حمل القران الكريم وورد وبي دي اف.

حمل القرآن الكريم وورد وPDF.

الخميس، 29 سبتمبر 2022

ج7.وج8. البداية والنهاية لابن كثير

 ج7.وج8. البداية والنهاية لابن كثير

 ج7.البداية والنهاية لابن كثير
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ.
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ، فَقَالَ: " لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ ". لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: " تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ ".
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا أَبُو طَالِبٍ، مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ".
وَفِي " مَغَازِي " يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ: " يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ، حَتَّى يَسِيلَ عَلَى قَدَمَيْهِ ".. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا عُمَرُ، هُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:

سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قِيلَ لَهُ -: هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ ؟ قَالَ: " أَخْرَجْتُهُ مِنَ النَّارِ إِلَى ضَحْضَاحٍ مِنْهَا ". تَفَرَّدَ بِهِ الْبَزَّارُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَقْبَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ الْعَبَّاسِ لِأَخِيهِ، أَنَّهُ قَالَ الْكَلِمَةَ، وَقَالَ: " لَمْ أَسْمَعْ " ; لِأَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ إِذْ ذَاكَ كَافِرًا، غَيْرَ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ.
قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْخَبَرَ بِذَلِكَ مَا صَحَّ، لِضَعْفِ سَنَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ، فَذَكَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ، لَعَلَّهُ قَالَ ذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَلَكِ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ، حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ نَاجِيَةَ بْنَ كَعْبٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا، يَقُولُ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبِي، أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنْ عَمَّكَ قَدْ تُوُفِّيَ، فَقَالَ: " اذْهَبْ فَوَارِهِ ". فَقُلْتُ: إِنَّهُ مَاتَ مُشْرِكًا. فَقَالَ: " اذْهَبْ فَوَارِهِ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَغْتَسِلَ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، عَنْ

أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، فَمَنْ يُوَارِيهِ ؟ قَالَ: " اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاكَ، وَلَا تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي ". فَأَتَيْتُهُ، فَأَمَرَنِي فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ، مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهِنَّ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَارَضَ جِنَازَةَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: " وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، وَجُزِيتَ خَيْرًا يَا عَمِّ ". قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْيَمَانِ الْهَوْزَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا. وَزَادَ: وَلَمْ يَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ. قَالَ: وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ الْخُوَارِزْمِيُّ، تَكَلَّمُوا فِيهِ.
قُلْتُ: قَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ; مِنْهُمْ الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْبِيكَنْدِيُّ، وَمَعَ هَذَا قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَأَحَادِيثُهُ عَنْ كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ لَيْسَتْ بِمُسْتَقِيمَةٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا كَانَ يَتَعَاطَاهُ أَبُو طَالِبٍ مِنَ الْمُحَامَاةِ، وَالْمُحَاجَّةِ، وَالْمُمَانَعَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّفْعِ عَنْهُ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ، وَمَا قَالَهُ فِيهِ مِنَ الْمَمَادِحِ وَالثَّنَاءِ،

وَمَا أَظْهَرَ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ مِنَ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ فِي أَشْعَارِهِ التِي أَسْلَفْنَاهَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْعَيْبِ وَالتَّنَقُّصِ لِمَنْ خَالَفَهُ وَكَذَّبَهُ، بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ الْفَصِيحَةِ، الْبَلِيغَةِ، الْهَاشِمِيَّةِ، الْمُطَّلِبِيَّةِ، التِي لَا تُدَانَى وَلَا تُسَامَى، وَلَا يُمْكِنُ عَرَبِيًّا مُقَارَبَتُهَا، وَلَا مُعَارَضَتُهَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِقٌ، بَارٌّ، رَاشِدٌ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُؤْمِنْ قَلْبُهُ. وَفَرْقٌ بَيْنَ عِلْمِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْإِيمَانِ مِنْ - صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - وَشَاهِدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 146 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [ النَّمْلِ: 14 ]. وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [ الْإِسْرَاءِ: 102 ]، وَقَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [ الْأَنْعَامِ: 26 ] إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، حَيْثُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَنْأَى هُوَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَعَطَاءِ بْنِ دِينَارٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَظْهَرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهُمْ يَنْهَونَ

النَّاسَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ سِيقَ لِتَمَامِ ذَمِّ الْمُشْرِكِينَ، حَيْثُ كَانُوا يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَلَا يَنْتَفِعُونَ هُمْ أَيْضًا بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [ الْأَنْعَامِ: 25، 26 ] وَهَذَا اللَّفْظُ وَهُوَ قَوْلُهُ: " وَهُمْ "، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جَمَاعَةٌ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الذَّمِّ، وَأَبُو طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، بَلْ كَانَ يَصُدُّ النَّاسَ عَنْ أَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ فِعَالٍ وَمَقَالٍ، وَنَفْسٍ وَمَالٍ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ; لِمَا لَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ الْبَالِغَةِ الدَّامِغَةِ، التِي يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَالتَّسْلِيمُ لَهَا، وَلَوْلَا مَا نَهَانَا اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ لَاسْتَغْفَرْنَا لِأَبِي طَالِبٍ وَتَرَحَّمْنَا عَلَيْهِ.

فَصْلٌ
فِي وَفَاةِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ وَذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِهَا، وَمَنَاقِبِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهَا وَمَثْوَاهَا، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا

مَحَالَةَ، بِخَبَرِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ، حَيْثُ بَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلَا نَصَبَ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: وَقَدْ كَانَتْ خَدِيجَةُ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ بِمَكَّةَ، قَبْلَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: مَاتَتْ خَدِيجَةُ وَأَبُو طَالِبٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ " الْمَعْرِفَةِ "، وَشَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ خَدِيجَةَ، وَأَبَا طَالِبٍ، مَاتَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، عَامَ خَرَجُوا مِنَ الشِّعْبِ، وَأَنَّ خَدِيجَةَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَبِي طَالِبٍ بِخَمْسٍ وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً.
قُلْتُ: مُرَادُهُمْ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَكَانَ

الْأَنْسَبُ بِنَا أَنْ نَذْكُرَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَكِنْ أَخَّرْنَا ذَلِكَ عَنِ الْإِسْرَاءِ لِمَقْصِدٍ سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ بِهِ يَنْتَظِمُ وَيَتَّسِقُ السِّيَاقُ، كَمَا تَقِفُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزَوَانَ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْ مَعَهَا إِنَاءٌ فِيهِ إِدَامٌ - أَوْ طَعَامٌ أَوْ شَرَابٌ - فَإِذَا هِيَ أَتَتْكَ، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السَّلَامُ مِنْ رَبِّهَا وَمِنِّي، وَبَشِّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ:قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَإِنَّمَا بَشَّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ - يَعْنِي: قَصَبَ اللُّؤْلُؤِ - لِأَنَّهَا حَازَتْ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى الْإِيمَانِ، لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ، لِأَنَّهَا لَمْ تَرْفَعْ صَوْتَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تُتْعِبْهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَلَمْ تَصْخَبْ

عَلَيْهِ يَوْمًا، وَلَا آذَتْهُ أَبَدًا.
وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ - وَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي - لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ. لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ: مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهَا، قَالَتْ: وَتُزَوَّجَنِي بَعْدَهَا بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَمَرَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ - أَوْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ، ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةَ. فَيَقُولُ: " إِنَّهَا كَانَتْ وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ "
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ

هَالَةُ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ، فَارْتَاعَ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ هَالَةُ ". فَغِرْتُ، فَقُلْتُ: مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سُوِيْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ خَيْرٌ مِنْ خَدِيجَةَ، إِمَّا فَضْلًا وَإِمَّا عِشْرَةً; إِذْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، وَلَا رَدَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَكِنْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ -، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ - هُوَ ابْنُ عُمَيْرٍ -، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا خَدِيجَةَ فَأَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهَا، فَأَدْرَكَنِي مَا يُدْرِكُ النِّسَاءَ مِنَ الْغَيْرَةِ، فَقُلْتُ: لَقَدْ أَعْقَبَكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ. قَالَتْ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغَيُّرًا لَمْ أَرَهُ تَغَيَّرَ عِنْدَ شَيْءٍ قَطُّ، إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، أَوْ عِنْدَ الْمَخِيلَةِ حَتَّى يَعْلَمَ، رَحْمَةٌ أَوْ عَذَابٌ

وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ وَعُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: حَمْرَاءُ الشِّدْقَيْنِ: هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ الْأَوَّلِ. قَالَتْ: فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ تَمَعُّرًا، مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلَّا عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، أَوْ عِنْدَ الْمَخِيلَةِ حَتَّى يَنْظُرَ; أَرَحْمَةً أَوْ عَذَابًا ؟ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا بِأَحْسَنِ الثَّنَاءِ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا. فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا، حَمْرَاءُ الشِّدْقِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. قَالَ: " مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَإِسْنَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَمُجَالِدٌ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ مُتَابَعَةً، وَفِيهِ كَلَامٌ مَشْهُورٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَعَلَّ هَذَا - أَعْنِي قَوْلَهُ: " وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ "

كَانَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَارِيَةَ، وَقَبْلَ مَقْدِمِهَا بِالْكُلِّيَّةِ. وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ فَإِنَّ جَمِيعَ أَوْلَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي مِنْ خَدِيجَةَ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ، فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْضِيلِ خَدِيجَةَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا، وَتَكَلَّمَ آخَرُونَ فِي إِسْنَادِهِ، وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ خَيْرًا عِشْرَةً، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ أَوْ ظَاهِرٌ، وَسَبَبُهُ أَنَّ عَائِشَةَ سَمَتْ بِشَبَابِهَا، وَحُسْنِهَا، وَجَمِيلِ عِشْرَتِهَا، وَلَيْسَ مُرَادُهَا بِقَوْلِهَا: قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا. أَنَّهَا تُزَكِّي نَفْسَهَا وَتُفَضِّلُهَا عَلَى خَدِيجَةَ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ مَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [ النَّجْمِ: 32 ] وَقَالَ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [ النِّسَاءِ: 49 ] الْآيَةَ.
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَتَجَاذَبَهَا طَرَفَا نَقِيضٍ; أَهِلُ التَّشَيُّعِ وَغَيْرُهُمْ، لَا يَعْدِلُونَ بِخَدِيجَةَ أَحَدًا مِنَ النِّسَاءِ، لِسَلَامِ الرَّبِّ عَلَيْهَا، وَكَوْنِ وَلَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعِهِمْ - إِلَّا إِبْرَاهِيمَ - مِنْهَا، وَكَوْنِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَتْ; إِكْرَامًا لَهَا، وَتَقَدُّمِ إِسْلَامِهَا، وَكَوْنِهَا مِنَ الصِّدِّيقَاتِ، وَلَهَا مَقَامُ صِدْقٍ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ، وَبَذَلَتْ نَفْسَهَا وَمَالَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ; فَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلُو أَيْضًا، وَيُثْبِتُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَكِنْ تَحْمِلُهُمْ قُوَّةُ التَّسَنُّنِ عَلَى تَفْضِيلِ عَائِشَةَ; لِكَوْنِهَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، وَلِكَوْنِهَا أَعْلَمَ مِنْ خَدِيجَةَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ مِثْلُ عَائِشَةَ فِي حِفْظِهَا وَعِلْمِهَا وَفَصَاحَتِهَا وَعَقْلِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ أَحَدًا مِنْ نِسَائِهِ كَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا، وَنَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَرَوَتْ بَعْدَهُ عَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِلْمًا جَمًّا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، حَتَّى قَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ: " خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ "
وَالْحُقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَهَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَوْ نَظَرَ النَّاظِرُ فِيهِ لَبَهَرَهُ وَحَيَّرَهُ، وَالْأَحْسَنُ التَّوَقُّفُ فِي ذَلِكَ، وَرَدُّ عِلْمِ ذَلِكَ، إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ ظَهَرَ لَهُ دَلِيلٌ يَقْطَعُ بِهِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَذَاكَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِمَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَمَنْ حَصَلَ لَهُ تَوَقُّفٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ فِي غَيْرِهَا، فَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ وَالْمَسْلَكُ الْأَسْلَمُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ

طُرُقٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ". أَيْ: خَيْرُ زَمَانِهِمَا.
وَرَوَى شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ; مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي " تَفْسِيرِهِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى شُعْبَةَ، وَبَعْدَهُ. قَالُوا: وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ نِسْوَةٍ، آسِيَةَ وَمَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ، أَنَّ كُلًّا مِنْهُنَّ كَفَلَتْ نَبِيًّا مُرْسَلًا، وَأَحْسَنَتِ الصُّحْبَةَ فِي كَفَالَتِهَا، وَصَدَّقَتْهُ; فَآسِيَةُ رَبَّتْ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِ، وَصَدَّقَتْهُ حِينَ بُعِثَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا أَتَمَّ كَفَالَةٍ وَأَعْظَمَهَا، وَصَدَّقَتْهُ حِينَ أُرْسِلَ، وَخَدِيجَةُ رَغِبَتْ فِي تَزْوِيجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، وَبَذَلَتْ فِي ذَلِكَ أَمْوَالَهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَدَّقَتْهُ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". هُوَ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ أَيْضًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الطَّيِّبِ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ

مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ ". وَالثَّرِيدُ: هُوَ الْخَبْزُ وَاللَّحْمُ جَمِيعًا، وَهُوَ أَفْخَرُ طَعَامِ الْعَرَبِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ
وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ: " وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ " أَنْ يَكُونَ عَامًّا، فَيَعُمُّ النِّسَاءَ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرَهُنَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِيمَا عَدَاهُنَّ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيهَا وَفِيهِنَّ مَوْقُوفًا يَحْتَمِلُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ، فَيَحْتَاجُ مُرَجِّحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى غَيْرِهَا إِلَى دَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
فِي تَزْوِيجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، بِعَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ، وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَالصَّحِيحُ أَنَّ عَائِشَةَ - تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا لِمَا سَيَأْتِي; قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ تَزْوِيجِ عَائِشَةَ: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ; أَرَى أَنَّكِ فِي

سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَاكْشِفْ عَنْهَا. فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُمْضِهِ ".
قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ نِكَاحِ الْأَبْكَارِ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ: لَمْ يَنْكِحِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا غَيْرَكِ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ نَزَلْتَ وَادِيًا وَفِيهِ شَجَرَةٌ قَدْ أُكِلَ مِنْهَا، وَوَجَدْتَ شَجَرَةً لَمْ يُؤْكَلْ مِنْهَا، فِي أَيُّهَا كُنْتَ تُرْتِعُ بِعِيرَكَ ؟ قَالَ: " فِي التِي لَمْ يُرْتَعْ مِنْهَا " تَعْنِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ مَرَّتَيْنِ، إِذَا رَجُلٌ يَحْمِلُكِ فِي سَرَقَةِ حَرِيرٍ، فَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَأَكْشِفُهَا فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُنْ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُمْضِهِ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ، ثَنَا مُسَدَّدٌ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِكِ الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، فَقَالَ لِي:

هَذِهِ امْرَأَتُكَ. فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوْبَ، فَإِذَا أَنْتِ هِيَ، فَقُلْتُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُمْضِهِ ". - وَفِي رِوَايَةٍ -: " أُرِيتُكِ فِي الْمَنَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ ". وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: أَنَّ جِبْرِيلَ جَاءَهُ بِصُورَتِهَا فِي خِرْقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ خَضْرَاءَ، فَقَالَ: هَذِهِ زَوْجَتُكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ تَزْوِيجِ الصِّغَارِ مِنَ الْكِبَارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ عَائِشَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَنَا أَخُوكَ. فَقَالَ: " أَنْتَ أَخِي فِي دِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَهِيَ لِي حَلَالٌ ". هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُ سِيَاقِهِ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ مُتَّصِلٌ; لِأَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَهَذَا مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ، وَمَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ ابْنَةُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذَا غَرِيبٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَلَبِثَ سَنَتَيْنِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَنَكَحَ عَائِشَةَ وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ بَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عُرْوَةُ مُرْسَلٌ فِي ظَاهِرِ السِّيَاقِ كَمَا قَدَّمْنَا وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَقَوْلُهُ: تَزَوَّجَهَا وَهِيَ ابْنَةُ سِتِّ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ تِسْعٍ. مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ بِنَاؤُهُ بِهَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ تَزْوِيجِهَا كَانَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ بِنَحْوِ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَفِيهِ نَظَرٌ; فَإِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ سُفْيَانَ الْحَافِظَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ، قَبْلَ مُخْرَجِهِ مِنْ مَكَّةَ، وَأَنَا ابْنَةُ سَبْعِ - أَوْ سِتِّ - سِنِينَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، جَاءَنِي نِسْوَةٌ وَأَنَا الْعَبُ فِي أُرْجُوحَةٍ، وَأَنَا مُجَمَّمَةٌ، فَهَيَّأْنَنِي وَصَنَعْنَنِي، ثُمَّ أَتَيْنَ بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ. فَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " " مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ " يَقْتَضِي أَنَّهُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ قَرِيبًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَقَطَ مِنَ النُّسْخَةِ: بَعْدَ مُتَوَفَّى خَدِيجَةَ. فَلَا يَنْفِي مَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِنْتُ

سِتِّ سِنِينَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَوُعِكْتُ فَتَمَزَّقَ شَعْرِي فَوَفَى لِي جُمَيْمَةٌ، فَأَتَتْنِي أُمِّي أُمُّ رُومَانَ - وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ وَمَعِي صَوَاحِبُ لِي - فَصَرَخَتْ بِي، فَأَتَيْتُهَا مَا أَدْرِي مَا تُرِيدُ بِي، فَأَخَذَتْ بِيَدِي، حَتَّى أَوْقَفَتْنِي عَلَى بَابِ الدَّارِ، وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ بَعْضُ نَفَسِي، ثُمَّ أَخَذَتْ شَيْئًا مِنْ مَاءٍ، فَمَسَحَتْ بِهِ وَجْهِي وَرَأْسِي، ثُمَّ أَدْخَلَتْنِي الدَّارَ، فَإِذَا نِسْوَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْبَيْتِ، فَقُلْنَ: عَلَى الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، وَعَلَى خَيْرِ طَائِرٍ، فَأَسْلَمَتْنِي إِلَيْهِنَّ، فَأَصْلَحْنَ مِنْ شَأْنِي، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى، فَأَسْلَمْنَنِي إِلَيْهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ،، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ وَيَحْيَى، قَالَا:لَمَّا هَلَكَتْ خَدِيجَةُ جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ: " مَنْ ؟ " قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا. قَالَ: " فَمَنِ الْبِكْرُ ؟ " قَالَتْ: ابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ، عَائِشَةُ ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ:

" وَمَنِ الثَّيِّبُ ؟ " قَالَتْ: سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ عَلَى مَا تَقُولُ. قَالَ: " فَاذْهَبِي فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ ". فَدَخَلَتْ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّ رُومَانَ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ. قَالَتِ: انْتَظِرِي أَبَا بَكْرٍ حَتَّى يَأْتِيَ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ! قَالَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُ عَلَيْهِ عَائِشَةَ. قَالَ: وَهَلْ تَصْلُحُ لَهُ؟! إِنَّمَا هِيَ ابْنَةُ أَخِيهِ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: " ارْجِعِي إِلَيْهِ، فَقُولِي لَهُ: أَنَا أَخُوكَ، وَأَنْتَ أَخِي فِي الْإِسْلَامِ، وَابْنَتُكَ تَصْلُحُ لِي ". فَرَجَعَتْ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، قَالَ: انْتَظِرِي. وَخَرَجَ. قَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: إِنَّ مُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ قَدْ كَانَ ذَكَرَهَا عَلَى ابْنِهِ، وَوَاللَّهِ مَا وَعَدَ وَعْدًا قَطُّ فَأَخْلَفَهُ - لِأَبِي بَكْرٍ - فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَعِنْدَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ الْفَتَى. فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، لَعَلَّكَ مُصْبٍ صَاحِبَنَا، مُدْخِلُهُ فِي دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ إِنْ تَزَوَّجَ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ: أَقَوْلَ هَذِهِ تَقُولُ ؟ قَالَ: إِنَّهَا تَقُولُ ذَلِكَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، وَقَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مِنْ عِدَتِهِ التِي وَعَدَهُ، فَرَجَعَ فَقَالَ لِخَوْلَةَ: ادْعِي لِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَدَعَتْهُ، فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، وَعَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ بَنَتُ

سِتِّ سِنِينَ، ثُمَّ خَرَجَتْ فَدَخَلَتْ عَلَى سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: مَاذَا أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيْكِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْطُبُكِ إِلَيْهِ. قَالَتْ: وَدِدْتُ، ادْخُلِي إِلَى أَبِي فَاذْكُرِي ذَلِكَ لَهُ. وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ أَدْرَكَهُ السِّنُّ، قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ الْحَجِّ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ، فَحَيَّتْهُ بِتَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ ؟ قَالَتْ: خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ. قَالَ: فَمَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ: أَرْسَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخْطُبُ عَلَيْهِ سَوْدَةَ. فَقَالَ: كُفُؤٌ كَرِيمٌ، مَاذَا تَقُولُ صَاحِبَتُكِ ؟ قَالَتْ: تُحِبُّ ذَاكَ. قَالَ: ادْعِيهَا لِي. فَدَعَتْهَا، قَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، إِنَّ هَذِهِ تَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ أَرْسَلَ يَخْطُبُكِ، وَهُوَ كُفُؤٌ كَرِيمٌ، أَتُحِبِّينَ أَنْ أُزَوِّجَكِ بِهِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ ادْعِيهِ لِي. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ، فَجَاءَ أَخُوهَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ مِنَ الْحَجِّ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي رَأْسِهِ التُّرَابَ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ: لَعَمْرُكَ إِنِّي لَسَفِيهٌ يَوْمَ أَحْثِي فِي رَأْسِي التُّرَابَ; أَنْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فِي السُّنْحِ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَيْتَنَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَنِسَاءٌ، فَجَاءَتْنِي أُمِّي، وَإِنِّي لَفِي أُرْجُوحَةٍ بَيْنَ عَذْقَيْنِ تَرَجَّحُ بِي، فَأَنْزَلَتْنِي مِنَ الْأُرْجُوحَةِ، وَلِي جُمَيْمَةٌ فَفَرَقْتَهَا، وَمَسَحَتْ وَجْهِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ تَقُودُنِي، حَتَّى

وَقَفَتْ بِي عِنْدَ الْبَابِ، وَإِنِّي لَأَنْهَجُ حَتَّى سَكَنَ مِنْ نَفَسِي، ثُمَّ دَخَلَتْ بِي، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ فِي بَيْتِنَا، وَعِنْدَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَجْلَسَتْنِي فِي حُجْرَةٍ، ثُمَّ قَالَتْ: هَؤُلَاءِ أَهْلُكَ فَبَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِمْ، وَبَارَكَ لَهُمْ فِيكَ. فَوَثَبَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَخَرَجُوا، وَبَنَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِنَا، مَا نُحِرَتْ عَلَيَّ جَزُورٌ، وَلَا ذُبِحَتْ عَلَيَّ شَاةٌ، حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بِجَفْنَةٍ، كَانَ يُرْسِلُ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَارَ إِلَى نِسَائِهِ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ ابْنَةُ تِسْعِ سِنِينَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ كَأَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ; لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الْأَوْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ:لَمَّا مَاتَتْ خَدِيجَةُ، جَاءَتْ خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَزَوَّجُ ؟ قَالَ: " وَمَنْ ؟ " قَالَتْ: إِنْ شِئْتَ بِكْرًا، وَإِنْ شِئْتَ ثَيِّبًا. قَالَ: " مَنِ الْبِكْرُ ؟ وَمَنِ الثَّيِّبُ ؟ " قَالَتْ: أَمَّا الْبِكْرُ فَابْنَةُ أَحَبِّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْكَ; عَائِشَةُ، وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، قَدْ آمَنَتْ بِكَ وَاتَّبَعَتْكَ. قَالَ: " فَاذْكُرِيهِمَا عَلَيَّ ". وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَقْدَهُ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى تَزْوِيجِهِ بِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، وَلَكِنَّ دُخُولَهُ عَلَى سَوْدَةَ كَانَ بِمَكَّةَ، وَأَمَّا دُخُولُهُ عَلَى عَائِشَةَ، فَتَأَخَّرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ،

كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا كَبِرَتْ سَوْدَةُ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لِي بِيَوْمِهَا مَعَ نِسَائِهِ. قَالَتْ: وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بَعْدِي
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنِي شَهْرٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِهِ، يُقَالُ لَهَا: سَوْدَةُ، وَكَانَتْ مُصْبِيَةً كَانَ لَهَا خَمْسَةُ صِبْيَةٍ - أَوْ سِتَّةٌ - مِنْ بَعْلٍ لَهَا مَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يَمْنَعُكِ مِنِّي ؟ " قَالَتْ: وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَا يَمْنَعُنِي مِنْكَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحَبَّ الْبَرِّيَّةِ إِلَيَّ، وَلَكِنِّي أُكْرِمُكَ أَنْ يَضْغُوَ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَةُ عِنْدَ رَأْسِكَ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. قَالَ: " فَهَلْ مَنَعَكِ مِنِّي غَيْرُ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ. قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُكِ اللَّهُ إِنَّ خَيْرَ نِسَاءٍ رَكِبْنَ أَعْجَازَ الْإِبِلِ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ; أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى بَعْلٍ بِذَاتِ يَدِهِ ".
قُلْتُ: وَكَانَ زَوْجَهَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّكْرَانُ بْنُ عَمْرٍو، أَخُو سُهَيْلِ

بْنِ عَمْرٍو وَكَانَ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَهَذِهِ السِّيَاقَاتُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى عَائِشَةَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعَقْدِ بِسَوْدَةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، وَرَوَاهُ يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَاخْتَارَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى سَوْدَةَ قَبْلَ عَائِشَةَ، وَحَكَاهُ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ. قَالَ: وَرَوَاهُ عُقَيْلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

فَصْلٌ
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ كَانَ نَاصِرًا لَهُ، وَقَائِمًا فِي صَفِّهِ، وَمُدَافِعًا عَنْهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ; مِنْ نَفْسٍ، وَمَالٍ، وَفِعَالٍ، فَلَمَّا مَاتَ، اجْتَرَأَ سُفَهَاءُ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَالُوا مِنْهُ مَا لَمْ يَكُونُوا يَصِلُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ.
كَمَا قَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَأَتَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَتَبْكِي، فَجَعَلَ يَقُولُ: " أَيْ بُنَيَّةُ، لَا تَبْكِينَ فَإِنَّ اللَّهَ مَانِعٌ أَبَاكِ ". وَيَقُولُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ: " مَا نَالَتْ قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ". وَقَدْ رَوَاهُ زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا، عَنِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعِّينَ عَنِّي حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ". ثُمَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ الْمُجَدَّرُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَا زَالَتْ قُرَيْشٌ كَاعَّةً حَتَّى تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ ".
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ وَخَدِيجَةُ - وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَهْرٌ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ - اجْتَمَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصِيبَتَانِ، فَلَزِمَ بَيْتَهُ،

وَأَقَلَّ الْخُرُوجَ، وَنَالَتْ مِنْهُ قُرَيْشٌ مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ وَلَا تَطْمَعُ فِيهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا لَهَبٍ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، امْضِ لِمَا أَرَدْتَ، وَمَا كُنْتَ صَانِعًا إِذْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا فَاصْنَعْهُ، لَا وَاللَّاتِ، لَا يُوصَلُ إِلَيْكَ حَتَّى أَمُوتَ. وَسَبَّ ابْنُ الْغَيْطَلَةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَبُو لَهَبٍ فَنَالَ مِنْهُ، فَوَلَّى يَصِيحُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، صَبَأَ أَبُو عُتْبَةَ. فَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى أَبِي لَهَبٍ، فَقَالَ: مَا فَارَقْتُ دِينَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَلَكِنِّي أَمْنَعُ ابْنَ أَخِي أَنْ يُضَامَ حَتَّى يَمْضِيَ لِمَا يُرِيدُ. فَقَالُوا: قَدْ أَحْسَنْتَ، وَأَجْمَلْتَ، وَوَصَلْتَ الرَّحِمَ. فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ أَيَّامًا يَأْتِي وَيَذْهَبُ، لَا يَعْرِضُ لَهُ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَهَابُوا أَبَا لَهَبٍ إِلَى أَنْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبُو جَهْلٍ إِلَى أَبِي لَهَبٍ، فَقَالَا لَهُ: أَخْبَرَكَ ابْنُ أَخِيكَ أَيْنَ مَدْخَلُ أَبِيكَ ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو لَهَبٍ: يَا مُحَمَّدُ، أَيْنَ مَدْخَلُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ قَالَ: " مَعَ قَوْمِهِ ". فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتُهُ، فَقَالَ: مَعَ قَوْمِهِ. فَقَالَا: يَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَيَدْخُلُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ النَّارَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَنْ مَاتَ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ دَخَلَ النَّارَ ". فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَاللَّهِ لَا بَرِحْتُ لَكَ إِلَّا عَدُوًّا أَبَدًا، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ فِي النَّارِ. وَاشْتَدَّ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو لَهَبٍ وَسَائِرُ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ النَّفَرَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ; أَبُو لَهَبٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعَدِيُّ بْنُ الْحَمْرَاءِ، وَابْنُ الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيُّ، وَكَانُوا جِيرَانَهُ، لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - يَطْرَحُ عَلَيْهِ رَحِمَ الشَّاةِ وَهُوَ يُصَلِّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ إِذَا نُصِبَتْ لَهُ، حَتَّى اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجْرًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إِذَا صَلَّى، فَكَانَ إِذَا طَرَحُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، يَحْمِلُهُ عَلَى عَوْدٍ ثُمَّ يَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: " يَا بَنِي عَبْدِ مُنَافٍ، أَيُّ جِوَارٍ هَذَا ؟ ". ثُمَّ يُلْقِيهِ فِي الطَّرِيقِ.
قُلْتُ: وَعِنْدِي أَنَّ غَالِبَ مَا رُوِيَ مِمَّا تَقَدَّمَ - مِنْ طَرْحِهِمْ سَلَى الْجَزُورِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي كَمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ أَنَّ فَاطِمَةَ جَاءَتْ فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ فَشَتَمَتْهُمْ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى سَبْعَةٍ مِنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ خَنْقِهِمْ لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَنْقًا شَدِيدًا حَتَّى حَالَ دُونَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، قَائِلًا: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ. وَكَذَلِكَ عَزْمُ أَبِي جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، عَلَى أَنْ يَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَذِكْرُهَا هَاهُنَا أَنْسَبُ وَأَشْبَهُ.

فَصْلٌ فِي ذَهَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ الطَّائِفِ يَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَإِلَى نُصْرَةِ دِينِهِ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُهُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النُّصْرَةَ وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ، وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَحْدَهُ، فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: لَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، عَمَدَ إِلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، هُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ، وَهُمْ إِخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ: عَبْدُ يَالِيلَ، وَمَسْعُودٌ، وَحَبِيبٌ، بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَكَلَّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى

الْإِسْلَامِ، وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَمَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا أَرْسَلَهُ غَيْرَكَ ؟ وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا; لَئِنْ كُنْتَ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ كَمَا تَقُولُ، لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ، مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِمْ، وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي -: " إِنْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، فَاكْتُمُوا عَلَيَّ ". وَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، يَسُبُّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَلْجَئُوهُ إِلَى حَائِطٍ لِعَتَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُمَا فِيهِ، وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ، فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ، وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ، وَيَرَيَانِ مَا يَلْقَى مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطَّائِفِ - وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، الْمَرْأَةَ التِي مِنْ بَنِي جُمَحَ، فَقَالَ لَهَا: " مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكِ! ". فَلَمَّا اطْمَأَنَّ، قَالَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي -:اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إِلَى بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا

وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ". هَكَذَا أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ " السِّيرَةِ " هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ غَيْرِ إِسْنَادٍ، بَلْ ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْبَلَاغِ، فَقَالَ: فِيمَا ذُكِرَ لِي.
وَقَدْ رَوَيَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، فِي تَرْجَمَةِ الْقَاسِمِ بْنِ اللَّيْثِ الرَّسْعَنِيِّ، شَيْخِ النَّسَائِيِّ والطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِهِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ، خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ مَاشِيًا عَلَى قَدَمَيْهِ. قَالَ: فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ أَرْحَمُ بِي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فِلْمًا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لَقِيَ، تَحَرَّكَتْ لَهُ

رَحِمُهُمَا، فَدَعَوَا غُلَامًا نَصْرَانِيًّا يُقَالُ لَهُ: عَدَّاسٌ. فَقَالَا لَهُ: خُذْ قِطْفًا مِنْ هَذَا الْعِنَبِ، فَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ، ثُمَّ اذْهَبْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ، فَفَعَلَ عَدَّاسٌ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْ. فَلَمَّا وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ، قَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ "، ثُمَّ أَكَلَ، فَنَظَرَ عَدَّاسٌ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ! فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمِنْ أَهْلِ أَيِّ بِلَادٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ ؟ وَمَا دِينُكَ ؟ ". قَالَ: نَصْرَانِيٌّ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى ؟ ". فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَا يُونُسُ بْنُ مَتَّى ؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَلِكَ أَخِي، كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ ". فَأَكَبَّ عَدَّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ. قَالَ: يَقُولُ ابْنَاءُ رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَمَّا غُلَامُكَ فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْكَ. فَلَمَّا جَاءَهُمَا عَدَّاسٌ، قَالَا لَهُ: وَيْلَكَ يَا عَدَّاسُ، مَا لَكَ تُقَبِّلُ رَأْسَ هَذَا الرَّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ؟ قَالَ: يَا سَيِّدِي، مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ. قَالَا لَهُ: وَيْحَكَ يَا عَدَّاسُ، لَا يَصْرِفَنَّكَ عَنْ دِينِكَ; فَإِنَّ دِينَكَ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ نَحْوًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الدُّعَاءَ، وَزَادَ: وَقَعَدَ لَهُ أَهْلُ الطَّائِفِ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَلَمَّا مَرَّ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ، وَلَا يَضَعُهُمَا، إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَدْمَوْهُ، فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ، فَعَمَدَ إِلَى ظِلِّ حَبَلَةٍ، وَهُوَ مَكْرُوبٌ، وَفِي ذَلِكَ الْحَائِطِ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا

رَبِيعَةَ فَكَرِهَ مَكَانَهُمَا; لِعَدَاوَتِهِمَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ عَدَّاسٍ النَّصْرَانِيِّ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَبِي جَبَلٍ الْعَدْوَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ أَبْصَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْرِقِ ثَقِيفٍ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى قَوْسٍ - أَوْ عَصًى - حِينَ أَتَاهُمْ يَبْتَغِي عِنْدَهُمُ النَّصْرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [ الطَّارِقِ: 1 ] حَتَّى خَتَمَهَا. قَالَ: فَوَعَيْتُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا مُشْرِكٌ، ثُمَّ قَرَأْتُهَا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ فَدَعَتْنِي ثَقِيفٌ، فَقَالُوا: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ ؟ فَقَرَأْتُهَا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِصَاحِبِنَا، لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ مَا يَقُولُ حَقًّا لَاتَّبَعْنَاهُ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكَ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ

لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. ثُمَّ نَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ قَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ; لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ".

فَصْلٌ
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ سَمَاعَ الْجِنِّ لِقِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ حِينَ بَاتَ بِنَخْلَةَ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الصُّبْحَ، فَاسْتَمَعَ الْجِنُّ الَّذِينَ صُرِفُوا إِلَيْهِ قِرَاءَتَهُ هُنَالِكَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ قَوْلَهُ: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [ الْأَحْقَافِ: 29 ]
قُلْتُ: وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي " التَّفْسِيرِ "، وَتَقَدَّمَ قِطْعَةٌ مِنْ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَازْدَادَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ حَنَقًا، وَغَيْظًا، وَجُرْأَةً، وَتَكْذِيبًا، وَعِنَادًا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.

وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُرَيْقِطٍ إِلَى الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُجِيرَهُ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ حَلِيفَ قُرَيْشٍ لَا يُجِيرُ عَلَى صَمِيمِهَا. ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ; لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: إِنَّ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. فَبَعَثَهُ إِلَى الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ ; لِيُجِيرَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْ لَهُ فَلْيَأْتِ. فَذَهَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَاتَ عِنْدَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَ مَعَهُ هُوَ وَبَنُوهُ سِتَّةٌ - أَوْ سَبْعَةٌ - مُتَقَلِّدِي السُّيُوفَ جَمِيعًا، فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طُفْ. وَاحْتَبَوْا بِحَمَائِلِ سُيُوفِهِمْ فِي الْمَطَافِ، فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مُطْعِمٍ، فَقَالَ: أَمُجِيرٌ أَمْ تَابِعٌ ؟ قَالَ: لَا، بَلْ مُجِيرٌ. قَالَ: إِذًا لَا تُخْفَرُ. فَجَلَسَ مَعَهُ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ انْصَرَفُوا مَعَهُ، وَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَجْلِسِهِ. قَالَ: فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ تُوُفِّيَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: وَاللَّهِ لَأَرْثِيَنَّهُ، فَقَالَ فِيمَا قَالَ:
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الْيَوْمَ وَاحِدًا مِنَ النَّاسِ نَجَّى مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمَا أَجَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا
عِبَادَكَ مَا لَبَّى مُحِلٌّ وَأَحْرَمَا فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدٌّ بِأَسْرِهَا
وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيَّةِ جُرْهُمَا لَقَالُوا هُوَ الْمُوفِي بِخُفْرَةِ جَارِهِ
وَذِمَّتِهِ يَوْمًا إِذَا مَا تَذَمَّمَا

وَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ
عَلَى مِثْلِهِ فِيهُمُ أَعَزَّ وَأَكْرَمَا أَبِيًّا إِذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ شِيمَةً
وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا
قُلْتُ: وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُسَارَى بَدْرٍ: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ سَأَلَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَوَهَبْتُهُمْ لَهُ ".

فَصْلٌ: فِي عَرْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ عَلَى أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ، وَيَمْنَعُوهُ مِمَّنْ كَذَّبَهُ وَخَالَفَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، لِمَا ذَخَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَنْصَارِ مِنَ الْكَرَامَةِ الْعَظِيمَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَوْمُهُ أَشَدُّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ، إِلَّا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ - إِذَا كَانَتْ - عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، حَتَّى يُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،

عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عِبَادٍ الدُّؤَلِيِّ، أَوْ مَنْ حَدَّثَهُ أَبُو الزِّنَادِ عَنْهُ. وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَبِيعَةَ بْنَ عِبَادٍ يُحَدِّثُهُ أَبِي، قَالَ:إِنِّي لَغُلَامٌ شَابٌّ مَعَ أَبِي بِمِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَقُولُ: " يَا بَنِي فُلَانٍ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، آمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَخْلَعُوا مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَنْدَادِ، وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِي، وَتُصَدِّقُونِي، وَتَمْنَعُونِي، حَتَّى أُبَيِّنَ عَنِ اللَّهِ مَا بَعَثَنِي بِهِ ". قَالَ: وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ، وَضِيءٌ، لَهُ غَدِيرَتَانِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ عَدَنِيَّةٌ، فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ، قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا بَنِي فُلَانٍ، إِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ إِلَى أَنْ تَسْلُخُوا اللَّاتَ وَالْعُزَّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ، وَحُلَفَاءَكُمْ مِنَ الْجِنِّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ، إِلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لِأَبِي: يَا أَبَتِ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ: هَذَا عَمَّهُ عَبْدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَبُو لَهَبٍ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْعَبَّاسِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَنِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَبِيعَةُ بْنُ عِبَادٍ مِنْ بَنِي الدُّئِلِ، وَكَانَ جَاهِلِيًّا فَأَسْلَمَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي سُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. تُفْلِحُوا ". وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ وَضِيءُ الْوَجْهِ، أَحْوَلُ، ذُو

غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إِنَّهُ صَابِئٌ كَاذِبٌ. يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ، فَذَكَرُوا لِي نَسَبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: هَذَا عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ رَبِيعَةَ الدُّؤَلِيِّ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَوَرَاءَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ، تَقِدُ وَجْنَتَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَايَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ وَدِينِ آبَائِكُمْ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: أَبُو لَهَبٍ. وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَسَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْحُسَامِ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ بِهِ نَحْوَهُ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ كِنَانَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا ". وَإِذَا رَجُلٌ خَلْفَهُ يَسْفِي عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو جَهْلٍ، وَإِذَا هُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذَا عَنْ دِينِكُمْ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ تَتْرُكُوا عِبَادَةَ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. كَذَا قَالَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَبُو جَهْلٍ، وَقَدْ يَكُونُ وَهْمًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً يَكُونُ ذَا، وَتَارَةً يَكُونُ ذَا، وَأَنَّهُمَا كَانَا يَتَنَاوَبَانِ عَلَى إِيذَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى

كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِيهِمْ سَيِّدٌ لَهُمْ، يُقَالُ لَهُ: مُلَيْحٌ. فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ، إِلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَبْدِ اللَّهِ. فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ: " يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ ". فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ أَقْبَحَ رَدًّا عَلَيْهِ مِنْهُمْ.
وَحَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي أَخَذْتُ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ لَأَكَلْتُ بِهِ الْعَرَبَ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ تَابَعْنَاكَ عَلَى أَمْرِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ ؟ قَالَ: " الْأَمْرُ لِلَّهِ، يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ". قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَكَ، فَإِذَا أَظْهَرَكَ اللَّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا! لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِكَ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَلَمَّا صَدَرَ النَّاسُ، رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إِلَى شَيْخٍ لَهُمْ، قَدْ كَانَ أَدْرَكَهُ السِّنُّ، حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمُ الْمَوْسِمَ، فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِ، حَدَّثُوهُ بِمَا

يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمَّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ، فَقَالُوا: جَاءَنَا فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، يَدْعُونَا إِلَى أَنْ نَمْنَعَهُ، وَنَقُومَ مَعَهُ، وَنَخْرُجَ بِهِ إِلَى بِلَادِنَا. قَالَ: فَوَضَعَ الشَّيْخُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بَنِي عَامِرٍ، هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ ؟ هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مَطْلَبٍ ؟ وَالَّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوَّلَهَا إِسْمَاعِيلِيٌّ قَطُّ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ!
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ، لَا يَسْأَلُهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَمْنَعُوهُ، وَيَقُولُ: " لَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ، مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ، وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ، إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تَحْرُزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ، حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَحَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ ". فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالَ: قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ، أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ وَلَفَظُوهُ ؟ وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَرَهُ اللَّهُ لِلْأَنْصَارِ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَجْلَحِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَرَى لِي عِنْدَكَ وَلَا

عِنْدَ أَخِيكَ مَنَعَةً، فَهَلْ أَنْتَ مُخْرِجِي إِلَى السُّوقِ غَدًا، حَتَّى تُعَرِّفَنِي مَنَازِلَ قَبَائِلِ النَّاسِ ؟ " - وَكَانَتْ مَجْمَعَ الْعَرَبِ - قَالَ: فَقُلْتُ: هَذِهِ كِنْدَةُ وَلَفُّهَا، وَهِيَ أَفْضَلُ مَنْ يَحُجُّ الْبَيْتَ مِنَ الْيَمَنِ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَهَذِهِ مَنَازِلُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ. قَالَ: فَبَدَأَ بِكِنْدَةَ فَأَتَاهُمْ، فَقَالَ: " مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ " قَالُوا: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ الْيَمَنِ ؟ " قَالُوا: مِنْ كِنْدَةَ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ كِنْدَةَ ؟ " قَالُوا: مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: " فَهَلْ لَكُمْ إِلَى خَيْرٍ ؟ " قَالُوا: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: " تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَتُقِيمُونَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْأَجْلَحِ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَشْيَاخِ قَوْمِهِ أَنَّ كِنْدَةَ قَالَتْ لَهُ: إِنْ ظَفِرْتَ تَجْعَلُ لَنَا الْمُلْكَ مِنْ بَعْدِكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ". فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا جِئْتَنَا بِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَقَالُوا: أَجِئْتَنَا لِتَصُدَّنَا عَنْ آلِهَتِنَا، وَنُنَابِذَ الْعَرَبَ، الْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِكَ. فَانْصَرَفَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَأَتَى بَكْرَ بْنَ وَائِلٍ، فَقَالَ: " مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ " قَالُوا: مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ. فَقَالَ: " مِنْ أَيِّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ؟ " قَالُوا: مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. قَالَ: كَيْفَ الْعَدَدُ ؟ قَالُوا: كَثِيرٌ مِثْلُ الثَّرَى. قَالَ: " فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ ؟ " قَالُوا: لَا مَنَعَةَ، جَاوَرْنَا فَارِسَ، فَنَحْنُ لَا نَمْتَنِعُ مِنْهُمْ وَلَا نُجِيرُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: " فَتَجْعَلُونَ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ إِنْ هُوَ أَبْقَاكُمْ حَتَّى تَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ، وَتَسْتَنْكِحُوا نِسَاءَهُمْ، وَتَسْتَعْبِدُوا أَبْنَاءَهُمْ، أَنْ تُسَبِّحُوا اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدُوهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرُوهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ؟ " قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ ". ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَمَّا وَلَّى عَنْهُمْ - قَالَ الْكَلْبِيُّ -: وَكَانَ عَمُّهُ

أَبُو لَهَبٍ يَتْبَعُهُ، فَيَقُولُ لِلنَّاسِ: لَا تَقْبَلُوا قَوْلَهُ. ثُمَّ مَرَّ أَبُو لَهَبٍ فَقَالُوا: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، هَذَا فِي الذُّرْوَةِ مِنَّا، فَعَنْ أَيِّ شَأْنِهِ تَسْأَلُونَ ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَقَالُوا: زَعَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: أَلَا لَا تَرْفَعُوا بِقَوْلِهِ رَأْسًا ; فَإِنَّهُ مَجْنُونٌ يَهْذِي أُمُّ رَأْسِهِ. قَالُوا: قَدْ رَأَيْنَا ذَلِكَ حِينَ ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ فَارِسَ مَا ذَكَرَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْعَامِرِيُّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِسُوقِ عُكَاظٍ، فَقَالَ: " مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ " قُلْنَا: مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ. قَالَ: " مِنْ أَيِّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ؟ " قَالُوا: بَنُو كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ. قَالَ: " كَيْفَ الْمَنَعَةُ ؟ " قُلْنَا: لَا يُرَامُ مَا قِبَلَنَا، وَلَا يُصْطَلَى بِنَارِنَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: " إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَتَيْتُكُمْ لِتَمْنَعُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَلَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ ". قَالُوا: وَمِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ ؟ قَالَ: " مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ". قَالُوا: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ عَبْدِ مَنَافٍ ؟ قَالَ:: " هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَذَّبَنِي وَطَرَدَنِي ". قَالُوا: وَلَكِنَّا لَا نَطْرُدُكَ وَلَا نُؤْمِنُ بِكَ، وَسَنَمْنَعُكَ حَتَّى تُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّكَ. قَالَ: فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ وَالْقَوْمُ يَتَسَوَّقُونَ، إِذْ أَتَاهُمْ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ الْقُشَيْرِيُّ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ أَرَاهُ عِنْدَكُمْ أُنْكِرُهُ ؟ قَالُوا: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ. قَالَ فَمَا لَكَمَ وَلَهُ ؟ قَالُوا: زَعَمَ لَنَا أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَطَلَبَ إِلَيْنَا أَنْ

نَمْنَعَهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ. قَالَ: مَاذَا رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ ؟ قَالُوا: بِالرَّحْبِ وَالسَّعَةِ، نُخْرِجُكَ إِلَى بِلَادِنَا، وَنَمْنَعُكَ مَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا. قَالَ بَيْحَرَةُ: مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ السُّوقِ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ أَشَرَّ مِنْ شَيْءٍ تَرْجِعُونَ بِهِ، بَدَأْتُمْ لِتُنَابِذُوا النَّاسَ وَتَرْمِيَكُمُ الْعَرَبُ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، قَوْمُهُ أَعْلَمُ بِهِ، لَوْ آنَسُوا مِنْهُ خَيْرًا لَكَانُوا أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، أَتَعْمِدُونَ إِلَى رَهِيقِ قَوْمٍ، قَدْ طَرَدَهُ قَوْمُهُ وَكَذَّبُوهُ فَتُؤْوُونَهُ وَتَنْصُرُونَهُ؟! فَبِئْسَ الرَّأْيُ رَأَيْتُمْ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قُمْ فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ، فَوَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدَ قَوْمِي لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَاقَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَغَمَزَ الْخَبِيثُ بَيْحَرَةُ شَاكِلَتَهَا، فَقَمَصَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَتْهُ، وَعِنْدَ بَنِي عَامِرٍ يَوْمَئِذٍ ضُبَاعَةُ ابْنَةُ عَامِرِ بْنِ قُرْطٍ، كَانَتْ مِنَ النِّسْوَةِ اللَّاتِي أَسْلَمْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، جَاءَتْ زَائِرَةً إِلَى بَنِي عَمِّهَا، فَقَالَتْ: يَا آلَ عَامِرٍ، وَلَا عَامِرَ لِي، أَيُصْنَعُ هَذَا بِرَسُولِ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ مِنْكُمْ ؟ فَقَامَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي عَمِّهَا إِلَى بَيْحَرَةَ، وَاثْنَيْنِ أَعَانَاهُ فَأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجُلًا فَجَلَدَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ عَلَوْا وُجُوهَهُمْ لَطْمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْعَنْ هَؤُلَاءِ ". قَالَ: فَأَسْلَمَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ نَصَرُوهُ، وَقُتِلُوا شُهَدَاءَ وَهُمْ; غُطَيْفٌ وَغَطَفَانُ ابْنَا سَهْلٍ وَعُرْوَةُ - أَوْ عَزْرَةُ - بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَلَكَ الْآخَرُونَ لَعْنًا وَهُمْ; بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ، وَحَزْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عُبَادَةَ أَحَدُ بَنِي عَقِيلٍ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ لَعْنًا كَبِيرًا. وَهَذَا أَثَرٌ غَرِيبٌ كَتَبْنَاهُ لِغَرَابَتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ الْحَافِظُسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قِصَّةِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَقَبِيحِ رَدِّهِمْ عَلَيْهِ، وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ مَا رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ - وَالسِّيَاقُ لِأَبِي نُعَيْمٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، خَرَجَ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى مِنًى، حَتَّى دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْعَرَبِ، فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَكَانَ رَجُلًا نَسَّابَةً، فَقَالَ: مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا: مِنْ رَبِيعَةَ. قَالَ: وَأَيُّ رَبِيعَةَ أَنْتُمْ ؟ أَمِنْ هَامِهَا أَمْ مِنْ لَهَازِمِهَا. قَالُوا: بَلْ مِنْ هَامَتِهَا الْعُظْمَى. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَمَنْ أَيِّ هَامَتِهَا الْعُظْمَى ؟ قَالُوا: ذُهْلٌ الْأَكْبَرُ. قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِنْكُمْ عَوْفٌ الَّذِي كَانَ

يُقَالُ: لَا حُرَّ بَوَادِي عَوْفٍ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ بِسْطَامُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ أَبُو اللِّوَاءِ وَمُنْتَهَى الْأَحْيَاءِ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ الْحَوْفَزَانُ بْنُ شَرِيكٍ قَاتِلُ الْمُلُوكِ وَسَالِبُهَا أَنْفُسَهَا ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ جَسَّاسُ بْنُ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلٍ حَامِي الذِّمَارِ وَمَانِعُ الْجَارِ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمُ الْمُزْدَلِفُ صَاحِبُ الْعِمَامَةِ الْفَرْدَةِ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَنْتُمْ أَخْوَالُ الْمُلُوكِ مِنْ كِنْدَةَ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَأَنْتُمْ أَصْهَارُ الْمُلُوكِ مِنْ لَخْمٍ ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَسْتُمْ بِذُهْلٍ الْأَكْبَرِ، بَلْ أَنْتُمْ ذُهْلٌ الْأَصْغَرُ. قَالَ: فَوَثَبَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ غُلَامٌ يُدْعَى دَغْفَلَ بْنَ حَنْظَلَةَ الذُّهْلِيَّ، حِينَ بَقَلَ وَجْهُهُ، فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَةِ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ عَلَى سَائِلِنَا أَنْ نَسْأَلَهْ وَالْعِبْءَ لَا تَعْرِفُهُ أَوْ تَحْمِلُهُ
يَا هَذَا، إِنَّكَ سَأَلْتَنَا فَأَخْبَرْنَاكَ وَلَمْ نَكْتُمْكَ شَيْئًا، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَكَ مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ الْغُلَامُ: بَخٍ بَخٍ أَهْلُ السُّؤْدُدِ وَالرِّئَاسَةِ، وَأَزِمَّةُ الْعَرَبِ وَهُدَاتُهَا، مِمَّنْ أَنْتَ مِنْ قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ

مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ. فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَمْكَنْتَ وَاللَّهِ الرَّامِيَ مِنْ سَوَاءِ الثُّغْرَةِ ؟ أَفَمِنْكُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ الَّذِي قَتَلَ بِمَكَّةَ الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهَا، وَأَجْلَى بَقِيَّتَهُمْ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ حَتَّى أَوَطَنَهُمْ مَكَّةَ، ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَى الدَّارِ، وَنَزَّلَ قُرَيْشًا مَنَازِلَهَا، فَسَمَّتْهُ الْعَرَبُ بِذَلِكَ مُجَمِّعًا، وَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ
أَلَيْسَ أَبُوكُمْ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَبْدُ مَنَافٍ الَّذِي انْتَهَتْ إِلَيْهِ الْوَصَايَا وَأَبُو الْغَطَارِيفِ السَّادَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ الَّذِي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَلِأَهْلِ مَكَّةَ، فَفِيهِ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
سَنُّوا إِلَيْهِ الرِّحْلَتَيْنِ كِلَيْهِمَا عِنَدَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ الْأَصْيَافِ
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَلَّقَتْ فَالْمُحُّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الرَّائِشِينَ وَلَيْسَ يُعْرَفُ رَائِشٌ وَالْقَائِلِينَ هَلُمَّ لِلْأَضْيَافِ

وَالضَّارِبِينَ الْكَبْشَ يَبْرُقُ بَيْضُهُ وَالْمَانِعِينَ الْبَيْضَ بِالْأَسْيَافِ
لِلَّهِ دَرُّكَ لَوْ نَزَلْتَ بِدَارِهِمْ مَنَعُوكَ مِنْ أَزْلٍ وَمِنْ إِقْرَافِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا. قَالَ: فَمِنْكُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ شَيْبَةُ الْحَمْدِ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ، وَمُطْعِمُ طَيْرِ السَّمَاءِ وَالْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ فِي الْفَلَا، الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ قَمَرٌ يَتَلَأْلَأُ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْإِفَاضَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الْحِجَابَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ النَّدْوَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمِنْ أَهْلِ الرِّفَادَةِ أَنْتَ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَمَنِ الْمُفِيضِينَ بِالنَّاسِ أَنْتَ ؟ قَالَ لَا. ثُمَّ جَذَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زِمَامَ نَاقَتِهِ مِنْ يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ:
صَادَفَ دَرْءَ السَّيْلِ دَرْءٌ يَدْفَعُهُ يَهِيضُهُ حِينًا وَحِينًا يَصْدَعُهْ

ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، لَوْ ثَبَتَّ لَخَبَّرْتُكَ أَنَّكَ مِنْ زَمَعَاتِ قُرَيْشٍ وَلَسْتَ مِنَ الذَّوَائِبِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ. قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ وَقَعْتَ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ عَلَى بَاقِعَةٍ. فَقَالَ: أَجَلْ يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَامَّةٍ إِلَّا وَفَوْقَهَا طَامَّةٌ، وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْقَوْلِ. قَالَ: ثُمَّ انْتَهَيْنَا إِلَى مَجْلِسٍ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَإِذَا مَشَايِخُ لَهُمْ أَقْدَارٌ وَهَيْئَاتٌ، فَتُقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلَّمَ - قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدَّمًا فِي كُلِّ خَيْرٍ - فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّنِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا: نَحْنُ بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، فَالْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَيْسَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ عِزٍّ فِي قَوْمِهِمْ - وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ غُرَرٌ مِنْ قَوْمِهِمْ - وَهَؤُلَاءِ غُرَرُ النَّاسِ. وَكَانَ فِي الْقَوْمِ; مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ، وَالْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ، وَكَانَ أَقْرَبَ الْقَوْمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بَيَانًا وَلِسَانًا، وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى صَدْرِهِ، فَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَنَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ، وَلَنْ تُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلَّةٍ. فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ الْمَنَعَةُ فِيكُمْ ؟ فَقَالَ: عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ جِدٌّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَكَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّكُمْ ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ: إِنَّا أَشَدُّ مَا نَكُونُ

غَضَبًا حِينَ نَلْقَى، وَإِنَّا أَشُدُّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ، وَإِنَّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى الْأَوْلَادِ، وَالسِّلَاحَ عَلَى اللِّقَاحِ، وَالنَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يُدِيلُنَا مَرَّةً وَيُدِيلُ عَلَيْنَا مَرَّةً. لَعَلَّكَ أَخُو قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنْ كَانَ بَلَغَكُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَا هُوَ هَذَا. فَقَالَ مَفْرُوقٌ: قَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِلَامَ تَدْعُو يَا أَخَا قُرَيْشٍ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنْ تُؤْوُنِي، وَتَمْنَعُونِي، وَتَنْصُرُونِي حَتَّى أُؤَدِّيَ عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَنِي بِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ وَكَذَّبَتْ رَسُولَهُ، وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ". قَالَ لَهُ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِلَى قَوْلِهِ: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الْأَنْعَامِ: 151 ] فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: وَإِلَامَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ ؟ فَوَاللَّهِ مَا هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِهِمْ لَعَرَفْنَاهُ. فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ النَّحْلِ: 90 ] فَقَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ: دَعَوْتَ وَاللَّهِ يَا قُرَشِيُّ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ

أُفِكَ قَوْمٌ كَذَّبُوكَ، وَظَاهَرُوا عَلَيْكَ - وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ - فَقَالَ: وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ دِينِنَا. فَقَالَ لَهُ هَانِئٌ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَصَدَّقْتُ قَوْلَكَ، وَإِنِّي أَرَى أَنَّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعَنَا إِيَّاكَ عَلَى دِينِكَ - لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوَّلُ وَلَا آخِرٌ، لَمْ نَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِكَ وَنَنْظُرْ فِي عَاقِبَةِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ - زَلَّةٌ فِي الرَّأْيِ وَطَيْشَةٌ فِي الْعَقْلِ وَقِلَّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الزَّلَّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ، وَإِنَّ مِنْ وَرَائِنَا قَوْمًا نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ - وَكَأَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنَّى بْنُ حَارِثَةَ - فَقَالَ: وَهَذَا الْمُثَنَّى شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا. فَقَالَ الْمُثَنَّى: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكَ، وَاسْتَحْسَنْتُ قَوْلَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ، وَأَعْجَبَنِي مَا تَكَلَّمْتَ بِهِ، وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ، وَتَرْكُنَا دِينَنَا وَاتِّبَاعُنَا إِيَّاكَ لِمَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ إِلَيْنَا، وَإِنَّا إِنَّمَا نَزَلْنَا بَيْنَ صِيرَيْنِ; أَحَدُهُمَا الْيَمَامَةُ، وَالْآخَرُ السَّمَامَةُ.، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَمَا هَذَانَ الصِّيرَانِ ؟ " فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَطُفُوفُ الْبَرِّ وَأَرْضُ الْعَرَبِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَرْضُ فَارِسَ وَأَنْهَارُ كِسْرَى، وَإِنَّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا، وَلَعَلَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِمَّا تَكْرَهُهُ

الْمُلُوكُ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِمَّا يَلِي بِلَادَ الْعَرَبِ فَذَنْبُ صَاحِبِهِ مَغْفُورٌ، وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ، وَأَمَّا مَا كَانَ يَلِي بِلَادَ فَارِسَ فَذَنَبُ صَاحِبِهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ، وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ نَنْصُرَكَ وَنَمْنَعَكَ مِمَّا يَلِي الْعَرَبَ فَعَلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَسَأْتُمُ الرَّدَّ إِذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصِّدْقِ، إِنَّهُ لَا يَقُومُ بِدِينِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرَأَيْتُمْ إِنْ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى يَمْنَحَكُمُ اللَّهُ بِلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيُفْرِشَكُمْ بَنَاتِهِمْ، أَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُقَدِّسُونَهُ ؟ " فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ: اللَّهُمَّ وَإِنَّ ذَلِكَ لَكَ يَا أَخَا قُرَيْشٍ. فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [ الْأَحْزَابِ: 46، 45 ] ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابِضًا عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ عَلِيٌّ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا عَلِيُّ، أَيَّةُ أَخْلَاقٍ لِلْعَرَبِ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مَا أَشْرَفَهَا! بِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ". قَالَ: ثُمَّ دَفَعْنَا إِلَى مَجْلِسِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَمَا نَهَضْنَا حَتَّى بَايَعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَلِيٌّ: وَكَانُوا صُدُقًا صُبُرًا فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا رَأَى مِنْ مَعْرِفَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْسَابِهِمْ. قَالَ: فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: ادْعُوا لِإِخْوَانِكُمْ مِنْ رَبِيعَةَ; فَقَدْ أَحَاطَتْهُمُ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ فَارِسَ. ثُمَّ دَخَلَ مَنْزِلَهُ فَلَمْ يَلْبَثْ رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: " احْمَدُوا اللَّهَ كَثِيرًا; فَقَدْ ظَفِرَتِ الْيَوْمَ أَبْنَاءُ رَبِيعَةَ بِأَهْلِ فَارِسَ قَتَلُوا مُلُوكَهُمْ، وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ،

وَبِي نُصِرُوا ". قَالَ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ بِقُرَاقِرَ إِلَى جَنْبِ ذِي قَارٍ، وَفِيهَا يَقُولُ الْأَعْشَى:
فِدًى لِبَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي وَرَاكِبُهَا عِنْدَ اللِّقَاءِ وَقَلَّتِ
هُمُو ضَرَبُوا بِالْحِنْوِ حِنْوِ قُرَاقِرٍ مُقَدِّمَةَ الْهَامَرْزِ حَتَّى تَوَلَّتِ
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِنْ فَوَارِسٍ كَذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ بِهَا حِينَ وَلَّتِ
فَثَارُوا وَثُرْنَا وَالْمَوَدَّةُ بَيْنَنَا وَكَانَتْ عَلَيْنَا غَمْرَةٌ فَتَجَلَّتِ
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، كَتَبْنَاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَمَكَارِمِ الشِّيَمِ، وَفَصَاحَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ وَرَدَ هَذَا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَفِيهِ: أَنَّهُمْ لَمَّا تَحَارَبُوا هُمْ وَفَارِسُ وَالْتَقَوْا مَعَهُمْ بِقُرَاقِرَ - مَكَانٍ قَرِيبٍ مِنَ الْفُرَاتِ - جَعَلُوا شِعَارَهُمُ اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُصِرُوا عَلَى فَارِسَ بِذَلِكَ، وَقَدْ دَخَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَابِصَةَ الْعَبْسِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَازِلِنَا بِمِنًى، وَنَحْنُ نَازِلُونَ بِإِزَاءِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى التِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا خَلْفَهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَدَعَانَا، فَوَاللَّهِ مَا اسْتَجَبْنَا لَهُ وَلَا خِيرَ لَنَا. قَالَ: وَقَدْ كُنَّا سَمِعْنَا بِهِ وَبِدُعَائِهِ فِي

الْمَوَاسِمِ، فَوَقَفَ عَلَيْنَا يَدْعُونَا، فَلَمْ نَسْتَجِبْ لَهُ، وَكَانَ مَعَنَا مَيْسَرَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْعَبْسِيُّ، فَقَالَ لَنَا: أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَوْ قَدْ صَدَّقْنَا هَذَا الرَّجُلَ وَحَمَلْنَاهُ حَتَّى نَحُلَّ بِهِ وَسْطَ بِلَادِنَا لَكَانَ الرَّأْيَ، فَأَحْلِفُ بِاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ أَمْرُهُ حَتَّى يَبْلُغَ كُلَّ مَبْلَغٍ. فَقَالَ الْقَوْمُ: دَعْنَا مِنْكَ لَا تُعَرِّضْنَا لِمَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ. وَطَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَيْسَرَةَ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ مَيْسَرَةُ: مَا أَحْسَنَ كَلَامَكَ وَأَنْوَرَهُ، وَلَكِنَّ قَوْمِي يُخَالِفُونَنِي، وَإِنَّمَا الرَّجُلُ بِقَوْمِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْضُدُوهُ فَالْعِدَى أَبْعَدُ. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَرَجَ الْقَوْمُ صَادِرِينَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ مَيْسَرَةُ: مِيلُوا بِنَا إِلَى فَدَكَ; فَإِنَّ بِهَا يَهُودَ نُسَائِلُهُمْ عَنْ هَذَا الرَّجُلِ. فَمَالُوا إِلَى يَهُودَ فَأَخْرَجُوا سِفْرًا لَهُمْ، فَوَضَعُوهُ ثُمَّ دَرَسُوا ذِكْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْعَرَبِيِّ، يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيَجْتَزِئُ بِالْكَسْرَةِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَا بِالْجَعْدِ وَلَا بِالسَّبْطِ، فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ، مُشْرِقُ اللَّوْنِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَادْخُلُوا فِي دِينِهِ فَإِنًّا نَحْسُدُهُ وَلَا نَتَّبِعُهُ. وَلَنَا مِنْهُ فِي مُوَاطِنَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ، وَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا اتَّبَعَهُ، وَإِلَّا قَاتَلَهُ فَكُونُوا مِمَّنْ يَتَّبِعُهُ. فَقَالَ مَيْسَرَةُ: يَا قَوْمِ، أَلَا إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ بَيِّنٌ. فَقَالَ الْقَوْمُ: نَرْجِعُ إِلَى الْمَوْسِمِ فَنَلْقَاهُ. فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رِجَالُهُمْ، فَلَمْ يَتْبَعْهُ أَحَدٌ

مِنْهُمْ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، لَقِيَهُ مَيْسَرَةُ فَعَرَفَهُ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا زِلْتُ حَرِيصًا عَلَى اتِّبَاعِكَ مِنْ يَوْمِ أَنَخْتَ بِنَا حَتَّى كَانَ مَا كَانَ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا تَرَى مِنْ تَأَخُّرِ إِسْلَامِي، وَقَدْ مَاتَ عَامَّةُ النَّفَرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعِي، فَأَيْنَ مَدْخَلُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي النَّارِ ". فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنِي، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَكَانَ لَهُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مَكَانٌ.
وَقَدِ اسْتَقْصَى الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ قِصَصَ الْقَبَائِلِ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، فَذَكَرَ عَرْضَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسَهُ، عَلَى بَنِي عَامِرٍ، وَغَسَّانَ، وَبَنِي فَزَارَةَ، وَبَنِي مُرَّةَ، وَبَنِي حَنِيفَةَ، وَبَنِي سُلَيْمٍ، وَبَنِي عَبْسٍ، وَبَنِي نَضْرِ بْنِ هَوَازِنَ، وَبَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ، وَكِنْدَةَ، وَكَلْبٍ، وَبَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وَبَنِي عُذْرَةَ، وَقَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ، وَغَيْرِهِمْ وَسِيَاقَ أَخْبَارِهَا مُطَوَّلَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، أَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ - يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ - عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ، فَيَقُولُ: " هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ؟ " فَأَتَاهُ رَجُلٌ مِنْ

هَمْدَانَ، فَقَالَ: " مِمَّنْ أَنْتَ ؟ " قَالَ الرَّجُلُ: مِنْ هَمْدَانَ. قَالَ: " فَهَلْ عِنْدَ قَوْمِكَ مِنْ مَنَعَةٍ ؟ " قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَشِيَ أَنْ يَحْقِرَهُ قَوْمُهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: آتِيهِمْ فَأُخْبِرُهُمْ ثُمَّ آتِيكَ مِنْ عَامِ قَابِلٍ. قَالَ: " نَعَمْ ". فَانْطَلَقَ، وَجَاءَ وَفْدُ الْأَنْصَارِ فِي رَجَبٍ. وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

فَصْلٌ فِي قُدُومِ وَفْدِ الْأَنْصَارِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ حَتَّى بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةً بَعْدَ بَيْعَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
حَدِيثُ سُوِيدِ بْنِ صَامِتٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ سُوِيدُ بْنُ الصَّامِتِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَطِيَّةَ بْنِ حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَأُمُّهُ لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النَّجَّارِيَّةُ، أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرٍو أُمِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ. فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَدِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، كُلَّمَا اجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْمَوْسِمِ، أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالرَّحْمَةِ، وَلَا يَسْمَعُ بِقَادِمٍ يَقْدَمُ مَكَّةَ مِنَ الْعَرَبِ لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ إِلَّا تَصَدَّى لَهُ، وَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى،

وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ الصَّامِتِ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، وَكَانَ سُوَيْدٌ إِنَّمَا يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ - فِيهِمُ - الْكَامِلَ; لِجَلَدِهِ، وَشِعْرِهِ، وَشَرَفِهِ، وَنَسَبِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَلَا رُبَّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَكَ مَا يَفْرِي مَقَالَتُهُ كَالشَّهْدِ مَا كَانَ شَاهِدًا
وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النَّحْرِ يَسُرُّكَ بَادِيهِ وَتَحْتَ أَدِيمِهِ
نَمِيمَةُ غِشٍّ تَبْتَرِي عَقَبَ الظَّهْرِ تُبَيِّنُ لَكَ الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ
مِنَ الْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنَّظَرِ الشَّزْرِ فَرِشْنِي بِخَيْرٍ طَالَمَا قَدْ بَرَيْتَنِي
وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي
قَالَ: فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ. فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

" وَمَا الَّذِي مَعَكَ ؟ " قَالَ مَجَلَّةُ لُقْمَانَ - يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اعْرِضْهَا عَلَيَّ ". فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ، وَالَّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيَّ هُوَ هُدًى وَنُورٌ ". فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ حَسَنٌ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ، فَإِنْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ لَيَقُولُونَ: إِنَّا لَنَرَاهُ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ بُعَاثَ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِأَخْصَرَ مِنْ هَذَا.

