونَ مِنِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْرِضُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً مِنْهَا ؟ فَقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ إِلَيَّ قَبِلْتُ، وَلَكِنْ أَبَى عَلَيَّ
ابْنُ زِيَادٍ. ثُمَّ خَاطَبَ أَهْلَ
الْكُوفَةِ، فَسَبَّهُمْ وَأَنَّبَهُمْ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ ! دَعَوْتُمُوهُ،
حَتَّى إِذَا جَاءَ خَذَلْتُمُوهُ، وَمَا كَفَاكُمْ ذَلِكَ حَتَّى جِئْتُمْ
لِتُقَاتِلُوهُ، وَقَدْ مَنَعْتُمُوهُ وَنِسَاءَهُ الْمَاءَ مِنَ الْفُرَاتِ ;
الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ،
وَتَتَمَرَّغُ فِيهِ خَنَازِيرُ السَّوَادِ وَكِلَابُهُ، فَهُوَ كَالْأَسِيرِ فِي
أَيْدِيكُمْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
قَالَ: فَتَقَدَّمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ لِمَوْلَاهُ: يَا ذُوَيْدُ،
أَدْنِ رَايَتَكَ. فَأَدْنَاهَا، ثُمَّ شَمَّرَ عُمَرُ عَنْ سَاعِدِهِ، وَرَمَى
بِسَهْمٍ، وَقَالَ: اشْهَدُوا أَنِّي أَوَّلُ مَنْ رَمَى الْقَوْمَ. قَالَ:
فَتَرَامَى النَّاسُ بِالنِّبَالِ، وَخَرَجَ يَسَارٌ مَوْلَى زِيَادٍ وَسَالِمٌ
مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَالَا:
مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَبَرَزَ لَهُمَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ الْكَلْبِيُّ بَعْدَ اسْتِئْذَانِهِ الْحُسَيْنَ،
فَقَتَلَ يَسَارًا أَوَّلًا، ثُمَّ قَتَلَ سَالِمًا بَعْدَهُ، وَقَدْ ضَرَبَهُ
سَالِمٌ ضَرْبَةً أَطَارَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى، وَحَمَلَ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَوْزَةَ. حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ،
فَقَالَ لَهُ: يَا حُسَيْنُ، أَبْشِرْ بِالنَّارِ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ:
كَلَّا، وَيْحَكَ ! إِنِّي أَقْدَمُ عَلَى رَبٍّ رَحِيمٍ، وَشَفِيعٍ مُطَاعٍ، بَلْ
أَنْتَ أَوْلَى بِالنَّارِ. قَالُوا: فَانْصَرَفَ فَوَقَصَتْهُ فَرَسُهُ فَسَقَطَ،
وَتَعَلَّقَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى بِالرِّكَابِ.
وَشَدَّ عَلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، فَضَرَبَهُ فَأَطَارَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى، وَغَارَتْ بِهِ فَرَسُهُ، فَلَمْ يَبْقَ حَجَرٌ يَمُرُّ بِهِ إِلَّا
ضَرَبَهُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى مَاتَ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ يُدْعَى
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ مِنْ بَنِي عُلَيْمٍ، كَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ،
وَاتَّخَذَ دَارًا عِنْدَ بِئْرِ الْجَعْدِ مِنْ هَمْدَانَ، وَكَانَتْ مَعَهُ
امْرَأَةٌ لَهُ مَنَ النَّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ، فَرَأَى النَّاسَ يَتَهَيَّئُونَ
لِلْخُرُوجِ إِلَى قِتَالِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ عَلَى
قِتَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ حَرِيصًا، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ جِهَادِي
مَعَ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَؤُلَاءِ
أَفْضَلَ مِنْ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَيْسَرَ ثَوَابًا عِنْدَ اللَّهِ.
فَدَخَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا هُوَ عَازِمٌ عَلَيْهِ،
فَقَالَتْ: أَصَبْتَ - أَصَابَ اللَّهُ بِكَ - أَرْشَدَ أُمُورِكَ، افْعَلْ
وَأَخْرِجْنِي مَعَكَ. قَالَ: فَخَرَجَ
بِهَا لَيْلًا حَتَّى أَتَى الْحُسَيْنَ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ رَمْيِ عُمَرَ بْنِ
سَعْدٍ بِالسَّهْمِ، وَقِصَّةَ قَتْلِهِ يَسَارًا مَوْلَى زِيَادٍ، وَسَالِمًا
مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَيْرٍ اسْتَأْذَنَ
الْحُسَيْنَ فِي الْخُرُوجِ إِلَيْهِمَا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ، فَرَأَى
رَجُلًا آدَمَ طَوِيلًا شَدِيدَ السَّاعِدَيْنِ، بَعِيدَ مَا بَيْنَ
الْمَنْكِبَيْنِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لِلْأَقْرَانِ
قَتَّالًا، اخْرُجْ إِنْ شِئْتَ. فَخَرَجَ فَقَالَا لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟
فَانْتَسَبَ لَهُمَا. فَقَالَا: لَا نَعْرِفُكَ. فَقَالَ لَهُمَا: يَا أَوْلَادَ
الزَّانِيَةِ، أَوَ بِكُمْ رَغْبَةٌ عَنْ مُبَارَزَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ ؟ !
وَهَلْ يَخْرُجُ إِلَيْكُمَا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكُمَا ؟ ثُمَّ شَدَّ
عَلَى يَسَارٍ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ، فَإِنَّهُ لَمُشْتَغِلٌ بِهِ إِذْ
حَمَلَ عَلَيْهِ سَالِمٌ مَوْلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَصَاحَ بِهِ: قَدْ رَهِقَكَ
الْعَبْدُ. قَالَ: فَلَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ حَتَّى غَشِيَهُ، فَضَرَبَهُ عَلَى
يَدِهِ الْيُسْرَى، فَأَطَارَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ مَالَ عَلَيْهِ الْكَلْبِيُّ،
فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَأَقْبَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
إِنْ تُنْكِرَانِي فَأَنَا ابْنُ كَلْبِ حَسْبِي بَيْتِي فِي عُلَيْمٍ حَسْبِي
إِنِّي امْرُؤٌ ذُو مِرَّةٍ وَعَصْبِ وَلَسْتُ بِالْخَوَّارِ عِنْدَ الْكَرْبِ
إِنِّي زَعِيمٌ لَكِ أُمَّ وَهْبِ
بِالطَّعْنِ فِيهِمْ مُقْدِمًا وَالضَّرْبِ
ضَرْبِ غُلَامٍ مُؤْمِنٍ بِالرَّبِّ
فَأَخَذَتْ أُمُّ وَهْبٍ عَمُودًا، ثُمَّ أَقْبَلَتْ نَحْوَ زَوْجِهَا تَقُولُ
لَهُ: فِدَاؤُكَ أَبِي وَأُمِّي، قَاتِلْ دُونَ الطَّيِّبِينَ ذُرِّيَّةِ
مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. فَأَقْبَلَ إِلَيْهَا يَرُدُّهَا
نَحْوَ النِّسَاءِ، فَأَقْبَلَتْ تُجَاذِبُهُ ثَوْبَهُ. قَالَتْ: دَعْنِي أَكُونُ
مَعَكَ. فَنَادَاهَا الْحُسَيْنُ: انْصَرِفِي إِلَى النِّسَاءِ فَاجْلِسِي
مَعَهُنَّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ قِتَالٌ. فَانْصَرَفَتْ
إِلَيْهِنَّ.
قَالَ: وَكَثُرَتِ الْمُبَارَزَةُ يَوْمَئِذٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَالنَّصْرُ
فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِ الْحُسَيْنِ ; لِقُوَّةِ بَأْسِهِمْ، وَأَنَّهُمْ
مُسْتَمِيتُونَ، لَا عَاصِمَ لَهُمْ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، فَأَشَارَ بَعْضُ
الْأُمَرَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ بِعَدَمِ الْمُبَارَزَةِ، وَحَمَلَ عَمْرُو
بْنُ الْحَجَّاجِ أَمِيرَ الْمَيْمَنَةِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: قَاتِلُوا مَنْ مَرَقَ
مِنَ الدِّينِ، وَفَارَقَ الْإِمَامَ وَالْجَمَاعَةَ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ:
وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ ! أَعَلَيَّ تُحَرِّضُ النَّاسَ ؟ ! أَنَحْنُ مَرَقْنَا
مِنَ الدِّينِ وَأَنْتُمْ ثَبَتُّمْ عَلَيْهِ ؟ ! سَتَعْلَمُونَ إِذَا فَارَقَتْ
أَرْوَاحُكُمْ أَجْسَادَكُمْ مَنْ أَوْلَى بِصِلِيِّ النَّارِ. وَقَدْ قُتِلَ فِي
هَذِهِ الْحَمْلَةِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ
أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَمَشَى إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ،
وَهُوَ عَلَى آخِرِ رَمَقٍ، وَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: أَبْشِرْ
بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ حَبِيبٌ: لَوْلَا أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي عَلَى إِثْرِكَ
لَاحِقُكَ، لَكُنْتُ أَقْضِي مَا تُوصِينِي بِهِ. فَقَالَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ
عَوْسَجَةَ: أُوصِيكَ بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ - أَنْ تَمُوتَ
دُونَهُ. قَالُوا: ثُمَّ حَمَلَ شَمِرُ
بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِالْمَيْسَرَةِ، وَقَصَدُوا نَحْوَ الْحُسَيْنِ،
فَدَافَعَتْ عَنْهُ الْفُرْسَانُ مِنْ أَصْحَابِهِ دِفَاعًا عَظِيمًا، وَكَافَحُوا
دُونَهُ مُكَافَحَةً بَلِيغَةً، فَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ
طَائِفَةً مِنَ الرُّمَاةِ الرَّجَّالَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ نَحْوًا مِنْ
خَمْسِمِائَةٍ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ خُيُولَ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ، فَعَقَرُوهَا
كُلَّهَا حَتَّى بَقِيَ جَمِيعُهُمْ رَجَّالَةً، وَلَمَّا عَقَرُوا جَوَادَ
الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ نَزَلَ عَنْهُ وَفِي يَدِهِ السَّيْفُ كَأَنَّهُ لَيْثٌ
وَهُوَ يَقُولُ
إِنْ تَعْقِرُوا بِي فَأَنَا ابْنُ الْحُرِّ أَشْجَعُ مِنْ ذِي لِبْدَةٍ هِزَبْرِ
وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ أَمَرَ بِتَقْوِيضِ تِلْكَ الْأَبْنِيَةِ
الَّتِي تَمْنَعُ مِنَ الْقِتَالِ مَنْ أَتَى مِنْ نَاحِيَتِهَا، فَجَعَلَ
أَصْحَابُ الْحُسَيْنِ يَقْتُلُونَ مَنْ يَتَعَاطَى ذَلِكَ، فَأَمَرَ
بِتَحْرِيقِهَا، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: دَعُوهُمْ يَحْرِقُونَهَا، فَإِنَّهُمْ لَا
يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا مِنْهَا وَقَدِ أُحْرِقَتْ. وَجَاءَ شَمِرُ بْنُ
ذِي الْجَوْشَنِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، إِلَى فُسْطَاطِ الْحُسَيْنِ، فَطَعَنَهُ
بِرُمْحِهِ - يَعْنِي الْفُسْطَاطَ - وَقَالَ: ائْتُونِي بِالنَّارِ لِأُحَرِّقَهُ
عَلَى مَنْ فِيهِ. فَصَاحَتِ النِّسْوَةُ وَخَرَجْنَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ
الْحُسَيْنُ: أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَحْرِقَ أَهْلِي ؟ ! أَحْرَقَكَ اللَّهُ
بِالنَّارِ. وَجَاءَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ إِلَى شَمِرٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ،
فَقَالَ لَهُ: مَا رَأَيْتُ أَقْبَحَ مِنْ قَوْلِكَ وَمَوْقِفِكَ هَذَا، أَتُرِيدُ
أَنْ تُرْعِبَ النِّسَاءَ ؟ ! فَاسْتَحْيَا، وَهَمَّ بِالرُّجُوعِ.
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قُلْتُ لِشَمِرٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! إِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ لَكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ عَلَى نَفْسِكَ خَصْلَتَيْنِ ; تُعَذِّبُ بِعَذَابِ اللَّهِ، وَتَقْتُلُ الْوِلْدَانَ وَالنِّسَاءَ ! وَاللَّهِ إِنَّ فِي قَتْلِكَ الرِّجَالَ لَمَا تُرْضِي بِهِ أَمِيرَكَ. قَالَ: فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ ؟ قُلْتُ: لَا أُخْبِرُكَ مَنْ أَنَا. وَخَشِيتُ أَنِّي إِنْ أَخْبَرْتُهُ فَعَرَفَنِي، أَنْ يَسُوءَنِي عِنْدَ السُّلْطَانِ. وَشَدَّ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ فِي رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ عَلَى شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ، فَأَزَالُوهُ عَنْ مَوْقِفِهِ، وَقَتَلُوا أَبَا عَزَّةَ الضِّبَابِيَّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ شَمِرٍ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ إِذَا قُتِلَ بَانَ فِيهِمُ الْخَلَلُ، وَإِذَا قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ زِيَادٍ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ فِيهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: مُرُوهُمْ فَلْيَكُفُّوا عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى نُصَلِّيَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ: إِنَّهَا لَا تُقْبَلُ مِنْكُمْ. فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مُظَهِّرٍ: وَيْحَكَ ! أَتُقْبَلُ مِنْكُمُ الصَّلَاةُ وَلَا تُقْبَلُ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! وَقَاتَلَ حَبِيبٌ قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ.
ثُمَّ صَلَّى الْحُسَيْنُ بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا بَعْدَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَوُصِلَ إِلَى الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَدَافَعَ عَنْهُ صَنَادِيدُ أَصْحَابِهِ، فَقُتِلَ زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، وَقَاتَلَ دُونَهُ نَافِعُ بْنُ هِلَالٍ الْجَمَلِيُّ، فَقَتَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ سِوَى مَنْ جَرَحَ، ثُمَّ
أُسِرَ وَكُسِرَتْ عَضُدَاهُ وَمَعَ
هَذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ شَمِرُ بْنُ ذِي
الْجَوْشَنِ، ثُمَّ حَمَلَ شَمِرٌ عَلَى أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ وَهُوَ يَقُولُ
خَلُّوا عُدَاةَ اللَّهِ خَلُّوا عَنْ شَمِرْ يَضْرِبُهُمْ بِسَيْفِهِ وَلَا
يَفِرْ
وَصَمَّمَ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِمْ،
وَتَفَانَى أَصْحَابُ
الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ، حَتَّى
لَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا سُوِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمُطَاعِ
الْخَثْعَمِيُّ.
وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنْ بَنِي أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ عَلِيٌّ
الْأَكْبَرُ ابْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي
مُرَّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، طَعَنَهُ مُرَّةُ بْنُ
مُنْقِذِ بْنِ النُّعْمَانِ الْعَبْدِيُّ فَقَتَلَهُ، وَيُرْوَى أَنَّهُ جَعَلَ
يُقَاتِلُ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عَلِي نَحْنُ وَرَبِّ الْبَيْتِ أَوْلَى
بِالنَّبِي
تَاللَّهِ لَا يَحْكُمُ فِينَا ابْنُ الدَّعِي كَيْفَ تَرَوْنَ الْيَوْمَ سَتْرِي
عَنْ أَبِي
فَلَمَّا طَعَنَهُ مُرَّةُ احْتَوَشَتْهُ الرِّجَالُ، فَقَطَّعُوهُ
بِأَسْيَافِهِمْ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: قَتَلَ اللَّهُ قَوْمًا قَتَلُوكَ يَا
بُنَيَّ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ !
فَعَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ الْعَفَاءُ. قَالَ: وَخَرَجَتْ جَارِيَةٌ كَأَنَّهَا
الشَّمْسُ حُسْنًا، فَقَالَتْ: يَا أُخَيَّاهُ وَيَا ابْنَ أُخَيَّاهُ. فَإِذَا
هِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَلِيٍّ مِنْ فَاطِمَةَ، فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ وَهُوَ
صَرِيعٌ. قَالَ: فَجَاءَ الْحُسَيْنُ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، فَأَدْخَلَهَا
الْفُسْطَاطَ، وَأَمَرَ بِهِ الْحُسَيْنُ فَحُوِّلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْنِ
يَدَيْهِ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ
عَقِيلٍ، ثُمَّ قُتِلَ عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ،
ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَجَعْفَرٌ ابْنَا عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
ثُمَّ قُتِلَ الْقَاسِمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَحَدَّثَنِي فُضَيْلُ بْنُ خَدِيجٍ الْكِنْدِيُّ أَنَّ
يَزِيدَ بْنَ
زِيَادٍ - وَكَانَ رَامِيًا، وَهُوَ
أَبُو الشَّعْثَاءِ الْكِنْدِيُّ مِنْ بَنِي بَهْدَلَةَ - جَثَا عَلَى
رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ الْحُسَيْنِ، فَرَمَى بِمِائَةِ سَهْمٍ مَا سَقَطَ
مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الرَّمْيِ
قَالَ: قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنِّي قَتَلْتُ خَمْسَةَ نَفَرٍ، وَكَانَ فِي أَوَّلِ
مَنْ قُتِلَ، وَكَانَ رَجَزُهُ يَوْمَئِذٍ:
أَنَا يَزِيدُ وَأَبِي مُهَاصِرْ أَشْجَعُ مِنْ لَيْثٍ بَغِيلٍ خَادِرْ
يَا رَبِّ إِنِّي لِلْحُسَيْنِ نَاصِرْ وَلِابْنِ سَعْدٍ تَارِكٌ وَهَاجِرْ
قَالُوا: وَمَكَثَ الْحُسَيْنُ نَهَارًا طَوِيلًا لَا يَأْتِي إِلَيْهِ رَجُلٌ
إِلَّا رَجَعَ عَنْهُ ; لَا يُحِبُّ أَنْ يَلِيَ قَتْلَهُ، حَتَّى جَاءَهُ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي بَدَّاءَ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ النُّسَيْرِ. فَضَرَبَ
الْحُسَيْنَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ فَجَرَحَهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ،
فَامْتَلَأَ دَمًا، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: لَا أَكَلْتَ بِهَا وَلَا شَرِبْتَ،
وَحَشَرَكَ اللَّهُ مَعَ الظَّالِمِينَ. ثُمَّ أَلْقَى الْحُسَيْنُ ذَلِكَ
الْبُرْنُسَ، وَدَعَا بِعِمَامَةٍ فَاعْتَمَّ بِهَا. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ
الْحُسَيْنَ أَعْيَا،
فَقَعَدَ عَلَى بَابِ فُسْطَاطِهِ، وَأُتِيَ بِصَبِيٍّ صَغِيرٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُهُ وَيَشُمُّهُ وَيُوَدِّعُهُ وَيُوصِي أَهْلَهُ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ مُوقِدِ النَّارِ. بِسَهْمٍ فَذَبَحَ ذَلِكَ الْغُلَامَ، فَتَلَقَّى حُسَيْنٌ دَمَهُ فِي يَدِهِ، وَأَلْقَاهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، وَقَالَ: رَبِّ إِنْ تَكُ قَدْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ، وَانْتَقِمْ لَنَا مِنَ الظَّالِمِينَ. وَرَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُقْبَةَ الْغَنَوِيُّ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْحُسَيْنِ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ أَيْضًا، ثُمَّ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ وَالْعَبَّاسُ وَعُثْمَانُ وَجَعْفَرٌ وَمُحَمَّدٌ بَنُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِخْوَةُ الْحُسَيْنِ لِأَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَقَدِ اشْتَدَّ عَطَشُ الْحُسَيْنِ، فَحَاوَلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَاءِ الْفُرَاتِ فَمَانَعُوهُ دُونَهُ، فَخَلَصَ إِلَى شَرْبَةٍ مِنْهُ، فَلَمَّا أَهْوَى إِلَيْهَا رَمَاهُ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِسَهْمٍ فِي حَنَكِهِ فَأَثْبَتَهُ، فَانْتَزَعَهُ الْحُسَيْنُ مِنْ حَنَكِهِ، فَفَارَ الدَّمُ فَتَلَقَّاهُ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ وَهُمَا مَمْلُوءَتَانِ دَمًا، ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا، وَلَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ
مِنْهُمْ أَحَدًا. وَدَعَا عَلَيْهِمْ
دُعَاءً بَلِيغًا.
ثُمَّ جَاءَ شَمِرٌ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشُّجْعَانِ حَتَّى أَحَاطُوا
بِالْحُسَيْنِ وَهُوَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ أَحَدٌ يَحُولُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَجَاءَ غُلَامٌ يَشْتَدُّ مِنَ الْخِيَامِ كَأَنَّهُ
الْبَدْرُ فِي أُذُنَيْهِ دُرَّتَانِ تَذَبْذَبَانِ، فَخَرَجَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ
عَلِيٍّ لِتَرُدَّهُ فَامْتَنَعَ عَلَيْهَا، وَجَاءَ يُحَاجِفُ عَنْ عَمِّهِ،
فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِالسَّيْفِ، فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ، فَأَطَنَّهَا
سِوَى جِلْدَةٍ، فَقَالَ: يَا أَبَتَاهُ. فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: يَا بُنَيَّ،
احْتَسِبْ أَجْرَكَ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّكَ تَلْحَقُ بِآبَائِكَ الصَّالِحِينَ.
ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ الرِّجَالُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَهُوَ يَجُولُ
فِيهِمْ بِالسَّيْفِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَتَنَافَرُونَ عَنْهُ كَتَنَافُرِ
الْمِعْزَى عَنِ السَّبُعِ، وَخَرَجَتْ أُخْتُهُ زَيْنَبُ بِنْتُ فَاطِمَةَ
إِلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تَقُولُ: لَيْتَ السَّمَاءَ تَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ. وَجَاءَ
عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَرَضِيتَ أَنْ يُقْتَلَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ وَأَنْتَ تَنْظُرُ ؟ فَتَحَادَرَتِ الدُّمُوعُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَصَرَفَ
وَجْهَهُ عَنْهَا، ثُمَّ جَعَلَ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى
نَادَى شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ: وَيْحَكُمْ ! مَاذَا تَنْتَظِرُونَ
بِالرَّجُلِ ؟ اقْتُلُوهُ ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ. فَحَمَلَتِ الرِّجَالُ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَلَى الْحُسَيْنِ، وَضَرَبَهُ زُرْعَةُ
بْنُ شَرِيكٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَضَرَبَ عَلَى عَاتِقِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ وَهُوَ يَنُوءُ وَيَكْبُو، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ سِنَانُ بْنُ أَنَسِ بْنِ عَمْرٍو النَّخَعِيُّ، فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ فَوَقَعَ، ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ، ثُمَّ دَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ مَذْحِجٍ. وَقِيلَ: عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا كَانَ عُمَرُ أَمِيرَ السَّرِيَّةِ الَّتِي قَتَلَتِ الْحُسَيْنَ فَقَطْ.
وَأَخَذَ سِنَانٌ وَغَيْرُهُ سَلَبَهُ،
وَتَقَاسَمَ النَّاسُ مَا كَانَ مِنْ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَمَا فِي
خِبَائِهِ، حَتَّى مَا عَلَى النِّسَاءِ مِنَ الثِّيَابِ الظَّاهِرَةِ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: وُجِدَ بِالْحُسَيْنِ
حِينَ قُتِلَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ طَعْنَةً، وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ ضَرْبَةً.
وَهَمَّ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِقَتْلِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
الْأَصْغَرِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَهُوَ صَغِيرٌ مَرِيضٌ، حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ
ذَلِكَ حُمَيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَحَدُ أَصْحَابِهِ. وَجَاءَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ،
فَقَالَ: أَلَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَى هَذِهِ النِّسْوَةِ أَحَدٌ وَلَا يَقْتُلْ
هَذَا الْغُلَامَ أَحَدٌ وَمَنْ أَخَذَ مِنْ مَتَاعِهِمْ شَيْئًا فَلْيَرُدَّهُ
عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ أَحَدٌ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ: جُزِيتَ خَيْرًا، فَقَدْ دَفَعَ اللَّهُ عَنِّي بِمَقَالَتِكَ شَرًّا.
قَالُوا: ثُمَّ جَاءَ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى بَابِ فُسْطَاطِ عُمَرِ بْنِ
سَعْدٍ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا أَنَا قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبَا
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْخِلُوهُ عَلَيَّ. فَلَمَّا دَخَلَ رَمَاهُ
بِالسَّوْطِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ أَنْتَ مَجْنُونٌ ! وَاللَّهِ لَوْ سَمِعَكَ ابْنُ
زِيَادٍ تَقُولُ هَذَا لَضَرَبَ عُنُقَكَ. وَمَنَّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى
عُقْبَةَ بْنِ سَمْعَانَ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَوْلًى، فَلَمْ يَنْجُ
مِنْهُمْ غَيْرُهُ، وَالْمُرَقَّعُ بْنُ ثُمَامَةَ أُسِرَ، فَمَنَّ عَلَيْهِ ابْنُ
زِيَادٍ.
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحُسَيْنِ اثَنَانِ وَسَبْعُونَ نَفْسًا، فَدَفَنَهُمْ
أَهْلُ الْغَاضِرِيَّةِ مِنْ
بَنِي أَسَدٍ بَعْدَ مَا قُتِلُوا
بِيَوْمٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَكْرَمَهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ
الْحُسَيْنِ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّهُمْ مِنْ أَوْلَادِ فَاطِمَةَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ سِتَّةَ
عَشَرَ رَجُلًا، كُلُّهُمْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
يَوْمَئِذٍ لَهُمْ شِبْهٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: قُتِلَ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ
ثَلَاثَةُ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، فَمِنْ أَوْلَادِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
; جَعْفَرٌ، وَالْحُسَيْنُ، وَالْعَبَّاسُ، وَمُحَمَّدٌ، وَعُثْمَانُ، وَأَبُو
بَكْرٍ. وَمِنْ أَوْلَادِ الْحُسَيْنِ عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ.
وَمِنْ أَوْلَادِ أَخِيهِ الْحَسَنِ ثَلَاثَةٌ ; عَبْدُ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ،
وَأَبُو بَكْرٍ بَنُو الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَمِنْ
أَوْلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ اثَنَانِ ; عَوْنٌ وَمُحَمَّدٌ. وَمِنْ
أَوْلَادِ عَقِيلٍ ; جَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ،
وَمُسْلِمٌ قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَا. فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ
لِصُلْبِهِ، واثَنَانِ آخَرَانِ ; هُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ
عَقِيلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدِ
بْنِ عَقِيلٍ، فَكَمَلُوا سِتَّةً مِنْ
وَلَدِ عَقِيلٍ، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
وَانْدُبِي تِسْعَةً لِصُلْبِ عَلِيٍّ قَدْ أُصِيبُوا وَسِتَّةً لِعَقِيلِ
وَسَمِيُّ النَّبِيِّ غُودِرَ فِيهِمْ قَدْ عَلَوْهُ بِصَارِمٍ مَصْقُولِ
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ مِنَ
الرَّضَاعَةِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُقْطُرٍ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا
قُتِلَ قَبْلَ ذَلِكَ حِينَ بَعَثَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ،
فَحُمِلَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَتَلَهُ. وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ
أَصْحَابِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا سِوَى الْجَرْحَى،
فَصَلَّى عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ وَدَفَنَهُمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ
بْنَ سَعْدٍ نَدَبَ عَشَرَةَ فُرْسَانٍ، فَدَاسُوا الْحُسَيْنَ بِأَفْرَاسِهِمْ
حَتَّى أَلْصَقُوهُ بِالْأَرْضِ يَوْمَ الْمَعْرَكَةِ، وَسُرِّحَ بِرَأْسِهِ مِنْ
يَوْمِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ مَعَ خَوَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ،
فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى الْقَصْرِ وَجَدَهُ مُغْلَقًا، فَرَجَعَ إِلَى
مَنْزِلِهِ، فَوَضَعَهُ تَحْتَ إِجَّانَةٍ، وَقَالَ لِامْرَأَتِهِ نَوَارَ بِنْتِ
مَالِكٍ: جِئْتُكِ بِعِزِّ الدَّهْرِ. فَقَالَتْ: وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: هَذَا
رَأْسُ الْحُسَيْنِ. فَقَالَتْ: جَاءَ النَّاسُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ،
وَجِئْتَ أَنْتَ بِرَأْسِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ؟ ! وَاللَّهِ لَا يَجْمَعُنِي وَإِيَّاكَ فِرَاشٌ أَبَدًا. ثُمَّ
نَهَضَتْ عَنْهُ مِنَ الْفِرَاشِ، وَاسْتَدْعَى بِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى مِنْ
بَنِي أَسَدٍ، فَنَامَتْ عِنْدَهُ. قَالَتِ الثَّانِيَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ
أَرَى النُّورَ سَاطِعًا مِنْ تِلْكَ الْإِجَّانَةِ إِلَى السَّمَاءِ،
وَطُيُورًا بَيْضَاءَ تُرَفْرِفُ
حَوْلَهَا. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، فَأَحْضَرَهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رُءُوسُ بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ،
وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَمَجْمُوعُهَا اثَنَانِ وَسَبْعُونَ رَأْسًا، وَذَلِكَ
أَنَّهُ مَا قُتِلَ قَتِيلٌ إِلَّا احْتَزُّوا رَأَسَهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى ابْنِ
زِيَادٍ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا ابْنُ زِيَادٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى
الشَّامِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُحَمَّدِ،
عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ،
فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا،
فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّهُ كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَخْضُوبًا بِالْوَسْمَةِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
فِي الْمَنَاقِبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ
إِشْكَابٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُفَرِّجُ بْنُ شُجَاعِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَوْصِلِيُّ، ثَنَا غَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، ثَنَا
يُوسُفُ بْنُ عَبْدَةَ، عَنْ ثَابِتٍ وَحُمَيْدٍ،عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ
ثَنَايَاهُ،
يَقُولُ لَقَدْ كَانَ - أَحْسَبُهُ
قَالَ - جَمِيلًا. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَسُوءَنَّكَ، إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُ حَيْثُ يَقَعُ قَضِيبُكَ.
قَالَ: فَانْقَبَضَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ:
لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ حُمَيْدٍ غَيْرُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدَةَ، وَهُوَ رَجُلٌ
مَنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ، وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَرَوَاهُ أَبُو
يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ قُرَّةُ
بْنُ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ
مُسْلِمٍ قَالَ: دَعَانِي عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فَسَرَّحَنِي إِلَى أَهْلِهِ
لِأُبَشِّرَهُمْ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَبِعَافِيَتِهِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى
أَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَأَعْلَمْتَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ حَتَّى أَدْخَلَ،
فَأَجِدُ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ جَلَسَ لِلنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَفْدُ
الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَيْهِ، فَدَخَلْتُ فِيمَنْ دَخَلَ، فَإِذَا رَأَسُ
الْحُسَيْنِ مَوْضُوعٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِذَا هُوَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ بَيْنَ
ثَنِيَّتَيْهِ سَاعَةً، فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: اعْلُ بِهَذَا
الْقَضِيبِ عَنْ هَاتَيْنِ الثَّنِيَّتَيْنِ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ
غَيْرُهُ، لَقَدْ رَأَيْتُ شَفَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى هَاتَيْنِ الشَّفَتَيْنِ يُقَبِّلُهُمَا. ثُمَّ انْفَضَخَ
الشَّيْخُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَيْكَ،
فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ شَيْخٌ
قَدْ خَرِفْتَ، وَذَهَبَ عَقْلُكَ
لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَنَهَضَ فَخَرَجَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّاسُ:
وَاللَّهِ لَقَدْ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ كَلَامًا لَوْ سَمِعَهُ ابْنُ
زِيَادٍ لَقَتَلَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: مَا قَالَ ؟ قَالُوا: مَرَّ بِنَا وَهُوَ
يَقُولُ: مَلَكَ عَبْدٌ عَبْدًا، فَاتَّخَذَهُمْ تُلَدًا، أَنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ
الْعَبِيدُ بَعْدَ الْيَوْمِ، قَتَلْتُمُ ابْنَ فَاطِمَةَ، وَأَمَّرْتُمُ ابْنَ
مَرْجَانَةَ، فَهُوَ يُقَتِّلُ خِيَارُكُمْ، وَيَسْتَعْبِدُ شِرَارَكُمْ،
فَرَضِيتُمْ بِالذُّلِّ، فَبُعْدًا لِمَنْ رَضِيَ بِالذُّلِّ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بِنَحْوِهِ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدٍ.
وَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، ثَنَا
أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا
جِيءَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَأَصْحَابِهِ، نُصِبَتْ فِي
الْمَسْجِدِ فِي الرَّحْبَةِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ
جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ. فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تُخَلِّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى
دَخَلَتْ فِي مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً،
ثُمَّ خَرَجَتْ، فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ،
قَدْ جَاءَتْ. فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ أَنَّ
الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ
اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ
قَتْلِ الْحُسَيْنِ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمُ الْمُلْكَ، وَيُفَرِّقَ
الْكَلِمَةَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَفِيفٍ
الْأَزْدِيُّ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ زِيَادٍ ! تَقْتُلُونَ أَوْلَادَ
النَّبِيِّينَ وَتَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ الصِّدِّيقِينَ. فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ
زِيَادٍ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ. ثُمَّ أَمَرَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَنُصِبَ
بِالْكُوفَةِ وَطِيفَ بِهِ فِي أَزِقَّتِهَا، ثُمَّ سَيَّرَهُ مَعَ زَحْرِ بْنِ
قَيْسٍ وَمَعَهُ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ، إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ،
وَكَانَ مَعَ زَحْرٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُرْسَانِ ; مِنْهُمْ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ
عَوْفٍ الْأَزْدِيُّ، وَطَارِقُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ الْأَزْدِيُّ، فَخَرَجُوا
حَتَّى قَدِمُوا بِالرُّءُوسِ كُلِّهَا عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ هِشَامٌ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ رَوْحِ بْنِ
زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْغَازِ بْنِ رَبِيعَةَ
الْجُرَشِيِّ ; مِنْ حِمْيَرَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بِدِمَشْقَ، إِذْ أَقْبَلَ زَحْرُ بْنُ قَيْسٍ، فَدَخَلَ عَلَى
يَزِيدَ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: وَيْلَكَ ! مَا وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَنَصْرِهِ، وَرَدَ عَلَيْنَا
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ، وَسِتُّونَ رَجُلًا مِنْ شِيعَتِهِ، فَسِرْنَا إِلَيْهِمْ،
فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا وَيَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ أَوِ الْقِتَالَ، فَاخْتَارُوا الْقِتَالَ،
فَغَدَوْنَا عَلَيْهِمْ مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، فَأَحَطْنَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ
نَاحِيَةٍ حَتَّى أَخَذَتِ السُّيُوفُ مَأْخَذَهَا مِنْ هَامِ الْقَوْمِ،
فَجَعَلُوا يَهْرَبُونَ إِلَى غَيْرِ مَهْرَبٍ وَلَا وَزَرٍ، وَيَلُوذُونَ مِنَّا
بِالْآكَامِ وَالْحُفَرِ لِوَاذًا كَمَا لَاذَ الْحَمَامُ مِنْ صَقْرٍ،
فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلَّا جَزْرُ
جَزُورٍ أَوْ نَوْمَةُ قَائِلٍ، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى آخِرِهِمْ، فَهَاتِيكَ
أَجْسَادُهُمْ مُجَرَّدَةً، وَثِيَابُهُمْ مُرَمَّلَةً، وَخُدُودُهُمْ
مُعَفَّرَةً، تَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ وَتَسْفِي عَلَيْهِمُ الرِّيحُ، زُوَّارُهُمُ
الْعِقْبَانُ وَالرَّخَمُ. قَالَ: فَدَمَعْتَ عَيْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَرْضَى مِنْ طَاعَتِكُمْ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ،
لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ
لَعَفَوْتُ عَنْهُ، وَرَحِمَ اللَّهُ الْحُسَيْنَ. وَلَمْ يَصِلْ زَحْرَ بْنَ
قَيْسٍ بِشَيْءٍ.
وَلَمَّا وُضِعَ الْحُسَيْنُ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ
أَنِّي صَاحِبُكَ مَا قَتَلْتُكَ. ثُمَّ أَنْشَدَ قَوْلَ الْحُصَيْنِ بْنِ
الْحُمَامِ الْمُرِّيِّ الشَّاعِرِ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ
وَأَظْلَمَا
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْعَبْسِيُّ، عَنْ أَبِي
عُمَارَةَ الْعَبْسِيِّ قَالَ: وَقَامَ يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ أَخُو مَرْوَانَ
بْنِ الْحَكَمِ فَقَالَ:
لَهَامٌ بِجَنْبِ الطَّفِّ أَدْنَى قَرَابَةً مِنِ ابْنِ زِيَادِ الْعَبْدِ ذِي
الْحَسَبِ الْوَغْلِ
سُمَيَّةُ أَضْحَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى وَبِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ
لَهَا نَسْلُ
قَالَ: فَضَرَبَ يَزِيدُ فِي صَدْرِ
يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ، وَقَالَ: اسْكُتْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ، وَهُوَ شِيعِيٌّ: ثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى الْأَحْمَرِيُّ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ
بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ تَمَثَّلَ بِهَذِهِ
الْأَبْيَاتِ:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
فَأَهَلُّوا وَاسْتَهَلُّوا فَرَحًا ثُمَّ قَالُوا لِي هَنِيًّا لَا تَسَلْ
حِينَ حَكَّتْ بِقُبَاءٍ بِرْكَهَا وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الضَّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ
فَاعْتَدَلَ
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَافَقَ فِيهَا، وَاللَّهِ ثُمَّ وَاللَّهِ مَا بَقِيَ فِي
جَيْشِهِ أَحَدٌ إِلَّا تَرَكَهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَ هَذَا فِي الرَّأْسِ هَلْ سَيَّرَهُ ابْنُ
زِيَادٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى يَزِيدَ بِالشَّامِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ،
وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ أَبِي
حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الثُّمَالِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
بُخَيْتٍ قَالَ: لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ جَعَلَ يَنْكُتُ بِقَضِيبٍ كَانَ فِي يَدِهِ فِي ثَغْرِهِ، ثُمَّ
قَالَ: إِنَّ هَذَا وَإِيَّانَا كَمَا قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ
الْمُرِّيُّ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ
وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذَ
قَضِيبُكَ هَذَا مَأْخَذًا، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْشُفُهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّ هَذَا سَيَجِيءُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشَفِيعُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَتَجِيءُ وَشَفِيعُكَ ابْنُ زِيَادٍ. ثُمَّ قَامَ فَوَلَّى.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ:
لَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ، وَعِنْدَهُ أَبُو
بَرْزَةَ جَعَلَ يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى لِثَتِهِ وَيَقُولُ: يُفَلِّقْنَ
هَامًا. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ: ارْفَعْ قَضِيبَكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْثَمُهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، عَنِ
الْحُمَيْدِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ:
قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ جَعَلَ يَزِيدُ يَطْعَنُ
بِالْقَضِيبِ. قَالَ: سُفْيَانُ: وَأَخْبِرْتُ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُنْشِدُ
عَلَى إِثْرِ هَذَا
سُمَيَّةُ أَمْسَى نَسْلُهَا عَدَدَ الْحَصَى وَبِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ
لَهَا نَسْلُ
وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَهْلِهِ
وَنِسَاؤُهُ وَحَرَمُهُ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ وَكَلَ بِهِمْ مَنْ
يَحْرُسُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ، فَأَرْكَبُوهُمْ عَلَى الرَّوَاحِلِ فِي
الْهَوَادِجِ، فَلَمَّا مَرُّوا بِمَكَانِ الْمَعْرَكَةِ رَأَوُا الْحُسَيْنَ
وَأَصْحَابَهُ مُجَدَّلِينَ، هُنَالِكَ بَكَتْهُ النِّسَاءُ، وَصَرَخْنَ
وَنَدَبَتْ زَيْنَبُ أَخَاهَا الْحُسَيْنَ وَأَهْلَهَا، فَقَالَتْ وَهِيَ تَبْكِي:
يَا مُحَمَّدَاهُ، يَا مُحَمَّدَاهُ، صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ،
هَذَا حُسَيْنٌ بِالْعَرَاءِ، مُزَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مُقَطَّعُ الْأَعْضَاءِ،
يَا مُحَمَّدَاهُ، وَبَنَاتُكَ سَبَايَا، وَذُرِّيَّتُكَ مُقَتَّلَةٌ تَسْفِي عَلَيْهَا
الصَّبَا. قَالَ: فَأَبْكَتْ وَاللَّهِ كُلَّ عَدُوٍّ وَصَدِيقٍ.
قَالَ: ثُمَّ سَارُوا بِهِمْ فِي الْهَوَادِجِ مِنْ كَرْبَلَاءَ حَتَّى دَخَلُوا
الْكُوفَةَ، فَأَكْرَمَهُمُ ابْنُ زِيَادٍ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ النَّفَقَاتَ
وَالْكَسَاوِيَ وَالصِّلَاتِ.
ثُمَّ سَيَّرَهُمْ فَرَدَّهُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّامِ مَعَ شَمِرِ بْنِ
ذِي الْجَوْشَنِ وَمُحَفِّزِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْعَائِذِيِّ مِنْ قُرَيْشٍ،
وَمَعَهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَكَانَ أَرَادَ ابْنُ
زِيَادٍ قَتْلَهُ، فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا بَعَثَهُمْ سَيَّرَهُ مَعَ
أَهْلِهِ، وَلَكِنَّهُ مَغْلُولٌ إِلَى عُنُقِهِ، وَبَقِيَّةُ الْأَهْلِ فِي حَالٍ
سَيِّئَةٍ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: يَا عَلِيُّ، أَبُوكَ الَّذِي قَطَعَ رَحِمِي، وَجَهِلَ حَقِّي، وَنَازَعَنِي سُلْطَانِي، فَصَنَعَ اللَّهُ بِهِ مَا قَدْ رَأَيْتَ. فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [ الْحَدِيدِ: 22 ]. فَقَالَ يَزِيدُ لِابْنِهِ خَالِدٍ: ارْدُدْ عَلَيْهِ. قَالَ: فَمَا
دَرَى خَالِدٌ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: قُلْ: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ الشُّورَى: 30 ]. فَسَكَتَ عَنْهُ سَاعَةً،
ثُمَّ دَعَا بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَرَأَى هَيْئَةً قَبِيحَةً، فَقَالَ:
قَبَّحَ اللَّهُ ابْنَ مَرْجَانَةَ، لَوْ كَانَتْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ
وَرَحِمٌ مَا فَعَلَ هَذَا بِكُمْ، وَلَا بَعَثَ بِكُمْ هَكَذَا.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ
عَلِيٍّ قَالَتْ: لَمَّا أُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْ يَزِيدَ، رَقَّ لَنَا وَأَمَرَ
لَنَا بِشَيْءٍ وَأَلْطَفنَا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَحْمَرَ
قَامَ إِلَى يَزِيدَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ.
يَعْنِينِي، وَكُنْتُ جَارِيَةً وَضِيئَةً، فَارْتَعَدْتُ فَزِعَةً مِنْ قَوْلِهِ،
وَظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، فَأَخَذْتُ بِثِيَابِ أُخْتِي زَيْنَبَ،
وَكَانَتْ أَكْبَرَ مِنِّي وَأَعْقَلَ، وَكَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا
يَجُوزُ، فَقَالَتْ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ وَلَؤُمْتَ، مَا
ذَلِكَ لَكَ وَلَا لَهُ. فَغَضِبَ يَزِيدُ، فَقَالَ لَهَا: كَذَبْتِ، وَاللَّهِ
إِنَّ ذَلِكَ لِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَهُ لَفَعَلْتُ. قَالَتْ: كَلَّا
وَاللَّهِ، مَا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكَ، إِلَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلَّتِنَا
وَتَدِينَ بِغَيْرِ دِينِنَا. قَالَتْ: فَغَضِبَ يَزِيدُ وَاسْتَطَارَ، ثُمَّ
قَالَ: إِيَّايَ تَسْتَقْبِلِينَ بِهَذَا ؟ إِنَّمَا خَرَجَ مِنَ الدِّينِ أَبُوكِ
وَأَخُوكِ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: بِدِينِ اللَّهِ وَدِينِ أَبِي وَدِينِ أَخِي
وَجَدِّي، اهْتَدَيْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ وَجَدُّكَ. قَالَ: كَذَبْتِ يَا عَدُوَّةَ
اللَّهِ. قَالَتْ: أَنْتَ أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ، تَشْتُمُ ظَالِمًا وَتَقْهَرُ
بِسُلْطَانِكَ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّهُ اسْتَحْيَا فَسَكَتَ، ثُمَّ
قَامَ الشَّامِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ. فَقَالَ
لَهُ يَزِيدُ: اعْزُبْ وَهَبَ اللَّهُ لَكَ حَتْفًا قَاضِيًا.
ثُمَّ أَمَرَ يَزِيدُ النُّعْمَانَ
بْنَ بَشِيرٍ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ رَجُلًا أَمِينًا، مَعَهُ
رِجَالٌ وَخَيْلٌ، وَيَكُونُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مَعَهُمْ، ثُمَّ أَنْزَلَ
النِّسَاءَ عِنْدَ حَرَمِهِ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَاسْتَقْبَلَهُنَّ نِسَاءُ
آلِ مُعَاوِيَةَ يَبْكِينَ وَيَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ، ثُمَّ أَقَمْنَ
الْمَنَاحَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ يَزِيدُ لَا يَتَغَدَّى وَلَا
يَتَعَشَّى إِلَّا وَمَعَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وعَمْرُو بْنُ الْحَسَنِ،
فَقَالَ يَزِيدُ يَوْمًا لِعَمْرٍو، وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا: أَتُقَاتِلُ هَذَا ؟
يَعْنِي ابْنَهُ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ: أَعْطِنِي سِكِّينًا وَأَعْطِهِ
سِكِّينًا حَتَّى نَتَقَاتَلَ. فَأَخْذُهُ يَزِيدُ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ:
شِنْشِنَةٌ أَعْرِفُهَا مَنْ أَخْزَمَ، هَلْ تَلِدُ الْحَيَّةُ إِلَّا حَيَّةً ؟ !
وَلَمَّا وَدَّعَهُمْ يَزِيدُ قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ: قَبَّحَ اللَّهُ
ابْنَ مَرْجَانَةَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي صَاحِبُهُ، مَا سَأَلَنِي
خَصْلَةً إِلَّا أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا، وَلَدَفَعْتُ الْحَتْفَ عَنْهُ بِكُلِّ
مَا اسْتَطَعْتُ، وَلَوْ بِهَلَاكِ بَعْضِ وَلَدِي، وَلَكِنَّ اللَّهَ قَضَى مَا
رَأَيْتَ. ثُمَّ جَهَّزَهُ وَأَعْطَاهُ مَالًا جَزِيلًا، وَقَالَ لَهُ: كَاتِبْنِي
بِكُلِّ حَاجَةٍ تَكُونُ لَكَ، وَكَسَاهُمْ وَأَوْصَى بِهِمْ ذَلِكَ الرَّسُولَ.
فَكَانَ ذَلِكَ الرَّسُولُ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَعَهُنَّ يَسِيرُ بِمَعْزِلٍ
عَنْهُنَّ مِنَ الطَّرِيقِ، ويبَعُدُ عَنْهُنَّ بِحَيْثُ يُدْرِكُهُنَّ طَرَفُهُ،
وَهُوَ فِي خِدْمَتِهِنَّ حَتَّى وَصَلْنَ
الْمَدِينَةَ فَجَمَعْنَ شَيْئًا مِنْ
حُلِيِّهِنَّ، فَدَفَعْنَهُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ،
وَقَالَ: إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ الرَّافِضَةِ: إِنَّهُمْ حُمِلُوا عَلَى جَنَائِبِ
الْإِبِلَ سَبَايَا عَرَايَا. حَتَّى كَذَبَ مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ الْإِبِلَ
الْبَخَاتِيَّ إِنَّمَا نَبَتَتْ لَهَا الْأَسْنِمَةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ
لِتَسْتُرَ عَوْرَاتِهِنَّ.
وَكَتَبَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَمِيرِ الْحَرَمَيْنِ
يُبَشِّرُهُ بِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى بِذَلِكَ فِي
الْمَدِينَةِ. فَلَمَّا سَمِعَ نِسَاءُ بَنِي هَاشِمٍ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُنَّ
بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ، فَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ يَقُولُ: هَذَا
بِبُكَاءِ نِسَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ":
فَحَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الضَّرِيرُ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ
الْمِصِّيصِيُّ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ،
ثَنَا عَمَّارٌ الدُّهْنِيُّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي جَعْفَرٍ: حَدِّثْنِي عَنْ
مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ كَأَنِّي حَضَرْتُهُ. فَقَالَ: أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ بِكِتَابِ
مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ الَّذِي كَانَ قَدْ كَتَبَهُ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ فِيهِ
بالْقُدُومِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ
ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، لَقِيَهُ الْحُرُّ بْنُ يَزِيدَ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ لَهُ:
أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ هَذَا الْمِصْرَ. فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ،
فَإِنِّي لَمْ أَدَعْ لَكَ خَلْفِي خَيْرًا أَرْجُوهُ. فَهَمَّ الْحُسَيْنُ أَنْ
يَرْجِعَ، وَكَانَ مَعَهُ إِخْوَةُ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ
لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْخُذَ بِثَأْرِنَا مِمَّنْ قَتَلَ أَخَانَا أَوْ
نُقْتَلَ. فَقَالَ: لَا خَيْرَ فِي
الْحَيَاةِ بَعْدَكُمْ. فَسَارَ فَلَقِيَهُ أَوَائِلُ خَيْلِ ابْنِ زِيَادٍ،
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَادَ إِلَى كَرْبَلَاءَ، فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى
قَصْبَاءٍ وَخَلًا ; لِئَلَّا يُقَاتِلَ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَنَزَلَ
وَضَرَبَ أَبْنِيَتَهُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَارِسًا
وَمِائَةَ رَاجِلٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ وَلَّاهُ
ابْنُ زِيَادٍ الرَّيَّ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ، فَقَالَ: اكْفِنِي هَذَا الرَّجُلَ.
فَقَالَ: أَعْفِنِي. فَأَبَى أَنْ يُعْفِيَهُ. فَقَالَ: أَنْظِرْنِي اللَّيْلَةَ.
فَأَخَّرَهُ فَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَيْهِ رَاضِيًا
بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ
قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: اخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ ; إِمَّا أَنْ
تَدَعُوَنِي فَأَنْصَرِفَ مِنْ حَيْثُ جِئْتُ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي
فَأَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، وَإِمَّا أَنْ تَدَعُوَنِي فَأَلْحَقَ بِالثُّغُورِ.
فَقَبِلَ ذَلِكَ عُمَرُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ لَا
وَلَا كَرَامَةَ حَتَّى يَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: لَا
وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدًا. فَقَاتَلَهُ، فَقُتِلَ أَصْحَابُ
الْحُسَيْنِ كُلُّهُمْ، وَفِيهِمْ بِضْعَةَ عَشَرَ شَابًّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ،
وَجَاءَهُ سَهْمٌ، فَأَصَابَ ابْنًا لَهُ مَعَهُ فِي حِجْرِهِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ
الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ
دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا، فَقَتَلُونَا. ثُمَّ أَمَرَ بِحِبَرَةٍ فَشَقَّهَا،
ثُمَّ لَبِسَهَا وَخَرَجَ بِسَيْفِهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ
مِنْ مَذْحِجٍ، وَحَزَّ رَأْسَهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ،
وَقَالَ فِي ذَلِكَ
أَوْقِرْ رِكَابِي فِضَّةً وَذَهَبًا فَقَدْ قَتَلْتُ الْمَلِكَ الْمُحَجَّبَا
قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ أُمًّا وَأَبَا وَخَيْرَهُمْ إِذْ يُنْسَبُونَ نَسَبًا
قَالَ: فَأَوْفَدَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو بَرْزَةَ
الْأَسْلَمِيُّ فَجَعَلَ يَزِيدُ
يَنْكُتُ بِالْقَضِيبِ عَلَى فِيهِ، وَيَقُولُ:
يُفَلِّقْنَ هَامًا مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ
وَأَظْلَمَا
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَرْزَةَ ارْفَعْ قَضِيبَكَ، فَوَاللَّهِ لَرُبَّمَا رَأَيْتُ
فَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فِيهِ يَلْثَمُهُ.
قَالَ: وَسَرَّحَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِحَرَمِهِ وَعِيَالِهِ إِلَى عُبَيْدِ
اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مِنْ آلِ بَيْتِ الْحُسَيْنِ إِلَّا غُلَامٌ كَانَ
مَرِيضًا مَعَ النِّسَاءِ، فَأَمَرَ بِهِ ابْنُ زِيَادٍ لِيُقْتَلَ، فَطَرَحَتْ
زَيْنَبُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا يُقْتَلُ حَتَّى تَقْتُلُونِي.
فَرَقَّ لَهَا فَتَرَكَهُ وَكَفَّ عَنْهُ. قَالَ: وَجَهَّزَهُمْ وَحَمَلَهُمْ
إِلَى يَزِيدَ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ جَمَعَ مَنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ أَدْخَلُوهُمْ فَهَنَّئُوهُ بِالْفَتْحِ، فَقَالَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ أَحْمَرُ أَزْرَقُ، وَنَظَرَ إِلَى وَصِيفَةٍ مِنْ بَنَاتِهِمْ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَبْ لِي هَذِهِ. فَقَالَتْ زَيْنَبُ: لَا وَاللَّهِ
وَلَا كَرَامَةَ لَكَ وَلَا لَهُ، إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ دِينِ اللَّهِ.
قَالَ: فَأَعَادَهَا الْأَزْرَقُ، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: كُفَّ عَنْ هَذَا. ثُمَّ
أَدْخَلَهُمْ عَلَى عِيَالِهِ، فَجَهَّزَهُمْ وَحُمِلُوا إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَلَمَّا دَخَلُوهَا خَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
نَاشِرَةً شَعْرَهَا وَاضِعَةً كُمَّهَا عَلَى رَأْسِهَا، تَتَلَقَّاهُمْ وَهِيَ
تَبْكِي وَتَقُولُ:
مَاذَا تَقُولُونَ إِنْ قَالَ النَّبِيُّ لَكُمْ مَاذَا فَعَلْتُمْ وَأَنْتُمْ
آخِرُ الْأُمَمِ
بِعِتْرَتِي وَبِأَهْلِي بَعْدَ مُفْتَقَدِي مِنْهُمْ أُسَارَى وَقَتْلَى
ضُرِّجُوا بِدَمِ
مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي إِذْ نَصَحْتُ لَكُمْ أَنْ تَخْلُفُونِي بِسُوءٍ فِي
ذَوِي رَحِمِي
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ
عُبَيْدٍ أَبِي الْكَنُودِ، أَنَّ
بِنْتَ عَقِيلٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ هَذَا الشِّعْرَ. وَهَكَذَا حَكَى
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ زَيْنَبَ الصُّغْرَى بِنْتَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ هِيَ الَّتِي قَالَتْ ذَلِكَ حِينَ دَخَلَ آلُ الْحُسَيْنِ الْمَدِينَةَ
النَّبَوِيَّةَ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِإِسْنَادِهِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ، وَهِيَ زَوْجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ أُمُّ بَنِيهِ، رَفَعَتْ سِجْفَ خِبَائِهَا يَوْمَ كَرْبَلَاءَ يَوْمَ
قُتِلَ الْحُسَيْنُ، وَقَالَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَمْرِو
بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عِكْرِمَةَ قَالَ:
أَصْبَحْنَا صَبِيحَةَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بِالْمَدِينَةِ، فَإِذَا مَوْلَاةٌ
لَنَا تُحَدِّثُنَا قَالَتْ: سَمِعْتُ الْبَارِحَةَ مُنَادِيًا يُنَادِي وَهُوَ
يَقُولُ:
أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ جَهْلًا حُسَيْنًا أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ
كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ يَدْعُو عَلَيْكُمْ مِنْ نَبِيٍّ وَمَلْأَكٍ وَقَبِيلِ
قَدْ لُعِنْتُمْ عَلَى لِسَانِ ابْنِ دَاوُ دَ وَمُوسَى وَحَامِلِ الْإِنْجِيلِ
قَالَ هِشَامٌ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَيْزُومٍ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أُمِّهِ
قَالَتْ: سَمِعْتُ هَذَا الصَّوْتَ.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ الْحَاكِمُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَغَيْرُهُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينِ فِي
مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ:
جَاءُوا بِرَأْسِكَ يَابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ مُتَزَمِّلًا بِدِمَائِهِ تَزْمِيلَا
وَكَأَنَّمَا بِكَ يَابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ قَتَلُوا جَهَارًا عَامِدِينَ
رَسُولَا
قَتَلُوكَ عَطْشَانًا وَلَمْ يَتَرَقَّبُوا فِي قَتْلِكَ التَّنْزِيلَ
وَالتَّأْوِيلَا
وَيُكَبِّرُونَ بِأَنْ قُتِلْتَ وَإِنَّمَا قَتَلُوا بِكَ التَّكْبِيرَ
وَالتَّهْلِيلَا
فَصْلٌ ( الْإِخْبَارُ بِمَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا )
وَكَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ -
وَقَالَ اللَّيْثُ وَأَبُو نُعَيْمٍ: يَوْمَ السَّبْتِ - يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ:
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ. وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ. وَقَالَ
ابْنُ لَهِيعَةَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
سَنَةَ سِتِّينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الطَّفُّ.
بِكَرْبَلَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٌ وَخَمْسُونَ
سَنَةً أَوْ نَحْوُهَا، وَأَخْطَأَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ قُتِلَ
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ وَسِتُّونَ سَنَةً.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانَ، ثَنَا عُمَارَةُ، يَعْنِي ابْنَ زَاذَانَ، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ اسْتَأْذَنُ مَلَكُ الْقَطْرِ أَنْ يَأْتِيَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ لَأُمِّ
سَلَمَةَ: " احْفَظِي عَلَيْنَا الْبَابَ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ ".
فَجَاءَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فَوَثَبَ حَتَّى دَخَلَ، فَجَعَلَ يَصْعَدُ
عَلَى مَنْكِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ
الْمَلَكُ: أَتُحِبُّهُ ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" نَعَمْ ". قَالَ: فَإِنَّ أُمَّتَكَ تَقْتُلُهُ، وَإِنْ شِئْتَ
أَرَيْتُكَ الْمَكَانَ الَّذِي يُقْتَلُ فِيهِ. قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ،
فَأَرَاهُ تُرَابًا أَحْمَرَ، فَأَخَذَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ذَلِكَ التُّرَابَ،
فَصَرَّتْهُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهَا. قَالَ: فَكُنَّا نَسْمَعُ: يُقْتَلُ
بِكَرْبَلَاءَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَوْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِإِحْدَاهُمَا: " "
لَقَدْ دَخَلَ عَلِيَّ الْبَيْتَ مَلَكٌ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيَّ قَبْلَهَا، فَقَالَ
لِي: إِنَّ ابْنَكَ هَذَا حُسَيْنٌ مَقْتُولٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ الْأَرْضَ
الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا ". قَالَ: " فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ
". وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، وَفِيهِ قِصَّةُ أُمِّ
سَلَمَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِ رِوَايَةِ
أُمِّ سَلَمَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثٍ زَيْنَبَ
بِنْتِ جَحْشٍ وَلُبَابَةَ أُمِّ الْفَضْلِ
امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ. وَأَرْسَلَهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ أَبُو
بَكْرٍ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقِّيُّ وَعَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ قَالَا: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
وَاقِدٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا أَشْعَثُ بْنُ
سُحَيْمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ الْحَارِثِ يَقُولُ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ ابْنِي
هَذَا - يَعْنِي الْحُسَيْنَ - يُقْتَلُ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: كَرْبَلَاءُ.
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ ذَلِكَ فَلْيَنْصُرْهُ ". قَالَ: فَخَرَجَ أَنَسُ
بْنُ الْحَارِثِ إِلَى كَرْبَلَاءَ فَقُتِلَ مَعَ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: وَلَا
أَعْلَمُ رَوَى غَيْرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا
شُرَحْبِيلُ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُجَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ - وَكَانَ صَاحِبَ مَطْهَرَتِهِ - فَلَمَّا حَاذَى
نِينَوَى وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ فَنَادَى عَلِيٌّ: اصْبِرْ أَبَا
عَبْدِ اللَّهِ، اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بِشَطِّ الْفُرَاتِ. قُلْتُ: وَمَاذَا
؟ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ
يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَغْضَبَكَ أَحَدٌ
؟ وَمَا شَأْنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ ؟ قَالَ: " بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي
جِبْرِيلُ قَبْلُ، فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ
بِشَطِّ الْفُرَاتِ ". قَالَ:
" فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
فَمَدَّ يَدَهُ، فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا، فَلَمْ أَمْلِكْ
عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ رَجُلٍ،
عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ مَرَّ بِكَرْبَلَاءَ، عِنْدَ أَشْجَارِ الْحَنْظَلِ،
وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى صِفِّينَ، فَسَأَلَ عَنِ اسْمِهَا فَقِيلَ: كَرْبَلَاءُ.
فَقَالَ: كَرْبٌ وَبَلَاءٌ. فَنَزَلَ وَصَلَّى عِنْدَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، ثُمَّ
قَالَ: يُقْتَلُ هَاهُنَا شُهَدَاءُ هُمْ خَيْرُ الشُّهَدَاءِ غَيْرَ
الصَّحَابَةِ، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ
هُنَاكَ، فَعَلَّمُوهُ بِشَيْءٍ، فَقُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ آثَارٌ فِي كَرْبَلَاءَ. وَقَدْ حَكَى
أَبُو الْجَنَابِ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَهْلَ كَرْبَلَاءَ لَا
يَزَالُونَ يَسْمَعُونَ نَوْحَ الْجِنِّ عَلَى الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، وَهُنَّ يَقُلْنَ:
مَسَحَ الرَّسُولُ جَبِينَهُ فَلَهُ بَرِيقٌ فِي الْخُدُودِ أَبَوَاهُ مِنْ عَلْيَا
قُرَيْ
شٍ جَدُّهُ خَيْرُ الْجُدُودِ
وَقَدْ أَجَابَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ:
خَرَجُوا بِهِ وَفَدًا إِلَيْ هِ فَهُمْ لَهُ شَرُّ الْوُفُودِ
قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ
سَكَنُوا بِهِ نَارَ الْخُلُودِ
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ ذَهَبُوا فِي غَزْوَةٍ
إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَوَجَدُوا فِي كَنِيسَةٍ مَكْتُوبًا:
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ
فَسَأَلُوهُمْ: مَنْ كَتَبَ هَذَا ؟ فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا مَكْتُوبٌ هَاهُنَا
مِنْ قَبْلِ مَبْعَثِ نَبِيِّكُمْ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ قَتَلُوهُ رَجَعُوا، فَبَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ
الْخَمْرَ، وَالرَّأْسُ مَعَهُمْ، فَبَرَزَ لَهُمْ قَلَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَرَسَمَ
لَهُمْ فِي الْحَائِطِ بِدَمٍ هَذَا الْبَيْتَ
أَتَرْجُو أُمَّةٌ قَتَلَتْ حُسَيْنًا شَفَاعَةَ جَدِّهِ يَوْمَ الْحِسَابِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَفَّانُ، ثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ
بِنِصْفِ النَّهَارِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، مَعَهُ قَارُورَةٌ فِيهَا دَمٌ، فَقُلْتُ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا ؟ قَالَ: " هَذَا
دَمُ الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ، لَمْ أَزَلْ أَلْتَقِطُهُ مُنْذُ الْيَوْمِ
". قَالَ عَمَّارٌ: فَأَحْصَيْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ
قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
هَانِئٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّحْوِيُّ، ثَنَا مَعْدِيُّ بْنُ
سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ قَالَ اسْتَيْقَظَ ابْنُ
عَبَّاسٍ مِنْ نَوْمِهِ فَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: قُتِلَ الْحُسَيْنُ وَاللَّهِ.