إِسْلَامُ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، يَلْتَمِسُونَ الْحَلِفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: " هَلْ لَكَمَ فِي خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ ؟ ". قَالَ: فَقَالُوا: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: " أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، أَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأُنْزِلَ عَلَيَّ الْكِتَابُ ". ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: يَا قَوْمِ، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ. فَأَخَذَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنْ تُرَابِ الْبَطْحَاءِ، فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا. قَالَ: فَصَمَتَ إِيَاسٌ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثَ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ. قَالَ مَحْمُودُ

بْنُ لَبِيدٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَنِي مِنْ قَوُمِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلِّلُ اللَّهَ، وَيُكَبِّرُهُ، وَيُحَمِّدُهُ، وَيُسَبِّحُهُ حَتَّى مَاتَ، فَمَا كَانُوا يَشُكُّونَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا، لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعَ.
قُلْتُ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ، وَبُعَاثُ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ، كَانَتْ فِيهِ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَشْرَافِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَكُبَرَائِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ شُيُوخِهِمْ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ بُعَاثَ يَوْمًا قَدَّمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَدِ افْتَرَقَ مَلَؤُهُمْ وَقُتِلَتْ سَرَاتُهُمْ.
وَقَالَ أَبُو زَرْعَةَ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِهِ " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ": بَابُ إِسْلَامِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ، وَمُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ

بْنِ هَانِئٍ الشَّجَرِيُّ، ثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ،أَنَّهُ خَرَجَ هُوَ وَابْنُ خَالَتِهِ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، حَتَّى قَدِمَا مَكَّةَ، فَلَمَّا هَبَطَا مِنَ الثَّنِيَّةِ، رَأَيَا رَجُلًا تَحْتَ شَجَرَةٍ. قَالَ: وَهَذَا قَبْلَ خُرُوجِ السِّتَّةِ مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ كَلَّمْنَاهُ، قُلْنَا: نَأْتِي هَذَا الرَّجُلَ نَسْتَوْدِعُهُ رَاحِلَتَيْنَا حَتَّى نَطُوفَ بِالْبَيْتِ. فَجِئْنَا فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ تَسْلِيمَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَرَدَّ عَلَيْنَا تَسْلِيمَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ سَمِعْتُ بِالنَّبِيِّ. قَالَ: فَأَنْكَرْنَا. فَقُلْنَا: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: " انْزِلُوا ". فَنَزَلُوا فَقُلْنَا: أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي يَدَّعِي مَا يَدَّعِي، وَيَقُولُ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ: " أَنَا هُوَ ". قُلْنَا: فَاعْرِضْ عَلَيْنَا الْإِسْلَامَ. فَعَرَضَ، وَقَالَ: " مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ ؟ " قُلْنَا: خَلَقَهُنَّ اللَّهُ. قَالَ: " مَنْ خَلَقَكُمْ ؟ " قُلْنَا: اللَّهُ. قَالَ: " فَمِنْ عَمَلِ هَذِهِ الْأَصْنَامَ التِي تَعْبُدُونَ ؟ " قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: " الْخَالِقُ أَحَقُّ بِالْعِبَادَةِ أَوِ الْمَخْلُوقُ ؟ " قُلْنَا: الْخَالِقُ. قَالَ: " فَأَنْتُمْ أَحَقُّ أَنَّ تَعْبُدَكُمْ، وَأَنْتُمْ عَمِلْتُمُوهَا، وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ

تَعْبُدُوهُ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْتُمُوهُ، وَأَنَا أَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَتَرْكِ الْعُدْوَانِ، وَإِنْ غَضِبَ النَّاسُ ". فَقَالَا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ بَاطِلًا، لَكَانَ مِنْ مَعَالِي الْأُمُورِ، وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، فَأَمْسِكْ رَاحِلَتَيْنَا حَتَّى نَأْتِيَ الْبَيْتَ. فَجَلَسَ عِنْدَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ. قَالَ رَافِعٌ: وَجِئْتَ الْبَيْتَ فَطُفْتُ، وَأَخْرَجْتُ سَبْعَةَ قِدَاحٍ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهَا قَدَحًا، فَاسْتَقْبَلْتُ الْبَيْتَ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَأَخْرِجْ قِدْحَهُ. سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَضَرَبْتُ بِهَا سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَصِحْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيَّ، وَقَالُوا: مَجْنُونٌ، رَجُلٌ صَبَأَ. فَقُلْتُ: بَلْ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ. ثُمَّ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رَآنِي مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ، قَالَ: لَقَدْ جِئْتَ بِوَجْهٍ مَا ذَهَبْتَ بِهِ، رَافِعُ. فَجِئْتُ وَآمَنْتُ، وَعَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ " يُوسُفَ " وَ " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ "، ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا كُنَّا بِالْعَقِيقِ، قَالَ مُعَاذٌ: إِنِّي لَمْ أَطْرُقْ لَيْلًا قَطُّ، فَبِتْ بِنَا حَتَّى نُصْبِحَ. فَقُلْتُ: أَبِيتُ وَمَعِي مَا مَعِي مِنَ الْخَيْرِ؟! مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ. وَكَانَ رَافِعٌ إِذَا خَرَجَ سَفَرًا ثُمَّ قَدِمَ عَرَّضَ قَوْمَهُ إِسْنَادٌ وَسِيَاقٌ حَسَنٌ.

بَابُ بَدْءِ إِسْلَامِ الْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَاعِزَازَ نَبِيِّهِ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النَّفَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ، فَبَيْنَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا. فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: لَمَّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: " مَنْ أَنْتُمْ ؟ " قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ. قَالَ: " أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: " أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلِّمُكُمْ ". قَالُوا: بَلَى. فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ بِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ عَزُّوهُمْ بِبِلَادِهِمْ، فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلَّ زَمَانَهُ نَتَّبِعُهُ، نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ، فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمِ، تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَلنَّبِيُّ الَّذِي تَوَعَّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ. فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْ صَدَّقُوهُ. وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمَ، بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا

بَيْنَهُمْ، وَعَسَى أَنْ يَجْمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ، فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ، فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْكَ فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ. ثُمَّ انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لِي سِتَّةُ نَفَرٍ، كُلُّهُمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ: أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، - قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْخَزْرَجِ وَمِنَ الْأَوْسِ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ. وَقِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ رَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَمُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ النَّجَّارِيَّانِ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ السَّلَمِيُّ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَوَادٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمٍ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ

مِنْ بَنِي حَرَامٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، ثُمَّ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا لَيْلَتَئِذٍ سِتَّةَ نَفَرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَوَّلَ اجْتِمَاعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِمْ كَانُوا ثَمَانِيَةً، وَهُمْ: مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ، وَذَكْوَانُ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ. فَأَسْلَمُوا وَوَاعَدُوهُ إِلَى قَابِلٍ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ ابْنَ عَفْرَاءَ وَرَافِعَ بْنَ مَالِكٍ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا يُفَقِّهُنَا. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ كَمَا سَيُورِدُهَا ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمَّ مِنْ سِيَاقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إِلَى قَوْمِهِمْ، ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ. فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا

وَفِيهَا ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَخُوهُ مُعَاذٌ، وَهْمَا ابْنَا عَفْرَاءَ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مُخَلَّدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الزُّرَقِيُّ، - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهُوَ أَنْصَارِيٌّ مُهَاجِرِيٌّ - وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَحَلِيفُهُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ الْبَلَوِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ الْعَجْلَانِيُّ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ الْمُتَقَدِّمُ، فَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَمِنَ الْأَوْسِ اثْنَانِ وَهُمَا; عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ مَالِكُ بْنُ التَّيِّهَانِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: التَّيِّهَانُ يُخَفَّفُ وَيُثَقَّلُ كَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زَعْوَرِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ إِرَاشِيٌّ. وَقِيلَ: بَلَوِيٌّ. وَلِهَذَا لَمْ يَنْسِبْهُ

ابْنُ إِسْحَاقَ، وَلَا ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: وَالْهَيْثَمُ فَرْخُ الْعُقَابِ، وَضَرْبٌ مِنَ النَّبَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا شَهِدُوا الْمَوْسِمَ عَامَئِذٍ، وَعَزَمُوا عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ، فَبَايَعُوهُ عِنْدَهَا بَيْعَةَ النِّسَاءِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [ إِبْرَاهِيمَ: 35 ] إِلَى آخِرِهَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ كُنْتُ مِمَّنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، " فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ ". وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِهِ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ عَائِذِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ

أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ حَدَّثَهُ، قَالَ:بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأَوْلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ، " فَإِنْ وَفَيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سَتَرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَوْلُهُ: عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ. يَعْنِي عَلَى وَفْقِ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ بَيْعَةُ النِّسَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ هَذَا مِمَّا نَزَلَ عَلَى وَفْقِ مَا بَايَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِمُوَافَقَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي " سِيرَتِهِ " وَفِي " التَّفْسِيرِ " وَإِنَّ كَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ وَقَعَتْ عَنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ فَهُوَ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ عَنْهُ الْقَوْمُ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمُ الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ،

عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا بَعَثَ مُصْعَبًا حِينَ كَتَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَيْهِمْ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ هِيَ الْأُولَى. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَسِيَاقُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَتَمُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَقُولُ: لَا أَدْرِي مَا الْعَقَبَةُ الْأُولَى. ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَلَى لَعَمْرِي قَدْ كَانَتْ عَقَبَةٌ وَعَقَبَةٌ. قَالُوا كُلُّهُمْ: فَنَزَلَ مُصْعَبٌ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَكَانَ يُسَمَّى بِالْمَدِينَةِ الْمُقْرِئَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِهِمْ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمَّهُ بَعْضٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنْتُ قَائِدَ أَبِي حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ بِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا، صَلَّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. قَالَ: فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ إِلَّا صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا بِي لَعَجْزٌ أَلَّا أَسْأَلَهُ. فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَا لَكَ إِذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ، صَلَّيْتَ عَلَى أَبِي

أُمَامَةَ ؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ جَمَعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ، فِي هَزْمِ النَّبِيتِ، مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ، فِي نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ: نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ. قَالَ: قُلْتُ: وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يَأْمُرُهُ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَفِي إِسْنَادِهِ غَرَابَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِيبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ابْنَ خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ، عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهُ:

بِئْرُ مَرَقٍ. فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمَّنْ أَسْلَمَ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، يَوْمَئِذٍ سَيِّدًا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، فَلَمَّا سَمِعَا بِهِ، قَالَ سَعْدٌ لِأُسَيْدٍ: لَا أَبَا لَكَ، انْطَلِقْ إِلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفِّهَا ضُعَفَاءَنَا فَازْجُرْهُمَا، وَانْهَهُمَا عَنْ أَنْ يَأْتِيَا دَارَيْنَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ مِنِّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، كَفَيْتُكَ ذَلِكَ، هُوَ ابْنُ خَالَتِي وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدَّمًا. قَالَ: فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، قَالَ لِمُصْعَبٍ: هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَقَدْ جَاءَكَ فَاصْدُقِ اللَّهَ فِيهِ. قَالَ مُصْعَبٌ: إِنْ يَجْلِسْ أُكَلِّمْهُ. قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا. فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلَيْنَا تُسَفِّهَانِ ضُعَفَاءَنَا ؟ اعْتَزِلَانَا إِنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: فَقَالَ لَهُ عَلَامَ أَتَيْتَنَا فِي دُوْرِنَا بِهَذَا الْوَحِيدِ الْغَرِيبِ الطَّرِيدِ يُسَفِّهُ ضُعَفَاءَنَا بِالْبَاطِلِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ؟ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ كُفَّ عَنْكَ مَا تَكْرَهُ. قَالَ: أَنْصَفْتَ. قَالَ: ثُمَّ رَكَّزَ حَرْبَتَهُ، وَجَلَسَ إِلَيْهِمَا، فَكَلَّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ. فَقَالَا فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمَا: وَاللَّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فِي إِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ! كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدِّينِ ؟ قَالَا لَهُ: تَغْتَسِلُ

فَتَطَّهَّرُ، وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي، فَقَامَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَتَشَهَّدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: إِنَّ وَرَائِي رَجُلًا إِنِ اتَّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَسَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُمَا الْآنَ; سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إِلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ، وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا، قَالَ: قَالَ أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى النَّادِي، قَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا فَعَلْتَ ؟ قَالَ: كَلَّمْتُ الرَّجُلَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ بِهِمَا بَأْسًا، وَقَدْ نَهَيْتُهُمَا فَقَالَا: نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْتَ. وَقَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّهُ ابْنُ خَالَتِكَ لِيُخْفِرُوكَ. قَالَ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُغْضَبًا مُبَادِرًا; تَخَوُّفًا لِلَّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، وَأَخَذَ الْحَرْبَةَ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ أَغْنَيْتَ شَيْئًا. ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمَا، فَلَمَّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنَّيْنِ عَرَفَ أَنَّ أُسَيْدًا إِنَّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتِّمًا، ثُمَّ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنَ الْقَرَابَةِ مَا رُمْتَ هَذَا مِنِّي، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ ؟ قَالَ: وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ لِمُصْعَبٍ: جَاءَكَ وَاللَّهِ سَيِّدٌ مِنْ وَرَائِهِ قَوْمُهُ، إِنْ يَتَّبِعْكَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْكَ مِنْهُمُ اثْنَانِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: أَوَ تَقْعُدُ فَتَسْمَعَ، فَإِنْ رَضِيتَ أَمْرًا وَرَغِبْتَ فِيهِ قَبِلْتَهُ، وَإِنْ كَرِهْتَهُ عَزَلْنَا عَنْكَ مَا تَكْرَهُ. قَالَ سَعْدٌ: أَنْصَفْتَ. ثُمَّ رَكَّزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ - وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ - أَنَّهُ

قَرَأَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الزُّخْرُفِ، قَالَ: فَعَرَفْنَا وَاللَّهِ فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ لِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهُّلِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدِّينِ ؟ قَالَا: تَغْتَسِلُ فَتَطَّهَّرُ، وَتُطَهِّرُ ثَوْبَيْكَ، ثُمَّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ تُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: فَقَامَ فَاغْتَسَلَ، وَطَهَّرَ ثَوْبَيْهِ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ، فَأَقْبَلَ عَامِدًا إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ، فَلَمَّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا، قَالُوا: نَحْلِفُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَجَعَ إِلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ. فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ، قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ ؟ قَالُوا: سَيِّدُنَا، وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً. قَالَ: فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا أَوْ مُسْلِمَةً، وَرَجَعَ أَسْعَدُ وَمُصْعَبٌ إِلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُوَانِ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَخَطْمَةَ، وَوَائِلٍ، وَوَاقِفٍ، وَتِلْكَ أَوْسٌ، وَهُمْ مِنَ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ، وَاسْمُهُ صَيْفِيٌّ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ اسْمُهُ الْحَارِثُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ. وَاسْمُ أَبِيهِ الْأَسْلَتِ: عَامِرُ بْنُ جُشَمَ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، وَكَذَا نَسَبَهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ أَيْضًا. وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ قَائِدًا، يَسْتَمِعُونَ

مِنْهُ وَيُطِيعُونَهُ، فَوَقَفَ بِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ.
قُلْتُ: وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ هَذَا، ذَكَرَ لَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَشْعَارًا رَبَّانِيَّةً حَسَنَةً تَقْرُبُ مِنْ أَشْعَارِ أُمَيَّةَ بْنِ الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَلَمَّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرَبِ وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ، ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ ذُكِرَ وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ - مِنْ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَذَلِكَ لِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ، فَلَمَّا وَقَعَ أَمْرُهُ بِالْمَدِينَةِ وَتَحَدَّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ، قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ - قَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ، وَاسْمُ أَبِي أَنَسٍ: قَيْسُ بْنُ صِرْمَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ وَفِي عُمَرَ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [ الْبَقَرَةِ: 187 ] الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ يُحِبُّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا كَانَتْ تَحْتَهُ

أَرْنَبُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، وَكَانَ يُقِيمُ عِنْدَهُمُ السِّنِينَ بِامْرَأَتِهِ - قَالَ قَصِيدَةً يُعَظِّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ، وَيَنْهَى قُرَيْشًا فِيهَا عَنِ الْحَرْبِ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بَلَاءَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ، وَدَفْعَهُ عَنْهُمُ الْفِيلَ وَكَيْدَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غَالِبِ رَسُولَ امْرئٍ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ
عَلَى النَّأْيِ مَحْزُونٍ بِذَلِكَ نَاصِبِ وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مُعَرَّسٌ
وَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي نُبَيِّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلُّ قَبِيلَةٍ
لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ أُعِيذُكُمْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ صُنْعِكُمْ
وَشَرِّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسِّ الْعَقَارِبِ وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ
كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقُّ صَائِبِ فَذَكِّرْهُمْ بِاللَّهِ أَوَّلَ وَهْلَةٍ
وَإِحْلَالِ إِحْرَامِ الظِّبِاءِ الشَّوَازِبِ

وَقُلْ لَهُمُ وَاللَّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ
ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبْ عَنْكُمُ فِي الْمَرَاحِبِ مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً
هِيَ الْغَوْلُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ تُقَطِّعُ أَرْحَامًا وَتُهْلِكُ أُمَّةً
وَتَبْرِي السَّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيَّةِ بَعْدَهَا
شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ الْمُحَارِبِ وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا
كَأَنَّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ الْجَنَادِبِ فَإِيَّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنَّكُمْ
وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرَّ الْمَشَارِبِ تَزَيَّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمَّ يَرَوْنَهَا
بِعَاقِبَةٍ إِذْ بُيِّنَتْ أُمَّ صَاحِبِ تُحَرِّقَ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا وَتَنْتَحِي
ذَوِي الْعِزِّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصَّوَائِبِ أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ فِي حَرْبِ حَاطِبِ

وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوَّدٍ
طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ غَيْرُ خَائِبِ عَظِيمِ رَمَادِ النَّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ
وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمِ الْمَضَارِبِ وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضَّلَالِ كَأَنَّمَا
أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصَّبَا وَالْجَنَائِبِ يُخَبِّرُكُمْ عَنْهَا امْرِؤٌ حَقُّ عَالِمٍ
بِأَيَّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ التَّجَارُبِ فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبِ وَاذْكُرُوا
حِسَابَكُمُ وَاللَّهُ خَيْرُ مُحَاسِبِ وَلِيُّ امْرِئٍ فَاخْتَارَ دِينًا فَلَا يَكُنْ
عَلَيْكُمْ رَقِيبٌ غَيْرُ رَبِّ الثَّوَاقِبِ أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا فَأَنْتُمُ
لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى بِالذَّوَائِبِ وَأَنْتُمْ لِهَذَا النَّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ
تُؤَمُّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ وَأَنْتُمْ إِذَا مَا حُصِّلَ النَّاسُ جَوْهَرٌ
لَكُمْ سُرَّةُ الْبَطْحَاءِ شُمُّ الْأَرَانِبِ تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عَتِيقَةً
مُهَذَّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ أَشَائِبِ تَرَى طَالِبَ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ
عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ

لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنَّ سَرَاتَكُمْ
عَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا وَأَعْلَاهُ سُنَّةً
وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقِّ وَسْطَ الْمَوَاكِبِ فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا
بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ
غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ كَتِيبَتُهُ بِالسَّهْلِ تُمْسِي وَرِجْلُهُ
عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ
جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ
إِلَى أَهْلِهِ مِلْحُبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ فَإِنْ تَهْلِكُوا نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمٌ
يُعَاشُ بِهَا قَوْلُ امْرِئٍ غَيْرِ كَاذِبٍ
وَحَرْبُ دَاحِسٍ الَّذِي ذَكَرَهَا أَبُو قَيْسٍ فِي شِعْرِهِ، كَانَتْ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَشْهُورَةً، وَكَانَ سَبَبَهَا فِيمَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَغَيْرُهُ، أَنَّ

فَرَسًا يُقَالُ لَهَا: دَاحِسٌ. كَانَتْ لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ الْغَطَفَانِيِّ، أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جُؤَيَّةَ الْغَطَفَانِيِّ أَيْضًا. يُقَالُ لَهَا: الْغَبْرَاءُ. فَجَاءَتْ دَاحِسُ سَابِقًا، فَأَمَرَ حُذَيْفَةُ مَنْ ضَرَبَ وَجْهَهُ، فَوَثَبَ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ الْغَبْرَاءِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ فَلَطَمَ مَالِكًا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا جُنَيْدِبٍ الْعَبْسِيَّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا فَقَتَلَهُ، فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ بَنِي عَبْسٍ وَفَزَارَةَ، فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ، وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ، وَجَمَاعَاتٌ آخَرُونَ، وَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا كَثِيرَةً يَطُولُ بَسْطُهَا وَذِكْرُهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: أَرْسَلَ قَيْسٌ دَاحِسَ وَالْغَبْرَاءَ، وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطَّارَ وَالْحَنْفَاءَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: وَأَمَّا حَرْبُ حَاطِبٍ; فَيَعْنِي حَاطِبَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيًّا جَارًا لِلْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ - وَهُوَ الَّذِي

يُقَالُ لَهُ: ابْنُ فُسْحُمَ - فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ، فَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْخَزْرَجِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ الْأَسْوَدُ بْنُ الصَّامِتِ الْأَوْسِيُّ، قَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذَيَّادٍ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا أَيْضًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَبَا قَيْسِ بْنَ الْأَسْلَتِ، مَعَ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ، لَمْ يَنْتَفِعْ بِذَلِكَ حِينَ قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَدِينَةَ وَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَبْقَ دَارٌ - أَيْ مَحَلَّةٌ - مِنْ دُورِ الْمَدِينَةِ إِلَّا وَفِيهَا مُسْلِمُونَ وَمُسْلِمَاتٌ، غَيْرَ دَارِ بَنِي وَاقِفٍ قَبِيلَةِ أَبِي قَيْسٍ، ثَبَّطَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْقَائِلُ أَيْضًا:
أَرَبَّ النَّاسِ أَشْيَاءٌ أَلَمَّتْ يُلَفُّ الصَّعْبُ مِنْهَا بِالذَّلُولِ
أَرَبَّ النَّاسِ أَمَّا إِنْ ضَلَلْنَا فَيَسِّرْنَا لِمَعْرُوفِ السَّبِيلِ
فَلَوْلَا رَبُّنَا كُنَّا يَهُودًا وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُولِ
وَلَوُلَا رَبُّنَا كُنَّا نَصَارَى مَعَ الرُّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ
وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إِذْ خُلِقْنَا حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلِّ جِيلِ

نَسُوقُ الْهَدْيَ تَرْسُفُ مُذْعِنَاتٍ مُكَشَّفَةَ الْمَنَاكِبِ فِي الْجُلُولِ
وَحَاصِلُ مَا يَقُولُ، أَنَّهُ حَائِرٌ فِيمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ سَمِعَهُ مِنْ بِعْثَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَوَقَّفَ الْوَاقِفِيُّ فِي ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَكَانَ الَّذِي ثَبَّطَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ أَوَّلًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، بَعْدَمَا أَخْبَرَهُ أَبُو قَيْسٍ أَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ يَهُودُ، فَمَنَعَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يُسْلِمْ إِلَى يَوْمِ الْفَتْحِ هُوَ وَأَخُوهُ وَحْوَحٌ. وَأَنْكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنْ يَكُونَ أَبُو قَيْسٍ أَسْلَمَ. وَكَذَا الْوَاقِدِيُّ، قَالَ: كَانَ عَزَمَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَوَّلَ مَا دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَامَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَحَلَفَ لَا يُسْلِمُ إِلَى حَوْلٍ، فَمَاتَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ، فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ " أُسْدِ الْغَابَةِ " أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَسُمِعَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: " يَا خَالِ، قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". فَقَالَ: أَخَالٌ أَمْ عَمٌّ ؟ قَالَ: " بَلْ

خَالٌ ". قَالَ: فَخَيْرٌ لِي أَنْ أَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَعَمْ ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَكَرَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ أَرَادَ ابْنَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ كُبَيْشَةَ بِنْتَ مَعْنِ بْنِ عَاصِمٍ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [ النِّسَاءِ: 22 ] الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَسَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ ": كَانَ أَبُو قَيْسٍ هَذَا قَدْ تَرَهَّبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ، وَاغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَتَطَهَّرَ مِنَ الْحَائِضِ مِنَ النِّسَاءِ وَهَمَّ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، ثُمَّ أَمْسَكَ عَنْهَا، وَدَخَلَ بَيْتًا لَهُ فَاتَّخَذَهُ مَسْجِدًا، لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ، وَقَالَ: أَعْبُدُ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ، حِينَ فَارَقَ الْأَوْثَانَ وَكَرِهَهَا، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَكَانَ قَوَّالًا بِالْحَقِّ، مُعَظِّمًا لِلَّهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ، يَقُولُ فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا حِسَانًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيًا أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتِيَ فَافْعَلُوا

فَأُوصِيكُمْ بِاللَّهِ وَالْبِرِّ وَالتُّقَى وَأَعْرَاضِكُمْ وَالْبِرُّ بِاللَّهِ أَوَّلُ
وَإِنْ قَوْمُكُمْ سَادُوا فَلَا تَحْسُدُنَّهُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ الرِّئَاسَةِ فَاعْدِلُوا
وَإِنْ نَزَلَتْ إِحْدَى الدَّوَاهِي بِقَوْمِكُمْ فَأَنْفُسَكُمْ دُونَ الْعَشِيرَةِ فَاجْعَلُوا
وَإِنْ نَابَ غُرْمٌ فَادِحٌ فَارْفُقُوهُمُ وَمَا حَمَّلُوكُمْ فِي الْمُلِمَّاتِ فَاحْمِلُوا
وَإِنْ أَنْتُمْ أَمْعَرْتُمُ فَتَعَفَّفُوا وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْخَيْرِ فِيكُمْ فَأَفْضِلُوا
وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ أَيْضًا:
سَبِّحُوا اللَّهَ شَرْقَ كُلِّ صَبَاحٍ طَلَعَتْ شَمْسُهُ وَكُلَّ هِلَالِ
عَالِمَ السِّرِّ وَالْبَيَانِ جَمِيعًا لَيْسَ مَا قَالَ رَبُّنَا بِضَلَالِ
وَلَهُ الطَّيْرُ تَسْتَرِيدُ وَتَأْوِي فِي وُكُورٍ مِنْ آمِنَاتِ الْجِبَالِ
وَلَهُ الْوَحْشُ بِالْفَلَاةِ تَرَاهَا فِي حِقَافٍ وَفِي ظِلَالِ الرِّمَالِ
وَلَهُ هَوَّدَتْ يَهُودُ وَدَانَتْ كُلَّ دِينٍ مَخَافَةً مِنْ عُضَالِ
وَلَهُ شَمَّسَ النَّصَارَى وَقَامُوا كُلَّ عِيدٍ لِرَبِّهِمْ وَاحْتِفَالِ

وَلَهُ الرَّاهِبُ الْحَبِيسُ تَرَاهُ رَهْنَ بُؤْسٍ وَكَانَ نَاعِمَ بَالِ
يَا بَنِيَّ الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا وَصِلُوهَا قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي ضِعَافِ الْيَتَامَى وَبِمَا يُسْتَحَلُّ غَيْرُ الْحَلَالِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلْيَتِيمِ وَلِيًّا عَالِمًا يَهْتَدِي بِغَيْرِ سُؤَالِ
ثُمَّ مَالَ الْيَتِيمِ لَا تَأْكُلُوهُ إِنَّ مَالَ الْيَتِيمِ يَرْعَاهُ وَالِي
يَا بَنِيَّ التُّخُومَ لَا تَجْزِلُوهَا إِنَّ جَزْلَ التُّخُومِ ذُو عُقَّالِ
يَا بَنِيَّ الْأَيَّامَ لَا تَأْمَنُوهَا وَاحْذَرُوا مَكْرَهَا وَمَرَّ اللَّيَالِي
وَاعْلَمُوا أَنَّ مَرَّهَا لِنَفَادِ الْ خَلْقِ مَا كَانَ مِنْ جَدِيدٍ وَبَالِي
وَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالْتَّقْ وَى وَتَرْكِ الْخَنَا وَأَخْذِ الْحَلَالِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا، يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ نُزُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُمْ:

ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا بِتَمَامِهَا فِيمَا بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.

قِصَّةُ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَخَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ حُجَّاجِ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، حَتَّى قَدِمُوا مَكَّةَ فَوَاعَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوَاسِطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، حِينَ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنْ كَرَامَتِهِ وَالنَّصْرِ لِنَبِيِّهِ، وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ، حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبًا حَدَّثَهُ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا، قَالَ:خَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ صَلَّيْنَا وَفَقِهْنَا، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا، فَلَمَّا وَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا، وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالَ الْبَرَاءُ: يَا هَؤُلَاءِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَتُوَافِقُونَنِي عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ: قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - وَأَنْ أُصَلِّيَ إِلَيْهَا. قَالَ: فَقُلْنَا: وَاللَّهِ مَا بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ. فَقَالَ إِنِّي لَمُصَلٍّ إِلَيْهَا. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: لَكِنَّا لَا نَفْعَلُ. قَالَ: فَكُنَّا إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ صَلَّيْنَا إِلَى الشَّامِ، وَصَلَّى هُوَ إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ. قَالَ: وَقَدْ كُنَّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ، وَأَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، قَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي، انْطَلِقْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا

رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ. قَالَ: فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِهِ ؟ فَقُلْنَا: لَا. فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّهُ ؟ قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ. وَقَدْ كُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ، كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا. قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ. قَالَ: فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ، وَإِذَا الْعَبَّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ مَعَهُ، فَسَلَّمْنَا ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْعَبَّاسِ: " هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ ؟ " قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ، وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشَّاعِرُ ؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا قَدْ هَدَانِي اللَّهُ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ، فَرَأَيْتُ أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ مِنِّي بِظَهْرٍ، فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا ". قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ. قَالَ: وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى الْحَجِّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ، وَكَانَتِ اللَّيْلَةُ التِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا، وَمَعَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ، سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، أَخَذْنَاهُ وَكُنَّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا، فَكَلَّمْنَاهُ

وَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا جَابِرٍ، إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا، وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمًّا أَنْتَ فِيهِ، أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا. ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّانَا الْعَقَبَةَ، قَالَ: فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ، وَكَانَ نَقِيبًا.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: أَنَا وَأَبِي وَخَالِي مِنْ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَحَدُهُمْا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: كَانَ عَمْرٌو يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: شَهِدَ بِي خَالَايَ الْعَقَبَةَ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ

سِنِينَ يَتَّبِعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بِعُكَاظٍ، وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ: " مَنْ يُؤْوِينِي ؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ ؟ " حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ أَوْ مِنْ مُضَرَ - كَذَا قَالَ فِيهِ - فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ، فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ لَا يَفْتِنُكَ. وَيَمْشِي بَيْنَ رِحَالِهِمْ وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهَا مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ: " تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنْ

تَقُولُوا فِي اللَّهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمُ الْجَنَّةُ ". فَقُمْنَا إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ - وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ: وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ إِلَّا أَنَا - فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ، وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ أَعْذُرُ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، قَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللَّهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا، وَلَا نُسْلَبُهَا أَبَدًا. قَالَ فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، وَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ، زَادَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ بِسَنَدِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، كِلَاهُمَا عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ نَحْوَهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. وَقَالَ الْبَزَّارُ: وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، وَلَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ كَانَ الْعَبَّاسُ آخِذًا بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ يُوَاثِقُنَا، فَلَمَّا فَرَغْنَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخَذْتُ وَأَعْطَيْتُ ".
وَقَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، يَعْنِي الْجُعْفِيَّ، وَدَاوُدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنُّقَبَاءِ مِنَ الْأَنْصَارِ: " تُؤْوُونِي وَتَمْنَعُونِي ؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالُوا: فَمَا لَنَا ؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ " ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ جَابِرٍ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ مَعْبَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،

، قَالَ: فَنِمْنَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا، حَتَّى إِذَا مَضَى ثُلْثُ اللَّيْلِ، خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَتَسَلَّلُ تَسَلُّلَ الْقَطَا، مُسْتَخْفِينَ حَتَّى اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا; نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، وَأَسْمَاءُ ابْنَةُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي إِحْدَى نِسَاءِ بَنِيَ سَلِمَةَ، وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ. وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ، بِأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ.
قُلْتُ: وَمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ، فَالْعَرَبُ كَثِيرًا مَا تَحْذِفُ الْكَسْرَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَةً وَاحِدَةً. قَالَ: مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ مِنْ ذَوِي أَسْنَانِهِمْ، وَثَلَاثُونَ مِنْ شَبَابِهِمْ. قَالَ: وَأَصْغَرُهُمْ أَبُو مَسْعُودٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، أَثْبَتُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَاجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى جَاءَنَا وَمَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ، وَيَتَوَثَّقَ لَهُ، فَلَمَّا جَلَسَ كَانَ أَوَّلَ مُتَكَلِّمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ - قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا - إِنَّ مُحَمَّدًا مِنَّا حَيْثُ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأَيِنَا فِيهِ، فَهُوَ فِي عِزَّةٍ مَنْ قَوْمِهُ، وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ، وَإِنَّهُ قَدْ أَبَى إِلَّا الِانْحِيَازَ إِلَيْكُمْ، وَاللُّحُوقَ بِكُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافَوْنَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَمَانِعُوهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمَّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ بِهِ إِلَيْكُمْ فَمِنَ الْآنَ فَدَعُوهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزٍّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ. قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: قَدْ سَمِعْنَا مَا قَلَتَ، فَتَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا الْقُرْآنَ، وَدَعَا إِلَى اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَالَ: " أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ ". قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لِنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ، وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. قَالَ: فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ - وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرِّجَالِ حِبَالًا، وَإِنَّا قَاطِعُوهَا - يَعْنِي الْيَهُودَ - فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللَّهُ، أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا ؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، وَالْهَدْمُ الْهَدْمُ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ، وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ ". قَالَ كَعْبٌ: وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجُوا إِلَى مِنْكُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ " فَأَخْرَجُوا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ، وَثَلَاثَةً مِنَ الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُمْ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ - الْمُتَقَدِّمُ - وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ - الْمُتَقَدِّمُ - وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ

وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - الْمُتَقَدِّمُ - وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ عَبْدِ وُدِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَهَؤُلَاءِ تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ. وَمِنَ الْأَوْسِ ثَلَاثَةٌ وَهُمْ: أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ النَّحَّاطِ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السَّلْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعُدُّونَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ، بَدَلَ رِفَاعَةَ هَذَا. وَهُوَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَاخْتَارَهُ السُّهَيْلِيُّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْغَابَةِ ". ثُمَّ اسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَا

رَوَاهُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فِي ذِكْرِ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ، حِينَ قَالَ:
فَأَبْلِغْ أُبَيًّا أَنَّهُ فَالَ رَأْيُهُ وَحَانَ غَدَاةَ الشِّعْبِ وَالْحَيْنُ وَاقِعُ أَبَى اللَّهُ مَا مَنَّتْكَ نَفْسُكَ إِنَّهُ
بِمِرْصَادِ أَمْرِ النَّاسِ رَاءٍ وَسَامِعُ وَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ قَدْ بَدَا لَنَا
بِأَحْمَدَ نُورٌ مِنْ هُدَى اللَّهِ سَاطِعُ فَلَا تُرْعِيَنْ فِي حَشْدِ أَمْرٍ تُرِيدُهُ
وَأَلِّبْ وَجَمِّعْ كُلَّ مَا أَنْتَ جَامِعُ وَدُونَكَ فَاعْلَمْ أَنَّ نَقْضَ عُهُودِنَا
أَبَاهُ عَلَيْكَ الرَّهْطُ حِينَ تَتَابَعُوا أَبَاهُ الْبَرَاءُ وابْنُ عَمْرٍو كِلَاهُمَا
وَأَسْعَدُ يَأْبَاهُ عَلَيْكَ وَرَافِعُ وَسَعْدٌ أَبَاهُ السَّاعِدِيُّ وَمُنْذِرٌ
لِأَنْفِكَ إِنْ حَاوَلْتَ ذَلِكَ جَادِعُ وَمَا ابْنُ رِبِيعٍ إِنْ تَنَاوَلْتَ عَهْدَهُ
بِمُسْلِمِهِ لَا يَطْمَعَنْ ثَمَّ طَامِعُ وَأَيْضًا فَلَا يُعْطِيكَهُ ابْنُ رَوَاحَةٍ
وَإِخْفَارُهُ مِنْ دُونِهِ السُّمُّ نَاقِعُ وَفَاءً بِهِ وَالْقَوْقَلِيُّ بْنُ صَامِتٍ
بِمَنْدُوحَةٍ عَمَّا تُحَاوِلُ يَافِعُ أَبُو هَيْثَمٍ أَيْضًا وَفِيٌّ بِمِثْلِهَا
وَفَاءً بِمَا أَعْطَى مِنَ الْعَهْدِ خَانِعُ

وَمَا ابْنُ حُضَيْرٍ إِنْ أَرَدْتَ بِمَطْمَعٍ
فَهَلْ أَنْتَ عَنْ أُحْمُوقَةِ الْغَيِّ نَازِعُ وَسَعْدٌ أَخُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَإِنَّهُ
ضَرُوحٌ لِمَا حَاوَلْتَ مِلْأَمْرِ مَانِعُ أُولَاكَ نُجُومٌ لَا يُغِبُّكَ مِنْهُمُ
عَلَيْكَ بِنَحْسٍ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَالِعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيِّهَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْ رِفَاعَةَ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَلَيْسَ مِنَ النُّقَبَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ الْأَنْصَارُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ نُقَبَاؤُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا تِسْعَةٌ مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَوْسِ.
وَحَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُشِيرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ يَجْعَلُهُ نَقِيبًا لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَحَدَ النُّقَبَاءِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِلنُّقَبَاءِ: " أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلَاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيِّينَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي ". قَالُوا: نَعَمْ. وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيُّ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ مِنَ النَّاسِ، فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ إِذَا نَهَكَتْ أَمْوَالَكُمْ مُصِيبَةٌ، وَأَشْرَافَكُمْ قَتْلٌ، أَسْلَمْتُمُوهُ، فَمِنَ الْآنَ، فَهُوَ وَاللَّهِ - إِنْ فَعَلْتُمْ - خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إِلَيْهِ عَلَى نَهْكَةٍ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَخُذُوهُ فَهُوَ وَاللَّهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالُوا: فَإِنَّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ، فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ وَفَيْنَا ؟ قَالَ: " الْجَنَّةُ ". قَالُوا: ابْسُطْ يَدَكَ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ قَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: وَإِنَّمَا قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ ذَلِكَ; لِيَشُدَّ الْعَقْدَ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَزَعَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِيُؤَخِّرَ الْبَيْعَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ; رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ; لِيَكُونَ أَقْوَى لِأَمْرِ الْقَوْمِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَنُو النَّجَّارِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ

أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ: بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، ثُمَّ بَايَعَ الْقَوْمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " أُسْدِ الْغَابَةِ ": وَبَنُو سَلِمَةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ لَيْلَتَئِذٍ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ " الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْعَبَّاسِ عَمِّهِ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ: " لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يُطِلِ الْخُطْبَةَ; فَإِنَّ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَيْنًا، وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ ". فَقَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ. قَالَ:

" أَسْأَلُكُمْ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي وَأَصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ ". قَالُوا: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ ؟ قَالَ: " لَكُمُ الْجَنَّةُ ". قَالُوا: فَلَكَ ذَلِكَ. ثُمَّ رَوَاهُ حَنْبَلٌ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَذَكَرُهُ قَالَ: وَكَانَ أَبُو مَسْعُودٍ أَصْغَرَهُمْ.
وَقَالَ أَحْمَدُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: فَمَا سَمِعَ الشِّيبُ وَالشُّبَّانُ خُطْبَةً مِثْلَهَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْفَحَّامُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ رَفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:قَدِمَتْ رَوَايَا خَمْرٍ فَأَتَاهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَخَرَقَهَا، وَقَالَ: إِنَّا بَايَعَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُنَا فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، بِمَا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا، وَلَنَا الْجَنَّةُ، فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التِي بَايَعْنَاهُ عَلَيْهَا وَهَذَا إِسْنَادٌ

جِيدٌ قَوِيٌّ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. وَقَدْ رَوَى يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَمُنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقِّ أَيْنَمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ: عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:فَلَمَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ - وَالْجُبَاجِبُ: الْمَنَازِلُ - هَلْ لَكَمَ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةِ مَعَهُ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ، هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ ". قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ ابْنُ أُزَيْبٍ - " أَتَسْمَعُ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَأَتَفْرَّغَنَّ لَكَ ". ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَضُّوا إِلَى رِحَالِكُمْ ". قَالَ: فَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا.

قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِنِ ارْجِعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ ". قَالَ: فَرَجَعْنَا إِلَى مَضَاجِعِنَا فَنِمْنَا فِيهَا حَتَّى أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جِلَّةُ قُرَيْشٍ حَتَّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إِلَى صَاحِبِنَا هَذَا، تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا مِنْ حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ أَبْغَضُ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ. قَالَ: فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ: مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ. قَالَ: وَصَدَقُوا، لَمْ يَعْلَمُوا. قَالَ: وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَانِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ كَلِمَةً، كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْرَكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا: يَا أَبَا جَابِرٍ، أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَّخِذَ وَأَنْتَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا، مِثْلَ نَعْلِي هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ؟ قَالَ: فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ رَمَى بِهِمَا إِلَيَّ، قَالَ: وَاللَّهِ لَتَنْتَعِلَنَّهُمَا. قَالَ: يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ: مَهْ، أَحْفَظْتَ وَاللَّهِ الْفَتَى، فَارْدُدْ إِلَيْهِ نَعْلَيْهِ. قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَرُدُّهُمَا، فَأَلٌ وَاللَّهِ صَالِحٌ، لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لَأَسْلُبَنَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُمْ أَتَوْا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ فَقَالُوا مِثْلَ مَا ذَكَرَ كَعْبٌ مِنَ الْقَوْلِ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ

جَسِيمٌ، مَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَرَّقُوا عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَمَا عَلِمْتُهُ كَانَ. قَالَ: فَانْصَرَفُوا عَنْهُ. قَالَ: وَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ مِنًى فَتَنَطَّسَ الْقَوْمُ الْخَبَرَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ كَانَ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ، فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِأَذَاخِرَ وَالْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا، فَأَمَّا الْمُنْذِرُ فَأَعْجَزَ الْقَوْمَ، وَأَمَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَأَخَذُوهُ فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ بِنَسْعِ رَحْلِهِ، ثُمَّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَكَّةَ يَضْرِبُونَهُ وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمَّتِهِ، وَكَانَ ذَا شِعْرٍ كَثِيرٍ، قَالَ سَعْدٌ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ، إِذْ طَلَعَ عَلَيَّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ شَعْشَاعٌ حُلْوٌ مِنَ الرِّجَالِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ هَذَا. فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَفْعَ يَدِهِ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا وَاللَّهِ، مَا عِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا مِنْ خَيْرٍ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي أَيْدِيهِمْ يَسْحَبُونَنِي، إِذْ أَوَى لِي رَجُلٌ مِمَّنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جَوَارٌ وَلَا عَهْدٌ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ، لَقَدْ كُنْتُ أُجِيرُ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ تُجَّارَهُ، وَأَمْنَعُهُمْ مِمَّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ بِبِلَادِي، وَلِلْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ. فَقَالَ: وَيْحَكَ! فَاهْتِفْ بِاسْمِ الرَّجُلَيْنِ، وَاذْكُرْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمَا. قَالَ: فَفَعَلْتُ وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَيْهِمَا، فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ لَهُمَا: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْخَزْرَجِ الْآنَ يُضْرَبُ بِالْأَبْطَحِ لَيَهْتِفُ بِكُمَا.

قَالَا: وَمَنْ هُوَ ؟ قَالَ: سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَا: صَدَقَ وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تُجَّارَنَا وَيَمْنَعَهُمْ أَنْ يُظْلَمُوا بِبَلَدِهِ. قَالَ: فَجَاءَ فَخَلَّصَا سَعْدًا مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَانْطَلَقَ وَكَانَ الَّذِي لَكَمَ سَعْدًا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الَّذِي أَوَى لَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعَتْ قُرَيْشٌ قَائِلًا يَقُولُ فِي اللَّيْلِ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ:
فَإِنْ يُسْلِمِ السَّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمَّدٌ بِمَكَّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَنِ السَّعْدَانِ ؟ أَسْعَدُ بْنُ بَكْرٍ، أَمْ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ ؟ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ:
أَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا وَيَا سَعْدُ سَعْدَ الْخَزْرَجَيْنِ الْغَطَارِفِ
أَجِيبَا إِلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنَّيَا عَلَى اللَّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ
فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ لِلْطَالِبِ الْهُدَى جِنَانٌ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ذَاتُ رَفَارِفِ
فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: هُوَ وَاللَّهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ الْأَنْصَارُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا، وَفِي قَوْمِهِمْ بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ، عَلَى دِينِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَأَشْرَافِهِمْ، وَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ فِي دَارِهِ، يُقَالُ لَهُ: مَنَاةُ كَمَا كَانَتِ الْأَشْرَافُ يَصْنَعُونَ، يَتَّخِذُهُ إِلَهًا يُعَظِّمُهُ وَيُطَهِّرُهُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ; ابْنُهُ مُعَاذٌ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ كَانُوا يُدْلِجُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ، فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حَفْرِ بَنِي سَلِمَةَ، وَفِيهَا عِذَرُ النَّاسِ مُنَكَّسًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو قَالَ: وَيْلَكُمُ مَنْ عَدَا عَلَى إِلَهِنَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟ ثُمَّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ غَسَلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكَ، لَأُخْزِيَنَّهُ. فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَغْدُوَا فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَذَى، فَيَغْسِلُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُطَيِّبُهُ، ثُمَّ يَعْدُونَ عَلَيْهِ إِذَا أَمْسَى، فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ الْقَوْهُ يَوْمًا فَغَسْلَهُ وَطَهَّرَهُ وَطَيَّبَهُ، ثُمَّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلَّقَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِكَ مَا أَرَى، فَإِنْ كَانَ فِيكَ خَيْرٌ فَامْتَنِعْ، فَهَذَا السَّيْفُ مَعَكَ. فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو عَدَوْا عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيِّتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ

بِحَبْلٍ، ثُمَّ ألْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ بَنِي سَلِمَةَ فِيهَا عِذَرٌ مِنْ عِذَرِ النَّاسِ، وَغَدَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ بِهِ، فَخَرَجَ يَتَّبِعُهُ حَتَّى إِذَا وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مُنَكَّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبٍ مَيِّتٍ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْصَرَ شَأْنَهُ، وَكَلَّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ، وَعَرَفَ مِنَ اللَّهِ مَا عَرَفَ، وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ، وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَشْكُرُ اللَّهَ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنَ الْعَمَى وَالضَّلَالَةِ:
وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ إِلَهًا لَمْ تَكُنْ أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ أُفٍّ لِمَلْقَاكَ إِلَهًا مُسْتَدَنْ
الْآنَ فَتَّشْنَاكَ عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ ذِي الْمِنَنْ
الْوَاهِبِ الرَّزَّاقِ دَيَّانِ الدِّيَنْ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ
أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ

فَصْلٌ يَتَضَمَّنُ أَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ
وَجُمْلَتُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ، فَمِنَ الْأَوْسِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا; أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ، وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ، بَدْرِيٌّ، وَنُهَيْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ نَابِي بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، بَدْرِيٌّ، وَقُتِلَ بِهَا شَهِيدًا، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ، نَقِيبٌ بَدْرِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الْبُرَكِ، بَدْرِيٌّ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا أَمِيرًا عَلَى الرُّمَاةِ، وَمَعْنُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْجَدِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ ضُبَيْعَةَ الْبَلَوِيُّ، حَلِيفٌ لِلْأَوْسِ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقُتِلَ بِالْيَمَامَةِ شَهِيدًا، وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَمِنَ الْخَزْرَجِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ رَجُلًا; أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، وَشَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَمَاتَ بِأَرْضِ الرُّومِ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ شَهِيدًا، وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَخَوَاهُ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ، وَهُمْ بَنُو عَفْرَاءَ، بَدْرِيُّونَ، وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَقُتِلَ بِالْيَمَامَةِ، وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ أَبُو أُمَامَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، مَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ، وَسَهْلُ بْنُ

عَتِيكٍ بَدْرِيٌّ، وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ، بَدْرِيٌّ، وَأَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ، بَدْرِيٌّ، وَقَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ، كَانَ أَمِيرًا عَلَى السَّاقَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ غَزِيَّةَ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَقُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ أَمِيرًا، وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ، بَدْرِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ، وَخَلَّادُ بْنُ سُوَيْدٍ، بِدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ خَنْدَقِيٌّ، وَقُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ شَهِيدًا، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحًى فَشَدَخَتْهُ، فَيُقَالُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ ". وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الْبَدْرِيٌّ، - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ أَحْدَثُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ سِنًّا وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا - وَزِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، بَدْرِيٌّ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَدْفَةَ، بَدْرِيٌّ، وَخَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكٍ، بَدْرِيٌّ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مُخَلَّدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رُزَيْقٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ لِأَنَّهُ أَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا وَهُوَ بَدْرِيٌّ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَعَبَّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رُزَيْقٍ، بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرٍ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ،

أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَأَوَّلُ مَنْ بَايَعَ فِيمَا تَزْعُمُ بَنُو سَلِمَةَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَأَوْصَى لَهُ بِثُلْثِ مَالِهِ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ، وَمَاتَ بِخَيْبَرَ شَهِيدًا مِنْ أَكْلِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيِّ بْنِ صَخْرٍ، بَدْرِيٌّ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ، بَدْرِيٌّ، قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَمَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحٍ، بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، بَدْرِيٌّ، وَمَسْعُودُ بْنُ زَيْدِ بْنِ سُبَيْعٍ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، بَدْرِيٌّ، وَيَزِيدُ بْنُ خِذَامِ بْنِ سُبَيْعٍ، وَجُبَارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانَ بْنِ عُبَيْدٍ، بَدْرِيٌّ، وَالطُّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ، بَدْرِيٌّ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَسُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ، بَدْرِيٌّ، وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، بَدْرِيٌّ، وَأَخُوهُ أَبُو الْمُنْذِرِ يَزِيدُ، بَدْرِيٌّ أَيْضًا، وَأَبُو الْيَسَرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، بَدْرِيٌّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ سَوَادِ بْنِ عَبَّادٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي، بَدْرِيٌّ وَاسْتُشْهِدَ بِالْخَنْدَقِ، وَأَخُوهُ عَمْرُو بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيٍّ، وَعَبْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ، بَدْرِيٌّ، وَخَالِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، بَدْرِيٌّ، وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَابْنُهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَمُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، بَدْرِيٌّ، وَثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ، بَدْرِيٌّ وَقُتِلَ شَهِيدًا بِالطَّائِفِ، وَعُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، بَدْرِيٌّ، وَخَدِيجُ بْنُ سَلَامَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيٍّ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَمَاتَ بِطَاعُونِ عِمْوَاسَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أَحَدُ النُّقَبَاءِ،

شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ، وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ أَيْضًا، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ، حَلِيفٌ لَهُمْ مَنْ بَلِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لَبْدَةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ، بَدْرِيٌّ، وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلْدَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ بَدْرِيٌّ، وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى هَاجَرَ مِنْهَا، فَهُوَ مِمَّنْ يُقَالُ لَهُ: مُهَاجِرِيٌّ أَنْصَارِيٌّ أَيْضًا. وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ أَحَدُ النُّقَبَاءِ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، نَقِيبٌ بَدْرِيٌّ أُحُدِيٌّ وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَمِيرًا، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَعْنَقَ لِيَمُوتَ.
وَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ; فَأُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ الْمَازِنِيَّةُ النَّجَّارِيَّةُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَتْ شَهِدَتِ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَهِدَتْ مَعَهَا أُخْتُهَا، وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنَاهَا حَبِيبٌ وَعَبْدُ اللَّهِ، وَابْنُهَا حَبِيبٌ هَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ، حِينَ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ: لَا أَسْمَعُ. فَجَعَلَ يُقَطِّعُهُ عُضْوًا عَضْوًا حَتَّى مَاتَ فِي يَدَيْهِ، لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ أُمُّ عُمَارَةَ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى الْيَمَامَةِ مَعَ الْمُسْمِلِينَ حِينَ قُتِلَ مُسَيْلِمَةُ، وَرَجَعَتْ وَبِهَا اثْنَا عَشَرَ جُرْحًا، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، وَالْأُخْرَى

أُمُّ مَنِيعٍ أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.

بَابُ بَدْءِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ لِلْمُسْلِمِينَ: " قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، أُرِيتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ ". فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهْلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ ". وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِطُولِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ. زَادَ مُسْلِمٌ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي بُرْدَةَ،

عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَاسِمُ بْنُ الْقَاسِمِ السَّيَّارِيُّ بِمَرْوَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُبَيْدٍ الْكِنْدِيُّ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَيَّ هَؤُلَاءِ الْبِلَادِ الثَّلَاثِ نَزَلْتَ فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ; الْمَدِينَةَ; أَوِ الْبَحْرَيْنِ; أَوْ قِنَّسْرِينَ ". قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: ثُمَّ عَزَمَ لَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الْمَنَاقِبِ مِنْ " جَامِعِهِ " مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ الْحُسَيْنِ بْنِ حُرَيْثٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ مُوسَى عَنْ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيِّ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عُمَرَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَيَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ نَزَلْتَ فَهِيَ

دَارُ هِجْرَتِكَ; الْمَدِينَةَ، أَوِ الْبَحْرَيْنِ، أَوْ قِنَّسْرِينَ ". ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ، تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو عَمَّارٍ. قُلْتُ: وَغَيْلَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ هَذَا، ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " الثِّقَاتِ " إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: رَوَى عَنْ أَبِي زُرْعَةَ حَدِيثًا مُنْكَرًا فِي الْهِجْرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَرْبِ بِقَوْلِهِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [ الْحَجِّ: 40، 39 ] الْآيَةَ. فَلَمَّا أَذِنَ اللَّهُ فِي الْحَرْبِ، وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالنُّصْرَةِ لَهُ، وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ وَأَوَى إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا، وَاللُّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا ". فَخَرَجُوا أَرْسَالًا، وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ وَالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ

وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَيْهَا قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةٍ، حِينَ آذَتْهُ قُرَيْشٌ مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَعَزَمَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ بِالْمَدِينَةِ لَهُمْ إِخْوَانًا فَعَزَمَ إِلَيْهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَدِينَةِ رَحَّلَ لِي بَعِيرَهُ، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجَ يَقُودُ بِي بِعِيرَهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ قَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: هَذِهِ نَفْسُكَ غَلَبْتَنَا عَلَيْهَا، أَرَأَيْتَ صَاحِبَتَنَا هَذِهِ عَلَامَ نَتْرُكُكَ تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ ؟ قَالَتْ: فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذُونِي مِنْهُ. قَالَتْ: وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إِذْ نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا، قَالَتْ: فَتَجَاذَبُوا ابْنِي سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتَّى خَلَعُوا يَدَهُ، وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدُ الْأَسَدِ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، قَالَتْ: فَفُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَخْرُجُ كُلَّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ فِي الْأَبْطَحِ، فَمَا أَزَالُ أَبْكِي حَتَّى أُمْسِيَ - سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا - حَتَّى مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمِّي أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ، فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي، فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ: أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ ؟ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا

وَبَيْنَ وَلَدِهَا ؟ قَالَتْ: فَقَالُوا لِي: الْحَقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شِئْتِ. قَالَتْ: فَرَدَّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إِلَيَّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي، قَالَتْ: فَارْتَحَلْتُ بَعِيرِي، ثُمَّ أَخَذْتُ ابْنِي فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِي، ثُمَّ خَرَجْتُ أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ، قَالَتْ: وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيتُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ ؟ قُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ. قَالَ: أَوْ مَا مَعَكِ أَحَدٌ ؟ قُلْتُ: مَا مَعِي أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ وَابْنِي هَذَا. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكِ مِنْ مَتْرَكٍ. فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي، فَوَاللَّهِ مَا صَحِبْتُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَطُّ أَرَى أَنَّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ; كَانَ إِذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا نَزَلْتُ اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي فَحَطَّ عَنْهُ، ثُمَّ قَيَّدَهُ فِي الشَّجَرِ، ثُمَّ تَنَحَّى إِلَى شَجَرَةٍ فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا، فَإِذَا دَنَا الرَّوَاحُ قَامَ إِلَى بَعِيرِي فَقَدَّمَهُ فَرَحَّلَهُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي، وَقَالَ: ارْكَبِي. فَإِذَا رَكِبْتُ فَاسْتَوَيْتُ عَلَى بَعِيرِي، أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ فَقَادَنِي حَتَّى يَنْزِلَ بِي، فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِي حَتَّى أَقْدَمَنِي الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ، قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ - وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا - فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّةَ فَكَانَتْ تَقُولُ: مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ، وَمَا رَأَيْتُ صَاحِبًا قَطُّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ.
أَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيُّ هَذَا بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَاجَرَ هُوَ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مَعًا، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ أَبُوهُ وَإِخْوَتُهُ; الْحَارِثُ، وَكِلَابٌ،

وَمُسَافِعٌ، وَعَمُّهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَإِلَى ابْنِ عَمِّهِ شَيْبَةَ، وَالِدِ بَنِي شَيْبَةَ، مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ، أَقَرَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ: 58 ] الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ، عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ الْعَدَوِيَّةُ، ثُمَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِيِابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، احْتَمَلَ بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ عَبْدٍ أَبِي أَحْمَدَ - اسْمُهُ عَبْدٌ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ: ثُمَامَةُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ - وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، وَكَانَ يَطُوفُ مَكَّةَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا بِغَيْرِ قَائِدٍ، وَكَانَ شَاعِرًا وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، فَغُلِقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً، فَمَرَّ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ،

وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَهُمْ مُصْعِدُونَ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا عُتْبَةُ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا لَيْسَ بِهَا سَاكِنٌ، فَلَمَّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ وَقَالَ:
وَكُلُّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النَّكْبَاءُ وَالْحُوبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ لِأَبِي دَاوُدَ الْإِيَادِيِّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَاسْمُ أَبِي دَاوُدَ حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقِيٍّ. وَقِيلَ: جَارِيَةُ. ثُمَّ قَالَ عُتْبَةُ: أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ مِنْ قُلِّ بْنِ قُلٍّ. ثُمَّ قَالَ - يَعْنِي لِلْعَبَّاسِ -: هَذَا مِنْ عَمَلِ ابْنِ أَخِيكَ هَذَا، فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَقَطَّعَ بَيْنَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ أَبُو سَلَمَةَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَبَنُو جَحْشٍ بِقُبَاءَ عَلَى مُبَشِّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ أَرْسَالًا. قَالَ: وَكَانَ بَنُو غَنْمِ بْنِ دُودَانَ أَهْلَ إِسْلَامٍ قَدْ أَوْعَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ هِجْرَةً رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ; عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَشُجَاعٌ وَعُقْبَةُ ابْنَا

وَهْبٍ، وَأَرْبَدُ بْنُ حُمَيِّرَةَ، وَمُنْقِذُ بْنُ نُبَاتَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ، وَقَيْسُ بْنُ جَابِرٍ، وَعَمْرُو بْنُ مِحْصَنٍ، وَمَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، وَصَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَتَمَّامُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَسَخْبَرَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَمِنْ نِسَائِهِمْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَأُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ جَحْشٍ، وَجُذَامَةُ بَنَتُ جَنْدَلٍ، وَأُمُّ قَيْسٍ بِنْتُ مِحْصَنٍ، وَأُمُّ حَبِيبٍ بِنْتُ ثُمَامَةَ، وَآمِنَةُ بِنْتُ رُقَيْشٍ، وَسَخْبَرَةُ بِنْتُ تَمِيمٍ. قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ فِي هِجْرَتِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَلَمَّا رَأَتْنِي أُمُّ أَحْمَدَ غَادِيًا بِذِمَّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبٍ وَأَرْهَبُ
تَقُولُ فَإِمَّا كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَيَمِّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ وَلْتَنْأَ يَثْرِبُ

فَقُلْتُ لَهَا مَا يَثْرِبٌ بِمَظِنَّةٍ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إِلَى اللَّهِ وَجْهِي وَالرَّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ إِلَى اللَّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيَّبُ
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعٍ وَتَنْدِبُ
تَرَى أَنَّ وِتْرًا نَأْيُنَا عَنْ بِلَادِنَا وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ الرَّغَائِبَ نَطْلُبُ
دَعَوْتُ بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمُ وَلِلْحَقِّ لَمَّا لَاحَ لِلنَّاسِ مَلْحَبُ
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللَّهِ لَمَّا دَعَاهُمُ إِلَى الْحَقِّ دَاعٍ وَالنَّجَاحِ فَأَوْعَبُوا
وَكُنَّا وَأَصْحَابٌ لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسِّلَاحِ وَأَجْلَبُوا
كَفَوْجَيْنِ أَمَّا مِنْهُمَا فَمُوَفَّقٌ عَلَى الْحَقِّ مَهْدِيٌّ وَفَوْجٌ مُعَذَّبُ
طَغَوْا وَتَمَنَّوْا كِذْبَةً وَأَزَلَّهُمْ عَنِ الْحَقِّ إِبْلِيسٌ فَخَابُوا وَخَيَّبُوا
وَرِعْنَا إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقِّ مَنَّا وَطَيَّبُوا
نَمُتُّ بِأَرْحَامٍ إِلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إِذْ لَا تُقَرَّبُ
فَأَيُّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنَّكُمْ وَأَيَّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِيَ تُرْقَبُ

سَتَعْلَمُ يَوْمًا أَيُّنَا إِذْ تَزَيَّلُوا وَزُيِّلَ أَمْرُ النَّاسِ لِلْحَقِّ أَصْوَبُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، فَحَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اتَّعَدْتُ لَمَّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَا وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ التَّنَاضِبَ، مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ فَوْقَ سَرِفَ، وَقُلْنَا: أَيُّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا; فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ. قَالَ: فَأَصْبَحْتُ أَنَا وَعَيَّاشٌ عِنْدَ التَّنَاضِبِ، وَحُبِسَ هِشَامٌ وَفُتِنَ فَافْتَتَنَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، إِلَى عَيَّاشٍ - وَكَانَ ابْنَ عَمِّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمِّهِمَا - حَتَّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَكَلَّمَاهُ، وَقَالَا لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ قَدْ نَذَرَتْ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتَّى تَرَاكَ، وَلَا تَسْتَظِلَّ مِنْ شَمْسٍ حَتَّى تَرَاكَ فَرَقَّ لَهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ إِنْ يُرِيدُكَ الْقَوْمُ إِلَّا لِيَفْتِنُوكَ عَنْ دِينِكَ فَاحْذَرْهُمْ، فَوَاللَّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمَّكَ الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ، وَلَوْ قَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهَا حُرُّ مَكَّةَ لَاسْتَظَلَّتْ. قَالَ: فَقَالَ: أَبَرُّ قَسَمَ أُمِّي وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ. قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، فَلَكَ نِصْفُ مَالِي، وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا. قَالَ: فَأَبَى عَلَيَّ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا، فَلَمَّا أَبَى

إِلَّا ذَلِكَ قُلْتُ: أَمَا إِذْ قَدْ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ; فَإِنَّهَا نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ، فَالْزَمْ ظَهْرَهَا، فَإِنْ رَابَكَ مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا. فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: يَا أَخِي، وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَغْلَظْتُ بَعِيرِي هَذَا، أَفَلَا تَعْقِبُنِي عَلَى نَاقَتِكَ هَذِهِ. قَالَ: بَلَى. فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوَّلَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوَا عَلَيْهِ، فَأَوْثَقَاهُ رِبَاطًا، ثُمَّ دَخَلَا بِهِ مَكَّةَ وَفَتَنَاهُ فَافْتَتَنَ. قَالَ عُمَرُ: فَكُنَّا نَقُولُ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِمَّنِ افْتَتَنَ تَوْبَةً. وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [ الزَّمْرِ: 53 - 55 ]. قَالَ عُمَرُ: فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي، وَبَعَثْتُ بِهَا إِلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ هِشَامٌ: فَلَمَّا أَتَتْنِي جَعَلْتُ أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوًى أُصَعِّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوِّبُ، وَلَا أَفْهَمُهَا حَتَّى قُلْتُ: اللَّهُمَّ فَهِّمْنِيهَا. فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِي أَنَّهَا إِنَّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِيمَا كُنَّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى بَعِيرِي، فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ، فَلَحِقْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ. وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ الَّذِي قَدِمَ بِهِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ

الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، سَرَقَهُمَا مِنْ مَكَّةَ، وَقِدَمَ بِهِمَا يَحْمِلُهُمَا عَلَى بَعِيرِهِ، وَهُوَ مَاشٍ مَعَهُمَا، فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ، فَقَالَ:
هَلْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبُعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ، قَالَ:أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عَمَّارٌ وَبِلَالٌ.

وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ، فَقَدِمَ بِلَالٌ وَسَعْدٌ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرَحَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَعَلَ الْإِمَاءُ يَقُلْنَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا قَدِمَ حَتَّى قَرَأْتُ سَبْحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى فِي سُورٍ مِنَ الْمُفَصَّلِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ

أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ هَاجَرَ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدْ زَعَمَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ إِنَّمَا هَاجَرَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْمَدِينَةَ هُوَ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَمْرٌو وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ زَوْجُ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ، وَابْنُ عَمِّهِ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ حَلِيفٌ لَهُمْ، وَخَوْلِيُّ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ حَلِيفَانِ لَهُمْ مِنْ بَنِي عِجْلٍ، وَبَنُو الْبُكَيْرِ إِيَاسٌ، وَخَالِدٌ، وَعَاقِلٌ، وَعَامِرٌ، وَحُلَفَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، فَنَزَلُوا عَلَى رَفَاعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَنَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ، أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسَّنْحِ. وَيُقَالُ: بَلْ نَزَلَ طَلْحَةُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ، قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا، فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا وَبَلَغْتَ الَّذِي بَلَغْتَ، ثُمَّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِكِ وَنَفْسِكَ ؟ وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ. فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " رَبِحَ صُهَيْبٌ، رَبِحَ صُهَيْبٌ "
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مِيكَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدَانُ الْأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحَرِيشِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ صُهَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي وَعُمُومَتِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ سَبْخَةً بَيْنَ ظَهَرَانِي حَرَّتَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَجَرَ أَوْ تَكُونُ يَثْرِبَ ". قَالَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكُنْتُ قَدْ هَمَمْتُ مَعَهُ بِالْخُرُوجِ فَصَدَّنِي فِتْيَانٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَعَلْتُ لَيْلَتِي تِلْكَ أَقُومُ لَا أَقْعُدُ، فَقَالُوا: قَدْ شَغَلَهُ اللَّهُ عَنْكُمْ بِبَطْنِهِ. وَلَمْ أَكُنْ شَاكِيًا. فَنَامُوا فَخَرَجْتُ وَلَحِقَنِي مِنْهُمْ نَاسٌ بَعْدَمَا

سِرْتُ بَرِيدًا لِيَرُدُّونِي، فَقُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَكَمَ أَنْ أُعْطِيَكُمْ أَوَاقِيَ مِنْ ذَهَبٍ وَتُخَلُّوا سَبِيلِي وَتُوفُوا لِي. فَفَعَلُوا فَتَبِعْتُهُمْ إِلَى مَكَّةَ فَقُلْتُ: احْفُرُوا تَحْتَ أُسْكُفَّةِ الْبَابِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا أَوَاقِيَ، وَاذْهَبُوا إِلَى فُلَانَةَ فَخُذُوا الْحُلَّتَيْنِ. وَخَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: " يَا أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ الْبَيْعُ ". ثَلَاثًا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ، وَمَا أَخْبَرَكَ إِلَّا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنَّازُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَابْنُهُ مَرْثَدٌ الْغَنَوِيَّانِ حَلِيفَا حَمْزَةَ، وَأَنَسَةُ وَأَبُو كَبْشَةَ مَوْلَيَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَقِيلَ: عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ. وَقِيلَ: بَلْ نَزَلَ حَمْزَةُ عَلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَنَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَأَخَوَاهُ الطُّفَيْلُ،

وَحُصَيْنٌ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَسُويْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حُرَيْمِلَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ، وَخَبَّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزَوَانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ أَخِي بَلْعَجْلَانَ بِقُبَاءَ، وَنَزَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَنَزَلَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمٍ عَلَى مُنْذِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بِالْعُصْبَةِ دَارِ بَنِي جَحْجَبَى، وَنَزَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَنَزَلَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَسَالِمٌ مَوْلَاهُ عَلَى - شَكَّ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ أَخِي بَنِي حَارِثَةَ - وَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ عَلَى عَبَّادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخِي حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي دَارِ بَنِي النَّجَّارِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَنَزَلَ الْعُزَّابُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُرَارَةَ

بْنِ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: قَدِمْنَا مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلْنَا الْعُصْبَةَ ; عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَكَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لِأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.

فَصْلٌ فِي سَبَبِ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 80 ] أَرْشَدَهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَرَجًا قَرِيبًا وَمَخْرَجًا عَاجِلًا، فَأَذِنَ لَهُ تَعَالَى فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حَيْثُ الْأَنْصَارُ وَالْأَحْبَابُ، فَصَارَتْ لَهُ دَارًا وَقَرَارًا وَأَهْلُهَا لَهُ أَنْصَارًا.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ قَابُوسِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَأُمِرَ بِالْهِجْرَةِ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: " وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا "
وَقَالَ قَتَادَةُ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الْمَدِينَةَ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ الْهِجْرَةَ مِنْ مَكَّةَ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا

كِتَابَ اللَّهِ وَفَرَائِضَهُ وَحُدُودَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مَعَهُ بِمَكَّةَ إِلَّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ، إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ: " لَا تَعْجَلْ; لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا ". فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ، فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَارَ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ، وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ، عَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً، فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ أَجْمَعَ لِحَرْبِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النَّدْوَةِ - وَهِيَ دَارُ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ التِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إِلَّا فِيهَا - يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَافُوهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ، وَاتَّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النَّدْوَةِ; لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الَّذِي اتَّعَدُوا

لَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى يَوْمَ الزَّحْمَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ إِبْلِيسُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ عَلَيْهِ بَتٌّ لَهُ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدَّارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا، قَالُوا: مَنِ الشَّيْخُ ؟ قَالَ: شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِالَّذِي اتَّعَدْتُمْ لَهُ، فَحَضَرَ مَعَكُمْ; لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ، وَعَسَى أَنْ لَا يُعْدِمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا. قَالُوا: أَجَلْ فَادْخُلْ. فَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ; عُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو سُفْيَانَ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَا يُعَدُّ مِنْ قُرَيْشٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّنَا وَاللَّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا بِمَنْ قَدِ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا. قَالَ: فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ - قِيلَ: إِنَّهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ - احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ، وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا، ثُمَّ تَرَبَّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ; زُهَيْرًا وَالنَّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ، مِنْ هَذَا الْمَوْتِ; حَتَّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ. فَقَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ،

لَيَخْرُجَنَّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الَّذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْتَزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتَّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ، مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ، فَتَشَاوَرُوا، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا، فَإِذَا خَرَجَ عَنَّا، فَوَاللَّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ، وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إِذَا غَابَ عَنَّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ، فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ. قَالَ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: لَا وَاللَّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيٍ; أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ، وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ، وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ ؟ وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، مَا أَمِنْتُ أَنْ يَحِلَّ عَلَى حَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَغْلِبَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتَّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بِهِمْ إِلَيْكُمْ حَتَّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ، فَيَأْخُذَ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَرَادَ، أَدِيرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ إِنَّ لِي فِيهِ لَرَأَيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابًّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فِينَا، ثُمَّ نُعْطِي كُلَّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا، ثُمَّ يَعْمِدُوا إِلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعِهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مُنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا فَرَضُوا مِنَّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ الشَّيْخُ النَّجْدِيُّ: الْقَوْلُ مَا قَالَ الرَّجُلُ، هَذَا الرَّأْيُ وَلَا رَأْيَ غَيْرُهُ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ، فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: لَا

تَبِتْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِكَ الَّذِي كُنْتَ تَبِيتُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ، يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهُمْ، قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إِذَا نَامَ
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ التِي ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، قَدْ رَوَاهَا الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيٍّ، وَسُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وَغَيْرِهِمْ، دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ قَالَ، وَهُمْ عَلَى بَابِهِ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّكُمْ إِنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ، كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنِ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، كَانَ فِيكُمْ ذَبْحٌ، ثُمَّ بُعِثْتُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ، ثُمَّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ، تُحْرَقُونَ فِيهَا! قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: " نَعَمْ أَنَا أَقُولُ

ذَلِكَ، أَنْتَ أَحَدُهُمْ ". وَأَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ، فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التُّرَابَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ إِلَى قَوْلِهِ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ، فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ هَاهُنَا ؟ قَالُوا: مُحَمَّدًا. فَقَالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ، قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إِلَّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ ؟ قَالَ: فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ، ثُمَّ جَعَلُوا يَتَطَلَّعُونَ، فَيَرَوْنَ عَلِيًّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمُحَمَّدٌ نَائِمًا عَلَيْهِ بُرْدُهُ. فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا، فَقَامَ عَلِيٌّ عَنِ الْفِرَاشِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الَّذِي كَانَ حَدَّثَنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ الْأَنْفَالِ: 30 ] وَقَوْلُهُ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [ الطُّورِ: 31، 30 ] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْهِجْرَةِ.

بَابُ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَذَلِكَ أَوَّلُ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي " سِيرَةِ عُمَرَ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، ثَنَا رَوْحٌ، ثَنَا هِشَامٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقَدْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ بِعْثَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ كَمَّا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ

الِاثْنَيْنِ، وَنُبِّئَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ:وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: " لَا تَعْجَلْ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ صَاحِبًا ". قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ، فَابْتَاعَ رَاحِلَتَيْنِ، فَحَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ يَعْلِفُهُمَا إِعْدَادًا لِذَلِكَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ:كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، إِمَّا بُكْرَةً، وَإِمَّا عَشِيَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ، أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: مَا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ. قَالَتْ: فَلَمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدٌ إِلَّا أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ وَمَا ذَاكَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي ؟ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ ". قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:

الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " الصُّحْبَةَ ". قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ قَطُّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَحَدًا يَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ حَتَّى رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي. ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ كُنْتُ أَعْدَدْتُهُمَا لِهَذَا. فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَطَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُقَالُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ. رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ مُشْرِكًا - يَدُلُّهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَعْلَمْ فِيمَا بَلَغَنِي بِخُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ حِينَ خَرَجَ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ، أَمَّا عَلِيًّ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ حَتَّى يُؤَدِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنَّاسِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إِلَّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُرُوجَ أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ،

قَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَنِي وَلَمْ أَكُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَى هَوْلِ الدُّنْيَا، وَبَوَائِقِ الدَّهْرِ، وَمَصَائِبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي فِي سَفَرِي، وَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي، وَلَكَ فَذَلِّلْنِي، وَعَلَى صَالِحِ خُلُقِي فَقَوِّمِنِي، وَإِلَيْكَ رَبِّ فَحَبِّبْنِي، وَإِلَى النَّاسِ فَلَا تَكِلْنِي، رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلُمَاتُ، وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، أَنْ تُحِلَّ عَلَيَّ غَضَبَكَ، وَتُنْزِلَ بِي سَخَطَكَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَفَجْأَةِ نِقْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، لَكَ الْعُتْبَى عِنْدِي خَيْرَ مَا اسْتَطَعْتُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:ثُمَّ عَمَدَا إِلَى غَارٍ بِثَوْرٍ - جَبَلٍ بِأَسْفَلَ مَكَّةَ - فَدَخَلَاهُ، وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يَتَسَمَّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْخَبَرِ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ، ثُمَّ يُرِيحَهَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ، يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ يَأْتِيهِمَا إِذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ، وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَرْعَى فِي رُعْيَانِ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا، فَإِذَا غَدَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِمَا إِلَى مَكَّةَ اتَّبَعَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ يُعْفِّي عَلَيْهِ. وَسَيَأْتِي فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ

مَا يَشْهَدُ لِهَذَا.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَقَ الصِّدِّيقَ فِي الذَّهَابِ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَسِيرِهِ لِيَلْحَقَهُ، فَلَحِقَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَخِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُمَا خَرَجَا مَعًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَأْتِيهِمَا مِنَ الطَّعَامِ إِذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا. قَالَتْ أَسْمَاءُ: وَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ أَبُوكِ يَا ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي وَاللَّهِ أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَتْ: فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ - وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا - فَلَطَمَ خَدِّي لَطْمَةً طَرَحَ مِنْهَا قُرْطِي، ثُمَّ انْصَرَفُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ، مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ - وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ - فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ. قَالَتْ: قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَتِ إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا. قَالَتْ: وَأَخَذْتُ أَحْجَارًا، فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةٍ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ،

فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ. قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ إِذْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدَ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ. وَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيَّ قَالَ: انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ لَيْلًا، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَسَ الْغَارَ; لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيَّةٌ، يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاعٌ مِنْ طَرَفَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، ثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَكُونُ أَمَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً، وَخَلْفَهُ مَرَّةً، فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِذَا كُنْتُ خَلْفَكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ أَمَامِكَ، وَإِذَا كُنْتُ أَمَامِكَ خَشِيتُ أَنْ تُؤْتَى مِنْ خَلْفِكَ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ مِنْ ثَوْرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَمَا أَنْتَ حَتَّى أُدْخِلَ يَدِي فَأُحِسَّهُ وَأَقُصَّهُ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ دَابَّةٌ أَصَابَتْنِي قَبْلَكَ. قَالَ نَافِعٌ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ ذَلِكَ الْجُحْرَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ دَابَّةٌ أَوْ شَيْءٌ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مُرْسَلٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ شَوَاهِدَ أُخَرَ فِي سِيرَةِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنَا مُوسَى بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبَّادٍ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، قَالَ:ذَكَرَ رِجَالٌ عَلَى عَهْدِ عُمْرَ، فَكَأَنَّهُمْ فَضَّلُوا عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَلَيْلَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، وَلَيَوْمٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ، لَقَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ انْطَلَقَ إِلَى الْغَارِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا لَكَ تَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيَّ، وَسَاعَةً خَلْفِي ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي ؟ " قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ. فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي أَعْلَاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَبْرِئِ الْجِحَرَةَ، فَقَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ. فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَ، ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَنَزَلَ. ثُمَّ قَالَعُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتِلْكَ اللَّيْلَةُ خَيْرٌ مِنْ آلِ عُمَرَ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عُمَرَ، وَفِيهِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَعَلَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً، وَخَلْفَهُ أُخْرَى، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا حَفِيَتْ رِجْلَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمَلَهُ الصِّدِّيقُ عَلَى كَاهِلِهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْغَارَ سَدَّدَ تِلْكَ الْجِحَرَةَ كُلَّهَا، وَبَقِيَ مِنْهَا جُحْرٌ وَاحِدٌ، فَأَلْقَمَهُ كَعْبَهُ، فَجَعَلَتِ الْأَفَاعِي تَنْهَشُهُ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ". وَفِي هَذَا السِّيَاقِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو سَعِيدٍ ابْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا عَبَّاسٌ الدُّورِيُّ، ثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ شَاذَانُ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ فَأَصَابَ يَدَهُ حَجَرٌ، فَقَالَ:
إِنْ أَنْتِ إِلَّا أُصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ الْجَزَرِيُّ، أَنَّ مِقْسَمًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ [ الْأَنْفَالِ: 30 ] قَالَ: تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ، يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا، يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحُوا ثَارُوا إِلَيْهِ، فَلَمَّا

رَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَكْرَهُمْ، فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ، اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ، فَمَرُّوا بِالْغَارِ، فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هَاهُنَا أَحَدٌ لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ. فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مِنْ أَجْوَدِ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَذَلِكَ مِنْ حِمَايَةِ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي فِي " مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ ": حَدَّثَنَا بَشَّارٌ الْخَفَّافُ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ، وَجَاءَتْ قُرَيْشٌ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْا عَلَى بَابِ الْغَارِ نَسْجَ الْعَنْكَبُوتِ، قَالُوا: لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يَرْتَقِبُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَؤُلَاءِ قَوْمُكَ يَطْلُبُونَكَ، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ مَخَافَةَ أَنْ أَرَى فِيكَ مَا أَكْرَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، لَا تَخَفْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ". وَهَذَا مُرْسَلٌ عَنِ الْحَسَنِ، وَهُوَ

حَسَنٌ بِحَالِهِ مِنَ الشَّاهِدِ. وَفِيهِ زِيَادَةُ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، وَقَدْ كَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. وَرَوَى هَذَا الرَّجُلُ - أَعْنِي أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيٍّ الْقَاضِيَ - عَنْ عَمْرٍو النَّاقِدِ، عَنْ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُطَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ، فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي اخْتَبَأَتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْ فِيهِ; فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ رِزْقُكَ فِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا. وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
نَسْجُ دَاوُدَ مَا حَمَى صَاحِبَ الْغَا رِ وَكَانَ الْفَخَارُ لِلْعَنْكَبُوتِ
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ حَمَامَتَيْنِ عَشَّشَتَا عَلَى بَابِهِ أَيْضًا، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
فَغَمَّى عَلَيْهِ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ وَظَلَّ عَلَى الْبَابِ الْحَمَامُ يَبِيضُ
وَالْحَدِيثُ بِذَلِكَ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ

صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا عَوْنُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو عَمْرٍو الْقَيْسِيُّ - وَيُلَقَّبُ عُوَيْنًا - حَدَّثَنِي أَبُو مُصْعَبٍ الْمَكِّيُّ، قَالَ:أَدْرَكْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْغَارِ أَمَرَ اللَّهُ شَجَرَةً فَخَرَجَتْ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتُرُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ بَعَثَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ مَا بَيْنَهُمَا فَسَتَرَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ اللَّهُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ، فَأَقْبَلَتَا تَدُفَّانِ حَتَّى وَقَعَتَا بَيْنَ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْنَ الشَّجَرَةِ، وَأَقْبَلَتْ فِتْيَانُ قُرَيْشٍ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ، مَعَهُمْ عِصِيُّهُمْ وَقِسِيُّهُمْ وَهِرَاوَاتُهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، قَالَ الدَّلِيلُ - وَهُوَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيُّ - هَذَا الْحَجَرُ، ثُمَّ لَا أَدْرِي أَيْنَ وَضَعَ رِجْلَهُ. فَقَالَ الْفِتْيَانُ: أَنْتَ لَمْ تُخْطِئْ مُنْذُ اللَّيْلَةِ. حَتَّى إِذَا أَصْبَحْنَا قَالَ: انْظُرُوا فِي الْغَارِ. فَاسْتَقْدَمَ الْقَوْمَ حَتَّى إِذَا كَانُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْرَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، فَإِذَا الْحَمَامَتَانِ، فَرَجَعَ فَقَالُوا: مَا رَدَّكَ أَنْ تَنْظُرَ فِي الْغَارِ ؟ قَالَ: رَأَيْتُ حَمَامَتَيْنِ وَحْشِيَّتَيْنِ بِفَمِ الْغَارِ، فَعَرَفَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ. فَسَمِعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ دَرَأَ عَنْهُمَا بِهِمَا، فَسَمَّتَ عَلَيْهِمَا - أَيْ بَرَّكَ عَلَيْهِمَا - وَأَحْدَرَهُمَا اللَّهُ إِلَى الْحَرَمِ فَأَفْرَخَا كَمَا

تَرَى. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَمْرٍو - وَهُوَ الْمُلَقَّبُ بِعُوَيْنٍ - بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ، وَفِيهِ أَنَّ جَمِيعَ حَمَامِ مَكَّةَ مِنْ نَسْلِ تَيْنِكَ الْحَمَامَتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَائِفَ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الَّذِي اقْتَفَى لَهُمُ الْأَثَرَ كُرْزُ بْنُ عَلْقَمَةَ.
قُلْتُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا اقْتَفَيَا الْأَثَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ التَّوْبَةِ: 40 ] يَقُولُ تَعَالَى مُؤَنِّبًا لِمَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا تَنْصُرُوهُ أَنْتُمْ فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ، وَمُؤَيِّدُهُ، وَمُظْفِرُهُ، كَمَا نَصَرَهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَارِبًا لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ، وَصَدِيقِهِ أَبِي بَكْرٍ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ; وَلِهَذَا قَالَ: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ أَيْ: وَقَدْ لَجَأَ

إِلَى الْغَارِ، فَأَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَسْكُنَ الطَّلَبُ عَنْهُمَا; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ حِينَ فَقَدُوهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ، ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا كُلَّ مَذْهَبٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ، وَجَعَلُوا لِمَنْ رَدَّهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَاقْتَصُّوا آثَارَهُمَا حَتَّى اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الَّذِي يَقْتَصُّ الْأَثَرَ لِقُرَيْشٍ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَصَعِدُوا الْجَبَلَ الَّذِي هُمَا فِيهِ، وَجَعَلُوا يَمُرُّونَ عَلَى بَابِ الْغَارِ، فَتُحَاذِي أَرْجُلُهُمْ لِبَابِ الْغَارِ وَلَا يَرَوْنَهُمَا; حِفْظًا مِنَ اللَّهِ لَهُمَا، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا هَمَّامٌ، أَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السِّيَرِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْ جَاءُونَا مِنْ هَاهُنَا لَذَهَبْنَا مِنْ هُنَا ". فَنَظَرَ الصِّدِّيقُ إِلَى الْغَارِ قَدِ انْفَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِذَا الْبَحْرُ قَدِ اتَّصَلَ بِهِ، وَسَفِينَةٌ مَشْدُودَةٌ إِلَى جَانِبِهِ. وَهَذَا لَيْسَ بِمُنْكَرٍ مِنْ حَيْثُ الْقُدْرَةُ الْعَظِيمَةُ، وَلَكِنْ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ وَلَا ضَعِيفٍ، وَلَسْنَا نُثْبِتُ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا، وَلَكِنْ مَا صَحَّ أَوْ حَسُنَ سَنَدُهُ قُلْنَا بِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، ثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ، ثَنَا مُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ:

لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنْ حَدَثَ فِي النَّاسِ حَدَثٌ فَأْتِ الْغَارَ الَّذِي رَأَيْتَنِي اخْتَبَأْتُ فِيهِ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْ فِيهِ فَإِنَّهُ سَيَأْتِيكَ فِيهِ رِزْقُكَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُ يَرْوِيهِ غَيْرُ خَلَفِ بْنِ تَمِيمٍ.
قُلْتُ: وَمُوسَى بْنُ مُطَيْرٍ هَذَا ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ، كَذَّبَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي دُخُولِهِمَا الْغَارَ، وَسَيْرِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ سُرَاقَةَ، كَمَا سَيَأْتِي، شِعْرًا فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
قَالَ النَّبِيُّ وَلَمْ أَجْزَعْ يُوَقِّرُنِي وَنَحْنُ فِي سُدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ
لَا تَخْشَ شَيْئًا فَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُنَا وَقَدْ تَوَكَّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَذَكَرَهَا مُطَوَّلَةً جِدًّا، وَذَكَرَ مَعَهَا قَصِيدَةً أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَمَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْحَجِّ - يَعْنِي الَّذِي بَايَعَ فِيهِ الْأَنْصَارَ - بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَصَفَرًا، ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَمَكْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَحْبِسُوهُ، أَوْ يُخْرِجُوهُ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [ الْأَنْفَالِ: 30 ] الْآيَةَ. فَأَمَرَ عَلَيًّا فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهِ،

وَذَهَبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا ذَهَبُوا فِي طَلَبِهِمَا فِي كُلِّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَهُمَا، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ "، وَأَنَّ خُرُوجَهُ هُوَ وَأَبِي بَكْرٍ إِلَى الْغَارِ كَانَ لَيْلًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ - التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ أَيْضًا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ:لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بِكُرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ. فَذَكَرَتْ مَا كَانَ مِنْ رَدِّهِ لِأَبِي بَكْرٍ إِلَى مَكَّةَ وَجِوَارِهِ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ، إِلَى قَوْلِهِ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ. قَالَتْ: وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ: " إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ ". وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ قِبَلَ

الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عَلَى رِسْلِكَ; فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ - وَهُوَ الْخَبَطُ - أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَفَهُمَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ:فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ. فَقَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَإِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةَ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِالثَّمَنِ ". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا

أَحَثَّ الْجَهَازِ، فَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ. قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيَدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، لَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ يَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعَشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ - وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا - حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا - وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ - قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ

رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلَجِيُّ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ - أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ،أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ. فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلَجٍ، إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سُرَاقَةُ، إِنِّي رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً، ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرَتْ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسُهَا عَلَيَّ، وَأَخَذَتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَخَطَطْتُ بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَضْتُ عَالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا، فَرَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدَيَّ إِلَى كِنَانَتِي، فَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا الْأَزْلَامَ، فَاسْتَقْسَمْتُ بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ فَرَكِبْتُ فَرَسِي - وَعَصَيْتُ

الْأَزْلَامَ - تُقَرِّبُ بِي، حَتَّى إِذَا سَمِعْتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ، سَاخَتْ يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا، ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا لِأَثَرِ يَدَيْهَا غُبَارٌ سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَّانِ، فَاسْتَقْسَمَتُ الْأَزْلَامَ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ، فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ مَا لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنْ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ. وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبَارَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي إِلَّا أَنْ قَالَ: " أَخْفِ عَنَّا ". فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مَنْ أَدَمٍ، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ سُرَاقَةَ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ أَوَّلَ مَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَخَرَجَ السَّهْمُ الَّذِي يَكْرَهُ; لَا يَضُرُّهُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ عَثَرَ بِهِ فَرَسُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ وَيَخْرُجُ الَّذِي يَكْرَهُ; لَا يَضُرُّهُ، حَتَّى نَادَاهُمْ بِالْأَمَانِ وَسَأَلَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا

يَكُونُ أَمَارَةَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ أَوْ رُقْعَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ مَرْجِعَهُ مِنَ الطَّائِفِ، فَقَالَ لَهُ: " يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرٍّ، ادْنُهْ " فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَأَسْلَمْتُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ جَيِّدٌ.
وَلَمَّا رَجَعَ سُرَاقَةُ جَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا مِنَ الطَّلَبِ إِلَّا رَدَّهُ، وَقَالَ: كُفِيتُمْ هَذَا الْوَجْهَ. فَلَمَّا ظَهَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، جَعَلَ سُرَاقَةُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ مَا رَأَى، وَمَا شَاهَدَ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ قَضِيَّةِ جَوَادِهِ، وَاشْتُهِرَ هَذَا عَنْهُ فَخَافَ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ مَعَرَّتَهُ، وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِسْلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ سُرَاقَةُ أَمِيرَ بَنِي مُدْلَجٍ وَرَئِيسَهُمْ، فَكَتَبَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ:
بَنِي مُدْلِجٍ إِنِّي أَخَافُ سَفِيهَكُمْ سُرَاقَةَ مُسْتَغْوٍ لِنَصْرِ مُحَمَّدِ
عَلَيْكُمْ بِهِ أَلَّا يُفَرِّقَ جَمْعَكُمْ فَيُصْبِحَ شَتَّى بَعْدَ عِزٍّ وَسُؤْدُدِ
قَالَ: فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ أَبَا جَهْلٍ فِي قَوْلِهِ هَذَا:
أَبَا حَكَمٍ وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ شَاهِدًا لِأَمْرِ جَوَادِي إِذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ

عَجِبْتَ وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولٌ وَبُرْهَانٌ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ
عَلَيْكَ بِكَفِّ الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنَّنِي إِخَالُ لَنَا يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ
بِأَمْرٍ تَوَدُّ النَّصْرَ فِيهِ فَإِنَّهُمْ وَإِنَّ جَمِيعَ النَّاسِ طُرًّا مُسَالِمُهْ
وَذَكَرَ هَذَا الشِّعْرَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَزَادَ فِي شِعْرِ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَبْيَاتًا تَتَضَمَّنُ كُفْرًا بَلِيغًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ، فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، فَكَانُوا يَغْدُونَ كُلَّ غَدَاةٍ إِلَى الْحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَ مَا أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبَيِّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ

قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، وَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ، حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: " هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ ". ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ; لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُمَا هِبَةً، حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
" هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَرْ "

وَيَقُولُ
" اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَةِ فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ "
فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ دُونَ مُسْلِمٍ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ، وَلَيْسَ فِيهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَلْنَذْكُرْ هُنَا مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ مُرَتَّبًا أَوَّلًا فَأَوَّلًا:
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو سَعِيدٍ الْعَنْقَزِيُّ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ:اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَازِبٍ سَرْجًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ: مُرِ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْهُ إِلَى مَنْزِلِي. فَقَالَ: لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ حِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ مَعَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: خَرَجْنَا فَأَدْلَجْنَا فَأَحْثَثْنَا يَوْمَنَا وَلَيْلَتَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا، وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ، فَضَرَبْتُ بَصَرِي هَلْ أَرَى ظِلًّا نَأْوِي إِلَيْهِ، فَإِذَا أَنَا بِصَخْرَةٍ، فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا، فَإِذَا بَقِيَّةُ ظِلِّهَا، فَسَوَّيْتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَرَشْتُ لَهُ فَرْوَةً، وَقُلْتُ: اضْطَجِعْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَاضْطَجَعَ، ثُمَّ خَرَجْتُ أَنْظُرُ هَلْ أَرَى أَحَدًا

مِنَ الطَّلَبِ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَسَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ، فَقُلْتُ: هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: هَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لِي ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْهَا، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ ضَرْعَهَا مِنَ الْغُبَارِ، ثُمَّ أَمَرْتُهُ فَنَفَضَ كَفَّيْهِ مِنَ الْغُبَارِ، وَمَعِي إِدَاوَةٌ عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ، فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنَ اللَّبَنِ فَصَبَبْتُ - يَعْنِي الْمَاءَ - عَلَى الْقَدَحِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ، ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ آنَ الرَّحِيلُ ؟ فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. قَالَ: " لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ". حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ - أَوْ قَالَ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. وَبَكَيْتُ، قَالَ: " لِمَ تَبْكِي ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ. فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ ". فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ، وَوَثَبَ عَنْهَا، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُنْجِيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي بِمَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا حَاجَةَ لِي

فِيهَا ". قَالَ: وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُطْلِقَ وَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَخَرَجُوا فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْأَجَاجِيرِ، وَاشْتَدَّ الْخَدَمَ وَالصِّبْيَانَ فِي الطَّرِيقِ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ، جَاءَ مُحَمَّدٌ. قَالَ: وَتَنَازَعَ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْزِلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ; لِأُكْرِمَهُمْ بِذَلِكَ ". فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا حَيْثُ أُمِرَ. قَالَ الْبَرَاءُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، أَحَدُ بَنِي فِهْرٍ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ رَاكِبًا، فَقُلْنَا: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ؟ قَالَ: هُوَ عَلَى أَثَرِي. ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ. قَالَ الْبَرَاءُ: وَلَمْ يَقْدَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَرَأَتُ سُوَرًا مِنَ الْمُفَصَّلِ أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِدُونِ قَوْلِ الْبَرَاءِ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا... إِلَخْ. فَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ، فَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ،

وَسَكَنَ عَنْهُمَا النَّاسُ، أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الَّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ، وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ بِسُفْرَتِهِمَا، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا، فَلَمَّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلِّقَ السُّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ، فَحَلَّتْ نِطَاقَهَا فَجَعَلَتْهُ عِصَامًا ثُمَّ عَلَّقَتْهَا بِهِ، فَكَانَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ لِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَرَّبَ أَبُو بَكْرٍ الرَّاحِلَتَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا، ثُمَّ قَالَ: ارْكَبْ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي ". قَالَ: فَهِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: " لَا، وَلَكِنْ مَا الثَّمَنُ الَّذِي ابْتَعْتَهَا بِهِ ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: " أَخَذْتُهَا بِذَلِكَ ". قَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ الْقَصْوَاءَ، قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ اشْتَرَاهُمَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: وَهِيَ الْجَدْعَاءُ. وَهَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا الْجَدْعَاءُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خَلْفَهُ، لِيَخْدِمَهُمَا فِي الطَّرِيقِ، فَحُدِّثْتُ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ فَذَكَرَ ضَرْبَهُ لَهَا عَلَى خَدِّهَا لَطْمَةً، طَرَحَ مِنْهَا قُرْطَهَا مِنْ أُذُنِهَا كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَتْ: فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ مَا نَدْرِي أَيْنَ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،، حَتَّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ، وَإِنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ، يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ، حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ وَجْهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانُوا أَرْبَعَةً، رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ. كَذَا يَقُولُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْمَشْهُورُ

عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ الدُّؤَلِيُّ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مُشْرِكًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَدَ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكَّةَ ثُمَّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السَّاحِلِ حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ، ثُمَّ اسْتَجَازَ بِهِمَا حَتَّى عَارَضَ الطَّرِيقَ بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرَّارَ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا لَقْفًا، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا مُدْلَجَةَ لَقْفٍ ثُمَّ اسْتَبْطَنَ بِهِمَا مُدْلَجَةَ مِجَاجٍ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِجَاجٍ، ثُمَّ تَبَطَّنَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضَوَيْنِ، ثُمَّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجُدَاجِدِ، ثُمَّ عَلَى الْأَجْرَدِ، ثُمَّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا سَلَمٍ مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءِ مَدْلَجَةِ تِعْهِنَ، ثُمَّ عَلَى الْعَبَابِيدِ، ثُمَّ أَجَازَ بِهِمَا الْقَاحَةَ، ثُمَّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ ظَهْرِهِمْ، فَحَمَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُ: أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّدَاءِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا مِنَ الْعَرْجِ،

فَسَلَكَ بِهِمَا ثَنِيَّةَ الْعَائِرِ عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ - وَيُقَالُ: ثَنِيَّةُ الْغَائِرِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - حَتَّى هَبَطَ بِهِمَا بَطْنَ رِيمٍ، ثُمَّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءَ عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ، وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ نَحْوًا مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَخَالَفَهُ فِي بَعْضِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، هُوَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنِي أَخِي مُوسَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَيَّارٍ، حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مَرُّوا بِإِبِلٍ لَنَا بِالْجُحْفَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِمَنْ هَذِهِ الْإِبِلُ ؟ ". فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ. فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: " سَلِمْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَقَالَ: " مَا اسْمُكَ ؟ " قَالَ: مَسْعُودٌ.

فَالْتَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: " سَعِدْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". قَالَ: فَأَتَاهُ أَبِي فَحَمَلَهُ عَلَى جَمَلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الرِّدَاءِ
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدَخْلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنْ بَيْنَ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ مَكَّةَ وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا; لِأَنَّهُ أَقَامَ بِغَارِ ثَوْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَلَكَ طَرِيقَ السَّاحِلِ، وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ وَاجْتَازَ فِي مُرُورِهِ عَلَى أُمِّ مَعْبَدٍ بِنْتِ كَعْبٍ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ خُزَاعَةَ، قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ. وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: اسْمُهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: هِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ تَبِيعٍ حَلِيفِ بَنِي مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضَبِيسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو، وَلِهَذِهِ الْمَرْأَةِ مِنَ الْوَلَدِ، مَعْبَدٌ، وَنَضْرَةٌ، وَحُنَيْدَةُ، بَنُو أَبِي مَعْبَدٍ، وَاسْمُهُ أَكْثَمُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ ضَبِيسٍ، وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طَرْقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَهَذِهِ قِصَّةُ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ: قَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَنَزَلَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَاسْمُهَا عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ، فَأَرَادُوا الْقِرَى، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ وَلَا لَنَا مِنْحَةٌ، وَلَا لَنَا شَاةٌ إِلَّا حَائِلٌ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ غَنَمِهَا، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا بِيَدِهِ، وَدَعَا اللَّهَ وَحَلَبَ فِي الْعُسِّ حَتَّى أَرْغَى، وَقَالَ: " اشْرَبِي يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ". فَقَالَتْ: اشْرَبْ فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ. فَرَدَّهُ عَلَيْهَا فَشَرِبَتْ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِهَا، فَشَرِبَهُ ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى، فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى دَلِيلَهُ، ثُمَّ دَعَا بِحَائِلٍ أُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَسَقَى عَامِرًا، ثُمَّ تَرَّوَحَ وَطَلَبَتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغُوا أُمَّ مَعْبَدٍ، فَسَأَلُوا عَنْهُ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتِ مُحَمَّدًا ؟ مِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا وَكَذَا فَوَصَفُوهُ لَهَا، فَقَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ قَدْ ضَافِنِي حَالِبُ الْحَائِلِ، قَالَتْ قُرَيْشٌ: فَذَاكَ الَّذِي نُرِيدُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرَيْنِ فَدَخَلَا الْغَارَ، إِذَا فِي الْغَارِ جُحْرٌ فَأَلْقَمَهُ أَبُو بَكْرٍ عَقِبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ; مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَأَقَامَا فِي الْغَارِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ

خَرَجَا حَتَّى نَزَلَا بِخَيْمَاتِ أُمِّ مَعْبَدٍ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ مَعْبَدٍ: إِنِّي أَرَى وُجُوهًا حِسَانًا، وَإِنَّ الْحَيَّ أَقْوَى عَلَى كَرَامَتِكُمْ مِنِّي. فَلَمَّا أَمْسَوْا عِنْدَهَا بَعَثَتْ مَعَ ابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ بِشَفْرَةٍ وَشَاةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْدُدِ الشَّفْرَةَ وَهَاتِ لِي فَرَقًا ". - يَعْنِي الْقَدَحَ - فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ لَا لَبَنَ فِيهَا وَلَا وَلَدَ. قَالَ: " هَاتِ لِي فَرَقًا، فَجَاءَتْ بِفَرَقٍ فَضَرَبَ ظَهْرَهَا فَاجْتَرَّتْ وَدَرَّتْ، فَحَلَبَ فَمَلَأَ الْقَدَحَ، فَشَرِبَ وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى أُمِّ مَعْبَدٍ، ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُقْبَةَ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَدَّثَ عَنْهُ إِلَّا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا فِي النَّسَبِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَانْتَهَيْنَا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتٍ مُنْتَحِيًا، فَقَصَدَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلْنَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنَّمَا أَنَا امْرَأَةٌ وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ فَعَلَيْكُمَا بِعَظِيمِ الْحَيِّ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقِرَى. قَالَ: فَلَمْ يُجِبْهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَجَاءَ ابْنٌ لَهَا بِأَعْنُزٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ انْطَلِقْ بِهَذِهِ الْعَنْزِ وَالشَّفْرَةِ إِلَى هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، فَقُلْ لَهُمَا: تَقُولُ لَكُمَا أُمِّي:

اذْبَحَا هَذِهِ وَكُلَا وَأَطْعِمَانَا. فَلَمَّا جَاءَ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْطَلِقْ بِالشَّفْرَةِ وَجِئْنِي بِالْقَدَحِ ". قَالَ: إِنَّهَا قَدْ عَزَبَتْ وَلَيْسَ بِهَا لَبَنٌ. قَالَ: " انْطَلَقْ ". فَجَاءَ بِقَدَحٍ فَمَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرْعَهَا ثُمَّ حَلَبَ حَتَّى مَلَأَ الْقَدَحَ، ثُمَّ قَالَ: " انْطَلَقَ بِهِ إِلَى أُمِّكَ ". فَشَرِبَتْ حَتَّى رَوِيَتْ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ: " انْطَلِقْ بِهَذِهِ وَجِئْنِي بِأُخْرَى ". فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ سَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ بِأُخْرَى فَفَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ شَرِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِتْنَا لَيْلَتَنَا ثُمَّ انْطَلَقْنَا، فَكَانَتْ تُسَمِّيهِ الْمُبَارَكَ، وَكَثُرَتْ غَنَمُهَا حَتَّى جَلَبَتْ جَلْبًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَرَآهُ ابْنُهَا فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: يَا أُمَّهْ، هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَ الْمُبَارَكِ. فَقَامَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مَعَكَ ؟ قَالَ: أَوْ مَا تَدْرِينَ مَنْ هُوَ! قَالَتْ: لَا. قَالَ: هُوَ نَبِيُّ اللَّهِ. قَالَتْ: فَأَدْخِلْنِي عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَدْخَلَهَا فَأَطْعَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْطَاهَا - زَادَ ابْنُ عَبْدَانِ فِي رِوَايَتِهِ - قَالَتْ: فَدُلَّنِي عَلَيْهِ فَانْطَلَقَتْ مَعِي، وَأَهْدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَمَتَاعِ الْأَعْرَابِ. قَالَ: فَكَسَاهَا وَأَعْطَاهَا. قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: وَأَسْلَمَتْ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ

الْقَاضِي، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَدَ بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيُّ، ثَنَا الْحُرُّ بْنُ الصَّيَّاحِ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلَةَ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَدَلِيلُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ، فَمَرُّوا بِخَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَكَانَتْ أُمُّ مَعْبَدٍ امْرَأَةً بَرْزَةً جَلْدَةً، تَحْتَبِي وَتَجْلِسُ بِفَنَاءِ الْخَيْمَةِ، فَتُطْعِمُ وَتَسْقِي فَسَأَلُوهَا هَلْ عِنْدَهَا لَحْمٌ أَوْ لَبَنٌ يَشْتَرُونَهُ مِنْهَا ؟ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَتْ: لَوْ كَانَ عِنْدَنَا شَيْءٌ مَا أَعْوَزَكُمُ الْقِرَى. وَإِذَا الْقَوْمُ مُرْمِلُونَ مُسْنِتُونَ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا شَاةٌ فِي كَسْرِ خَيْمَتِهَا، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ ؟ فَقَالَتْ: شَاةٌ خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. قَالَ: " فَهَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ ؟ " قَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: " تَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلُبَهَا ". قَالَتْ: إِنْ كَانَ بِهَا حَلْبٌ فَاحْلُبْهَا. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّاةِ فَمَسَحَهَا، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ

وَمَسَحَ ضَرْعَهَا، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ وَدَعَا بِإِنَاءٍ لَهَا يُرْبِضُ الرَّهْطَ، فَتَفَاجَّتْ وَاجْتَرَّتْ، فَحَلَبَ فِيهَا ثَجًّا، حَتَّى عَلَاهُ الْبَهَاءُ، فَسَقَاهَا وَسَقَى أَصْحَابَهُ، فَشَرِبُوا عَلَلًا بَعْدَ نَهَلٍ، حَتَّى إِذَا رَوُوْا شَرِبَ آخِرَهُمْ، وَقَالَ: " سَاقِي الْقَوْمِ آخِرُهُمْ ". ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ ثَانِيًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، فَغَادَرَهُ عِنْدَهَا، ثُمَّ ارْتَحَلُوا، قَالَ: فَقَلَّ مَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ زَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يَسُوقُ أَعَنُزًا عِجَافًا يَتَسَاوَكْنَ، هَزْلَى لَا نِقْيَ بِهِنَّ، مُخُّهُنَّ قَلِيلٌ، فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ عَجِبَ، وَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، وَلَا حَلُوبَةَ فِي الْبَيْتِ وَالشَّاةُ عَازِبٌ ؟ فَقَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، إِنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَقَالَ صِفِيهِ لِي، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ صَاحِبَ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ. فَقَالَتْ: رَأَيْتُ رَجُلًا ظَاهِرَ الْوَضَاءَةِ، حَسَنَ الْخُلُقِ، مَلِيحَ الْوَجْهِ، لَمْ تَعِبْهُ ثُجْلَةٌ، وَلَمْ تُزْرِ بِهِ صَعْلَةٌ، قَسِيمٌ وَسِيمٌ، فِي عَيْنَيْهِ

دَعَجٌ، وَفِي أَشْفَارِهِ وَطَفٌ، وَفِي صَوْتِهِ صَحَلٌ، أَحْوَرُ، أَكْحَلُ، أَزَجُّ، أَقْرَنُ، فِي عُنُقِهِ سَطَعٌ، وَفِي لِحْيَتِهِ كَثَافَةٌ، إِذَا صَمَتَ فَعَلَيْهِ الْوَقَارُ، وَإِذَا تَكَلَّمَ سَمَا وَعَلَاهُ الْبَهَاءُ، حُلْوُ الْمَنْطِقِ، فَصْلٌ; لَا نَزْرٌ وَلَا هَذَرٌ، كَأَنَّ مَنْطِقَهُ خَرَزَاتُ نَظْمٍ يَنْحَدِرْنَ، أَبْهَى النَّاسِ وَأَجْمَلُهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ، رَبْعَةٌ، لَا تَشْنَؤُهُ عَيْنٌ مِنْ طُولٍ، وَلَا تَقْتَحِمُهُ عَيْنٌ مَنْ قِصَرٍ، غُصْنٌ بَيْنَ غُصْنَيْنِ، فَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلَاثَةِ مَنْظَرًا، وَأَحْسَنُهُمْ قَدًّا، لَهُ رُفَقَاءُ يَحُفُّونَ بِهِ، إِنْ قَالَ اسْتَمَعُوا لِقَوْلِهِ، وَإِنْ أَمَرَ تَبَادَرُوا لِأَمْرِهِ، مَحْفُودٌ مَحْشُودٌ، لَا

عَابِسٌ وَلَا مُفَنَّدٌ. فَقَالَ - يَعْنِي بَعْلَهَا -: هَذَا وَاللَّهِ صَاحِبُ قُرَيْشٍ الَّذِي تَطْلُبُ، وَلَوْ صَادَفْتُهُ لَالْتَمَسْتُ أَنْ أَصْحَبَهُ، وَلَأَجْهَدَنَّ إِنْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا قَالَ: وَأَصْبَحَ صَوْتٌ بِمَكَّةَ عَالٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَسْمَعُونَهُ وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَقُولُ، وَهُوَ يَقُولُ:
جَزَى اللَّهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حَلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرِّ وَارْتَحَلَا بِهِ فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ
فَيَالَ قُصَيٍّ مَا زَوَى اللَّهُ عَنْكُمُ بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا تُجَارَى وَسُؤْدُدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا فَإِنَّكُمْ إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ
دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ لَهُ بِصَرِيحٍ ضَرَّةُ الشَّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهُ رَهْنًا لَدَيْهَا لِحَالِبٍ يَدُرُّ لَهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمَّ مَوْرِدِ
قَالَ: وَأَصْبَحَ النَّاسُ - يَعْنِي بِمَكَّةَ - وَقَدْ فَقَدُوا نَبِيَّهُمْ، فَأَخَذُوا عَلَى خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدٍ، حَتَّى لَحِقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي

تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَزَالَتْ عُقُولُهُمْ وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ
وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَفَّهُوا عَمًى وَهُدَاةٌ يَهْتَدُونَ بِمُهْتَدِ
نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ وَيَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَشْهَدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جَدِّهِ بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدِ اللَّهُ يَسْعَدِ
وَيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانُ فَتَاتِهِمْ وَمَقْعَدُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَرْصَدِ
قَالَ - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ وَهْبٍ -: فَبَلَغَنِي أَنَّ أَبَا مَعْبَدٍ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ وَهْبٍ الْمَذْحِجِيِّ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: بَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ مَعْبَدٍ هَاجَرَتْ وَأَسْلَمَتْ وَلَحِقَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مُكَرَّمِ بْنِ مُحْرِزٍ الْكَعْبِيِّ الْخُزَاعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ مُحْرِزِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حِزَامِ بْنِ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ،

عَنْ جَدِّهِ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَدَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللَّيْثِيُّ، فَمَرُّوا بِخَيْمَةِ أُمِّ مَعْبَدٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةً بَرْزَةً جَلْدَةً تَحْتَبِي بِفِنَاءِ الْقُبَّةِ. وَذَكَرَ مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءً. قَالَ: وَحَدَّثْنَاهُ فِيمَا أَظُنُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَخْلَدٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى يَعْنِي الْكُدَيْمِيَّ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَوْلَى الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ سَلِيطٍ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ سَلِيطٍ الْبَدْرِيِّ، قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَابْنُ أُرَيْقِطٍ، يَدُلُّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، مَرَّ بِأُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، وَهِيَ لَا تَعْرِفُهُ، فَقَالَ لَهَا: " يَا أُمَّ مَعْبَدٍ، هَلْ عِنْدَكِ مِنْ لَبَنٍ ؟ " قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ إِنَّ الْغَنَمَ لَعَازِبَةٌ. قَالَ: " فَمَا هَذِهِ الشَّاةُ ؟ " قَالَتْ: خَلَّفَهَا الْجَهْدُ عَنِ الْغَنَمِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ كُلَّهَا وَاحِدَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً شَبِيهَةً بِقِصَّةِ شَاةِ أُمِّ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّةِ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ، ثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، ثَنَا إِيَادُ بْنُ لَقِيطٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ،

قَالَ:لَمَّا انْطَلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ مُسْتَخْفِينَ مَرُّوا بِعَبْدٍ يَرْعَى غَنَمًا، فَاسْتَسْقَيَاهُ اللَّبَنَ، فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَاةٌ تُحْلَبُ غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا عَنَاقًا حَمَلَتْ أَوَّلَ الشِّتَاءِ، وَقَدْ أَخْدَجَتْ، وَمَا بَقِيَ لَهَا لَبَنٌ. فَقَالَ: " ادْعُ بِهَا ". فَدَعَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ ضَرْعَهَا، وَدَعَا حَتَّى أَنْزَلَتْ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِمِجَنٍّ، فَحَلَبَ فَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ حَلَبَ فَسَقَى الرَّاعِيَ، ثُمَّ حَلَبَ فَشَرِبَ، فَقَالَ الرَّاعِي: بِاللَّهِ مَنْ أَنْتَ ؟ فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ. قَالَ: أَوَ تُرَاكَ تَكْتُمُ عَلَيَّ حَتَّى أُخْبِرَكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: " فَإِنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ". فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنَّهُ صَابِئٌ ؟ قَالَ: " إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ ذَلِكَ ". قَالَ: فَأَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ حَقٌّ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ مَا فَعَلْتَ إِلَّا نَبِيٌّ، وَأَنَا مُتَّبِعُكَ. قَالَ: " إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، فَإِذَا بَلَغَكَ أَنِّي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنَا ". وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ حُمَيْدٍ الْكُوفِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ هَاهُنَا قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:كُنْتُ غُلَامًا يَافِعًا أَرْعَى غَنَمًا

لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ بِمَكَّةَ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: " يَا غُلَامُ، عِنْدَكَ لَبَنٌ تَسْقِينَا ؟ " فَقُلْتُ: إِنِّي مُؤْتَمَنٌ وَلَسْتُ بِسَاقِيكُمَا. فَقَالَا: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ جَذَعَةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ بَعْدُ ؟ قُلْتُ: " نَعَمْ ". فَأَتَيْتُهُمَا بِهَا، فَاعْتَقَلَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّرْعَ، فَدَعَا فَحَفَلَ الضَّرْعُ، وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِصَخْرَةٍ مُنْقَعِرَةٍ فَحَلَبَ فِيهَا، ثُمَّ شَرِبَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَسَقَيَانِي، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: " اقْلِصْ ". فَقَلَصَ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الطَّيِّبِ - يَعْنِي الْقُرْآنَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ غُلَامٌ مُعَلَّمٌ ". فَأَخَذْتُ مِنْ فِيهِ سَبْعِينَ سُورَةً مَا يُنَازِعُنِي فِيهَا أَحَدٌ. فَقَوْلُهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ: وَقَدْ فَرَّا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَقْتَ الْهِجْرَةِ، إِنَّمَا ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ قَدِيمًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَقِصَّتُهُ هَذِهِ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ فِي " الصِّحَاحِ " وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ الزَّبِيرِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ فَائِدٍ مَوْلَى عَبَادِلَ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ أَتَى ابْنُ سَعْدٍ، وَسَعْدٌ هُوَ الَّذِي دَلَّ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ رَكُوبَةَ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: أَخْبِرْنِي مَا حَدَّثَكَ أَبُوكَ ؟. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَتْ لِأَبِي بَكْرٍ عِنْدَنَا بِنْتٌ مُسْتَرْضَعَةٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ الِاخْتِصَارَ فِي الطَّرِيقِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: هَذَا الْغَائِرُ مِنْ رَكُوبَةَ وَبِهِ لِصَّانِ مِنْ أَسْلَمَ، يُقَالُ لَهُمَا: الْمُهَانَانِ. فَإِنْ شِئْتَ أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذْ بِنَا عَلَيْهِمَا ". قَالَ سَعْدٌ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا، إِذَا أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: هَذَا الْيَمَانِيُّ. فَدَعَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَا ثُمَّ سَأَلَهُمَا عَنْ أَسْمَائِهِمَا، فَقَالَا: نَحْنُ الْمُهَانَانِ. فَقَالَ: " بَلْ أَنْتُمَا الْمُكْرَمَانِ ". وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقْدَمَا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ظَاهِرَ قُبَاءَ، فَتَلَقَّاهُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ؟ " فَقَالَ سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ: إِنَّهُ أَصَابَ قِبْلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُخْبِرُهُ ذَلِكَ ؟ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا طَلَعَ عَلَى النَّخْلِ، فَإِذَا الشَّرْبُ مَمْلُوءٌ، فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا الْمَنْزِلُ رَأَيْتُنِي أَنْزِلُ إِلَى حِيَاضٍ كَحِيَاضِ بَنِي مُدْلِجٍ ". انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ.