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: كَلَّا يَابْنَ عَبَّاسٍ كَلَّا ! قَالَ: رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ زُجَاجَةٌ مِنْ دَمٍ،
فَقَالَ، أَلَا تَعْلَمُ مَا صَنَعَتْ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي ؟ قَتَلُوا ابْنِي
الْحُسَيْنَ، وَهَذَا دَمُهُ وَدَمُ أَصْحَابِهِ أَرْفَعُهُمَا إِلَى اللَّهِ.
قَالَ: فَكُتِبَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ فِيهِ وَتِلْكَ السَّاعَةُ، فَمَا
لَبِثُوا إِلَّا أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا حَتَّى جَاءَهُمُ الْخَبَرُ
بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ السَّاعَةِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ
الْأَحْمَرِ، عَنْ رَزِينٍ، عَنْ سَلْمَى قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ
وَهِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ ؟ فَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ
التُّرَابُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: شَهِدْتُ قَتْلَ
الْحُسَيْنِ آنِفًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرْنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيُّ، أَنْبَأَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ
عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ أُمِّ
سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْنَا
صَارِخَةً، فَأَقْبَلَتْ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ:
قُتِلَ الْحُسَيْنُ. فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلُوهَا، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ -
أَوْ بُيُوتَهُمْ - عَلَيْهِمْ نَارًا.
وَوَقَعَتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا،
وَقُمْنَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ،
ثَنَا، حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ
قَالَتْ: سَمِعْتُ الْجِنَّ يَبْكِينَ عَلَى حُسَيْنٍ، وَسَمِعْتُ الْجِنَّ
تَنُوحُ عَلَى حُسَيْنٍ.
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أُمِّهِ،
عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ الْجِنَّ تَنُوحُ عَلَى الْحُسَيْنِ،
وَهُنَّ يَقُلْنَ
أَيُّهَا الْقَاتِلُونَ ظُلْمًا حُسَيْنًا أَبْشِرُوا بِالْعَذَابِ وَالتَّنْكِيلِ
كُلُّ أَهْلِ السَّمَاءِ يَدْعُو عَلَيْكَمْ مِنْ نَبِيٍّ وَمُرْسَلٍ وَقَبِيلِ
قَدْ لُعِنْتُمْ عَلَى لَسَانِ ابْنِ دَاوُدَ وَمُوسَى وَصَاحِبِ الْإِنْجِيلِ
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِشِعْرٍ آخَرَ غَيْرِ
هَذَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَيَّاحٍ
السُّكَّرِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الشَّافِعِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَدَّادٍ الْمِسْمَعِيُّ، ثَنَا أَبُو
نُعَيْمٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى
إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي قَتَلْتُ بِيَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا سَبْعِينَ أَلْفًا، وَأَنَا قَاتِلٌ بِابْنِ ابْنَتِكَ سَبْعِينَ
أَلْفًا وَسَبْعِينَ أَلْفًا. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَقَدْ
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "
مُسْتَدْرَكِهِ ". وَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ هَاهُنَا آثَارًا غَرِيبَةً
جِدًّا.
وَلَقَدْ بَالَغَ الشِّيعَةُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، فَوَضَعُوا أَحَادِيثَ
كَثِيرَةً وَكَذِبًا فَاحِشًا ; مِنْ كَوْنِ الشَّمْسِ كَسَفَتْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى
بَدَتِ النُّجُومُ، وَمَا رُفِعَ يَوْمَئِذٍ حَجَرٌ إِلَّا وُجِدَ تَحْتَهُ دَمٌ،
وَأَنَّ أَرْجَاءَ السَّمَاءِ احْمَرَّتْ، وَأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ تَطْلُعُ
وَشُعَاعُهَا كَأَنَّهُ دَمٌ، وَصَارَتِ السَّمَاءُ كَأَنَّهَا عَلَقَةٌ، وَأَنَّ
الْكَوَاكِبَ صَارَ يَضْرِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَمْطَرَتِ السَّمَاءُ دَمًا
أَحْمَرَ، وَأَنَّ الْحُمْرَةَ لَمْ تَكُنْ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِئِذٍ.
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ الْمُعَافِرِيِّ، أَنَّ الشَّمْسَ
كَسَفَتْ يَوْمَئِذٍ حَتَّى بَدَتِ النُّجُومُ وَقْتَ الظُّهْرِ. وَأَنَّ رَأْسَ
الْحُسَيْنِ لَمَّا دَخَلُوا بِهِ قَصْرَ الْإِمَارَةِ جَعَلَتِ الْحِيطَانُ
تَسِيلُ دَمًا. وَأَنَّ الْأَرْضَ أَظْلَمَتْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَلَمْ يُمَسَّ
زَعْفَرَانٌ وَلَا وَرْسٌ مِمَّا كَانَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا احْتَرَقَ مَنْ
مَسَّهُ. وَلَمْ يُرْفَعْ حَجَرٌ مِنْ حِجَارَةِ بَيْتِ الْمَقَدْسِ إِلَّا ظَهَرَ
تَحْتَهُ دَمٌ عَبِيطٌ. وَأَنَّ الْإِبِلَ الَّتِي غَنِمُوهَا مِنْ إِبِلِ
الْحُسَيْنِ حِينَ طَبَخُوهَا صَارَ لَحْمُهَا مِثْلَ الْعَلْقَمِ. إِلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأَكَاذِيبِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ
مِنْهَا شَيْءٌ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنَ الْأُمُورِ وَالْفِتَنِ الَّتِي أَصَابَتْ مَنْ قَتَلَهُ
فَأَكْثَرُهَا صَحِيحٌ ; فَإِنَّهُ قَلَّ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا
إِلَّا أُصِيبَ بِمَرَضٍ، وَأَكْثَرُهُمْ أَصَابَهُ الْجُنُونُ.
وَلِلشِّيعَةِ وَالرَّافِضَةِ فِي صِفَةِ مَصْرَعِ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، كَذِبٌ كَثِيرٌ وَأَخْبَارٌ طَوِيلَةٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ،
وَفِي بَعْضِ مَا أَوْرَدْنَاهُ نَظَرٌ، وَلَوْلَا أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ
وَغَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ
الْأَئِمَّةِ ذَكَرُوهُ مَا سُقْتُهُ، وَأَكْثَرُهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مِخْنَفٍ
لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَقَدْ كَانَ شِيعِيًّا، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ عِنْدَ
الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنَّهُ أَخْبَارِيٌّ حَافِظٌ، عِنْدَهُ مِنْ هَذِهِ
الْأَشْيَاءِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا يَتَرَامَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ
مِنَ الْمُصَنِّفِينَ مِمَّنْ بَعْدَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَسْرَفَ الرَّافِضَةُ فِي دَوْلَةِ بَنِي بُوَيْهٍ فِي حُدُودِ
الْأَرْبَعِمِائَةٍ وَمَا حَوْلَهَا، فَكَانَتِ الدَّبَادِبُ تُضْرَبُ بِبَغْدَادَ
وَنَحْوِهَا مِنَ الْبِلَادِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيُذَرُّ الرَّمَادُ
وَالتِّبْنُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ، وَتُعَلَّقُ الْمُسُوحُ عَلَى
الدَّكَاكِينِ، وَيُظْهِرُ النَّاسُ الْحُزْنَ وَالْبُكَاءَ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ لَيْلَتَئِذٍ مُوَافَقَةً لَلْحُسَيْنِ، لَأَنَّهُ قُتِلَ
عَطْشَانَ، ثُمَّ تَخْرُجُ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ يَنُحْنَ
وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ، حَافِيَاتٍ فِي الْأَسْوَاقِ، إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ، وَالْأَهْوَاءِ الْفَظِيعَةِ، وَالْهَتَائِكِ
الْمُخْتَرَعَةِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ أَنْ يُشَنِّعُوا
عَلَى دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ ; لَأَنَّهُ قُتِلَ فِي أَيَّامِهِمْ.
وَقَدْ عَاكَسَ الرَّافِضَةَ وَالشِّيعَةَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ النَّوَاصِبُ مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ فَكَانُوا فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَطْبُخُونَ الْحُبُوبَ
وَيَغْتَسِلُونَ وَيَتَطَيَّبُونَ وَيَلْبَسُونَ أَفْخَرَ ثِيَابِهِمْ،
وَيَتَّخِذُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، يَصْنَعُونَ فِيهِ أَنْوَاعَ
الْأَطْعِمَةِ، وَيُظْهِرُونَ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ ; يُرِيدُونَ بِذَلِكَ
عِنَادَ الرَّوَافِضِ وَمُعَاكَسَتَهُمْ.
وَقَدْ تَأَوَّلَ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ أَنَّهُ جَاءَ لَيُفَرِّقَ كَلِمَةَ
الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ
اجْتِمَاعِهَا، وَلِيَخْلَعَ مَنْ
بَايَعَهُ النَّاسُ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ " الْحَدِيثُ بِالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ،
وَالتَّوَعُّدِ عَلَيْهِ، وَبِتَقَدْيرِ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَهَلَةِ
قَدْ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَتْلُهُ، بَلْ
كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِجَابَتُهُ إِلَى مَا سَأَلَ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ
الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، فَإِذَا ذُمَّتْ طَائِفَةٌ مِنَ
الْجَبَّارِينَ لَمْ تُذَمَّ الْأُمَّةُ بِكَمَالِهَا وَتُتَّهَمْ عَلَى
نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَهَبُوا
إِلَيْهِ، وَلَا كَمَا سَلَكُوهُ، بَلْ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ قَدْيمًا وَحَدِيثًا
كَارِهٌ مَا وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِ وَقَتْلِ أَصْحَابِهِ سِوَى شِرْذِمَةٍ
قَلِيلَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَأَكْثَرُهُمْ كَانُوا
قَدْ كَاتَبُوهُ لَيَتَوَصَّلُوا بِهِ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمُ
الْفَاسِدَةِ، فَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ ابْنُ زِيَادٍ مِنْهُمْ بَلَّغَهُمْ مَا
يُرِيدُونَ مِنَ الدُّنْيَا، وَأَخَذَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ
بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَانْكَفُّوا عَنِ الْحُسَيْنِ وَخَذَلُوهُ ثُمَّ
قَتَلُوهُ، وَلَيْسَ كُلُّ ذَلِكَ الْجَيْشِ كَانَ رَاضِيًا بِمَا وَقَعَ مِنْ
قَتْلِهِ، بَلْ وَلَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ بِذَلِكَ - وَاللَّهُ
أَعْلَمُ - وَلَا كَرِهَهُ، وَالَّذِي يَكَادُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ
يَزِيدَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ لَعَفَا عَنْهُ، كَمَا
أَوْصَاهُ بِذَلِكَ أَبُوهُ، وَكَمَا صَرَّحَ هُوَ بِهِ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ
بِذَلِكَ.
وَقَدْ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى فِعْلِهِ ذَلِكَ وَشَتَمَهُ فِيمَا يَظْهَرُ
وَيَبْدُو، وَلَكِنْ لَمْ يَعْزِلْهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَاقَبَهُ وَلَا أَرْسَلَ
يَعِيبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يُحْزِنَهُ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْ قَتْلِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ
مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ، وَابْنُ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ بْناتِهِ،
وَقَدْ كَانَ عَابِدًا وَشُجَاعًا وَسَخِيًّا، وَلَكِنْ لَا يُحْسِنُ مَا
يَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ مِنْ إِظْهَارِ الْجَزَعِ وَالْحُزْنِ الَّذِي لَعَلَّ
أَكْثَرَهُ تَصَنُّعٌ وَرِيَاءٌ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَهُمْ
لَا يَتَّخِذُونَ مَقْتَلَهُ مَأْتَمًا كَيَوْمِ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ، فَإِنَّ
أَبَاهُ قُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ فِي
السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ كَانَ
أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ، عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَدْ قُتِلَ
وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي دَارِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مِنْ شَهْرِ ذِي
الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَقَدْ ذُبِحَ مِنَ الْوَرِيدِ إِلَى
الْوَرِيدِ، وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ يَوْمَ مَقْتَلِهِ مَأْتَمًا، وَكَذَلِكَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، قُتِلَ
وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وَهُوَ يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ، وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسَ يَوْمَ قَتْلِهِ مَأْتَمًا، وَكَذَلِكَ
الصِّدِّيقُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَلَمْ يَتَّخِذِ النَّاسُ يَوْمَ وَفَاتِهِ
مَأْتَمًا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَيِّدُ وَلَدِ
آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ كَمَا مَاتَ
الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، وَلَمْ يَتَّخِذْ أَحَدٌ يَوْمَ مَوْتِهِ مَأْتَمًا
يَفْعَلُونَ فِيهِ مَا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الرَّافِضَةِ يَوْمَ
مَصْرَعِ الْحُسَيْنِ، وَلَا ذَكَرَ أَحَدٌ أَنَّهُ ظَهَرَ يَوْمَ مَوْتِهِمْ
وَقِبَلَهُمْ شَيْءٌ مِمَّا ادَّعَاهُ هَؤُلَاءِ يَوْمَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ مِنَ
الْأُمُورِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مِثْلَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْحُمْرَةِ الَّتِي
تَطْلُعُ فِي السَّمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَصَائِبِ وَأَمْثَالِهَا مَا
رَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ،
عَنْ جَدِّهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ
فَيَتَذَكَّرُهَا وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهَا، فَيُحْدِثُ لَهَا اسْتِرْجَاعًا،
إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ يَوْمٍ أُصِيبَ بِهَا ".
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
وَأَمَّا قَبْرُ الْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَقَدِ اشْتُهِرَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ فِي مَشْهَدِ عَلِيٍّ
بِمَكَانٍ مِنَ الطَّفِّ عِنْدَ نَهْرِ كَرْبَلَاءَ، فَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ
الْمَشْهَدَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبْرِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَوْضِعَ مَقْتَلِهِ عَفَا أَثَرُهُ، حَتَّى لَمْ
يَطَّلِعْ أَحَدٌ عَلَى تَعْيِينِهِ بِخَبَرٍ. وَقَدْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ
الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ قَبْرَ
الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا أُجْرِيَ عَلَى قَبْرِ
الْحُسَيْنِ لَيُمْحَى أَثَرُهُ نَضَبَ الْمَاءُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ قَبْضَةً قَبْضَةً،
وَيَشُمُّهَا حَتَّى وَقَعَ عَلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ، فَبَكَى وَقَالَ: بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمِّي، مَا كَانَ أَطْيَبَكَ وَأَطْيَبَ تُرْبَتِكَ ! ثُمَّ أَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَرَادُوا لَيُخْفُوا قَبْرَهُ عَنْ عَدُوِّهِ فَطِيبُ تُرَابِ الْقَبْرِ دَلَّ
عَلَى الْقَبْرِ
وَأَمَّا رَأْسُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فَالْمَشْهُورُ بَيْنَ أَهْلِ التَّارِيخِ وَعُلَمَاءِ السِّيَرِ أَنَّهُ بَعَثَ
بِهِ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَكَانَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الرَّأْسُ ;
فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ
أَنَّ يَزِيدَ بَعَثَ بِرَأْسِ
الْحُسَيْنِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فَدَفَنَهُ عِنْدَ
أُمِّهِ بِالْبَقِيعِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ صَالِحٍ - وَهُمَا ضَعِيفَانِ - أَنَّ الرَّأْسَ
لَمْ يَزَلْ فِي خِزَانَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَأُخِذَ
مِنْ خِزَانَتِهِ، فَكُفِّنَ وَدُفِنَ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ مِنْ مَدِينَةِ
دِمَشْقَ. قُلْتُ: وَيُعْرَفُ مَكَانُهُ بِمَسْجِدِ الرَّأْسِ الْيَوْمَ دَاخِلَ
بَابِ الْفَرَادِيسِ الثَّانِي.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " فِي تَرْجَمَةِ
رَيَّا حَاضِنَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَنَّ يَزِيدَ حِينَ وَضَعَ رَأَسَ
الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَمَثَّلَ بِشِعْرِ ابْنِ الزِّبْعَرَى، يَعْنِي قَوْلَهُ:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
قَالَتْ: ثُمَّ نَصَبَهُ بِدِمَشْقَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ وُضِعَ فِي
خَزَائِنِ السِّلَاحِ، حَتَّى كَانَ زَمَانُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
فَجِيءَ بِهِ إِلَيْهِ، وَقَدْ بَقِيَ عَظْمًا أَبْيَضَ، فَكَفَّنَهُ وَطَيَّبَهُ
وَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا جَاءَتِ
الْمُسَوِّدَةُ - يَعْنِي بَنِي الْعَبَّاسِ - نَبَشُوا عَنْ رَأْسِ الْحُسَيْنِ
وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ
بَقِيَتْ بَعْدَ دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَقَدْ جَاوَزَتِ الْمِائَةَ سَنَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَادَّعَتِ الطَّائِفَةُ
الْمُسَمَّوْنَ بِالْفَاطِمِيِّينَ، الَّذِينَ مَلَكُوا الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
قَبْلَ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
أَنَّ رَأْسَ الْحُسَيْنِ وَصَلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَدَفَنُوهُ
بِهَا وَبَنُوا عَلَيْهِ الْمَشْهَدَ الْمَشْهُورَ بِهِ بِمِصْرَ، الَّذِي يُقَالُ
لَهُ: تَاجُ الْحُسَيْنِ. بَعْدَ سَنَةِ خَمْسِمِائَةٍ. وَقَدْ نَصَّ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَذَلِكَ،
وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنْ يُرَوِّجُوا بِذَلِكَ بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ مِنَ
النَّسَبِ الشَّرِيفِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَذَبَةٌ خَوَنَةٌ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى
ذَلِكَ الْقَاضِي الْبَاقِلَانِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ
فِي دَوْلَتِهِمْ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ، كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ
كُلَّهُ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِهِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَمَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنِ الْمُحْرِمِ
يَقْتُلُ الذُّبَابَ، فَقَالَ: أَهْلُ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ عَنْ قَتْلِ
الذُّبَابِ،
وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنَ الدُّنْيَا "
؟ ! وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ بِهِ نَحْوَهُ، أَنَّ
رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ يُصِيبُ
الثَّوْبَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: انْظُرُوا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ
عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ، وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ
صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي
الْجَحَّافِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ
أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". يَعْنِي حَسَنًا
وَحُسَيْنًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا تَلِيدُ بْنُ سُلَيْمانَ، كُوفِيٌّ، ثَنَا
أَبُو الْجَحَّافِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَظَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ
وَالْحُسَيْنِ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ: " أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ،
سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ ". تَفَرَّدَ بِهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، ثَنَا حَجَّاجٌ، يَعْنِي
ابْنَ دِينَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ حَسَنٌ وَحُسَيْنٌ، هَذَا عَلَى عَاتِقِهِ،
وَهَذَا عَلَى عَاتِقِهِ،
وَهُوَ يَلْثَمُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا
مَرَّةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتُحِبُّهُمَا. فَقَالَ: " مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ
أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ". تَفَرَّدَ بِهِ
أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ
الْأَشَجُّ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ
أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ". قَالَ: وَكَانَ
يَقُولُ: " ادْعُ لِيَ ابْنَيَّ ". فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا
إِلَيْهِ. وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ بِهِ،
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ وَعَفَّانُ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ أَنَسٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَيْتِ
فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَقُولُ:
" الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ".
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ
عَفَّانَ بِهِ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، ثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ
الْبَرَاءِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْصَرَ
حَسَنًا وَحُسَيْنًا
فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي
أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ وَاقِدٍ، وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ بْنِ
وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا، إِذْ جَاءَ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ،
فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمِنْبَرِ
فَحَمَلَهُمَا، فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " صَدَقَ
اللَّهُ: " إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ "
فَنَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ
أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا ". وَهَذَا لَفْظُ
التِّرْمِذِيِّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ
بْنِ وَاقِدٍ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
رَاشِدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ، أَحَبَّ
اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الْأَسْبَاطِ ". ثُمَّ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَفَّانَ،
عَنْ وُهَيْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ بِهِ. وَرَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُرَّةَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ
سِبْطَانِ مِنَ الْأَسْبَاطِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ يَزِيدَ
بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، عَنْ
مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
نُعْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، إِلَّا ابْنَيِ الْخَالَةِ يَحْيَى وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
". وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
الْفَزَارِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
حَازِمٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ
أَبِي سَابِطٍ قَالَ:دَخَلَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ جَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ
إِلَى سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ". سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ
مَيْسَرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زِرِّ بْنِ
حُبَيْشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ أُمَّهُ بَعَثَتْهُ لَيَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهَا. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ
فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ صَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ
انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ، فَسَمِعَ صَوْتِي فَقَالَ: " مَنْ هَذَا ؟
حُذَيْفَةُ ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " مَا حَاجَتُكَ ؟ غَفَرَ
اللَّهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ، إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ إِلَى الْأَرْضِ
قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ
وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ
الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ " ثُمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ
إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، وَمِنْ حَدِيثِ الْحُسَيْنِ نَفْسِهِ، وَعُمَرَ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ، وَفِي
أَسَانِيدِهِ كُلِّهَا ضَعْفٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَيَقُولُ فِي الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ: " مَنْ أَحَبَّنِي
فَلْيُحِبَّ هَذَيْنِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ، يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ،
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدٌ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ
رَجُلًا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَضُمُّ إِلَيْهِ حَسَنًا وَحُسَيْنًا وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي
أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا ". وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ شَيْءٌ يُشْبِهُ هَذَا، وَفِيهِ ضَعْفٌ وَسَقَمٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، ثَنَا كَامِلٌ،
وَأَبُو الْمُنْذِرِ أَنَا كَامِلٌ - قَالَ أَسْوَدُ: أَنَا الْمَعْنَى - عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنَّا نُصْلِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، فَإِذَا سَجَدَ وَثَبَ الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ عَلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ أَخَذَهُمَا أَخْذًا
رَفِيقًا، فَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَادَ عَادَا، حَتَّى قَضَى
صَلَاتَهُ أَقْعَدَهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ. قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرُدُّهُمَا ؟ فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ لَهُمَا: "
الْحَقَا بِأُمِّكُمَا ". قَالَ: فَمَكَثَ ضَوْءُهَا حَتَّى دَخَلَا.
وَقَدْ رَوَى مُوسَى بْنُ عُثْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
وَعُمَرَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا
عَفَّانُ، ثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي
الْمِقَدْامِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْرَقِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلَ
عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا نَائِمٌ عَلَى
الْمَنَامَةِ، فَاسْتَسْقَى الْحَسَنُ أَوِ الْحُسَيْنُ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَاةٍ لَنَا بَكِئٍ فَحَلَبَهَا
فَدَرَّتْ، فَجَاءَهُ الْآخَرُ فَنَحَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهُ أَحَبَّهُمَا
إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " لَا، وَلَكِنَّهُ اسْتَسْقَى قَبْلَهُ ". ثُمَّ
قَالَ: " إِنِّي وَإِيَّاكِ وَهَذَيْنِ وَهَذَا الرَّاقِدَ فِي مَكَانٍ
وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَرَوَاهُ أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
فَاخِتَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ وَعَنْ مَيْمُونَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ
مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُحِبُّهُمَا وَيُكْرِمُهُمَا
وَيَحْمِلُهُمَا وَيُعْطِيهِمَا فِي الدِّيوَانِ كَمَا يُعْطِي أَبَاهُمَا، وَجِيءَ
مَرَّةً بِحُلَلٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ،
وَلَمْ يُعْطِهِمَا مِنْهَا شَيْئًا، وَقَالَ: لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَصْلُحُ
لَهُمَا. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى نَائِبِ الْيَمَنِ، فَاسْتَعْمَلَ لَهُمَا
حُلَّتَيْنِ تُنَاسِبُهُمَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ ثَنَا يُونُسُ بْنُ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ
الْعَيْزَارِ بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ:
بَيْنَمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ إِذْ رَأَى
الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ مُقْبِلًا، فَقَالَ: هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الْأَرْضِ
إِلَى أَهْلِ السَّمَاءِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ
الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ
وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ، وَهُمْ صِغَارٌ
لَمْ يَبْلُغُوا، وَلَمْ يُبَايِعْ صَغِيرًا إِلَّا مِنَّا. وَهَذَا مُرْسَلٌ
غَرِيبٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ قَالَ: حَجَّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ حَجَّةً
مَاشِيًا، وَنَجَائِبُهُ تُقَادُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ،
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ
حَجَّ مَاشِيًا، وَإِنَّ نَجَائِبَهُ تُقَادُ وَرَاءَهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ
ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْحَسَنُ أَخُوهُ، كَمَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: جَرَى بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ كَلَامٌ
فَتَهَاجَرَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَقْبَلَ الْحَسَنُ إِلَى
الْحُسَيْنِ، فَأَكَبَّ عَلَى رَأْسِهِ فَقَبَّلَهُ، وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي
مَنَعَنِي مِنِ ابْتِدَائِكَ بِهَذَا
أَنِّي رَأَيْتُ أَنَّكَ أَحَقُّ بِالْفَضْلِ مِنِّي، فَكَرِهْتُ أَنْ أُنَازِعَكَ
مَا أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ.
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، أَنَّ الْحَسَنَ كَتَبَ إِلَى
الْحُسَيْنِ يَعِيبُ عَلَيْهِ إِعْطَاءَ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ
خَيْرَ الْمَالِ مَا وَقَى الْعِرْضَ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حَنِيفَةَ مُحَمَّدُ بْنُ
حَنِيفَةَ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَاءِ
الْغَنَوِيُّ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيٍّ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ، فَأَوْسَعَ لَهُ
النَّاسُ، وَالْفَرَزْدَقُ بْنُ غَالِبٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا
أَبَا فِرَاسٍ، مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ
وَالْحَرَمُ هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ
رَاحَتِهِ
رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ
قَائِلُهَا
إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ
مَهَابَتِهِ
فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
فِي كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا
عَبِقٌ
بِكَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
نِسْبَتُهُ
طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالْخِيمُ وَالشِّيَمُ لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ
غَايَتِهِ
وَلَا يُدَانِيهِ قَوْمٌ إِنْ هُمُ كَرُمُوا أَيُّ الْعَشَائِرِ لَيْسَتْ فِي
رِقَابِهِمُ
لَأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ نِعَمُ مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ
أَوَّلِيَّةَ ذَا
فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ
هَكَذَا أَوْرَدَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الْحُسَيْنِ فِي "
مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ " وَهُوَ غَرِيبٌ، فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهَا مِنْ
قِيلِ الْفَرَزْدَقِ فِي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، لَا فِي أَبِيهِ، وَهُوَ
أَشْبَهُ ; فَإِنَّ الْفَرَزْدَقَ لَمْ يَرَ الْحُسَيْنَ إِلَّا وَهُوَ مُقْبِلٌ
إِلَى الْحَجِّ وَالْحُسَيْنُ ذَاهِبٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَأَلَ الْحُسَيْنُ
الْفَرَزْدَقَ عَنِ النَّاسِ، فَذَكَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ إِنَّ
الْحُسَيْنَ قُتِلَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ، فَمَتَى
رَآهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ؟ ! وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى هِشَامٌ، عَنْ عَوَانَةَ قَالَ: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ
لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ: أَيْنَ الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبْتُهُ إِلَيْكَ فِي قَتْلِ
الْحُسَيْنِ ؟ فَقَالَ: مَضَيْتُ لَأَمْرِكَ وَضَاعَ الْكِتَابُ. فَقَالَ لَهُ
ابْنُ زِيَادٍ: لَتَجِيئَنَّ بِهِ. قَالَ: ضَاعَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَتَجِيئَنَّ
بِهِ. قَالَ: تُرِكَ وَاللَّهِ يُقْرَأُ عَلَى عَجَائِزِ قُرَيْشٍ أَعْتَذِرُ
إِلَيْهِنَّ بِالْمَدِينَةِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ نَصَحْتُكَ فِي حُسَيْنٍ
نَصِيحَةً لَوْ نَصَحْتُهَا أَبِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَكُنْتُ قَدْ
أَدَّيْتُ حَقَّهُ. فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زِيَادٍ أَخُو عُبَيْدِ اللَّهِ:
صَدَقَ عُمَرُ وَاللَّهِ، وَلَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَنِي زِيَادٍ
رَجُلٌ إِلَّا وَفَى أَنْفِهِ خِزَامَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنَّ
حُسَيْنًا لَمْ يُقْتَلْ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ
عُبَيْدُ اللَّهِ.
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ
أَشْعَارِهِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْهُ
فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَنْشَدَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ كَامِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
اغْنَ عَنِ الْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ تَغْنَ عَنِ الْكَاذِبِ وَالصَّادِقِ
وَاسْتَرْزِقِ الرَّحْمَنَ مِنْ فَضْلِهِ
فَلَيْسَ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ رَازِقٍ مَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّاسَ يُغْنُونَهُ
فَلَيْسَ بِالرَّحْمَنِ بِالْوَاثِقِ أَوْ ظَنَّ أَنَّ الْمَالَ مِنْ كَسْبِهِ
زَلَّتْ بِهِ النَّعْلَانِ مِنْ حَالِقٍ
وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَالَ:
كُلَّمَا زِيدَ صَاحِبُ الْمَالِ مَالًا زِيدَ فِي هَمِّهِ وَفِي الِاشْتِغَالِ
قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا مُنَغِّصَةَ الْعَيْ شِ وَيَا دَارَ كُلِّ فَانٍ وَبَالِ
لَيْسَ يَصْفُوَا لِزَاهِدٍ طَلَبُ الزُّهْ دِ إِذَا كَانَ مُثْقَلًا بِالْعِيَالِ
وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ زَارَ
مَقَابِرَ الشُّهَدَاءِ بِالْبَقِيعِ فَقَالَ:
نَادَيْتُ سُكَّانَ الْقُبُورِ
فَأَسْكَتُوا وَأَجَابَنِي عَنْ صَمْتِهِمْ نَدْبُ الْجُثَى
قَالَتْ أَتَدْرِي مَا صَنَعْتُ بِسَاكِنِيَّ مَزَّقْتُ أَلْحُمَهُمْ وَخَرَّقْتُ
الْكُسَا
وَحَشَوْتُ أَعْيُنَهُمْ تُرَابًا بَعْدَ مَا كَانَتْ تَأَذَّى بِالْيَسِيرِ مِنَ
الْقَذَى
أَمَّا الْعِظَامُ فَإِنَّنِي مَزَّقْتُهَا حَتَّى تَبَايَنَتِ الْمَفَاصِلُ
وَالشَّوَى
قَطَّعْتُ ذَا مِنْ ذَا وَمِنْ هَذَا كَذَا فَتَرَكْتُهَا رِمَمًا يَطُولُ بِهَا
الْبِلَى
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لَلْحُسَيْنِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا:
لَئِنْ كَانَتِ الدُّنْيَا تُعَدُّ نَفِيسَةً فَدَارُ ثَوَابِ اللَّهِ أَعَلَى
وَأَنْبَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَبْدَانُ لَلْمَوْتِ أُنْشِئَتْ فَقَتْلُ سَبِيلِ اللَّهِ
بِالسَّيْفِ أَفْضَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْزَاقُ شَيْئًا مُقَدَّرًا فَقِلَّةُ سَعْيِ الْمَرْءِ فِي
الْكَسْبِ أَجْمَلُ
وَإِنْ كَانَتِ الْأَمْوَالُ لَلتَّرْكِ جُمِّعَتْ فَمَا بَالُ مَتْرُوكٍ بِهِ
الْمَرْءُ يَبْخَلُ
وَمِمَّا أَنْشَدَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ شِعْرِهِ فِي امْرَأَتِهِ
الرَّبَابِ بِنْتِ أُنَيْفٍ، وَيُقَالُ:
بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيِّ
بْنِ أَوْسٍ الْكَلْبِيِّ، أُمِّ ابْنَتِهِ سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي لَأُحِبُّ دَارًا تَحُلُّ بِهَا سُكَيْنَةُ وَالرَّبَابُ
أُحِبُّهُمَا وَأَبْذُلُ جُلَّ مَالِي وَلَيْسَ لِلَائِمِي فِيهَا عِتَابُ
وَلَسْتُ لَهُمْ وَإِنْ عَتَبُوا مُطِيعًا حَيَاتِيَ أَوْ يُغَيِّبَنِي التُّرَابُ
وَقَدْ أَسْلَمَ أَبُوهَا عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَمَّرَهُ
عُمَرُ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ خَطَبَ إِلَيْهِ عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ مِنْ
بَنَاتِهِ، فَزَوَّجَ الْحَسَنَ ابْنَتَهُ سَلْمَى، وَالْحُسَيْنَ ابْنَتَهُ
الرَّبَابَ، وَزَوَّجَ عَلِيًّا ابْنَتَهُ الثَّالِثَةَ، وَهِيَ الْمُحَيَّاةُ
بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَحَبَّ الْحُسَيْنُ
زَوْجَتَهُ الرَّبَابَ حُبًّا شَدِيدًا، وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا، يَقُولُ فِيهَا
الشِّعْرَ، وَلَمَّا قُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ كَانَتْ مَعَهُ، فَوَجَدَتْ عَلَيْهِ
وَجْدًا شَدِيدًا، وَذُكِرَ أَنَّهَا أَقَامَتْ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ
انْصَرَفَتْ وَهِيَ تَقُولُ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا
كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
وَقَدْ خَطَبَهَا بَعْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَقَالَتْ:
مَا كُنْتُ لِأَتَّخِذَ حَمًى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَوَاللَّهِ لَا يُؤْوِينِي وَرَجُلًا بَعْدَ الْحُسَيْنِ سَقْفٌ
أَبَدًا. وَلَمْ
تَزَلْ عَلَيْهِ كَمِدَةً حَتَّى
مَاتَتْ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا إِنَّمَا عَاشَتْ بَعْدَهُ أَيَّامًا يَسِيرَةً.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَابْنَتُهَا سُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ كَانَتْ مِنْ
أَجْمَلِ النِّسَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهَا أَحْسَنُ
مِنْهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى أَبُو مِخْنَفٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ تَفَقَّدَ أَشْرَافَ أَهْلِ
الْكُوفَةِ، فَلَمْ يَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحُرِّ بْنِ يَزِيدَ،
فَتَطَلَّبَهُ حَتَّى جَاءَهُ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ يَابْنَ
الْحُرِّ ؟ قَالَ: كُنْتُ مَرِيضًا. قَالَ: مَرِيضُ الْقَلْبِ أَمْ مَرِيضُ
الْبَدَنِ ؟ قَالَ: أَمَّا قَلْبِي فَلَمْ يَمْرَضْ، وَأَمَّا بَدَنِي فَقَدْ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَافِيَةِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: كَذَبْتَ،
وَلَكِنَّكَ كُنْتَ مَعَ عَدُوِّنَا. قَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَ عَدُوِّكَ لَمْ
يَخْفَ مَكَانُ مِثْلِي، وَلَكَانَ النَّاسُ شَاهَدُوا ذَلِكَ. قَالَ: وَغَفَلَ
عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ غَفْلَةً، فَخَرَجَ ابْنُ الْحُرِّ، فَقَعَدَ عَلَى
فَرَسِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَبْلِغُوهُ أَنِّي لَا آتِيهِ وَاللَّهِ طَائِعًا. فَقَالَ
ابْنُ زِيَادٍ: أَيْنَ ابْنُ الْحُرِّ ؟ قَالُوا: خَرَجَ. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهِ.