فَصْلٌ فِي دُخُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ وَأَيْنَ اسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ
قَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ; لِمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، قَالَ:فَقَدِمْنَا لَيْلًا فَتَنَازَعَهُ الْقَوْمُ أَيُّهُمْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ، أَخْوَالِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أُكْرِمُهُمْ بِذَلِكَ ". وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ قُدُومِهِ إِلَى قُبَاءَ، فَيَكُونُ حَالَ وُصُولِهِ إِلَى قُرْبِ الْمَدِينَةِ كَانَ فِي حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَأَقَامَ تَحْتَ تِلْكَ النَّخْلَةِ، ثُمَّ سَارَ بِالْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَ قُبَاءَ، وَذَلِكَ لَيْلًا، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لَيْلًا، فَإِنَّ الْعَشِيَّ مِنَ الزَّوَالِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَمَّا رَحَلَ مِنْ قُبَاءَ - كَمَا سَيَأْتِي - فَسَارَ فَمَا انْتَهَى إِلَى بَنِي النَّجَّارِ إِلَّا عِشَاءً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ

عَوْفٍ بِقُبَاءَ، وَأَقَامَ فِيهِمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَأَسَّسَ مَسْجِدَ قُبَاءَ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، ثُمَّ رَكِبَ وَمَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ فِي مَكَانِ مَسْجِدِهِ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ، وَهَمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ، فَابْتَاعَهُ مِنْهُمَا، وَاتَّخَذَهُ مَسْجِدًا، وَذَلِكَ فِي دَارِ بَنِي النَّجَّارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: لَمَّا بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَتَوَكَّفْنَا قُدُومَهُ، كُنَّا نَخْرُجُ إِذَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ إِلَى ظَاهِرِ حَرَّتِنَا نَنْتَظِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَاللَّهِ مَا نَبْرَحُ حَتَّى تَغَلِبَنَا الشَّمْسُ عَلَى الظِّلَالِ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلَّا دَخَلْنَا، وَذَلِكَ فِي أَيَّامٍ حَارَّةٍ حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسْنَا كَمَا كُنَّا نَجْلِسُ، حَتَّى إِذْ لَمْ يَبْقَ ظِلٌّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا بَنِي قَيْلَةَ، هَذَا جَدُّكُمْ قَدْ جَاءَ. فَخَرَجْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي ظِلِّ نَخْلَةٍ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي مِثْلِ سِنِّهِ، وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَكِبَهُ النَّاسُ وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، حَتَّى زَالَ الظِّلُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلَّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَثْلُ

ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ، وَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ، ثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ. فَأَسْعَى وَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: جَاءَ مُحَمَّدٌ. فَأَسْعَى وَلَا أَرَى شَيْئًا. قَالَ: حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ فَكِمَنَا فِي بَعْضِ حِرَارِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ بَعَثَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ لِيُؤْذِنَ بِهِمَا الْأَنْصَارَ، فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءُ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَتَّى إِنَّ الْعَوَاتِقَ لَفَوْقَ الْبُيُوتِ يَتَرَاءَيْنَهُ يَقُلْنَ: أَيُّهُمْ هُوَ ؟ أَيُّهُمْ هُوَ ؟ فَمَا رَأَيْنَا مَنْظَرًا شَبِيهًا بِهِ يَوْمَئِذٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ عَلَيْنَا وَيَوْمَ قُبِضَ، فَلَمْ أَرَ يَوْمَيْنِ مُشَبَّهًا بِهِمَا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيِّ، عَنْ

أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ بِنَحْوِهِ أَوْ مِثْلِهِ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ، قَالَ: وَخَرَجَ النَّاسُ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فِي الطُّرُقِ وَعَلَى الْبُيُوتِ، وَالْغِلْمَانُ وَالْخَدَمُ يَقُولُونَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ، اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ مُحَمَّدٌ، اللَّهُ أَكْبَرُ، جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ انْطَلَقَ وَذَهَبَ حَيْثُ أُمِرَ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَدِيبُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا خَلِيفَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَائِشَةَ، يَقُولُ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ جَعَلَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يَقُلْنَ:
طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا
مَا دَعَا لِلَّهِ دَاعْ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَذْكُرُونَ - يَعْنِي حِينَ نَزَلَ بِقُبَاءَ - عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ أَحَدِ بَنِي عُبَيْدٍ، وَيُقَالُ: بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ. وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ: إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ

الْهِدْمِ جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ لَهُ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِهِ: بَيْتُ الْعُزَّابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إِسَافٍ، أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسُّنْحِ، وَقِيلَ: عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيَّامَهَا، حَتَّى أَدَّى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَدَائِعَ التِي كَانَتْ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ، فَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - وَإِنَّمَا كَانَتْ إِقَامَتُهُ بِقُبَاءَ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ - يَقُولُ: كَانَتْ بِقُبَاءَ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا، مُسْلِمَةٌ، فَرَأَيْتُ إِنْسَانًا يَأْتِيهَا مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا بَابَهَا فَتَخْرُجُ إِلَيْهِ، فَيُعْطِيهَا شَيْئًا مَعَهُ فَتَأْخُذُهُ، فَاسْتَرَبْتُ بِشَأْنِهِ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أَمَةَ اللَّهِ، مَنْ هَذَا الَّذِي يَضْرِبُ عَلَيْكِ بَابَكَ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَتَخْرُجِينَ إِلَيْهِ، فَيُعْطِيَكِ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَكِ ؟ قَالَتْ: هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَقَدْ عَرَفَ أَنِّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فَكَسَرَهَا، ثُمَّ جَاءَنِي بِهَا، فَقَالَ: احْتَطِبِي بِهَذَا. فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ حِينَ هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُ، ثُمَّ

أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامَ فِيهِمْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَامَ فِيهِمْ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَحَكَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَارِيَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا - يَعْنِي فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ - اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَيُقَالُ: أَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَدْرَكَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي; وَادِي رَانُونَاءَ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَاهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَالِمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ

وَالْمَنَعَةِ. قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ". لِنَاقَتِهِ. فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا. فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا وَازَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ، تَلَقَّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولُ اللَّهِ، هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ. قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ". فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ. قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ". فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا وَازَتْ دَارَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلُمَّ إِلَيْنَا إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ. قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ". فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا مَرَّتْ بِدَارِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ - وَهُمْ أَخْوَالُهُ دِنْيَا، أُمُّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو إِحْدَى نِسَائِهِمْ - اعْتَرَضَهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو سَلِيطٍ أُسَيْرَةُ بْنُ أَبِي خَارِجَةَ فِي رِجَالٍ مَنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلُمَّ إِلَى أَخْوَالِكَ، إِلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْمَنَعَةِ. قَالَ: " خَلُّوا سَبِيلَهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ". فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى إِذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْيَوْمَ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا عَمْرٍو، وَكَانَا فِي حِجْرِ مُعَاذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ

قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّهُمَا كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ فِي طَرِيقِهِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَدْعُوَهُ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: انْظُرِ الَّذِينَ دَعَوْكَ فَانْزِلْ عَلَيْهِمْ. فَذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَعْتَذِرُ عَنْهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَى رَأْسِهِ التَّاجَ وَنُمَلِّكَهُ عَلَيْنَا.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ قَدِ اجْتَمَعُوا قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَمَشَوْا حَوْلَ نَاقَتِهِ، لَا يَزَالُ أَحَدُهُمْ يُنَازِعُ صَاحِبَهُ زِمَامَ النَّاقَةِ شُحًّا عَلَى كَرَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْظِيمًا لَهُ، وَكُلَّمَا مَرَّ بِدَارٍ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ دَعَوْهُ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ، فَإِنَّمَا أَنْزِلُ حَيْثُ أَنْزَلَنِي اللَّهُ ". فَلَمَّا انْتَهَتْ إِلَى دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، بَرَكَتْ بِهِ عَلَى الْبَابِ، فَنَزَلَ فَدَخَلَ بَيْتَ أَبِي أَيُّوبَ، حَتَّى ابْتَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا بَرَكَتِ النَّاقَةُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْزِلْ عَنْهَا، حَتَّى وَثَبَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لَا

يُثْنِيهَا بِهِ، ثُمَّ الْتَفَتَتْ خَلْفَهَا، فَرَجَعَتْ إِلَى مَبْرَكِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَبَرَكَتْ فِيهِ، ثُمَّ تَحَلْحَلَتْ وَرَزَمَتْ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ رَحْلَهُ، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَ عَنِ الْمِرْبَدِ: " لِمَنْ هُوَ ؟ " فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ ابْنُ عَفْرَاءَ: هُوَ يَا رَسُولُ اللَّهِ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَهُمَا يَتِيمَانِ لِي، وَسَأُرْضِيهُمَا مِنْهُ، فَاتَّخِذْهُ مَسْجِدًا. فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَسَتَأْتِي قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ الدُّورِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْوَرْدِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ صِرْمَةَ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا دَخَلْنَا جَاءَ الْأَنْصَارُ بِرِجَالِهَا وَنِسَائِهَا، فَقَالُوا: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " دَعُوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ". فَبَرَكَتْ عَلَى بَابِ أَبِي أَيُّوبَ، فَخَرَجَتْ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَهُنَّ يَقُلْنَ:

نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَتُحِبُّونِي ؟ " فَقَالُوا: إِي وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكُمْ، وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكُمْ، وَأَنَا وَاللَّهِ أُحِبُّكُمْ ". هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَقَدْ خَرَّجَهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " كَمَا تَرَى.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّحَّاسُ الْمُقْرِئُ بِبَغْدَادَ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَلَبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ الْمِصِّيصِيُّ، ثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ ثُمَامَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَيٍّ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، وَإِذَا جَوَارٍ يَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ يَقُلْنَ:
نَحْنُ جَوَارٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يَا حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِنْ جَارِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ قَلْبِي يُحِبُّكُنَّ ". وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ بِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ

الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ - حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ عُرْسٍ - فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْثِلًا، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ، أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ ". قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، ثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَابٌّ لَا يُعْرَفُ. قَالَ: فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ، فَيَقُولُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْكَ ؟ فَيَقُولُ: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ. فَيَحْسَبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَهْدِيهِ الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ. فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا. فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ ". فَصَرَعَتْهُ فَرَسُهُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مُرْنِي بِمَا شِئْتَ. قَالَ: " قِفْ مَكَانَكَ، وَلَا تَتْرُكْنَ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا ". قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ. قَالَ: فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَانِبَ الْحَرَّةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْأَنْصَارِ، فَجَاءُوا فَسَلَّمُوا عَلَيْهِمَا، وَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَمَئِنَّيْنِ. فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَبُو بَكْرٍ وَحَفُّوا حَوْلَهُمَا بِالسِّلَاحِ، فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَشْرَفُوا نَبِيَّ اللَّهِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ. قَالَ: فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نَزَلَ إِلَى جَانِبِ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ. قَالَ: فَإِنَّهُ لَيُحَدِّثُ أَهْلَهُ إِذْ سَمِعَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهُوَ فِي نَخْلٍ لِأَهْلِهِ يَخْتَرِفُ لَهُمْ، فَعَجَّلَ أَنْ يَضَعَ الَّذِي يَخْتَرِفُ فِيهَا، فَجَاءَ وَهِيَ مَعَهُ، فَسَمِعَ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ: " أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ ؟ " فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي. قَالَ: " فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلًا ". فَذَهَبَ فَهَيَّأَ لَهُمَا مَقِيلًا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ هَيَّأَتُ لَكُمَا مَقِيلًا، قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَقِيلَا. فَلَمَّا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَلَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَاسْأَلْهُمْ. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَيْلَكُمُ اتَّقَوْا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنِّي جِئْتُ بِحَقٍّ، أَسْلِمُوا ". فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ. ثَلَاثًا وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ مُحَمَّدٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ السَّمَاعِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ، قَالَ:لَمَّا نَزَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فِي بَيْتِي نَزَلَ فِي السُّفْلِ، وَأَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، فَقُلْتُ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَكَ، وَتَكُونَ تَحْتِي، فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلْوِ، وَنَنْزِلُ نَحْنُ فَنَكُونُ فِي السُّفْلِ، فَقَالَ: " يَا أَبَا أَيُّوبَ، إِنَّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا أَنْ أَكُونَ فِي سُفْلِ الْبَيْتِ ". فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُفْلِهِ، وَكُنَّا فَوْقَهُ فِي الْمَسْكَنِ، فَلَقَدِ انْكَسَرَ حُبٌّ لَنَا فِيهِ مَاءٌ، فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ بِقَطِيفَةٍ لَنَا - مَا لَنَا لِحَافٌ غَيْرَهَا - نَنْشُفُ بِهَا الْمَاءَ; تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهُ، قَالَ: وَكُنَّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ ثُمَّ نَبْعَثُ إِلَيْهِ، فَإِذَا رَدَّ عَلَيْنَا فَضْلَةً، تَيَمَّمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ فَأَكَلْنَا مِنْهُ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ، حَتَّى بَعَثْنَا إِلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ، وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ فِيهِ بَصَلًا أَوْ ثُومًا، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أَرَ لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَزِعًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، رَدَدْتَ عَشَاءَكَ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِكَ ؟ فَقَالَ: " إِنِّي وَجَدْتُ فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجَى، فَأَمَّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ ". قَالَ: فَأَكَلْنَاهُ وَلَمْ نَصْنَعْ لَهُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ بَعْدُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ - أَوْ أَبِي الْخَيْرِ - مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ، عَنْ أَبِي رُهْمٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنِ اللَّيْثِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ،

ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ، ثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَيْهِ فَنَزَلَ فِي السُّفْلِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعُلْوِ، فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَتَهُ، فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي ذَلِكَ - فَقَالَ: " السُّفْلُ أَرْفَقُ بِنَا ". فَقَالَ: لَا أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُلْوِ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَإِذَا جِيءَ بِهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ، فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ. فَفَزِعَ وَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَحَرَامٌ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ ". قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ - أَوْ مَا كَرِهْتَ - قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى. يَعْنِي يَأْتِيهِ الْمَلَكُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ بِهِ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جِيءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِقِدْرٍ - فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ. قَالَ: فَسَأَلَ

فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الْبُقُولِ، فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا، قَالَ: " كُلْ، فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي ".
وَقَدْ رَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ - لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ - أَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ عِنْدَهُ.
وَرَوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ هَدِيَّةٍ أُهْدِيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ دَارَ أَبِي أَيُّوبَ أَنَا جِئْتُ بِهَا، قَصْعَةٌ فِيهَا خُبْزٌ مَثْرُودٌ بِلَبَنٍ وَسَمْنٍ، فَقُلْتُ: أَرْسَلَتْ بِهَذِهِ الْقَصْعَةِ أُمِّي. فَقَالَ: " بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ ". وَدَعَا أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا ثُمَّ جَاءَتْ قَصْعَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ثَرِيدٌ وَعِرَاقُ لَحْمٍ، وَمَا كَانَتْ مِنْ لَيْلَةٍ، إِلَّا وَعَلَى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ يَحْمِلُونَ الطَّعَامَ يَتَنَاوَبُونَ، وَكَانَ مُقَامُهُ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ نَازِلٌ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ - مَوْلَاهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ، وَمَعَهُمَا بَعِيرَانِ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِيَجِيئَا بِفَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجَتِهِ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَكَانَتْ رُقَيَّةُ قَدْ هَاجَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُثْمَانَ، وَزَيْنَبُ عِنْدَ زَوْجِهَا بِمَكَّةَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَجَاءَتْ مَعَهُمْ أُمُّ أَيْمَنَ امْرَأَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِعِيَالِ أَبِي بَكْرٍ، وَفِيهِمْ

عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ عَمْرٍو الْعُكْبَرِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، ثَنَا عَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا صِدِّيقُ بْنُ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَاسْتَنَاخَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ بَيْنَ دَارِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ دَارِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، فَأَتَاهُ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْمَنْزِلُ. فَانْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ: " دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ ". ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ حَتَّى جَاءَتْ مَوْضِعَ الْمِنْبَرِ، فَاسْتَنَاخَتْ ثُمَّ تَخَلَّلَتِ النَّاسَ، وَثَمَّ عَرِيشٌ كَانُوا يَرُشُّونَهُ وَيَعْمُرُونَهُ وَيَتَبَرَّدُونَ فِيهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَاحِلَتِهِ فِيهِ، فَآوَى إِلَى الظِّلِّ، فَأَتَاهُ أَبُو أَيُّوبَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ مَنْزِلِي أَقْرَبُ الْمَنَازِلِ إِلَيْكَ، فَانْقُلْ رَحْلَكَ إِلَيَّ. قَالَ: " نَعَمْ ". فَذَهَبَ بِرَحْلِهِ إِلَى الْمَنْزِلِ، ثُمَّ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَحِلُّ ؟ قَالَ: " إِنَّ الرَّجُلَ مَعَ رَحْلِهِ حَيْثُ كَانَ ". وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى بَنَى الْمَسْجِدَ وَهَذِهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَبِي أَيُّوبَ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ نَزَلَ فِي دَارِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ أَبُو أَيُّوبَ الْبَصْرَةَ - وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَائِبًا عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَخَرَجَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ دَارِهِ حَتَّى أَنْزَلَهُ فِيهَا، كَمَا أَنْزَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِهِ، وَمَلَّكَهُ كُلَّ مَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهَا، وَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ، أَعْطَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عِشْرِينَ الْفًا وَأَرْبَعِينَ عَبْدًا. وَقَدْ صَارَتْ دَارُ أَبِي أَيُّوبَ بَعْدَهُ إِلَى مَوْلَاهُ أَفْلَحَ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَصَلَّحَ مَا وَهَى مِنْ بُنْيَانِهَا، وَوَهَبَهَا لِأَهْلِ بَيْتٍ فُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَكَذَلِكَ نُزُولُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي دَارِ بَنِي النَّجَّارِ، وَاخْتِيَارُ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لَهُمْ، وَقَدْ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ دُورٌ كَثِيرَةٌ تَبْلُغُ تِسْعًا، كُلُّ دَارٍ مَحَلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِمَسَاكِنِهَا، وَنَخِيلِهَا، وَزُرُوعِهَا، وَأَهْلِهَا كُلُّ قَبِيلَةٍ مِنْ قَبَائِلِهِمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي مَحَلَّتِهِمْ، وَهِيَ كَالْقُرَى الْمُتَلَاصِقَةِ، فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ بَنُو النَّجَّارِ، ثُمَّ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ، ثُمَّ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ

الْخَزْرَجِ، ثُمَّ بَنُو سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ ". فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: مَا أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَدْ فَضَّلَ عَلَيْنَا. فَقِيلَ: قَدْ فَضَّلَكُمْ عَلَى كَثِيرٍ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً. زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ: فَقَالَ: أَبُو أُسَيْدٍ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ الْأَنْصَارَ فَجَعَلَنَا آخِرًا ؟ فَأَدْرَكَ سَعْدٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَيَّرْتَ دُورَ الْأَنْصَارِ فَجَعَلْتَنَا آخِرًا. قَالَ: " أَوَ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ ؟ ".
بَلْ قَدْ ثَبَتَ لِجَمِيعِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَهُمُ الْأَنْصَارُ - الشَّرَفُ وَالرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ التَّوْبَةِ: 100 ]

وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الْحَشْرِ: 9 ] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ ". وَقَالَ: " الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي " وَقَالَ: " أَنَا سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَهُمْ، وَحَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَهُمْ ".
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أُبْغَضَهُ اللَّهُ ". وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ ". وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِهِ.
وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ - الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، أَحَدُ شُعَرَاءِ الْأَنْصَارِ - فِي قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ وَنَصْرِهِمْ إِيَّاهُ، وَمُوَاسَاتِهِمْ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ أَيْضًا، يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمَّا أَتَانَا أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا
وَأَلْفَى صَدِيقًا وَاطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى وَكَانَ لَهُ عَوْنًا مِنَ اللَّهِ بَادِيَا

يَقُصُّ لَنَا مَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ وَمَا قَالَ مُوسَى إِذْ أَجَابَ الْمُنَادِيَا
فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ وَاحِدًا قَرِيبًا وَلَا يَخْشَى مِنَ النَّاسِ نَائِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلِّ مَالِنَا وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتَّآسِيَا
نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُوَاسِيَا
وَنَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَصْبَحَ هَادِيَا
أَقُولُ إِذَا صَلَّيْتُ فِي كُلِّ بِيعَةٍ حَنَانَيْكَ لَا تُظْهِرْ عَلَيْنَا الُأَعَادِيَا
أَقُولُ إِذَا جَاوَزْتُ أَرْضًا مُخِيفَةً تَبَارَكْتَ إِسْمَ اللَّهِ أَنْتَ الْمُوَالِيَا
فَطَأْ مُعْرِضًا إِنَّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ وَإِنَّكَ لَا تُبْقِي لِنَفْسِكَ بَاقِيَا
فَوَاللَّهِ مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ سَعْيُهُ إِذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ اللَّهَ وَاقِيَا
وَلَا تَحْفِلُ النَّخْلُ الْمُعِيمَةُ رَبَّهَا إِذَا أَصْبَحَتْ رِيًّا وَأَصْبَحَ ثَاوِيَا
ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: وَرَوَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدٍيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَجُوزٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،

قَالَتْ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَخْتَلِفُ إِلَى صِرْمَةَ بْنِ قَيْسٍ يَرْوِي هَذِهِ الْأَبْيَاتَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

فَصْلٌ
وَقَدْ شُرِّفَتِ الْمَدِينَةُ أَيْضًا بِهِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهَا، وَصَارَتْ كَهْفًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَمَعْقِلًا وَحِصْنًا مَنِيعًا لِلْمُسْلِمِينَ، وَدَارَ هُدًى لِلْعَالَمِينَ، وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا لَهَا مَوْضِعٌ آخَرُ نُورِدُهَا فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خُبَيْبِ بْنِ يِسَافٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ

سَمِعَ أَبَا الْحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ. وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ". وَقَدِ انْفَرَدَ الْإِمَامُ مَالِكٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِتَفْضِيلِهَا عَلَى مَكَّةَ.
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْوَلِيدِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَا: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، ثَنَا أَبُو مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ ". فَأَسْكَنَهُ اللَّهُ الْمَدِينَةَ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ، إِلَّا الْمَكَانَ الَّذِي ضَمَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا هَاهُنَا، وَمَحَلُّهَا فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ مِنَ " الْأَحْكَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَشْهَرُ دَلِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، ثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ فِي سُوقِ مَكَّةَ

يَقُولُ: " وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ". وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَاهُ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عِنْدِي أَصَحُّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ فَقَالَ: " عَلِمْتُ أَنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ". وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ بِهِ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ مَعْمَرٍ وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَهُوَ أَيْضًا وَهْمٌ، وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ

الْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا رَبَاحٌ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي سُوقِ الْحَزْوَرَةِ: " وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ الْأَرْضِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ ". وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ خُلَيْدٍ الْحَلَبِيِّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ بِهِ. فَهَذِهِ طُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَصَحُّهَا مَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ذِكْرُ مَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ
اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ - وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ - فِي الدَّوْلَةِ الْعُمَرِيَّةِ عَلَى جَعْلِ ابْتِدَاءِ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رُفِعَ إِلَيْهِ صَكٌّ، أَيْ حُجَّةٌ، لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي شَعْبَانَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ شَعْبَانَ ؟ أَشَعْبَانُ هَذِهِ السَّنَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا، أَوِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، أَوِ الْآتِيَةِ ؟ ثُمَّ جَمَعَ الصَّحَابَةَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي وَضْعِ تَأَرِيخٍ يَتَعَرَّفُونَ بِهِ حُلُولَ الدُّيُونِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَقَالَ قَائِلٌ: أَرِّخُوا كَتَارِيخِ الْفُرْسِ. فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْفُرْسُ يُؤَرِّخُونَ بِمُلُوكِهِمْ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ. وَقَالَ قَائِلٌ: أَرِّخُوا بِتَارِيخِ الرُّومِ. وَكَانُوا يُؤَرِّخُونَ بِمُلْكِ إِسْكَنْدَرَ بْنِ فِيلِيبُّسَ الْمَقْدُونِيِّ، فَكَرِهَ ذَلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: أَرِّخُوا بِمَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بِمَبْعَثِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بِهِجْرَتِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بِوَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَمَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى التَّأْرِيخِ بِالْهِجْرَةِ لِظُهُورِهِ وَاشْتِهَارِهِ وَاتَّفَقُوا مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": التَّارِيخُ وَمَتَى أَرَّخُوا التَّارِيخَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ، مَا عَدُّوا إِلَّا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: اسْتَشَارَ عُمَرُ فِي التَّأْرِيخِ فَأَجْمَعُوا عَلَى الْهِجْرَةِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: أَرِّخُوا. فَقَالَ: مَا أَرِّخُوا ؟ فَقَالَ: شَيْءٌ تَفْعَلُهُ الْأَعَاجِمُ يَكْتُبُونَ: فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: حَسَنٌ فَأَرِّخُوا. فَقَالُوا: مِنْ أَيِّ السِّنِينَ نَبْدَأُ ؟ فَقَالُوا: مِنْ مَبْعَثِهِ. وَقَالُوا: مِنْ وَفَاتِهِ. ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى الْهِجْرَةِ، ثُمَّ قَالُوا: وَأَيَّ الشُّهُورِ نَبْدَأُ ؟ فَقَالُوا: رَمَضَانَ. ثُمَّ قَالُوا: الْمُحَرَّمَ فَهُوَ مُنْصَرَفُ النَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ وَهُوَ شَهْرٌ حَرَامٌ. فَاجْتَمَعُوا عَلَى الْمُحَرَّمِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الطَّاحِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مِحْصَنٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي

قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [ الْفَجْرِ: 2، 1 ]. هُوَ الْمُحَرَّمُ فَجْرُ السَّنَةِ. وَرَوَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: إِنَّ الْمُحَرَّمَ شَهْرُ اللَّهِ، وَهُوَ رَأْسُ السَّنَةِ، يُكْسَى بِهِ الْبَيْتُ، وَيُؤَرِّخُ بِهِ النَّاسُ، وَيُضْرَبُ فِيهِ الْوَرِقُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَرَّخَ الْكُتُبَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ بِالْيَمَنِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَإِنَّ النَّاسَ أَرَّخُوا لِأَوَّلِ السَّنَةِ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: أَرَّخَ بَنُو إِسْمَاعِيلَ مِنْ نَارِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنْ بُنْيَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنْ مَوْتِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، ثُمَّ أَرَّخُوا مِنَ الْفِيلِ، ثُمَّ أَرَّخَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ مُحَرَّرًا بِأَسَانِيدِهِ وَطُرُقِهِ فِي " السِّيرَةِ الْعُمَرِيَّةِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، وَجَعَلُوا أَوَّلَهَا مِنَ الْمُحَرَّمِ، فِيمَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ.
وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: أَوَّلُ السَّنَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ

رَبِيعٌ الْأَوَّلُ; لِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي هَاجَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ السُّهَيْلِيُّ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ [ التَّوْبَةِ: 108 ] أَيْ; مِنْ أَوَّلِ يَوْمِ حُلُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُوَ أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ التَّارِيخِ، كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَوَّلِ سِنِيِّ التَّارِيخِ عَامَ الْهِجْرَةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مُنَاسِبٌ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ شُهُورِ الْعَرَبِ الْمُحَرَّمُ، فَجَعَلُوا السَّنَةَ الْأُولَى سَنَةَ الْهِجْرَةِ، وَجَعَلُوا أَوَّلَهَا الْمُحَرَّمَ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ; لِئَلَّا يَخْتَلِطَ النِّظَامُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ: اسْتَهَلَّتْ سَنَةُ الْهِجْرَةِ الْمُبَارَكَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ بِمَكَّةَ، وَقَدْ بَايَعَ الْأَنْصَارَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةَ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ لَيْلَةُ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ سَنَةِ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ رَجَعَ الْأَنْصَارُ، وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مَنْ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِيَصْحَبَهُ فِي الطَّرِيقِ، كَمَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ خَرَجَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَسْطُهُ، وَتَأَخَّرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ; لِيُؤَدِّيَ مَا كَانَ عِنْدَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ

الْوَدَائِعِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ بِقُبَاءَ، فَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ قَرِيبًا مِنَ الزَّوَالِ وَقَدِ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَحَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ، وَرَجَّحَ أَنَّهُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ.
وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ إِقَامَتِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْبِعْثَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَتَبَ أَبِيَّاتَ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسِ بْنِ قَيْسٍ

ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ صِرْمَةَ:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجَّةً يُذَكِّرُ لُوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ: خَمْسَ عَشْرَةَ حِجَّةً. وَهُوَ قَوْلٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، حُدِّثْتُ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ سِنِينَ بِمَكَّةَ وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: عَشْرًا بِمَكَّةَ، وَعَشْرًا بِالْمَدِينَةِ. وَهَذَا الْقَوْلُ الْآخَرُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَعَائِشَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمْ. وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; رَوَاهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ فَمَكَثَ بِمَكَّةَ عَشْرًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قُرِنَ إِسْرَافِيلُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سِنِينَ، يُلْقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَةَ وَالشَّيْءَ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَسْمَعُ حِسَّهُ وَلَا

يَرَى شَخْصَهُ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ. وَقَدْ حَكَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ قَوْلَ الشَّعْبِيِّ هَذَا. وَحَاوَلَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرًا. وَقَوْلِ مَنْ قَالَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ. بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
وَلَمَّا حَلَّ الرِّكَابُ النَّبَوِيُّ بِالْمَدِينَةِ، كَانَ أَوَّلُ نُزُولِهِ بِهَا فِي دَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِيَ قُبَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَقَامَ بِهَا، أَكْثَرَ مَا قِيلَ، ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً. وَقِيلَ: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَقِيلَ: بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ. وَالْأَشْهَرُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَامَ فِيهِمْ بِقُبَاءَ مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَقَدْ أَسَّسَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِي مِقْدَارِهَا - عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ - مَسْجِدَ قُبَاءَ. وَقَدِ ادَّعَى السُّهَيْلِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسَّسَهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ قَدِمَ إِلَى قُبَاءَ، وَحَمَلَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى:

لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ وَرَدَّ قَوْلَ مَنْ أَعْرَبَهَا: مِنْ تَأْسِيسِ أَوَّلِ يَوْمٍ. وَهُوَ مَسْجِدٌ شَرِيفٌ فَاضِلٌ نَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [ التَّوْبَةِ: 108 ] كَمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى تَقْرِيرِ ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنَّهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَالْجَوَابَ عَنْهُ.
وَذَكَرْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، ثَنَا شُرَحْبِيلُ، عَنْ عُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمُ الثَّنَاءَ فِي الطُّهُورِ فِي قِصَّةِ مَسْجِدِكُمْ، فَمَا هَذَا الطَّهُورُ الَّذِي تَطَّهَّرُونَ بِهِ ؟ " قَالُوا: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَعْلَمُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَنَا جِيرَانٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَكَانُوا يَغْسِلُونَ أَدْبَارَهُمْ مِنَ الْغَائِطِ، فَغَسَلْنَا كَمَا غَسَلُوا. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي " صَحِيحِهِ " وَلَهُ شَوَاهِدُ أُخَرُ. وَرُوِيَ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، ومُحَمَّدِ بْنِ

عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ إِبُرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ قَالَ: كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قُلْتُ: وَيُونُسُ بْنُ الْحَارِثِ هَذَا ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى; مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَرَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهُ فِيمَا بَعْدُ وَيُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ يَأْتِي قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ، تَارَةً رَاكِبًا وَتَارَةً مَاشِيًا. وَفِي الْحَدِيثِ " صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ " أَنَّ

جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ الَّذِي أَشَارَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَوْضِعِ قِبْلَةِ مَسْجِدِ قُبَاءَ. فَكَانَ هَذَا الْمَسْجِدُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، بَلْ أَوَّلَ مَسْجِدٍ جُعِلَ لِعُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ. وَاحْتَرَزْنَا بِهَذَا عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بَنَاهُ الصِّدِّيقُ بِمَكَّةَ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ، يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيُصَلِّي; لِأَنَّ ذَاكَ كَانَ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ عَامَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُ سَلْمَانَ فِي الْبِشَارَاتِأَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ لَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ مَعَهُ شَيْئًا، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ بِقُبَاءَ، قَالَ: هَذَا صَدَقَةٌ. فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْكُلْهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مِنْهُ، ثُمَّ جَاءَ مَرَّةً أُخْرَى وَمَعَهُ شَيْءٌ، فَوَضَعَهُ وَقَالَ: هَذِهِ هَدِيَّةٌ. فَأَكَلَ مِنْهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِطُولِهِ.

فَصْلٌ فِي إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا عَوْفٌ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٍ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى بِهِ عَنْهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: صَحِيحٌ. وَمُقْتَضَى هَذَا السِّيَاقِ يَقْتَضِي أَنَّهُ سَمِعَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ أَوَّلَ قُدُومِهِ حِينَ أَنَاخَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَتَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ حِينَ أَنَاخَ عِنْدَ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، بَعْدَ ارْتِحَالِهِ مَنْ قُبَاءَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ. كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَعَلَّهُ رَآهُ أَوَّلَ مَا رَآهُ بِقُبَاءَ، وَاجْتَمَعَ بِهِ بَعْدَمَا صَارَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي سِيَاقِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّكَ جِئْتَ بِحَقٍّ، وَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وَأَعْلَمُهُمْ وَابْنُ أَعْلَمِهِمْ، فَادْعُهُمْ فَسَلْهُمْ عَنِّي قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ قَالُوا فِيَّ مَا لَيْسَ فِيَّ. فَأَرْسَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: " يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَيْلَكُمْ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونِ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، وَأَنِّي جِئْتُكُمْ بِحَقٍّ فَأَسْلِمُوا ". قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ. قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ. قَالَ: " فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ ؟ ". قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا. قَالَ: " أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ ؟ ". قَالُوا: حَاشَ لِلَّهِ، مَا كَانَ لِيُسْلِمَ. قَالَ: " يَا ابْنَ سَلَامٍ، اخْرُجْ عَلَيْهِمْ ". فَخَرَجَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، اتَّقُوا اللَّهَ فَوَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ. فَقَالُوا: كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لَفْظُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ -: فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ

بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، ثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ; مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدَ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ ؟ قَالَ: " أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا ". قَالَ: جِبْرِيلُ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 97 ] قَالَ: " أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتِ الْوَلَدَ ". قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي بَهَتُونِي. فَجَاءَتِ الْيَهُودُ فَقَالَ: " أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ ؟ " قَالُوا: خَيْرُنَا

وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ ؟ " قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. قَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا وَانْتَقَصُوهُ. قَالَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ بِهِ، وَرَوَاهُ عَنْ حَامِدِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ أَسْلَمَ، وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا، قَالَ: لَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَرَفْتُ صِفَتَهُ وَاسْمَهُ وَهَيْئَتَهُ، وَالَّذِي كُنَّا نَتَوَكَّفُ لَهُ فَكُنْتُ مُسِرًّا لِذَلِكَ صَامِتًا عَلَيْهِ، حَتَّى قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمَّا قَدِمَ نَزَلَ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ حَتَّى أَخْبَرَ بِقُدُومِهِ، وَأَنَا فِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِي أَعْمَلُ فِيهَا، وَعَمَّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ تَحْتِي جَالِسَةٌ، فَلَمَّا سَمِعْتُ الْخَبَرَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرْتُ، فَقَالَتْ عَمَّتِي حِينَ سَمِعَتْ تَكْبِيرِي: لَوْ كُنْتَ

سَمِعْتَ بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مَا زِدْتَ! قَالَ: قُلْتُ لَهَا: أَيْ عَمَّةُ، هُوَ وَاللَّهِ أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَعَلَى دِينِهِ بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ. قَالَ: فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، أَهْوَ الَّذِي كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُ يُبْعَثُ مَعَ نَفْسِ السَّاعَةِ ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهَا: نَعَمْ. قَالَتْ: فَذَاكَ إِذًا. قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِ بَيْتِي، فَأَمَرْتُهُمْ فَأَسْلَمُوا، وَكَتَمْتُ إِسْلَامِي مِنَ الْيَهُودِ، وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُدْخِلَنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِكَ، فَتُغَيِّبَنِي عَنْهُمْ، ثُمَّ تَسْأَلَهُمْ عَنِّي، فَيُخْبِرُوكَ كَيْفَ أَنَا فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ، بَهَتُونِي وَعَابُونِي وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. قَالَ: فَأَظْهَرْتُ إِسْلَامِي وَإِسْلَامَ أَهْلِ بَيْتِي، وَأَسْلَمَتْ عَمَّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ أَبِي وَعَمِّي أَحَبَّ إِلَيْهِمَا مِنِّي، لَمْ أَلْقَهُمَا فِي وَلَدٍ لَهُمَا قَطُّ أَهِشُّ إِلَيْهِمَا إِلَّا أَخَذَانِي دُونَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَاءَ - قَرْيَةَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - غَدَا إِلَيْهِ أَبِي وَعَمِّي أَبُو يَاسِرِ بْنِ أَخْطَبَ مُغَلِّسَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا جَاءَانَا إِلَّا مَعَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، فَجَاءَانَا فَاتِرَيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهُوَيْنَى، فَهَشِشْتُ إِلَيْهِمَا كَمَا كُنْتُ أَصْنَعُ، فَوَاللَّهِ مَا نَظَرَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَسَمِعْتُ عَمِّي أَبَا يَاسِرٍ يَقُولُ لِأَبِي: أَهْوَ هُوَ ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ. قَالَ تَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ وَصِفَتِهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ. قَالَ:

فَمَاذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُ ؟ قَالَ: عَدَاوَتُهُ وَاللَّهِ مَا بَقِيتُ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ أَبَا يَاسِرِ بْنَ أَخْطَبَ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ مِنْهُ، وَحَادَثَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أَطِيعُونِي; فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَاءَكُمْ بِالَّذِي كُنْتُمْ تَنْتَظِرُونَ، فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تُخَالِفُوهُ. فَانْطَلَقَ أَخُوهُ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْيَهُودِ، وَهُمَا مِنْ بَنِي النَّضِيرِ - فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ مِنْهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا، فَقَالَ: أَتَيْتُ مِنْ عِنْدِ رَجُلٍ وَاللَّهِ لَا أَزَالُ لَهُ عَدُوًّا أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو يَاسِرٍ: يَا ابْنَ أُمِّ، أَطِعْنِي فِي هَذَا الْأَمْرِ وَاعْصِنِي فِيمَا شِئْتَ بَعْدَهُ، لَا تَهْلِكْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُطِيعُكَ أَبَدًا. وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ وَاتَّبَعَهُ قَوْمُهُ عَلَى رَأْيِهِ.
قُلْتُ: أَمَّا أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ فَلَا أَدْرِي مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ، وَأَمَّا حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَالِدُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، فَشَرِبَ عَدَاوَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى قُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قَتَلَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَصْلٌ
وَلَمَّا ارْتَحَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قُبَاءَ وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ الْقَصْوَاءَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَدْرَكَهُ وَقْتُ الزَّوَالِ وَهُوَ فِي دَارِ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَصَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ هُنَالِكَ، فِي وَادٍ يُقَالُ لَهُ: وَادِي رَانُونَاءَ، فَكَانَتْ أَوَّلَ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ مُطْلَقًا; لِأَنَّهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لَمْ يَكُنْ يَتَمَكَّنُ هُوَ وَأَصْحَابَهُ بِمَكَّةَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ حَتَّى يُقِيمُوا بِهَا جُمُعَةً ذَاتَ خُطْبَةٍ وَإِعِلَانٍ بِمَوْعِظَةٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِشَدَّةِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ لَهُ، وَأَذِيَّتِهِمْ إِيَّاهُ.

ذِكْرُ خُطْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ، أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ صَلَّاهَا بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ، وَأَسْتَعِينُهُ، وَأَسْتَغْفِرُهُ وَأَسْتَهْدِيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَلَا أَكْفُرُهُ، وَأُعَادِي مَنْ يَكْفُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ

وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى، وَالنُّورِ، وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَضَلَالَةٍ مِنَ النَّاسِ، وَانْقِطَاعٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَدُنُوٍّ مِنَ السَّاعَةِ، وَقُرْبٍ مِنَ الْأَجَلِ، مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى وَفَرَّطَ، وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ خَيْرُ مَا أَوْصَى بِهِ الْمُسْلِمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَحُضَّهُ عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَأْمُرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَاحْذَرُوا مَا حَذَّرَكُمُ اللَّهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ نَصِيحَةً، وَلَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرَى، وَإِنَّهُ تَقْوَى لِمَنْ عَمِلَ بِهِ عَلَى وَجِلٍ وَمَخَافَةٍ، وَعَوْنُ صِدْقٍ مَا تَبْتَغُونَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ يُصْلِحِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أَمْرِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، لَا يَنْوِي بِذَلِكَ إِلَّا وَجْهَ اللَّهِ، يَكُنْ لَهُ ذِكْرًا فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ، وَذُخْرًا فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، حِينَ يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ إِلَى مَا قَدَّمَ، وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ، يَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُؤُفٌ بِالْعِبَادِ. وَالَّذِي صَدَقَ قَوْلُهُ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ، لَا خُلْفَ لِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ تَعَالَى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي عَاجِلِ أَمْرِكُمْ وَآجِلِهِ، فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا، وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُوقِّي مَقْتَهُ، وَتُوقِّي عُقُوبَتَهُ، وَتُوقِّي سَخَطَهُ، وَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُبَيِّضُ الْوَجْهَ، وَتُرْضِي الرَّبَّ، وَتَرْفَعُ الدَّرَجَةَ، خُذُوا بِحَظِّكُمْ، وَلَا تُفَرِّطُوا فِي جَنْبِ اللَّهِ، قَدْ عَلَّمَكُمُ اللَّهُ كِتَابَهُ، وَنَهَجَ لَكُمْ سَبِيلَهُ; لِيَعْلَمَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلِيَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ، فَأَحْسِنُوا كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ،

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَأَكْثِرُوا ذِكْرَ اللَّهِ وَاعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، يَكْفِهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْضِي عَلَى النَّاسِ وَلَا يَقْضُونَ عَلَيْهِ، وَيَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ". هَكَذَا أَوْرَدَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي السَّنَدِ إِرْسَالٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَابٌ: أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: كَانَتْ أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، أَنْ قَامَ فِيهَا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَعْلَمُنَّ وَاللَّهِ لَيُصْعَقَنَّ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لَيَدَعَنَّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ، ثُمَّ لَيَقُولَنَّ لَهُ رَبُّهُ - لَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ -: أَلَمْ يَأْتِكَ رَسُولِي فَبَلَّغَكَ، وَآتَيْتُكَ مَالًا، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكَ، فَمَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ ؟ فَيَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَنْظُرُ قُدَّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنَّمَ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ

يَقِيَ وَجْهَهُ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فَإِنَّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَاَلِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: " إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيَّنَهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ، وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النَّاسِ، إِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ، أَحِبُّوا مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ، أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَلَا تَمَلُّوا كَلَامَ اللَّهِ وَذِكْرَهُ، وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلٍّ يَخْتَارُ اللَّهُ وَيَصْطَفِي، فَقَدْ سَمَّاهُ خِيَرَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَخِيَرَتَهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَالصَّالِحَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كُلِّ مَا أُوتِيَ النَّاسُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتَّقُوهُ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَاصْدُقُوا اللَّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ، وَتَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ بَيْنَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَيْضًا مُرْسَلَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا مُقَوِّيَةً لِمَا قَبْلَهَا، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ.

فَصْلٌ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِدَارِ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ بِهَا; فَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَبْعَةُ أَشْهُرٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْتَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حُمَيْدٍ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، نَزَلَ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي سُيُوفِهِمْ. قَالَ: وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفَنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ. قَالَ: فَكَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ

الْغَنَمِ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَلَأِ بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا، فَقَالَ: " يَا بَنِي النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا ". فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ، كَانَتْ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ فِيهِ خِرَبٌ، وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ. قَالَ: فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ حِجَارَةً. قَالَ: فَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ يَقُولُ:
" اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ "
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الصَّمَدِ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ مِرْبَدًا - وَهُوَ بَيْدَرُ التَّمْرِ - لِيَتِيمَيْنِ كَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ، فَسَاوَمَهُمَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَبَى حَتَّى ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا وَبَنَاهُ مَسْجِدًا. قَالَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ التُّرَابَ، يَقُولُ:

" هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالَ خَيْبَرْ هَذَا أَبَرُّ رُبَّنَا وَأَطْهَرْ "
وَيَقُولُ:
" اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ فَارْحَمِ الْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ "
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ عَوَّضَهُمَا مِنْهُ نَخْلًا لَهُ فِي بَنِي بَيَاضَةَ، قَالَ: وَقِيلَ: ابْتَاعَهُ مِنْهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أَنَّ الْمِرْبَدَ كَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ مُعَاذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا عَمْرٍو. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الضَّبِّيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، أَعَانَهُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَعَهُمْ يَتَنَاوَلُ اللَّبِنَ، حَتَّى اغْبَرَّ صَدْرُهُ فَقَالَ: " ابْنُوهُ عَرِيشًا كَعَرِيشِ مُوسَى ". فَقُلْتُ لِلْحَسَنِ: مَا عَرِيشُ مُوسَى ؟ قَالَ: " إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ بَلَغَ الْعَرِيشَ ". يَعْنِي السَّقْفَ. وَهَذَا مُرْسَلٌ.
وَرَوَى مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادِ

بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُبَادَةَ،أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا مَالًا، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنِ هَذَا الْمَسْجِدَ وَزَيِّنْهُ، إِلَى مَتَى نُصَلِّي تَحْتَ هَذَا الْجَرِيدِ ؟ فَقَالَ: " مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ أَخِي مُوسَى، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى ". وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ سَوَارِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، أَعْلَاهُ مُظَلَّلٌ بِجَرِيدِ النَّخْلِ، ثُمَّ إِنَّهَا نَخِرَتْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَبَنَاهَا بِجُذُوعِ وَبِجَرِيدِ النَّخْلِ، ثُمَّ إِنَّهَا نَخَرَتْ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَبَنَاهَا بِالْآجُرِّ، فَمَا زَالَتْ ثَابِتَةً حَتَّى الْآنَ وَهَذَا غَرِيبٌ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، ثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بِنَائِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، وَغَيَّرَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

وَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بِهِ.
قُلْتُ: زَادَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ". وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ الْمَوْجُودُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ بَعْدَهُ، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الزِّيَادَةِ حُكْمُ الْمَزِيدِ، فَتَدْخُلُ الزِّيَادَةُ فِي حُكْمِ سَائِرِ الْمَسْجِدِ مِنْ تَضْعِيفِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهِ، وَقَدْ زِيدَ فِي زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ، زَادَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأَدْخَلَ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي وَقْتِهِ، ثُمَّ زِيدَ زِيَادَةً كَثِيرَةً فِيمَا بَعْدُ، وَزِيدَ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، حَتَّى صَارَتِ الرَّوْضَةُ وَالْمِنْبَرُ بَعْدَ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهِدُ الْيَوْمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ، حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِيُرَغِّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ، فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، وَدَأَبُوا فِيهِ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ:

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ
وَارْتَجَزَ الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ يَبْنُونَهُ يَقُولُونَ:
لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشَ الْآخِرَهْ اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ ". قَالَ فَيَدْخُلُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَقَدْ أَثْقَلُوهُ بِاللَّبِنِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَتَلُونِي، يَحْمِلُونَ عَلَيَّ مَا لَا يَحْمِلُونَ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْفُضُ وَفْرَتَهُ بِيَدِهِ، وَكَانَ رَجُلًا جَعْدًا، وَهُوَ يَقُولُ: " وَيْحَ ابْنِ سُمَيَّةَ، لَيْسُوا بِالَّذِينِ يَقْتُلُونَكَ، إِنَّمَا تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ". وَهَذَا مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ مُعْضَلٌ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَبَيْنَ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ وَصَلَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ يَعْنِي ابْنَيْ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ أُمِّهِمَا خَيْرَةَ، مَوَلَاةِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارٍ وَهُوَ يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ: " وَيْحٌ لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ

سَلَمَةَ، قَالَتْ:لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَبْنُونَ الْمَسْجِدَ، جَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ كُلٌّ وَاحِدٍ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ; لَبِنَةً عَنْهُ، وَلَبِنَةً عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَسَحَ ظَهْرَهُ، وَقَالَ: " ابْنَ سُمَيَّةَ، لِلنَّاسِ أَجْرٌ، وَلَكَ أَجْرَانِ، وَآخِرُ زَادِكَ شَرْبَةٌ مِنْ لَبَنٍ، وَتَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: " وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ ". قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ. لَكِنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ جَعَلَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، جَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، وَيَقُولُ: " بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُهُ فِئَةٌ بَاغِيَةٌ ".
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: " بُؤْسًا لَكَ يَا ابْنَ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَفَرَ الْخَنْدَقَ، كَانَ النَّاسُ يَحْمِلُونَ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ نَاقِهٌ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، فَجَعَلَ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْ رَأْسِهِ، وَيَقُولُ: " وَيْحَكَ ابْنَ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ". قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا سَمِعَهُ بِنَفْسِهِ، وَمَا سَمِعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ:

وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الْخَنْدَقَ. وَهْمًا أَوْ أَنَّهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَفِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: حَمْلُ اللَّبِنِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى النَّاقِلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ حَيْثُ أَخْبَرَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَقَدْ قَتَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ فِي وَقْعَةِ صِفِّينَ، وَعَمَّارٌ مَعَ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِالْأَمْرِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسْمِيَةِ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ بُغَاةً تَكْفِيرُهُمْ، كَمَا يُحَاوِلُهُ جَهَلَةُ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ; لِأَنَّهُمْ، وَإِنْ كَانُوا بُغَاةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ فِيمَا تَعَاطَوْهُ مِنَ الْقِتَالِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، بَلِ الْمُصِيبُ لَهُ أَجْرَانِ، وَالْمُخْطِئُ لَهُ أَجْرٌ، وَمَنْ زَادَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ": لَا أَنَالَهَا اللَّهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَدِ افْتَرَى فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْهَا إِذْ لَمْ تُنْقَلْ مِنْ طَرِيقٍ تُقْبَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: " يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ " فَإِنَّ عَمَّارًا وَأَصْحَابَهُ يَدْعُونَ أَهْلَ الشَّامِ إِلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَأْثِرُوا بِالْأَمْرِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَوْزَاعًا عَلَى كُلِّ قُطْرٍ إِمَامٌ بِرَأْسِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ لَازِمُ مَذْهَبِهِمْ وَنَاشِئٌ عَنْ مَسْلَكِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْصِدُونَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَى وَقْعَةِ صِفِّينَ مِنْ كِتَابِنَا

هَذَا، بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَحُسْنِ تَأْيِيدِهِ وَتَوْفِيقِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، عَلَى بَانِيهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ إِمْلَاءً، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ، ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا حَشْرَجُ بْنُ نُبَاتَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ بِحَجَرٍ فَوَضَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَؤُلَاءِ وُلَاةُ الْأَمْرِ بَعْدِي ".
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيِّ، عَنْ حَشْرَجٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: لَمَّا بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ، وَضَعَ حَجَرًا، ثُمَّ قَالَ: لِيَضَعْ أَبُو بَكْرٍ حَجَرًا إِلَى جَنْبِ حَجَرِي، ثُمَّ لْيَضَعْ عُمَرُ حَجَرَهُ إِلَى جَنْبِ حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ لْيَضَعْ عُثْمَانُ حَجَرَهُ إِلَى جَنْبِ حَجَرِ عُمَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِي ". وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا السِّيَاقِ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَالْمَعْرُوفُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ حَشْرَجِ بْنِ نُبَاتَةَ

الْعَبْسِيِّ، وَعَنْ بَهْزٍ وَزَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ وَعَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ الْمُلْكُ ". ثُمَّ قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ، خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ، وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ. هَذَا لَفْظُ أَحْمَدَ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَلَفَظُهُ: " الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا ". وَذَكَرَ بَقِيَّتَهُ.
قُلْتُ: وَلَمْ يَكُنْ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا بُنِيَ مِنْبَرٌ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى جِذْعٍ عِنْدَ مُصَلَّاهُ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ، فَلَمَّا اتُّخِذَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمِنْبَرُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَدَلَ إِلَيْهِ لِيَخْطُبَ عَلَيْهِ، وَجَاوَزَ ذَلِكَ الْجِذْعَ، خَارَ ذَلِكَ الْجِذْعُ وَحَنَّ حَنِينَ النُّوقِ الْعِشَارِ; لِمَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْ خُطَبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْتَضَنَهُ حَتَّى سَكَنَ، كَمَا يَسْكُنُ الْمَوْلُودُ الَّذِي يَسْكُتُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ

السَّاعِدِيِّ، وَجَابِرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بَعْدَمَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، الْخَشَبَةُ تَحِنُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَوْقًا إِلَيْهِ، أَوَ لَيْسَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَرْجُونَ لِقَاءَهُ أَحَقَّ أَنْ يَشْتَاقُوا إِلَيْهِ؟!

تَنْبِيهٌ عَلَى فَضْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ وَالْمَحَلِّ الْمُنِيفِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى. فَقَالَ الْخِدْرِي: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْعَمْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " هُوَ هَذَا الْمَسْجِدُ ". لِمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ ". يَعْنِي مَسْجِدَ قُبَاءَ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أُنَيْسِ بْنِ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيِّ بِهِ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ،

، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ جَمِيعًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ؟ قَالَ: قَالَ أَبِي: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصْبَاءَ، فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: " هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: اخْتَلَفَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ. فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَاهُ، فَقَالَ: " هُوَ مَسْجِدِي هَذَا ".

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا ".
فَهَذِهِ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَعَلَّهَا تَقْرُبُ مِنْ إِفَادَةِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مَسْجِدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُمَرُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ - كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ - وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ; لِأَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَوْلَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ التِي تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَيْهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ; مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ". وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " لَا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ ". وَذَكَرَهَا. وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ

مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ". وَفِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ " بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ زِيَادَةٌ حَسَنَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ: فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ ".
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ خُبَيْبٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي ". وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضَائِلِ هَذَا الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَسَنُورِدُهَا فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ مِنْ كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ ذَاكَ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ، وَهَذَا بَنَاهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَرَّرُوا أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ; لِأَنَّهُ فِي بَلَدٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَحَرَّمَهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ، وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.

فَصْلٌ
وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَوْلَ مَسْجِدِهِ الشَّرِيفِ حُجَرٌ; لِتَكُونَ مَسَاكِنَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ، وَكَانَتْ مَسَاكِنَ قَصِيرَةَ الْبِنَاءِ، قَرِيبَةَ الْفِنَاءِ، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ - وَكَانَ غُلَامًا مَعَ أُمِّهِ خَيْرَةَ مُوْلَاةِ أُمِّ سَلَمَةَ -: لَقَدْ كُنْتُ أَنَالُ أَطْوَلَ سَقْفٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي. قُلْتُ: إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ شَكِلًا ضَخْمًا طُوَالًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي " الرَّوْضِ ": كَانَتْ مَسَاكِنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَبْنِيَّةً مِنْ جَرِيدٍ عَلَيْهِ طِينٌ، بَعْضُهَا مِنْ حِجَارَةٍ مَرْضُومَةٍ، وَسُقُوفُهَا كُلُّهَا مِنْ جَرِيدٍ. وَقَدْ حَكَى عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَا تَقَدَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ حُجَرُهُ مِنْ شَعَرٍ مَرْبُوطَةً بِخَشَبٍ مِنْ عَرْعَرٍ. قَالَ: وَفِي " تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّ بَابَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقْرَعُ بِالْأَظَافِيرِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ

لِأَبْوَابِهِ حَلَقٌ. قَالَ: وَقَدْ أُضِيفَتِ الْحُجَرُ كُلُّهَا بَعْدَ مَوْتِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا: وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ الدَّيْلِيُّ إِلَى مَكَّةَ، بَعَثَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ مَوْلَيَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِيَأْتُوا بِأَهَالِيهِمْ مِنْ مَكَّةَ، وَبَعَثَا مَعَهُمْ بِحِمْلَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ; لِيَشْتَرُوا بِهَا إِبِلًا مِنْ قُدَيْدٍ. فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِبِنْتَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَأُمِّ كُلْثُومَ، وَزَوْجَتَيْهِ سَوْدَةَ وَعَائِشَةَ، وَأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ، وَأَهْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآلِ أَبِي بَكْرٍ، صُحْبَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ شَرَدَ بِعَائِشَةَ وَأُمِّهَا أُمِّ رُومَانَ الْجَمَلُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَجَعَلَتْ أُمُّ رُومَانَ تَقُولُ: وَاعَرُوسَاهُ وَابِنْتَاهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَرْسِلِي خِطَامَهُ. فَأَرْسَلْتُ خِطَامَهُ، فَوَقَفَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَسَلَّمَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَتَقَدَّمُوا، فَنَزَلُوا بِالسَّنْحِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا سَيَأْتِي، وَقَدِمَتْ مَعَهُمْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ امْرَأَةُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمٌّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ.

فَصْلٌ فِيمَا أَصَابَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ حُمَّى الْمَدِينَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ سَلِمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، وَدَعَا اللَّهَ فَأَزَاحَهَا عَنِالْمَدِينَةِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ. قَالَتْ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمَا فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ وَيَا بِلَالُ كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ قَالَتْ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَقْلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ، وَيَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارَكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُبَيْدَةَ عَنْ هِشَامٍ مُخْتَصَرًا.
وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ لَهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَهُ. وَزَادَ بَعْدَ شِعْرِ بِلَالٍ، ثُمَّ يَقُولُ:اللَّهُمَّ الْعَنْ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا، وَفِي مُدِّهَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ ". وَقَدِمْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، وَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا. يَعْنِي مَاءً آجِنًا.
وَقَالَ زِيَادٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الْمَدِينَةَ، قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، مِنَ الْحُمَّى، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَتْ: فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَبِلَالٌ; مَوْلَيَا أَبَى بَكْرٍ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، فَأَصَابَتْهُمُ الْحُمَّى، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَعُودُهُمْ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ، وَبِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ شِدَّةِ الْوَعْكِ، فَدَنَوْتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا أَبَهْ ؟ فَقَالَ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا يَدْرِي أَبَى مَا يَقُولُ. قَالَتْ: ثُمَّ دَنَوْتُ إِلَى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ يَا عَامِرُ ؟ قَالَ:
لَقَدْ وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
كُلُّ امْرِئٍ مُجَاهِدٌ بِطَوْقِهِ كَالثَّوْرِ يَحْمِي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ
قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا يَدْرِي عَامِرٌ مَا يَقُولُ. قَالَتْ: وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أَدْرَكَتْهُ الْحُمَّى اضْطَجَعَ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ، ثُمَّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِفَخٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ، وَقُلْتُ: إِنَّهُمْ لَيَهْذُونَ، وَمَا يَعْقِلُونَ مِنْ شِدَّةِ الْحُمَّى. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَبَارَكْ لَنَا فِي مُدِّهَا، وَصَاعِهَا، وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إِلَى مَهْيَعَةَ ". وَمَهْيَعَةُ هِيَ الْجُحْفَةُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، ثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ اشْتَكَى أَصْحَابُهُ، وَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، وَبِلَالٌ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيَادَتِهِمْ، فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تَجِدُكَ فَقَالَ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصَبِّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَسَأَلْتُ عَامِرًا فَقَالَ:
إِنِّي وَجَدْتُ الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ إِنَّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
وَسَأَلَتْ بِلَالًا فَقَالَ:
يَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِفَخٍّ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا، وَفِي مُدِّهَا، وَانْقُلْ وَبَاءَهَا إِلَى مَهْيَعَةَ ". وَهِيَ الْجُحْفَةُ فِيمَا زَعَمُوا. وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بِهِ. وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْهَا مِثْلَهُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قَالَا: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ، وَوَادِيهَا بُطْحَانُ نَجْلٌ. قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ وَبَاؤُهَا مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ إِذَا كَانَ الْوَادِي وَبِيئًا، فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، قِيلَ لَهُ أَنْ يَنْهَقَ نَهِيقَ الْحِمَارِ; فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَبَاءُ ذَلِكَ الْوَادِي، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ:
لَعَمْرِي لَئِنْ عَشَّرْتُ مِنْ خِيفَةِ الرَّدَى نَهِيقَ الْحِمَارِ إِنَّنِي لَجَزُوعُ

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَأَيْتُ كَأَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةَ - وَهِيَ الْجُحْفَةُ - فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَيْهَا:. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ.
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ إِلَى قَوْلِهِ: " وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ ". قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ الْمَوْلُودُ يُولَدُ بِالْجُحْفَةِ، فَلَا يَبْلُغُ الْحُلُمَ حَتَّى تَصْرَعَهُ الْحُمَّى. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ". وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ حَتَّى أَجْهَدَهُمْ ذَلِكَ، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَأَصْحَابُهُ - صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ يَعْنِي مَكَّةَ - عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَفْدٌ قَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْمُلُوا، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ.
قُلْتُ: وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ كَانَتْ فِي سَنَةِ سَبْعٍ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَأَخَّرَ دُعَاؤُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنَقْلِ الْوَبَاءِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ رُفِعَ وَبَقِيَ آثَارٌ مِنْهُ قَلِيلٌ، أَوْ أَنَّهُمْ بَقُوا فِي خُمَارِ مَا كَانَ أَصَابَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ زِيَادٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، أَصَابَتْهُمْ حُمَّى الْمَدِينَةِ، حَتَّى جَهَدُوا مَرَضًا، وَصَرَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَانُوا مَا يُصَلُّونَ إِلَّا وَهُمْ قُعُودٌ. قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُصَلُّونَ كَذَلِكَ، فَقَالَ لَهُمْ: " اعْلَمُوا أَنَّ صَلَاةَ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ ". فَتَجَشَّمَ الْمُسْلِمُونَ الْقِيَامَ، عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالسَّقَمِ; الْتِمَاسَ الْفَضْلِ.

فَصْلٌ فِي عَقْدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْأُلْفَةَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ بِالْكِتَابِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ فَكُتِبَ بَيْنَهُمْ، وَالْمُؤَاخَاةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا وَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهَا، وَمُوَادَعَتِهِ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ
وَكَانَ بِهَا مِنْ أَحْيَاءِ الْيَهُودِ بَنُو قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو النَّضِيرِ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَكَانَ نُزُولُهُمْ بِالْحِجَازِ قَبْلَ الْأَنْصَارِ أَيَّامَ بُخْتُ نَصَّرَ، حِينَ دَوَّخَ بِلَادَ الْمَقْدِسِ، فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ وَتَفَرَّقَتْ سَبَأٌ شَذَرَ مَذَرَ، نَزَلَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ الْمَدِينَةَ عِنْدَ الْيَهُودِ، فَحَالَفُوهُمْ وَصَارُوا يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ; لِمَا يَرَوْنَ لَهُمْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضْلِ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، لَكِنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَؤُلَاءِ، الَّذِينَ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِالْهُدَى وَالْإِسْلَامِ، وَخَذَلَ أُولَئِكَ; لِحَسَدِهِمْ، وَبَغْيِهِمْ، وَاسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثَنَا، حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ

وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ بَابٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، ثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ، وَأَنْ يَفْدُوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا سُرَيْجٌ، ثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. تَفَرَّدَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ عُقُولَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَادَعَ فِيهِ الْيَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَاشْتَرَطَ

عَلَيْهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ: إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ، يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ، وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ، يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمُ الْأَوْلَى، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ". ثُمَّ ذَكَرَ كُلَّ بَطْنٍ مِنْ بُطُونِ الْأَنْصَارِ، وَأَهْلَ كُلِّ دَارٍ; بَنِي سَاعِدَةَ، وَبَنِي جُشَمَ، وَبَنِي النَّجَّارِ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَبَنِي النَّبِيتِ، إِلَى أَنْ قَالَ: " وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ وَعَقْلٍ، وَلَا يُحَالِفُ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوِ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ، أَوْ إِثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعِهِمْ وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا يُنْصَرُ كَافِرٌ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ، وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مَنْ يَهُودَ، فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ; غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ ; لَا يُسَالِمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ، وَإِنَّ كُلَّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يُعْقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمَا نَالَ

دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هُدًى وَأَقْوَمِهِ، وَإِنَّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشٍ وَلَا نَفْسًا، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنَّهُ مَنِ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيِّنَةٍ، فَإِنَّهُ قَوَدٌ بِهِ إِلَّا أَنْ يَرْضَى وَلِيُّ الْمَقْتُولِ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافَّةً، وَلَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا قِيَامٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَقَرَّ بِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا وَلَا يُؤْوِيَهُ، وَإِنَّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللَّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ; لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ، مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ، فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ، وَبَنِي الْحَارِثِ، وَبَنِي سَاعِدَةَ، وَبَنِي جُشَمَ، وَبَنِي الْأَوْسِ، وَبَنِي ثَعْلَبَةَ وَجَفْنَةَ، وَبَنِي الشُّطَيْبَةِ، مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ، وَإِنَّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٍ، وَإِنَّهُ مَنْ فَتَكَ، فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَبَرِّ هَذَا،

وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ، وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ، وَإِذَا دَعَوْا إِلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنَّهُمْ يُصَالِحُونَهُ، وَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلَى مَثْلِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا مَنْ حَارَبَ فِي الدِّينِ; عَلَى كُلِّ أُنَاسٍ حِصَّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمُ الَّذِي قِبَلَهُمْ، وَإِنَّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ أَوْ آثِمٍ، وَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ، وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ، وَإِنَّ اللَّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرَّ وَاتَّقَى ". كَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِنَحْوِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِ " الْغَرِيبِ " وَغَيْرِهِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ.

فَصْلٌ فِي مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الْحَشْرِ: 9 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا [ النِّسَاءِ: 33 ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِدْرِيسَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ قَالَ: وَرَثَةً وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ كَانَ الْمُهَاجِرُونَ لَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَرِثُ الْمُهَاجِرِيُّ الْأَنْصَارِيَّ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ لِلْأُخُوَّةِ الَّتِي آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ نُسِخَتْ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنَ النَّصْرِ وَالرِّفَادَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَقَدْ ذَهَبَ الْمِيرَاثُ، وَيُوصَى لَهُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: قُرِئَ عَلَى سُفْيَانَ: سَمِعْتُ عَاصِمًا، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: حَالَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي دَارِنَا قَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ: آخَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ: " تَآخَوْا فِي اللَّهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ ". ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: هَذَا أَخِي. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ خَطِيرٌ وَلَا نَظِيرٌ مِنَ الْعِبَادِ. وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخَوَيْنِ، وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسَدُ اللَّهِ، وَأَسَدُ رَسُولِهِ، وَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَوَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ أَخَوَيْنِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ جَعْفَرٌ يَوْمَئِذٍ غَائِبًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيُّ أَخَوَيْنِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ أَخَوَيْنِ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخَوَيْنِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ أَخَوَيْنِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ

وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ أَخَوَيْنِ، وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ الزُّبَيْرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَخَوَيْنِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّجَّارِيُّ أَخَوَيْنِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَخَوَيْنِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَخَوَيْنِ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبُو أَيُّوبَ أَخَوَيْنِ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ أَخَوَيْنِ، وَعَمَّارُ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ الْعَبْسِيُّ حَلِيفُ عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ، وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ عَمَّارٌ وَثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَخَوَيْنِ.
قُلْتُ: وَهَذَا أَنْسَبُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
قَالَ: وَأَبُو ذَرٍّ بُرَيْرُ بْنُ جُنَادَةَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ أَخَوَيْنِ، وَحَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ أَخَوَيْنِ، وَسَلْمَانُ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ أَخَوَيْنِ، وَبِلَالٌ وَأَبُو رُوَيْحَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخَثْعَمِيُّ ثُمَّ أَحَدُ الْفَزَعِ أَخَوَيْنِ. قَالَ: فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ سُمِّيَ لَنَا مِمَّنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قُلْتُ: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ، أَمَّا مُؤَاخَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٍّ، فَإِنَّ مِنَ

الْعُلَمَاءِ مِنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَمْنَعُ صِحَّتَهُ، وَمُسْتَنَدُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمُؤَاخَاةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ ارْتِفَاقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلِيَتَأَلَّفَ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَا مَعْنَى لِمُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَا مُهَاجِرِيٍّ لِمُهَاجِرِيٍّ آخَرَ، كَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مُؤَاخَاةِ حَمْزَةَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْعَلْ مَصْلَحَةَ عَلِيٍّ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِمَّنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صِغَرِهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ يَكُونُ حَمْزَةُ قَدِ الْتَزَمَ بِمَصَالِحِ مَوْلَاهُمْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَآخَاهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا ذِكْرُهُ لِمُؤَاخَاةِ جَعْفَرٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِيهِ نَظَرٌ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ; فَإِنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ إِنَّمَا قَدِمَ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ فِي أَوَّلِ سَنَةِ سَبْعٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَكَيْفَ يُؤَاخِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَوَّلَ مَقْدِمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ أُرْصِدَ لِأُخُوَّتِهِ إِذَا قَدِمَ حِينَ يَقْدَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَخَوَيْنِ: مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجِرَاحِ وَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُنْفَرِدًا بِهِ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ،

بِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ مُؤَاخَاةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ كَيْفَ آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. وَقَالَ أَبُو جُحَيْفَةَ:آخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ. فَرَبِحَ شَيْئًا مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَيَّامٍ وَعَلَيْهِ وَضَرٌ مِنْ صُفْرَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالَ: " فَمَا سُقْتَ فِيهَا ؟ " قَالَ: وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ ". تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ، عَنْ

أَنَسٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَآخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيْ أَخِي، أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالًا; فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ، وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ. فَدَلُّوهُ فَذَهَبَ فَاشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ، فَجَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقِطٍ وَسَمْنٍ، ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَلْبَثَ، فَجَاءَ وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَهْيَمْ ؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ، تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً. قَالَ: " مَا أَصْدَقْتَهَا ؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ ذَهَبًا وَفِضَّةً
وَتَعْلِيقُ الْبُخَارِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ غَرِيبٌ; فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ مُسْنَدًا إِلَّا عَنْ أَنَسٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَنَسٌ تَلَقَّاهُ عَنْهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ الْمُهَاجِرُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَ قَوْمٍ قَدِمْنَا عَلَيْهِمْ أَحْسَنَ مُوَاسَاةً فِي

قَلِيلٍ، وَلَا أَحْسَنَ بَذْلًا مِنْ كَثِيرٍ، لَقَدْ كَفَوْنَا الْمَؤُونَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ حَتَّى لَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ. قَالَ: " لَا، مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ، وَدَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ ". هَذَا حَدِيثٌ ثُلَاثِيُّ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَمْ يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، ثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ. قَالَ: " لَا ". قَالُوا: تَكْفُونَا الْمَؤُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ. قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. تَفَرَّدَ بِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ: " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ تَرَكُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَخَرَجُوا إِلَيْكُمْ ". فَقَالُوا: أَمْوَالُنَا بَيْنَنَا قَطَائِعُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ ". قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: " هُمْ قَوْمٌ لَا يَعْرِفُونَ الْعَمَلَ فَتَكْفُونَهُمْ وَتُقَاسِمُونَهُمُ الثَّمَرَ ". قَالُوا: نَعَمْ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ

وَالْآثَارِ فِي فَضَائِلِ الْأَنْصَارِ وَحُسْنِ سَجَايَاهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ الْحَشْرِ: 9 ] الْآيَةَ.

فَصْلٌ: فِي مَوْتِ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ أَحَدِ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةَ عَلَى قَوْمِهِ بَنِي النَّجَّارِ، وَقَدْ شَهِدَ الْعَقَبَاتِ الثَّلَاثَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ فِي قَوْلٍ، وَكَانَ شَابًّا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِالْمَدِينَةِ فِي نَقِيعَ الْخَضِمَاتِ فِي هَزْمِ النَّبِيتِ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهَلَكَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَالْمَسْجِدُ يُبْنَى، أَخَذَتْهُ الذُّبْحَةُ أَوِ الشَّهْقَةُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " التَّارِيخِ ": أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ فِي الشَّوْكَةِ. رِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ

حَزْمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِئْسَ الْمَيِّتُ أَبُو أُمَامَةَ لِيَهُودَ وَمُنَافِقِي الْعَرَبِ; يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ. وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلَا لِصَاحِبِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ". وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ زَعَمَ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " أُسْدِ الْغَابَةِ ": أَنَّهُ مَاتَ فِي شَوَّالٍ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،أَنَّ بَنِي النَّجَّارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ نَقِيبًا بَعْدَ أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ: " أَنْتُمْ أَخْوَالِي، وَأَنَا بِمَا فِيكُمْ وَأَنَا نَقِيبُكُمْ ". وَكَرِهَ أَنْ يَخُصَّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ. فَكَانَ مِنْ فَضْلِ بَنِي النَّجَّارِ الَّذِي يَعْتَدُّونَ بِهِ عَلَى قَوْمِهِمْ، أَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقِيبَهُمْ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ أَبِي نُعَيْمٍ وَابْنِ مَنْدَهْ، فِي قَوْلِهِمَا: إِنَّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ نَقِيبًا عَلَى بَنِي سَاعِدَةَ. إِنَّمَا كَانَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ. وَصَدَقَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِيمَا قَالَ. وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي " التَّارِيخِ ": كَانَ أَوَّلَ مَنْ تُوَفِّي بَعْدَ مَقْدَمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - فِيمَا ذُكِرَ - صَاحِبُ مَنْزِلِهِ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ، لَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ مَقْدَمِهِ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ مَقْدَمِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ بِالذُّبْحَةِ أَوِ الشَّهْقَةِ.

قُلْتُ: وَكُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا أَسْلَمَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَنَزَلَ بِقُبَاءَ، نَزَلَ فِي مَنْزِلِ هَذَا فِي اللَّيْلِ، وَكَانَ يَتَحَدَّثُ بِالنَّهَارِ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَنْزِلِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى أَنِ ارْتَحَلَ إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ. ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ.

فَصْلٌ:
فِي مِيلَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ الْهِجْرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْأَنْصَارِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِعِشْرِينَ شَهْرًا. قَالَهُ أَبُو الْأَسْوَدِ. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَزَعَمُوا أَنَّ النُّعْمَانَ وُلِدَ قَبْلَ الزُّبَيْرِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، عَلَى رَأْسِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. وَالصَّحِيحُ مَا قَدَّمْنَاهُ.

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَتْ: فَخَرَجْتُ وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ بِقُبَاءَ فَوَلَدْتُهُ بِقُبَاءَ، ثُمَّ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ تَفَلَ فِي فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ دَخَلَ جَوْفَهُ، رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرِّكَ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ. تَابَعَهُ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا هَاجَرَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرَةً فَلَاكَهَا، ثُمَّ أَدْخَلَهَا فِي فِيهِ، فَأَوَّلُ مَا دَخَلَ بَطْنَهُ رِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى الْوَاقِدِيِّ وَغَيْرِهِ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُرَيْقِطٍ - لَمَّا رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ; لِيَأْتُوا بِعِيَالِهِ وَعِيَالِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَدِمُوا بِهِمْ أَثَرَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْمَاءُ حَامِلٌ مُتِمٌّ أَيْ مُقْرِبٌ، قَدْ دَنَا وَضْعُهَا لِوَلَدِهَا، فَلَمَّا وَلَدَتْهُ كَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ تَكْبِيرَةً عَظِيمَةً; فَرَحًا بِمَوْلِدِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَلَغَهُمْ عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ سَحَرُوهُمْ، حَتَّى لَا يُولَدَ لَهُمْ بَعْدَ هِجْرَتِهِمْ وَلَدٌ، فَأَكْذَبَ اللَّهُ الْيَهُودَ فِيمَا زَعَمُوا.

فَصْلٌ
وَبَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي ؟ وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أَنْ تُدْخِلَ نِسَاءَهَا فِي شَوَّالٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ دُخُولُهُ بِهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَبْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ. وَقَدْ حَكَى الْقَوْلَيْنِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَزْوِيجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَوْدَةَ كَيْفِيَّةُ تَزْوِيجِهِ وَدُخُولِهِ بِعَائِشَةَ، بَعْدَ مَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَأَنَّ دُخُولَهُ بِهَا كَانَ بِالسُّنْحِ نَهَارًا. وَهَذَا خِلَافُ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ الْيَوْمَ. وَفِي دُخُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَا فِي شَوَّالٍ، رَدٌّ لِمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ كَرَاهِيَةِ الدُّخُولِ بَيْنَ الْعِيدَيْنِ خَشْيَةَ الْمُفَارَقَةِ بَيْنَ

الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ; لِمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ، رَادَّةً عَلَى مَنْ تَوَهَّمَهُ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: تَزَوَّجَنِي فِي شَوَّالٍ، وَبَنَى بِي - أَيْ دَخَلَ بِي - فِي شَوَّالٍ، فَأَيُّ نِسَائِهِ كَانَ أَحْظَى عِنْدَهُ مِنِّي. فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا فَهِمَتْ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهَا أَحَبُّ نِسَائِهِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الْفَهْمُ مِنْهَا صَحِيحٌ لِمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ ". قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ ؟ قَالَ: " أَبُوهَا ".

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي السَّنَةَ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ - زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ فِيمَا قِيلَ، رَكْعَتَانِ، وَكَانَتْ صَلَاةُ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بِشَهْرٍ، فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ لِمُضِيِّ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْهُ. وَقَالَ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْحِجَازِ فِيهِ.
قُلْتُ: قَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فُرِضَتِ الصَّلَاةُ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْهَا.
وَقَدْ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ صَلَاةَ الْحَضَرِ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ، فُرِضَتْ أَرْبَعًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ [ النِّسَاءِ: 101 ] الْآيَةَ.

فَصْلٌ فِي الْأَذَانِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ عِنْدَ مَقْدَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ إِخْوَانُهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاجْتَمَعَ أَمْرُ الْأَنْصَارِ، اسْتَحْكَمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، فَقَامَتِ الصَّلَاةُ وَفُرِضَتِ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ، وَقَامَتِ الْحُدُودُ، وَفُرِضَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَتَبَوَّأَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ هُمُ الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَهَا، إِنَّمَا يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلصَّلَاةِ لِحِينِ مَوَاقِيتِهَا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْعَلَ بُوقًا كَبُوقِ يَهُودَ الَّذِي يَدْعُونَ بِهِ لِصَلَاتِهِمْ، ثُمَّ كَرِهَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِالنَّاقُوسِ فَنُحِتَ لِيَضْرِبَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لِلصَّلَاةِ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ النِّدَاءَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ طَافَ بِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ طَائِفٌ، مَرَّ بِي رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ، يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا

اللَّهُ، أَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَلَمَّا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ فَلْيُؤَذِّنْ بِهَا; فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ ". فَلَمَّا أَذَّنَ بِهَا بِلَالٌ سَمِعَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ. وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ، قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ،

اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَكَمِيُّ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، قَالَ فِي ذَلِكَ:
أَحْمَدُ اللَّهَ ذَا الْجَلَالِ وَذَا الْإِ كْرَامِ حَمْدًا عَلَى الْأَذَانِ كَثِيرَا إِذْ أَتَانِي بِهِ الْبَشِيرُ مِنَ اللَّهِ
فَأَكْرِمْ بِهِ لَدَيَّ بَشِيرَا فِي لَيَالٍ وَالَى بِهِنَّ ثَلَاثٍ
كُلَّمَا جَاءَ زَادَنِي تَوْقِيرَا
قُلْتُ: وَهَذَا الشِّعْرُ غَرِيبٌ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى أَخْبَرَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ: وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ، نَحْوَ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشِّعْرَ.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، ثَنَا أَبِي،

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَ النَّاسَ لِمَا يُهِمُّهُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَذَكَرُوا الْبُوقَ فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَهُودِ، ثُمَّ ذَكَرُوا النَّاقُوسَ، فَكَرِهَهُ مِنْ أَجْلِ النَّصَارَى، فَأُرِيَ النِّدَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ. وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَطَرَقَ الْأَنْصَارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلًا فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَذَّنَ بِهِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:وَزَادَ بِلَالٌ فِي نِدَاءِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ. مَرَّتَيْنِ فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى، وَلَكِنَّهُ سَبَقَنِي. وَسَيَأْتِي تَحْرِيرُ هَذَا الْفَصْلِ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي أَوْرَدَهُ السُّهَيْلِيُّ بِسَنَدِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَخْلَدٍ، ثَنَا أَبِي، عَنْ زِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ، وَفِيهِ فَخَرَجَ مَلَكٌ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ فَأَذَّنَ بِهَذَا الْأَذَانِ، وَكُلَّمَا قَالَ كَلِمَةً صَدَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدَّمَهُ، فَأَمَّ بِأَهْلِ السَّمَاءِ، وَفِيهِمْ آدَمُ وَنُوحٌ، ثُمَّ قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَأَخْلِقْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا; لِمَا يَعْضُدُهُ وَيُشَاكِلُهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ كَمَا زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ صَحِيحٌ، بَلْ هُوَ مُنْكَرٌ، تَفَرَّدَ بِهِ زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو الْجَارُودِ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْجَارُودِيَّةُ، وَهُوَ مِنَ الْمُتَّهَمِينَ. ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا قَدْ سَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، لَأَوْشَكَ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ بَعْدَ

الْهِجْرَةِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الصَّلَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، يَقُولُ:ائْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالنَّاقُوسِ لِلِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَاةِ، فَبَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَشَبَتَيْنِ لِلنَّاقُوسِ، إِذْ رَأَى عُمَرُ فِي الْمَنَامِ: لَا تَجْعَلُوا النَّاقُوسَ، بَلْ أَذِّنُوا لِلصَّلَاةِ. فَذَهَبَ عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَهُ بِمَا رَأَى، وَقَدْ جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ فَمَا رَاعَ عُمَرَ إِلَّا بِلَالٌ يُؤَذِّنُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ: " قَدْ سَبَقَكَ بِذَلِكَ الْوَحْيُ ". وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ الْوَحْيُ بِتَقْرِيرِ مَا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، قَالَتْ: كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ عَلَيْهِ لِلْفَجْرِ كُلَّ غَدَاةٍ فَيَأْتِي بِسَحَرٍ، فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْتَظِرُ الْفَجْرَ، فَإِذَا رَآهُ تَمَطَّى، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْمَدُكَ وَأَسْتَعِينُكَ عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُقِيمُوا دِينَكَ. قَالَتْ: ثُمَّ يُؤَذِّنُ. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُهُ كَانَ تَرَكَهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً يَعْنِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ.

فَصْلٌ: فِي سَرِيَّةِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، عَلَى رَأْسِ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُهَاجَرِهِ، لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِوَاءً أَبْيَضَ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ; لِيَعْتَرِضَ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ، وَأَنَّ حَمْزَةَ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ. قَالَ: وَكَانَ الَّذِي يَحْمِلُ لِوَاءَ حَمْزَةَ، أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ.

فَصْلٌ: فِي سَرِيَّةِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ فِي شَوَّالٍ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ لِوَاءً أَبْيَضَ، وَأَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَطْنِ رَابِغٍ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، فَبَلَغَ ثَنِيَّةَ الْمَرَةِ، وَهِيَ بِنَاحِيَةِ الْجُحْفَةِ فِي سِتِّينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ أَنْصَارِيٌّ، وَأَنَّهُمُ الْتَقَوْا هُمْ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: أَحْيَاءٌ. وَكَانَ بَيْنَهُمُ الرَّمْيُ دُونَ الْمُسَايَفَةِ. فَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مِائَتَيْنِ عَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ. وَهُوَ الْمُثْبَتُ عِنْدَنَا. وَقِيلَ: كَانَ عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ.

فَصْلٌ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا - يَعْنِي فِي السَّنَةِ الْأُولَى فِي ذِي الْقَعْدَةِ - عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى الْخَرَّارِ لِوَاءً أَبْيَضَ يَحْمِلُهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي عِشْرِينَ رَجُلًا عَلَى أَقْدَامِنَا - أَوْ قَالَ: أَحَدٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا - فَكُنَّا نَكْمُنُ النَّهَارَ وَنَسِيرُ اللَّيْلَ، حَتَّى صَبَّحْنَا الْخَرَّارَ صُبْحَ خَامِسَةٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ لَا أُجَاوِزَ الْخَرَّارَ، وَكَانَتِ الْعِيرُ قَدْ سَبَقَتْنِي قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتِ الْعِيرُ سِتِّينَ، وَكَانَ مَنْ مَعَ سَعْدٍ كُلُّهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَعِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ هَذِهِ السَّرَايَا الثَّلَاثَ - الَّتِي ذَكَرَهَا الْوَاقِدِيُّ - كُلَّهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ مِنْ وَقْتِ التَّارِيخِ.
قُلْتُ: كَلَامُ ابْنِ إِسْحَاقَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ - فِيمَا قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ، لِمَنْ تَأَمَّلَهُ - كَمَا سَنُورِدُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَغَازِي، فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ،

وَذَلِكَ تِلْوَ مَا نَحْنُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهَا وَقَعَتْ هَذِهِ السَّرَايَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَسَنَزِيدُهَا بَسْطًا وَشَرْحًا إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْوَاقِدِيُّ عِنْدَهُ زِيَادَاتٌ حَسَنَةٌ وَتَارِيخٌ مُحَرَّرٌ غَالِبًا; فَإِنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ الْكِبَارِ وَهُوَ صَدُوقٌ فِي نَفْسِهِ مِكْثَارٌ، كَمَا بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي عَدَالَتِهِ وَجَرْحِهِ فِي كِتَابِنَا الْمَوْسُومِ بِ " التَّكْمِيلِ فِي مَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْمَجَاهِيلِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

فَصْلٌ
وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ - وَهِيَ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ، وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، ابْنَتَيِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: وُلِدَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَبْلَهُ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمَا وُلِدَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَسَنُشِيرُ فِي آخِرِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَزِيَادَ بْنَ سُمَيَّةَ وُلِدَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأُولَى. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الصَّحَابَةِ، كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ الْأَوْسِيُّ، الَّذِي نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْكَنِهِ بِقُبَاءَ، إِلَى حِينَ ارْتَحَلَ مِنْهَا إِلَى دَارِ بَنِي النَّجَّارِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْدَهُ فِيهَا أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ نَقِيبُ بَنِي النَّجَّارِ، تُوُفِّيَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ، كَمَا تَقَدَّمَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ - مَاتَ أَبُو أُحَيْحَةَ بِمَالِهِ بِالطَّائِفِ، وَمَاتَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، والْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ فِيهَا بِمَكَّةَ.
قُلْتُ: وَهَؤُلَاءِ مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ، لَمْ يُسْلِمُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

ذِكْرُ مَا وَقَعَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، مِنَ الْحَوَادِثِ
وَقَعَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمَغَازِي وَالسَّرَايَا، وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَجَلِّهَا بَدْرٌ الْكُبْرَى، الَّتِي كَانَتْ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا، وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالْغَيِّ. وَهَذَا أَوَانُ ذِكْرِ الْمَغَازِي وَالْبُعُوثِ، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.

كِتَابُ الْمَغَازِي
قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِ " السِّيرَةِ "، بَعْدَ ذِكْرِهِ أَحْبَارَ الْيَهُودِ، وَنَصْبِهِمُ الْعَدَاوَةَ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ: فَمِنْهُمْ، حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَأَخَوَاهُ أَبُو يَاسِرٍ، وَجُدَيٌّ، وَسَلَّامُ بْنُ مِشْكَمٍ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ الْأَعْوَرُ،

تَاجِرُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ الصَّحَابَةُ بِأَرْضِ خَيْبَرَ - كَمَا سَيَأْتِي - وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَعَمْرُو بْنُ جِحَاشٍ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَهُوَ مِنْ طَيِّئٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ، وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ - وَقَدْ قَتَلَهُ الصَّحَابَةُ قَبْلَ أَبِي رَافِعٍ كَمَا سَيَأْتِي - وَحَلِيفَاهُ الْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو، وَكَرْدَمُ بْنُ قَيْسٍ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ.
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيَوْنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْحِجَازِ أَحَدٌ أَعْلَمَ بِالتَّوْرَاةِ مِنْهُ - قُلْتُ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ أَسْلَمَ - وَابْنُ صَلُوبَا وَمُخَيْرِيقٌ - وَقَدْ أَسْلَمَ يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا سَيَأْتِي - وَكَانَ حَبْرَ قَوْمِهِ.
وَمِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَسَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ سَيْحَانَ، وَعُزَيْزُ بْنُ أَبِي عُزَيْزٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَيْفٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَفِنْحَاصُ، وَأَشْيَعُ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَضَا، وَبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو، وَشَأْسُ بْنُ عَدِيٍّ، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ، وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو، وَسُكَيْنُ بْنُ أَبِي سُكَيْنٍ، وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى

أَبُو أَنَسٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ دَحْيَةَ، وَمَالِكُ بْنُ صَيْفٍ، وَكَعْبُ بْنُ رَاشِدٍ، وَعَازَرُ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ وَخَالِدٌ، وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: آزَرُ بْنُ آزَرَ - وَرَافِعُ بْنُ حَارِثَةَ، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَرَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ - قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ -: وَكَانَ حَبْرَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ، وَكَانَ اسْمُهُ الْحُصَيْنُ، فَلَمَّا أَسْلَمَ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا بْنِ وَهْبٍ، وَعَزَّالُ بْنُ شَمْوِيلَ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ - وَهُوَ صَاحِبُ عَقْدِهِمُ الَّذِي نَقَضُوهُ عَامَ الْأَحْزَابِ - وَشَمْوِيلُ بْنُ زَيْدٍ، وَجَبَلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُكَيْنَةَ، وَالنَّحَّامُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ، وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٍ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ، وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَرَدْمُ بْنُ زَيْدٍ، وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ، وَرَافِعُ بْنُ رُمَيْلَةَ، وَجَبَلُ بْنُ أَبِي قُشَيْرٍ، وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا.
قَالَ: وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، وَهُوَ الَّذِي سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ كِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا.

وَمِنْ يَهُودِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، قَرْدَمُ بْنُ عَمْرٍو.
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ، سِلْسِلَةُ بْنُ بَرْهَامَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ، أَهْلِ الشُّرُورِ وَالْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَأَصْحَابُ الْمَسْأَلَةِ - الَّذِينَ يُكْثِرُونَ الْأَسْئِلَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ. قَالَ -: وَأَصْحَابُ النَّصْبِ لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ، لِيُطْفِئُوهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقَ.
ثُمَّ ذَكَرَ إِسْلَامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَإِسْلَامَ عَمَّتِهِ خَالِدَةَ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَذَكَرَ إِسْلَامَ مُخَيْرِيقَ يَوْمَ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي، وَأَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ، وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ. قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ. قَالَ: لَا سَبْتَ لَكُمْ. ثُمَّ أَخَذَ سِلَاحَهُ وَخَرَجَ، إِلَى مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ: إِنْ قُتِلْتُ هَذَا الْيَوْمَ فَأَمْوَالِي لِمُحَمَّدٍ يَرَى فِيهَا مَا أَرَاهُ اللَّهُ. وَكَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ لَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي: " مُخَيْرِيقُ خَيْرُ يَهُودَ ".

فَصْلٌ
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ مَالَ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَضْدَادِ مِنَ الْيَهُودِ، مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَمِنَ الْأَوْسِ، زُوَيُّ بْنُ الْحَارِثِ، وَجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ الْأَنْصَارِيُّ، وَفِيهِ نَزَلَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ [ التَّوْبَةِ: 74 ] وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ: لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحُمُرِ. فَنَمَاهَا ابْنُ امْرَأَتِهِ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرَ الْجُلَاسُ ذَلِكَ وَحَلِفَ مَا قَالَ، فَنَزَلَ فِيهِ ذَلِكَ. قَالَ: وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُ تَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ حَتَّى عُرِفَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ وَالْخَيْرُ. قَالَ: وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ الْمُجَذَّرَ بْنَ ذِيَادٍ الْبَلَوِيَّ، وَقَيْسَ بْنَ زَيْدٍ أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مُنَافِقًا فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا، ثُمَّ لَحِقَ بِقُرَيْشٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الْمُجَذَّرُ قَدْ قَتَلَ أَبَاهُ سُوَيْدَ بْنَ الصَّامِتِ فِي بَعْضِ حُرُوبِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَذَ بِثَأْرِ أَبِيهِ مِنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ. كَذَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ الصَّامِتِ إِنَّمَا هُوَ مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ، قَتْلَهُ فِي غَيْرِ حَرْبٍ، قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ، رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ. وَأَنْكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنْ يَكُونَ

الْحَارِثُ قَتَلَ قَيْسَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَ: لِأَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِقَتْلِهِ إِنْ هُوَ ظَفِرَ بِهِ، فَبَعَثَ الْحَارِثُ إِلَى أَخِيهِ الْجُلَاسِ يَطْلُبُ لَهُ التَّوْبَةَ، لِيَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 86 ] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. قَالَ: وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَحَبَّ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى شَيْطَانٍ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا. وَكَانَ جَسِيمًا، أَدْلَمَ ثَائِرَ شَعْرِ الرَّأْسِ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ، أَسْفَعَ الْخَدَّيْنِ، وَكَانَ يَسْمَعُ الْكَلَامَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْقُلُهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، مَنْ حَدَّثَهُ بِشَيْءٍ صَدَّقَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ: 61 ]. قَالَ: وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ، وَكَانَ مِمَّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَهُمَا اللَّذَانِ عَاهَدَا اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ثُمَّ نَكَثَا فَنَزَلَ فِيهِمَا ذَلِكَ وَمُعَتِّبٌ هُوَ الَّذِي قَالَ

يَوْمَ أُحُدٍ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا فَنَزَلَ فِيهِ الْآيَةُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: كَأَنَّ مُحَمَّدًا يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَأَحَدُنَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْغَائِطِ، فَنَزَلَ فِيهِ: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [ الْأَحْزَابِ: 12 ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ وَالْحَارِثُ ابْنَا حَاطِبٍ - وَهُمَا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ - مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَلَيْسُوا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فِيمَا ذَكَرَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثَعْلَبَةَ وَالْحَارِثَ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، فِي أَسْمَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَبَحْزَجٍ وَكَانَ مِمَّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ، وَعَمْرُو بْنُ خِذَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْعَطَّافِ، وَابْنَاهُ يَزِيدُ وَمُجَمِّعٌ ابْنَا جَارِيَةٍ، وَهُمْ مِمَّنِ اتَّخَذَ مَسْجِدَ الضِّرَارِ، وَكَانَ مُجَمِّعٌ غُلَامًا حَدَثًا، قَدْ جَمَعَ أَكْثَرَ الْقُرْآنِ وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ فِيهِ، فَلَمَّا خُرِّبَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ - وَكَانَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ، سَأَلَ أَهْلُ قُبَاءٍ عُمَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ مُجَمِّعٌ فَقَالَ:

لَا وَاللَّهِ، أَوَلَيْسَ إِمَامَ الْمُنَافِقِينَ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ ؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِمْ. فَزَعَمُوا أَنَّ عُمَرَ تَرْكَهُ فَصَلَّى بِهِمْ. قَالَ: وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَكَانَ مِمَّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. فَنَزَلَ فِيهِ ذَلِكَ قَالَ: وَخِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ الَّذِي أُخْرِجَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ مِنْ دَارِهِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ مُسْتَدْرِكًا عَلَى ابْنِ إِسْحَاقَ فِي مُنَافِقِي بَنِي النَّبِيتِ مِنَ الْأَوْسِ: وَبِشْرٌ وَرَافِعٌ ابْنَا زَيْدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِرْبَعُ بْنُ قَيْظِيِّ، وَكَانَ أَعْمَى، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَجَازَ فِي حَائِطِهِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى أُحُدٍ: لَا أُحِلُّ لَكَ، إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا، أَنْ تَمُرَّ فِي حَائِطِي. وَأَخَذَ فِي يَدِهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ لَرَمَيْتُكَ بِهَا. فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ. وَقَدْ ضَرَبَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ بِالْقَوْسِ فَشَجَّهُ. قَالَ: وَأَخُوهُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيِّ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ. قَالَ اللَّهُ: وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [ الْأَحْزَابِ: 13 ] قَالَ: وَحَاطِبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ رَافِعٍ، وَكَانَ شَيْخًا جَسِيمًا، قَدْ عَسَا فِي جَاهِلِيَّتِهِ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ. أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَاتُ، فَحُمِلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ

فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّهُ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ بِهَا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَائِهِمْ وَهُوَ يَمُوتُ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ يَابْنَ حَاطِبٍ. قَالَ: فَنَجَمَ نِفَاقُ أَبِيهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَجَلْ، جَنَّةٌ مِنْ حَرْمَلٍ، غَرَرْتُمْ وَاللَّهِ هَذَا الْمِسْكِينَ مِنْ نَفْسِهِ. قَالَ: وَبَشِيرُ بْنُ أُبَيْرِقٍ أَبُو طُعْمَةَ، سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ، الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ: وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [ النِّسَاءِ: 107 ] الْآيَاتِ. قَالَ: وَقُزْمَانُ حَلِيفٌ لِبَنِي ظَفَرٍ، الَّذِي قَتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعَةَ نَفَرٍ، ثُمَّ لَمَّا آلَمَتْهُ الْجِرَاحَةُ، قَتَلَ نَفْسَهُ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَاتَلْتُ إِلَّا حَمِيَّةً عَلَى قَوْمِي. ثُمَّ مَاتَ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ يُعْلَمُ، إِلَّا أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ وَحُبِّ يَهُودَ. فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَوْسِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِنَ الْخَزْرَجِ، رَافِعُ بْنُ وَدِيعَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ: ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي [ التَّوْبَةِ: 49 ] وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ - وَرَئِيسَ الْخَزْرَجِ وَالْأَوْسِ أَيْضًا، كَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُمَلِّكُوهُ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ، شَرِقَ اللَّعِينُ

بِرِيقِهِ وَغَاظَهُ ذَلِكَ جِدًّا - وَهُوَ الَّذِي قَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [ الْمُنَافِقُونَ: 8 ] وَقَدْ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَفِيهِ وَفِي وَدِيعَةَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَوْفٍ - وَمَالِكِ بْنِ أَبِي قَوْقَلٍ، وَسُوَيْدٍ وَدَاعِسٍ، وَهُمْ مِنْ رَهْطِهِ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ [ الْحَشْرِ: 12 ] الْآيَاتِ. حِينَ مَالُوا فِي الْبَاطِنِ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ.

فَصْلٌ
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ عَلَى سَبِيلِ التَّقِيَّةِ، فَكَانُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ، فَأَتْبَعَهُمْ بِصِنْفِ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ مِنْ شَرِّهِمْ، سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ حِينَ ضَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، فَهِيَ فِي هَذَا الشِّعْبِ، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا. فَذَهَبَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ. قَالَ: وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى، وَعُثْمَانُ بْنُ أَوْفَى،وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ - فِيمَا بَلَغْنَا -: قَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ. وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ وَهُوَ الَّذِي هَبَّتِ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ يَوْمَ

مَوْتِهِ عِنْدَ مَرْجِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ فَقَالَ: إِنَّهَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ. فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، وَجَدُوا رِفَاعَةَ قَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَسِلْسِلَةُ بْنُ بَرْهَامَ، وَكِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا. فَهَؤُلَاءِ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ مُنَافِقِي الْيَهُودِ.
قَالَ: فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ، وَيَسْمَعُونَ أَحَادِيثَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْخَرُونَ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِدِينِهِمْ، فَاجْتَمَعَ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا مِنْهُمْ أُنَاسٌ، فَرَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، خَافِضِي أَصْوَاتِهُمْ، قَدْ لَصَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُخْرِجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ إِخْرَاجًا عَنِيفًا، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، أَحَدِ بَنِي النَّجَّارِ، وَكَانَ صَاحِبَ آلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَذَ بِرِجْلِهِ، فَسَحَبَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ، وَهُوَ يَقُولُ لَعَنَهُ اللَّهُ: أَتُخْرِجُنِي يَا أَبَا أَيُّوبَ مِنْ مِرْبَدِ بَنِي ثَعْلَبَةَ ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى رَافِعِ بْنِ وَدِيعَةَ النَّجَّارِيِّ فَلَبَّبَهُ بِرِدَائِهِ، ثُمَّ نَتَرَهُ نَتْرًا شَدِيدًا، وَلَطَمَ وَجْهَهُ فَأَخْرَجَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ: أُفٍ لَكَ مُنَافِقًا خَبِيثًا. وَقَامَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَادَهُ بِهَا قَوْدًا عَنِيفًا، حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ جَمَعَ عُمَارَةُ يَدَيْهِ جَمِيعًا، فَلَدَمَهُ بِهِمَا لَدْمَةٍ فِي صَدْرِهِ خَرَّ مِنْهَا. قَالَ: يَقُولُ: خَدَشْتَنِي يَا عُمَارَةُ. فَقَالَ عُمَارَةُ: أَبْعَدَكَ اللَّهُ يَا مُنَافِقُ، فَمَا

أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ مِنَ الْعَذَابِ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَامَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ - وَكَانَ بَدْرِيًّا - إِلَى قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ - وَكَانَ شَابًّا وَلَيْسَ فِي الْمُنَافِقِينَ شَابٌّ سِوَاهُ - فَجَعَلَ يَدْفَعُ فِي قَفَاهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ، وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي خُدْرَةَ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو - وَكَانَ ذَا جُمَّةٍ - فَأَخَذَ بِجُمَّتِهِ فَسَحَبَهُ بِهَا سَحْبًا عَنِيفًا عَلَى مَا مَرَّ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى أَخْرَجَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ الْمُنَافِقُ: قَدْ أَغْلَظْتَ يَا أَبَا الْحَارِثِ. فَقَالَ: إِنَّكَ أَهْلٌ لِذَلِكَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لِمَا أُنْزِلَ فِيكَ فَلَا تَقْرَبَنَّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكَ نَجَسٌ. وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إِلَى أَخِيهِ زُوَيِّ بْنِ الْحَارِثِ، فَأَخْرَجَهُ إِخْرَاجًا عَنِيفًا وَأَفَّفَ مِنْهُ، وَقَالَ: غَلَبَ عَلَيْكَ الشَّيْطَانُ وَأَمْرُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا نَزَلَ فِيهِمْ مِنَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " وَغَيْرِهَا وَمِنْ سُورَةِ " التَّوْبَةِ "، وَتَكَلَّمَ عَلَى تَفْسِيرِ ذَلِكَ، فَأَجَادَ وَأَفَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.

ذِكْرُ أَوَّلِ الْمَغَازِي، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ، وَيُقَالُ لَهَا: غَزْوَةُ وَدَّانَ، وَأَوَّلُ الْبُعُوثِ، وَهُوَ بَعْثُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَوْ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي
قَالَ الْبُخَارِيُّ: كِتَابُ الْمَغَازِي، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَوَّلُ مَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَبْوَاءُ، ثُمَّ بُوَاطُ، ثُمَّ الْعُشَيْرَةُ. ثُمَّ رَوَىعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّهُ سُئِلَ: كَمْ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. شَهِدَ مِنْهَا سَبْعَ عَشْرَةَ، أَوَّلُهُنَّ الْعُسَيْرَةُ أَوِ الْعُشَيْرَةُ. وَسَيَأْتِي الْحَدِيثُ بِإِسْنَادِهِ وَلَفْظِهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ بُرَيْدَةَ، قَالَ (: غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً. وَلِمُسْلِمٍ عَنْهُ، أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّ عَشْرَةَ

غَزْوَةً وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنَّ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَاتَلَ فِي ثَمَانٍ، يَوْمَ بَدْرٍ، وَأُحُدٍ وَالْأَحْزَابِ، وَالْمُرَيْسِيعِ، وَقُدَيْدٍ، وَخَيْبَرَ، وَمَكَّةَ، وَحُنَيْنٍ، وَبَعَثَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَرِيَّةً.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ التَّنُوخِيُّ ثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِي النُّعْمَانُ، عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانِ غَزَوَاتٍ، أَوَّلُهُنَّ بَدْرٌ، ثُمَّ أُحُدٌ، ثُمَّ الْأَحْزَابُ، ثُمَّ قُرَيْظَةُ، ثُمَّ بِئْرُ مَعُونَةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ، ثُمَّ غَزْوَةُ خَيْبَرَ، ثُمَّ غَزْوَةُ مَكَّةَ ثُمَّ حُنَيْنٌ وَالطَّائِفُ. قَوْلُهُ: بِئْرُ مَعُونَةَ بَعْدَ قُرَيْظَةَ فِيهِ نَظَرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بَعْدَ أُحُدٍ، كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ يَعْقُوبُ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرْنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، 103 سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ:غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. وَسَمِعْتُهُ مَرَّةً أُخْرَى يَقُولُ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ. فَلَا أَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ وَهْمًا أَوْ شَيْئًا سَمِعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الدَّبَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ غَزْوَةً.
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ، ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ غَزْوَةً.
وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ كَانَتْ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: لَعَلَّهُ أَرَادَ السَّرَايَا دُونَ الْغَزَوَاتِ، فَقَدْ ذَكَرْتُ فِي " الْإِكْلِيلِ "، عَلَى التَّرْتِيبِ، بُعُوثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ زِيَادَةً عَلَى الْمِائَةِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي الثِّقَةُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِبُخَارَى أَنَّهُ قَرَأَ فِي كِتَابِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ السَّرَايَا وَالْبُعُوثَ دُونَ الْحُرُوبِ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ غَرِيبٌ جِدًّا وَحَمْلُهُ كَلَامَ قَتَادَةَ عَلَى مَا قَالَ، فِيهِ نَظَرٌ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَزْهَرَ بْنِ الْقَاسِمِ الرَّاسِبِيِّ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ مَغَازِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ، أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ بَعْثًا وَتِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً خَرَجَ فِي ثَمَانٍ مِنْهَا بِنَفْسِهِ، بَدْرٍ، وَأُحُدٍ،

وَالْأَحْزَابِ، وَالْمُرَيْسِيعِ، وَقُدَيْدٍ، وَخَيْبَرَ، وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَحُنَيْنٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: هَذِهِ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا، يَوْمَ بَدْرٍ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ - وَهُوَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ - فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ، ثُمَّ قَاتَلَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَبَنِي لِحْيَانَ فِي شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَنَةَ سِتٍّ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَحَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَمَانٍ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ سَنَةَ تِسْعٍ، ثُمَّ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، وَغَزَا ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ، وَكَانَتْ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا الْأَبْوَاءَ.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ هِلَالِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّقِّيِّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ مَازِنٍ الْيَمَانِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الْآيَةَ [ الْحَجِّ: 39 ] بَعْدَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ. إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ غَزَا بَنِي النَّضِيرِ ثُمَّ غَزَا أُحُدًا فِي شَوَّالٍ - يَعْنِي مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ - ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ ثُمَّ قَاتَلَ بَنِي لِحْيَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ سَنَةَ سِتٍّ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَكَانَتْ حُنَيْنٌ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ،

وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى عَشْرَةَ غَزْوَةً لَمْ يُقَاتِلْ فِيهَا، فَكَانَتْ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَبْوَاءَ، ثُمَّ الْعُشَيْرَةَ ثُمَّ غَزْوَةَ غَطَفَانَ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَنِي سُلَيْمٍ، ثُمَّ غَزْوَةَ الْأَبْوَاءَ، ثُمَّ غَزْوَةَ بَدْرٍ الْأُولَى، ثُمَّ غَزْوَةَ الطَّائِفِ، ثُمَّ غَزْوَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ غَزْوَةَ الصَّفْرَاءِ، ثُمَّ غَزْوَةَ تَبُوكَ آخِرَ غَزْوَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبُعُوثَ. هَذَا كَتَبْتُهُ مِنْ تَارِيخِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، وَالصَّوَابُ مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُرَتَّبًا.
وَهَذَا الْفَنُّ مِمَّا يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِأَمْرِهِ وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ، كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: كُنَّا نُعَلَّمُ مَغَازِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نُعَلَّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَسَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَمِّي الزُّهْرِيَّ يَقُولُ فِي عِلْمِ الْمَغَازِي: عِلْمُ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي " الْمَغَازِي " بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا سُقْنَاهُ عَنْهُ مِنْ تَعْيِينِ رُءُوسِ الْكُفْرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ وَجَمَعَهُمْ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهَيَّأَ لِحَرْبِهِ، وَقَامَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّهِ وَقِتَالِ مَنْ أَمَرَهُ بِهِ مِمَّنْ يَلِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

قَالَ: وَقَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ اشْتَدَّ الضَّحَاءُ، وَكَادَتِ الشَّمْسُ تَعْتَدِلُ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ بَعَثَهُ اللَّهُ بِثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَقَامَ بَقِيَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَشَهْرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَجُمَادَيَيْنِ، وَرَجَبًا، وَشَعْبَانَ، وَشَهْرَ رَمَضَانَ، وَشَوَّالًا، وَذَا الْقَعْدَةِ، وَذَا الْحِجَّةِ - وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجَّةَ الْمُشْرِكُونَ - وَالْمُحَرَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا فِي صَفَرٍ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ - قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَيُقَالُ لَهَا: غَزْوَةُ وَدَّانَ - أَيْضًا يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَوَادَعَتْهُ فِيهَا بَنُو ضَمْرَةَ، وَكَانَ الَّذِي وَادَعَهُ مِنْهُمْ مَخْشِيَّ بْنَ عَمْرٍو الضَّمْرِيَّ، وَكَانَ سَيِّدَهُمْ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ صَفَرٍ وَصَدْرًا مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ أَوَّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَكَانَ أَبْيَضَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُقَامِهِ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ فِي سِتِّينَ أَوْ ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَسَارَ حَتَّى بَلَغَ مَاءً بِالْحِجَازِ بِأَسْفَلِ ثَنِيَّةِ

الْمَرَةِ، فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، إِلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ قَدْ رَمَى يَوْمَئِذٍ بِسَهْمٍ فَكَانَ أَوَّلَ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ انْصَرَفَ الْقَوْمُ عَنِ الْقَوْمِ وَلِلْمُسْلِمِينَ حَامِيَةٌ وَفَرَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ الْمَازِنِيُّ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا لِيَتَوَصَّلَا بِالْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ. وَرَوَى ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ عَلَيْهِمْ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ
قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ حِكَايَةِ الْوَاقِدِيِّ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِكْرَزٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَنَّهُ رَجَّحَ أَنَّهُ أَبُو سُفْيَانَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ الْقَصِيدَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
أَمِنْ طَيْفِ سَلْمَى بِالْبِطَاحِ الدَّمَائِثِ أَرِقْتَ وَأَمْرٌ فِي الْعَشِيرَةِ حَادِثِ تَرَى مِنْ لُؤَيٍّ فِرْقَةً لَا يَصُدُّهَا
عَنِ الْكُفْرِ تَذْكِيرٌ وَلَا بَعْثُ بَاعِثِ رَسُولٌ أَتَاهُمْ صَادِقٌ فَتَكَذَّبُوا
عَلَيْهِ وَقَالُوا لَسْتَ فِينَا بِمَاكِثِ

إِذَا مَا دَعَوْنَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ أَدْبَرُوا
وَهَرُّوا هَرِيرَ الْمُحْجَرَاتِ اللَّوَاهِثِ
الْقَصِيدَةَ إِلَى آخِرِهَا، وَذَكَرَ جَوَابَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى فِي مُنَاقَضَتِهَا الَّتِي أَوَّلُهَا:
أَمِنْ رَسْمِ دَارٍ أَقْفَرَتْ بِالْعَثَاعِثِ بَكَيْتَ بِعَيْنٍ دَمْعُهَا غَيْرُ لَابِثِ
وَمِنْ عَجَبِ الْأَيَّامِ وَالدَّهْرُ كُلُّهُ لَهُ عَجَبٌ مِنْ سَابِقَاتٍ وَحَادِثِ
لِجَيْشٍ أَتَانَا ذِي عُرَامٍ يَقُودُهُ عُبَيْدَةُ يُدْعَى فِي الْهِيَاجِ
ابْنَ حَارِثِ لِنَتْرُكَ أَصْنَامًا بِمَكَّةَ عُكَّفًا مَوَارِيثَ مَوْرُوثٍ كَرِيمٍ لِوَارِثِ
وَذَكَرَ تَمَامَ الْقَصِيدَةِ وَمَا مَنَعَنَا مِنْ إِيرَادِهَا بِتَمَامِهَا إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ هِشَامٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ - ذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَاتَيْنِ الْقَصِيدَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَمْيَتِهِ تِلْكَ فِيمَا يَذْكُرُونَ:
أَلَا هَلَ اتَى رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
أَذُودُ بِهَا أَوَائِلَهُمْ ذِيَادًا بِكُلِّ حُزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ

فَمَا يَعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ بِسَهْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَبْلِي
وَذَلِكَ أَنَّ دِينَكَ دِينُ صِدْقٍ وَذُو حَقٍّ أَتَيْتَ بِهِ وَفَضْلِ
يُنَجَّى الْمُؤْمِنُونَ بِهِ وَيُخْزَى بِهِ الْكُفَّارُ عِنْدَ مَقَامِ مَهْلِ
فَمَهْلًا قَدْ غَوَيْتَ فَلَا تَعِبْنِي غَوِيَّ الْحَيِّ وَيْحَكَ يَا بْنَ جَهْلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِسَعْدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَكَانَتْ رَايَةُ عُبَيْدَةَ - فِيمَا بَلَغْنَا - أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِسْلَامِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ خَالَفَهُ الزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَالْوَاقِدِيُّ، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ بَعْثَ حَمْزَةَ قَبْلَ بَعْثِ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ أَوَّلَ أُمَرَاءِ السَّرَايَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ الْأَسَدِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ غَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَهَكَذَا حَكَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ، فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، فَلَقِيَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ بِذَلِكَ السَّاحِلِ فِي ثَلَاثِمَائَةِ رَاكِبٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ، وَكَانَ مُوَادِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَانْصَرَفَ بَعْضُ الْقَوْمِ عَنْ بَعْضٍ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانَتْ رَايَةُ حَمْزَةَ أَوَّلَ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ بَعْثَهُ وَبَعْثَ عُبَيْدَةَ كَانَا مَعًا، فَشُبِّهَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَكَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ بَعْثَ حَمْزَةَ قَبْلَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَنَصَّ عَلَى أَنَّ بَعْثَ حَمْزَةَ كَانَ قَبْلَ غَزْوَةِ الْأَبْوَاءِ، فَلَمَّا قَفَلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأَبْوَاءِ بَعَثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ فِي سِتِّينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ سَرِيَّةُ حَمْزَةَ فِي رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْأُولَى، وَبَعْدَهَا سَرِيَّةُ عُبَيْدَةَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حَمْزَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شِعْرًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَايَتَهُ أَوَّلُ رَايَةٍ عُقِدَتْ فِي الْإِسْلَامِ، لَكِنْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَإِنْ كَانَ حَمْزَةُ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ كَمَا قَالَ، لَمْ يَكُنْ يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، فَأَمَّا مَا سَمِعْنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فَعُبَيْدَةُ أَوَّلُ. وَالْقَصِيدَةُ هِيَ قَوْلُهُ:
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلتَّحَلُّمِ وَالْجَهْلِ وَلِلنَّقْصِ مِنْ رَأْيِ الرِّجَالِ وَلِلْعَقْلِ وَلِلرَّاكِبِينَا بِالْمَظَالِمِ لَمْ نَطَأْ
لَهُمْ حُرُمَاتٌ مِنْ سَوَامٍ وَلَا أَهْلِ كَأَنَّا تَبَلْنَاهُمْ وَلَا تَبْلَ عِنْدَنَا
لَهُمْ غَيْرُ أَمْرٍ بِالْعَفَافِ وَبِالْعَدْلِ وَأَمْرٍ بِإِسْلَامٍ فَلَا يَقْبَلُونَهُ وَيَنْزِلُ
مِنْهُمْ مِثْلَ مَنْزِلَةِ الْهَزْلِ فَمَا بَرِحُوا حَتَّى انْتَدَبْتُ لِغَارَةٍ
لَهُمْ حَيْثُ حَلُّوا أَبْتَغِي رَاحَةَ الْفَضْلِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ أَوَّلُ خَافِقٍ
عَلَيْهِ لِوَاءٌ لَمْ يَكُنْ لَاحَ مِنْ قَبْلِي لِوَاءٌ لَدَيْهِ النَّصْرُ مِنْ ذِي كَرَامَةٍ
إِلَهٍ عَزِيزٍ فِعْلُهُ أَفْضَلُ الْفِعْلِ عَشِيَّةَ سَارُوا حَاشِدِينَ وَكُلُّنَا
مَرَاجِلُهُ مِنْ غَيْظِ أَصْحَابِهِ تَغْلِي فَلَمَّا تَرَاءَيْنَا أَنَاخُوا فَعَقَّلُوا
مَطَايَا وَعَقَّلْنَا مَدَى غَرَضِ النَّبْلِ وَقُلْنَا لَهُمْ حَبْلُ الْإِلَهِ نَصِيرُنَا
وَمَا لَكُمُ إِلَّا الضَّلَالَةُ مِنْ حَبْلِ فَثَارَ أَبُو جَهْلٍ هُنَالِكَ بَاغِيًا فَخَابَ
وَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَ أَبِي جَهْلِ

وَمَا نَحْنُ إِلَّا فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا
وَهُمْ مِائَتَانِ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَضْلِ فِيَالَ لُؤَيٍّ لَا تُطِيعُوا غُوَاتَكُمْ
وَفِيئُوا إِلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَنْهَجِ السَّهْلِ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْكُمُ عَذَابٌ
فَتَدْعُوا بِالنَّدَامَةِ وَالثُّكْلِ
قَالَ: فَأَجَابَهُ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَالَ:
عَجِبْتُ لِأَسْبَابِ الْحَفِيظَةِ وَالْجَهْلِ وَلِلشَّاغِبِينَ بِالْخِلَافِ وَبِالْبُطْلِ وَلِلتَّارِكِينَ مَا وَجَدْنَا جُدُودَنَا عَلَيْهِ ذَوِي الْأَحْسَابِ وَالسُّؤْدُدِ الْجَزْلِ ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُ هَاتَيْنِ الْقَصِيدَتَيْنِ لِحَمْزَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ.

غَزْوَةُ بِوَاطَ مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ - يَعْنِي مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ - يُرِيدُ قُرَيْشًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ السَّائِبَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ مَقْصِدُهُ أَنْ يَعْتَرِضَ لِعِيرِ قُرَيْشٍ وَكَانَ فِيهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَمِائَةُ رَجُلٍ وَأَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةِ بَعِيرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ بُوَاطَ مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا، فَلَبِثَ بِهَا بَقِيَّةَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَبَعْضَ جُمَادَى الْأُولَى.
ثُمَّ غَزَا قُرَيْشًا. يَعْنِي بِذَلِكَ الْغَزْوَةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: غَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ. وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْعُشَيْرُ وَبِالْمُهْمَلَةِ وَالْعُشَيْرَاءُ وَبِالْمُهْمَلَةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. قَالَ: وَخَرَجَ، عَلَيْهِ

السَّلَامُ، يَتَعَرَّضُ لِعِيرَاتِ قُرَيْشٍ ذَاهِبَةً إِلَى الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فَسَلَكَ عَلَى نَقْبِ بَنِي دِينَارٍ، ثُمَّ عَلَى فَيْفَاءِ الْخَبَارِ فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ بِبَطْحَاءِ ابْنِ أَزْهَرَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ السَّاقِ. فَصَلَّى عِنْدَهَا فَثَمَّ مَسْجِدُهُ، فَصُنِعَ لَهُ عِنْدَهَا طَعَامٌ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ النَّاسُ مَعَهُ، فَرُسُومُ أَثَافِيِّ الْبُرْمَةِ مَعْلُومٌ هُنَالِكَ، وَاسْتَسْقَى لَهُ مِنْ مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: الْمُشَيْرِبُ. ثُمَّ ارْتَحَلَ فَتَرَكَ الْخَلَائِقَ بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ شُعْبَةَ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ صَبَّ لِلْيَسَارِ حَتَّى هَبَطَ يَلَيْلَ، فَنَزَلَ بِمُجْتَمَعِهِ وَمُجْتَمَعِ الضَّبُوعَةِ ثُمَّ سَلَكَ فَرْشَ مَلَلٍ حَتَّى لَقِيَ الطَّرِيقَ بِصُخَيْرَاتِ الْيَمَامِ، ثُمَّ اعْتَدَلَ بِهِ الطَّرِيقُ حَتَّى نَزَلَ الْعَشِيرَةَ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، فَأَقَامَ بِهَا جُمَادَى الْأُولَى وَلَيَالِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَوَادَعَ فِيهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ثَنَا وَهْبٌ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَقِيلَ لَهُ: كَمْ غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ

غَزْوَةٍ ؟ قَالَ تِسْعَ عَشْرَةَ. قُلْتُ: كَمْ غَزْوَةٍ أَنْتَ مَعَهُ ؟ قَالَ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قُلْتُ فَأَيُّهُمْ كَانَتْ أَوَّلَ ؟ قَالَ: الْعُشَيْرُ، أَوِ الْعُسَيْرَةُ، فَذَكَرْتُ لِقَتَادَةَ، فَقَالَ الْعُشَيْرَةُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ أَوَّلَ الْغَزَوَاتِ الْعُشَيْرَةُ وَيُقَالُ بِالسِّينِ. وَبِهِمَا مَعَ حَذْفِ التَّاءِ. وَبِهِمَا مَعَ الْمَدِّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غُزَاةً شَهِدَهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، الْعُشَيْرَةَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا غَيْرُهَا لَمْ يَشْهَدْهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَبَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ مَا قَالَ، فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو يَزِيدَ مُحَمَّدُ بْنُ خُثَيْمٍ،عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعُشَيْرَةِ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ، فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِهَا شَهْرًا، فَصَالَحَ بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ وَحُلَفَاءَهُمْ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ، فَوَادَعَهُمْ، فَقَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ النَّفَرَ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ نَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ ؟ فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَةً فَغَشِيَنَا النَّوْمُ، فَعَمَدْنَا إِلَى صُوَرٍ مِنَ النَّخْلِ فِي دَقْعَاءَ مِنَ الْأَرْضِ

فَنِمْنَا فِيهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَهَبَّنَا إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُنَا بِقَدَمِهِ فَجَلَسْنَا، وَقَدْ تَتَرَّبْنَا مِنْ تِلْكَ الدَّقْعَاءِ، فَيَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِيٍّ: " يَا أَبَا تُرَابٍ " لِمَا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ، فَأَخْبَرْنَاهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِنَا، فَقَالَ: " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْقَى النَّاسِ رَجُلَيْنِ ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النَّاقَةَ، وَالَّذِي يَضْرِبُكَ يَا عَلِيُّ عَلَى هَذِهِ - وَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى يَبُلَّ مِنْهَا هَذِهِ ". وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي تَسْمِيَةِ عَلِيٍّ أَبَا تُرَابٍ، كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّأَنَّ عَلِيًّا خَرَجَ مُغَاضِبًا فَاطِمَةَ، فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَنَامَ فِيهِ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ خَرَجَ مُغَاضِبًا، فَجَاءَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَيْقَظَهُ وَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: " قُمْ أَبَا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ.

غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ لَمْ يَقُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ حِينَ رَجَعَ مِنَ الْعُشَيْرَةِ إِلَّا لَيَالِيَ قَلَائِلَ لَا تَبْلُغُ الْعَشَرَةَ، حَتَّى أَغَارَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِ حَتَّى بَلَغَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: سَفَوَانَ. مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى، وَفَاتَهُ كُرْزٌ فَلَمْ يُدْرِكْهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَالْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ جُمَادَى وَرَجَبًا وَشَعْبَانَ، وَقَدْ كَانَ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ سَعْدًا فِي ثَمَانِيَةِ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَخَرَجَ حَتَّى بَلَغَ الْخَرَّارَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ بَعْثَ سَعْدٍ هَذَا كَانَ بَعْدَ حَمْزَةَ - ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْوَاقِدِيِّ لِهَذِهِ الْبُعُوثِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي بَعْثَ حَمْزَةَ فِي رَمَضَانَ، وَبَعْثَ عُبَيْدَةَ فِي شَوَّالٍ، وَبَعْثَ سَعْدٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، كُلُّهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى.

وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمُتَعَالِي بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، ثَنَا الْمُجَالِدُ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ،عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، جَاءَتْهُ جُهَيْنَةُ فَقَالُوا: إِنَّكَ قَدْ نَزَلْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فَأَوْثِقْ حَتَّى نَأْتِيَكَ وَتُؤْمِنَّا. فَأَوْثَقَ لَهُمْ فَأَسْلَمُوا. قَالَ: فَبَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجَبٍ وَلَا نَكُونُ مِائَةً، وَأَمَرَنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ إِلَى جَنْبِ جُهَيْنَةَ، فَأَغَرْنَا عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا كَثِيرًا فَلَجَأْنَا إِلَى جُهَيْنَةَ، فَمَنَعُونَا وَقَالُوا، لِمَ تُقَاتِلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ بَعْضُنَا: نَأْتِي نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرُهُ وَقَالَ قَوْمٌ لَا، بَلْ نُقِيمُ هَاهُنَا. وَقُلْتُ أَنَا فِي أُنَاسٍ مَعِي: لَا بَلْ نَأْتِي عِيرَ قُرَيْشٍ فَنَقْتَطِعُهَا. وَكَانَ الْفَيْءُ إِذْ ذَاكَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ. فَانْطَلَقْنَا إِلَى الْعِيرِ، وَانْطَلَقَ أَصْحَابُنَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَامَ غَضْبَانَ مُحْمَرَّ الْوَجْهِ فَقَالَ: أَذَهَبْتُمْ مِنْ عِنْدِي جَمِيعًا وَجِئْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ ؟ إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْفُرْقَةُ، لَأَبْعَثَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلًا لَيْسَ بِخَيْرِكُمْ، أَصْبَرُكُمْ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ. فَبَعَثَ عَلَيْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ، فَكَانَ أَوَّلَ أَمِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ بِهِ نَحْوَهُ، وَزَادَ

بَعْدَ قَوْلِهِمْ لِأَصْحَابِهِ: لِمَ تُقَاتِلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ؟ فَقَالُوا: نُقَاتِلُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مَنْ أَخْرَجَنَا مِنَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَأَدْخَلَ بَيْنَ سَعْدٍ وَزِيَادٍ قُطْبَةَ بْنَ مَالِكٍ، وَهَذَا أَنْسَبُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ أُمَرَاءِ السَّرَايَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ الْأَسَدِيُّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، أَنَّ أَوَّلَ الرَّايَاتِ عُقِدَتْ لِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَلِلْوَاقِدِيِّ حَدِيثٌ زَعَمَ أَنَّ أَوَّلَ الرَّايَاتِ عُقِدَتْ لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

بَابُ سَرِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِغَزْوَةِ بَدْرٍ الْعُظْمَى، وَذَلِكَ يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيَّ فِي رَجَبٍ مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ، وَهُمْ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ، حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ حَلِيفُ بَنِي نَوْفَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَائِلِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَوَاقَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ التَّمِيمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ أَيْضًا، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، أَيْضًا وَسُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ الْفِهْرِيُّ، فَهَؤُلَاءِ سَبْعَةٌ ثَامِنُهُمْ أَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ

يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً، وَأَمِيرُهُمُ التَّاسِعُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَتَأْتِي تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْظُرَ فِيهِ، فَيَمْضِيَ لِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَلَا يَسْتَكْرِهَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا، فَلَمَّا سَارَ بِهِمْ يَوْمَيْنِ فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ، بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ ". فَلَمَّا نَظَرَ فِي الْكِتَابِ قَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً. وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ، وَقَالَ: قَدْ نَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ وَيَرْغَبُ فِيهَا فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ، فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ أَصْحَابُهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَسَلَكَ عَلَى الْحِجَازِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفُرُعِ يُقَالُ لَهُ: بُحْرَانُ. أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا كَانَا يَعْتَقِبَانِهِ فَتَخَلَّفَا فِي طَلَبِهِ وَمَضَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَبَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ، حَتَّى نَزَلَ نَخْلَةَ فَمَرَّتْ بِهِ عِيرٌ، لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأَدَمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ، فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ الْحَضْرَمِيِّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ الصَّدِفِيُّ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ

- وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَخُوهُ نَوْفَلٌ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ وَقَدْ نَزَلُوا قَرِيبًا مِنْهُمْ فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا، وَقَالُوا: عُمَّارٌ، لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ، وَتَشَاوَرَ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلْيَمْتَنِعُنَّ بِهِ مِنْكُمْ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. فَتَرَدَّدَ الْقَوْمُ وَهَابُوا الْإِقْدَامَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ شَجَّعُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَخْذِ مَا مَعَهُمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَفْلَتَ الْقَوْمَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَعْجَزَهُمْ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا غَنِمْنَا الْخُمُسَ. فَعَزَلَهُ وَقَسَمَ الْبَاقِيَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْخُمُسُ. قَالَ: لَمَّا نَزَلَ الْخُمُسُ نَزَلَ كَمَا قَسَمَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ كَمَا قَالَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ". فَوَقَفَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْقِطَ فِي أَيْدِي الْقَوْمِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا، وَعَنَّفَهُمْ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا صَنَعُوا وَقَالَتْ قُرَيْشٌ: قَدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّدٌ

وَأَصْحَابُهُ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَسَفَكُوا فِيهِ الدَّمَ، وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ، وَأَسَرُوا فِيهِ الرِّجَالَ. فَقَالَ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ: إِنَّمَا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا فِي شَعْبَانَ. وَقَالَتْ يَهُودُ، تُفَائِلُ بِذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ قَتَلَهُ وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَمْرٌو عَمَرَتِ الْحَرْبُ، وَالْحَضْرَمِيُّ حَضَرَتِ الْحَرْبُ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدَتِ الْحَرْبُ. فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [ الْبَقَرَةِ: 217 ] أَيْ، إِنْ كُنْتُمْ قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَقَدْ صَدُّوكُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ الْكُفْرِ بِهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْهُ وَأَنْتُمْ أَهْلُهُ، أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أَيْ قَدْ كَانُوا يَفْتِنُونَ الْمُسْلِمَ عَنْ دِينِهِ حَتَّى يَرُدُّوهُ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِيمَانِهِ فَذَلِكَ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْقَتْلِ، ثُمَّ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى أَخْبَثِ ذَلِكَ وَأَعْظَمِهِ غَيْرَ تَائِبِينَ وَلَا نَازِعِينَ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَذَا مِنَ الْأَمْرِ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الشَّفَقِ، قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ وَالْأَسِيرَيْنِ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ عُثْمَانَ وَالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا

نُفْدِيكُمُوهُمَا حَتَّى يَقْدَمَ صَاحِبَانَا - يَعْنِي سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ - فَإِنَّا نَخْشَاكُمْ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ تَقْتُلُوهُمَا نَقْتُلْ صَاحِبَيْكُمْ. فَقَدِمَ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ فَأَفْدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا، وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، فَمَاتَ بِهَا كَافِرًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَجَلَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ حِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ، طَمِعُوا فِي الْأَجْرِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا غَزْوَةٌ نُعْطَى فِيهَا أَجْرَ الْمُجَاهِدِينَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ: 218 ] فَوَضَعَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَعْظَمِ الرَّجَاءِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْحَدِيثُ فِي ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ. وَهَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " عَنِ الزُّهْرِيِّ وَكَذَا رَوَى شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، نَحْوًا مِنْ هَذَا وَفِيهِ: وَكَانَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: هُوَ أَوَّلُ قَتِيلٍ قَتْلَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهَذِهِ أَوَّلُ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَعُثْمَانُ وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ أَوَّلُ مَنْ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ.

قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ أَوَّلَ أَمِيرٍ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " لِمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ شَوَاهِدَ مُسْنَدَةً، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَهْطًا، وَبَعَثَ عَلَيْهِمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ - أَوْ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ - فَلَمَّا ذَهَبَ يَنْطَلِقُ بَكَى صَبَابَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ، فَبَعَثَ عَلَيْهِمْ مَكَانَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ لَا تُكْرِهَنَّ أَحَدًا عَلَى السَّيْرِ مَعَكَ مِنْ أَصْحَابِكَ ". فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ اسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. فَخَبَّرَهُمُ الْخَبَرَ، وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ، فَلَقُوا ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَتَلُوهُ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَجَبٍ أَوْ جُمَادَى، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ: قَتَلْتُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ الْآيَةَ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ فِي " تَفْسِيرِهِ ": عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً وَكَانُوا سَبْعَةَ نَفَرٍ، عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَفِيهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسَهْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَرْبُوعِيُّ، حَلِيفٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَتَبَ لِابْنِ جَحْشٍ كِتَابًا وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَهُ حَتَّى يَنَزِلَ بَطْنَ مَلَلٍ، فَلَمَّا نَزَلَ بَطْنَ مَلَلٍ، فَتَحَ الْكِتَابَ، فَإِذَا فِيهِ أَنْ سِرْ حَتَّى تَنْزِلَ بَطْنَ نَخْلَةَ. فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْمَوْتَ فَلْيَمْضِ، وَلْيُوصِ فَإِنَّنِي مُوصٍ وَمَاضٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَ، وَتَخَلَّفَ عَنْهُ سَعْدٌ وَعُتْبَةُ، أَضَلَّا رَاحِلَةً لَهُمَا، فَأَقَامَا يَطْلُبَانِهَا، وَسَارَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى نَزَلَ بَطْنَ نَخْلَةَ، فَإِذَا هُوَ بِالْحَكَمِ بْنِ كَيْسَانَ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَذَكَرَ قَتْلَ وَاقِدٍ لِعَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَرَجَعُوا بِالْغَنِيمَةِ وَالْأَسِيرَيْنِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ غَنِيمَةٍ غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ طَاعَةَ اللَّهِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَقَتَلَ صَاحِبَنَا فِي رَجَبٍ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّمَا قَتَلْنَاهُ فِي جُمَادَى.

قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ قَتْلُهُمْ لَهُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَآخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
قُلْتُ: لَعَلَّ جُمَادَى كَانَ نَاقِصًا فَاعْتَقَدُوا بَقَاءَ الشَّهْرِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَقَدْ كَانَ الْهِلَالُ رُئِيَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى، وَكَانَتْ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَمْ يَشْعُرُوا. وَكَذَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جُنْدُبٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبَى حَاتِمٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَخَافُوا إِنْ لَمْ يَتَدَارَكُوا هَذِهِ الْغَنِيمَةَ وَيَنْتَهِزُوا هَذِهِ الْفُرْصَةَ، دَخَلَ أُولَئِكَ فِي الْحَرَمِ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَأَقْدَمُوا عَلَيْهِمْ عَالِمِينِ بِذَلِكَ.
وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَقَلَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَحَرَّمَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ كَمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ " بَرَاءَةٌ ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ

جَوَابًا لِلْمُشْرِكِينَ فِيمَا قَالُوا مِنْ إِحْلَالِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ هِيَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ:
تَعُدُّونَ قَتْلًا فِي الْحَرَامِ عَظِيمَةً وَأَعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ رَاشِدُ صُدُودُكُمْ عَمَّا يَقُولُ مُحَمَّدٌ
وَكُفْرٌ بِهِ وَاللَّهُ رَاءٍ وَشَاهِدُ وَإِخْرَاجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللَّهِ أَهْلَهُ لِئَلَّا يُرَى لِلَّهِ فِي الْبَيْتِ سَاجِدُ
فَإِنَّا وَإِنْ عَيَّرْتُمُونَا بِقَتْلِهِ وَأَرْجَفَ بِالْإِسْلَامِ بَاغٍ وَحَاسِدُ سَقَيْنَا مِنَ
ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ رِمَاحَنَا بِنَخْلَةَ لَمَّا أَوْقَدَ الْحَرْبَ وَاقِدُ دَمًا وَابْنُ عَبْدِ اللَّهِ عُثْمَانُ بَيْنَنَا يُنَازِعُهُ غُلٌّ مِنَ الْقَدِّ عَانِدُ

فَصْلٌ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ
قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ. وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ كَمَا سَيَأْتِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: فِي شَعْبَانَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعْدَ غَزْوَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ. وَيُقَالُ: صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ. وَحَكَى هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ، أَنَّهَا صُرِفَتْ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. ثُمَّ حَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهَا حُوِّلَتْ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ النِّصْفَ مِنْ شَعْبَانَ. وَفِي هَذَا التَّحْدِيدِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي

" التَّفْسِيرِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 144 ] وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا مِنِ اعْتِرَاضِ سُفَهَاءِ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْجَهَلَةِ الطَّغَامِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَسْخٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ. هَذَا وَقَدْ أَحَالَ اللَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقُرْآنِ تَقْرِيرَ جَوَازِ النَّسْخِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الْبَقَرَةِ: 106 ]
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ سَمِعَ زُهَيْرًا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَعَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى، أَوْ صَلَّاهَا، صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى

أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ. فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ: 143 ] رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلْنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ: 144 ]. قَالَ: فَوُجِّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ. وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ وَهُمُ الْيَهُودُ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَصَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوَّلَ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، وَاسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِلَى رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ، عَلَيْهِ

السَّلَامُ يُحِبُّ أَنْ تُصْرَفَ قِبْلَتُهُ نَحْوَ الْكَعْبَةِ قِبْلَةِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ يُكْثِرُ الدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ وَالِابْتِهَالَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَكَانَ مِمَّا يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَطَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ سَائِلًا ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ. فَلَمَّا نَزَلَ الْأَمْرُ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ. كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَقْتَ الظُّهْرِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: نَزَلَ تَحْوِيلُهَا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الْكَعْبَةِ بِالْمَدِينَةِ، الْعَصْرُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ لَمْ يَبْلُغْهُمْ خَبَرُ ذَلِكَ إِلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا. وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوُ ذَلِكَ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ وَنَسَخَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، طَعَنَ طَاعِنُونَ مِنَ السُّفَهَاءِ وَالْجَهَلَةِ وَالْأَغْبِيَاءِ، وَقَالُوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا. هَذَا وَالْكَفَرَةُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ، لِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُتُبِهِمْ، مِنْ أَنَّ الْمَدِينَةَ مُهَاجَرُهُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْمَرُ بِالِاسْتِقْبَالِ إِلَى الْكَعْبَةِ كَمَا قَالَ: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ: 144 ] وَقَدْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ هَذَا كُلِّهِ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ، فَقَالَ: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ الْبَقَرَةِ: 142 ]. أَيْ هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فِي خَلْقِهِ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ فِي شَرْعِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ عَنِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْحِكْمَةُ الَّتِي يَجِبُ لَهَا الرِّضَا وَالتَّسْلِيمُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أَيْ خِيَارًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ الْبَقَرَةِ: 143 ] أَيْ وَكَمَا اخْتَرْنَا لَكُمْ أَفْضَلَ الْجِهَاتِ فِي صَلَاتِكُمْ، وَهَدَيْنَاكُمْ إِلَى قِبْلَةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وَالِدِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي بِهَا مُوسَى فَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ خِيَارَ الْأُمَمِ، وَخُلَاصَةَ الْعَالَمِ، وَأَشْرَفَ الطَّوَائِفِ،

وَأَكْرَمَ التَّالِدِ وَالطَّارِفِ، لِتَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْكُمْ وَإِشَارَتِهِمْ يَوْمَئِذٍ بِالْفَضِيلَةِ إِلَيْكُمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا مِنَ اسْتِشْهَادِ نُوحٍ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِذَا اسْتَشْهَدَ بِهِمْ نُوحٌ مَعَ تَقَدُّمِ زَمَانِهِ فَمَنْ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُبَيِّنًا حِكْمَتَهُ فِي حُلُولِ نِقْمَتِهِ بِمَنْ شَكَّ وَارْتَابَ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَحُلُولِ نِعْمَتِهِ عَلَى مَنْ صَدَّقَ وَتَابَعَ هَذِهِ الْكَائِنَةَ، فَقَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا لِنَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً أَيْ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْكَائِنَةُ الْعَظِيمَةُ الْمَوْقِعِ كَبِيرَةَ الْمَحَلِّ شَدِيدَةَ الْأَمْرِ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أَيْ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَا مُصَدِّقُونَ لَهَا، لَا يَشُكُّونَ وَلَا يَرْتَابُونَ بَلْ يَرْضَوْنَ، وَيُسَلِّمُونَ، وَيُؤْمِنُونَ، وَيَعْمَلُونَ، لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ لِلْحَاكِمِ الْعَظِيمِ الْقَادِرِ الْمُقْتَدِرِ الْحَلِيمِ الْخَبِيرِ اللَّطِيفِ الْعَلِيمِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أَيْ بِشِرْعَتِهِ اسْتِقْبَالَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالصَّلَاةَ إِلَيْهِ. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ: 143 ] وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا، وَذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي " التَّفْسِيرِ " وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ بَيَانًا فِي كَتَابِنَا " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ ".

وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي فِي أَهْلِ الْكِتَابِ -: إِنَّهُمْ لَمْ يَحْسُدُونَا عَلَى شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَنَا عَلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ: آمِينَ

فَصْلٌ فِي فَرْضِيَّةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُرِضَ صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ فُرِضَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا. ثُمَّ حَكَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ الْيَهُودَ يَصُومُونَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْهُ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى. فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فِصَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ: 183 - 185 ]

وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْ إِيرَادِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ، وَالْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَالْأَحْكَامِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْهُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:أُحِيلَتِ الصَّلَاةُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ، وَأُحِيلَ الصِّيَامُ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ. فَذَكَرَ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ، قَالَ وَأَمَّا أَحْوَالُ الصِّيَامِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ عَاشُورَاءَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ، وَأَنْزَلَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِلَى قَوْلِهِ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكِينًا، فَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْزَلَ الْآيَةَ الْأُخْرَى شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إِلَى قَوْلِهِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فَأَثْبَتَ صِيَامَهُ عَلَى الْمُقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فِيهِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَأَثْبَتَ الْإِطْعَامَ لِلْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ، فَهَذَانِ حَوْلَانِ. قَالَ:وَكَانُوا يَأْكُلُونَ، وَيَشْرَبُونَ، وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا، فَإِذَا نَامُوا، امْتَنَعُوا ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: صِرْمَةُ. كَانَ يَعْمَلُ صَائِمًا حَتَّى أَمْسَى، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ فَصَلَّى الْعِشَاءَ، ثُمَّ نَامَ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ، فَأَصْبَحَ صَائِمًا فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَهَدَ جَهْدًا شَدِيدًا، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ قَدْ جَهَدْتَ جَهْدًا شَدِيدًا ؟ فَأَخْبَرَهُ، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ

عَزَّ وَجَلَّ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [ الْبَقَرَةِ: 187 ] وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ "، وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْمَسْعُودِيِّ نَحْوَهُ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يُصَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَلِلْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وَلِتَحْرِيرِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ مِنَ " التَّفْسِيرِ " وَمِنَ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُمِرَ النَّاسُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَأَمَرَهُمْ بِذَلِكَ. قَالَ: وَفِيهَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعِيدِ، وَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْمُصَلَّى، فَكَانَ أَوَّلَ صَلَاةِ عِيدٍ صَلَّاهَا، وَخَرَجُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْحَرْبَةِ، وَكَانَتْ لِلزُّبَيْرِ، وَهَبَهَا لَهُ النَّجَاشِيُّ، فَكَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَعْيَادِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، فُرِضَتِ الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.

غَزْوَةُ بَدْرٍ الْعُظْمَى يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 123 ] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [ الْأَنْفَالِ: 5 - 8 ] وَمَا بَعْدَهَا إِلَى تَمَامِ الْقِصَّةِ مِنْ سُورَةِ " الْأَنْفَالِ " وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا هُنَالِكَ، وَسَنُورِدُ هَاهُنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُنَاسِبُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ سَرِيَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ بِأَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ عَظِيمَةٍ، فِيهَا أَمْوَالٌ وَتِجَارَةٌ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ رَجُلًا أَوْ أَرْبَعُونَ، مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ.

قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ بِشَهْرَيْنِ.
قَالَ: وَكَانَ فِي الْعِيرِ أَلْفُ بَعِيرٍ، تَحْمِلُ أَمْوَالَ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا إِلَّا حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، فَلِهَذَا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ الْحَدِيثِ، فَاجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ فِيمَا سُقْتُ مِنْ حَدِيثِ بَدْرٍ، قَالُوا: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ مُقْبِلًا مِنَ الشَّامِ، نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: " هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنَفِّلُكُمُوهَا " فَانْتَدَبَ النَّاسُ فَخَفَّ بَعْضُهُمْ وَثَقُلَ بَعْضٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْقَى حَرْبًا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ، حِينَ دَنَا مِنَ الْحِجَازِ، يَتَحَسَّسُ الْأَخْبَارَ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنَ الرُّكْبَانِ، تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ؛ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدِ اسْتَنْفَرَ أَصْحَابَهُ لَكَ وَلِعِيرِكَ، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ، فَبَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا

فَيَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُخْبِرَهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ، فَخَرَجَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو سَرِيعًا إِلَى مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَا: وَقَدْ رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ إِلَى مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ، رُؤْيَا أَفْزَعَتْهَا فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا أَفْظَعَتْنِي، وَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى قَوْمِكَ مِنْهَا شَرٌّ وَمُصِيبَةٌ، فَاكْتُمْ عَلَيَّ مَا أُحَدِّثُكَ. قَالَ لَهَا: وَمَا رَأَيْتِ ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ، حَتَّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَلَا انْفَرُوا، يَا لَغُدُرُ، لَمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ. فَأَرَى النَّاسَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ صَرَخَ بِمِثْلِهَا: أَلَا انْفَرُوا، يَا لَغُدُرُ، لَمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ. ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بِعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبَى قُبَيْسٍ، فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا، فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضَّتْ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ وَلَا دَارٌ إِلَّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فِلْقَةٌ. قَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، وَأَنْتِ فَاكْتُمِيهَا، لَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدٍ.

ثُمَّ خَرَجَ الْعَبَّاسُ فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا، فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ إِيَّاهَا، فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَغَدَوْتُ لِأَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي رَهْطٍ مِنْ قُرَيْشٍ قُعُودٍ يَتَحَدَّثُونَ بِرُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَلَمَّا رَآنِي أَبُو جَهْلٍ قَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، إِذَا فَرَغْتَ مِنْ طَوَافِكَ فَأَقْبِلْ إِلَيْنَا. فَلَمَّا فَرَغْتُ أَقْبَلْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَهُمْ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، مَتَى حَدَثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ ؟! قَالَ: قُلْتُ: وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ: تِلْكَ الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ عَاتِكَةُ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا رَأَتْ ؟ قَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَمَّا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَتَنَبَّأَ نِسَاؤُكُمْ ؟! قَدْ زَعَمَتْ عَاتِكَةُ فِي رُؤْيَاهَا أَنَّهُ قَالَ: انْفِرُوا فِي ثَلَاثٍ. فَسَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ، فَإِنْ يَكُ حَقًّا مَا تَقُولُ، فَسَيَكُونُ وَإِنْ تَمْضِ الثَّلَاثُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، نَكْتُبُ عَلَيْكُمْ كِتَابًا، أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَوَاللَّهِ مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ كَبِيرُ شَيْءٍ، إِلَّا أَنِّي جَحَدْتُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرْتُ أَنْ تَكُونَ رَأَتْ شَيْئًا. قَالَ: ثُمَّ تَفَرَّقْنَا، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا أَتَتْنِي، فَقَالَتْ: أَقْرَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ غِيَرٌ لِشَيْءٍ مِمَّا سَمِعْتَ ؟! قَالَ: قُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ فَعَلْتُ، مَا كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ مِنْ كَبِيرٍ، وَايْمُ اللَّهِ لَأَتَعَرَّضَنَّ لَهُ، فَإِذَا عَادَ لَأَكْفِيكُنَّهُ. قَالَ: فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَأَنَا حَدِيدٌ مُغْضَبٌ، أَرَى أَنِّي قَدْ فَاتَنِي مِنْهُ أَمْرٌ أُحِبُّ أَنْ أُدْرِكَهُ مِنْهُ. قَالَ: فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُهُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَمْشِي نَحْوَهُ، أَتَعَرَّضُهُ لِيَعُودَ لِبَعْضِ مَا قَالَ فَأَقَعَ بِهِ،

وَكَانَ رَجُلًا خَفِيفًا، حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ، حَدِيدَ النَّظَرِ. قَالَ: إِذْ خَرَجَ نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدُّ. قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا لَهُ لَعَنَهُ اللَّهُ، أَكُلُّ هَذَا فَرَقٌ مِنِّي أَنْ أُشَاتِمَهُ ؟! وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لَمْ أَسْمَعْ، صَوْتَ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ وَهُوَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الْوَادِي، وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ قَدْ جَدَّعَ بَعِيرَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ فِي أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الْغَوْثَ الْغَوْثَ. قَالَ فَشَغَلَنِي عَنْهُ وَشَغَلَهُ عَنِّي مَا جَاءَ مِنَ الْأَمْرِ، فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا وَقَالُوا: أَيُظَنُّ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْ تَكُونَ كَعِيرِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ ؟ ! وَاللَّهِ لَيَعْلَمَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، كَنَحْوٍ مِنْ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ. قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، خَافُوا مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَخَرَجُوا عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ، إِمَّا خَارِجٌ وَإِمَّا بَاعِثٌ مَكَانَهُ رَجُلًا، وَأَوْعَبَتْ قُرَيْشٌ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهَا أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصِيَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، اسْتَأْجَرَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ

دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ، قَدْ أَفْلَسَ بِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كَانَ قَدْ أَجْمَعَ الْقُعُودَ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا جَسِيمًا ثَقِيلًا، فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ، بِمِجْمَرَةٍ يَحْمِلُهَا، فِيهَا نَارٌ وَمِجْمَرٌ، حَتَّى وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَلِيٍّ اسْتَجْمِرْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، وَقَبَّحَ مَا جِئْتَ بِهِ. قَالَ: ثُمَّ تَجَهَّزَ، وَخَرَجَ مَعَ النَّاسِ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَقَدْ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ عَلَى نَحْوٍ آخَرَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَ عَنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ، نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ سَعْدٌ إِذَا مَرَّ بِمَكَّةَ نَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا، فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ سَعْدٌ لِأُمَيَّةَ: انْظُرْ لِي سَاعَةَ خَلْوَةٍ، لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ. فَخَرَجَ بِهِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ، فَلَقِيَهُمَا أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ مَنْ هَذَا مَعَكَ ؟ قَالَ: هَذَا سَعْدٌ. قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: أَلَا أَرَاكَ تَطُوفُ بِمَكَّةَ آمِنًا، وَقَدْ آوَيْتُمُ

الصُّبَاةَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَنْصُرُونَهُمْ وَتُعِينُونَهُمْ، أَمَا وَاللَّهِ، لَوْلَا أَنَّكَ مَعَ أَبِي صَفْوَانَ، مَا رَجَعْتَ إِلَى أَهْلِكَ سَالِمًا. فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ: أَمَا وَاللَّهِ، لَئِنْ مَنَعْتَنِي هَذَا، لَأَمْنَعَنَّكَ مَا هُوَ أَشَدُّ عَلَيْكَ مِنْهُ، طَرِيقَكَ عَلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ لَهُ أُمَيَّةُ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ يَا سَعْدُ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، قَالَ سَعْدٌ دَعْنَا عَنْكَ يَا أُمَيَّةَ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّهُمْ قَاتِلُوكَ ". قَالَ: بِمَكَّةَ ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. فَفَزِعَ لِذَلِكَ أُمَيَّةُ فَزَعًا شَدِيدًا، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ قَالَ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ، أَلَمْ تَرَيْ مَا قَالَ لِي سَعْدٌ ؟ قَالَتْ: وَمَا قَالُ لَكَ ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: بِمَكَّةَ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي. فَقَالَ أُمَيَّةُ: وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، اسْتَنْفَرَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ فَقَالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ. فَكَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ، فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ، إِنَّكَ مَتَى يَرَاكَ النَّاسُ قَدْ تَخَلَّفْتَ وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي، تَخَلَّفُوا مَعَكَ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ أَبُو جَهْلٍ حَتَّى قَالَ: أَمَّا إِذْ غَلَبْتَنِي، فَوَاللَّهِ لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بِعِيرٍ بِمَكَّةَ. ثُمَّ قَالَ أُمَيَّةُ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ، جَهِّزِينِي. فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا صَفْوَانَ، وَقَدْ نَسِيتَ مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ ؟ قَالَ: لَا، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلَّا قَرِيبًا. فَلَمَّا خَرَجَ أُمَيَّةُ، أَخَذَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلَّا عَقَلَ بَعِيرَهُ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ بِبَدْرٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ

عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بِهِ نَحْوَهُ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ خَلَفِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ، وَفِي رِوَايَةِ إِسْرَائِيلَ: قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يَكْذِبُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ جَهَازِهِمْ وَأَجْمَعُوا الْمَسِيرَ، ذَكَرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ مِنَ الْحَرْبِ، فَقَالُوا إِنَّا نَخْشَى أَنْ يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا. وَكَانَتِ الْحَرْبُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ، فِي ابْنٍ لِحَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، قَتْلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي بَكْرٍ بِإِشَارَةِ عَامِرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْمُلَوَّحِ، ثُمَّ أَخَذَ بِثَأْرِهِ أَخُوهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَتَلَ عَامِرًا وَخَاضَ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ، ثُمَّ جَاءَ مِنَ اللَّيْلِ فَعَلَّقَهُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَخَافُوهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: لَمَّا أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ الْمَسِيرَ، ذَكَرَتِ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ، فَكَادَ ذَلِكَ أَنْ يَثْنِيَهُمْ، فَتَبَدَّى لَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْمُدْلِجِيِّ، وَكَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي كِنَانَةَ، فَقَالَ أَنَا لَكُمْ جَارٌ مِنْ أَنْ تَأْتِيَكُمْ كِنَانَةُ مِنْ خَلْفِكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَخَرَجُوا سِرَاعًا

قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [ الْأَنْفَالِ 47، 48 ] غَرَّهُمْ، لَعَنَهُ اللَّهُ، حَتَّى سَارُوا وَسَارَ مَعَهُمْ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، وَمَعَهُ جُنُودُهُ وَرَايَاتُهُ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَأَسْلَمَهُمْ لِمَصَارِعِهِمْ، فَلَمَّا رَأَى الْجِدَّ وَالْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ لِلنَّصْرِ، وَعَايَنَ جِبْرِيلَ، نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [ الْإِسْرَاءِ: 81 ] فَإِبْلِيسُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، لَمَّا عَايَنَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَئِذٍ تَنْزِلُ لِلنَّصْرِ، فَرَّ ذَاهِبًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَرَبَ يَوْمَئِذٍ، بَعْدَ أَنْ كَانَ هُوَ الْمُشَجِّعَ لَهُمْ، الْمُجِيرَ لَهُمْ، كَمَا غَرَّهُمْ وَوَعَدَهُمْ وَمَنَّاهُمْ، وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: خَرَجَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، فِي تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ مُقَاتِلًا، مَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ يَقُودُونَهَا، وَمَعَهُمُ الْقِيَانُ يَضْرِبْنَ

بِالدُّفُوفِ، وَيُغَنِّينَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ الْمُطْعِمِينَ لِقُرَيْشٍ يَوْمًا يَوْمًا.
وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ نَحَرَ لَهُمْ، حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ، أَبُو جَهْلٍ، نَحَرَ لَهُمْ عَشْرًا، ثُمَّ نَحَرَ لَهُمْ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بِعُسْفَانَ تِسْعًا، وَنَحَرَ لَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو بِقُدَيْدٍ عَشْرًا، وَمَالُوا مِنْ قُدَيْدٍ إِلَى مِيَاهٍ نَحْوَ الْبَحْرِ، فَظَلُّوا فِيهَا وَأَقَامُوا بِهَا يَوْمًا، فَنَحَرَ لَهُمْ شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تِسْعًا، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِالْجَحْفَةِ، فَنَحَرَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ عَشْرًا، ثُمَّ أَصْبَحُوا بِالْأَبْوَاءِ، فَنَحَرَ لَهُمْ نُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ عَشْرًا، وَنَحَرَ لَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَشْرًا، وَنَحَرَ لَهُمْ عَلَى مَاءِ بَدْرٍ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ عَشْرًا، ثُمَّ أَكَلُوا مِنْ أَزْوَادِهِمْ. قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ قَالَ: كَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ سِتُّونَ فَرَسًا وَسِتُّمِائَةِ دِرْعٍ، وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَانِ وَسِتُّونَ دِرْعًا
. هَذَا مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ فِي نَفِيرِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَمَسِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ. وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَيَالٍ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، فِي أَصْحَابِهِ وَاسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، وَرَدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ أَبْيَضَ، وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَايَتَانِ سَوْدَاوَانِ، إِحْدَاهُمَا

مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ. وَالْأُخْرَى مَعَ بَعْضِ الْأَنْصَارِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: كَانَتْ مَعَ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّاقَةِ قَيْسَ بْنَ أَبِي صَعْصَعَةَ أَخَا بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: وَكَانَ مَعَهُمْ فَرَسَانِ، عَلَى إِحْدَاهُمَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَلَى الْأُخْرَى الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَمَرَّةً سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ، وَمَرَّةً الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ. وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ
. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: مَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ. يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ.

قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الْبَهِيِّ قَالَ: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَارِسَانِ، الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ عَلَى الْمَيْسَرَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَأَبُو كَبْشَةَ وَأَنَسَةُ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا. كَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ بَهْدَلَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ وَعَلِيٌّ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ فَقَالَ: " مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا ". وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ الْفَلَّاسِ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ كَانَ زَمِيلَاهُ عَلِيٌّ وَمَرْثَدٌ بَدَلَ أَبِي لُبَابَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْأَجْرَاسِ أَنْ تُقْطَعَ مِنْ أَعْنَاقِ الْإِبِلِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ ". وَإِنَّمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي " الْأَطْرَافِ ": وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبِ اللَّهُ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ،

حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. تَفَرَّدَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَسَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرِيقَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى نَقْبِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ عَلَى الْعَقِيقِ، ثُمَّ عَلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ عَلَى أُولَاتِ الْجَيْشِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى تُرْبَانَ، ثُمَّ عَلَى مَلَلٍ، ثُمَّ عَلَى غَمِيسِ الْحَمَامِ، ثُمَّ عَلَى صُخَيْرَاتِ الْيَمَامِ، ثُمَّ عَلَى السَّيَالَةِ، ثُمَّ عَلَى فَجِّ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ عَلَى شَنُوكَةَ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُعْتَدِلَةُ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ، لَقِيَ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ النَّاسِ، فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهُ خَبَرًا، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: أَوَفِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخْبِرْنِي عَمَّا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ. قَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ: لَا تَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ وَأَقْبِلْ عَلَيَّ، فَأَنَا أُخْبِرُكَ عَنْ ذَلِكَ، نَزَوْتَ عَلَيْهَا، فَفِي بَطْنِهَا مِنْكَ سَخْلَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَهْ، أَفْحَشْتَ عَلَى الرَّجُلِ " ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْ سَلَمَةَ وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ سَجْسَجَ، وَهِيَ بِئْرُ الرَّوْحَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ مِنْهَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْهَا بِالْمُنْصَرَفِ، تَرَكَ طَرِيقَ مَكَّةَ بِيَسَارٍ وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ عَلَى النَّازِيَةِ، يُرِيدُ بَدْرًا، فَسَلَكَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا، حَتَّى إِذَا جَزَعَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ: رُحْقَانُ بَيْنَ النَّازِيَةِ وَبَيْنَ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ، ثُمَّ عَلَى

الْمَضِيقِ، ثُمَّ انْصَبَّ مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الصَّفْرَاءِ، بَعَثَ بَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ، حَلِيفَ بَنِي سَاعِدَةَ، وَعَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ، حَلِيفَ بَنِي النَّجَّارِ إِلَى بَدْرٍ، يَتَجَسَّسَانِ لَهُ الْأَخْبَارَ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ وَعِيرِهِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: بَعَثَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا رَجَعَا فَأَخْبَرَاهُ بِخَبَرِ الْعِيرِ، اسْتَنْفَرَ النَّاسَ إِلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إِسْحَاقَ مَحْفُوظًا، فَقَدْ بَعَثَهُمَا مَرَّتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَدَّمَهُمَا، فَلَمَّا اسْتَقْبَلَ الصَّفْرَاءَ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، سَأَلَ عَنْ جَبَلَيْهَا: مَا أَسْمَاؤُهُمَا ؟ فَقَالُوا: يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: مُسْلِحٌ. وَلِلْآخَرِ: مُخْرِئٌ. وَسَأَلَ عَنْ أَهْلِهِمَا، فَقِيلَ: بَنُو النَّارِ، وَبَنُو حُرَاقٍ، بِطْنَانِ مِنْ غِفَارٍ. فَكَرِهَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرُورَ بَيْنَهُمَا، وَتَفَاءَلَ بِأَسْمَائِهِمَا وَأَسْمَاءِ أَهْلِهِمَا، فَتَرَكَهُمَا وَالصَّفْرَاءَ بِيَسَارٍ، وَسَلَكَ ذَاتَ الْيَمِينِ، عَلَى وَادٍ يُقَالُ لَهُ: ذَفِرَانُ فَجَزَعَ فِيهِ ثُمَّ نَزَلَ، وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ وَمَسِيرِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ وَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا

مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ، لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ ". وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَدَدُ النَّاسِ، وَأَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا بُرَآءُ مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا، فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا، فَأَنْتَ فِي ذِمَّتِنَا، نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّفُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَنْصَارُ تَرَى عَلَيْهَا نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ مِنْ عَدُوِّهِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ إِلَى عَدُوٍّ مِنْ بِلَادِهِمْ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " أَجَلْ " قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَكَ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. قَالَ: فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ وَنَشَّطَهُ. ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَأَبْشِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.

وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَشْهَدًا لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. وَلَكِنْ نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ. فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ، فَرَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُخَارِقٍ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِهِ، وَعِنْدَهُ: جَاءَ الْمِقْدَادُ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ. فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ هُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْرَجَهُ إِلَى بَدْرٍ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. وَلَكِنْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ ثُلَاثِيٌّ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ، أَنَسِ بْنِ مَالِكٍأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَ حَيْثُ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: إِيَّانَا يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبِحَارَ لَأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا، فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ. قَالَ: فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ، وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، فَيَقُولُ مَا لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، فَإِذَا ضَرَبُوهُ، قَالَ: نَعَمْ، أَنَا أُخْبِرُكُمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ. فَإِذَا تَرَكُوهُ فَسَأَلُوهُ قَالَ: مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَأُمَيَّةُ فِي النَّاسِ. فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضًا ضَرَبُوهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ انْصَرَفَ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَكُمْ، وَتَتْرُكُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا. يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. فَمَا أَمَاطَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَفَّانَ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " تَفْسِيرِهِ "، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَاللَّفْظُ لَهُ مِنْ

طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ إِنِّي أُخْبِرْتُ عَنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهَا مُقْبِلَةٌ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ قِبَلَ هَذِهِ الْعِيرِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُغْنِمُنَاهَا ؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ. فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا، فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، قَالَ لَنَا: مَا تَرَوْنَ فِي الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أُخْبِرُوا بِمَخْرَجِكُمْ فَقُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، مَا لَنَا طَاقَةٌ بِقِتَالِ الْقَوْمِ، وَلَكِنَّا أَرَدْنَا الْعِيرَ. ثُمَّ قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ ؟ فَقُلْنَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: إِذًا لَا نَقُولُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. قَالَ: فَتَمَنَّيْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لَوْ أَنَّا قُلْنَا مِثْلَ مَا قَالَ الْمِقْدَادُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَنَا مَالٌ عَظِيمٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى رَسُولِهِ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ [ الْأَنْفَالِ: 5 ] وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ، خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَوْنَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ: ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ ؟ ". فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " كَيْفَ تَرَوْنَ ؟ ". فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِيَّانَا تُرِيدُ، فَوَالَّذِي أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ

مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ، وَلَا لِي بِهَا عِلْمٌ، وَلَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكَ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ، لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَلَا نَكُونُ كَالَّذِينِ قَالُوا لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَّبِعُونَ وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ غَيْرَهُ، فَانْظُرِ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ لَهُ، فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ، وَعَادِ مَنْ شِئْتَ، وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ. فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ الْآيَاتِ. وَذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ: وَأَعْطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ، فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لِأَمْرِكَ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَفِرَانَ، فَسَلَكَ عَلَى ثَنَايَا يُقَالُ لَهَا: الْأَصَافِرُ. ثُمَّ انْحَطَّ مِنْهَا إِلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: الدَّبَةُ. وَتَرَكَ الْحَنَّانَ بِيَمِينٍ، وَهُوَ كَثِيبٌ عَظِيمٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَخْبَرْتَنَا أَخْبَرْنَاكَ ". فَقَالَ: أَوَذَاكَ بِذَاكَ ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ الشَّيْخُ: فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا - لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي، فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا - لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ قُرَيْشٌ - فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَحْنُ مِنْ مَاءٍ " ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ. قَالَ: يَقُولُ الشَّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ ؟! أَمِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ ؟ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يُقَالُ لِهَذَا الشَّيْخِ: سُفْيَانُ الضَّمْرِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ لَهُ، كَمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ، فِيهَا أَسْلَمُ غُلَامُ بَنِي الْحَجَّاجِ، وَعَرِيضٌ أَبُو يَسَارٍ غُلَامُ بَنِي الْعَاصِ بْنِ سَعِيدٍ، فَأَتَوْا بِهِمَا، فَسَأَلُوهُمَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالُوا: نَحْنُ سُقَاةُ قُرَيْشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ. فَكَرِهَ الْقَوْمُ خَبَرَهُمَا،

وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَا لِأَبِي سُفْيَانَ، فَضَرَبُوهُمَا، فَلَمَّا أَذْلَقُوهُمَا قَالَا: نَحْنُ لِأَبِي سُفْيَانَ. فَتَرَكُوهُمَا، وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا ! صَدَقَا وَاللَّهِ، إِنَّهُمَا لِقُرَيْشٍ، أَخْبِرَانِي عَنْ قُرَيْشٍ " قَالَا: هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ الَّذِي تَرَى بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى. وَالْكَثِيبُ: الْعَقَنْقَلُ. فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَمِ الْقَوْمُ ؟ " قَالَا كَثِيرٌ. قَالَ: " مَا عِدَّتُهُمْ ؟ " قَالَا: لَا نَدْرِي. قَالَ: " كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ ؟ قَالَا: يَوْمًا تِسْعًا، وَيَوْمًا عَشْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ " ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: " فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ؟ " قَالَا: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: " هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ بَسْبَسُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ قَدْ مَضَيَا حَتَّى نَزَلَا بَدْرًا، فَأَنَاخَا إِلَى تَلٍّ قَرِيبٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَا شَنًّا لَهُمَا يَسْتَقِيَانِ فِيهِ، وَمَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ عَلَى الْمَاءِ، فَسَمِعَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ جَارِيَتَيْنِ مِنْ جِوَارِي الْحَاضِرِ وَهُمَا تَتَلَازَمَانِ عَلَى الْمَاءِ، وَالْمَلْزُومَةُ تَقُولُ

لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَأَعْمَلُ لَهُمْ ثُمَّ أَقْضِيكِ الَّذِي لَكِ. قَالَ مَجْدِيُّ: صَدَقَتْ. ثُمَّ خَلَّصَ بَيْنَهُمَا. وَسَمِعَ ذَلِكَ عَدِيٌّ وَبَسْبَسٌ، فَجَلَسَا عَلَى بَعِيرَيْهِمَا، ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَاهُ بِمَا سَمِعَا، وَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذِرًا، حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَقَالَ لِمَجْدِيِّ بْنِ عَمْرٍو: هَلْ أَحْسَسْتَ ؟ أَحَدًا قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أُنْكِرُهُ، إِلَّا أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَاكِبَيْنِ قَدْ أَنَاخَا إِلَى هَذَا التَّلِّ، ثُمَّ اسْتَقَيَا فِي شَنٍّ لَهُمَا ثُمَّ انْطَلَقَا. فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ مُنَاخَهُمَا، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ. فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ سَرِيعًا، فَضَرَبَ وَجْهَ عِيرِهِ عَنِ الطَّرِيقِ، فَسَاحَلَ بِهَا وَتَرَكَ بَدْرًا بِيَسَارٍ، وَانْطَلَقَ حَتَّى أَسْرَعَ، وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا نَزَلُوا الْجُحْفَةَ، رَأَى جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ رُؤْيَا، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ، وَإِنِّي لَبَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إِذْ نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ، حَتَّى وَقَفَ وَمَعَهُ بَعِيرٌ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانٌ. فَعَدَّ رِجَالًا مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ ضَرَبَ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ إِلَّا أَصَابَهُ نَضْحٌ مِنْ دَمِهِ. فَبَلَغَتْ أَبَا جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: هَذَا أَيْضًا نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، سَيَعْلَمُ غَدًا مَنِ الْمَقْتُولُ إِنْ نَحْنُ الْتَقَيْنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ عِيرَهُ، أَرْسَلَ إِلَى

قُرَيْشٍ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ وَرِجَالَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ، فَارْجِعُوا. فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا - وَكَانَ بَدْرٌ مَوْسِمًا مِنْ مَوَاسِمِ الْعَرَبِ، يَجْتَمِعُ لَهُمْ بِهِ سُوقٌ كُلَّ عَامٍ - فَنُقِيمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرَ الْجُزُرَ، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ وَبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا، فَامْضُوا. وَقَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيُّ، وَكَانَ حَلِيفًا لِبَنِي زُهْرَةَ، وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، قَدْ نَجَّى اللَّهُ لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَخَلَّصَ لَكُمْ صَاحِبَكُمْ مَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَإِنَّمَا نَفَرْتُمْ لِتَمْنَعُوهُ وَمَالَهُ، فَاجْعَلُوا بِي جُبْنَهَا وَارْجِعُوا، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ لَكُمْ بِأَنْ تَخْرُجُوا فِي غَيْرِ ضَيْعَةٍ، لَا مَا يَقُولُ هَذَا. قَالَ: فَرَجَعُوا فَلَمْ يَشْهَدْهَا زُهْرِيٌّ وَاحِدٌ، أَطَاعُوهُ وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بَطْنٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا وَقَدْ نَفَرَ مِنْهُمْ نَاسٌ، إِلَّا بَنِي عَدِيٍّ، لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَرَجَعَتْ بَنُو زُهْرَةَ مَعَ الْأَخْنَسِ، فَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مِنْ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدٌ. قَالَ: وَمَضَى الْقَوْمُ، وَكَانَ بَيْنَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - وَكَانَ فِي الْقَوْمِ - وَبَيْنَ بَعْضِ قُرَيْشٍ مُحَاوَرَةٌ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْنَا يَا بَنِي هَاشِمٍ وَإِنْ خَرَجْتُمْ مَعَنَا، أَنَّ هَوَاكُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ. فَرَجَعَ طَالِبٌ إِلَى مَكَّةَ مَعَ مَنْ رَجَعَ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
لَاهُمَّ إِمَّا يَغْزُوَنَّ طَالِبْ فِي عُصْبَةٍ مُحَالِفٌ مُحَارِبْ فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبْ
فَلْيَكُنِ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السَّالِبْ
وَلِيَكُنِ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبْ=

ج8. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَضَتْ قُرَيْشٌ حَتَّى نَزَلُوا بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي، خَلْفَ الْعَقَنْقَلِ وَبَطْنِ الْوَادِي، وَهُوَ يَلْيَلُ بَيْنَ بَدْرٍ وَبَيْنَ الْعَقَنْقَلِ، الْكَثِيبِ الَّذِي خَلْفَهُ قُرَيْشٌ، وَالْقَلِيبُ بِبَدْرٍ، فِي الْعُدْوَةِ الدُّنْيَا مِنْ بَطْنِ يَلْيَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ السَّاحِلِ. وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [ الْأَنْفَالِ: 42 ].
وَبَعَثَ اللَّهُ السَّمَاءَ، وَكَانَ الْوَادِي دَهْسًا، فَأَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مِنْهَا مَاءٌ، لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ السَّيْرِ، وَأَصَابَ قُرَيْشًا مِنْهَا مَاءٌ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْتَحِلُوا مَعَهُ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ [ الْأَنْفَالِ: 11 ] فَذَكَرَ أَنَّهُ طَهَّرَهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَأَنَّهُ ثَبَّتَ أَقْدَامَهُمْ، وَشَجَّعَ قُلُوبَهُمْ، وَأَذْهَبَ عَنْهُمْ تَخْذِيلَ الشَّيْطَانِ، وَتَخْوِيفَهُ لِلنُّفُوسِ وَوَسْوَسَتَهُ

لِلْخَوَاطِرِ وَهَذَا تَثْبِيتُ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَأَنْزَلَ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ أَيْ عَلَى الرُّءُوسِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ أَيْ لِئَلَّا يَسْتَمْسِكَ مِنْهُمُ السِّلَاحُ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [ الْأَنْفَالِ: 12 - 14 ]
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنَ الْمَطَرِ، يَعْنِي اللَّيْلَةَ الَّتِي كَانَتْ فِي صَبِيحَتِهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي قَائِمًا يُصَلِّي، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنَ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: ( مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي

وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ. وَسَيَأْتِي هَذَا الْحَدِيثُ مُطَوَّلًا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدُرٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، فَأَطْفَأَ بِهِ الْغُبَارَ، وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَطَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ، وَثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ.
قُلْتُ: وَكَانَتْ لَيْلَةُ بَدْرٍ، لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقَدْ بَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي إِلَى جِذْمِ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، وَيُكْثِرُ فِي سُجُودِهِ أَنْ يَقُولَ: " يَا حَيَّ يَا قَيُّومَ " يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَيُلِظُّ بِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَادِرُهُمْ إِلَى الْمَاءِ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ، نَزَلَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحُدِّثْتُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَهُ وَلَا نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ؟ قَالَ: " بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ

بِمَنْزِلٍ، فَامْضِ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَأَهُ مَاءً، ثُمَّ نُقَاتِلَ الْقَوْمَ، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ
قَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: وَزَعَمَ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ الْأَقْبَاصَ، وَجِبْرِيلُ عَنْ يَمِينِهِ، إِذْ أَتَاهُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ السَّلَامُ، وَمِنْهُ السَّلَامُ، وَإِلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ إِنَّ الْأَمْرَ هُوَ الَّذِي أَمَرَكَ بِهِ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا جِبْرِيلُ هَلْ تَعْرِفُ هَذَا ؟ فَقَالَ: مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ، وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَمَا هُوَ بِشَيْطَانٍ.
فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ النَّاسِ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ، نَزَلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ، فَمُلِئَ مَاءً ثُمَّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ لَمَّا أَشَارَ بِمَا أَشَارَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَجِبْرِيلُ عِنْدَ

النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْمَلَكُ: يَا مُحَمَّدُ، رَبُّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: إِنَّ الرَّأْيَ مَا أَشَارَ بِهِ الْحُبَابُ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ، فَقَالَ: لَيْسَ كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَعْرِفُهُمْ، وَإِنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِشَيْطَانٍ. وَذَكَرَ الْأُمَوِيُّ، أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى الْقَلِيبِ الَّذِي يَلِي الْمُشْرِكِينَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَأَنَّهُمْ نَزَلُوا فِيهِ، وَاسْتَقَوْا مِنْهُ، وَمَلَئُوا الْحِيَاضَ حَتَّى أَصْبَحَتْ مِلَاءً، وَلَيْسَ لِلْمُشْرِكِينَ مَاءٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ حُدِّثَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلَّا نَبْنِيَ لَكَ عَرِيشًا تَكُونُ فِيهِ، وَنُعِدُّ عِنْدَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِنْ أَعَزَّنَا اللَّهُ وَأَظْهَرَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى، جَلَسْتَ عَلَى رَكَائِبِكَ فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بِأَشَدِّ حُبًّا لَكَ مِنْهُمْ، وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللَّهُ بِهِمْ، يُنَاصِحُونَكَ وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ. فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ، ثُمَّ بُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشٌ كَانَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ، فَأَقْبَلَتْ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَوَّبُ مِنَ الْعَقَنْقَلِ، وَهُوَ الْكَثِيبُ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ إِلَى الْوَادِي، قَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تَحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ الْغَدَاةَ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ، وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ:

إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا. قَالَ وَقَدْ كَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ، أَوْ أَبُوهُ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ الْغِفَارِيُّ، بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ ابْنًا لَهُ بِجَزَائِرَ أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نَمُدَّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ، فَعَلْنَا. قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ، أَنْ وَصَلَتْكَ رَحِمٌ وَقَدْ قَضَيْتَ الَّذِي عَلَيْكَ، فَلَعَمْرِي إِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ، مَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَإِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ اللَّهَ، كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ، فَمَا لِأَحَدٍ بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ. قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ النَّاسُ، أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُمْ فَمَا شَرِبَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا قُتِلَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، فَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلٍ نَعْقِدُهُ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَنَذْكُرُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَاوَزَهُ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ. وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ

بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا عَلَى سِتِّينَ، وَالْأَنْصَارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ نَصْرِ بْنِ بَابٍ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَدْرٍ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ سِتَّةً وَسَبْعِينَ، وَكَانَ هَزِيمَةُ أَهْلِ بَدْرٍ لِسَبْعَ عَشْرَةَ، مَضَيْنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ الْآيَةَ [ الْأَنْفَالِ: 43 ]. وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ نَامَ فِي الْعَرِيشِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ، فَدَنَا الْقَوْمُ مِنْهُمْ، فَجَعَلَ الصِّدِّيقُ يُوقِظُهُ، وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَنَوْا مِنَّا، فَاسْتَيْقِظْ. وَقَدْ أَرَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُمْ فِي مَنَامِهِ قَلِيلًا. ذَكَرَهُ الْأُمَوِيُّ. وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا [ الْأَنْفَالِ: 44 ] فَعِنْدَمَا تَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ، قَلَّلَ اللَّهُ كُلًّا مِنْهُمَا فِي أَعْيُنِ الْآخَرِينَ، لِيَجْتَرِئَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى هَؤُلَاءِ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، وَلَيْسَ هَذَا مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ

فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، أَنَّ الْفِرْقَةَ الْكَافِرَةَ تَرَى الْفِرْقَةَ الْمُؤْمِنَةَ مِثْلَيْ عَدَدِ الْكَافِرَةِ، عَلَى الصَّحِيحِ أَيْضًا، وَذَلِكَ عِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، وَالْمُسَايَفَةِ أَوْقَعَ اللَّهُ الْوَهَنَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَاسْتَدْرَجَهُمْ أَوَّلًا بِأَنْ أَرَاهُمْ إِيَّاهُمْ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ قَلِيلًا، ثُمَّ أَيَّدَ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِ، فَجَعَلَهُمْ فِي أَعْيُنِ الْكَافِرِينَ عَلَى الضِّعْفِ مِنْهُمْ، حَتَّى وَهَنُوا وَضَعُفُوا وَغُلِبُوا، وَلِهَذَا قَالَ: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ
قَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى إِنِّي لَأَقُولُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ ؟ فَقَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: لَمَّا اطْمَأَنَّ الْقَوْمُ بَعَثُوا عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ، فَقَالُوا: احْزُرْ لَنَا الْقَوْمَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ. قَالَ: فَاسْتَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ، يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ، وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَنْظُرَ، أَلِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ. قَالَ: فَضَرَبَ فِي الْوَادِي

حَتَّى أَبْعَدَ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، وَلَكِنْ قَدْ رَأَيْتُ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحَ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟! فَرَوْا رَأْيَكُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ، مَشَى فِي النَّاسِ فَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا، وَالْمُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ لَا تَزَالَ تُذْكَرُ فِيهَا بِخَيْرٍ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِكَ عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي، فَعَلَيَّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ، فَأْتِ ابْنَ الْحَنْظَلِيَّةِ - يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ - فَإِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ أَمْرَ النَّاسِ غَيْرُهُ. ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ خَطِيبًا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا، وَاللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ، لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ، أَوِ ابْنَ خَالِهِ، أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَارْجِعُوا، وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوهُ، فَذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ، أَلْفَاكُمْ وَلَمْ

تَعَرَّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ. قَالَ حَكِيمٌ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى جِئْتُ أَبَا جَهْلٍ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ نَثَلَ دِرْعًا لَهُ، فَهُوَ يُهَنِّئُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، إِنَّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ بِكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سِحْرُهُ حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَا وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةَ جَزُورٍ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ، فَقَدْ تَخَوَّفَكُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَالَ هَذَا حَلِيفُكَ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتُ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ، فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيكَ. فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ فَاكْتَشَفَ ثُمَّ صَرَخَ وَاعَمْرَاهُ وَاعَمْرَاهُ. قَالَ: فَحَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَحَقِبَ أَمْرُ النَّاسِ، وَاسْتَوْثَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ الرَّأْيَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ عُتْبَةُ. فَلَمَّا بَلَغَ عُتْبَةُ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سِحْرُهُ. قَالَ: سَيَعْلَمُ مُصَفِّرُ اسْتِهِ مَنِ انْتَفَخَ سِحْرُهُ، أَنَا أَمْ هُوَ.