فَخَرَجَ الشُّرَطُ فِي طَلَبِهِ، فَأَسْمَعَهُمْ غَلِيظَ مَا يَكْرَهُونَ،
وَتَرَضَّى عَنِ الْحُسَيْنِ وَأَخِيهِ وَأَبِيهِ، ثُمَّ أَسْمَعَهُمْ فِي ابْنِ
زِيَادٍ غَلِيظًا مِنَ الْقَوْلِ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْهُمْ، وَقَالَ فِي
الْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ شِعْرًا:
يَقُولُ أَمِيرٌ غَادِرٌ حَقُّ غَادِرٍ أَلَا كُنْتَ قَاتَلْتَ الشَّهِيدَ ابْنَ
فَاطِمَهْ
فَيَا نَدَمِي أَنْ لَا أَكُونَ نَصَرْتُهُ أَلَا كُلُّ نَفْسٍ لَا تُسَدِّدُ
نَادِمَهْ
وَإِنِّي لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ مِنْ
حُمَاتِهِ لَذُو حَسْرَةٍ مَا إِنْ تُفَارِقُ لَازِمَهْ
سَقَى اللَّهُ أَرْوَاحَ الَّذِينَ تَأَزَّرُوا عَلَى نَصْرِهِ سَقْيًا مِنَ
الْغَيْثِ دَائِمَهْ
وَقَفْتُ عَلَى أَجْدَاثِهِمْ وَمَجَالِهِمْ فَكَادَ الْحَشَا يَنْفَضُّ
وَالْعَيْنُ سَاجِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَانُوا مَصَالِيتَ فِي الْوَغَى سِرَاعًا إِلَى الْهَيْجَا
حُمَاةً خَضَارِمَهْ
تَآسَوْا عَلَى نَصْرِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ بِأَسْيَافِهِمْ آسَادَ غِيلٍ
ضَرَاغِمَهْ
فَإِنْ يُقْتَلُوا فَكُلُّ نَفْسٍ تَقِيَّةٍ عَلَى الْأَرْضِ قَدْ أَضْحَتْ
لَذَلِكَ وَاجِمَهْ
وَمَا إِنْ رَأَى الرَّاءُونَ أَفْضَلَ مِنْهُمُ لَدَى الْمَوْتِ سَادَاتٍ
وَزَهْرًا قَمَاقِمَهْ
أَتَقْتُلُهُمْ ظُلْمًا وَتَرْجُو وِدَادَنَا فَدَعْ خُطَّةً لَيْسَتْ لَنَا
بِمُلَائِمَهْ
لَعَمْرِي لَقَدْ رَاغَمْتُمُونَا بِقَتْلِهِمْ فَكَمْ نَاقِمٍ مِنَّا عَلَيْكُمْ
وَنَاقِمَهْ
أَهُمُّ مِرَارًا أَنْ أَسِيرَ بِجَحْفَلٍ إِلَى فِئَةٍ زَاغَتْ عَنِ الْحَقِّ
ظَالِمَهْ
فَيَا بْنَ زِيَادٍ اسْتَعَدَّ لِحَرْبِنَا وَمَوْقِفِ ضَنْكٍ يَقْصِمُ الظَّهْرَ
قَاصِمَهْ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: قَالَ سُلَيْمَانُ ابْنُ قَتَّةَ يَرْثِي
الْحُسَيْنَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
وَإِنَّ قَتِيلَ الطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ أَذَلَّ رِقَابًا مِنْ قُرَيْشٍ
فَذَلَّتِ
فَإِنْ تُتْبِعُوهُ عَائِذَ الْبَيْتِ
تُصْبِحُوا كَعَادٍ تَعَمَّتْ عَنْ هُدَاهَا فَضَلَّتِ
مَرَرْتُ عَلَى أَبْيَاتِ آلِ مُحَمَّدٍ فَأَلْفَيْتُهَا أَمْثَالَهَا حَيْثُ
حَلَّتِ
وَكَانُوا لَنَا غُنْمًا فَعَادُوا رَزِيَّةً لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا
وَجَلَّتِ
فَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ الدِّيَارَ وَأَهْلَهَا وَإِنْ أَصْبَحَتْ مِنْهُمْ بِرَغْمِي
تَخَلَّتِ
إِذَا افْتَقَرَتْ قَيْسٌ جَبَرْنَا فَقِيرَهَا وَتَقْتُلُنَا قَيْسٌ إِذَا
النَّعْلُ زَلَّتِ
وَعِنْدَ غَنِيٍّ قَطْرَةٌ مِنْ دِمَائِنَا سَنَجْزِيهِمْ يَوْمًا بِهَا حَيْثُ
حَلَّتِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ أَضْحَتْ مَرِيضَةً لِقَتْلِ حُسَيْنٍ وَالْبِلَادَ
اقْشَعَرَّتِ
وَمِمَّا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى
وَسِتِّينَ - بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ ; فَفِيهَا وَلَّى يَزِيدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ سِجِسْتَانَ وَخُرَاسَانَ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ
وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَعَزَلَ عَنْهَا
أَخَوَيْهِ عَبَّادًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَارَ سَلْمٌ إِلَى عَمَلِهِ،
فَجَعَلَ يَنْتَخِبُ الْوُجُوهَ وَالْفُرْسَانَ، وَيُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى
الْجِهَادِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ لَيَغْزُوَ بِلَادَ التُّرْكِ
وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ مُحَمَّدٍ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنَ الْعَرَبِ قُطِعَ بِهَا
النَّهْرُ، وَوَلَدَتْ هُنَاكَ وَلَدًا أَسْمَوْهُ صُغْدِيًّا، وَبَعَثَتْ
إِلَيْهَا امْرَأَةُ صَاحِبِ الصُّغْدِ بِتَاجِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَلَآلِئَ، وَكَانَ
الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُشَتُّونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، فَشَتَّى
بِهَا سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ،
وَبَعَثَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي
صُفْرَةَ إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ لِلتُّرْكِ، وَهِيَ خُوَارَزْمُ،
فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى صَالَحُوهُ عَلَى نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ،
وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمْ عُرُوضًا عِوَضًا، فَيَأْخُذُ الشَّيْءَ بْنصْفِ
قِيمَتِهِ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفٍ،
فَحَظِيَ بِذَلِكَ الْمُهَلَّبُ عِنْدَ سَلْمِ بْنِ زِيَادٍ ثُمَّ بَعَثَ مِنْ
ذَلِكَ مَا اصْطَفَاهُ لَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَعَ مَرْزُبَانٍ، وَمَعَهُ
وَفْدٌ، وَصَالَحَ سَلْمٌ أَهْلَ سَمَرْقَنْدَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ عَلَى مَالٍ
جَزِيلٍ.
وَفِيهَا عَزَلَ يَزِيدُ عَنْ إِمْرَةِ الْحَرَمَيْنِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ،
وَأَعَادَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَوَلَّاهُ
الْمَدِينَةَ ; وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ
الْحُسَيْنِ شَرَعَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَيُعَظِّمُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ
وَأَصْحَابِهِ جِدًّا، وَيَعِيبُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ مَا
صَنَعُوهُ مِنْ خِذْلَانِهِمُ الْحُسَيْنَ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَى الْحُسَيْنِ
وَيَلْعَنُ مَنْ قَتَلَهُ، وَيَقُولُ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلُوهُ، طَوِيلًا
بِاللَّيْلِ قِيَامُهُ، كَثِيرًا فِي النَّهَارِ صِيَامُهُ، أَمَا وَاللَّهِ مَا
كَانَ يَسْتَبْدِلُ بِالْقُرْآنِ الْغِنَاءَ وَالْمَلَاهِيَ، وَلَا بِالْبُكَاءِ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الْحُدَاءَ، وَلَا بِالصِّيَامِ شُرْبَ الْحَرَامِ، وَلَا
بِالْجُلُوسِ فِي حِلَقِ الذِّكْرِ تَطْلَابَ الصَّيْدِ - يُعَرِّضُ فِي ذَلِكَ
بِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ - فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا. وَيُؤَلِّبُ النَّاسَ
عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَخَلْعِ يَزِيدَ،
فَبَايَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْبَاطِنِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُظْهِرَهَا، فَلَمْ
يُمْكِنْهُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ
وَلَكِنْ فِيهِ رِفْقٌ، وَقَدْ كَانَ كَاتَبَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ،
وَقَالَ النَّاسُ: أَمَّا إِذْ قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَازِعُ
ابْنَ الزُّبَيْرِ. وَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ
سَعِيدٍ
لَوْ شَاءَ لَبَعَثَ إِلَيْكَ بِرَأْسِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَوْ يُحَاصِرُهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنَ الْحَرَمِ. فَبَعَثَ
فَعَزَلَهُ، وَوَلَّى الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ. فَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَلَفَ يَزِيدُ لَيَبْعَثَنَّ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ
فَلَيُؤْتَيَنَّ بِهِ فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ الْبَرِيدِ
وَمَعَهُ بُرْنُسٌ مِنْ خَزٍّ ; لِتَبَرَّ يَمِينُهُ، فَلَمَّا مَرَّ الْبَرِيدُ
عَلَى مَرْوَانَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ قَاصِدٌ لَهُ
وَمَا مَعَهُ مِنَ الْغُلِّ أَنْشَأَ مَرْوَانُ يَقُولُ:
فَخُذْهَا فَمَا هِيَ لَلْعَزِيزِ بِخُطَّةٍ وَفِيهَا مَقَالٌ لَامْرِئٍ
مُتَذَلِّلِ
أَعَامِرَ إِنَّ الْقَوْمَ سَامُوكَ خُطَّةً وَذَلِكَ فِي الْجِيرَانِ غَزْلٌ
بِمِغْزَلِ
أَرَاكَ إِذَا مَا كُنْتَ فِي الْقَوْمِ نَاصِحًا يُقَالُ لَهُ بِالدَّلْوِ
أَدْبِرْ وَأَقْبِلِ
فَلَمَّا انْتَهَتِ الرُّسُلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، بَعَثَ
مَرْوَانُ ابْنَيْهِ عَبْدَ الْمَلِكِ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ لَيَحْضُرَا
مُرَاجَعَتَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ: أَسْمِعَاهُ قَوْلِي فِي ذَلِكَ. قَالَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ: فَلَمَّا جَلَسَ الرُّسُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ جَعَلْتُ أُنْشِدُهُ
ذَلِكَ وَهُوَ يَسْمَعُ وَلَا أُشْعِرُهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: أَخْبِرَا
أَبَاكُمَا أَنِّي أَقُولُ:
إِنِّي لَمِنْ نَبْعَةٍ صُمٍّ مَكَاسِرُهَا إِذَا تَنَاوَحَتِ الْقَصْبَاءُ
وَالْعُشَرُ
وَلَا أَلِينُ لَغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ
الْحَجَرُ
قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: فَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا كَانَ أَعْجَبَ !
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ
عُتْبَةَ حَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَهُوَ أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ زِيَادٍ، وَعَلَى خُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ سَلْمُ بْنُ زِيَادٍ أَخُو
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى
قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَعَهُ بِضْعَةَ عَشَرَ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، قُتِلُوا جَمِيعًا بِكَرْبَلَاءَ، وَقِيلَ: بِضْعَةٌ
وَعِشْرُونَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقُتِلَ مَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَبْطَالِ
وَالْفُرْسَانِ.
جَابِرُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ قَيْسٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ
شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَكَانَ حَامِلَ رَايَةِ بَنِي مُعَاوِيَةَ
يَوْمَ الْفَتْحِ. كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. قَالَ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً.
حَمْزَةُ بْنُ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلُ الْقَدْرِ، ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ
عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَمْرَو رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: إِنِّي كَثِيرُ الصِّيَامِ،
أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ لَهُ " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ
شِئْتَ فَأَفْطِرْ ". وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ الشَّامَ وَكَانَ هُوَ الْبَشِيرَ
لِلصِّدِّيقِ يَوْمَ أَجْنَادِينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ الَّذِي بَشَّرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ بِتَوْبَةِ
اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَعْطَاهُ ثَوْبَيْهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْهُ،
أَنَّهُ قَالَ:كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَأَضَاءَتْ لِي أَصَابِعِي حَتَّى جَمَعْتُ عَلَيْهَا كُلَّ
مَتَاعٍ كَانَ لَلْقَوْمِ.
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى
وَسِتِّينَ.
شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ الْحَجَبِيُّ
صَاحِبُ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ، كَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا، وَأَظْهَرَ شَيْبَةُ الْإِسْلَامَ يَوْمَ
الْفَتْحِ، وَشَهِدَ حُنَيْنًا وَفِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الشَّكِّ، وَقَدْ هَمَّ
بِالْفَتْكِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْلَعَ
اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ
بِمَا هَمَّ بِهِ، فَأَسْلَمَ بَاطِنًا، وَجَادَ إِسْلَامُهُ، وَقَاتَلَ
يَوْمَئِذٍ وَصَبَرَ فِيمَنْ صَبَرَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ أَشْيَاخِهِ: إِنَّ شَيْبَةَ قَالَ: كُنْتُ أَقُولُ
وَاللَّهِ لَوْ آمَنَ
بِمُحَمَّدٍ جَمِيعُ النَّاسِ مَا
آمَنْتُ بِهِ. فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، وَخَرَجَ إِلَى هَوَازِنَ خَرَجْتُ مَعَهُ
; رَجَاءَ أَنْ أَجِدَ فُرْصَةً آخُذُ بِثَأْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا مِنْهُ. قَالَ:
فَاخْتَلَطَ النَّاسُ ذَاتَ يَوْمٍ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَغْلَتِهِ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، وَانْتَضَيْتُ سَيْفِي
لِأَضْرِبَهُ بِهِ، فَرُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ كَادَ يَمْحَشُنِي،
فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ:
" يَا شَيْبَةُ، ادْنُ مِنِّي ". فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ
عَلَى صَدْرِي، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ "
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى لَهْوَ يَوْمَئِذٍ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي، ثُمَّ قَالَ: " اذْهَبْ فَقَاتِلْ ". قَالَ:
فَتَقَدَّمْتُ إِلَى الْعَدُوِّ، وَاللَّهِ لَوْ لَقِيتُ أَبِي لَقَتَلْتُهُ لَوْ
كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا تَرَاجَعَ النَّاسُ قَالَ لِي: " يَا شَيْبَةُ،
الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لَنَفْسِكَ ". ثُمَّ
حَدَّثَنِي بِكُلِّ مَا كَانَ فِي نَفْسِي مِمَّا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ
إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَشَهَّدْتُ وَقُلْتُ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.
فَقَالَ: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ".
وَلِيَ الْحِجَابَةَ بَعْدَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْحِجَابَةُ
فِي بَنِيهِ وَبَيْتِهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ بَنُو شَيْبَةَ،
وَهُمْ حَجَبَةُ الْكَعْبَةِ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ،
مِمَّنِ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَلَهُ بِهَا دَارٌ، وَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى
إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بْنِ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَمْرٍو
ذَكْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ،
أَبُو وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ الْعَبْشَمِيُّ، وَهُوَ أَخُو عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
لِأُمِّهِ أَرْوَى بِنْتِ كُرَيْزِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ
شَمْسٍ، وَأُمُّهَا أُمُّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَلِلْوَلِيدِ مِنَ الْإِخْوَةِ خَالِدٌ وَعُمَارَةُ وَأُمُّ كُلْثُومٍ، وَقَدْ
قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاهُ بَعْدَ
وَقْعَةِ بَدْرٍ مِنْ بَيْنِ الْأَسْرَى صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: يَا
مُحَمَّدُ، مَنْ لِلصِّبْيَةِ ؟ فَقَالَ: " لَهُمُ النَّارُ "
وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِالنَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ.
وَأَسْلَمَ الْوَلِيدُ هَذَا يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ،
فَخَرَجُوا يَتَلَقَّوْنَهُ، فَظَنَّ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خَرَجُوا لَقِتَالِهِ،
فَرَجَعَ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَرَادَ أَنْ يُجَهِّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَبَلَغَهُمْ ذَلِكَ، فَجَاءَ مَنْ
جَاءَ مِنْهُمْ لَيَعْتَذِرُوا إِلَيْهِ وَيُخْبِرُوهُ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
الْآيَةَ [ الْحُجُرَاتِ: 6 ]. ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَقَدْ حَكَى
أَبُو عَمْرِو بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ
عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ.
وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ صَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ، وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ نِيَابَةَ
الْكُوفَةِ بَعْدَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ
شَرِبَ الْخَمْرَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ:
أَزِيدُكُمْ ؟ وَوَقَعَ مِنْهُ تَخْبِيطٌ، ثُمَّ إِنَّ عُثْمَانَ جَلَدَهُ
وَعَزَلَهُ عَنِ الْكُوفَةِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ فَأَقَامَ بِهَا، فَلَمَّا
جَاءَ عَلِيٌّ إِلَى الْعِرَاقِ سَارَ إِلَى الرَّقَّةِ، وَاشْتَرَى لَهُ
عِنْدَهَا ضَيْعَةً، وَأَقَامَ بِهَا مُعْتَزِلًا جَمِيعَ الْحُرُوبِ الَّتِي
كَانَتْ أَيَّامَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
بِضَيْعَتِهِ هَذِهِ، وَدُفِنَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهِيَ عَلَى خَمْسَةَ
عَشَرَ مِيلًا مِنَ الرَّقَّةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ
مُعَاوِيَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوَى لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي فَتْحِ
مَكَّةَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَذَكَرَ أَيْضًا وَفَاةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ
الْهِلَالِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهَا فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تُوُفِّيَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ:
سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ
هِنْدُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ حُذَيْفَةَ - وَقِيلَ: سُهَيْلٌ - بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيَّةُ
الْمَخْزُومِيَّةُ، كَانَتْ أَوَّلًا تَحْتَ ابْنِ عَمِّهَا أَبِي سَلَمَةَ بْنِ
عَبْدِ الْأَسَدِ، فَمَاتَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ
بِهَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ كَانَتْ سَمِعَتْ مِنْ زَوْجِهَا أَبِي سَلَمَةَ
حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
" مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا
مِنْهَا. إِلَّا أَبْدَلَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ". قَالَتْ: فَلَمَّا
مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ ذَلِكَ، ثُمَّ قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي
سَلَمَةَ أَوَّلِ رَجُلٍ هَاجَرَ ؟ !. ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا،
فَأَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَكَانَتْ مِنْ حِسَانِ النِّسَاءِ وَعَابِدَاتِهِنَّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَتْ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا
أَبُو هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: تُوُفِّيَتْ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ قُلْتُ: وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا عَاشَتْ إِلَى مَا بَعْدَ مَقْتَلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسِتِّينَ
يُقَالُ: فِيهَا قَدِمَ وَفْدُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَجَازَهُمْ بِجَوَائِزَ سَنِيَّةٍ، ثُمَّ عَادُوا
مِنْ عِنْدِهِ بِالْجَوَائِزِ فَخَلَعُوهُ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ يَزِيدُ جُنْدًا فِي السَّنَةِ
الْآتِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ عَلَى مَا
سَنُبَيِّنُهُ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ
يَزِيدُ عَزَلَ عَنِ الْحِجَازِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَوَلَّى
عَلَيْهِمْ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا دَخَلَ
الْمَدِينَةَ احْتَاطَ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ وَالْأَمْلَاكِ،
وَأَخَذَ الْعَبِيدَ الَّذِينَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ فَحَبَسَهُمْ، وَكَانُوا
نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ عَبْدٍ، فَتَجَهَّزَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ إِلَى
يَزِيدَ فَرَكِبَ وَبَعَثَ إِلَى عَبِيدِهِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ السَّجْنِ
وَيَلْحَقُوا بِهِ، وَأَعَدَّ لَهُمْ إِبِلًا يَرْكَبُونَهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ،
فَمَا لَحِقُوهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى يَزِيدَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ
أَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَرَحَّبَ بِهِ يَزِيدُ، وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، ثُمَّ
إِنَّهُ عَاتَبَهُ فِي تَقْصِيرِهِ فِي شَأْنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الشَّاهِدُ يَرَى مَا لَا يَرَى الْغَائِبُ، وَإِنَّ
جُلَّ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحِجَازِ مَالَئُوهُ عَلَيْنَا وَأَحَبُّوهُ، وَلَمْ
يَكُنْ لِي جُنْدٌ أَقْوَى بِهِمْ عَلَيْهِ لَوْ نَاهَضْتُهُ، وَقَدْ كَانَ
يَحْذَرُنِي وَيَحْتَرِسُ مِنِّي، وَكُنْتُ أَرْفُقُ بِهِ كَثِيرًا، وَأُدَارِيهِ
لِأَسْتَمْكِنَ مِنْهُ فَأَثِبُ عَلَيْهِ، مَعَ أَنِّي قَدْ ضَيَّقْتُ عَلَيْهِ
وَمَنَعْتُهُ مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَجَعَلْتُ عَلَى مَكَّةَ وَطُرُقِهَا
وَشِعَابِهَا
رِجَالًا لَا يَدَعُونَ أَحَدًا
يَدْخُلُهَا حَتَّى يَكْتُبُوا إِلَيَّ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ، وَمِنْ أَيِّ
بِلَادِ اللَّهِ هُوَ وَمَا جَاءَ لَهُ، وَمَاذَا يُرِيدُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ
أَصْحَابِهِ أَوْ مِمَّنْ أَرَى أَنَّهُ يُرِيدُهُ رَدَدْتُهُ صَاغِرًا، وَإِلَّا
خَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، وَقَدْ وَلَّيْتَ الْوَلِيدَ، وَسَيَأْتِيكَ مِنْ عَمَلِهِ
وَأَمْرِهِ مَا لَعَلَّكَ تَعْرِفُ بِهِ فَضْلَ مُبَالَغَتِي فِي أَمْرِكَ
وَمُنَاصَحَتِي لَكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَاللَّهُ يَصْنَعُ لَكَ وَيَكْبِتُ
عَدُوَّكَ. فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ: أَنْتَ أَصْدَقُ مِمَّنْ رَمَاكَ وَحَمَلَنِي
عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ وَأَرْجُو مَعُونَتَهُ وَأَدَّخِرُهُ
لِرَأْبِ الصَّدْعِ، وَكِفَايَةِ الْمُهِمِّ وَكَشْفِ نَوَازِلِ الْأُمُورِ
الْعِظَامِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ.
وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ فَإِنَّهُ أَقَامَ بِالْحِجَازِ، وَقَدْ هَمَّ
مِرَارًا أَنْ يَبْطِشَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَا يَجِدُهُ إِلَّا
مُتَحَذِّرًا مُمْتَنِعًا، قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا، وَثَارَ
بِالْيَمَامَةِ رَجُلٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ.
حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، وَخَالَفَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يُخَالِفِ ابْنَ
الزُّبَيْرِ بَلْ بَقِيَ عَلَى حِدَةٍ، لَهُ أَصْحَابٌ يَتَّبِعُونَهُ، فَإِذَا
كَانَ لَيْلَةُ عَرَفَةَ دَفَعَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ بِالْجُمْهُورِ،
وَتَخَلَّفَ عَنْهُ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَأَصْحَابُ نَجْدَةَ، ثُمَّ
يَدْفَعُ كُلُّ فَرِيقٍ وَحْدَهُمْ. ثُمَّ كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى يَزِيدَ: إِنَّكَ
بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا أَخْرَقَ، لَا يَتَّجِهُ لِأَمْرِ رُشْدٍ وَلَا
يَرْعَوِي لِعِظَةِ الْحَكِيمِ، فَلَوْ بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَجُلًا سَهْلَ
الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْكَنَفِ، رَجَوْتُ أَنْ يَسْهُلَ مِنَ الْأُمُورِ مَا
اسْتَوْعَرَ مِنْهَا، وَأَنْ يَجْتَمِعَ مَا تَفَرَّقَ، فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ،
فَإِنَّ فِيهِ صَلَاحَ خَوَاصِّنَا وَعَوَامِّنَا،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالُوا: فَعَزَلَ يَزِيدُ الْوَلِيدَ، وَوَلَّى عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ، فَسَارَ إِلَى الْحِجَازِ، وَإِذَا هُوَ فَتًى غِرٌّ حَدَثٌ
غُمْرٌ، لَمْ يُمَارِسِ الْأُمُورَ، فَطَمِعُوا فِيهِ، وَلَمَّا دَخَلَ
الْمَدِينَةَ بَعَثَ إِلَى يَزِيدَ مِنْهَا وَفْدًا، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَنْظَلَةَ الْغَسِيلُ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ
حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَرِجَالٌ كَثِيرٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَدِمُوا عَلَى يَزِيدَ،
فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَأَعْظَمَ جَوَائِزَهُمْ، ثُمَّ
انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَّا الْمُنْذِرَ بْنَ الزُّبَيْرِ،
فَإِنَّهُ سَارَ إِلَى صَاحِبِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ،
وَكَانَ يَزِيدُ قَدْ أَجَازَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ نَظِيرَ أَصْحَابِهِ مِنْ
أُولَئِكَ الْوَفْدِ، وَلَمَّا رَجَعَ وَفْدُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا أَظْهَرُوا
شَتْمَ يَزِيدَ وَعَيْبَهُ، وَقَالُوا: قَدِمْنَا مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ
دِينٌ، يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عِنْدَهُ الْقَيْنَاتُ بِالْمَعَازِفِ،
وَإِنَّا نُشْهِدُكُمْ أَنَّا قَدْ خَلَعْنَاهُ. فَتَابَعَهُمُ النَّاسُ عَلَى
خَلْعِهِ، وَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلَ عَلَى
الْمَوْتِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
وَرَجَعَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَافَقَ
أُولَئِكَ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ يَشْرَبُ
الْخَمْرَ وَيَسْكَرُ حَتَّى يَتْرُكَ الصَّلَاةَ، وَعَابَهُ أَكْثَرُ مِمَّا
عَابَهُ أُولَئِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
آثَرْتُهُ وَأَكْرَمْتُهُ فَفَعَلَ مَا قَدْ رَأَيْتَ، فَأَدْرِكْهُ وَانْتَقِمَ
مِنْهُ. ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ بَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ النُّعْمَانَ بْنَ
بَشِيرٍ يَنْهَاهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، وَيُحَذِّرُهُمْ غِبَّ ذَلِكَ،
وَيَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، فَسَارَ
إِلَيْهِمْ فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ يَزِيدُ وَخَوَّفَهُمُ الْفِتْنَةَ، وَقَالَ
لَهُمْ: إِنَّ الْفِتْنَةَ وَخِيمَةٌ. وَقَالَ: لَا طَاقَةَ لَكُمْ بِأَهْلِ
الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْعَدَوِيُّ: مَا حَمَلَكَ يَا
نُعْمَانُ عَلَى تَفْرِيقِ جَمَاعَتِنَا وَفَسَادِ مَا أَصْلَحَ اللَّهُ مِنْ
أَمْرِنَا ؟ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: أَمَا وَاللَّهِ لَكَأَنِّي بِكَ لَوْ
قَدْ نَزَلَتْ تِلْكَ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا، وَقَامَتِ الرِّجَالُ عَلَى
الرَّكْبِ تَضْرِبُ مَفَارِقَ الْقَوْمِ وَجِبَاهَهُمْ بِالسُّيُوفِ، وَدَارَتْ
رَحَا الْمَوْتِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَأَنِّي بِكَ قَدْ ضَرَبْتَ جَنْبَ
بَغْلَتِكَ إِلَى مَكَّةَ وَخَلَّفْتَ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينَ - يَعْنِي
الْأَنْصَارَ - يُقْتَلُونَ فِي سِكَكِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ، وَعَلَى أَبْوَابِ
دُورِهِمْ. فَعَصَاهُ النَّاسُ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، فَانْصَرَفَ وَكَانَ
الْأَمْرُ وَاللَّهِ كَمَا قَالَ سَوَاءً.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ بْنُ
عُتْبَةَ. كَذَا قَالَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ وَفَدَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ - وَقَدْ رَجَعُوا مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ - فَإِنَّمَا وَفَّدَهُمْ
عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ فَمَا قَدِمَ وَفْدُ الْمَدِينَةِ إِلَى يَزِيدَ إِلَّا
فِي أَوَّلِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
بُرَيْدَةُ بْنُ الْحُصَيْبِ الْأَسْلَمِيُّ، كَانَ إِسْلَامُهُ حِينَ اجْتَازَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ مُهَاجِرٌ إِلَى الْمَدِينَةِ
عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ تَلَقَّاهُ بُرَيْدَةُ فِي
ثَمَانِينَ نَفْسًا مِنْ أَهْلِهِ، فَأَسْلَمُوا، وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ
الْعِشَاءِ، وَعَلَّمَهُ لَيْلَتَئِذٍ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ " مَرْيَمَ
"، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَدِينَةَ بَعْدَ أُحُدٍ، فَشَهِدَ بَقِيَّةَ الْمُشَاهِدِ كُلَّهَا، وَأَقَامَ
بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فُتِحَتِ الْبَصْرَةُ نَزَلَهَا وَاخْتَطَّ بِهَا دَارًا،
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوِ خُرَاسَانَ، فَمَاتَ بِمَرْوَ فِي خِلَافَةِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ. ذَكَرَ مَوْتَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ
أَبُو يَزِيدَ الثَّوْرِيُّ الْكُوفِيُّ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيْتُكَ إِلَّا ذَكَرْتُ
الْمُخْبِتِينَ، وَلَوْ رَآكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَأَحَبَّكَ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُجِلُّهُ كَثِيرًا.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ الرَّبِيعُ مِنْ مَعَادِنَ الصِّدْقِ، وَكَانَ
أَوَرَعَ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَا يُسْأَلُ عَنْ
مِثْلِهِ.
وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ أَبُو شِبْلٍ النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُلَمَائِهِمْ،
وَكَانَ يُشَبَّهُ بِابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَدْ رَوَى عَلْقَمَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ.
عُقْبَةُ بْنُ نَافِعٍ الْفِهْرِيُّ
بَعَثَهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ، فَافْتَتَحَهَا،
وَاخْتَطَّ الْقَيْرَوَانَ، وَكَانَ مَوْضِعُهَا غَيْضَةً لَا تُرَامُ ; مِنَ
السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْحَشَرَاتِ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَجَعَلْنَ
يَخْرُجْنَ بِأَوْلَادِهِنَّ مِنَ الْأَوْكَارِ وَالْجِحَارِ، فَبَنَاهَا وَلَمْ
يَزَلْ بِهَا حَتَّى هَذِهِ السَّنَةِ.
غَزَا أَقْوَامًا مِنَ الْبَرْبَرِ وَالرُّومِ، فَقُتِلَ شَهِيدًا، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى نَجْرَانَ وَعُمْرُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِهَا
مُدَّةً، وَأَدْرَكَ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
مَسْلَمَةُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ الزُّرَقِيُّ
وُلِدَ عَامَ الْهِجْرَةِ، وَسَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَشَهِدَ فَتَحَ مِصْرَ، وَوَلِيَ الْجُنْدَ بِهَا لِمُعَاوِيَةَ
وَيَزِيدَ، وَمَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ
مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ لَهُ
فِي الْمُسْلِمِينَ نِكَايَةٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَشَهِدَ
فَتْحَ مَكَّةَ وَحُنَيْنًا، وَحَجَّ مَعَ أَبِي بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ، وَشَهِدَ
حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَعُمِّرَ سِتِّينَ سَنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمِثْلَهَا
فِي الْإِسْلَامِ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. قَالَ: وَأَدْرَكَ أَيَّامَ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتِ الرَّبَابُ بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ امْرَأَةُ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيٍّ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةً أَهْلَ الْعِرَاقِ إِذْ هُمْ يَعْدُونَ
فِي السَّبْتِ أَوْ فِي الْجُمُعَةِ عَلَى زَوْجِهَا الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ لَمَّا خَلَعُوا يَزِيدَ، وَوَلَّوْا عَلَى قُرَيْشٍ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْأَنْصَارِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي
عَامِرٍ وَعَلَى قَبَائِلِ الْمُهَاجِرِينَ مَعْقِلَ بْنَ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيَّ،
فَلَمَّا كَانَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ أَظْهَرُوا ذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا
عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ: قَدْ خَلَعْتُ يَزِيدَ
كَمَا خَلَعْتُ عِمَامَتِي هَذِهِ. وَيُلْقِيهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَيَقُولُ
الْآخَرُ: قَدْ خَلَعْتُهُ كَمَا خَلَعْتُ نَعْلِي هَذِهِ. حَتَّى اجْتَمَعَ
شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَمَائِمِ وَالنِّعَالِ هُنَاكَ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى
إِخْرَاجِ عَامِلِ يَزِيدَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّ يَزِيدَ، وَعَلَى إِجْلَاءِ بَنِي
أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَاجْتَمَعَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ
أَلْفِ رَجُلٍ فِي دَارِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَأَحَاطَ بِهِمْ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يُحَاصِرُونَهُمْ، وَاعْتَزَلَ النَّاسَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَكَذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ
عُمَرَ لِأَهْلِهِ: لَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ فَيَكُونَ
الْفَيْصَلُ - وَيُرْوَى: الصَّيْلَمُ - بَيْنِي وَبَيْنَهُ. وَسَيَأْتِي هَذَا
الْحَدِيثُ بِلَفْظِهِ وَإِسْنَادِهِ فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ، وَأَنْكَرَ عَلَى
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي مُبَايَعَتِهِمْ لِابْنِ مُطِيعٍ وَابْنِ حَنْظَلَةَ
عَلَى الْمَوْتِ، وَقَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نُبَايِعُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا نَفِرَّ. وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْلَعْ يَزِيدَ
أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَدْ سُئِلَ مُحَمَّدُ ابْنُ
الْحَنَفِيَّةِ فِي ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ،
وَنَاظَرَهُمْ وَجَادَلَهُمْ فِي يَزِيدَ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ مَا اتَّهَمُوهُ بِهِ
مِنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ وَتَرْكِهِ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي
مَبْسُوطًا فِي تَرْجَمَةِ يَزِيدَ قَرِيبًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَتَبَ بَنُو أُمَيَّةَ إِلَى يَزِيدَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْحَصْرِ
وَالْإِهَانَةِ، وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ
مَنْ يُنْقِذُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَإِلَّا اسْتُؤْصِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ،
وَبَعَثُوا ذَلِكَ مَعَ الْبَرِيدِ، فَلَمَّا قَدِمَ بِذَلِكَ عَلَى يَزِيدَ
وَجَدَهُ جَالِسًا عَلَى سَرِيرِهِ وَرِجْلَاهُ فِي مَاءٍ يَتَبَرَّدُ مِمَّا بِهِ
مِنَ النِّقْرِسِ فِي رِجْلَيْهِ، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ انْزَعَجَ لِذَلِكَ،
وَقَالَ: وَيْلَكَ ! أَمَا فِيهِمْ أَلْفُ رَجُلٍ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَفَلَا
قَاتَلُوا وَلَوْ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ؟ ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ
بْنِ الْعَاصِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، وَاسْتَشَارَهُ فِيمَنْ يَبْعَثُهُ
إِلَيْهِمْ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَبَى وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَزَلَنِي عَنْهَا وَهِيَ مَضْبُوطَةٌ، وَأُمُورُهَا مُحْكَمَةٌ،
فَأَمَّا الْآنَ فَإِنَّمَا هِيَ دِمَاءُ قُرَيْشٍ تُرَاقُ بِالصَّعِيدِ، فَلَا
أُحِبُّ أَنْ أَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْهُمْ، لِيَتَوَلَّ ذَلِكَ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ
مِنْهُمْ مِنِّي. قَالَ: فَبَعَثَ الْبَرِيدُ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
الْمُرِّيِّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ، فَانْتَدَبَ لِذَلِكَ، وَأَرْسَلَ
مَعَهُ يَزِيدُ عَشَرَةَ آلَافِ فَارِسٍ وَقِيلَ: اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا وَنَادَى
مُنَادِي يَزِيدَ بِدِمَشْقَ أَنْ سِيرُوا عَلَى أَخْذِ أَعْطِيَاتِكُمْ كَامِلًا
وَمَعُونَةِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا. قَالَ
الْمَدَائِنِيُّ: وَيُقَالُ: فِي
سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا ; اثَنَا عَشَرَ أَلْفَ فَارِسٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفَ رَاجِلٍ، وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِائَةَ دِينَارٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ
دِينَارًا. ثُمَّ اسْتَعْرَضَهُمْ يَزِيدُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ.
قَالَ: الْمَدَائِنِيُّ: وَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مَسْعَدَةَ الْفَزَارِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ حِمْصَ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ
السَّكُونِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ الْأُرْدُنِّ حُبَيْشَ بْنَ دُلْجَةَ الْقَيْنِيَّ،
وَعَلَى أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ وَشَرِيكَ
الْكِنَانِيَّ، وَعَلَى أَهْلِ قِنَّسْرِينَ طَرِيفَ بْنَ الْحَسْحَاسِ
الْهِلَالِيَّ، وَعَلَيْهِمْ جَمِيعًا مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ الْمُرِّيَّ،
مُرَّةَ غَطَفَانَ، فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَلِّنِي عَلَيْهِمْ أَكْفِكَ - وَكَانَ النُّعْمَانُ أَخَا
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ لِأُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ - فَقَالَ
يَزِيدُ: لَا، لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا هَذَا الْعَشَمَةُ، وَاللَّهِ لَا أَقْبَلُهُمْ
بَعْدَ إِحْسَانِي إِلَيْهِمْ وَعَفْوِي عَنْهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ. فَقَالَ
النُّعْمَانُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَشِيرَتِكَ
وَأَنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ رَجَعُوا إِلَى
طَاعَتِكَ أَتَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ: إِنْ فَعَلُوا فَلَا سَبِيلَ
عَلَيْهِمْ. وَقَالَ يَزِيدُ لِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ: إِذَا قَدِمْتَ
الْمَدِينَةَ وَلَمْ تُصَدَّ عَنْهَا،
وَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا فَلَا تَتَعَرَّضْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَامْضِ إِلَى
الْمُلْحِدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنْ صَدُّوكَ عَنِ الْمَدِينَةِ فَادْعُهُمْ
ثَلَاثًا، فَإِنْ رَجَعُوا إِلَى الطَّاعَةِ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ،
وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ
فَأَبِحْهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ اكْفُفْ عَنِ النَّاسِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ
لِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ: إِذَا ظَهَرْتَ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَ قُتِلَ
مِنْبَنِي أُمَيَّةَ أَحَدٌ فَجَرِّدِ السَّيْفَ، وَاقْتُلِ الْمُقْبِلَ
وَالْمُدْبِرَ، وَأَجْهِزْ عَلَى الْجَرِيحِ وَانْهَبْهَا ثَلَاثًا، وَانْظُرْ
إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَاكْفُفْ عَنْهُ وَاسْتَوْصِ بِهِ خَيْرًا،
وَأَدْنِ مَجْلِسَهُ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِمَّا دَخَلُوا فِيهِ.
وَأَمَرَهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَكَّةَ لِحِصَارِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَالَ لَهُ: إِنْ حَدَثَ بِكَ أَمْرٌ فَعَلَى النَّاسِ
حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ السَّكُونِيُّ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ كَتَبَ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ أَنْ يَسِيرَ
إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَيُحَاصِرَهُ بِمَكَّةَ، فَأَبَى عَلَيْهِ وَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَجْمَعُهُمَا لِلْفَاسِقِ أَبَدًا، أَقْتُلُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَغْزُو الْبَيْتَ الْحَرَامَ ؟ !
وَقَدْ كَانَتْ أُمُّهُ مَرْجَانَةُ قَالَتْ لَهُ حِينَ قَتَلَ الْحُسَيْنَ:
وَيْحَكَ ! مَاذَا صَنَعْتَ ؟ ! وَمَاذَا رَكِبْتَ ؟ !
قَالُوا: وَقَدْ بَلَغَ يَزِيدَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ:
يَزِيدُ الْقُرُودِ، شَارِبُ الْخَمْرِ.
فَلَمَّا جَهَّزَ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ وَاسْتَعْرَضَ الْجَيْشَ بِدِمَشْقَ،
جَعَلَ يَقُولُ:
أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ إِذَا الْجَيْشُ
سَرَى وَأَشْرَفَ الْجَيْشُ عَلَى وَادِي الْقُرَى أَجَمْعَ سَكْرَانٍ مِنَ
الْقَوْمِ تَرَى
يَا عَجَبًا مِنْ مُلْحِدٍ يَا عَجَبَا مُخَادِعٌ لِلدِّينِ يَقْفُو بِالْفِرَى
وَفِي رِوَايَةٍ:
أَبْلِغْ أَبَا بَكْرٍ إِذَا الْأَمْرُ انْبَرَى وَنَزَلَ الْجَيْشُ عَلَى وَادِي
الْقُرَى
عِشْرُونَ أَلْفًا بَيْنَ كَهْلٍ وَفَتَى أَجَمْعَ سَكْرَانٍ مِنَ الْقَوْمِ تَرَى
قَالُوا: وَسَارَ مُسْلِمٌ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ إِلَى الْمَدِينَةِ،
فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا اجْتَهَدَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي حِصَارِ بَنِي
أُمَيَّةَ، وَقَالُوا لَهُمْ: وَاللَّهِ لَنَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ أَوْ
لَتُعْطُونَا مَوْثِقًا أَنْ لَا تَدُلُّوا عَلَيْنَا أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ
الشَّامِيِّينَ، وَلَا تُمَالِئُوهُمْ عَلَيْنَا. فَأَعْطَوْهُمُ الْعُهُودَ
بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْجَيْشُ تَلَقَّاهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ، فَجَعَلَ
مُسْلِمٌ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَلَا يُخْبِرُهُ أَحَدٌ فَانْحَصَرَ
لِذَلِكَ، وَجَاءَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ
تُرِيدُ النَّصْرَ فَانْزِلْ شَرْقِيَّ الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، فَإِذَا
خَرَجُوا إِلَيْكَ كَانَتِ الشَّمْسُ فِي أَقْفِيَتِكُمْ وَفِي وُجُوهِهِمْ،
فَادْعُهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ
وَقَاتِلْهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ ; إِذْ خَالَفُوا
الْإِمَامَ، وَخَرَجُوا مِنَ الطَّاعَةِ. فَشَكَرَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ عَلَى
ذَلِكَ، وَامْتَثَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ
الْمَدِينَةِ فِي الْحَرَّةِ، وَدَعَا
أَهْلَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَوْنَ إِلَّا الْمُحَارَبَةَ
وَالْمُقَاتَلَةَ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ قَالَ لَهُمْ فِي الْيَوْمِ
الرَّابِعِ - وَهُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ - قَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ،
مَضَتِ الثَّلَاثُ، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لِي: إِنَّكُمْ أَصْلُهُ
وَعَشِيرَتُهُ، وَإِنَّهُ يَكْرَهُ إِرَاقَةَ دِمَائِكُمْ، وَإِنَّهُ أَمَرَنِي
أَنْ أُؤَجِّلَكُمْ ثَلَاثًا، فَقَدْ مَضَتْ فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ ؟
أَتُسَالِمُونَ أَمْ تُحَارِبُونَ ؟ فَقَالُوا: بَلْ نُحَارِبُ. فَقَالَ: لَا
تَفْعَلُوا، بَلْ سَالِمُوا وَنَجْعَلُ جَدَّنَا وَقُوَّتَنَا عَلَى هَذَا
الْمُلْحِدِ. يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالُوا لَهُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ،
لَوْ أَرَدْتَ ذَلِكَ لَمَا مَكَّنَّاكَ مِنْهُ، أَنَحْنُ نَذَرُكُمْ تَذْهَبُونَ
فَتُلْحِدُونَ فِي بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ؟ ! ثُمَّ تَهَيَّئُوا لِلْقِتَالِ،
وَقَدْ كَانُوا اتَّخِذُوا خَنْدَقًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
وَجَعَلُوا جَيْشَهُمْ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ، عَلَى كُلِّ رُبْعٍ أَمِيرٌ،
وَجَعَلُوا أَجَلَّ الْأَرْبَاعِ الرُّبُعَ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْهَزَمَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ مِنَ
السَّادَاتِ وَالْأَعْيَانِ، مِنْهُمْ ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَبَنُونَ
لَهُ سَبْعَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ الْغَسِيلُ،
وَأَخُوهُ لِأُمِّهِ مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهُوَ
مُجَدَّلٌ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، فَكَمْ مِنْ سَارِيَةٍ قَدْ رَأَيْتُكَ
تُطِيلُ عِنْدَهَا الْقِيَامَ وَالسُّجُودَ.
ثُمَّ أَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ السَّلَفُ: مُسْرِفُ
بْنُ عُقْبَةَ. قَبَّحَهُ
اللَّهُ الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَهُ يَزِيدُ لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا
مِنْ أَشْرَافِهَا وَقُرَّائِهَا، وَانْتَهَبَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنْهَا،
وَوَقَعَ شَرٌّ عَظِيمٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ،
فَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ
الْأَشْجَعِيُّ، وَقَدْ كَانَ صَدِيقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَسْمَعَهُ فِي
يَزِيدَ كَلَامًا غَلِيظًا، فَنَقَمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ.
وَاسْتَدْعَى بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَجَاءَ يَمْشِي بَيْنَ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ وَابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، لِيَأْخُذَ لَهُ بِهِمَا عِنْدَهُ
أَمَانًا، وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّ يَزِيدَ قَدْ أَوْصَاهُ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ
بَيْنَ يَدَيْهِ اسْتَدْعَى مَرْوَانُ بِشَرَابٍ - وَقَدْ كَانَ مُسْلِمُ بْنُ
عُقْبَةَ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ مِنَ الشَّامِ ثَلْجًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَانَ
يُشَابُ لَهُ بِشَرَابِهِ - فَلَمَّا جِيءَ بِالشَّرَابِ، شَرِبَ مَرْوَانُ
قَلِيلًا، ثُمَّ أَعْطَى الْبَاقِيَ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ لِيَأْخُذَ لَهُ
بِذَلِكَ أَمَانًا، وَكَانَ مَرْوَانُ مُوَادًّا لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ،
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ قَدْ أَخَذَ الْإِنَاءَ فِي
يَدِهِ قَالَ لَهُ: لَا تَشْرَبْ مِنْ شَرَابِنَا. ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّمَا
جِئْتَ مَعَ هَذَيْنَ لِتَأْمَنَ بِهِمَا. فَارْتَعَدَتْ يَدُ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ وَجَعَلَ لَا يَضَعُ الْإِنَاءَ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَشْرَبُهُ، ثُمَّ
قَالَ لَهُ: لَوْلَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ لَضَرَبْتُ
عُنُقَكَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَشَرَبَ فَاشْرَبْ، وَإِنْ شِئْتَ
دَعَوْنَا لَكَ بِغَيْرِهَا. فَقَالَ: هَذِهِ الَّتِي فِي كَفِّي أُرِيدُ.
فَشَرِبَ ثُمَّ قَالَ لَهُ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ إِلَيَّ، هَاهُنَا.
فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكَ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَغَلُونِي عَنْكَ. ثُمَّ
قَالَ: لَعَلَّ أَهْلَكَ فَزِعُوا. قَالَ: إِي وَاللَّهِ. فَأَمَرَ بِدَابَّتِهِ
فَأُسْرِجَتْ، ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَيْهَا حَتَّى رَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ
مُكَرَّمًا، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - وَلَمْ
يَكُنْ خَرَجَ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ - فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ ظَهَرَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ قُلْتَ: أَنَا كُنْتُ مَعَكُمْ. وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ
الشَّامِ قُلْتَ: أَنَا ابْنُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَنُتِفَتْ لِحْيَتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَأَبَاحَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثًا،
يَقْتُلُونَ النَّاسَ، وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ. فَأَرْسَلَتْ سُعْدَى بِنْتُ
عَوْفٍ الْمُرِّيَّةُ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ تَقُولُ: أَنَا بِنْتُ
عَمِّكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لِإِبِلٍ لَنَا بِمَكَانِ
كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ لَا تَبْدَءُوا إِلَّا بِإِبِلِهَا.
وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: أَنَا مَوْلَاتُكَ، وَابْنِي فِي الْأُسَارَى.
فَقَالَ: عَجِّلُوهُ لَهَا. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَقَالَ: أَعْطُوهَا رَأْسَهُ،
أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ لَا تُقْتَلِي حَتَّى تَتَكَلَّمِي فِي ابْنِكِ ؟
وَوَقَعُوا عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ حَبِلَتْ أَلْفُ امْرَأَةٍ فِي
تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي قُرَّةَ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ:
وَلَدَتْ أَلْفُ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ الْحَرَّةِ مِنْ
غَيْرِ زَوْجٍ.
وَقَدِ اخْتَفَى جَمَاعَةٌ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ جَابِرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، وَخَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَلَجَأَ إِلَى غَارٍ فِي
جَبَلٍ، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُ
انْتَضَيْتُ سَيْفِي فَقَصَدَنِي، فَلَمَّا رَآنِي صَمَّمَ عَلَى قَتْلِي،
فَشِمْتُ سَيْفِي، ثُمَّ قُلْتُ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي
وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ [
الْمَائِدَةِ: 29 ].
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: مَنْ
أَنْتَ ؟ قُلْتُ: أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: صَاحِبُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قُلْتُ: نَعَمَ. فَمَضَى
وَتَرَكَنِي.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَجِيءَ إِلَى مُسْلِمٍ بِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ. فَقَالَ: أُبَايِعُ عَلَى سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَشَهِدَ رَجُلٌ أَنَّهُ مَجْنُونٌ، فَخَلَّى
سَبِيلَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ وَأَبِي
إِسْحَاقَ التَّمِيمِيِّ قَالَا: لَمَّا انْهَزَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَوْمَ
الْحَرَّةِ صَاحَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بِعُثْمَانَ
وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شَيْخٍ
مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: كَمْ كَانَ الْقَتْلَى
يَوْمَ الْحَرَّةِ ؟ قَالَ: سَبْعُمِائَةٌ مِنْ وُجُوهِ النَّاسِ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَوُجُوهِ الْمَوَالِي، وَمِمَّنْ لَا يُعْرَفُ
مِنْ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَغَيْرِهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ. قَالَ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ
لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَانْتَهَبُوا
الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو مَعْشَرٍ: كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ عَوْفٍ قَالَ:
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ الْعَائِذَ، وَيَرَوْنَ الْأَمْرَ شُورَى. وَجَاءَ
الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ بِمَا حَصَلَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْلَةَ
مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ، مَعَ سَعِيدٍ مَوْلَى الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ،
فَحَزِنُوا حُزْنًا شَدِيدًا، وَتَأَهَّبُوا لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ رُوِيَتْ قِصَّةُ الْحَرَّةِ عَلَى غَيْرِ مَا
رَوَاهُ أَبُو مِخْنَفٍ فَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، ثَنَا أَبِي،
سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ جَرِيرٍ، ثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ
أَشْيَاخَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُحَدِّثُونَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ دَعَا ابْنَهُ يَزِيدَ فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَكَ مِنْ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ يَوْمًا، فَإِنْ فَعَلُوا فَارْمِهِمْ بِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
فَإِنَّهُ رَجُلٌ قَدْ عَرَفْتُ نَصِيحَتَهُ. فَلَمَّا هَلَكَ مُعَاوِيَةُ وَفَدَ
إِلَيْهِ وَفْدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ - وَكَانَ شَرِيفًا فَاضِلًا
سَيِّدًا عَابِدًا - مَعَهُ ثَمَانِيَةُ بَنِينَ لَهُ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَأَعْطَى بَنِيهِ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ آلَافٍ سِوَى
كِسْوَتِهِمْ وَحُمْلَانِهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَنْظَلَةَ أَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ
عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلَّا بَنِي هَؤُلَاءِ
لَجَاهَدْتُهُ بِهِمْ. قَالُوا: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ أَعْطَاكَ وَأَحْذَاكَ وَأَكْرَمَكَ. قَالَ: قَدْ فَعَلَ، وَمَا قَبِلْتُ مِنْهُ إِلَّا لِأَتَقَوَّى بِهِ. فَحَضَّ النَّاسَ فَبَايَعُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ، وَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى كُلِّ مَاءٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّامِ فَصَبُّوا فِيهِ زِقًّا مِنْ قَطِرَانٍ وَعَوَّرُوهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَيْشِ الشَّامِ السَّمَاءَ مِدْرَارًا، فَلَمْ يَسْتَقُوا بِدَلْوٍ حَتَّى وَرَدُوا الْمَدِينَةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِجُمُوعٍ كَثِيرَةٍ وَهَيْئَةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَلَمَّا رَآهُمْ أَهْلُ الشَّامِ هَابُوهُمْ وَكَرِهُوا قِتَالَهُمْ، وَمُسْلِمٌ شَدِيدُ الْوَجَعِ، فَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي قِتَالِهِمْ إِذْ سَمِعُوا التَّكْبِيرَ مِنْ خَلْفِهِمْ فِي جَوْفِ الْمَدِينَةِ، وَأَقْحَمَ عَلَيْهِمْ بَنُو حَارِثَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَهُمْ عَلَى الْجَدَدِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَكَانَ مَنْ أُصِيبَ فِي الْخَنْدَقِ أَكْثَرَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ النَّاسِ، فَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ،
وَهُزِمَ النَّاسُ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ حَنْظَلَةَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْجِدَارِ يَغُطُّ نَوْمًا، فَنَبَّهَهُ
ابْنُهُ، فَلَمَّا فَتَحَ عَيْنَيْهِ، وَرَأَى مَا صَنَعَ النَّاسُ، أَمَرَ
أَكْبَرَ بَنِيهِ فَتَقَدَّمَ حَتَّى قُتِلَ، فَدَخَلَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ
الْمَدِينَةَ، فَدَعَا النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ عَلَى أَنَّهُمْ خَوَلٌ لِيَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ، يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مَا
شَاءَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ مِنْ
" تَارِيخِهِ " مِنْ كِتَابِ الْمُجَالَسَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ
الْمَالِكِيِّ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْيَشْكُرِيُّ، ثَنَا
الزِّيَادِيُّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ ( ح ) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَارِثِ، عَنِ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَهْلُ الْحَرَّةِ هَتَفَ
هَاتِفٌ بِمَكَّةَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ مَسَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَابْنُ
الزُّبَيْرِ جَالِسٌ يَسْمَعُ:
قُتِلَ الْخِيَارُ بَنُو الْخِيَا رِ ذَوُو الْمَهَابَةِ وَالسَّمَاحِ
وَالصَّائِمُونَ الْقَائِمَو نَ الْقَانِتُونَ أُولُو الصَّلَاحِ
الْمُهْتَدُونَ الْمُتَّقُو نَ السَّابِقُونَ إِلَى الْفَلَاحِ
مَاذَا بِوَاقِمَ وَالْبَقِيعِ مِنَ الْجَحَاجِحَةِ الصِّبَاحِ
وَبِقَاعُ يَثْرِبَ وَيْحَهُنَّ مِنَ النَّوَادِبِ وَالصِّيَاحِ
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
لِأَصْحَابِهِ: يَا هَؤُلَاءِ، قُتِلَ أَصْحَابُكُمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَقَدْ أَخْطَأَ يَزِيدُ خَطَأً فَاحِشًا فِي قَوْلِهِ لِمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
أَنْ يُبِيحَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ، فَإِنَّهُ
وَقَعَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَظِيمَةِ فِي
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ، مِمَّا لَا
يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ أَرَادَ بِإِرْسَالِ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ تَوْطِيدَ سُلْطَانِهِ
وَمُلْكِهِ، وَدَوَامَ أَيَّامِهِ، فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ،
فَقَصَمَهُ اللَّهُ قَاصِمُ الْجَبَابِرَةِ، وَأَخَذَهُ أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ
حُرَيْثٍ، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا الْجُعَيْدُ، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " لَا يَكِيدُ أَهْلَ
الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ
".
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ
الْمَدَنِيِّ - وَاسْمُهُ
دِينَارٌ - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
لَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي
النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ " أَوْ: " ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ
".
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَّاظِ، عَنْ
سَعْدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ أَرَادَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ أَذَابَهُ
اللَّهُ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ
خُصَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ
خَلَّادٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ظُلْمًا أَخَافَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ". وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ
خَلَّادٍ مِنْ بِلْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ، أَخْبَرَهُ، فَذَكَرَهُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْحُمَيْديُّ عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ. وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ أَيْضًا، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ، عَنْ حَمَّادٍ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ خَلَّادٍ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ،
عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلَّادٍ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَخَافَهُ اللَّهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ".
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ، ثَنَا
أَبِي، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ
الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَا:خَرَجْنَا
مَعَ أَبِينَا يَوْمَ الْحَرَّةِ،
وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ فَقَالَ: تَعِسَ مَنْ أَخَافَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْنَا: يَا أَبَتِ، وَهَلْ أَحَدٌ يُخِيفُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ! فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ أَخَافَ هَذَا
الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ هَذَيْنَ ". وَوَضَعَ
كَفَّيْهِ عَلَى جَنْبَيْهِ قَالَ الدِّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ سَعْدُ بْنُ
عَبْدِ الْحَمِيدِ لَفْظًا وَإِسْنَادًا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَأَمْثَالِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى التَّرْخِيصِ فِي لَعْنَةِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اخْتَارَهَا
الْخَلَّالُ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى،
وَابْنُهُ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ، وَانْتَصَرَ لِذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو
الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ وَجَوَّزَ لَعْنَهُ، وَمَنَعَ
مِنْ ذَلِكَ آخَرُونَ - وَصَنَّفُوا فِيهِ أَيْضًا - لِئَلَّا يُجْعَلَ لَعْنُهُ
وَسِيلَةً إِلَى أَبِيهِ أَوْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَمَلُوا مَا صَدَرَ عَنْهُ
مِنْ سُوءِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى أَنَّهُ تَأَوَّلَ وَأَخْطَأَ، وَقَالُوا:
إِنَّهُ كَانَ مَعَ ذَلِكَ إِمَامًا فَاسِقًا، وَالْإِمَامُ إِذَا فَسَقَ لَا
يُعْزَلُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، بَلْ وَلَا
يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ ; لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِثَارَةِ الْفِتْنَةِ،
وَوُقُوعِ الْهَرْجِ، كَمَا جَرَى.
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ
لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،
وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ عِنْدَ
الْحَرَّةِ مِنْ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَجَيْشِهِ، فَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا
شَدِيدًا، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّهُ الْإِمَامُ، وَقَدْ خَرَجُوا عَنْ
طَاعَتِهِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُ، فَلَهُ قِتَالُهُمْ حَتَّى
يَرْجِعُوا إِلَى الطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، كَمَا أَنْذَرَهُمْ
بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَمُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:
" مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ
فَاقْتُلُوهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ". وَأَمَّا مَا يُورِدُونَهُ عَنْهُ مِنَ
الشِّعْرِ فِي ذَلِكَ، وَاسْتِشْهَادِهِ بِشِعْرِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي وَقْعَةِ
أُحُدٍ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقَعِ الْأَسَلْ
حِينَ حَكَّتْ بِقُبَاءٍ بَرْكَهَا وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ
قَدْ قَتَلْنَا الضِّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ
فَاعْتَدَلْ
وَقَدْ زَادَ بَعْضُ الرَّوَافِضِ فِيهَا فَقَالَ:
لَعِبَتْ هَاشِمُ بِالْمُلْكِ فَلَا مَلَكٌ جَاءَ وَلَا وَحْيٌ نَزَلَ
فَهَذَا إِنْ قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَلَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَهُ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
مَنْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ لِيُشَنِّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَعَلَى مُلُوكِ
الْمُسْلِمِينَ، وَسَنَذْكُرُ تَرْجَمَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَرِيبًا،
وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَمَا قِيلَ فِيهِ، وَمَا كَانَ يُعَانِيهِ مِنَ
الْأَفْعَالِ وَالْقَبَائِحِ وَالْأَقْوَالِ، فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَإِنَّهُ
لَمْ يُمْهَلْ بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ وَقَتْلِ الْحُسَيْنِ إِلَّا يَسِيرًا
حَتَّى قَصَمَهُ اللَّهُ الَّذِي قَصَمَ الْجَبَابِرَةَ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ، إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا
قَدِيرًا.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ خَلْقٌ مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي وَقْعَةِ الْحَرَّةِ مِمَّا يَطُولُ
ذِكْرُهُمْ ; فَمِنْ مَشَاهِيرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَنْظَلَةَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، الَّذِي بَايَعَهُ أَهْلُ الْحَرَّةِ،
وَمَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ
فَفِيهَا فِي أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا سَارَ مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ - بَعْدَ
فَرَاغِهِ مِنْ حَرْبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - إِلَى مَكَّةَ قَاصِدًا قِتَالَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَنِ الْتَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ،
فَلَمَّا بَلَغَ ثَنِيَّةَ هَرْشَى بَعَثَ إِلَى رُءُوسِ الْأَجْنَادِ
فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَهِدَ إِلَيَّ إِنْ حَدَثَ
بِي حَدَثُ الْمَوْتِ أَنْ أَسْتَخْلِفَ عَلَيْكَمْ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ
السَّكُونِيَّ، وَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِي مَا فَعَلْتُ. ثُمَّ دَعَا
بِهِ فَقَالَ: انْظُرْ يَابْنَ بَرْدَعَةِ الْحِمَارِ فَاحْفَظْ مَا أُوصِيكَ
بِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُ إِذَا وَصَلَ مَكَّةَ أَنْ يُنَاجِزَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
قَبْلَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَمْ أَعْمَلْ عَمَلًا قَطُّ
بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ قَتْلِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَلَا أَرْجَى
عِنْدِي فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ دَخَلْتُ النَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنِّي
لَشَقِيٌّ. ثُمَّ مَاتَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَدُفِنَ بِالْمُشَلَّلِ. فِيمَا
قَالَهُ
الْوَاقِدِيُّ.