ثُمَّ الْتَمَسَ عُتْبَةُ بَيْضَةً لِيُدْخِلَهَا فِي رَأْسِهِ، فَمَا وَجَدَ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعَهُ، مِنْ عِظَمِ رَأْسِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ اعْتَجَرَ عَلَى رَأْسِهِ بِبُرْدٍ لَهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ مُسَوَّرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْيَرْبُوعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، إِذْ دَخَلَ حَاجِبُهُ فَقَالَ: حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ يَسْتَأْذِنُ. قَالَ: ائْذَنْ لَهُ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: مَرْحَبًا يَا أَبَا خَالِدٍ، ادْنُ، فَحَالَ لَهُ عَنْ صَدْرِ الْمَجْلِسِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوِسَادَةِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: حَدِّثْنَا حَدِيثَ بَدْرٍ. فَقَالَ خَرَجْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْجُحْفَةِ، رَجَعَتْ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بِأَسْرِهَا، فَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْ مُشْرِكِيهِمْ بَدْرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى نَزَلْنَا الْعُدْوَةَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فَجِئْتُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ هَلْ لَكَ فِي أَنْ تَذْهَبَ بِشَرَفِ هَذَا الْيَوْمَ مَا بَقِيتَ ؟ قَالَ: أَفْعَلُ مَاذَا ؟ قُلْتُ: إِنَّكُمْ لَا تَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ إِلَّا دَمَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَهُوَ حَلِيفُكَ، فَتَحَمَّلْ بِدِيَتِهِ، وَيَرْجِعُ النَّاسُ. فَقَالَ: أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، وَاذْهَبْ إِلَى ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ، يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَرْجِعَ الْيَوْمَ بِمَنْ مَعَكَ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ ؟ فَجِئْتُهُ فَإِذَا هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَإِذَا ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: فَسَخْتُ عَقْدِي مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ، وَعَقْدِي الْيَوْمَ إِلَى بَنِي مَخْزُومٍ. فَقُلْتُ لَهُ: يَقُولُ لَكَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: هَلْ لَكَ أَنْ

تَرْجِعَ الْيَوْمَ عَنِ ابْنِ عَمِّكَ بِمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ: أَمَا وَجَدَ رَسُولًا غَيْرَكَ ؟ قُلْتُ: لَا، وَلَمْ أَكُنْ لِأَكُونَ رَسُولًا لِغَيْرِهِ. قَالَ: حَكِيمٌ فَخَرَجْتُ مُبَادِرًا إِلَى عُتْبَةَ لِئَلَّا يَفُوتَنِي مِنَ الْخَبَرِ شَيْءٌ، وَعُتْبَةُ مُتَّكِئٌ عَلَى إِيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ الْغِفَارِيِّ، وَقَدْ أَهْدَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ عَشْرَ جَزَائِرَ، فَطَلَعَ أَبُو جَهْلٍ وَالشَّرُّ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لِعُتْبَةَ: انْتَفَخَ سِحْرُكَ فَقَالَ لَهُ عُتْبَةُ: سَتَعْلَمُ. فَسَلَّ أَبُو جَهْلٍ سَيْفَهُ، فَضَرَبَ بِهِ مَتْنَ فَرَسِهِ. فَقَالَ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ: بِئْسَ الْفَأْلُ هَذَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَامَتِ الْحَرْبُ.
وَقَدْ صَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَعَبَّأَهُمْ أَحْسَنَ تَعْبِئَةً، فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: صَفَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ لَيْلًا.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ أَسْلَمَ أَبَا عِمْرَانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ يَقُولُ: ( صُفِفْنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَبَدَرَتْ مِنَّا بَادِرَةٌ أَمَامَ الصَّفِّ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " مَعِي مَعِي " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حَبَّانُ بْنُ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ أَشْيَاخٍ

مِنْ قَوْمِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّلَ صُفُوفَ أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِي يَدِهِ قِدْحٌ يُعَدِّلُ بِهِ الْقَوْمَ، فَمَرَّ بِسَوَادِ بْنِ غَزِيَّةَ حَلِيفِ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ مُسْتَنْتِلٌ مِنَ الصَّفِّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ بِالْقِدْحِ وَقَالَ: " اسْتَوِ يَا سَوَادُ ". فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، فَأَقِدْنِي. فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ، فَقَالَ: " اسْتَقِدْ " قَالَ: فَاعْتَنَقَهُ فَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فَقَالَ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الْعَهْدِ بِكَ، أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ وَقَالَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ عَوْفَ بْنَ الْحَارِثِ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ، قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ ؟ قَالَ: غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَهَا، ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَدَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفُوفَ، وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ فَدَخَلَهُ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاقِفًا

عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ مُتَقَلِّدًا بِالسَّيْفِ، وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَدْهَمَهُ الْعَدُوُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَالْجَنَائِبُ النَّجَائِبُ مُهَيَّأَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا رَكِبَهَا وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، كَمَا أَشَارَ بِهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ.
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي مَا بَارَزَنِي أَحَدٌ إِلَّا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ هُوَ أَبُو بَكْرٍ، إِنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِيشًا، فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِئَلَّا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَوَاللَّهِ مَا دَنَا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَهْوِي إِلَيْهِ أَحَدٌ، إِلَّا أَهْوَى إِلَيْهِ، فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ، فَهَذَا يَجَؤُهُ، وَهَذَا يُتَلْتِلُهُ، وَيَقُولُونَ: أَنْتَ جَعَلْتَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا. فَوَاللَّهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ، يَضْرِبُ هَذَا، وَيَجَأُ هَذَا، وَيُتَلْتِلُ هَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ: رَبِّيَ اللَّهُ. ثُمَّ رَفَعَ عَلِيٌّ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، فَبَكَى حَتَّى اخْضَلَّتْ

لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: فَوَاللَّهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، خَيْرٌ مِنْ مَلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لِلصِّدِّيقِ حَيْثُ هُوَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ، كَمَا كَانَ مَعَهُ فِي الْغَارِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الِابْتِهَالَ وَالتَّضَرُّعَ وَالدُّعَاءَ، وَيَقُولُ: فِيمَا يَدْعُو بِهِ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ، لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ " وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ نَصْرَكَ ". وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُسَوِّي عَلَيْهِ رِدَاءَهُ، وَيَقُولُ مُشْفِقًا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الِابْتِهَالِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
هَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ الصِّدِّيقَ إِنَّمَا قَالَ: بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ، لِمَا رَأَى مِنْ نَصَبِهِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ: بَعْضَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ لِمَ تُتْعِبُ نَفْسَكَ هَذَا التَّعَبَ، وَاللَّهُ قَدْ وَعَدَكَ بِالنَّصْرِ. وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَقِيقَ الْقَلْبِ، شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ، وَالصِّدِّيقُ فِي مَقَامِ الرَّجَاءِ، وَكَانَ مَقَامُ الْخَوْفِ فِي هَذَا الْوَقْتِ. يَعْنِي أَكْمَلَ. قَالَ: لِأَنَّ لِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ، فَخَافَ أَنْ لَا يُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ بَعْدَهَا، فَخَوْفُهُ ذَلِكَ عِبَادَةٌ.
قُلْتُ: وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ هَذَا الْمَقَامَ، فِي مُقَابَلَةِ مَا كَانَ يَوْمَ الْغَارِ. فَهُوَ قَوْلٌ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ، إِذْ لَمْ يَتَدَبَّرْ هَذَا الْقَائِلُ عَوَرَ مَا قَالَ، وَلَا لَازِمَهُ، وَلَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا وَقَدْ تَوَاجَهَ الْفِئَتَانِ، وَتَقَابَلَ الْفَرِيقَانِ، وَحَضَرَ الْخَصْمَانِ، بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، وَاسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ سَيِّدُ الْأَنْبِيَاءِ، وَضَجَّ الصَّحَابَةُ بِصُنُوفِ الدُّعَاءِ، إِلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، سَامِعِ الدُّعَاءِ وَكَاشِفِ الْبَلَاءِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلًا شَرِسًا سَيِّئَ الْخُلُقِ فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ

لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لَأَهْدِمَنَّهُ، أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ. فَلَمَّا خَرَجَ، خَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ، فَأَطَنَّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ وَهُوَ دُونَ الْحَوْضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ، تَشْخُبُ رِجْلُهُ دَمًا نَحْوَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ حَبَا إِلَى الْحَوْضِ حَتَّى اقْتَحَمَ فِيهِ، يُرِيدُ - زَعَمَ - أَنْ يُبِرَّ يَمِينَهُ، وَاتَّبَعَهُ حَمْزَةُ، فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ.
قَالَ الْأُمَوِيُّ: فَحَمِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ شَجَاعَتَهُ، فَبَرَزَ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، دَعَوْا إِلَى الْبِرَازِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِتْيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ثَلَاثَةٌ، وَهُمْ: عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ، وَأُمَّهُمَا عَفْرَاءُ، وَالثَّالِثُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فِيمَا قِيلَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، وَلَكِنْ أَخْرِجُوا إِلَيْنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا. وَنَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عَلِيُّ ". وَعِنْدَ الْأُمَوِيِّ، أَنَّ النَّفَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمَّا خَرَجُوا، كَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَوْقِفٍ وَاجَهَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْدَاءَهُ، فَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أُولَئِكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ، فَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ، وَأَمَرَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ بِالْخُرُوجِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُمْ قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ ؟ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا مُلَبَّسِينَ، لَا يُعْرَفُونَ مِنَ السِّلَاحِ - فَقَالَ عُبَيْدَةُ: عُبَيْدَةُ. وَقَالَ حَمْزَةُ: حَمْزَةُ وَقَالَ عَلِيٌّ: عَلِيٌّ. قَالُوا نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ. فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ، وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ، عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ. فَأَمَّا حَمْزَةُ، فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ، وَأَمَّا عَلِيٌّ، فَلَمْ يُمْهِلِ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا بِضَرْبَتَيْنِ، كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، وَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ، فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [ الْحَجِّ: 19 ] نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ، يَوْمَ بَرَزُوا فِي بَدْرٍ. هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي، ثَنَا أَبُو مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي الْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ. وَقَدْ أَوْسَعْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ قَالَ: بَرَزَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ، وَبَرَزَ إِلَيْهِمْ حَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَعَلِيٌّ، فَقَالُوا: تَكَلَّمُوا نَعْرِفْكُمْ. فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنَا أَسَدُ اللَّهِ، وَأَسَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ: كُفْءٌ كَرِيمٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، وَأَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عُبَيْدَةُ: أَنَا الَّذِي فِي الْحُلَفَاءِ. فَقَامَ كُلُّ رَجُلٍ إِلَى رَجُلٍ، فَقَاتَلُوهُمْ فَقَتَلَهُمُ اللَّهُ. فَقَالَتْ هِنْدُ فِي ذَلِكَ:
أَعَيْنَيَّ جُودَا بِدَمْعٍ سَرِبْ عَلَى خَيْرِ خِنْدِفَ لَمْ يَنْقَلِبْ
تَدَاعَى لَهُ رَهْطُهُ غُدْوَةً بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبْ
يُذِيقُونَهُ حَدَّ أَسْيَافِهِمْ يَعُلُّونَهُ بَعْدَ مَا قَدْ عَطِبَ

وَلِهَذَا نَذَرَتْ هِنْدُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ حَمْزَةَ.
قُلْتُ: وَعُبَيْدَةُ هَذَا هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَمَّا جَاءُوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْجَعُوهُ إِلَى جَانِبِ مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفْرَشَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَمَهُ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى قَدَمِهِ الشَّرِيفَةِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ رَآنِي أَبُو طَالِبٍ، لَعَلِمَ أَنِّي أَحَقُّ بِقَوْلِهِ:
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
ثُمَّ مَاتَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْهَدُ أَنَّكَ شَهِيدٌ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ، مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُتِلَ، ثُمَّ رُمِيَ بَعْدَهُ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، أَحَدُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ نَحْرَهُ فَمَاتَ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ حَارِثَةَ بْنَ سُرَاقَةَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ،

وَكَانَ فِي النَّظَّارَةِ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ حَارِثَةَ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِلَّا فَلَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. يَعْنِي مِنَ النِّيَاحِ، وَكَانَتْ لَمْ تُحَرَّمْ بَعْدُ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْحَكِ أَهَبِلْتِ، إِنَّهَا جِنَانٌ ثَمَانٍ، وَإِنَّ ابْنَكَ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ تَزَاحَفَ النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، وَقَالَ: إِنِ اكْتَنَفَكُمُ الْقَوْمُ فَانْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِذَا أَكْثَبُوكُمْ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ - فَارْمُوهُمْ وَاسْتَبْقُوا نَبْلَكُمْ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ

عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ. وَشِعَارَ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ. وَسَمَّى خَيْلَهُ: خَيْلَ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ شِعَارُ الصَّحَابَةِ يَوْمَ بَدْرٍ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ، مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي، وَهُوَ يَسْتَغِيثُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ الْأَنْفَالِ: 10، 9 ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ، ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، ثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنَّ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ

مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَلَا تُعْبَدُ بَعْدُ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا قَالَ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثَ رَبَّهُ وَيَدْعُوهُ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَرَدَّهُ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ الْيَمَانِيِّ، وَصَحَّحَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَهَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأُمَوِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَجُّوا إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي الِاسْتِغَاثَةِ بِجَنَابِهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ أَيْ رِدْفًا لَكُمْ وَمَدَدًا لِفِئَتِكُمْ. رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ قَابُوسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مُرْدِفِينَ وَرَاءَ كُلِّ مَلَكٍ

مَلَكٌ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: مُرْدِفِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى أَثَرِ بَعْضٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو ظَبْيَانَ، وَالضَّحَاكُ وَقَتَادَةُ. وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ: وَأَمَدَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةِ مُجَنِّبَةٍ، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مُجَنِّبَةٍ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ.
وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعُزَيْزِ بْنُ عِمْرَانَ، عَنِ الزَّمْعِيِّ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:نَزَلَ جِبْرِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْمَنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَنْ مَيْسَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي الْمَيْسَرَةِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ، فَزَادَ:وَنَزَلَ إِسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ طَعَنَ يَوْمَئِذٍ بِالْحَرْبَةِ حَتَّى اخْتَضَبَتْ إِبِطُهُ مِنَ الدِّمَاءِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ نَزَلَتْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَهَذَا غَرِيبٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ فِيهِ تَقْوِيَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَيُؤَيِّدُهَا قِرَاءَةُ مَنْ

قَرَأَ: " بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ " بِفَتْحِ الدَّالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَوْهَبٍ، أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَوْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ جِئْتُ مُسْرِعًا لِأَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فَعَلَ. قَالَ: فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ. لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا، فَذَهَبْتُ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ أَيْضًا، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى يَدِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبِي عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ بِهِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مَسْعُودٍ قَالَ:مَا سَمِعْتُ مُنَاشِدًا يَنْشُدُ أَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تُعْبَدُ، ثُمَّ الْتَفَتَ وَكَأَنَّ شِقَّ وَجْهِهِ الْقَمَرُ، وَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ عَشِيَّةً رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَقَالَ:لَمَّا الْتَقَيْنَا يَوْمَ بَدْرٍ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَمَا رَأَيْتُ مُنَاشِدًا يَنْشُدُ حَقًّا لَهُ، أَشَدَّ مُنَاشَدَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ إِخْبَارُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِمَوَاضِعِ مَصَارِعِ رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمُقْتَضَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْوَقْعَةِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَنْ أَنَسٍ وَعُمَرَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ ذَلِكَ، بِأَنْ يُخْبِرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَأَكْثَرَ، وَأَنْ يُخْبِرَ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَاعَةٍ يَوْمَ الْوَقْعَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ

وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا. فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ، وَهُوَ يَقُولُ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [ الْقَمَرِ: 46، 45 ] وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقَدْ جَاءَ تَصْدِيقُهَا يَوْمَ بَدْرٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ قَالَ عُمَرُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ ؟! وَأَيُّ جَمْعٍ يُغْلَبُ ؟! قَالَ عُمَرُ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي الدِّرْعِ وَهُوَ يَقُولُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فَعَرَفْتُ تَأْوِيلَهَا يَوْمَئِذٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَانَ، سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاشِدُ رَبَّهُ مَا وَعَدَهُ مِنَ النَّصْرِ، وَيَقُولُ فِيمَا يَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدُ " وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، فَإِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ. وَقَدْ خَفَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَفْقَةً وَهُوَ فِي الْعَرِيشِ ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ:

أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ. يَعْنِي الْغُبَارَ.
قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ فَحَرَّضَهُمْ وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ، فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَفِي يَدِهِ تَمَرَاتٌ يَأْكُلُهُنَّ: بَخٍ بَخٍ أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ أَنْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلَاءِ ؟! قَالَ: ثُمَّ قَذَفَ التَّمَرَاتِ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ ثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَسْبَسَةَ عَيْنًا، يَنْظُرُ مَا صَنَعَتْ عِيرُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَاءَ وَمَا فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا أَدْرِي مَا اسْتَثْنَى مِنْ بَعْضِ نِسَائِهِ - قَالَ: فَحَدَّثَهُ الْحَدِيثَ قَالَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ فَتَكَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ لَنَا طَلِبَةً، فَمَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا فَلْيَرْكَبْ مَعَنَا فَجَعَلَ رِجَالٌ يَسْتَأْذِنُونَهُ فِي ظُهُورِهِمْ فِي عُلْوِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: لَا، إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ

حَاضِرًا، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَقَدَّمَنْ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُوذِنُهُ. فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بَخٍ بَخٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا حَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. قَالَ: فَرَمَى مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ، وَجَمَاعَةٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَيْرًا قَاتَلَ وَهُوَ يَقُولُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
رَكْضًا إِلَى اللَّهِ بِغَيْرِ زَادِ إِلَّا التُّقَى وَعَمَلِ الْمَعَادِ
وَالصَّبْرِ فِي اللَّهِ عَلَى الْجِهَادِ وَكُلُّ زَادٍ عُرْضَةُ النَّفَادِ
غَيْرَ التُّقَى وَالْبِرِّ وَالرَّشَادِ

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا، سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، وَبَدْرٌ بِئْرٌ، فَسَبَقْنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا، فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا الْمَوْلَى فَأَخَذْنَاهُ، فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ، شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ. فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ، حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ ؟ قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ. فَجَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ، فَأَبَى، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ: كَمْ يَنْحَرُونَ مِنَ الْجُزُرِ ؟ فَقَالَ: عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ، لِمِائَةٍ وَتَبَعِهَا " ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ

وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ، لَا تُعْبَدُ " فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى: " الصَّلَاةَ عِبَادَ اللَّهِ " فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ، فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنَ الْجَبَلِ. فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ، إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ، يَسِيرُ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَلِيُّ، نَادِ لِي حَمْزَةَ - وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ ؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا قَوْمُ إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ، لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ، يَا قَوْمُ، اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي، وَقُولُوا: جَبُنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ ؟! وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُهُ لَأَعْضَضْتُهُ، قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا، فَقَالَ: إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ ؟! سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ. فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَابْنُهُ الْوَلِيدُ، حَمِيَّةً، فَقَالُوا: مَنْ يُبَارِزُ ؟ فَخَرَجَ فِتْيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ شَبَبَةٌ،

فَقَالَ عُتْبَةُ لَا نُرِيدُ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا عَلِيُّ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ، وَقُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ. فَقَتَلَ اللَّهُ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ، فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ، وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ، وَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ، مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ. قَالَ: فَأَسَرْنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، الْعَبَّاسَ، وَعَقِيلًا، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ. هَذَا سِيَاقٌ حَسَنٌ، وَفِيهِ شَوَاهِدُ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ تَفَرَّدَ بِطُولِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ بَعْضَهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ بِهِ.
وَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرِيشِ، وَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، وَالنَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ صَابِرِينَ، ذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا الْآيَةَ. [ الْأَنْفَالِ: 45 ]
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ

الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ يُقَالُ: قَلَّمَا ثَبَتَ قَوْمٌ قِيَامًا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَجْلِسَ، أَوْ يَغُضَّ طَرْفَهُ، وَيَذْكُرَ اللَّهَ، رَجَوْتُ أَنْ يَسْلَمَ مِنَ الرِّيَاءِ.
وَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَصْحَابِهِ: أَلَّا تَرَوْنَهُمْ، يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِثِيًّا عَلَى الرُّكَبِ، كَأَنَّهُمْ حَرَسٌ يَتَلَمَّظُونَ كَمَا تَتَلَمَّظُ الْحَيَّاتُ. أَوْ قَالَ: الْأَفَاعِي.
قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ ": وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ حَرَّضَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ، قَدْ نَفَلَ كُلَّ امْرِئٍ مَا أَصَابَ، وَقَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ، فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. وَذَكَرَ قِصَّةَ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ قَاتَلَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ قِتَالًا شَدِيدًا بِبَدَنِهِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، كَمَا كَانَا فِي الْعَرِيشِ يُجَاهِدَانِ بِالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، ثُمَّ نَزَلَا، فَحَرَّضَا وَحَثَّا عَلَى الْقِتَالِ، وَقَاتِلَا بِالْأَبْدَانِ، جَمْعًا بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَقْرَبُنَا مِنَ الْعَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:

كُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ، اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ لَعَلِيٍّ وَلِأَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ بَدْرٍ: مَعَ أَحَدِكُمَا جِبْرِيلُ، وَمَعَ الْآخَرِ مِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ مَلَكٌ عَظِيمٌ، يَشْهَدُ الْقِتَالَ وَلَا يُقَاتِلُ. أَوْ قَالَ: يَشْهَدُ الصَّفَّ.
وَهَذَا يُشْبِهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ فِي الْمَيْمَنَةِ، وَلَمَّا تَنَزَّلَ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ تَنْزِيلًا، كَانَ جِبْرِيلُ عَلَى أَحَدِ الْمُجَنِّبَتَيْنِ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ فِي الْمَيْمَنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ مِيكَائِيلُ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَوَقَفُوا فِي الْمَيْسَرَةِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِيهَا.
وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ أَمْتَحُ عَلَى الْقَلِيبِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، ثُمَّ أُخْرَى، ثُمَّ أُخْرَى، فَنَزَلَ مِيكَائِيلُ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَوَقَفَ عَلَى يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَاكَ أَبُو بَكْرٍ، وَإِسْرَافِيلُ فِي أَلْفٍ فِي الْمَيْسَرَةِ وَأَنَا فِيهَا، وَجِبْرِيلُ فِي

أَلْفٍ. قَالَ: وَلَقَدْ طَعَنْتُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى بَلَغَ الدَّمُ إِبِطِي.
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ " الْعِقْدِ " وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَفْخَرَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ، قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَكُفُّ مَطِيَّهُمْ جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ ؟ قَالَ: " مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ " - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ يَعْنِي الرُّءُوسَ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [ الْأَنْفَالِ: 12 ]
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ،

حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍقَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتُ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ. إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ قَدْ خَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ ذَاكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، قَالَ: حَضَرْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي بَدْرًا، وَنَحْنُ عَلَى شِرْكِنَا، فَإِنَّا لَفِي جَبَلٍ نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّبْرَةُ، فَنَنْتَهِبُ، فَأَقْبَلَتْ سَحَابَةٌ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْجَبَلِ، سَمِعْنَا مِنْهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ، وَسَمِعْنَا فَارِسًا يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ. فَأَمَّا صَاحِبِي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ، فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكِدْتُ أَنْ أَهْلِكَ، ثُمَّ انْتَعَشْتُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي

سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: لَوْ كُنْتُ الْيَوْمَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي، لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ فِيهِ وَلَا أَتَمَارَى.
فَلَمَّا نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ وَرَآهَا إِبْلِيسُ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ الْأَنْفَالِ: 12 ] وَتَثْبِيتُهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَأْتِي الرَّجُلَ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ يَعْرِفُهُ، فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرُوا فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، وَاللَّهُ مَعَكُمْ كُرُّوا عَلَيْهِمْ. وَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ الْمَلَائِكَةَ، نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ [ الْأَنْفَالِ: 48 ] وَهُوَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ، وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ يُحَرِّضُ أَصْحَابَهُ وَيَقُولُ: لَا يَهُولَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مَوْعِدٍ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَا نَرْجِعُ حَتَّى نُفَرِّقَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي الْجِبَالِ، فَلَا تَقْتُلُوهُمْ وَخُذُوهُمْ أَخْذًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمَلَكُ يَتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ مَنْ يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ دَنَوْتُ مِنْهُمْ وَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ حَمَلُوا عَلَيْنَا مَا ثَبَتْنَا. لَيْسُوا بِشَيْءٍ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ سَلَامَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي

حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ، بَعْدَمَا ذَهَبَ بَصَرُهُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ بِبَدْرٍ، ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّهُ بَصَرِي، لَأَرَيْتُكَ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَمَارٍ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِرَأْسِ فَرَسِهِ، وَعَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدَّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أُكَيْمَةَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالُوا: لَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعٌ يَدَيْهِ، يَسْأَلُ اللَّهَ النَّصْرَ وَمَا وَعَدَهُ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ ظَهَرُوا عَلَى هَذِهِ الْعِصَابَةِ، ظَهَرَ الشِّرْكُ، وَلَا يَقُومُ لَكَ دِينٌ. وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّكَ اللَّهُ، وَلَيُبَيِّضَنَّ وَجْهَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ، عِنْدَ أَكْتَافِ الْعَدُوِّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ

صَفْرَاءَ، آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَلَمَّا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ تَغَيَّبَ عَنِّي سَاعَةً، ثُمَّ طَلَعَ وَعَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ، يَقُولُ: أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ إِذْ دَعَوْتَهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ، فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَالِدِي، حَدَّثَنِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَازِنٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَضْرِبَهُ، فَوَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّ غَيْرِي قَدْ قَتَلَهُ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ قَتْلَى الْمَلَائِكَةِ مِمَّنْ قَتَلُوهُمْ، بِضَرْبٍ فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَعَلَى الْبَنَانِ، مِثْلَ سِمَةِ النَّارِ وَقَدْ أُحْرِقَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْخَوْهَا عَلَى ظُهُورِهِمْ

إِلَّا جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ كَانَتْ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ مِنَ الْأَيَّامِ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عُدَدًا وَمَدَدًا، لَا يَضْرِبُونَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَوْلًى لِسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، سَمِعْتُ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُعْلِمِينَ، يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَكَانَ أَبُو أُسَيْدٍ يُحَدِّثُ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَصَرُهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْآنَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي، لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ وَلَا أَمْتَرِي.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجِبْرِيلَ: مَنِ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، مَا كُلَّ أَهْلِ السَّمَاءِ أَعْرِفُ.

قُلْتُ: وَهَذَا الْأَثَرُ مُرْسَلٌ وَهُوَ يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَيْزُومَ اسْمُ فَرَسِ جِبْرِيلَ، كَمَا قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فَمَا أَدْرِي كَمْ يَدٍ مَقْطُوعَةٍ، وَضَرْبَةٍ جَائِفَةٍ لَمْ يَدْمَ كَلْمُهَا، قَدْ رَأَيْتُهَا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: جِئْتُ يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثَةِ أَرْؤُسٍ، فَوَضَعْتُهُنَّ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: أَمَّا رَأْسَانِ فَقَتَلْتُهُمَا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا طَوِيلًا ضَرَبَهُ، فَتَدَهْدَى أَمَامَهُ، فَأَخَذْتُ رَأْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ فُلَانٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ السَّائِبُ بْنُ أَبِي حُبَيْشٍ يُحَدِّثُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَيُقَالُ: فَمَنْ ؟ يَقُولُ: لَمَّا انْهَزَمَتْ قُرَيْشٌ، انْهَزَمْتُ مَعَهَا فَأَدْرَكَنِي رَجُلٌ أَبْيَضُ

طَوِيلٌ، عَلَى فَرَسٍ أَبْيَضَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَأَوْثَقَنِي رِبَاطًا، وَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَوَجَدَنِي مَرْبُوطًا، فَنَادَى فِي الْعَسْكَرِ: مَنْ أَسَرَ هَذَا ؟ حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ أَسَرَكَ ؟ قُلْتُ: لَا أَعْرِفُهُ. وَكَرِهْتُ أَنْ أُخْبِرَهُ بِالَّذِي رَأَيْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسَرَكَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، اذْهَبْ يَا ابْنَ عَوْفٍ بِأَسِيرِكَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَائِذُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْحُوَيْرِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أُكَيْمَةَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ وَقَعَ بِوَادِي خَلْصٍ بِجَادٌ مِنَ السَّمَاءِ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ، فَإِذَا الْوَادِي يَسِيلُ نَمْلًا فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّ هَذَا شَيْءٌ مِنَ السَّمَاءِ أُيِّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَمَا كَانَتْ إِلَّا الْهَزِيمَةُ، وَهِيَ الْمَلَائِكَةُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْلَ هَزِيمَةِ

الْقَوْمِ، وَالنَّاسُ يَقْتَتِلُونَ، مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ قَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مِثْلَ النَّمْلِ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ.
وَلَمَّا تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لِلنَّصْرِ، وَرَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَبَشَّرَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ وَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جِبْرِيلُ يَقُودُ فَرَسَهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ. يَعْنِي مِنَ الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَرِيشِ فِي الدِّرْعِ، فَجَعَلَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، وَيُبَشِّرُ النَّاسَ بِالْجَنَّةِ، وَيُشَجِّعُهُمْ بِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسُ بَعْدُ عَلَى مَصَافِّهِمْ لَمْ يَحْمِلُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، حَصَلَ لَهُمُ السَّكِينَةُ وَالطُّمَأْنِينَةُ، وَقَدْ حَصَلَ النُّعَاسُ الَّذِي هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالثَّبَاتِ وَالْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ إِذْ يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ أَمَنَةً مِنْهُ [ الْأَنْفَالِ: 11 ]
وَهَذَا كَمَا حَصَلَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: النُّعَاسُ فِي الْمَصَافِّ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ النِّفَاقِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَنْفَالِ: 19 ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،

حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ. فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ. وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، مِنْ طَرِيقِ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَيْضًا، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ مُطَرِّفٍ، فِي قَوْلِهِ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعَزَّ الْفِئَتَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَأَكْثَرَ الْفَرِيقَيْنِ. فَنَزَلَتْ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [ الْأَنْفَالِ: 7 ] قَالَ: أَقْبَلَتْ عِيرُ أَهْلِ مَكَّةَ تُرِيدُ الشَّامَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَخَرَجُوا وَمَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُونَ الْعِيرَ،

فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ إِلَيْهَا، لِكَيْلَا يَغْلِبَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَسَبَقَتِ الْعِيرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ أَنْ يَلْقَوُا الْعِيرَ، وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ الْقَوْمَ، وَكَرِهَ الْقَوْمُ مَسِيرَهُمْ لِشَوْكَةِ الْقَوْمِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ شَدِيدٌ، وَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْقَنَطَ، يُوَسْوِسُهُمْ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ كَذَا ؟! فَأَمْطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ، فَصَارَ الرَّمْلُ لَبْدًا، وَمَشَى النَّاسُ عَلَيْهِ وَالدَّوَابُّ، فَسَارُوا إِلَى الْقَوْمِ، وَأَيَّدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ جِبْرِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنِّبَةً، وَمِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُجَنِّبَةً، وَجَاءَ إِبْلِيسُ فِي جُنْدِ الشَّيَاطِينِ وَمَعَهُ رَايَتُهُ، وَهُمْ فِي صُورَةِ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لِلْمُشْرِكِينَ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ [ الْأَنْفَالِ: 48 ] فَلَمَّا اصْطَفَّ النَّاسُ قَالَ

أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ. وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فَقَالَ: يَا رَبِّ، إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ. فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا وُجُوهَهُمْ، فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَأَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ تُرَابٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، انْتَزَعَ إِبْلِيسُ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ، أَمَا زَعَمْتَ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ ؟ قَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [ الْأَنْفَالِ: 48 ] وَذَلِكَ حِينَ رَأَى الْمَلَائِكَةَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مَسْعَدَةُ بْنُ سَعْدٍ الْعَطَّارِ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا تَفْعَلُ الْمَلَائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ إِلَيْهِ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ، فَوَكَزَ فِي صَدْرِ الْحَارِثِ فَأَلْقَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ هَارِبًا حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظِرَتَكَ إِيَّايَ. وَخَافَ أَنْ يَخْلُصَ الْقَتْلُ إِلَيْهِ. وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ

النَّاسِ، لَا يَهُولَنَّكُمْ خِذْلَانُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا يَهُولَنَّكُمْ قَتْلُ شَيْبَةَ وَعُتْبَةَ وَالْوَلِيدِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَجَّلُوا، فَوَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا نَرْجِعُ حَتَّى نُفَرِّقَهُمْ بِالْحِبَالِ، فَلَا أُلْفِيَنَّ رَجُلًا مِنْكُمْ قَتَلَ رَجُلًا، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخْذًا حَتَّى تُعَرِّفُوهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ إِيَّاكُمْ، وَرَغْبَتِهِمْ عَنِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى. ثُمَّ قَالَ أَبُو جَهْلٍ مُتَمَثِّلًا:
مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الشَّمُوسُ مِنِّي بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي
لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي حَثْمَةَ، سَمِعْتُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ يَسْأَلُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، فَجَعَلَ الشَّيْخُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ حَكِيمٌ: الْتَقَيْنَا فَاقْتَتَلْنَا، فَسَمِعْتُ صَوْتًا وَقَعَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، مِثْلَ وَقْعَةِ الْحَصَاةِ فِي الطَّسْتِ، وَقَبَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَبْضَةَ التُّرَابَ، فَرَمَى بِهَا فَانْهَزَمْنَا.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، سَمِعْتُ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ يَقُولُ: انْهَزَمْنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَسْمَعُ صَوْتًا كَوَقْعِ الْحَصَى فِي الطِّسَاسِ، فِي أَفْئِدَتِنَا وَمِنْ خَلْفِنَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَشَدِّ الرُّعْبِ عَلَيْنَا.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، ثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَقَطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ. فَكَانَ هُوَ الْمُسْتَفْتِحَ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَقَدْ شَجَّعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ، وَقَلَّلَهُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حَتَّى طَمِعُوا فِيهِمْ، خَفَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَفْقَةً فِي الْعَرِيشِ، ثُمَّ انْتَبَهَ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَتِهِ، آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ، أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ وَعِدَتُهُ. وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ كَفًّا مِنَ الْحَصَى بِيَدِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ " ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: احْمِلُوا فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا الْهَزِيمَةُ، فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ

صَنَادِيدِهِمْ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْهُمْ.
وَقَالَ زِيَادٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ. ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: شُدُّوا. فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ فَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ يَوْمَ بَدْرٍ: أَعْطِنِي حَصًى مِنَ الْأَرْضِ. فَنَاوَلَهُ حَصًى عَلَيْهِ تُرَابٌ، فَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا دَخَلَ فِي عَيْنَيْهِ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ شَيْءٌ، ثُمَّ رَدِفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَأْسِرُونَهُمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَهَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَدْ فَعَلَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِثْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّضَ أَصْحَابَهُ عَلَى الْقِتَالِ، وَرَمَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا رَمَاهُمْ بِهِ مِنَ التُّرَابِ، وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، صَعِدَ إِلَى الْعَرِيشِ أَيْضًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَوَقَفَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى بَابِ

الْعَرِيشِ وَمَعَهُمُ السُّيُوفُ، خِيفَةَ أَنْ تَكُرَّ رَاجِعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ يَأْسِرُونَ، رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا ذُكِرَ لِي، فِي وَجْهِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْكَرَاهِيَةَ لِمَا يَصْنَعُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي بِكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ الْقَوْمُ ؟ قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَةٍ أَوْقَعَهَا اللَّهُ بِأَهْلِ الشِّرْكِ فَكَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كَرْهًا، لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا. فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ، وَاللَّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأَلْحِمَنَّهُ بِالسَّيْفِ. فَبَلَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِعُمَرَ: يَا أَبَا حَفْصٍ - قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ كَنَّانِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي حَفْصٍ - أَيُضْرَبُ

وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ ؟! فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ نَافَقَ. فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ: مَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا إِلَّا أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي الشَّهَادَةُ. فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

مَقْتَلُ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ بْنِ هِشَامٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، لِأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ، كَانَ لَا يُؤْذِيهِ وَلَا يَبْلُغُهُ عَنْهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، وَكَانَ مِمَّنْ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ، فَلَقِيَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا عَنْ قَتْلِكَ. وَمَعَ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ زَمِيلٌ لَهُ خَرَجَ مَعَهُ مِنْ مَكَّةَ، وَهُوَ جُنَادَةُ ابْنُ مُلَيْحَةَ، وَهُوَ مِنْ بَنِي لَيْثٍ. قَالَ: وَزَمِيلِي ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجَذَّرُ: لَا وَاللَّهِ، مَا نَحْنُ بِتَارِكِي زَمِيلِكَ، مَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِكَ وَحْدَكَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِذًا لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ جَمِيعًا، لَا يَتَحَدَّثُ عَنِّي نِسَاءُ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ. وَقَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ وَهُوَ يُنَازِلُ الْمُجَذَّرَ:
لَنْ يُسْلِمَ ابْنُ حُرَّةٍ زَمِيلَهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهُ
قَالَ: فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ
إِمَّا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبِي فَأَثْبِتِ النِّسْبَةَ إِنِّي مِنْ بَلِي
الطَّاعِنِينَ بِرِمَاحِ الْيَزَنِي وَالضَّارِبِينَ الْكَبْشَ حَتَّى يَنْحَنِي

بَشِّرْ بِيُتْمٍ مَنْ أَبُوهُ الْبَخْتَرِي أَوْ بَشِّرَنْ بِمِثْلِهَا مِنِّي بَنِي
أَنَا الَّذِي يُقَالُ أَصْلِي مِنْ بَلِي أَطْعَنُ بِالصَّعْدَةِ حَتَّى تَنْثَنِي
وَأَعْبِطُ الْقِرْنَ بِعَضْبٍ مَشْرَفِي أُرْزِمُ لِلْمَوْتِ كَإِرْزَامِ الْمَرِي
فَلَا يَرَى مُجَذَّرًا يَفْرِي فَرِي
ثُمَّ أَتَى الْمُجَذَّرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَقَدْ جَهِدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ فَآتِيكَ بِهِ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَنِي، فَقَاتَلْتُهُ فَقَتَلْتُهُ.

فَصْلٌ فِي مَقْتَلِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، وَحَدَّثَنِيهِ أَيْضًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرُهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ لِي صَدِيقًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ اسْمِي عَبْدَ عَمْرٍو، فَتَسَمَّيْتُ حِينَ أَسْلَمْتُ: عَبْدَ الرَّحْمَنِ. فَكَانَ يَلْقَانِي إِذْ نَحْنُ بِمَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، أَرَغِبْتَ عَنِ اسْمٍ سَمَّاكَهُ أَبَوَاكَ ؟ قَالَ: فَأَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، فَاجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَيْئًا أَدْعُوكَ بِهِ، أَمَّا أَنْتَ فَلَا تُجِيبُنِي بِاسْمِكَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا أَنَا فَلَا أَدْعُوكَ بِمَا لَا أَعْرِفُ. قَالَ: وَكَانَ إِذَا دَعَانِي: يَا عَبْدَ عَمْرٍو، لَمْ أُجِبْهُ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، اجْعَلْ مَا شِئْتَ. قَالَ فَأَنْتَ عَبْدُ الْإِلَهِ. قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكُنْتُ إِذَا مَرَرْتُ بِهِ قَالَ: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ. فَأُجِيبُهُ فَأَتَحَدَّثُ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ وَاقِفٌ مَعَ ابْنِهِ عَلِيٍّ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ. قَالَ: وَمَعِي أَدْرَاعٌ لِي قَدِ اسْتَلَبْتُهَا، فَأَنَا أَحْمِلُهَا، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا عَبْدَ عَمْرٍو. فَلَمْ أُجِبْهُ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: هَلْ لَكَ فِيَّ، فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ هَذِهِ الْأَدْرَاعِ الَّتِي مَعَكَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، هَا اللَّهِ. قَالَ: فَطَرَحْتُ الْأَدْرَاعَ مِنْ يَدِي، وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَبِيَدِ ابْنِهِ،

وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللَّبَنِ ؟ ثُمَّ خَرَجْتُ أَمْشِي بِهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ لِي أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ آخُذُ بِأَيْدِيهِمَا: يَا عَبْدَ الْإِلَهِ، مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمُ، الْمُعْلَمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: ذَاكَ حَمْزَةُ. قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَقُودُهُمَا إِذْ رَآهُ بِلَالٌ مَعِي، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: رَأَسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. قَالَ: قُلْتُ: أَيْ بِلَالُ، أَبِأَسِيرِي ؟ قَالَ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. قَالَ: ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. فَأَحَاطُوا بِنَا حَتَّى جَعَلُونَا فِي مِثْلِ الْمَسَكَةِ، فَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ. قَالَ: فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ، فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، وَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً مَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهَا قَطُّ. قَالَ: قُلْتُ: انْجُ بِنَفْسِكَ وَلَا نَجَاءَ، فَوَاللَّهِ مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. قَالَ: فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ حَتَّى فَرَغُوا مِنْهُمَا. قَالَ: فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: يَرْحَمُ اللَّهُ بِلَالًا، فَجَعَنِي بِأَدْرَاعِي وَبِأَسِيرَيَّ.

وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " قَرِيبًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، فَقَالَ فِي الْوِكَالَةِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ، هُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتَبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَكَاتَبْتُهُ عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ ؟ ! لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا، خَلَّفْتُ لَهُمُ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَتَوْا حَتَّى تَبِعُونَا، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ. فَبَرَكَ فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ. فَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ. سَمِعَ يُوسُفُ صَالِحًا، وَإِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَيْنِهِمْ كُلِّهِمْ. وَفِي مُسْنَدِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ.

مَقْتَلُ أَبِي جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ يَوْمَئِذٍ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
مَا تَنْقِمُ الْحَرْبُ الْعَوَانُ مِنِّي بَازِلُ عَامَيْنِ حَدِيثٌ سِنِّي
لِمِثْلِ هَذَا وَلَدَتْنِي أُمِّي
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَدُوِّهِ، أَمَرَ بِأَبِي جَهْلٍ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى، وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ، كَمَا حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَيْضًا قَدْ حَدَّثَنِي ذَلِكَ، قَالَا: قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ: سَمِعْتُ الْقَوْمَ، وَأَبُو جَهْلٍ فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُخْلَصُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي، حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُهُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَوَاللَّهِ مَا شَبَّهْتُهَا حِينَ طَاحَتْ، إِلَّا

بِالنَّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى حِينَ يُضْرَبُ بِهَا. قَالَ: وَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرِمَةُ عَلَى عَاتِقِي، فَطَرَحَ يَدِي فَتَعَلَّقَتْ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ، فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي وَإِنِّي لَأَسْحَبُهَا خَلْفِي، فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ - ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ، وَهُوَ عَقِيرٌ، مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ، فَمَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْتَمَسَ فِي الْقَتْلَى، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي: انْظُرُوا، إِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى، إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ أَنَا وَهُوَ يَوْمًا عَلَى مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ وَنَحْنُ غُلَامَانِ، وَكُنْتُ أَشَفُّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ فَوَقَعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَجُحِشَ فِي إِحْدَاهُمَا جَحْشًا لَمْ يَزَلْ أَثَرُهُ بِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ - قَالَ: وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي

مَرَّةً بِمَكَّةَ، فَآذَانِي وَلَكَزَنِي - ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي ؟ قَالَ: أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَخْبَرَنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ الْيَوْمَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَزَعَمَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ: قَالَ لِي: لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ. قَالَ: ثُمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ. فَقَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ؟ وَكَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ: نَعَمْ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ. ثُمَّ أَلْقَيْتُ رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ فَحَمِدَ اللَّهَ. هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الصَّفِّ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ، أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ ؟ فَقُلْتُ:

نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ، لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي أَيْضًا مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ أَلَا تَرَيَانِ ؟ هَذَا صَاحَبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ ؟ قَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. قَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا ؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: كِلَاكُمَا قَتَلَهُ. وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. وَالْآخَرُ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذِ الْتَفَتُّ فَإِذَا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِّ، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا، إِذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ: يَا عَمِّ، أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ. فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي،

مَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ: عَاهَدْتُ اللَّهَ إِنْ رَأَيْتُهُ، أَنْ أَقْتُلَهُ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُ. فَقَالَ لِي الْآخَرُ سِرًّا مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلَهُ. قَالَ: فَمَا سَرَّنِي أَنِّي بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَكَانَهُمَا، فَأَشَرْتُ لَهُمَا إِلَيْهِ، فَشَدَّا عَلَيْهِ مِثْلَ الصَّقْرَيْنِ حَتَّى ضَرْبَاهُ، وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ ؟ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ، فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ قَالَ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ ؟ فَقَالَ: وَهُوَ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ. أَوْ قَالَ قَتَلَهُ قَوْمُهُ.
وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ هَلْ أَعْمَدُ مِنْ

رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ صَرِيعٌ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ وَمَعَهُ سَيْفٌ جَيِّدٌ، وَمَعِي سَيْفٌ رَدِيءٌ، فَجَعَلْتُ أَنْقُفُ رَأْسَهُ بِسَيْفِي وَأَذْكُرُ نَقْفًا كَانَ يَنْقُفُ رَأْسِي بِمَكَّةَ، حَتَّى ضَعُفَتْ يَدُهُ، فَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: عَلَى مَنْ كَانَتِ الدَّائِرَةُ، لَنَا أَوْ عَلَيْنَا ؟ أَلَسْتَ رُوَيْعِيَنَا بِمَكَّةَ ؟ قَالَ: فَقَتَلْتُهُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلْتُ: قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ؟ فَاسْتَحْلَفَنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَامَ مَعِي إِلَيْهِمْ فَدَعَا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ، وَهُوَ يَذُبُّ النَّاسَ عَنْهُ بِسَيْفٍ لَهُ، فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، قَالَ: هَلْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ قَتَلَهُ قَوْمُهُ قَالَ: فَجَعَلْتُ أَتَنَاوَلُهُ بِسَيْفٍ لِي غَيْرِ طَائِلٍ، فَأَصَبْتُ يَدَهُ، فَنَدَرَ سَيْفُهُ، فَأَخَذْتُهُ فَضَرَبْتُهُ حَتَّى قَتَلْتُهُ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا أُقَلُّ مِنَ الْأَرْضِ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: آللَّهِ

الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَرَدَّدَهَا ثَلَاثًا. قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. قَالَ: فَخَرَجَ يَمْشِي مَعِي حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، هَذَا كَانَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَنَفَلَنِي سَيْفَهُ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ. فَقَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ؟ فَقُلْتُ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ: انْطَلِقْ فَأَرِنِيهِ. فَانْطَلَقْتُ فَأَرَيْتُهُ فَقَالَ: هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ. مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ بِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ ابْنَيْ عَفْرَاءَ، فَهُمَا شُرَكَاءُ فِي قَتْلِ فِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَأْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ. فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا ؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ شَرِكَ فِي قَتْلِهِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ الْأَزْهَرِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَشِيرُ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَتْلِ أَبِي جَهْلٍ، اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَقَدْ رَأَيْتَهُ قَتِيلًا ؟ فَحَلَفَ لَهُ، فَخَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدًا.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ رَجَاءٍ، عَنِ الشَّعْثَاءِ، امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، حِينَ بُشِّرَ بِالْفَتْحِ وَحِينَ جِيءَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ بَكْرُ بْنُ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي شَعْثَاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْمَ بُشِّرَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ رَكْعَتَيْنِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي مَرَرْتُ بِبَدْرٍ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَخْرُجُ

مِنَ الْأَرْضِ، فَيَضْرِبُهُ رَجُلٌ بِمِقْمَعَةٍ مَعَهُ حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِرَارًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ يُعَذَّبُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ ": سَمِعْتُ أَبِي، ثَنَا الْمُجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا جَالِسًا فِي بَدْرٍ وَرَجُلٌ يَضْرِبُ رَأْسَهُ بِعَمُودٍ مِنْ حَدِيدٍ، حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ذَاكَ أَبُو جَهْلٍ، وُكِّلَ بِهِ مَلَكٌ يَفْعَلُ بِهِ كُلَّمَا خَرَجَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الزُّبَيْرُ: لَقِيتُ يَوْمَ بَدْرٍ عُبَيْدَةَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَهُوَ مُدَجَّجٌ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا عَيْنَاهُ، وَهُوَ يُكَنَّى أَبَا ذَاتِ الْكَرِشِ، فَقَالَ: أَنَا أَبُو ذَاتِ الْكَرِشِ. فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ بِعَنَزَةٍ، فَطَعَنْتُهُ فِي عَيْنِهِ فَمَاتَ. قَالَ هِشَامٌ: فَأُخْبِرْتُ أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: لَقَدْ وَضَعْتُ رِجْلِي عَلَيْهِ، ثُمَّ تَمَطَّيْتُ فَكَانَ الْجَهْدَ أَنْ

نَزَعْتُهَا، وَقَدِ انْثَنَى طَرَفَاهَا. قَالَ عُرْوَةُ: فَسَأَلَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَأَعْطَاهُ، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ سَأَلَهَا إِيَّاهُ عُمَرُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا فَلَمَّا قُبِضَ عُمَرُ أَخَذَهَا، ثُمَّ طَلَبَهَا عُثْمَانُ مِنْهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَقَعَتْ عِنْدَ آلِ عَلِيٍّ، فَطَلَبَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْمَغَازِي، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَمَرَّ بِهِ: إِنِّي أَرَاكَ كَأَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْئًا، أَرَاكَ تَظُنُّ أَنِّي قَتَلْتُ أَبَاكَ، إِنِّي لَوْ قَتَلْتُهُ لَمْ أَعْتَذِرْ إِلَيْكَ مِنْ قَتْلِهِ، وَلَكِنِّي قَتَلْتُ خَالِيَ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَأَمَّا أَبُوكَ فَإِنِّي مَرَرْتُ بِهِ وَهُوَ يَبْحَثُ بَحْثَ الثَّوْرِ بِرَوْقِهِ، فَحِدْتُ عَنْهُ، وَقَصَدَ لَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ الْأَسَدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِهِ حَتَّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ جِذْلًا مِنْ حَطَبٍ فَقَالَ: قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ. فَلَمَّا أَخَذَهُ مِنْ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَزَّهُ، فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ طَوِيلَ الْقَامَةِ، شَدِيدَ الْمَتْنِ، أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ، فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسَمَّى " الْعَوْنَ "، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَتَلَهُ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ أَيَّامَ الرِّدَّةِ، وَأَنْشَدَ طُلَيْحَةُ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً، مِنْهَا قَوْلُهُ
عَشِيَّةَ غَادَرْتُ ابْنَ أَقْرَمَ ثَاوِيًا وَعُكَّاشَةَ الْغَنْمِيَّ عِنْدَ مَجَالِ
وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ طُلَيْحَةُ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعُكَّاشَةُ هُوَ الَّذِي قَالَ: حِينَ بَشَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِسَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَغَيْرِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي: مِنَّا خَيْرُ فَارِسٍ فِي الْعَرَبِ. قَالُوا: وَمَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ.

فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْأَزْوَرِ الْأَسَدِيُّ: ذَاكَ رَجُلٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ لَيْسَ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُ مِنَّا لِلْحِلْفِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّتِهِ قَالَتْ: قَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: انْقَطَعَ سَيْفِي يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا، فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَقَاتَلْتُ بِهِ حَتَّى هَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ. وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى هَلَكَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عِدَّةٍ قَالُوا: انْكَسَرَ سَيْفُ سَلَمَةَ بْنِ حَرِيشٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَقِيَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضِيبًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ عَرَاجِينِ ابْنِ طَابٍ، فَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ فَإِذَا سَيْفٌ جَيِّدٌ، فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ

رَدُّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَ قَتَادَةَ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى، حَدَّثَنَا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ، ابْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا. فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ، فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ. وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَأَنْشَدَ مَعَ ذَلِكَ:
أَنَا ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ فَرُدَّتْ بِكَفِّ الْمُصْطَفَى أَيَّمَا رَدِّ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عِنْدَ ذَلِكَ مُنْشِدًا قَوْلَ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ، فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ فِي مَوْضِعِهِ: حَقًّا
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالًا

فَصْلٌ: قِصَّةٌ أُخْرَى شَبِيهَةٌ بِهَا
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، حَدَّثَنِي رِفَاعَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ تَجَمَّعَ النَّاسُ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى قِطْعَةٍ مِنْ دِرْعِهِ قَدِ انْقَطَعَتْ مِنْ تَحْتِ إِبِطِهِ قَالَ: فَطَعَنْتُهُ بِالسَّيْفِ فِيهَا طَعْنَةً فَقَطَعْتُهُ، وَرُمِيتُ بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَفُقِئَتْ عَيْنِي فَبَصَقَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لِي، فَمَا آذَانِي مِنْهَا شَيْءٌ. وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنَادَى أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَقَالَ أَيْنَ مَالِي يَا خَبِيثُ ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:
لَمْ يَبْقَ إِلَّا شِكَّةٌ وَيَعْبُوبْ وَصَارِمٌ يَقْتُلُ ضُلَّالَ الشِّيبْ
يَعْنِي لَمْ يَبْقَ إِلَّا عُدَّةُ الْحَرْبِ، وَحِصَانٌ - وَهُوَ الْيَعْبُوبُ - يُقَاتِلُ عَلَيْهِ شُيُوخَ الضَّلَالَةِ، هَذَا يَقُولُهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي " مَغَازِي الْأُمَوِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَمْشِي يَوْمَ بَدْرٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ بَيْنَ الْقَتْلَى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
: نُفَلِّقُ هَامًا............... فَيَقُولُ الصِّدِّيقُ:....... مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ عَلَيْنَا وَهُمْ كَانُوا أَعَقَّ وَأَظْلَمَا

ذِكْرُ طَرْحِ رُءُوسِ الْكُفْرِ فِي بِئْرِ بَدْرٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي الْقَلِيبِ، طُرِحُوا فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُخْرِجُوهُ فَتَزَايَلَ لَحْمُهُ، فَأَقَرُّوهُ وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ مَا غَيَّبَهُ مِنَ التُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ، فَلَمَّا أَلْقَاهُمْ فِي الْقَلِيبِ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُكَلِّمُ قَوْمًا مَوْتَى ؟! فَقَالَ: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ رَبُّهُمْ حَقٌّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: " لَقَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ لَهُمْ ". وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَقَدْ عَلِمُوا "
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ

بْنَ هِشَامٍ - فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ - هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا ؟! فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُونِي. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ، كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النَّاسُ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا.
قُلْتُ: وَهَذَا مِمَّا كَانَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَتَأَوَّلُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ - كَمَا قَدْ جُمِعَ مَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي جُزْءٍ - وَتَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِبَعْضِ الْآيَاتِ، وَهَذَا الْمَقَامُ مِمَّا كَانَتْ تُعَارِضُ فِيهِ قَوْلَهُ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [ فَاطِرٍ: 22 ] وَلَيْسَ هُوَ بِمُعَارِضٍ لَهُ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ نَصًّا عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ

بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ، فَقَالَتْ: وَهِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ. قَالَتْ وَذَاكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْقَلِيبِ وَفِيهِ قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ. وَإِنَّمَا قَالَ: إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ. ثُمَّ قَرَأَتْ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [ النَّمْلِ: 80 ] وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ تَقُولُ: حِينَ تَبَوَّءُوا مَقَاعِدَهُمْ فِي النَّارِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ بِسَمَاعِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، كَمَا سَنُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ مِنَ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، ثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقَالَ: هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمُ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَهُمْ. وَذُكِرَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ. ثُمَّ قَرَأَتْ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ. وَقَدْ رَوَاهُ

مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ وَقَالُوا: مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ. حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ، يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ: أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ قَالَ قَتَادَةُ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى

أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ، تَوْبِيخًا، وَتَصْغِيرًا، وَنِقْمَةً، وَحَسْرَةً، وَنَدَمًا. وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا طَلْحَةَ، وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَيَّفُوا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. قَالَ فَسَمِعَ عُمَرُ صَوْتَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُنَادِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثٍ ؟ وَهَلْ يَسْمَعُونَ ؟ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ تَدَاوَلُهَا الرِّيَاحُ وَكُلُّ جَوْنٍ
مِنَ الْوَسْمِيِّ مُنْهَمِرٍ سَكُوبِ فَأَمْسَى رَسْمُهَا خَلَقًا وَأَمْسَتْ
يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ فَدَعْ عَنْكَ التَّذَكُّرَ كُلَّ يَوْمٍ
وَرُدَّ حَرَارَةَ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ وَخَبِّرْ بِالَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ
بِصِدْقٍ غَيْرِ إِخْبَارِ الْكَذُوبِ بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ
لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصِيبِ غَدَاةَ كَأَنَّ جَمْعَهُمُ حِرَاءٌ
بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ فَلَاقَيْنَاهُمُ مِنَّا بِجَمْعٍ
كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ أَمَامَ مُحَمَّدٍ قَدْ وَازَرُوهُ
عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الْحُرُوبِ بِأَيْدِيهِمْ صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٌ
وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ وَازَرَتْهَا
بَنُو النَّجَّارِ فِي الدِّينِ الصَّلِيبِ

فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا
وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ
ذَوِي حَسَبٍ إِذَا نُسِبُوا حَسِيبِ يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا
قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِيَ كَانَ حَقًّا
وَأَمْرُ اللَّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ فَمَا نَطَقُوا وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا
صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُلْقَوْا فِي الْقَلِيبِ أُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فَسُحِبَ فِي الْقَلِيبِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي، فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا حُذَيْفَةَ، لَعَلَّكَ قَدْ دَخْلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ. أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ لِلْإِسْلَامِ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ، وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بَعْدَ الَّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ، أَحْزَنَنِي ذَلِكَ. فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ، وَقَالَ لَهُ خَيْرًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، ثَنَا عَمْرٌو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كُفَّارُ

قُرَيْشٍ قَالَ عَمْرٌو: هُمْ قُرَيْشٌ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَةُ اللَّهِ، وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [ إِبْرَاهِيمَ: 28 ] قَالَ: النَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ آوَوْا نَبِيَّهُمُ وَصَدَّقُوهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُفَّارُ
إِلَّا خَصَائِصَ أَقْوَامٍ هُمُ سَلَفٌ لِلصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْصَارُ
مُسْتَبْشِرِينَ بِقَسْمِ اللَّهِ قَوْلُهُمُ لَمَّا أَتَاهُمْ كَرِيمُ الْأَصْلِ مُخْتَارُ
أَهْلًا وَسَهْلًا فَفِي أَمْنٍ وَفِي سَعَةٍ نِعْمَ النَّبِيُّ وَنِعْمَ الْقَسْمُ وَالْجَارُ
فَأَنْزَلُوهُ بِدَارٍ لَا يَخَافُ بِهَا مَنْ كَانَ جَارَهُمُ دَارًا هِيَ الدَّارُ
وَقَاسَمُوهُ بِهَا الْأَمْوَالَ إِذْ قَدِمُوا مُهَاجِرِينَ وَقِسْمُ الْجَاحِدِ النَّارُ
سِرْنَا وَسَارُوا إِلَى بَدْرٍ لِحَيْنِهِمُ لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْعِلْمِ مَا سَارُوا
دَلَّاهُمُ بِغُرُورٍ ثُمَّ أَسْلَمَهُمْ إِنَّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَالَاهُ غَرَّارُ
وَقَالَ إِنِّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ شَرَّ الْمَوَارِدِ فِيهِ الْخِزْيُ وَالْعَارُ

ثُمَّ الْتَقَيْنَا فَوَلَّوْا عَنْ سَرَاتِهِمُ مِنْ مُنْجِدِينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَتْلَى، قِيلَ لَهُ: عَلَيْكَ الْعِيرَ، لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ. فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْوِثَاقِ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ. قَالَ: لِمَ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
وَقَدْ كَانَتْ جُمْلَةُ مَنْ قُتِلَ مِنْ سَرَاةِ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، هَذَا مَعَ حُضُورِ أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ قَدَرُ اللَّهِ السَّابِقُ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، أَنْ سَيُسْلِمَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا وَاحِدًا فَأَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَكِنْ قَتَلُوا مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلُ، الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاقْتَلَعَ مَدَائِنَ قَوْمِ لُوطٍ وَكُنَّ سَبْعًا، فِيهِنَّ مِنَ الْأُمَمِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَرَاضِي وَالْمَزْرُوعَاتِ، وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَرَفَعَهُنَّ حَتَّى بَلَغَ بِهِنَّ عَنَانَ السَّمَاءِ عَلَى طَرَفِ جَنَاحِهِ ثُمَّ قَلَبَهُنَّ مُنَكَّسَاتٍ، وَأَتْبَعَهُنَّ بِالْحِجَارَةِ الَّتِي سُوِّمَتْ لَهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ فِيمَا تَقَدَّمَ.

وَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ جِهَادَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ الْآيَةَ [ مُحَمَّدٍ: 4 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ: 15، 14 ]. فَكَانَ قَتْلُ أَبِي جَهْلٍ عَلَى يَدَيْ شَابٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُوقَفُ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَيُمْسِكُ بِلِحْيَتِهِ وَيَصْعَدُ عَلَى صَدْرِهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: لَقَدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَ الْغَنَمِ. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا حَزَّ رَأْسَهُ وَاحْتَمَلَهُ حَتَّى وَضْعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ، فَشَفَى اللَّهُ بِهِ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ هَذَا أَبْلَغَ مِنْ أَنْ تَأْتِيَهُ صَاعِقَةٌ، أَوْ أَنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِ سَقْفُ مَنْزِلِهِ، أَوْ يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِيمَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَلَكِنَّهُ خَرَجَ مَعَهُمْ تَقِيَّةً مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِمْ مُضْطَهَدًا قَدْ فَتَنُوهُ عَنْ إِسْلَامِهِ، جَمَاعَةً، مِنْهُمُ الْحَارِثُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ،

وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ. قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ النِّسَاءِ: 97 ]. وَكَانَ جُمْلَةُ الْأُسَارَى يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ أَسِيرًا، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، مِنْهُمْ مِنْ آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ عَمِّهِ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، وَعَارَضُوا بِهِ حَدِيثَ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ سَمُرَةَ فِي ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ أُمَيَّةَ، زَوْجُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَصْلٌ
وَقَدِ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْأُسَارَى، أَيُقْتَلُونَ أَوْ يُفَادَوْنَ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، وَذَكَرَ رَجُلًا، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ:اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ. قَالَ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيَّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَمْكَنَكُمْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ بِالْأَمْسِ. قَالَ فَقَامَعُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ عَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِلنَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ وَأَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ. قَالَ فَذَهَبَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ

الْغَمِّ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَقَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [ الْأَنْفَالِ: 68 ]. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَاللَّفْظُ لَهُ - وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ وَكَذَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ وَزِيَادَةٌ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَى قَوْلِهِ: فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا وَعُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ وَالْإِخْوَانُ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ، فَيَكُونَ مَا أَخَذْنَاهُ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ، فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَرَى يَا بْنَ الْخَطَّابِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ - قَرِيبٍ لِعُمَرَ - فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلَانٍ أَخِيهِ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَتْ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَهَؤُلَاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ. فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ: فَغَدَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، قَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ - وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ، ثُمَّ أَحَلَّ لَهُمُ الْغَنَائِمَ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى ؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ، اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ، قَرِّبْهُمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْهُ

عَلَيْهِمْ نَارًا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ. قَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ. وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى، قَالَ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ، قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى، قَالَ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ أَنْتُمْ عَالَةٌ، فَلَا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ

الْإِسْلَامَ. قَالَ فَسَكَتَ. قَالَ فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، حَتَّى قَالَ: " إِلَّا سُهَيْلَ بْنَ بَيْضَاءَ " قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيُّ بِنَحْوِهِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا أُسِرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أُسِرَ الْعَبَّاسُ فِيمَنْ أُسِرَ، أَسَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: وَقَدْ أَوْعَدَتْهُ الْأَنْصَارُ أَنْ يَقْتُلُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَنَمِ اللَّيْلَةَ مِنْ أَجْلِ عَمِّي الْعَبَّاسِ، وَقَدْ زَعَمَتِ الْأَنْصَارُ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ.

قَالَ عُمَرُ: أَفَآتِيهِمْ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَى عُمَرُ الْأَنْصَارَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَرْسِلُوا الْعَبَّاسَ. فَقَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نُرْسِلُهُ. فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: فَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ رِضًى ؟ قَالُوا: فَإِنْ كَانَ لَهُ رِضًى فَخُذْهُ. فَأَخَذَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا صَارَ فِي يَدِهِ قَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا عَبَّاسُ، أَسْلِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ تُسْلِمَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُسْلِمَ الْخَطَّابُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُعْجِبُهُ إِسْلَامُكَ. قَالَ وَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَشِيرَتُكَ، فَأَرْسِلْهُمْ. وَاسْتَشَارَ عُمَرَ، فَقَالَ: اقْتُلْهُمْ، فَفَادَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ خَيِّرْ أَصْحَابَكَ فِي الْأُسَارَى، إِنْ شَاءُوا الْفِدَاءَ وَإِنْ شَاءُوا الْقَتْلَ، عَلَى أَنْ يُقْتَلَ عَامًا قَابِلًا مِنْهُمْ مِثْلُهُمْ. قَالُوا: الْفِدَاءُ وَيُقْتَلُ مِنَّا. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَوَاهُ مُرْسَلًا، عَنْ عُبَيْدَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَقُولُ: لَوْلَا أَنِّي لَا أُعَذِّبُ مَنْ عَصَانِي حَتَّى أَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَاخْتَارَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: سَبَقَ مِنْهُ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا شَهِدَ بَدْرًا. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أَيْ: لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ.
وَقَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَبَقَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الْمَغَانِمَ وَفِدَاءَ الْأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا [ الْأَنْفَالِ: 69 ]. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ

جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالْأَعْمَشِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلُ بِمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِسُودِ الرُّءُوسِ غَيْرِنَا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا فَأَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَكْلِ الْغَنَائِمِ، وَفِدَاءِ الْأُسَارَى.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْعَيْشِيُّ، ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَمِائَةٍ. وَهَذَا كَانَ أَقَلَّ مَا فُودِيَ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَا فُودِيَ بِهِ الرَّجُلُ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ.

وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِالْخَلَفِ عَمَّا أُخِذَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْآيَةَ [ الْأَنْفَالِ: 70 ]. وَقَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْعَبَّاسِ، فَفَادَى نَفْسَهُ بِالْأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَآتَانِي اللَّهُ أَرْبَعِينَ عَبْدًا - يَعْنِي كُلُّهُمْ يَتَّجِرُ لَهُ - قَالَ: وَأَنَا أَرْجُو الْمَغْفِرَةَ الَّتِي وَعَدَنَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْأُسَارَى مَحْبُوسُونَ بِالْوِثَاقِ بَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاهِرًا أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَا لَكَ لَا تَنَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَنِينَ عَمِّي الْعَبَّاسِ فِي وَثَاقِهِ. فَأَطْلَقُوهُ، فَسَكَتَ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَجُلًا مُوسِرًا فَفَادَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْمِائَةُ كَانَتْ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ ابْنَيْ أَخَوَيْهِ عَقِيلٍ وَنَوْفَلٍ، وَعَنْ حَلِيفِهِ عُتْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، كَمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا ظَاهِرُكَ فَكَانَ عَلَيْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِسْلَامِكَ وَسَيَجْزِيكَ، فَادَّعَى أَنَّهُ لَا مَالَ عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَيْنَ الْمَالُ الَّذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأُمُّ الْفَضْلِ، وَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي فَهَذَا لِبَنِيَّ، الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللَّهِ وَقُثَمَ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا شَيْءٌ مَا عَلِمَهُ إِلَّا أَنَا وَأُمُّ الْفَضْلِ. رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا الْعَبَّاسِ فَدَاءَهُ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا تَذَرُوَنَ مِنْهُ دِرْهَمًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ. فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي، إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي وَفَادَيْتُ عَقِيلًا. فَقَالَ: خُذْ. فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ. قَالَ: لَا. فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ.

فَقَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ. قَالَ: لَا. قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ قَالَ: لَا. فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: كَانَ فِدَاءُ الْعَبَّاسِ وَابْنَيْ أَخَوَيْهِ، عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، كُلُّ رَجُلٍ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ تَوَعَّدَ تَعَالَى الْآخَرِينَ، فَقَالَ: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [ الْأَنْفَالِ: 71 ]

فَصْلٌ
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ كَانُوا سَبْعِينَ، وَالْقَتْلَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ، كَمَا وَرَدَ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَمَا فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُمْ قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سِتَّةٌ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثَمَانِيَةٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ. قَالَ: وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فِي عَدَدِ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا، أَرْبَعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَسَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقُتِلَ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ بِضْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ أَسِيرًا، وَكَانَتِ الْقَتْلَى مِثْلَ ذَلِكَ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ زِيَادَةٌ عَلَى سَبْعِينَ، وَأُسِرَ مِنْهُمْ مِثْلُ ذَلِكَ. قَالَ وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ، عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيمَا رُوِّينَاهُ فِي عَدَدِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأُسِرَ مِنْهُمْ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا سَاقَهُ هُوَ وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ قَدْ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً، سَبْعِينَ أَسِيرًا، وَسَبْعِينَ قَتِيلًا.

قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ جُمْلَةَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، وَقَدْ صَرَّحَ قَتَادَةُ بِأَنَّهُمْ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، أَنَّهُمْ كَانُوا زِيَادَةً عَلَى الْأَلْفِ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ. وَأَمَّا الصَّحَابَةُ يَوْمَئِذٍ فَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، كَمَا سَيَأْتِي التَّنْصِيصُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى أَسْمَائِهِمْ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ وَقْعَةَ بَدْرٍ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَالَهُ أَيْضًا، عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَتَادَةُ وَإِسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ الْكَبِيرُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، قَالَ: تَحَرُّوهَا لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِينَ، فَإِنَّ صَبِيحَتَهَا يَوْمُ بَدْرٍ..
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَقَالَ:

لَيْلَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ. مَا شَكَّ وَقَالَ: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ الْمَغَازِي أَنَّ ذَلِكَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يَقُولُ: سُئِلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ فَقَالَ: إِمَّا لِسَبْعَ عَشْرَةَ خَلَتْ، أَوْ ثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ، أَوْ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ، وَإِمَّا لِسَبْعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ قُبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ اللَّيْثِيِّ، مِنْ طَرِيقِ الْوَاقِدِيِّ وَغَيْرِهِ بِإِسْنَادِهِمْ إِلَيْهِ، أَنَّهُ شَهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، فَذَكَرَ هَزِيمَتَهُمْ مَعَ قِلَّةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَجَعَلْتُ أَقُولُ فِي نَفْسِي: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرَّ مِنْهُ إِلَّا النِّسَاءُ، وَاللَّهِ لَوْ خَرَجَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِأَكَمَتِهَا، رَدَّتْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، قُلْتُ: لَوْ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَنَظَرْتُ إِلَى مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسَيَ الْإِسْلَامُ. قَالَ:

فَقَدِمْتُهَا، فَسَأَلْتُ عَنْهُ فَقَالُوا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ الْمَسْجِدِ فِي مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا لَا أَعْرِفُهُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ فَقَالَ: " يَا قُبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ، أَنْتَ الْقَائِلُ يَوْمَ بَدْرٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ فَرَّ مِنْهُ إِلَّا النِّسَاءُ ؟ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ مَا خَرَجَ مِنِّي إِلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَلَا تَرَمْرَمْتُ بِهِ إِلَّا شَيْئًا حَدَّثْتُ بِهِ نَفْسِي، فَلَوْلَا أَنَّكَ نَبِيٌّ مَا أَطْلَعَكَ اللَّهُ عَلَيْهِ، هَلُمَّ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمْتُ.

فَصْلٌ
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْمَغَانِمِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ، لِمَنْ تَكُونُ مِنْهُمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ حِينَ وَلَّى الْمُشْرِكُونَ، فَفِرْقَةٌ أَحْدَقَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَحْرُسُهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهِ، وَفِرْقَةٌ سَاقَتْ وَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ يَقْتُلُونَ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُونَ، وَفِرْقَةٌ جَمَعَتِ الْمَغَانِمَ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ الْأَمَاكِنِ، فَادَّعَى كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْمَغْنَمِ مِنَ الْآخَرَيْنِ، لِمَا صَنَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الْأَنْفَالِ، فَقَالَ فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفْلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا، فَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَسَمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَوَاءٍ، يَقُولُ: عَنْ سَوَاءٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: عَلَى السَّوَاءِ. أَيْ سَاوَى فِيهَا بَيْنَ الَّذِينَ جَمَعُوهَا، وَبَيْنَ

الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْعَدُوَّ، وَبَيْنَ الَّذِينَ ثَبَتُوا تَحْتَ الرَّايَاتِ، لَمْ يُخَصِّصْ بِهَا فَرِيقًا مِنْهُمْ مِمَّنِ ادَّعَى التَّخْصِيصَ بِهَا، وَلَا يَنْفِي هَذَا تَخْمِيسَهَا وَصَرْفَ الْخُمُسِ فِي مَوَاضِعِهِ، كَمَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَلْ قَدْ تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ مِنْ مَغَانِمِ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَذَا اصْطَفَى جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ، كَانَ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ. وَهَذَا قَبْلَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ،عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحْوُونَهُ

وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ. وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا، نَحْنُ نَفَيْنَا مِنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً، فَاشْتَغَلْنَا بِهِ فَنَزَلَتْ: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ الْأَنْفَالِ: 1 ]. فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى فُوَاقٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَغَارَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ نَفَّلَ الرُّبُعَ، فَإِذَا أَقْبَلَ رَاجِعًا نَفَّلَ الثُّلُثَ، وَكَانَ يَكْرَهُ الْأَنْفَالَ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ.... آخِرَهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ "، وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخْرِجْهُ.

وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ،عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَنَعَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا. فَتَسَارَعَ فِي ذَلِكَ شُبَّانُ الرِّجَالِ، وَبَقِيَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْغَنَائِمُ جَاءُوا يَطْلُبُونَ الَّذِي جُعِلَ لَهُمْ، فَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُوا عَلَيْنَا، فَإِنَّا كُنَّا رَدْءًا لَكُمْ، وَلَوِ انْكَشَفْتُمْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا، فَتَنَازَعُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ آثَارًا أُخَرَ يَطُولُ بَسْطُهَا هَاهُنَا، وَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ الْأَنْفَالَ مَرْجِعُهَا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، يَحْكُمَانِ فِيهَا بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ لِلْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ثُمَّ ذَكَرَ مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ الْآيَةَ [ الْأَنْفَالِ: 41 ]. فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُبَيِّنَةٌ لِحُكْمِ اللَّهِ فِي الْأَنْفَالِ، الَّذِي جَعَلَ مَرَدَّهُ إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَهُ تَعَالَى، وَحَكَمَ فِيهَا بِمَا أَرَادَ تَعَالَى، وَهُوَ قَوْلُ

ابْنِ زَيْدٍ، وَقَدْ زَعَمَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ عَلَى السَّوَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يُخَمِّسْهَا، ثُمَّ نَزَلَ بَيَانُ الْخُمُسِ بَعْدَ ذَلِكَ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَهَكَذَا رَوَى الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ قَبْلَ آيَةِ الْخُمُسِ وَبَعْدَهَا، كُلُّهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَيَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ جُمْلَةً فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مُتَفَاصِلٍ بِتَأَخُّرٍ يَقْتَضِي نَسْخَ بَعْضِهِ بَعْضًا، ثُمَّ فِي " الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قِصَّةِ شَارِفَيْهِ اللَّذَيْنِ اجْتَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا حَمْزَةُ: إِنَّ إِحْدَاهُمَا كَانَتْ مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ بَدْرٍ. مَا يَرُدُّ صَرِيحًا عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ، أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ لَمْ تُخَمَّسْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَلْ خُمِّسَتْ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ الرَّاجِحُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ فِي رُجُوعِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأُمُورِ فِي مَسِيرِهِ إِلَيْهَا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ كَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَقَامَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِعَرْصَةِ بَدْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ رَحِيلُهُ مِنْهَا لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ، فَرَكِبَ نَاقَتَهُ وَوَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقَرَّعَ أُولَئِكَ الَّذِينَ سُحِبُوا إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ثُمَّ سَارَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَالْغَنَائِمُ الْكَثِيرَةُ، وَقَدْ بَعَثَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَيْنَ يَدَيْهِ بَشِيرَيْنِ إِلَى الْمَدِينَةِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَجَحَدَهُ وَبِهِ كَفَرَ، أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ إِلَى أَعَالِي الْمَدِينَةِ، وَالثَّانِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَى السَّافِلَةِ. قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: فَأَتَانَا الْخَبَرُ حِينَ سَوَّيْنَا التُّرَابَ عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ زَوْجُهَا

عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدِ احْتَبَسَ عِنْدَهَا يُمَرِّضُهَا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ فِي بَدْرٍ. قَالَ أُسَامَةُ: فَلَمَّا قَدِمَ أَبِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ جِئْتُهُ وَهُوَ وَاقِفٌ بِالْمُصَلَّى، وَقَدْ غَشِيَهُ النَّاسُ، وَهُوَ يَقُولُ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ الْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتِ، أَحَقٌّ هَذَا ؟ قَالَ: إِي وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى الْعَضْبَاءِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبِشَارَةِ، قَالَ أُسَامَةُ: فَسَمِعْتُ الْهَيْعَةَ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا زَيْدٌ قَدْ جَاءَ بِالْبِشَارَةِ، فَوَاللَّهِ مَا صَدَّقْتُ حَتَّى رَأَيْنَا الْأُسَارَى، وَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ بِسَهْمِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ:صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ بَدْرٍ الْعَصْرَ بِالْأُثَيْلِ، فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَةً تَبَسَّمَ، فَسُئِلَ عَنْ تَبَسُّمِهِ، فَقَالَ: مَرَّ بِي مِيكَائِيلُ وَعَلَى جَنَاحِهِ النَّقْعُ، فَتَبَسَّمَ إِلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ. وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ حِينَ فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ بَدْرٍ، عَلَى فَرَسٍ أُنْثَى مَعْقُودِ

النَّاصِيَةِ، قَدْ عَصَمَ ثَنِيَّتَهُ الْغُبَارُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ رَبِّي بَعَثَنِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُفَارِقَكَ حَتَّى تَرْضَى، هَلْ رَضِيتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَالُوا: وَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ مِنَ الْأُثَيْلِ، فَجَاءَا يَوْمَ الْأَحَدِ حِينَ اشْتَدَّ الضُّحَى، وَفَارَقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنَ الْعَقِيقِ، فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُنَادِي عَلَى رَاحِلَتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَبْشِرُوا بِسَلَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَأَسْرِهِمْ، قُتِلَ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَقُتِلَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. قَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَنَحَوْتُهُ فَقُلْتُ: أَحَقًّا مَا تَقُولُ يَا بْنَ رَوَاحَةَ ؟ فَقَالَ إِي وَاللَّهِ، وَغَدًا يَقْدَمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسْرَى مُقَرَّنِينَ. ثُمَّ تَتَبَّعَ دُورَ الْأَنْصَارِ بِالْعَالِيَةِ يُبَشِّرُهُمْ دَارًا دَارًا، وَالصِّبْيَانُ يَشْتَدُّونَ مَعَهُ يَقُولُونَ: قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ الْفَاسِقُ. حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَقَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَصْوَاءِ، يُبَشِّرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْمُصَلَّى صَاحَ عَلَى رَاحِلَتِهِ: قُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَابْنَا الْحَجَّاجِ، وَقُتِلَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُسِرَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ذُو الْأَنْيَابِ، فِي أَسْرَى كَثِيرٍ. فَجَعَلَ بَعْضُ

النَّاسِ لَا يُصَدِّقُونَ زَيْدًا، وَيَقُولُونَ: مَا جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إِلَّا فَلًّا. حَتَّى غَاظَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ وَخَافُوا، وَقَدِمَ زَيْدٌ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ بِالْبَقِيعِ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِأُسَامَةَ: قُتِلَ صَاحِبُكُمْ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُ لَأَبِي لُبَابَةَ: قَدْ تَفَرَّقَ أَصْحَابُكُمْ تَفَرُّقًا لَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ أَبَدًا، وَقَدْ قُتِلَ عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ، وَقُتِلَ مُحَمَّدٌ، وَهَذِهِ نَاقَتُهُ نَعْرِفُهَا، وَهَذَا زَيْدٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنَ الرُّعْبِ، وَجَاءَ فَلًّا. فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يُكَذِّبُ اللَّهُ قَوْلَكَ. وَقَالَتِ الْيَهُودُ: مَا جَاءَ زَيْدٌ إِلَّا فَلًّا. قَالَ أُسَامَةُ: فَجِئْتُ حَتَّى خَلَوْتُ بِأَبِي، فَقُلْتُ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ حَقٌّ مَا أَقُولُ يَا بُنَيَّ. فَقَوِيَتْ نَفْسِي وَرَجَعْتُ إِلَى ذَلِكَ الْمُنَافِقِ، فَقُلْتُ: أَنْتَ الْمُرْجِفُ بِرَسُولِ اللَّهِ وَبِالْمُسْلِمِينَ، لَنُقَدِّمَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ إِذَا قَدِمَ، فَلَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَهُ. قَالَ فَجِيءَ بِالْأَسْرَى، وَعَلَيْهِمْ شُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ مَعَهُمْ بَدْرًا، وَهُمْ تِسْعٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، الَّذِينَ أُحْصُوا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُمْ سَبْعُونَ فِي الْأَصْلِ، مُجْتَمَعٌ عَلَيْهِ، لَا شَكَّ فِيهِ. قَالَ: وَلَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّوْحَاءِ رُءُوسُ النَّاسِ يُهَنِّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْفَرَكَ، وَأَقَرَّ عَيْنَكَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ تَخَلُّفِي عَنْ بَدْرٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوًّا، وَلَكِنْ

ظَنَنْتُ أَنَّهَا عِيرٌ، وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُ عَدُوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْتَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَفِيهِمْ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى النَّفْلِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، فَقَالَ رَاجِزٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يُقَالُ إِنَّهُ هُوَ عَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ -:
أَقِمْ لَهَا صُدُورَهَا يَا بَسْبَسُ لَيْسَ بِذِي الطَّلْحِ لَهَا مُعَرَّسُ وَلَا بِصَحْرَاءِ غُمَيْرٍ مَحْبِسُ
إِنَّ مَطَايَا الْقَوْمِ لَا تُحَبَّسُ فَحَمْلُهَا عَلَى الطَّرِيقِ أَكْيَسُ
قَدْ نَصَرَ اللَّهُ وَفَرَّ الْأَخْنَسُ
قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا خَرَجَ مِنْ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ نَزَلَ عَلَى

كَثِيبٍ بَيْنَ الْمَضِيقِ وَبَيْنَ النَّازِيَّةِ، يُقَالُ لَهُ: سَيَرٌ. إِلَى سَرْحَةٍ بِهِ، فَقَسَمَ هُنَالِكَ النَّفَلَ الَّذِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، كَمَا حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: مَا الَّذِي تُهَنِّئُونَنَا بِهِ ؟ وَاللَّهِ إِنْ لَقِينَا إِلَّا عَجَائِزَ صُلْعًا كَالْبُدْنِ الْمُعَقَّلَةِ فَنَحَرْنَاهَا. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالرُّؤَسَاءَ.

مَقْتَلُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى إِذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفْرَاءِ قُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:فَقَالَ عُقْبَةُ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ: فَمَنْ لِلصِّبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ: النَّارُ. وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَمَا حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ "، وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلْ مِنَ الْأُسَارَى أَسِيرًا غَيْرَهُ. قَالَ: وَلَمَّا أَقْبَلَ إِلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، عَلَامَ أُقْتَلُ مِنْ بَيْنِ مَنْ هَاهُنَا ؟ قَالَ: عَلَى عَدَاوَتِكَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: لَمَّا أَمَرَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ، قَالَ: أَتَقْتُلُنِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ ! أَتَدْرُونَ مَا صَنَعَ هَذَا بِي ؟ جَاءَ وَأَنَا سَاجِدٌ خَلْفَ الْمَقَامِ فَوَضَعَ رَجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَغَمَزَهَا، فَمَا رَفَعَهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ عَيْنَيَّ سَتَنْدُرَانِ، وَجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى بِسَلَى شَاةٍ فَأَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا سَاجِدٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَغَسَلَتْهُ عَنْ رَأْسِي. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: بَلْ قَتَلَ عُقْبَةَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فِيمَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قُلْتُ: كَانَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ مِنْ شَرِّ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَكْثَرِهِمْ كُفْرًا، وَعِنَادًا، وَبَغْيًا، وَحَسَدًا، وَهِجَاءً لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ، وَقَدْ فَعَلَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَقَالَتْ قُتَيْلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، أُخْتُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ فِي مَقْتَلِ أَخِيهَا:
يَا رَاكِبًا إِنَّ الْأُثَيْلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنَّ تَحِيَّةً
مَا إِنْ تَزَالُ بِهَا النَّجَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي إِلَيْكَ وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً
جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ

هَلْ يَسْمَعَنَّ النَّضْرُ إِنْ نَادَيْتُهُ
أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيِّتٌ لَا يَنْطِقُ أَمُحَمَّدٌ يَا خَيْرَ ضِنْءِ كَرِيمَةٍ
مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا
مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ أَوْ كُنْتَ قَابِلَ فِدْيَةٍ فَلَيُنْفَقَنْ
بِأَعَزِّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفِقُ وَالنَّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرْتَ قَرَابَةً
وَأَحَقُّهُمْ إِنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ ظَلَّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ
لِلَّهِ أَرْحَامٌ هُنَالِكَ تُشْقَقُ صَبْرًا يُقَادُ إِلَى الْمَنِيَّةِ مُتْعَبًا
رَسْفَ الْمُقَيَّدِ وَهْوَ عَانٍ مُوثَقُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ هَذَا الشِّعْرُ قَالَ: لَوْ بَلَغَنِي هَذَا قَبْلَ قَتْلِهِ لَمَنَنْتُ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ تَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَبُو هِنْدٍ مَوْلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْبَيَاضِيُّ حَجَّامُهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَعَهُ زِقٌّ مَمْلُوءٌ حَيْسًا وَهُوَ التَّمْرُ وَالسَّوِيقُ بِالسَّمْنِ - هَدِيَّةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلَهُ مِنْهُ، وَوَصَّى بِهِ الْأَنْصَارَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَبْلَ

الْأُسَارَى بِيَوْمٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا. قَالَ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، فِي الْأُسَارَى، قَالَ أَبُو عَزِيزٍ: مَرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي، فَقَالَ: شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ، فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ لَعَلَّهَا تَفْدِيهِ مِنْكَ. قَالَ أَبُو عَزِيزٍ: فَكُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ، فَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ، لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزٍ إِلَّا نَفَحَنِي بِهَا، فَأَسْتَحِي فَأَرُدُّهَا فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ أَبُو عَزِيزٍ هَذَا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ بَعْدَ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلَمَّا قَالَ أَخُوهُ مُصْعَبٌ لِأَبِي الْيُسْرِ، وَهُوَ الَّذِي أَسَرَهُ، مَا قَالَ، قَالَ لَهُ أَبُو عَزِيزٍ: يَا أَخِي، هَذِهِ وِصَايَتُكَ بِي ؟ فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنَّهُ أَخِي دُونَكَ. فَسَأَلَتْ أُمُّهُ عَنْ أَغْلَى مَا فُدِيَ بِهِ قُرَشِيٌّ، فَقِيلَ لَهَا: أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. فَبَعَثَتْ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَدَتْهُ بِهَا.

قُلْتُ: وَأَبُو عَزِيزٍ هَذَا اسْمُهُ زُرَارَةُ، فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " غَابَةِ الصَّحَابَةِ "، وَعَدَّهُ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ. وَكَانَ أَخَا مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِأَبَوَيْهِ، وَكَانَ لَهُمَا أَخٌ آخَرُ لِأَبَوَيْهِمَا، وَهُوَ أَبُو الرُّومِ بْنُ عُمَيْرٍ، وَقَدْ غَلِطَ مَنْ جَعَلَهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا، ذَاكَ أَبُو عَزَّةَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ: قُدِمَ بِالْأُسَارَى حِينَ قُدِمَ بِهِمْ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ آلِ عَفْرَاءَ فِي مَنَاحَتِهِمْ عَلَى عَوْفٍ وَمُعَوِّذٍ ابْنَيْ عَفْرَاءَ. قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ. قَالَ: تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَعِنْدَهُمْ إِذْ أُتِينَا، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى قَدْ أُتِيَ بِهِمْ. قَالَتْ فَرَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْحُجْرَةِ مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ. قَالَتْ: فَلَا وَاللَّهِ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ أَنْ قُلْتُ: أَيْ أَبَا يَزِيدَ، أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، أَلَا مُتُّمْ كِرَامًا ؟ فَوَاللَّهِ مَا أَنْبَهَنِي إِلَّا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْبَيْتِ يَا سَوْدَةُ، أَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ تُحَرِّضِينَ ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا مَلَكْتُ نَفْسِي حِينَ رَأَيْتُ أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْتُ

مَا قُلْتُ. ثُمَّ كَانَ مِنْ قِصَّةِ الْأُسَارَى بِالْمَدِينَةِ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ كَيْفِيَّةِ فِدَائِهِمْ وَكَمِّيَّتِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

ذِكْرُ فَرَحِ النَّجَاشِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِوَقْعَةِ بَدْرٍ
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحُرْفِيُّ بِبَغْدَادَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْعَبَّاسِ، ثَنَا عَبْدَانُ بْنُ عُثْمَانَ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ - قَالَ: أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيْتٍ عَلَيْهِ خُلْقَانُ ثِيَابٍ، جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ، قَالَ جَعْفَرُ: فَأَشْفَقْنَا مِنْهُ حِينَ رَأَيْنَاهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَلَمَّا أَنْ رَأَى مَا فِي وُجُوهِنَا قَالَ: إِنِّي أُبَشِّرُكُمْ بِمَا يَسُرُّكُمْ، إِنَّهُ جَاءَنِي مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ عَيْنٌ لِي، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَرَ نَبِيَّهُ، وَأَهْلَكَ عَدُوَّهُ، وَأُسِرَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، وَقُتِلَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ، الْتَقَوْا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ: بَدْرٌ. كَثِيرُ الْأَرَاكِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، كُنْتُ أَرْعَى بِهِ لِسَيِّدِي - رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ - إِبِلَهُ. فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: مَا بَالُكَ جَالِسًا عَلَى التُّرَابِ لَيْسَ تَحْتَكَ بِسَاطٌ، وَعَلَيْكَ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ ؟ قَالَ إِنَّا نَجِدُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عِيسَى: إِنَّ حَقًّا عَلَى

عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُحْدِثُوا لِلَّهِ تَوَاضُعًا عِنْدَمَا يُحْدِثُ لَهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ. فَلَمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لِي نَصْرَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْدَثْتُ لَهُ هَذَا التَّوَاضُعَ.

فَصْلٌ فِي وُصُولِ خَبَرِ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ إِلَى أَهَالِيهِمْ بِمَكَّةَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ الْحَيْسُمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ، فَقَالُوا لَهُ: مَا وَرَاءَكَ ؟ قَالَ: قُتِلَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو الْحَكَمِ بْنُ هِشَامٍ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَنُبَيْهٌ وَمُنَبِّهٌ ابْنَا الْحَجَّاجِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ. فَلَمَّا جَعَلَ يُعَدِّدُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ، قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: وَاللَّهِ إِنْ يَعْقِلُ هَذَا، فَسَلُوهُ عَنِّي. فَقَالُوا: مَا فَعَلَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ؟ قَالَ: هُوَ ذَاكَ جَالِسًا فِي الْحِجْرِ، قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلَا.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَتَحَقَّقُوهُ قَطَّعَتِ النِّسَاءُ شُعُورَهُنَّ، وَعُقِرَتْ خُيُولٌ كَثِيرَةٌ وَرَوَاحِلُ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ عَنْ كِتَابِ " الدَّلَائِلِ " لِقَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ سَمِعَ أَهْلُ مَكَّةَ هَاتِفًا مِنَ الْجِنِّ يَقُولُ:

أَزَارَ الْحَنِيفِيُّونَ بَدْرًا وَقِيعَةً سَيَنْقَضُّ مِنْهَا رُكْنُ كِسْرَى وَقَيْصَرَا أَبَادَتْ رِجَالًا مِنْ لُؤَيٍّ وَأَبْرَزَتْ
خَرَائِدَ يَضْرِبْنَ التَّرَائِبَ حُسَّرَا فَيَا وَيْحَ مَنْ أَمْسَى عَدُوَّ مُحَمَّدٍ
لَقَدْ جَارَ عَنْ قَصْدِ الْهُدَى وَتَحَيَّرَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ، وَأَسْلَمْتُ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ وَيَكْرَهُ خِلَافَهُمْ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ فَبَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا صَنَعُوا، لَمْ يَتَخَلَّفْ رَجُلٌ إِلَّا بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلًا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزًّا. قَالَ: وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ أَعْمَلُ الْأَقْدَاحَ أَنْحِتُهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَجَالِسٌ فِيهَا أَنْحِتُ أَقْدَاحِي، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ جَالِسَةٌ، وَقَدْ سَرَّنَا مَا جَاءَنَا مِنَ الْخَبَرِ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بَشَرٍّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ قَالَ

النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ - وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ - ابْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: هَلُمَّ إِلَيَّ، فَعِنْدَكَ لَعَمْرِي الْخَبَرُ. قَالَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا بْنَ أَخِي، أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْمَ فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا يَقْتُلُونَنَا كَيْفَ شَاءُوا، وَيَأْسِرُونَنَا كَيْفَ شَاءُوا، وَايْمُ اللَّهِ مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهِ مَا تُلِيقُ شَيْئًا وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدِي ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ وَاللَّهِ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً. قَالَ: وَثَاوَرْتُهُ، فَاحْتَمَلَنِي وَضَرَبَ بِي الْأَرْضَ، ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ يَضْرِبُنِي، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ فَأَخَذَتْهُ، فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً فَلَعَتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: أَسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّدُهُ ؟ فَقَامَ مُوَلِّيًا، ذَلِيلًا فَوَاللَّهِ مَا عَاشَ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ. زَادَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَلَقَدْ تَرَكَهُ ابْنَاهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَلَاثًا، مَا دَفَنَاهُ حَتَّى أَنْتَنَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّقِي هَذِهِ الْعَدَسَةَ كَمَا تَتَّقِي الطَّاعُونَ، حَتَّى قَالَ لَهُمَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: وَيْحَكُمَا، أَلَا تَسْتَحِيَانِ ! إِنَّ أَبَاكُمَا قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ، لَا تَدْفِنَانِهِ ؟! فَقَالَا: إِنَّا

نَخْشَى عَدْوَى هَذِهِ الْقُرْحَةِ. فَقَالَ: انْطَلِقَا فَأَنَا أُعِينُكُمَا عَلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا غَسَّلُوهُ إِلَّا قَذْفًا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ، مَا يَدْنُونَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلُوهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فَأَسْنَدُوهُ إِلَى جِدَارٍ ثُمَّ رَضَمُوا عَلَيْهِ بِالْحِجَارَةِ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَمُرُّ عَلَى مَكَانِ أَبِي لَهَبٍ هَذَا إِلَّا تَسَتَّرَتْ بِثَوْبِهَا حَتَّى تَجُوزَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهُمْ، ثُمَّ قَالُوا لَا تَفْعَلُوا فَيَبْلُغَ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِكُمْ، وَلَا تَبْعَثُوا فِي أَسْرَاكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنُوا بِهِمْ، لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ فِي الْفِدَاءِ.
قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا مِنْ تَمَامِ مَا عَذَّبَ اللَّهُ بِهِ أَحْيَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ تَرْكُهُمُ النَّوْحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ، فَإِنَّ الْبُكَاءَ عَلَى الْمَيِّتِ مِمَّا يُبِلُّ فُؤَادَ الْحَزِينِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ،

زَمْعَةُ، وَعَقِيلٌ، وَالْحَارِثُ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَى بَنِيهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعَ نَائِحَةً مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ لِغُلَامٍ لَهُ، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ: انْظُرْ هَلْ أُحِلَّ النَّحْبُ ؟ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا ؟ لَعَلِّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ - يَعْنِي وَلَدَهُ زَمْعَةَ - فَإِنَّ جَوْفِي قَدِ احْتَرَقَ. قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ امْرَأَةٌ تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلَّتْهُ. قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ:
أَتَبْكِي أَنْ أَضَلَّ لَهَا بَعِيرٌ وَيَمْنَعُهَا مِنَ النَّوْمِ السُّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتِ الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
وَبَكِّي إِنْ بَكَيْتِ عَلَى عَقِيلٍ وَبَكِّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكِّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمُ رِجَالٌ وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا

فَصْلٌ فِي بَعْثِ قُرَيْشٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِي الْأُسَارَى أَبُو وَدَاعَةَ بْنُ ضُبَيْرَةَ السَّهْمِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ لَهُ بِمَكَّةَ ابْنًا كَيِّسًا تَاجِرًا ذَا مَالٍ، وَكَأَنَّكُمْ بِهِ قَدْ جَاءَ فِي طَلَبِ فِدَاءِ أَبِيهِ. فَلَمَّا قَالَتْ قُرَيْشٌ: لَا تَعْجَلُوا بِفِدَاءِ أَسْرَاكُمْ، لَا يَأْرَبُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنَى -: صَدَقْتُمْ، لَا تَعْجَلُوا وَانْسَلَّ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذَ أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَانْطَلَقَ بِهِ.
قُلْتُ: وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ أَسِيرٍ فُدِيَ، ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، فَقَدِمَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ فِي فِدَاءِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَسَرْتُ سُهَيْلًا فَلَا أَبْتَغِي أَسِيرًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمْ وَخِنْدِفُ تَعْلَمُ أَنَّ الْفَتَى
فَتَاهَا سُهَيْلٌ إِذَا يُظَّلَمْ

ضَرَبْتُ بِذِي الشَّفْرِ حَتَّى انْثَنَى
وَأَكْرَهْتُ نَفْسِي عَلَى ذِي الْعَلَمْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ سُهَيْلٌ رَجُلًا أَعْلَمَ مِنْ شَفَتِهِ السُّفْلَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:دَعْنِي أَنْزِعْ ثَنِيَّتَيْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو يَدْلَعْ لِسَانُهُ، فَلَا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلَ اللَّهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا.
قُلْتُ: وَهَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ بَلْ مُعْضَلٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ فِي هَذَا: إِنَّهُ عَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمُّهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي قَامَهُ سُهَيْلٌ بِمَكَّةَ، حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ مِنَ الْعَرَبِ، وَنَجَمَ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، فَقَامَ بِمَكَّةَ فَخَطَبَ النَّاسَ، وَثَبَّتَهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَاوَلَهُمْ فِيهِ مِكْرَزٌ وَانْتَهَى إِلَى رِضَائِهِمْ قَالُوا:

هَاتِ الَّذِي لَنَا. قَالَ: اجْعَلُوا رِجْلِي مَكَانَ رِجْلِهِ وَخَلُّوا سَبِيلَهُ، حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكُمْ بِفِدَائِهِ. فَخَلَّوْا سَبِيلَ سُهَيْلٍ وَحَبَسُوا مِكْرَزًا عِنْدَهُمْ. وَأَنْشَدَ لَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا أَنْكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: وَكَانَ فِي الْأُسَارَى عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ أُمُّهُ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَلْ كَانَتْ أُمُّهُ أُخْتَ أَبِي مُعَيْطٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: فَقِيلَ لِأَبِي سُفْيَانَ: افْدِ عَمْرًا ابْنَكَ. قَالَ أَيُجْمَعُ عَلَيَّ دَمِي وَمَالِي ؟ قَتَلُوا حَنْظَلَةَ وَأَفْدِي عَمْرًا ؟ ! دَعُوهُ فِي أَيْدِيهِمْ يُمْسِكُوهُ مَا بَدَا لَهُمْ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ مَحْبُوسٌ بِالْمَدِينَةِ، إِذْ خَرَجَ سَعْدُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ أُكَّالٍ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي مُعَاوِيَةَ مُعْتَمِرًا، وَمَعَهُ مُرَيَّةٌ لَهُ، وَكَانَ شَيْخًا مُسْلِمًا فِي غَنَمٍ لَهُ بِالنَّقِيعِ، فَخَرَجَ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَمِرًا، وَلَا يَخْشَى الَّذِي صُنِعَ بِهِ، وَلَمْ يَظُنَّ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِمَكَّةَ، إِنَّمَا جَاءَ مُعْتَمِرًا، وَقَدْ كَانَ عَهِدَ قُرَيْشًا لَا يَعْرِضُونَ لِأَحَدٍ جَاءَ حَاجًّا أَوْ

مُعْتَمِرًا إِلَّا بِخَيْرٍ، فَعَدَا عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِمَكَّةَ، فَحَبَسَهُ بِابْنِهِ عَمْرٍو، وَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَرَهْطَ ابْنِ أُكَّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ تَعَاقَدْتُمُ لَا تُسْلِمُوا السَّيِّدَ الْكَهْلَا
فَإِنَّ بَنِي عَمْرٍو لِئَامٌ أَذِلَّةٌ لَئِنْ لَمْ يَفُكُّوا عَنْ أَسِيرِهِمُ الْكَبْلَا
قَالَ: فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ:
لَوْ كَانَ سَعْدٌ يَوْمَ مَكَّةَ مُطْلَقًا لَأَكْثَرَ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ الْقَتْلَا
بِعَضْبٍ حُسَامٍ أَوْ بِصَفْرَاءَ نَبْعَةٍ تَحِنُّ إِذَا مَا أُنْبِضَتْ تَحْفِزُ النَّبْلَا
قَالَ: وَمَشَى بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يُعْطِيَهُمْ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَيَفُكُّوا بِهِ صَاحِبَهُمْ، فَأَعْطَاهُمُ النَّبِيُّ فَبَعَثُوا بِهِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ، فَخَلَّى سَبِيلَ سَعْدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ فِي الْأُسَارَى أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ أُمَيَّةَ، خَتَنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجُ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ. قَالَ

ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ الَّذِي أَسَرَهُ خِرَاشُ بْنُ الصِّمَّةِ أَحَدُ بَنِي حَرَامٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو الْعَاصِ مِنْ رِجَالِ مَكَّةَ الْمَعْدُودِينَ مَالًا وَأَمَانَةً وَتِجَارَةً، وَكَانَتْ أُمُّهُ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ هِيَ الَّتِي سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَوِّجَهُ بِابْنَتِهَا زَيْنَبَ، وَكَانَ لَا يُخَالِفُهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ رُقَيَّةَ أَوْ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْوَحْيُ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: اشْغَلُوا مُحَمَّدًا بِنَفْسِهِ. وَأَمَرَ ابْنَهُ عُتْبَةَ فَطَلَّقَ ابْنَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَتَزَوَّجَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَشَوْا إِلَى أَبِي الْعَاصِ فَقَالُوا لَهُ: فَارِقْ صَاحِبَتَكَ وَنَحْنُ نُزَوِّجُكَ بِأَيِّ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ شِئْتَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ إِذًا، لَا أُفَارِقُ صَاحِبَتِي، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِامْرَأَتِي امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُثْنِي عَلَيْهِ فِي صِهْرِهِ، فِيمَا بَلَغَنِي.
قُلْتُ: الْحَدِيثُ بِذَلِكَ فِي الثَّنَاءِ عَلَيْهِ فِي صِهْرِهِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِلُّ بِمَكَّةَ وَلَا يُحَرِّمُ، مَغْلُوبًا عَلَى أَمْرِهِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ زَيْنَبَ ابْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَبِي الْعَاصِ، وَكَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا.

قُلْتُ: إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْمُسْلِمَاتِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى عَلَيْهَا. قَالَتْ: فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا، فَافْعَلُوا، قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَطْلَقُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَ زَيْنَبَ. يَعْنِي أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَفَّى أَبُو الْعَاصِ بِذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا فَأَخَّرْنَاهُ، لِأَنَّهُ أَنْسَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ افْتِدَاءِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ وَعَقِيلًا وَنَوْفَلًا ابْنَيْ أَخَوَيْهِ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ مِنَ الذَّهَبِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مِمَّنْ سُمِّيَ لَنَا مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأُسَارَى بِغَيْرِ فِدَاءٍ، مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ، وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ الْمُطَّلِبُ

بْنُ حَنْطَبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، أَسَرَهُ بَعْضُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَتُرِكَ فِي أَيْدِيهِمْ حَتَّى خَلَّوْا سَبِيلَهُ، فَلَحِقَ بِقَوْمِهِ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ الَّذِي أَسَرَهُ أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَصَيْفِيُّ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، تُرِكَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِهِ، فَأَخَذُوا عَلَيْهِ لَيَبْعَثَنَّ لَهُمْ بِفِدَائِهِ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ، وَلَمْ يَفِ لَهُمْ، فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:
وَمَا كَانَ صَيْفِيٌّ لِيُوفِيَ أَمَانَةً قَفَا ثَعْلَبٍ أَعْيَا بِبَعْضِ الْمَوَارِدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ، كَانَ مُحْتَاجًا ذَا بَنَاتٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ عَرَفْتَ مَا لِيَ مِنْ مَالٍ، وَإِنِّي لَذُو حَاجَةٍ وَذُو عِيَالٍ، فَامْنُنْ عَلَيَّ. فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا، فَقَالَ أَبُو عَزَّةَ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ

مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي الرَّسُولَ مُحَمَّدًا بِأَنَّكَ حَقٌّ وَالْمَلِيكُ حَمِيدُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَدْعُو إِلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ الْعَظِيمِ شَهِيدُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ بُوِّئْتَ فِينَا مَبَاءَةً لَهَا دَرَجَاتٌ سَهْلَةٌ وَصُعُودُ
فَإِنَّكَ مَنْ حَارَبْتَهُ لَمُحَارَبٌ شَقِيٌّ وَمَنْ سَالَمْتَهُ لَسَعِيدُ
وَلَكِنْ إِذَا ذُكِّرْتُ بَدْرًا وَأَهْلَهُ تَأَوَّبَ مَا بِي حَسْرَةٌ وَقُعُودُ
قُلْتُ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا عَزَّةَ هَذَا نَقَضَ مَا كَانَ عَاهَدَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ، وَلَعِبَ الْمُشْرِكُونَ بِعَقْلِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُسِرَ أَيْضًا، فَسَأَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَا أَدَعُكَ تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ وَتَقُولُ: خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. كَمَا سَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ.
وَيُقَالُ: إِنَّ فِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ. وَهَذَا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي لَمْ تُسْمَعْ إِلَّا مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، بَعْدَ مُصَابِ أَهِلِ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ، وَكَانَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ شَيْطَانًا مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ

كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيَلْقَوْنَ مِنْهُ عَنَاءً وَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بْنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالَّذِي أَسَرَهُ رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ، أَحَدُ بَنِي زُرَيْقٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: فَذَكَرَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ إِنْ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ. قَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي قَضَاؤُهُ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ بَعْدِي، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي فِيهِمْ عِلَّةً، ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ: فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ، وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ عَلَيَّ شَأْنِي وَشَأْنَكَ. قَالَ: سَأَفْعَلُ. قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عُمَيْرٌ بِسَيْفِهِ فَشُحِذَ لَهُ وَسُمَّ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَبَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ بَدْرٍ، وَيَذْكُرُونَ مَا أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، إِذْ نَظَرَ عُمَرُ إِلَى عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ، وَقَدْ أَنَاخَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ، فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، مَا جَاءَ إِلَّا لِشَرٍّ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّشَ بَيْنَنَا، وَحَزَرَنَا لِلْقَوْمِ

يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمَّدَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحًا سَيْفَهُ. قَالَ: فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ. قَالَ: فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبَّبَهُ بِهَا، وَقَالَ لِمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ، وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ. ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ وَعُمَرُ آخِذٌ بِحِمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ. قَالَ: أَرْسِلْهُ يَا عُمَرُ، ادْنُ يَا عُمَيْرُ. فَدَنَا ثُمَّ قَالَ: أَنْعِمُوا صَبَاحًا. وَكَانَتْ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةٍ خَيْرٍ مِنْ تَحِيَّتِكَ يَا عُمَيْرُ، بِالسَّلَامِ تَحِيَّةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتُ بِهَا لَحَدِيثَ عَهْدٍ. قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أَيْدِيكُمْ، فَأَحْسِنُوا فِيهِ. قَالَ: فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ ؟ قَالَ: قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا ؟ " قَالَ: اصْدُقْنِي، مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ ؟ " قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ. قَالَ: بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا. فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ، وَاللَّهُ حَائِلٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَهَذَا

أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إِلَّا أَنَا وَصَفْوَانُ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلَّا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ، وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ. ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَعَلِّمُوهُ الْقُرْآنَ، وَأَطْلِقُوا أَسِيرَهُ. فَفَعَلُوا. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الْأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَقْدَمَ مَكَّةَ، فَأَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، لَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِيهِمْ، وَإِلَّا آذَيْتُهُمْ فِي دِينِهِمْ كَمَا كُنْتُ أُوذِي أَصْحَابَكَ فِي دِينِهِمْ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَحِقَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ صَفْوَانُ حِينَ خَرَجَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَقُولُ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمُ الْآنَ فِي أَيَّامٍ، تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانَ، حَتَّى قَدِمَ رَاكِبٌ فَأَخْبَرَهُ عَنْ إِسْلَامِهِ، فَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ أَبَدًا، وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَفْعٍ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قَدِمَ عُمَيْرٌ مَكَّةَ، أَقَامَ بِهَا يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيُؤْذِي مَنْ خَالَفَهُ أَذًى شَدِيدًا، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ، أَوِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، هُوَ الَّذِي رَأَى عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، حِينَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفَرَّ هَارِبًا، وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ. وَكَانَ إِبْلِيسُ يَوْمَئِذٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَمِيرِ مُدْلِجٍ

فَصْلٌ
ثُمَّ إِنَّ الْإِمَامَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، وَهُوَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ إِلَى آخِرِهَا، فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " فَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْهُ ثَمَّ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ

فَصْلٌ [في تَسْمِيَةِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ]
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي تَسْمِيَةِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَرَدَ أَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَهَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلًا، ثُمَّ أَسْمَاءَ مَنْ شَهِدَهَا مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْسِهَا وَخَزْرَجِهَا، إِلَى أَنْ قَالَ: فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، مَنْ شَهِدَهَا وَمَنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ، وَمِنَ الْأَوْسِ أَحَدٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنَ الْخَزْرَجِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا. وَقَدْ سَرَدَهُمُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، بَعْدَ الْبَدَاءَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَذَلِكَ مِنْ كِتَابِ " الْأَحْكَامِ الْكَبِيرِ " لِلْحَافِظِ ضِيَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمَقْدِسِيِّ، وَغَيْرِهِ، بَعْدَ الْبَدَاءَةِ بِاسْمِ رَئِيسِهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

حَرْفُ الْأَلِفِ
أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ النَّجَّارِيُّ سَيِّدُ الْقُرَّاءِ. الْأَرْقَمُ بْنُ أَبَى الْأَرْقَمِ، - وَأَبُو الْأَرْقَمِ - عَبْدُ مَنَافِ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ الْمَخْزُومِيُّ. أَسْعَدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ الْفَاكِهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْعَجْلَانِ. أَسْوَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ غَنْمٍ. كَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: سَوَادُ بْنُ رِزَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيٍّ. شَكَّ فِيهِ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: سَوَادُ بْنُ رُزَيْقِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَائِذٍ: سَوَادُ بْنُ زَيْدٍ. أُسَيْرُ بْنُ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيُّ أَبُو سَلِيطٍ. وَقِيلَ: أُسَيْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ سَالِمِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَزْرَجِيُّ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. أَنَسُ بْنُ قَتَادَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَوْسِيُّ. كَذَا سَمَّاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. وَسَمَّاهُ الْأُمَوِيُّ فِي " السِّيرَةِ " أُنَيْسًا.

قُلْتُ: وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رَوَى عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: قِيلَ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَشَهِدْتَ بَدْرًا ؟ قَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْ بَدْرٍ لَا أُمَّ لَكَ ؟!.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، ثَنَا أَبِي عَنْ مَوْلًى لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ لِأَنَسٍ: شَهِدْتَ بَدْرًا ؟ قَالَ: لَا أُمَّ لَكَ، وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْ بَدْرٍ ؟! قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: خَرَجَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ يَخْدِمُهُ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي " تَهْذِيبِهِ ": هَكَذَا قَالَ الْأَنْصَارِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي.
أَنَسُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ أَنَسِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ. أَنَسَةُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ النَّجَّارِيُّ. أَوْسُ بْنُ خَوْلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ الْخَزْرَجِيُّ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ

بْنِ الْحَارِثِ بْنِ خَوْلِيِّ. أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ الْخَزْرَجِيُّ أَخُو عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. إِيَاسُ بْنُ الْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ نَاشِبِ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ حَلِيفُ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ.

حَرْفُ الْبَاءِ
بُجَيْرُ بْنُ أَبِي بُجَيْرٍ حَلِيفُ بَنِي النَّجَّارِ. بَحَّاثُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَمَّارَةَ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ. بَسْبَسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَرَشَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ رَشْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ الْجُهَنِيُّ حَلِيفُ بَنِي سَاعِدَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَيْنَيْنِ هُوَ وَعَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ. بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الْخَزْرَجِيُّ الَّذِي مَاتَ بِخَيْبَرَ مِنَ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ. بَشِيرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ وَالِدُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ

وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ الصِّدِّيقَ. بَشِيرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَبُو لُبَابَةَ الْأَوْسِيُّ، رَدَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الرَّوْحَاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ.

حَرْفُ التَّاءِ
تَمِيمُ بْنُ يَعَارِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ جُدَارَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. تَمِيمٌ مَوْلَى خِرَاشِ بْنِ الصِّمَّةِ. تَمِيمٌ مَوْلَى بَنِي غَنْمِ بْنِ السِّلْمِ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ مَوْلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ.

حَرْفُ الثَّاءِ
ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْعَجْلَانِ. ثَابِتُ بْنُ ثَعْلَبَةَ. وَيُقَالُ لِثَعْلَبَةَ هَذَا: الْجِذْعُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ

كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ. ثَابِتُ بْنُ خَالِدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ عُسَيْرَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ النَّجَّارِيُّ. ثَابِتُ بْنُ خَنْسَاءَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ النَّجَّارِيُّ. ثَابِتُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ النَّجَّارِيُّ. ثَابِتُ بْنُ هَزَّالٍ الْخَزْرَجِيُّ. ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ. ثَعْلَبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكٍ النَّجَّارِيُّ. ثَعْلَبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مِحْصَنٍ الْخَزْرَجِيُّ. ثَعْلَبَةُ بْنُ عَنَمَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَابِي السَّلَمِيُّ. ثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو، مِنْ بَنِي حَجْرِ آلِ بَنِي سُلَيْمٍ، وَهُوَ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي كَثِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ.

حَرْفُ الْجِيمِ
جَابِرُ بْنُ خَالِدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ دِينَارِ بْنِ النَّجَّارِ

النَّجَّارِيُّ. جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ السَّلَمِيُّ، أَحَدُ الَّذِينَ شَهِدُوا الْعَقَبَةَ.
قُلْتُ: فَأَمَّا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ السَّلَمِيُّ أَيْضًا، فَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِيهِمْ فِي مُسْنَدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ: كُنْتُ أَمِيحُ لِأَصْحَابِي الْمَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ذَكَرْتُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ - يَعْنِي الْوَاقِدِيَّ - هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ جَابِرُ شَهِدَ بَدْرًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَلَمْ أَشْهَدْ بَدْرًا وَلَا أُحُدًا، مَنَعَنِي أَبِي، فَلَمَّا قُتِلَ

أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ، لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ غَزَاةٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ رَوْحٍ.
جَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ السَّلَمِيُّ. جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ الْأَنْصَارِيُّ. جُبَيْرُ بْنُ إِيَاسٍ الْخَزْرَجِيُّ.

حَرْفُ الْحَاءِ
الْحَارِثُ بْنُ أَنَسِ بْنِ رَافِعٍ الْخَزْرَجِيُّ. الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، ابْنُ أَخِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ الْأَوْسِيُّ. الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، رَدَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مِنَ الطَّرِيقِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. الْحَارِثُ بْنُ خَزَمَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَبِي غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، حَلِيفٌ لِبَنِي ذَعُورَا بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ. الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ الْخَزْرَجِيُّ، رَدَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ كُسِرَ مِنَ الطَّرِيقِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. الْحَارِثُ بْنُ عَرْفَجَةَ الْأَوْسِيُّ. الْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ

أَبُو خَالِدٍ الْخَزْرَجِيُّ. الْحَارِثُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأَنْصَارِيُّ. حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ النَّجَّارِيُّ، أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ وَهُوَ فِي النَّظَّارَةِ، فَرُفِعَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ. حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ. حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ اللَّخْمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ. حَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ الْأَشْجَعِيُّ، مِنْ بَنِي دُهْمَانَ. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدٍّ. وَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَائِذٍ فِي " مَغَازِيهِ ". وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ. سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي، وَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ.
الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْخَزْرَجِيِّ. وَيُقَالُ: كَانَ لِوَاءُ الْخَزْرَجِ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ. حَبِيبُ بْنُ أَسْوَدَ مَوْلَى بَنِي حَرَامٍ مَنْ بَنِي سَلِمَةَ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: حَبِيبُ بْنُ سَعْدٍ. بَدَلَ أَسْوَدَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَبِيبُ بْنُ أَسْلَمَ مَوْلَى آلِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ. أَنْصَارِيٌّ بَدْرِيٌّ. حُرَيْثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ. الْحُصَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.

حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

حَرْفُ الْخَاءِ
خَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ أَخُو إِيَاسٍ الْمُتَقَدِّمِ. خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو أَيُّوبَ النَّجَّارِيُّ. خَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ الْأَنْصَارِيُّ. خَارِجَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ، حَلِيفُ بَنِي خَنْسَاءَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَقِيلَ: اسْمُهُ حَمْزَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ. وَسَمَّاهُ ابْنُ عَائِذٍ: أَبَا خَارِجَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيُّ صِهْرُ الصِّدِّيقِ. خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَأَصْلُهُ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَيُقَالُ: مِنْ خُزَاعَةَ. خَبَّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. خِرَاشُ بْنُ الصِّمَّةِ السَّلَمِيُّ. خُبَيْبُ بْنُ إِسَافِ بْنِ عِنَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ. خُرَيْمُ بْنُ فَاتِكٍ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِيهِمْ. خَلِيفَةُ بْنُ عَدِيٍّ الْخَزْرَجِيُّ. خُلَيْدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ السَّلَمِيُّ. خُنَيْسُ بْنُ

حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ السَّهْمِيُّ. قُتِلَ يَوْمَئِذٍ فَتَأَيَّمَتْ مِنْهُ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. خَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ، ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا بِنَفْسِهِ. خَوْلِيُّ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ الْعِجْلِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ. مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. خَلَّادُ بْنُ رَافِعٍ وَخَلَّادُ بْنُ سُوَيْدٍ. وَخَلَّادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحُ الْخَزْرَجِيُّونَ.

حَرْفُ الذَّالِ
ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ. ذُو الشِّمَالَيْنِ بْنُ عَبْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نَضْلَةَ بْنِ غُبْشَانَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مِلْكَانَ بْنِ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، مِنْ خُزَاعَةَ، حَلِيفٌ لِبَنِي زُهْرَةَ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُهُ عُمَيْرٌ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: ذُو الشِّمَالَيْنِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَعْسَرَ.

حَرْفُ الرَّاءِ
رَافِعُ بْنُ الْحَارِثِ الْأَوْسِيُّ. رَافِعُ بْنُ عُنْجُدَةَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ أُمُّهُ. رَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ لَوْذَانَ الْخَزْرَجِيُّ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. رِبْعِيُّ بْنُ رَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْجَدِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ ضُبَيْعَةَ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ رِبْعِيُّ بْنُ أَبِي رَافِعٍ. رَبِيعُ بْنُ إِيَاسٍ الْخَزْرَجِيُّ. رَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ سَخْبَرَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ لُكَيْزِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَهُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. رُخَيْلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ الْخَزْرَجِيُّ. رِفَاعَةُ بْنُ رَافِعٍ الزُّرَقِيُّ، أَخُو خَلَّادِ

بْنِ رَافِعٍ. رِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ الْأَوْسِيُّ أَخُو أَبِي لُبَابَةَ. رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ الْخَزْرَجِيُّ.

حَرْفُ الزَّايِ
الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ، ابْنُ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَوَارِيُّهُ. زِيَادُ بْنُ عَمْرٍو. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: زِيَادُ بْنُ الْأَخْرَسِ بْنِ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: زِيَادُ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ مَوْدُوعَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الرُّبْعَةِ بْنِ رَشْدَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ. زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الزُّرَقِيُّ. زِيَادُ بْنُ الْمُزَيْنِ بْنِ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ. زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَجْلَانَ بْنِ ضُبَيْعَةَ. زَيْدُ بْنُ

حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلٍ، أَخُو عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ النَّجَّارِيُّ أَبُو طَلْحَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

حَرْفُ السِّينِ
سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ الْأَوْسِيُّ. سَالِمُ بْنُ عَوْفٍ الْخَزْرَجِيُّ. سَالِمُ بْنُ مَعْقِلٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ. السَّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ. سُبَيْعُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْشَةَ الْخَزْرَجِيُّ. سَبْرَةُ بْنُ فَاتِكٍ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ. سُرَاقَةُ بْنُ عَمْرٍو النَّجَّارِيُّ. سُرَاقَةُ بْنُ كَعْبٍ النَّجَّارِيُّ أَيْضًا. سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ مَوْلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ الْأَوْسِيُّ قُتِلَ

يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا. سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْخَزْرَجِيُّ الَّذِي قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا. سَعْدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ الْأَوْسِيُّ. سَعْدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْفَاكِهِ الْخَزْرَجِيُّ. سَعْدُ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ النَّجَّارِيُّ. سَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ. سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَلْدَةَ الْخَزْرَجِيُّ أَبُو عُبَادَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَائِذٍ: أَبُو عُبَيْدَةَ. سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَوْسِيُّ. كَانَ لِوَاءُ الْأَوْسِ مَعَهُ. سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمٍ الْخَزْرَجِيُّ. ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ عُرْوَةُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِيمَنْ شَهِدَ بَدْرًا، وَوَقَعَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ حِينَ شَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُلْتَقَى النَّفِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: كَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. الْحَدِيثُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ، قِيلَ: لِاسْتِنَابَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: لَدَغَتْهُ حَيَّةٌ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ. حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ قُتَيْبَةَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مَالِكِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ. سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ أَبُو سَهْلٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تَجَهِّزَ لِيَخْرُجَ، فَمَرِضَ فَمَاتَ قَبْلَ الْخُرُوجِ. سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيُّ، ابْنُ عَمِّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، يُقَالُ: قَدِمَ مِنَ الشَّامِ بَعْدَ مَرْجِعِهِمْ مِنْ بَدْرٍ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. سُفْيَانُ بْنُ بِشْرِ بْنِ عَمْرٍو الْخَزْرَجِيُّ. سَلَمَةُ بْنُ أَسْلَمَ بْنِ حَرِيشٍ الْأَوْسِيُّ. سَلَمَةُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشِ بْنِ زُغْبَةَ. سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشِ بْنِ زُغْبَةَ. سُلَيْمُ بْنُ الْحَارِثِ النَّجَّارِيُّ. سُلَيْمُ بْنُ عَمْرٍو السَّلَمِيُّ. سُلَيْمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ فَهْدٍ الْخَزْرَجِيُّ. سُلَيْمُ بْنُ مِلْحَانَ، أَخُو حَرَامِ بْنِ مِلْحَانَ النَّجَّارِيُّ. سِمَاكُ بْنِ أَوْسِ بْنِ خَرَشَةَ، أَبُو دُجَانَةَ. وَيُقَالُ: سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ. سِمَاكُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ. وَهُوَ أَخُو بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمِ. سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ الْأَوْسِيُّ. سَهْلُ بْنُ عَتِيكٍ النَّجَّارِيُّ. سَهْلُ بْنُ قَيْسٍ السَّلَمِيُّ. سُهَيْلُ بْنُ رَافِعٍ النَّجَّارِيُّ. الَّذِي كَانَ لَهُ وَلِأَخِيهِ مَوْضِعُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ. سُهَيْلُ بْنُ وَهْبٍ

الْفِهْرِيُّ، وَهُوَ ابْنُ بَيْضَاءَ، وَهِيَ أُمُّهُ. سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانِ بْنِ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، حَلِيفُ بَنَى عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. سِنَانُ بْنُ صَيْفِيٍّ السَّلَمِيُّ. سَوَادُ بْنُ زُرَيْقِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: سَوَادُ بْنُ رِزَامٍ. سَوَادُ بْنُ غَزِيَّةَ بْنِ أُهَيْبٍ الْبَلَوِيُّ. سُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْعَبْدَرِيُّ. سُوَيْدُ بْنُ مَخْشِيٍّ أَبُو مَخْشِيٍّ الطَّائِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَقِيلَ: اسْمُهُ أَرْبَدُ بْنُ حُمَيِّرٍ

حَرْفُ الشِّينِ
شُجَاعُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ الْأَسَدِيُّ، أَسَدُ خُزَيْمَةَ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. شَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ

بْنُ عُثْمَانَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَمَّاسًا، لِحُسْنِهِ وَشَبَّهَهُ شَمَّاسًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. شُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ يُسْهَمْ لَهُ، وَكَانَ عَلَى الْأَسْرَى، فَأَعْطَاهُ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّنْ لَهُ فِي الْأَسْرَى شَيْئًا، فَحَصَلَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ سَهْمٍ.

حَرْفُ الصَّادِ
صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ الرُّومِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. صَفْوَانُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ الْفِهْرِيُّ، أَخُو سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ، قُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ. صَخْرُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَنْسَاءَ السَّلَمِيُّ.

حَرْفُ الضَّادِ
ضَحَّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدٍ السَّلَمِيُّ. ضَحَّاكُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو النَّجَّارِيُّ. ضَمْرَةُ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ضَمْرَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ أَخُو زِيَادِ بْنِ عَمْرٍو.

حَرْفُ الطَّاءِ
طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ، قَدِمَ مِنَ الشَّامِ بَعْدَ مَرْجِعِهِمْ مِنْ بَدْرٍ، فَضَرَبَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. طُفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَهُوَ أَخُو حُصَيْنٍ وَعُبَيْدَةَ. طُفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ السَّلَمِيُّ. طُفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ السَّلَمِيُّ، ابْنُ عَمِّ الَّذِي قَبْلَهُ. طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيٍّ. ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ.

حَرْفُ الظَّاءِ
ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ الْأَوْسِيُّ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ.

حَرْفُ الْعَيْنِ
عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَفْلَحِ الْأَنْصَارِيُّ، الَّذِي حَمَتْهُ الدَّبْرُ حِينَ قُتِلَ بِالرَّجِيعِ. عَاصِمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْجَدِّ بْنِ عَجْلَانَ، رَدَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الرَّوْحَاءِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. عَاصِمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَزْرَجِيُّ. عَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ، أَخُو إِيَاسٍ وَخَالِدٍ وَعَامِرٍ. عَامِرُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسْحَاسِ النَّجَّارِيُّ. عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ الْفِهْرِيُّ. كَذَا ذَكَرَهُ سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَابْنِ عَائِذٍ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَزِيَادٌ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ. عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكٍ الْعَنْزِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. عَامِرُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَلَوِيُّ الْقُضَاعِيُّ، حَلِيفُ بَنِي مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ عَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ. عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

الْجَرَّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجِرَّاحِ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ. عَامِرُ بْنُ مُخَلَّدٍ النَّجَّارِيُّ. عَائِذُ بْنُ مَاعِصِ بْنِ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ. عَبَّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ الْأَوْسِيُّ. عَبَّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرٍ الْخَزْرَجِيُّ. عَبَّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عِيشَةَ الْخَزْرَجِيُّ، أَخُو سُبَيْعٍ الْمُتَقَدِّمِ. عُبَادَةُ بْنُ الْخَشْخَاشِ الْقُضَاعِيُّ. عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ الْخَزْرَجِيُّ. عُبَادَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ كَعْبِ بْنِ قَيْسٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عُرْفُطَةَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ، أَخُو بَحَّاثٍ الْمُتَقَدِّمِ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَوْسِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ السَّلَمِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَقِّ بْنِ أَوْسٍ السَّاعِدِيُّ. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَابْنُ عَائِذٍ: عَبْدُ رَبِّ بْنُ حَقٍّ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ:

عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ حَقٍّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُمَيِّرِ، حَلِيفٌ لِبَنِي حَرَامٍ، وَهُوَ أَخُو خَارِجَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ مِنْ أَشْجَعَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ الْخَزْرَجِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ، الَّذِي أُرِيَ النِّدَاءَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُرَاقَةَ الْعَدَوِيُّ. لَمْ يَذْكُرْهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَلَا الْوَاقِدِيُّ