وَسَارَ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِالْجَيْشِ نَحْوَ مَكَّةَ، فَانْتَهَى إِلَيْهَا
لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ فِيمَا قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَقِيلَ:
لِسَبْعٍ مَضَيْنَ مِنْهُ. وَقَدْ تَلَاحَقَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَاتٌ
مِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَانْضَافَ إِلَيْهِ أَيْضًا
نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ فِي طَائِفَةٍ مِنْ
أَهْلِهَا ; لِيَمْنَعُوا الْبَيْتَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَنَزَلَ حُصَيْنُ بْنُ
نُمَيْرٍ ظَاهِرَ مَكَّةَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي أَهْلِ
مَكَّةَ وَمَنِ الْتَفَّ مَعَهُ، فَاقْتَتَلُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ قِتَالًا
شَدِيدًا، وَتَبَارَزَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَحَمَلَ أَهْلُ الشَّامِ
حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْكَشَفَ أَهْلُ مَكَّةَ، وَعَثَرَتْ بَغْلَةُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِهِ، فَكَرَّ عَلَيْهِ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ
وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَطَائِفَةٌ، فَقَاتَلُوا دُونَهُ
حَتَّى قُتِلُوا جَمِيعًا، وَصَابَرَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى اللَّيْلِ،
فَانْصَرَفُوا عَنْهُ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا فِي بَقِيَّةِ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ
وَصَفَرًا بِكَمَالِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ ثَالِثُ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، نَصَبُوا الْمَجَانِيقَ عَلَى
الْكَعْبَةِ، وَرَمَوْهَا حَتَّى بِالنَّارِ، فَاحْتَرَقَ جِدَارُ الْبَيْتِ فِي
يَوْمِ السَّبْتِ - هَكَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ - وَهُمْ يَقُولُونَ:
خَطَّارَةٌ مِثْلُ الْفَنِيقِ
الْمُزْبِدِ نَرْمِي بِهَا أَعْوَادَ هَذَا الْمَسْجِدِ
وَجَعَلَ عَمْرُو بْنُ حَوْطَةَ السَّدُوسِيُّ يَقُولُ:
كَيْفَ تَرَى صَنِيعَ أُمِّ فَرْوَهْ تَأْخُذُهُمْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَهْ
وَأُمُّ فَرْوَةَ اسْمُ الْمَنْجَنِيقِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا احْتَرَقَتْ ; لِأَنَّ
أَهْلَ الْمَسْجِدِ جَعَلُوا يُوقِدُونَ النَّارَ وَهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ،
فَعَلِقَتِ النَّارُ فِي بَعْضِ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَسَرَتْ إِلَى
أَخْشَابِهَا وَسُقُوفِهَا فَاحْتَرَقَتْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا احْتَرَقَتْ لِأَنَّ
ابْنَ الزُّبَيْرِ سَمِعَ التَّكْبِيرَ عَلَى بَعْضِ جِبَالِ مَكَّةَ فِي لَيْلَةٍ
ظَلْمَاءَ، فَظَنَّ أَنَّهُمْ أَهْلُ الشَّامِ، فَرُفِعَتْ نَارٌ عَلَى رُمْحٍ
لِيَنْظُرُوا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَلَى الْجَبَلِ، فَأَطَارَتِ الرِّيحُ
شَرَرَةً مِنْ رَأَسِ الرُّمْحِ إِلَى مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ
وَالْأَسْوَدِ مِنَ الْكَعْبَةِ، فَعَلِقَتْ فِي أَسْتَارِهَا وَأَخْشَابِهَا،
فَاحْتَرَقَتْ وَاسْوَدَّ الرُّكْنُ، وَانْصَدَعَ فِي ثَلَاثَةِ أَمْكِنَةٍ
مِنْهُ.
وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ إِلَى مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَجَاءَ النَّاسَ
نَعْيُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ
لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ
ابْنُ خَمْسٍ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَكَانَتْ
وِلَايَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةً أَوْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، فَحِينَئِذٍ
خَمَدَتِ الْحَرْبُ وَطَفِئَتْ نَارُ الْفِتْنَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ مَكَثُوا
يُحَاصِرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.
وَيُذْكَرُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
عَلِمَ بِمَوْتِ يَزِيدَ قَبْلَ أَهْلِ
الشَّامِ، فَنَادَى فِيهِمْ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، قَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ
طَاغِيَتَكُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَدْخُلَ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ
النَّاسُ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى شَامِهِ فَلْيَرْجِعْ.
فَلَمْ يُصَدِّقِ الشَّامِيُّونَ أَهْلَ مَكَّةَ فِيمَا أَخْبَرُوهُمْ بِهِ،
حَتَّى جَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْمُنَقَّعِ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ.
وَيُذْكَرُ أَنَّ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ دَعَاهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِيُحَدِّثَهُ
بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَاجْتَمَعَا حَتَّى اخْتَلَفَتْ رُءُوسُ فَرَسَيْهِمَا،
وَجَعَلَتْ فَرَسُ حُصَيْنٍ تَنْفِرُ وَيَكُفُّهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ
الزُّبَيْرِ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الْحَمَامَ تَحْتَ رِجْلَيْ فَرَسِي
تَأْكُلُ مِنَ الرَّوَثِ، فَأَكْرَهُ أَنْ أَطَأَ حَمَامَ الْحَرَمِ. فَقَالَ
لَهُ: تَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ تَقْتُلُ الْمُسْلِمِينَ ؟ ! فَقَالَ لَهُ
حُصَيْنٌ: فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَطُفْ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى
بِلَادِنَا. فَأَذِنَ لَهُمْ فَطَافُوا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ حُصَيْنًا وَابْنَ الزُّبَيْرِ اتَّعَدَا لَيْلَةً
أَنْ يَجْتَمِعَا، فَاجْتَمَعَا بِظَاهِرِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: إِنْ
كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ هَلَكَ فَأَنْتَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ
بَعْدَهُ، فَهَلُمَّ فَارْحَلْ مَعِي إِلَى الشَّامِ، فَوَاللَّهِ لَا يَخْتَلِفُ
عَلَيْكَ اثَنَانِ.
فَيُقَالُ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ
لَمْ يَثِقْ مِنْهُ بِذَلِكَ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْمَقَالِ، فَنَفَرَ مِنْهُ
ابْنُ نُمَيْرٍ، وَقَالَ: أَنَا أَدْعُوهُ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَهُوَ يُغْلِظُ
لِي فِي الْمَقَالِ ؟ ! ثُمَّ كَرَّ بِالْجَيْشِ رَاجِعًا إِلَى الشَّامِ،
وَقَالَ: أَعِدُهُ بِالْمُلْكِ وَيَتَوَاعَدُنِي بِالْقَتْلِ ؟ ! ثُمَّ نَدِمَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ مِنَ الْغِلْظَةِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: أَمَّا الشَّامُ فَلَسْتُ آتِيهِ، وَلَكِنْ خُذْ لِيَ
الْبَيْعَةَ عَلَى مَنْ هُنَاكَ، فَإِنِّي أُؤَمِّنُكُمْ وَأَعْدِلُ فِيكُمْ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ مَنْ يَبْتَغِيهَا مِنْ أَهْلِ هَذَا
الْبَيْتِ بِالشَّامِ لَكَثِيرٌ. فَرَجَعَ فَاجْتَازَ بِالْمَدِينَةِ، فَطَمِعَ
فِيهِ أَهْلُهَا وَأَهَانُوهُمْ إِهَانَةً بَالِغَةً، وَأَكْرَمَهُمْ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ، وَأَهْدَى لِحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ قَتًّا وَعَلَفًا، وَارْتَحَلَتْ
بَنُو أُمَيَّةَ مَعَ الْجَيْشِ إِلَى الشَّامِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهِ وَقَدِ
اسْتُخْلِفَ بِدِمَشْقَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ وَصِيَّةٍ
مِنْ أَبِيهِ لَهُ بِذَلِكَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
هُوَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ بْنِ
أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَبُو خَالِدٍ
الْأُمَوِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
بِالْمَاطِرُونِ، وَقِيلَ: بِبَيْتِ رَأْسٍ. وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ
الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ
أَكَّدَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فِي النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتِّينَ،
فَاسْتَمَرَّ مُتَوَلِّيًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. وَأُمُّهُ مَيْسُونُ بِنْتُ
بَحْدَلِ بْنِ أُنَيْفِ بْنِ دُلْجَةَ بْنِ قُنَافَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ زُهَيْرِ
بْنِ حَارِثَةَ الْكَلْبِيِّ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي
الدِّينِ ". وَحَدِيثًا آخَرَ فِي الْوُضُوءِ. وَعَنْهُ ابْنُهُ خَالِدٌ
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ
الدِّمَشْقِيُّ فِي الطَّبَقَةِ الَّتِي تَلِي الصَّحَابَةَ، وَهِيَ الْعُلْيَا،
وَقَالَ: لَهُ أَحَادِيثُ. وَكَانَ كَثِيرَ اللَّحْمِ، عَظِيمَ الْجِسْمِ، كَثِيرَ
الشَّعْرِ، جَمِيلًا طَوِيلًا، ضَخْمَ الْهَامَةِ، مُخَدَّدَ الْأَصَابِعِ
غَلِيظَهَا، مُجَدَّرًا.
وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ طَلَّقَ أُمَّهُ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ، فَرَأَتْ فِي
الْمَنَامِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ قُبُلِهَا قَمَرٌ، فَقَصَّتْ رُؤْيَاهَا عَلَى
أُمِّهَا فَقَالَتْ: إِنْ صَدَقَتْ رُؤْيَاكِ لَتَلِدِنَّ مَنْ يُبَايَعُ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ. وَجَلَسَتْ أُمُّهُ مَيْسُونُ يَوْمًا تُمَشِّطُهُ وَهُوَ صَبِيٌّ
صَغِيرٌ، وَأَبُوهُ مُعَاوِيَةُ مَعَ زَوْجَتِهِ الْحَظِيَّةِ عِنْدَهُ فِي
الْمَنْظَرَةِ، وَهِيَ فَاخِتَةُ بِنْتُ قَرَظَةَ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ
مَشْطِهِ نَظَرَتْ إِلَيْهِ، فَأَعْجَبَهَا فَقَبَّلَتْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ،
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ عِنْدَ ذَلِكَ:
إِذَا مَاتَ لَمْ تُفْلِحْ مُزَيْنَةُ
بَعْدَهُ فَنُوطِي عَلَيْهِ يَا مُزَيْنُ التَّمَائِمَا
وَانْطَلَقَ يَزِيدُ يَمْشِي وَفَاخِتَةُ تُتْبِعُهُ بَصَرَهَا، ثُمَّ قَالَتْ:
لَعَنَ اللَّهُ سَوَادَ سَاقَيْ أُمِّكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمَا وَاللَّهِ
إِنَّهُ لَخَيْرٌ مِنِ ابْنِكِ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ وَلَدُهُ مِنْهَا، وَكَانَ
أَحْمَقَ - فَقَالَتْ فَاخِتَةُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنَّكَ تُؤْثِرُ هَذَا
عَلَيْهِ. فَقَالَ: سَوْفَ أُبَيِّنُ لَكِ ذَلِكَ حَتَّى تَعْرِفِيهِ قَبْلَ أَنْ
تَقُومِي مِنْ مَجْلِسِكِ هَذَا. ثُمَّ اسْتَدْعَى بِابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ
فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُعْطِيَكَ كُلَّ مَا تَسْأَلُنِي فِي
هَذَا الْمَجْلِسِ. فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَشْتَرِيَ لِي كَلْبًا فَارِهًا
وَحِمَارًا. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَنْتَ حِمَارٌ وَيُشْتَرَى لَكَ حِمَارٌ ؟ !
قُمْ فَاخْرُجْ. ثُمَّ قَالَ لِأُمِّهِ: كَيْفَ رَأَيْتِ ؟ ثُمَّ اسْتَدْعَى
بِيَزِيدَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُعْطِيَكَ كُلَّ مَا تَسْأَلُنِي
فِي مَجْلِسِكَ هَذَا، فَسَلْنِي مَا بَدَا لَكَ. فَخَرَّ يَزِيدُ سَاجِدًا، ثُمَّ
قَالَ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْمُدَّةَ، وَأَرَاهُ فِي هَذَا الرَّأْيِ، حَاجَتِي أَنْ
تَعْقِدَ لِيَ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِكَ، وَتُوَلِّيَنِي الْعَامَ صَائِفَةَ
الْمُسْلِمِينَ، وَتَأْذَنَ لِي فِي الْحَجِّ إِذَا رَجَعْتَ، وَتُوَلِّيَنِي الْمَوْسِمَ،
وَتَزِيدَ أَهْلَ الشَّامِ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَتَجْعَلَ ذَلِكَ
بِشَفَاعَتِي، وَتَفْرِضَ لِأَيْتَامِ بَنِي جُمَحٍ، وَأَيْتَامِ بَنِي سَهْمٍ،
وَأَيْتَامِ بَنِي عَدِيٍّ. فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِأَيْتَامِ بَنِي عَدِيٍّ ؟
فَقَالَ: لِأَنَّهُمْ حَالَفُونِي وَانْتَقَلُوا إِلَى دَارِي. فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَقَبَّلَ وَجْهَهُ. ثُمَّ قَالَ
لِابْنَةِ قَرَظَةَ: كَيْفَ رَأَيْتِ ؟ فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
أَوْصِهِ بِي فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي. فَفَعَلَ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ
يَزِيدَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُوهُ: سَلْنِي
حَاجَتَكَ. قَالَ لَهُ يَزِيدُ:
أَعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَكَ مِنْهَا. قَالَ: وَكَيْفَ
؟ قَالَ: لِأَنِّي وَجَدْتُ فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ مَنْ تَقَلَّدَ أَمْرَ الْأُمَّةِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، فَاعْهَدْ إِلَيَّ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ. فَفَعَلَ.
وَقَالَ الْعُتْبِيُّ: رَأَى مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ،
فَقَالَ لَهُ: سَوْأَةً لَكَ، أَتُضْرِبُ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ
عَلَيْكَ ؟ ! وَاللَّهِ لَقَدْ مَنَعَتْنِي الْقَدْرَةُ مِنْ ذَوِي الْإِحَنِ،
وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ عَفَا لَمَنْ قَدَرَ.
قُلْتُ: وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى أَبَا مَسْعُودٍ يَضْرِبُ غُلَامًا لَهُ،
فَقَالَ لَهُ: " اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ لَلَّهُ أَقَدْرُ عَلَيْكَ مِنْكَ
عَلَيْهِ ".
قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَقَدِمَ زِيَادٌ بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ وَبِسَفْطٍ مَمْلُوءٍ
جَوْهَرًا عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَسُرَّ بِذَلِكَ مُعَاوِيَةُ، فَقَامَ زِيَادٌ
فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، ثُمَّ افْتَخَرَ بِمَا يَفْعَلُهُ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ مِنْ
تَمْهِيدِ الْمَمَالِكِ لِمُعَاوِيَةَ، فَقَامَ يَزِيدُ فَقَالَ: إِنْ تَفْعَلْ
ذَلِكَ يَا زِيَادُ فَنَحْنُ نَقَلْنَاكَ مِنْ وَلَاءِ ثَقِيفٍ إِلَى قُرَيْشٍ،
وَمِنَ الْقَلَمِ إِلَى الْمَنَابِرِ، وَمِنْ زِيَادِ بْنِ عُبَيْدٍ إِلَى حَرْبِ
بْنِ أُمَيَّةَ. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي.
وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ وَغَيْرِهِ قَالَ: غَضِبَ مُعَاوِيَةُ عَلَى
ابْنِهِ يَزِيدَ فَهَجَرَهُ،
فَقَالَ لَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْلَادُنَا ثِمَارُ قُلُوبِنَا، وَعِمَادُ
ظُهُورِنَا، وَنَحْنُ لَهُمْ سَمَاءٌ ظَلِيلَةٌ وَأَرْضٌ ذَلِيلَةٌ، إِنْ غَضِبُوا
فَأَرْضِهِمْ، وَإِنْ طَلَبُوا فَأَعْطِهِمْ، وَلَا تَكُنْ عَلَيْهِمْ ثِقْلًا
فَيَمَلُّوا حَيَاتَكَ وَيَتَمَنَّوْا مَوْتَكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لِلَّهِ
دَرُّكَ يَا أَبَا بَحْرٍ، يَا غُلَامُ، ائْتِ يَزِيدَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي
السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَ لَكَ
بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِائَةِ ثَوْبٍ. فَقَالَ يَزِيدُ: مِنْ عِنْدِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: الْأَحْنَفُ. فَقَالَ يَزِيدُ: لَا جَرَمَ،
لَأُقَاسِمَنَّهُ. فَبَعَثَ إِلَى الْأَحْنَفِ بِخَمْسِينَ أَلْفًا وَخَمْسِينَ
ثَوْبًا.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ،
ثَنَا ابْنُ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ يَزِيدُ فِي حَدَاثَتِهِ
صَاحِبَ شَرَابٍ يَأْخُذُ مَأْخَذَ الْأَحْدَاثِ، فَأَحَسَّ مُعَاوِيَةُ بِذَلِكَ،
فَأَحَبَّ أَنْ يَعِظَهُ فِي رِفْقٍ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، مَا أَقْدَرَكَ عَلَى
أَنْ تَصِيرَ إِلَى حَاجَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَهَتُّكٍ يَذْهَبُ بِمُرُوءَتِكَ
وَقَدْرِكَ. ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي مُنْشِدُكَ أَبْيَاتًا، فَتَأَدَّبْ
بِهَا وَاحْفَظْهَا. فَأَنْشَدَهُ:
انْصَبْ نَهَارًا فِي طِلَابِ الْعُلَا وَاصْبِرْ عَلَى هَجْرِ الْحَبِيبِ
الْقَرِيبِ
حَتَّى إِذَا اللَّيْلُ أَتَى بِالدُّجَى وَاكْتَحَلَتْ بِالْغُمْضِ عَيْنُ
الرَّقِيبِ
فَبَاشِرِ اللَّيْلَ بِمَا تَشْتَهِي فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نَهَارُ الْأَرِيبِ
كَمْ فَاسِقٍ تَحْسَبُهُ نَاسِكًا قَدْ بَاشَرَ اللَّيْلَ بِأَمْرٍ عَجِيبٍ
غَطَّى عَلَيْهِ اللَّيْلُ أَسْتَارَهُ فَبَاتَ فِي أَمْنٍ وَعَيْشٍ خَصِيبٍ
وَلَذَّةُ الْأَحْمَقِ مَكْشُوفَةٌ
يَشْفَى بِهَا كُلُّ عَدُوٍّ غَرِيبِ
قُلْتُ: وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: " مَنِ ابْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ
هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ وَالْمَدَائِنِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
وَفَدَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ أَنْ يَأْتِيَهُ
فَيُعَزِّيَهُ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
رَحَّبَ بِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ
أَنْ يَرْفَعَ مَجْلِسَهُ، فَأَبَى وَقَالَ: إِنَّمَا أَجْلِسُ مَجْلِسَ
الْمُعَزِّي لَا الْمُهَنِّي. ثُمَّ ذَكَرَ الْحَسَنَ، فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ
أَبَا مُحَمَّدٍ أَوْسَعَ الرَّحْمَةِ وَأَفْسَحَهَا، وَأَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ
وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ، وَعَوَّضَكَ مِنْ مُصَابِكَ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ ثَوَابًا
وَخَيْرٌ عُقْبَى. فَلَمَّا نَهَضَ يَزِيدُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
إِذَا ذَهَبَ بَنُو حَرْبٍ ذَهَبَ حُلَمَاءُ النَّاسِ. ثُمَّ أَنْشَدَ
مُتَمَثِّلًا:
مَغَاضٍ عَنِ الْعَوْرَاءِ لَا يَنْطِقُونَهَا وَأَهْلُ وِرَاثَاتِ الْحُلُومِ
الْأَوَائِلِ
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ، فِي قَوْلِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ. وَقَالَ خَلِيفَةُ
بْنُ خَيَّاطٍ: سَنَةَ خَمْسِينَ. ثُمَّ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنْ أَرْضِ الرُّومِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: أَوَّلُ جَيْشٍ يَغْزُو مَدِينَةَ
قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ. وَهُوَ
الْجَيْشُ الثَّانِي الَّذِينَ رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ عِنْدَ أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ، مِثْلَ
الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، فَقَالَتْ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ.
فَقَالَ: " أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ " يَعْنِي مِنَ الْجَيْشِ
الْأَوَّلِ الَّذِينَ رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ الْبَحْرِ، فَكَانَ
أَمِيرَ الْأُولَى أَبُوهُ مُعَاوِيَةُ. حِينَ غَزَا قُبْرُسَ، فَفَتَحَهَا فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ أَيَّامَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَتْ مَعَهُمْ
أُمُّ حَرَامٍ، فَمَاتَتَ هُنَالِكَ بِقُبْرُسَ، ثُمَّ كَانَ أَمِيرَ الْجَيْشِ
الثَّانِي ابْنُهُ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَلَمْ تُدْرِكْ أُمُّ حَرَامٍ
جَيْشَ يَزِيدَ هَذَا. وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ دَلَائِلَ النُّبُوَّةِ. كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ هَاهُنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ
مُحَاضِرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "
خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ". الْحَدِيثَ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَفِيقٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ
زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: الْقَرْنُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ، فَبُعِثَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَرْنٍ فَكَانَ آخِرَهُ
مَوْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ:
ثُمَّ حَجَّ بِالنَّاسِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ
وَثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، ثَنَا رِشْدِينُ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ
قَالَ لِيَزِيدَ ابْنِهِ: كَيْفَ تُرَاكَ فَاعِلًا إِنْ وُلِّيتَ ؟ قَالَ:
يُمْتِعُ اللَّهُ بِكَ. قَالَ: لَتُخْبِرَنِّي. قَالَ: كُنْتُ وَاللَّهِ يَا
أَبَهْ عَامِلًا فِيهِمْ عَمَلَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
سُبْحَانَ اللَّهِ ! يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ! ! وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ لَقَدْ
جَهَدْتُ عَلَى سِيرَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَمَا أَطَقْتُهَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبَى
سَبْرَةَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: قَالَ
مُعَاوِيَةُ لِيَزِيدَ وَهُوَ يُوصِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: يَا يَزِيدُ، اتَّقِ
اللَّهَ فَقَدْ وَطَّأْتُ لَكَ هَذَا الْأَمْرَ، وَوُلِّيتَ مِنْ ذَلِكَ مَا
وُلِّيتَ، فَإِنْ يَكُ خَيْرًا فَأَنَا أَسْعَدُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ
شَقِيتَ بِهِ، فَارْفُقْ بِالنَّاسِ، وَأَغْمِضْ عَمَّا بَلَغَكَ مِنْ قَوْلٍ
تُؤْذَى بِهِ وَتُنْتَقَصُ بِهِ، وَطَأْ عَلَيْهِ يَهْنِكَ عَيْشُكَ، وَتَصْلُحُ
لَكَ رَعِيَّتُكَ، وَإِيَّاكَ وَالْمُنَاقَشَةَ وَحَمْلَ الْغَضَبِ، فَإِنَّكَ
تُهْلِكُ نَفْسَكَ وَرَعِيَّتَكَ، وَإِيَّاكَ وَجَفْوَةَ أَهْلِ الشَّرَفِ،
وَاسْتِهَانَتَهُمْ، وَالتَّكَبُّرَ عَلَيْهِمْ، لِنْ لَهُمْ لِينًا بِحَيْثُ لَا
يَرَوْنَ
مِنْكَ ضَعْفًا وَلَا خَوَرًا،
وَأَوْطِئْهُمْ فِرَاشَكَ، وَقَرِّبْهُمْ إِلَيْكَ، وَأَدْنِهِمْ مِنْكَ،
فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَكَ حَقَّكَ، وَلَا تُهِنْهُمْ وَلَا تَسْتَخِفَّ
بِحَقِّهِمْ فَيُهِينُوكَ وَيَسْتَخِفُّوا بِحَقِّكَ وَيَقَعُوا فِيكَ، فَإِذَا
أَرَدْتَ أَمْرًا فَادْعُ أَهْلَ السِّنِّ وَالتَّجْرِبَةِ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ
مِنَ الْمَشَايِخِ وَأَهْلِ التَّقْوَى، فَشَاوِرْهُمْ وَلَا تُخَالِفْهُمْ،
وَإِيَّاكَ وَالِاسْتِبْدَادَ بِرَأْيِكَ ; فَإِنَّ الرَّأْيَ لَيْسَ فِي صَدْرٍ
وَاحِدٍ، وَصَدِّقْ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ إِذَا حَمَلَكَ عَلَى مَا تَعْرِفُ،
ثُمَّ أَطِعْهُ فِيمَا أَشَارَ بِهِ، وَاخْزُنْ ذَلِكَ عَنْ نِسَائِكَ وَخَدَمِكَ،
وَشَمِّرْ إِزَارَكَ، وَتَعَاهَدْ جُنْدَكَ، وَأَصْلِحْ نَفْسَكَ يَصْلُحْ لَكَ
النَّاسُ، لَا تَدَعْ لَهُمْ فِيكَ مَقَالًا ; فَإِنَّ النَّاسَ نُزَّاعٌ إِلَى
الشَّرِّ، وَاحْضُرِ الصَّلَاةَ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ مَا أُوصِيكَ بِهِ
عَرَفَ النَّاسُ لَكَ حَقَّكَ، وَعَظُمَتْ مَمْلَكَتُكَ، وَعَظُمَتْ فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ، وَاعْرِفْ شَرَفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ ; فَإِنَّهُمْ أَصْلُكَ
وَعَشِيرَتُكَ، وَاحْفَظْ لِأَهْلِ الشَّامِ شَرَفَهُمْ ; فَإِنَّهُمْ أَنْصَارُكَ
وَحُمَاتُكَ وَجُنْدُكَ الَّذِينَ بِهِمْ تَصُولُ، وَتَنْتَصِرُ عَلَى
أَعْدَائِكَ، وَتَصِلُ إِلَى أَهْلِ طَاعَتِكَ، وَاكْتُبْ إِلَى أَهْلِ
الْأَمْصَارِ بِكِتَابٍ تَعِدُهُمْ فِيهِ مِنْكَ الْمَعْرُوفَ ; فَإِنَّ ذَلِكَ
يُنَشِّطُ آمَالُهُمْ، وَإِنْ وَفَدَ عَلَيْكَ وَافِدٌ مِنَ الْكُوَرِ كُلِّهَا
فَأَحْسِنْ إِلَيْهِمْ وَأَكْرِمْهُمْ ; فَإِنَّهُمْ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ، وَلَا
تَسْمَعَنَّ قَوْلَ قَاذِفٍ وَلَا مَاحِلٍ ; فَإِنِّي رَأَيْتُهُمْ وُزَرَاءَ سُوءٍ.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لِيَزِيدَ: إِنَّ لِي خَلِيلًا مِنْ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَأَكْرِمْهُ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ جَعْفَرٍ فَلَمَّا وَفَدَ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ عَلَى يَزِيدَ أَضْعَفَ
جَائِزَتَهُ الَّتِي كَانَ مُعَاوِيَةُ يُعْطِيهِ إِيَّاهَا، وَكَانَتْ
جَائِزَتُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ سِتَّمِائَةِ
أَلْفٍ، فَأَعْطَاهُ يَزِيدُ أَلْفَ
أَلْفٍ، فَقَالَ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. فَأَعْطَاهُ أَلْفَ أَلْفٍ
أُخْرَى. فَقَالَ لَهُ ابْنُ جَعْفَرٍ: وَاللَّهِ لَا أَجْمَعُ أَبَوَيَّ لِأَحَدٍ
بَعْدَكَ. وَلَمَّا خَرَجَ ابْنُ جَعْفَرٍ مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ - وَقَدْ أَعْطَاهُ
أَلْفَيْ أَلْفٍ - رَأْي عَلَى بَابِ يَزِيدَ بَخَاتِيَّ مُبَرِّكَاتٍ، قَدْ
قَدِمَ عَلَيْهَا هَدِيَّةٌ مِنْ خُرَاسَانَ، فَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ
إِلَى يَزِيدَ، فَسَأَلَهُ مِنْهَا ثَلَاثَ بَخَاتِيَّ لِيَرْكَبَ عَلَيْهَا إِلَى
الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَإِذَا وَفَدَ إِلَى الشَّامِ عَلَى يَزِيدَ. فَقَالَ
يَزِيدُ لِلْحَاجِبِ: مَا هَذِهِ الْبَخَاتِيُّ الَّتِي عَلَى الْبَابِ ؟ - وَلَمْ
يَكُنْ شَعَرَ بِهَا - فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذِهِ
أَرْبَعُمِائَةِ بُخْتِيَّةٍ جَاءَتْنَا مِنْ خُرَاسَانَ تَحْمِلُ أَنْوَاعَ
الْأَلْطَافِ - وَكَانَ عَلَيْهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا -
فَقَالَ: اصْرِفْهَا إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِمَا عَلَيْهَا. فَكَانَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ يَقُولُ: أَتَلُومُونَنِي عَلَى حُسْنِ الرَّأْيِ فِي هَذَا
؟ ! يَعْنِي يَزِيدَ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ فِيهِ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ مِنَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ
وَالْفَصَاحَةِ وَالشِّعْرِ وَالشَّجَاعَةِ وَحُسْنِ الرَّأْيِ فِي الْمُلْكِ،
وَكَانَ ذَا جَمَالٍ، حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ وَكَانَ فِيهِ أَيْضًا إِقْبَالٌ
عَلَى الشَّهَوَاتِ وَتَرْكُ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثَنَا
حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي بَشِيرُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ قَيْسٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ
يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
" يَكُونُ خَلْفٌ مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ سَنَةً أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، ثُمَّ يَكُونُ خَلْفٌ
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ
ثَلَاثَةٌ ; مُؤْمِنٌ وَمَنَافِقٌ وَفَاجِرٌ ".
قَالَ بَشِيرٌ: فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ:
مَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ ؟ قَالَ: الْمَنَافقُ كَافِرٌ بِهِ، وَالْفَاجِرُ
يَتَأَكَّلُ بِهِ، وَالْمُؤْمِنُ يُؤْمِنُ بِهِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، ثَنَا
الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثَنَا كَامِلٌ أَبُو الْعَلَاءِ، سَمِعْتُ أَبَا
صَالِحٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ،
وَمِنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ ".
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
لَسْتَ مِنَّا وَلَيْسَ خَالُكَ مِنَّا يَا مُضَيِّعَ الصَّلَاةِ لِلشَّهَوَاتِ
قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الشِّعْرَ لِمُوسَى بْنِ يَسَارٍ،
وَيُعْرَفُ بِمُوسَى شَهَوَاتٍ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
أَنَّهُ سَمِعَ جَارِيَةً لَهُ تُغَنِّي بِهَذَا الْبَيْتِ فَضَرَبَهَا، وَقَالَ:
قُولِي:
أَنْتَ مِنَّا وَلَيْسَ خَالُكَ مِنَّا يَا مُضَيِّعَ الصَّلَاةِ لِلشَّهَوَاتِ
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا
يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا
يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ قَائِمًا بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلَمَهُ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي أُمَيَّةَ ".
وَحَدَّثَنَا الْحَكَمُ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ،
عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي قَائِمًا
بِالْقِسْطِ حَتَّى يَثْلَمَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ
". وَهَذَا مُنْقَطِعٌ بَيْنَ مَكْحُولٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، بَلْ مُعْضَلٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الدِّمَشْقِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي
ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمًا
بِالْقِسْطِ حَتَّى يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَثْلَمُهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ ". ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا بَيْنَ
مَكْحُولٍ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا
مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي
الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي ذَرٍّ
بِالشَّامِ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ يُغَيِّرُ سُنَّتِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ
".
وَرَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ
الْمَجِيدِ، عَنْ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا مُهَاجِرُ بْنُ أَبِي مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي
أَبُو الْعَالِيَةِ، حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، فَذَكَرَ
نَحْوَهُ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ فِي غَزَاةٍ،
عَلَيْهِمْ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَاغْتَصَبَ يَزِيدُ مِنْ رِجْلٍ
جَارِيَةً، فَاسْتَعَانَ الرَّجُلُ بِأَبِي ذَرٍّ عَلَى يَزِيدَ
أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ
أَبُو ذَرٍّ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ، فَتَلَكَّأَ، فَذَكَرَ أَبُو ذَرٍّ لَهُ
الْحَدِيثَ فَرَدَّهَا، وَقَالَ يَزِيدُ لِأَبِي ذَرٍّ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ
أَهُوَ أَنَا ؟ قَالَ: لَا. وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ
" وَأَبُو يَعْلَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ
الْوَهَّابِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَالْحَدِيثُ مَعْلُولٌ، وَلَا يُعْرَفُ
أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَدِمَ الشَّامَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ: وَقَدْ
مَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ زَمَنَ عُمَرَ، فَوَلَّى مَكَانَهُ أَخَاهُ
مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ: سَأَلْتُ ابْنَ مَعِينٍ: أَسَمِعَ أَبُو
الْعَالِيَةِ مِنْ أَبِي ذَرٍّ ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي
مُسْلِمٍ عَنْهُ. قُلْتُ: فَمَنْ أَبُو مُسْلِمٍ هَذَا ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَحَادِيثَ فِي ذَمِّ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
كُلُّهَا مَوْضُوعَةٌ، لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا، وَأَجْوَدُ مَا وَرَدَ مَا
ذَكَرْنَاهُ ; عَلَى ضَعْفِ أَسَانِيدِهِ وَانْقِطَاعِ بَعْضِهِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ: مَا أَفْسَدَ أَمْرَ النَّاسِ إِلَّا
اثَنَانِ ; عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ يَوْمَ أَشَارَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بِرَفْعِ
الْمَصَاحِفِ يَوْمَ صِفِّينَ، فَحُمِلَتْ عَلَى رُءُوسِ الْأَسِنَّةِ، فَحَكَمَ
الْخَوَارِجُ، وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ. فَلَا يَزَالُ هَذَا
التَّحْكِيمُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْآخَرُ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ; فَإِنَّهُ كَانَ عَامِلَ مُعَاوِيَةَ عَلَى
الْكُوفَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: إِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي
فَأَقْبِلْ مَعْزُولًا. فَأَبْطَأَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فِي الْقُدُومِ، فَلَمَّا
قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا أَبْطَأَكَ عَنِّي ؟ قَالَ: أَمْرٌ
كُنْتُ أُوَطِّئُهُ وَأُهَيِّئُهُ. قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: الْبَيْعَةُ
لِيَزِيدَ مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ: وَقَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَمَلِكَ. فَلَمَّا خَرَجَ الْمُغِيرَةُ مِنْ عِنْدِهِ،
قَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: وَضَعْتُ رِجْلَ مُعَاوِيَةَ فِي
غَرْزِ غَيٍّ لَا يَزَالُ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْحَسَنُ:
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَايَعَ هَؤُلَاءِ أَبْنَاءَهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ
لَكَانَتْ شُورَى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قِيلَ لَهُ: نَنْشُدُكَ اللَّهَ فِيمَنْ نَسْتَخْلِفُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ إِلَّا ابْنِي وَأَبْنَاؤُهُمْ
وَابْنِي أَحَقُّ.
قَالَ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ عَنْ مِسْكِينٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ شَبِيبٍ
عَنْ غَرْقَدَةَ، عَنِ الْمُسْتَظِلِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
يَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ وَرَبِّ الْكَعْبةِ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ ; إِذَا
سَاسَهُمْ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ الْجَاهِلِيَّةَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ قَدَمٌ فِي
الْإِسْلَامِ.
قُلْتُ: يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَكْثَرُ مَا نُقِمَ عَلَيْهِ فِي عَمَلِهِ
شُرْبُ الْخَمْرِ وَإِتْيَانُ بَعْضِ الْفَوَاحِشِ، فَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ
فَإِنَّهُ - كَمَا قَالَ جَدُّهُ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ - لَمْ يَأْمُرْ
بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسُؤْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا
لَمْ أَفْعَلْ مَعَهُ مَا
فَعَلَهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ. يَعْنِي
عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَقَالَ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِرَأْسِهِ:
قَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ دُونَ هَذَا. وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا،
وَأَكْرَمَ آلَ بَيْتِ الْحُسَيْنِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا فُقِدَ لَهُمْ
وَأَضْعَافَهُ، وَرَدَّهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي تَجَمُّلٍ وَأُبَّهَةٍ
عَظِيمَةٍ، وَقَدْ نَاحَ أَهْلُهُ فِي مَنْزِلِهِ عَلَى الْحُسَيْنِ مَعَ آلِهِ -
حِينَ كَانُوا عِنْدَهُمْ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ فَرِحَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ أَوَّلَ مَا بَلَغَهُ، ثُمَّ
نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: إِنَّ يُونُسَ
بْنَ حَبِيبٍ الْجَرْمِيَّ حَدَّثَهُ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ ابْنُ زِيَادٍ
الْحُسَيْنَ وَبَنِي أَبِيهِ، بَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى يَزِيدَ، فَسُرَّ
بِقَتْلِهِمْ أَوَّلًا، وَحَسُنَتْ بِذَلِكَ مَنْزِلَةُ ابْنِ زِيَادٍ عِنْدَهُ،
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى نَدِمَ، فَكَانَ يَقُولُ: وَمَا كَانَ
عَلَيَّ لَوِ احْتَمَلْتُ الْأَذَى وَأَنْزَلْتُهُ فِي دَارِي وَحَكَّمْتُهُ
فِيمَا يُرِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ وَكَفٌ وَوَهْنٌ فِي
سُلْطَانِي ; حِفْظًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرِعَايَةً لِحَقِّهِ وَقَرَابَتِهِ. ثُمَّ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ ابْنَ
مَرْجَانَةَ فَإِنَّهُ أَخْرَجَهُ وَاضْطَرَّهُ، وَقَدْ كَانَ سَأَلَهُ أَنْ
يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ أَوْ يَأْتِيَنِي أَوْ يَكُونَ بِثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ
الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَأَبَى
عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ، فَبَغَّضَنِي بِقَتْلِهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَزَرَعَ لِي
فِي قُلُوبِهِمُ الْعَدَاوَةَ، فَأَبْغَضَنِي الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ بِمَا
اسْتَعْظَمَ النَّاسُ مِنْ قَتْلِي حُسَيْنًا، مَا لِي وَلِابْنِ مَرْجَانَةَ،
لَعَنَهُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا خَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
عَنْ طَاعَتِهِ وَخَلَعُوهُ، وَوَلَّوْا عَلَيْهِمُ ابْنَ مُطِيعٍ وَابْنَ
حَنْظَلَةَ لَمْ يَذْكُرُوا عَنْهُ - وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لَهُ -
إِلَّا مَا ذَكَرُوهُ عَنْهُ مِنْ شُرْبِهِ الْخَمْرَ وَإِتْيَانِهِ بَعْضَ
الْقَاذُورَاتِ، لَمْ يَتَّهِمُوهُ بِزَنْدَقَةٍ كَمَا يَقْذِفُهُ بِذَلِكَ بَعْضُ
الرَّوَافِضِ، بَلْ قَدْ كَانَ فَاسِقًا، وَالْفَاسِقُ لَا يَجُوزُ خَلْعُهُ ;
لِمَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَوُقُوعِ الْهَرْجِ، كَمَا
وَقَعَ زَمَنَ الْحَرَّةِ، فَإِنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَرُدُّهُمْ إِلَى
الطَّاعَةِ، وَأَنْظَرَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا لَمْ يَرْجِعُوا
قَاتَلَهُمْ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذَا كِفَايَةٌ، وَلَكِنَّهُ تَجَاوَزَ الْحَدَّ
فِي أَمْرِهِ أَمِيرَ الْحَرْبِ أَنْ يُبِيحَ الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
حَتَّى وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَجَمَاعَاتُ أَهْلِ
بَيْتِ النُّبُوَّةِ مِمَّنْ لَمْ يَنْقُضِ الْعَهْدَ، وَلَا بَايَعَ أَحَدًا
بَعْدَ بَيْعَتِهِ لِيَزِيدَ ; كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ
قَالَ: لَمَّا خَلَعَ النَّاسُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ
بَنِيهِ وَأَهْلَهُ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا
بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الْغَادِرَ
يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ
". وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَدْرِ - إِلَّا أَنْ
يَكُونَ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ - أَنْ
يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهُ ثُمَّ يَنْكُثُ
بَيْعَتَهُ، فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ
مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ، فَيَكُونَ الصَّيْلَمُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ صَخْرِ بْنِ
جُوَيْرِيَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَيْفٍ
الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، فَذَكَرَهُ مِثْلَهُ.
قَالَ: وَمَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ وَأَصْحَابُهُ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ فَأَرَادُوهُ عَلَى خَلْعِ يَزِيدَ، فَأَبَى، فَقَالَ ابْنُ
مُطِيعٍ: إِنَّ يَزِيدَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَيَتَعَدَّى
حُكْمَ الْكِتَابِ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا رَأَيْتُ مِنْهُ مَا تَذْكُرُونَ، وَقَدْ
حَضَرْتُهُ وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ، فَرَأَيْتُهُ مُوَاظِبًا عَلَى الصَّلَاةِ،
مُتَحَرِّيًا لِلْخَيْرِ، يَسْأَلُ عَنِ الْفِقْهِ، مُلَازِمًا لِلسُّنَّةِ.
قَالُوا: فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ تَصَنُّعًا لَكَ. فَقَالَ: وَمَا الَّذِي
خَافَ مِنِّي أَوْ رَجَا حَتَّى يُظْهِرَ إِلَيَّ الْخُشُوعَ ؟ ! أَفَأَطْلَعَكُمْ
عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ؟ فَلَئِنْ كَانَ أَطْلَعَكُمْ عَلَى
ذَلِكَ إِنَّكُمْ لَشُرَكَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَطْلَعَكُمْ فَمَا يَحِلُّ
لَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا بِمَا لَمْ تَعْلَمُوا. قَالُوا: إِنَّهُ عِنْدَنَا
لَحَقٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَأَيْنَاهُ. فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ أَبَى اللَّهُ
ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الشَّهَادَةِ، فَقَالَ: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ [ الزُّخْرُفِ: 86 ]. وَلَسْتُ مِنْ أَمْرِكُمْ فِي شَيْءٍ. قَالُوا:
فَلَعَلَّكَ تَكْرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ غَيْرُكَ، فَنَحْنُ نُوَلِّيكَ
أَمْرَنَا. قَالَ: مَا أَسْتَحِلُّ الْقِتَالَ عَلَى مَا تُرِيدُونَنِي
عَلَيْهِ تَابِعًا وَلَا مَتْبُوعًا.
قَالُوا: فَقَدْ قَاتَلْتَ مَعَ أَبِيكَ. قَالَ جِيئُونِي بِمِثْلِ أَبِي
أُقَاتِلُ عَلَى مِثْلِ مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: فَمُرِ ابْنَيْكَ أَبَا
هَاشِمٍ وَالْقَاسِمَ بِالْقِتَالِ مَعَنَا. قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُمَا قَاتَلْتُ.
قَالُوا: فَقُمْ مَعَنَا مَقَامًا تَحُضُّ النَّاسَ فِيهِ عَلَى الْقِتَالِ.
قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! آمُرُ النَّاسَ بِمَا لَا أَفْعَلُهُ وَلَا أَرْضَاهُ
؟ ! إِذَا مَا نَصَحْتُ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ. قَالُوا: إِذًا نُكْرِهُكَ. قَالَ:
إِذًا آمُرُ النَّاسَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَلَّا يُرْضُوا الْمَخْلُوقَ بِسَخَطِ
الْخَالِقِ. وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، ثَنَا
ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ ابْنَ عُمَرَ دَخَلَ وَهُوَ مَعَهُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ، فَلَمَّا دَخَلَ
عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ضَعُوا لَهُ وِسَادَةً.
فَقَالَ: إِنَّمَا جِئْتُكَ لِأُحَدِّثَكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ نَزَعَ يَدًا
مِنْ طَاعَةٍ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ
مَاتَ مُفَارِقَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ يَمُوتُ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ، وَتَابَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ. وَقَدْ رَوَاهُ
اللَّيْثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ آلِ أَبِي طَالِبٍ
وَلَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَيَّامَ الْحَرَّةِ، وَلَمَّا قَدِمَ
مُسْلِمُ بْنُ عُقْبَةَ الْمَدِينَةَ أَكْرَمَ أَبِي وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ،
وَأَعْطَاهُ كِتَابَ أَمَانٍ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ، أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ عُقْبَةَ بَعَثَ رَوْحَ بْنَ
زِنْبَاعٍ إِلَى يَزِيدَ بِبِشَارَةِ
الْحَرَّةِ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا
وَقَعَ قَالَ: وَاقَوْمَاهُ. ثُمَّ دَعَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّ
فَقَالَ لَهُ: تَرَى مَا لَقِيَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَمَا الرَّأْيُ الَّذِي
يُجْبِرُهُمْ ؟ قَالَ: الطَّعَامُ وَالْأَعْطِيَةُ. فَأَمَرَ بِحَمْلِ الطَّعَامِ
إِلَيْهِمْ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمْ أَعْطِيَتَهُ. وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ
كَذَبَةُ الرَّوَافِضِ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ شَمِتَ بِهِمْ وَشَفَى بِقَتْلِهِمْ،
وَأَنَّهُ أَنْشَدَ - إِمَّا ذِكْرًا وَإِمَّا أَثَرًا - شِعْرَ ابْنِ
الزِّبَعْرَى الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ بْنِ بَسَّامٍ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ
هَارُونَ الرَّشِيدَ يُنْشِدُ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ:
إِنَّهَا بَيْنَ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ حِينَ تَنْمِي وَبَيْنَ عَبْدِ مَنَافِ
وَلَهَا فِي الْمُطَيَّبِينَ جُدُودٌ ثُمَّ نَالَتْ مَكَارِمَ الْأَخْلَافِ
بِنْتُ عَمِّ النَّبِيِّ أَكْرَمُ مَنْ يَمْ شِي بِنَعْلٍ عَلَى التُّرَابِ
وَحَافِي
لَنْ تَرَاهَا عَلَى التَّبَذُّلِ وَالْغِلْ ظَةِ إِلَّا كَدُرَّةِ الْأَصْدَافِ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: أَنْشَدَنِي عَمِّي مُصَعَبٌ لِيَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ:
آبَ هَذَا الْهَمُّ فَاكْتَنَعَا وَأَمَرَّ النَّوْمُ فَامْتَنَعَا
رَاعِيًا لِلنَّجْمِ أَرْقُبُهُ فَإِذَا مَا كَوْكَبٌ طَلَعَا
حَامَ حَتَّى إِنَّنِي لَأَرَى أَنَّهُ
بِالْغَوْرِ قَدْ وَقَعَا
وَلَهَا بِالْمَاطِرُونِ إِذَا أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي جَمَعَا
نُزْهَةٌ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ نَزَلَتْ مِنْ جِلَّقَ بِيَعَا
فِي قِبَابٍ وَسْطَ دَسْكَرَةٍ حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
وَقَائِلَةٍ لِي حِينَ شَبَّهْتُ وَجْهَهَا بِبَدْرِ الدُّجَى يَوْمًا وَقَدْ
ضَاقَ مَنْهَجِي
تُشَبِّهُنِي بِالْبَدْرِ هَذَا تَنَاقُصٌ بِقَدْرِي وَلَكِنْ لَسْتُ أَوَّلَ مَنْ
هُجِي
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْبَدْرَ عِنْدَ كَمَالِهِ إِذَا بَلَغَ التَّشْبِيهَ عَادَ
كَدُمْلُجِ
فَلَا فَخْرَ إِنْ شَبَّهْتَ بِالْبَدْرِ مَبْسَمِي وَبِالسِّحْرِ أَجْفَانِي
وَبِاللَّيْلِ مَدْعَجِي
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجَزَرِيِّ قَالَ:
كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ جَارِيَةٌ
مُغَنِّيَةٌ يُقَالُ لَهَا:
سَلَّامَةُ. مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَجْهًا، وَأَتَمِّهِنَّ عَقْلًا
وَأَحْسَنِهِنَّ حَدِيثًا، قَدْ قَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَرَوَتِ الشِّعْرَ
وَقَالَتْهُ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ وَالْأَحْوَصُ بْنُ
مُحَمَّدٍ يَجْلِسَانِ إِلَيْهَا، فَعَلِقَتِ الْأَحْوَصَ، وَصَدَّتْ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، فَتَرَحَّلَ ابْنُ حَسَّانَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
فَامْتَدَحَهُ، وَدَلَّهُ عَلَى سَلَّامَةَ وَجَمَالِهَا وَحُسْنِهَا
وَفَصَاحَتِهَا، وَقَالَ: لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَنْ تَكُونَ مِنْ سُمَّارِكَ. فَأَرْسَلَ يَزِيدُ، فَاشْتُرِيَتْ لَهُ،
وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ، فَوَقَعَتْ مِنْهُ مَوْقِعًا عَظِيمًا، وَفَضَّلَهَا عَلَى
جَمِيعِ مَنْ عِنْدَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَرَّ
بِالْأَحْوَصِ، فَوَجَدَهُ مَهْمُومًا، فَأَرَادَ أَنْ يَزِيدَهُ إِلَى مَا بِهِ
فَقَالَ:
يَا مُبْتَلًى بِالْحُبِّ مَفْدُوحَا لَاقَى مِنَ الْحُبِّ تَبَارِيحَا
أَفْحَمَهُ الْحُبُّ فَمَا يَنْثَنِي إِلَّا بِكَأْسِ الْحُبِّ مَصْبُوحَا
وَصَارَ مَا يُعْجِبُهُ مُغْلَقًا عَنْهُ وَمَا يَكْرَهُ مَفْتُوحَا
قَدْ حَازَهَا مَنْ أَصْبَحَتْ عِنْدَهُ يَنَالُ مِنْهَا الشَّمَّ وَالرِّيحَا
خَلِيفَةُ اللَّهِ فَسَلِّ الْهَوَى وَعَزِّ قَلْبًا مِنْكَ مَجْرُوحَا
قَالَ: فَأَمْسَكَ الْأَحْوَصُ عَنْ جَوَابِهِ، ثُمَّ غَلَبَهُ وَجْدُهُ
عَلَيْهَا، فَرَحَلَ إِلَى يَزِيدَ، فَامْتَدَحَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ
أَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، فَدَسَّتْ إِلَيْهِ سَلَّامَةُ
خَادِمًا، وَأَعْطَتْهُ مَالًا عَلَى أَنْ يُدْخِلَهُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَ
الْخَادِمُ يَزِيدَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: امْضِ لِرِسَالَتِهَا. فَفَعَلَ وَأَدْخَلَ
الْأَحْوَصَ عَلَيْهَا، وَجَلَسَ يَزِيدُ فِي مَكَانٍ يَرَاهُمَا وَلَا
يَرَيَانِهِ، فَلَمَّا بَصُرَتِ
الْجَارِيَةُ بِالْأَحْوَصِ بَكَتْ إِلَيْهِ وَبَكَى إِلَيْهَا، وَأَمَرَتْ
فَأُلْقِيَ لَهُ كُرْسِيٌّ، فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَشْكُو إِلَى صَاحِبِهِ شِدَّةَ الشَّوْقِ، فَلَمْ يَزَالَا يَتَحَدَّثَانِ إِلَى
السَّحَرِ، وَيَزِيدُ يَسْمَعُ كَلَامَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا
رِيبَةٌ، حَتَّى إِذَا هَمَّ الْأَحْوَصُ بِالْخُرُوجِ قَالَ:
أَمْسَى فُؤَادِيَ فِي هَمٍّ وَبَلْبَالِ مِنْ حُبِّ مَنْ لَمْ أَزَلْ مِنْهُ
عَلَى بَالِ
فَقَالَتْ:
صَحَا الْمُحِبُّونَ بَعْدَ النَّأْيِ إِذْ يَئِسُوا وَقَدْ يَئِسْتُ وَمَا
أَصْحُو عَلَى حَالِ
فَقَالَ:
مَنْ كَانَ يَسْلُو بِيَأْسٍ عَنْ أَخِي ثِقَةٍ فَعَنْكِ سَلَّامَ مَا أَمْسَيْتُ
بِالسَّالِي
فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ وَاللَّهِ لَا أَنْسَاكَ يَا شَجَنِي حَتَّى تُفَارِقَ مِنِّي الرُّوحُ
أَوْصَالِي
فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا خَابَ مَنْ أَمْسَى وَأَنْتِ لَهُ يَا قُرَّةَ الْعَيْنِ فِي أَهْلٍ
وَفِي مَالِ
قَالَ: ثُمَّ وَدَّعَهَا وَخَرَجَ، فَأَخَذَهُ يَزِيدُ، وَدَعَا بِهَا فَقَالَ:
أَخْبِرَانِي عَمَّا كَانَ فِي لَيْلَتِكُمَا وَاصْدُقَانِي. فَأَخْبَرَاهُ
وَأَنْشَدَاهُ مَا قَالَا، فَلَمْ يَخْرِمَا حَرْفًا، وَلَا غَيَّرَا شَيْئًا
مِمَّا سَمِعَهُ. فَقَالَ لَهَا يَزِيدُ: أَتُحِبِّينَهُ ؟ قَالَتْ: إِي وَاللَّهِ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:
حُبًّا شَدِيدًا جَرَى كَالرُّوحِ فِي جَسَدِي فَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الرُّوحِ
وَالْجَسَدِ
فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهَا ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:
حُبًّا شَدِيدًا تَلِيدًا غَيْرَ مُطَّرِفٍ بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِثْلَ النَّارِ
يَضْطَرِمُ
فَقَالَ يَزِيدُ: إِنَّكُمَا
لَتَصِفَانِ حُبًّا شَدِيدًا، خُذْهَا يَا أَحْوَصُ فَهِيَ لَكَ. وَوَصَلَهُ
صِلَةً سَنِيَّةً. فَرَجَعَ بِهَا الْأَحْوَصُ إِلَى الْحِجَازِ وَهُوَ قَرِيرُ
الْعَيْنِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَزِيدَ كَانَ قَدِ اشْتَهَرَ بِالْمَعَازِفِ وَشُرْبِ
الْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ وَالصَّيْدِ وَاتِّخَاذِ الْغِلْمَانِ وَالْقِيَانِ
وَالْكِلَابِ وَالنِّطَاحِ بَيْنَ الْكِبَاشِ وَالدِّبَابِ وَالْقُرُودِ، وَمَا
مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُصْبِحُ فِيهِ مَخْمُورًا، وَكَانَ يَشُدُّ الْقِرْدَ عَلَى
فَرَسٍ مُسَرَّجَةٍ بِحِبَالٍ وَيَسُوقُ بِهِ، وَيُلْبِسُ الْقِرْدَ قَلَانِسَ
الذَّهَبِ، وَكَذَلِكَ الْغِلْمَانُ، وَكَانَ يُسَابِقُ بَيْنَ الْخَيْلِ، وَكَانَ
إِذَا مَاتَ الْقِرْدُ حَزِنَ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ حَمَلَ
قِرْدَةً وَجَعَلَ يُنَقِّزُهَا فَعَضَّتْهُ. وَذَكَرُوا عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي مَذْعُورٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ قَالَ: آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: اللَّهُمَّ
لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا لَمْ أُحِبُّهُ، وَلَمْ أُرِدْهُ، وَاحْكُمْ بَيْنِي
وَبَيْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: آمَنْتُ
بِاللَّهِ الْعَظِيمِ.
مَاتَ يَزِيدُ بِحُوَّارِينَ مِنْ قُرَى دِمَشْقَ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: يَوْمَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْهُ. سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ فِي مُنْتَصَفِ رَجَبٍ
سَنَةَ سِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ - وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ.
وَقِيلَ: سَبْعٍ - وَعِشْرِينَ. وَمَعَ هَذَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي سِنِّهِ
وَمَبْلَغِ أَيَّامِهِ فِي الْإِمَارَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَإِذَا
تَأَمَّلْتَ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ مِنْ هَذِهِ التَّحْدِيدَاتِ انْزَاحَ عَنْكَ
الْإِشْكَالُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاوَزَ
الْأَرْبَعِينَ حِينَ مَاتَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ حُمِلَ إِلَى دِمَشْقَ
وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
الْبَابِ الصَّغِيرِ، وَفِي أَيَّامِهِ وُسِّعَ النَّهْرُ الْمُسَمَّى بِيَزِيدَ،
فِي ذَيْلِ جَبَلِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا، فَوَسَّعَهُ أَضْعَافَ
مَا كَانَ يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْمَاءِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُظَفَّرِ الْعَبْدِيُّ قَاضِي
الْبَحْرَيْنِ مِنْ لَفْظِهِ وَكَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ قَالَ: رَأَيْتُ يَزِيدَ
بْنَ مُعَاوِيَةَ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ قَتَلْتَ الْحُسَيْنَ ؟
فَقَالَ: لَا. فَقُلْتُ: لَهُ: هَلْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ،
وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّةَ. قُلْتُ: فَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مُعَاوِيَةَ يَحْمِلُ يَزِيدَ
فَقَالَ: " رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَحْمِلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ
النَّارِ " ؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهُوَ
كَمَا قَالَ، فَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ لَمْ يُولَدْ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنَّمَا وُلِدَ بَعْدَ
الْعِشْرِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ:
ذِكْرُ أَوْلَادِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعَدَدِهِمْ
فَمِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يُكَنَّى أَبَا لَيْلَى،
وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ:
إِنِّي أَرَى فِتْنَةً قَدْ حَانَ
أَوَّلُهَا وَالْمُلْكُ بَعْدَ أَبِي لَيْلَى لِمَنْ غَلَبَا
وَخَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، يُكَنَّى أَبَا هَاشِمٍ، كَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ أَصَابَ
عِلْمَ الْكِيمْيَاءِ. وَأَبُو سُفْيَانَ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ أَبِي
هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا
بَعْدَ يَزِيدَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا
الشَّاعِرُ:
انْعَمِي أُمَّ خَالِدٍ رُبَّ سَاعٍ لِقَاعِدٍ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْأُسْوَارُ. وَكَانَ مِنْ
أَرَمَى الْعَرَبِ، وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ
وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّاعِرُ:
زَعَمَ النَّاسُ أَنَّ خَيْرَ قُرَيْشٍ كُلِّهِمْ حِينَ يُذْكَرُ الْأُسْوَارُ
وَعَبْدُ اللَّهِ الْأَصْغَرُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُتْبَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ،
وَالرَّبِيعُ، وَمُحَمَّدٌ، لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى.
إِمَارَةُ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَيُقَالُ: أَبُو يَزِيدَ. وَيُقَالُ: أَبُو لَيْلَى
الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ. وَأُمُّهُ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ
عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، بُويِعَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ، وَكَانَ وَلِيَّ
عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَاسِكًا، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ. قِيلَ:
إِنَّهُ مَكَثَ فِي الْمُلْكِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: عِشْرِينَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: شَهْرَيْنِ. وَقِيلَ: شَهْرًا وَنِصْفَ شَهْرٍ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ وَقِيلَ: وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَكَانَ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ مَرِيضًا، لَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَكَانَ
الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَيَسُدُّ الْأُمُورَ.
وَمَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ هَذَا عَنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَقِيلَ:
ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقِيلَ: تِسْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: عِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ
سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ خَالِدٌ،
وَقِيلَ: عُثْمَانُ بْنُ عَنْبَسَةَ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. وَهَذَا
هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ أَوْصَى إِلَيْهِ
بِذَلِكَ، وَشَهِدَ دَفْنَهُ مَرْوَانُ
بْنُ الْحَكَمِ، وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي
بِالنَّاسِ بَعْدَهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِمَرْوَانَ بِالشَّامِ، وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ. وَلِمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قِيلَ
لَهُ: أَلَا تُوصِي ؟ فَقَالَ: لَا أَتَزَوَّدُ مَرَارَتَهَا وَأَتْرُكُ
حَلَاوَتَهَا لِبَنِي أُمَيَّةَ. وَكَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَبْيَضَ شَدِيدَ
الْبَيَاضِ، كَثِيرَ الشَّعْرِ، كَبِيرَ الْعَيْنَيْنِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، أَقْنَى
الْأَنْفِ، مُدَوَّرَ الرَّأْسِ، جَمِيلَ الْوَجْهِ دَقِيقَهُ، حَسَنَ الْجِسْمِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَخَالِدٌ
إِخْوَةٌ، وَكَانُوا مِنْ صَالِحِي الْقَوْمِ. وَقَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ،
وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ:
تَلَقَّاهَا يَزِيدٌ عَنْ أَبِيهِ فَدُونَكَهَا مُعَاوِي عَنْ يَزِيدَا
أَدِيرُوهَا بَنِي حَرْبٍ عَلَيْكُمْ
وَلَا تَرْمُوا بِهَا الْغَرَضَ الْبَعِيدَا
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ هَذَا نَادَى فِي النَّاسِ: الصَّلَاةُ
جَامِعَةٌ. ذَاتَ يَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ أَمْرَكُمْ وَأَنَا ضَعِيفٌ عَنْهُ،
فَإِنْ أَحْبَبْتُمْ تَرَكْتُهَا لِرَجُلٍ قَوِيٍّ، كَمَا تَرَكَهَا الصِّدِّيقُ
لِعُمَرَ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا شُورَى فِي سِتَّةٍ مِنْكُمْ كَمَا
تَرَكَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَلَيْسَ فِيكُمْ مَنْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ،
وَقَدْ تَرَكْتُ لَكُمْ أَمْرَكُمْ، فَوَلُّوا عَلَيْكُمْ مَنْ يَصْلُحُ لَكُمْ.
ثُمَّ نَزَلَ
وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ
مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَيُقَالُ: إِنَّهُ سُقِيَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ طُعِنَ.
وَقَدْ حَضَرَ مَرْوَانُ دَفْنَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ مَرْوَانُ:
أَتَدْرُونَ مَنْ دَفَنْتُمْ ؟ قَالُوا: نَعَمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ يَزِيدَ. فَقَالَ
مَرْوَانُ: هُوَ أَبُو لَيْلَى الَّذِي قَالَ فِيهِ أَزْنَمُ الْفَزَارِيُّ:
إِنِّي أَرَى فِتْنَةً تَغْلِي مَرَاجِلُهَا وَالْمُلْكُ بَعْدَ أَبِي لَيْلَى
لِمَنْ غَلَبَا
قَالُوا: كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ. وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا لَيْلَى تُوُفِّيَ
عَنْ غَيْرِ عَهْدٍ مِنْهُ إِلَى أَحَدٍ فَتَغَلَّبَ عَلَى الْحِجَازِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا مَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ، وَبَايَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادٍ حَتَّى يَتَوَلَّى
عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةٌ، فَسَارَ فِيهِمْ سَلْمٌ سِيرَةً حَسَنَةً أَحَبُّوهُ
عَلَيْهَا، ثُمَّ أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَخَرَجَ الْقُرَّاءُ
وَالْخَوَارِجُ بِالْبَصْرَةِ، وَعَلَيْهِمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَطَرَدُوا
عَنْهُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ - بَعْدَ مَا كَانُوا بَايَعُوهُ
عَلَيْهِمْ - حَتَّى يَصِيرَ لِلنَّاسِ إِمَامٌ، فَذَهَبَ إِلَى الشَّامِ بَعْدَ
فُصُولٍ يَطُولُ ذَكَرُهَا، وَقَدْ بَايَعُوا بَعْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْمَعْرُوفَ بِبَبَّةَ، وَأُمُّهُ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي
سُفْيَانَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى شُرْطَةِ الْبَصْرَةِ هِمْيَانَ بْنَ عَدِيٍّ
السَّدُوسِيَّ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ، سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
وَبَايَعْتُ أَقْوَامًا وَفَيْتُ بِعَهْدِهِمْ وَبَبَّةُ قَدْ بَايَعْتُهُ غَيْرَ
نَادِمِ
فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ لَزِمَ بَيْتَهُ، فَكَتَبَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَكَتَبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِهِمْ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ كَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَخَرَجَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَنَفِيُّ بِالْيَمَامَةِ، وَخَرَجَ بَنُو مَاحُوزَ فِي الْأَهْوَازِ وَفَارِسَ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
إِمَارَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَعِنْدَ ابْنِ حَزْمٍ وَطَائِفَةٍ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ آنَذَاكَ
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ أَقْلَعَ الْجَيْشُ عَنْ مَكَّةَ،
وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ عَائِذٌ
بِالْبَيْتِ، مَعَ أَمِيرِهِمْ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ السَّكُونِيِّ وَرَجَعُوا
عَنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ بِالْحِجَازِ وَمَا وَالَاهَا، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَ يَزِيدَ
بَيْعَةً عَامَّةً هُنَاكَ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَخَاهُ عُبَيْدَةَ
بْنَ الزُّبَيْرِ، وَأَمَرَهُ بِإِجْلَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ عَنِ الْمَدِينَةِ،
فَأَجْلَاهُمْ فَرَحَلُوا إِلَى الشَّامِ، وَفِيهِمْ مَرْوَانُ وَابْنُهُ عَبْدُ
الْمَلِكِ، ثُمَّ بَعَثَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ
حُرُوبٍ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَفِتَنٍ كَثِيرَةٍ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا، غَيْرَ
أَنَّهُمْ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَقَامُوا عَلَيْهِمْ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعَةِ أُمَرَاءَ مِنْ بَيْنِهِمْ، ثُمَّ اضْطَرَبَتْ أُمُورُهُمْ، ثُمَّ
بَعَثُوا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ يَجْلِبُونَهُ إِلَى
أَنْفُسِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ.
وَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى الْخَرَاجِ، وَاسْتَوْثَقَ لَهُ الْمِصْرَانِ جَمِيعًا، وَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مِصْرَ فَبَايَعُوهُ. وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَحْدَمٍ، وَأَطَاعَتْ لَهُ الْجَزِيرَةُ. وَبَعَثَ عَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَبَعَثَ إِلَى الْيَمَنِ فَبَايَعُوهُ، وَإِلَى خُرَاسَانَ فَبَايَعُوهُ، وَإِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ بِالشَّامِ فَبَايَعَ، وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا مِنْ بِلَادِ الْأُرْدُنِّ لَمْ يُبَايِعُوهُ ; لِأَنَّهُمْ بَايَعُوا مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ لَمَّا رَجَعَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، وَكَانَ قَدِ الْتَفَّ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ يُدَافِعُونَ عَنْهُ ; مِنْهُمْ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبَاضٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِهِمْ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ فِي الْخِلَافَةِ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: إِنَّكُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ ; لِأَنَّكُمْ قَاتَلْتُمْ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَمْ تَعْلَمُوا رَأْيَهُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَكَانُوا يَنْتَقِصُونَ عُثْمَانَ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ عَنْ عُثْمَانَ، فَأَجَابَهُمْ فِيهِ بِمَا يَسُوءُهُمْ، وَذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَالسِّيرَةِ الْحَسَنَةِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَفَرُوا عَنْهُ، وَفَارَقُوهُ، وَقَصَدُوا بِلَادَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، فَتَفَرَّقُوا فِيهَا بِأَبْدَانِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ
وَمَسَالِكِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ
الْمُنْتَشِرَةِ، الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ وَلَا تَنْحَصِرُ ; لِأَنَّهَا
مُفَرَّعَةٌ عَلَى الْجَهْلِ وَقُوَّةِ النُّفُوسِ، وَالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ،
وَمَعَ هَذَا اسْتَحْوَذُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْكُوَرِ، حَتَّى
انْتُزِعَتْ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أَرْضِ
الْحِجَازِ، وَارْتَحَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى
الشَّامِ، وَانْتَقَلَتْ بَنُو أُمَيَّةَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ،
اجْتَمَعُوا إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَدْ كَانَ عَزَمَ عَلَى أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ بَايَعَ أَهْلُهَا الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ عَلَى
أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ وَيُقِيمَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى تَجْتَمِعَ أُمَّةُ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالضَّحَّاكُ يُرِيدُ أَنْ
يُبَايِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ بَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ النُّعْمَانُ
بْنُ بَشِيرٍ بِحِمْصَ، وَبَايَعَ لَهُ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ
بِقِنَّسْرِينَ، وَبَايَعَ لَهُ نَاتِلُ بْنُ قَيْسٍ بِفِلَسْطِينَ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا
رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيَّ، فَلَمْ يَزَلْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادٍ وَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، حَتَّى
ثَنَوْهُ عَنْ رَأْيِهِ، وَحَذَّرُوهُ مِنْ دُخُولِ سُلْطَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
وَمُلْكِهِ إِلَى
الشَّامِ وَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ
شَيْخُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ. وَالْتَفَّ
عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَعَ قَوْمِهِ بَنِي أُمَيَّةَ وَمَعَ أَهْلِ
الْيَمَنِ، فَوَافَقَهُمْ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَاتَ شَيْءٌ. وَكَتَبَ حَسَّانُ
بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ يَثْنِيهِ
عَنِ الْمُبَايَعَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيُعَرِّفُهُ أَيَادِيَ بَنِي
أُمَيَّةَ عِنْدَهُ وَإِحْسَانَهُمْ إِلَيْهِ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ
وَشَرَفَهُمْ، وَقَدْ بَايَعَ حَسَّانُ بْنُ مَالِكٍ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ لِبَنِي
أُمَيَّةَ، وَهُوَ يَدْعُو إِلَى ابْنِ أُخْتِهِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، وَبَعَثَ إِلَى الضَّحَّاكِ بِذَلِكَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ
كِتَابَهُ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَبَعَثَ
بِالْكِتَابِ مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: نَاغِضَةُ بْنُ كُرَيْبٍ الطَّابِخِيُّ.
وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَنِي كَلْبٍ. وَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ يَقْرَأْهُ هُوَ عَلَى
النَّاسِ فَاقْرَأْهُ أَنْتَ. وَأَعْطَاهُ نُسْخَةً بِهِ، فَسَارَ إِلَى
الضَّحَّاكِ، فَأَمَرَهُ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، فَقَامَ
نَاغِضَةُ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ، فَصَدَّقَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ
النَّاسِ، وَكَذَّبَهُ آخَرُونَ، وَثَارَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ النَّاسِ،
فَقَامَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ شَابٌّ حَدَثٌ - عَلَى
دَرَجَتَيْنِ مِنَ الْمِنْبَرِ، فَسَكَّنَ النَّاسَ، وَنَزَلَ الضَّحَّاكُ
فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ، وَأَمَرَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِأُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَّقُوا نَاغِضَةَ أَنْ يُسْجَنُوا، فَثَارَتْ قَبَائِلُهُمْ، فَأَخْرَجُوهُمْ
مِنَ السِّجْنِ، وَاضْطَرَبَ أَهْلُ دِمَشْقَ فِي ابْنِ الزُّبَيْرِ وَبَنِي
أُمَيَّةَ، وَكَانَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَوُقُوفُهُمْ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
بِبَابِ الْجَيْرُونِ، فَسُمِّيَ هَذَا الْيَوْمُ يَوْمَ جَيْرُونَ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَقَدْ أَرَادَ النَّاسُ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى
عَلَيْهِمْ فَأَبَى، وَهَلَكَ فِي
تِلْكَ اللَّيَالِي، ثُمَّ إِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ صَعِدَ مِنْبَرَ
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَخَطَبَهُمْ بِهِ، وَنَالَ مِنْ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، فَقَامَ إِلَيْهِ شَابٌّ مِنْ بَنِي كَلْبٍ، فَضَرَبَهُ بِعَصًا
كَانَتْ مَعَهُ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ مُتَقَلِّدِي سُيُوفَهُمْ، فَقَامَ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ، فَاقْتَتَلُوا فِي الْمَسْجِدِ قِتَالًا شَدِيدًا ; فَقَيْسٌ وَمَنْ
لَفَّ لَفِيفَهَا يَدْعُونَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَيَنْصُرُونَ الضَّحَّاكَ
بْنَ قَيْسٍ، وَبَنُو كَلْبٍ يَدْعُونَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَإِلَى الْبَيْعَةِ
لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَيَتَعَصَّبُونَ لِيَزِيدَ وَأَهْلِ
بَيْتِهِ، فَنَهَضَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، فَدَخَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ
وَأَغْلَقَ الْبَابَ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ
لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَجَمَعَهُمْ
إِلَيْهِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَفِيهِمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَعَمْرُو بْنُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَخَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ مِمَّا كَانَ مِنْهُ، وَاتَّفَقَ
مَعَهُمْ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُمْ إِلَى حَسَّانَ بْنِ مَالِكٍ الْكَلْبِيَّ،
فَيَتَّفِقُوا عَلَى رَجُلٍ يَرْتَضُونَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ لِلْإِمَارَةِ،
فَرَكِبُوا جَمِيعًا إِلَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إِلَى الْجَابِيَةِ
لِقَصْدِ حَسَّانَ، إِذْ جَاءَ ثَوْرُ بْنُ مَعْنِ بْنِ الْأَخْنَسِ فِي قَوْمِهِ
قَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
فَأَجَبْنَاكَ، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَذَا الْأَعْرَابِيِّ لِيَسْتَخْلِفَ
ابْنَ أُخْتِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ:
فَمَا الرَّأْيُ ؟ قَالَ: الرَّأْيُ أَنْ نُظْهِرَ مَا كُنَّا نُسِرُّ، وَأَنْ
نَدْعُوَ إِلَى طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَنُقَاتِلُ عَلَيْهَا. فَمَالَ
الضَّحَّاكُ بِمَنْ مَعَهُ، فَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِهَا بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ قَيْسٍ وَمَنْ لَفَّ لَفِيفَهَا، وَبَعَثَ إِلَى
أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، وَبَايَعَ النَّاسَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَتَبَ
بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ،
فَذَكَرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِأَهْلِ
مَكَّةَ وَشَكَرَهُ عَلَى صَنِيعِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِنِيَابَةِ الشَّامِ،
وَقِيلَ: بَلْ بَايَعَ النَّاسَ لِنَفْسِهِ بِالْخِلَافَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ
أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَالَّذِي ذَكَرَهُ الْمَدَائِنِيُّ أَنَّهُ إِنَّمَا دَعَا إِلَى بَيْعَةِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ أَوَّلًا، ثُمَّ حَسَّنَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ أَنْ
يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مَكْرٌ مِنْهُ بِهِ، فَدَعَا الضَّحَّاكُ إِلَى
نَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَنَقَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَالُوا:
دَعَوْتَنَا إِلَى الْبَيْعَةِ لِرَجُلٍ فَبَايَعْنَاهُ، ثُمَّ خَلَعْتَهُ مِنْ
غَيْرِ سَبَبٍ وَلَا عُذْرٍ، وَدَعَوْتَ إِلَى نَفْسِكَ ! فَرَجَعَ إِلَى
الْبَيْعَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَسَقَطَ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ
الَّذِي أَرَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ.
وَكَانَ اجْتِمَاعُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ بِهِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ
بِمَرْوَانَ وَتَحْسِينِهِ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ فَارَقَهُ
لِيَخْدَعَ لَهُ الضَّحَّاكَ، فَنَزَلَ عِنْدَهُ بِدِمَشْقَ، وَجَعَلَ يَرْكَبُ
إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، ثُمَّ أَشَارَ ابْنُ زِيَادٍ عَلَى الضَّحَّاكِ أَنْ
يَخْرُجَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَيَدْعُوَ بِالْجُيُوشِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ
أَمْكَنَ لَهُ، فَرَكِبَ الضَّحَّاكُ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ، فَنَزَلَ بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ بَنُو أُمَيَّةَ وَمَنْ
تَبِعَهَا بِالْأُرْدُنِّ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ مِنْ هُنَالِكَ مِنْ قَوْمِ
حَسَّانَ بْنِ مَالِكٍ مِنْ بَنِي كَلْبٍ.
وَلَمَّا رَأَى مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مَا انْتَظَمَ مِنَ الْبَيْعَةِ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَمَا اسْتَوْسَقَ لَهُ مِنَ الْمُلْكِ، عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ
إِلَيْهِ لِيُبَايِعَهُ وَلِيَأْخُذَ مِنْهُ أَمَانًا لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَسَارَ
حَتَّى بَلَغَ أَذْرِعَاتٍ فَلَقِيَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مُقْبِلًا
مِنَ الْعِرَاقِ، فَصَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَهَجَّنَ رَأْيَهُ، وَاجْتَمَعَ
إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ
زِيَادٍ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ وَخَلْقٌ، فَقَالُوا لِمَرْوَانَ: أَنْتَ كَبِيرُ
قُرَيْشٍ وَرَئِيسُهَا، وَخَالِدُ بْنُ يَزِيدَ غُلَامٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ كَهْلٌ، وَإِنَّمَا يُقْرَعُ الْحَدِيدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، فَلَا
تُبَارِهِ بِهَذَا الْغُلَامِ، وَارْمِ بْنحْرِكَ فِي نَحْرِهِ، وَنَحْنُ
نُبَايِعُكَ، ابْسُطْ يَدَكَ. فَبَسَطَ يَدَهُ، فَبَايَعُوهُ
بِالْجَابِيَةِ فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ. قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
فَلَمَّا تَمَهَّدَ لَهُ الْأَمْرُ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ نَحْوَ الضَّحَّاكِ بْنِ
قَيْسٍ، فَالْتَقَيَا بِمَرْجِ رَاهِطٍ، فَغَلَبَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ،
وَقَتَلَهُ وَقَتَلَ مِنْ قَيْسٍ مَقْتَلَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، عَلَى مَا
سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي أَوَّلِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. فَإِنَّ الْوَاقِدِيَّ
وَغَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
أَوَّلِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ.
وَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ وَغَيْرِهِ قَالُوا:
إِنَّمَا كَانَتْ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَالْمَدَائِنِيُّ، وَأَبُو
سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَتْ وَقْعَةُ
مَرْجِ رَاهِطٍ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ وَمَقْتَلُ
الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْفِهْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّحَّاكَ كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ
أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَ يُصَلَّى عَنْهُ إِذَا اشْتَغَلَ أَوْ غَابَ، وَيُقِيمُ
الْحُدُودَ، وَيَسُدُّ الْأُمُورَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ قَامَ بِأَعْبَاءِ
بَيْعَةِ يَزِيدَ ابْنِهِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بَايَعَ النَّاسَ
لِمُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ، فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بَايَعَهُ
أَهْلُ دِمَشْقَ حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ، فَلَمَّا اتَّسَعَتِ
الْبَيْعَةُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَزَمَ عَلَى الْمُبَايَعَةِ لَهُ، فَخَطَبَ
النَّاسَ يَوْمًا وَتَكَلَّمَ فِي يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَذَمَّهُ، فَقَامَتْ
فِتْنَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، حَتَّى اقْتَتَلَ النَّاسُ فِيهِ
بِالسُّيُوفِ، فَسَكَنَ النَّاسُ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ مِنَ
الْخَضْرَاءِ، وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ
عَلَى أَنْ يَرْكَبُوا إِلَى حَسَّانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ وَهُوَ
بِالْأُرْدُنِّ، فَيَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ عَلَى مَنْ يَرَاهُ أَهْلًا
لِلْإِمَارَةِ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ حِسَانُ يُرِيدُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ
أُخْتِهِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَزِيدُ ابْنُ مَيْسُونَ، وَمَيْسُونُ بِنْتُ
بَحْدَلٍ، فَلَمَّا رَكِبَ الضَّحَّاكُ مَعَهُمُ انْخَذَلَ بِأَكْثَرِ الْجَيْشِ،
فَرَجَعَ إِلَى دِمَشْقَ، فَامْتَنَعَ بِهَا، وَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءِ
الْأَجْنَادِ، فَبَايَعَهُمْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَارَ بَنُو أُمَيَّةَ
وَمَعَهُمْ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، وَخَالِدٌ وَعَبْدُ
اللَّهِ ابْنَا يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، حَتَّى اجْتَمَعُوا بِحَسَّانَ بْنِ
مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ بِالْجَابِيَةِ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةً طَائِلَةً
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَعَزَمَ مَرْوَانُ عَلَى
الرَّحِيلِ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ لِيُبَايِعَهُ، وَيَأْخُذَ أَمَانًا مِنْهُ
لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَمَرَ
بِإِجْلَائِهِمْ عَنِ الْمَدِينَةِ، فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَذَرِعَاتٍ، فَلَقِيَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مُقْبِلًا مِنَ الْعِرَاقِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ، وَمَعَهُ حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَحَسَّنُوا لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ ; فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي قَدْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، وَخَلَعَ ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، فَلَمْ يَزَالُوا بِمَرْوَانَ حَتَّى أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ: وَأَنَا أَذْهَبُ لَكَ إِلَى الضَّحَّاكِ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَخْدَعُهُ لَكَ وَأَخْذُلُ أَمْرَهُ. فَسَارَ إِلَيْهِ وَجَعَلَ يَرْكَبُ إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَيُظْهِرُ لَهُ الْوُدَّ وَالنَّصِيحَةَ وَالْمَحَبَّةَ، ثُمَّ حَسَّنَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، وَيَخْلَعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّكَ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْهُ ; لِأَنَّكَ لَمْ تَزَلْ فِي الطَّاعَةِ مَشْهُورًا بِالْأَمَانَةِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ خَارِجٌ عَنِ النَّاسِ. فَدَعَا الضَّحَّاكُ النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَلَمْ يَصْعَدْ مَعَهُ، فَرَجَعَ إِلَى الدَّعْوَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَكِنِ انْحَطَّ بِهَا عِنْدَ النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ زِيَادٍ: إِنَّ مَنْ يَطْلُبُ مَا تَطْلُبُ لَا يَنْزِلُ الْمُدُنَ وَالْحُصُونَ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ الصَّحْرَاءَ، وَيَدْعُو بِالْجُنُودِ. فَبَرَزَ الضَّحَّاكُ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ فَنَزَلَهُ، وَأَقَامَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِدِمَشْقَ وَمَرْوَانُ وَبَنُو أُمَيَّةَ بِتَدْمُرَ، وَخَالِدٌ وَعَبْدُ اللَّهِ عِنْدَ خَالِهِمْ حَسَّانَ بِالْجَابِيَةِ، فَكَتَبَ ابْنُ زِيَادٍ إِلَى مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُظْهِرَ دَعْوَتَهُ، فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَتَزَوَّجَ بِأُمِّ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَعَظُمَ أَمْرُهُ
وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَسَارَ إِلَى مَرْجِ رَاهِطٍ نَحْوَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَأَخُوهُ عَبَّادُ بْنُ زِيَادٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ مَعَ مَرْوَانَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَبِدِمَشْقَ مِنْ جِهَتِهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي النِّمْسِ، وَقَدْ أَخْرَجَ عَامِلَ الضَّحَّاكِ مِنْهَا، وَهُوَ يَمُدُّ مَرْوَانَ بِالسِّلَاحِ وَالرِّجَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - وَيُقَالُ: كَانَ نَائِبَهُ عَلَى دِمَشْقَ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ - وَجَعَلَ مَرْوَانُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَبَعَثَ الضَّحَّاكُ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، فَأَمَدَّهُ النُّعْمَانُ بِأَهْلِ حِمْصَ عَلَيْهِمْ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ فِي أَهْلِ قِنَّسْرِينَ، فَكَانَ الضَّحَّاكُ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، عَلَى مَيْمَنَتِهِ زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو الْعُقَيْلِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ زَكَرِيَّا بْنُ شَمِرٍ الْهِلَالِيُّ، فَتَصَافُّوا، وَتَقَاتَلُوا بِالْمَرْجِ عِشْرِينَ يَوْمًا، يَلْتَقُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَشَارَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مَرْوَانَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْمُوَادَعَةِ خَدِيعَةً ; فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ عَلَى الْحَقِّ، وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. فَنُودِيَ فِي النَّاسِ بِذَلِكَ، ثُمَّ غَدَرَ أَصْحَابُ مَرْوَانَ، فَمَالُوا يَقْتُلُونَهُمْ قَتْلًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ أَصْحَابُ الضَّحَّاكِ صَبْرًا بَلِيغًا، فَقُتِلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: زُحْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. مِنْ بَنِي كَلْبٍ، طَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ، فَأَنْفَذَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ. وَصَبَرَ
مَرْوَانُ وَأَصْحَابُهُ صَبْرًا
شَدِيدًا حَتَّى فَرَّ أُولَئِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَنَادَى: لَا يُتْبَعُ
مُدْبِرٌ. ثُمَّ جِيءَ بِرَأْسِ الضَّحَّاكِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ
بَشَّرَهُ بِقَتْلِهِ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ. وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ
الشَّامِ بِيَدِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ بَكَى عَلَى نَفْسِهِ
يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، فَقَالَ: أَبَعْدَ مَا كَبِرْتُ وَضَعُفْتُ صِرْتُ إِلَى
أَنْ أَقْتُلَ النَّاسَ بِالسُّيُوفِ عَلَى الْمُلْكِ ؟ !
قُلْتُ: وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فِي الْمُلْكِ إِلَّا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ عَلَى
مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ كَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ الْأَكْبَرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ وَائِلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ
فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، أَبُو أُنَيْسٍ الْفِهْرِيُّ، أَحَدَ الصَّحَابَةِ عَلَى
الصَّحِيحِ، وَقَدْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ عِدَّةً، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعَيْنِ، وَهُوَ أَخُو فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ وَكَانَتْ أَكْبَرُ مِنْهُ
بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ عَمَّهُ. حَكَاهُ ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا صُحْبَةَ لَهُ، وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ
مِنْهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
وُلِدَ الضَّحَّاكُ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِسَنَتَيْنِ.
وَقَدْ شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ
وَسَكَنَهَا وَلَهُ بِهَا دَارٌ عِنْدَ حَجَرِ الذَّهَبِ، مِمَّا يَلِي نَهْرَ
بَرَدَى، وَكَانَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ يَوْمَ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ.
وَلَمَّا أَخَذَ مُعَاوِيَةُ الْكُوفَةَ اسْتَنَابَهُ بِهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " التَّارِيخِ " أَنَّ الضَّحَّاكَ
قَرَأَ سُورَةَ " ص " فِي الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ بِالْكُوفَةِ، فَسَجَدَ
فِيهَا فَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلْقَمَةُ وَأَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي
السُّجُودِ.
ثُمَّ اسْتَنَابَهُ مُعَاوِيَةُ عِنْدَهُ عَلَى دِمَشْقَ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ
حَتَّى مَاتَ مُعَاوِيَةُ، وَتَوَلَّى ابْنُهُ يَزِيدُ، ثُمَّ ابْنُ ابْنِهِ
مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ
الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ كَتَبَ إِلَى قَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ حِينَ مَاتَ
يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ
السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، فِتَنًا كَقِطَعِ الدُّخَانِ،
يَمُوتُ فِيهَا قَلْبُ الرَّجُلِ كَمَا يَمُوتُ بَدَنُهُ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ
مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ
أَقْوَامٌ خَلَاقَهُمْ وَدِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا قَلِيلٍ ".
وَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ قَدْ مَاتَ، وَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَأَشِقَّاؤُنَا
فَلَا تَسْبِقُونَا حَتَّى نَخْتَارَ لِأَنْفُسِنَا.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ قُتَيْبَةَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْفَرَجِ
الرِّيَاشِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بُوَيْهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ قَالَ: دَخَلَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ
مُعَاوِيَةُ:
تَطَاوَلَتْ لِلضَّحَّاكِ حَتَّى رَدَدْتُهُ إِلَى حَسَبٍ فِي قَوْمِهِ
مُتَقَاصِرِ
فَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَدْ عَلِمَ قَوْمُنَا أَنَّنَا أَحْلَاسُ الْخَيْلِ.
فَقَالَ: صَدَقْتَ، أَنْتُمْ أَحْلَاسُهَا وَنَحْنُ فُرْسَانُهَا. يُرِيدُ:
أَنْتُمْ رَاضَةٌ وَسَاسَةٌ، وَنَحْنُ الْفُرْسَانُ. وَأَرَى أَصْلَهُ مِنَ
الْحِلْسِ، وَهُوَ كِسَاءٌ يَكُونُ تَحْتَ الْبَرْدَعَةِ، أَيْ يَلْزَمُ
ظُهُورَهَا، كَمَا يَلْزَمُ الْحِلْسُ ظَهْرَ الْبَعِيرِ.
وَرَوَى أَيْضًا أَنَّ مُؤَذِّنَ دِمَشْقَ قَالَ لِلضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ:
وَاللَّهِ أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنِّي لَأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ
الضَّحَّاكُ: وَلَكِنِّي وَاللَّهِ أُبْغِضُكَ فِي اللَّهِ. قَالَ: وَلِمَ ؟
أَصْلَحَكَ اللَّهُ. قَالَ: لِأَنَّكَ تَتَرَاءَى فِي أَذَانِكَ، وَتَأْخُذُ
أَجْرًا عَلَى تَعْلِيمِكَ.
قُتِلَ الضَّحَّاكُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَذَلِكَ
لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. قَالَهُ اللَّيْثُ
بْنُ سَعْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَابْنُ زَبْرٍ،
وَالْمَدَائِنِيُّ.
وَفِيهَا قُتِلَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيُّ
وَأُمُّهُ عَمْرَةُ بِنْتُ
رَوَاحَةَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ
وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ لِلْأَنْصَارِ، فِي جُمَادَى الْأُولَى
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَأَتَتْ بِهِ أُمُّهُ تَحْمِلُهُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ وَبَشَّرَهَا بِأَنَّهُ
يَعِيشُ حَمِيدًا، وَيُقْتَلُ شَهِيدًا، وَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ، فَعَاشَ فِي
خَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَوَلِيَ نِيَابَةَ الْكُوفَةِ لِمُعَاوِيَةَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ،
ثُمَّ سَكَنَ الشَّامَ، وَوَلِيَ قَضَاءَهَا بَعْدَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ،
وَفَضَالَةُ بَعْدَ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَنَابَ بِحِمْصَ لِمُعَاوِيَةَ، وَهُوَ
الَّذِي رَدَّ آلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
الْمَدِينَةِ بِأَمْرِ يَزِيدَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى
يَزِيدَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: عَامِلْهُمْ بِمَا كَانَ
يُعَامِلُهُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ
رَآهُمْ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ. فَرَقَّ لَهُمْ يَزِيدُ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ
وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَمَرَ بِإِكْرَامِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ
رَاهِطٍ وَقُتْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ النُّعْمَانُ قَدْ أَمَدَّهُ
بِأَهْلِ حِمْصَ عَدَا عَلَيْهِ أَهِلُ حِمْصَ فَقَتَلُوهُ بِقَرْيَةٍ يُقَالُ
لَهَا: يَيْرِينُ. قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ
الْكَلَاعِيُّ. وَقِيلَ: خَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ. وَهُوَ جَدُّ خَالِدِ بْنِ
خَلِيٍّ، وَقَدْ رَثَتْهُ ابْنَتُهُ حُمَيْدَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ فَقَالَتْ:
لَيْتَ ابْنَ مُرْنَةَ وَابْنَهُ كَانُوا لِقَتْلِكَ وَاقِيَةْ وَبَنِي أُمَيَّةَ
كُلَّهُمْ
لَمْ تَبْقَ مِنْهُمْ بَاقِيَةْ جَاءَ الْبَرِيدُ بِقَتْلِهِ
يَا لَلْكِلَابِ الْعَاوِيَةْ يَسْتَفْتِحُونَ بِرَأْسِهِ
دَارَتْ عَلَيْهِمْ ثَانِيَةْ فَلْأَبْكِيَنَّ مُسِرَّةً
وَلَأَبْكِيَنَّ عَلَانِيَةْ
وَلَأَبْكِيَنَّكَ مَا حَيِيتُ
مَعَ السِّبَاعِ الْعَادِيَةْ
وَقِيلَ: إِنَّ أَعْشَى هَمْدَانَ قَدِمَ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَهُوَ
عَلَى حِمْصَ وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: مَا أَقْدَمَكَ ؟ قَالَ:
لِتَصِلَنِي وَتَحْفَظَ قَرَابَتِي وَتَقْضِيَ دَيْنِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
عِنْدِي، وَلَكِنِّي سَائِلُهُمْ لَكَ شَيْئًا. ثُمَّ قَامَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ،
ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ حِمْصَ، إِنَّ هَذَا ابْنُ عَمِّكُمْ مِنَ الْعِرَاقِ،
وَهُوَ يَسْتَرْفِدُكُمْ شَيْئًا فَمَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالُوا: احْتَكِمْ فِي
أَمْوَالِنَا. فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: قَدْ حَكَمْنَا مِنْ أَمْوَالِنَا،
كُلُّ رَجُلٍ دِينَارَيْنِ - وَكَانُوا فِي الدِّيوَانِ عِشْرِينَ أَلْفَ رَجُلٍ -
فَعَجَّلَهَا لَهُ النُّعْمَانُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَلَمَّا خَرَجَتْ أَعْطِيَاتُهُمْ أَسْقَطَ مِنْ عَطَاءِ كُلِّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ دِينَارَيْنِ.
وَمِنْ كَلَامِ النُّعْمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَوْلُهُ: إِنَّ الْهَلَكَةَ
كُلَّ الْهَلَكَةِ أَنْ تَعْمَلَ بِالسَّيِّئَاتِ فِي زَمَانِ الْبَلَاءِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي رَوَاحَةَ يَزِيدَ بْنِ أَيْهَمَ، عَنِ
الْهَيْثَمِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ، سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ عَلَى
الْمِنْبَرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ:
" إِنَّ لِلشَّيْطَانِ مَصَالِيَ
وَفُخُوخًا، وَإِنَّ مِنْ مَصَالِيهِ وَفُخُوخِهِ الْبَطَرَ بِنِعَمِ اللَّهِ،
وَالْفَخْرَ بِعَطَاءِ اللَّهِ، وَالْكِبْرَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعَ
الْهَوَى فِي غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ ".
وَمِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ،
وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا
يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدِ
اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي
الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ،
أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ تَعَالَى
مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا
سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا
وَهِيَ الْقَلْبُ ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: كَانَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَلَى حِمْصَ عَامِلًا
لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا تَمَرْوَنَ أَهْلُ حِمْصَ خَرَجَ النُّعْمَانُ
هَارِبًا، فَاتَّبَعَهُ خَالِدُ بْنُ خَلِيٍّ الْكَلَاعِيُّ فَقَتَلَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ تَزَوُّجَ
امْرَأَةً جَمِيلَةً جِدًّا، فَبَعَثَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ مَيْسُونَ أَوْ
فَاخِتَةَ ; لِتَنْظُرَ إِلَيْهَا. فَلَمَّا رَأَتْهَا أَعْجَبَتْهَا جِدًّا،
ثُمَّ
رَجَعَتْ إِلَيْهِ
فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِيهَا ؟ قَالَتْ: بَدِيعَةَ الْجَمَالِ، غَيْرَ أَنِّي
رَأَيْتُ تَحْتَ سُرَّتِهَا خَالًا أَسْوَدَ، وَإِنِّي أَحْسَبُ أَنَّ زَوْجَهَا
يُقْتَلُ وَيُلْقَى رَأْسُهُ فِي حِجْرِهَا. فَطَلَّقَهَا مُعَاوِيَةُ،
وَتَزَوَّجَهَا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فَلَمَّا قُتِلَ أُلْقِيَ فِي حِجْرِ
امْرَأَتِهِ هَذِهِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ: قَتَلَ بِسَلَمْيَةَ سَنَةَ سِتٍّ
وَسِتِّينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
سِتِّينَ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، صَحَابِيٌّ
صَغِيرٌ، أَصَابَهُ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ بِمَكَّةَ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلَّى فِي
الْحِجْرِ.
التالي ج21.وج22.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق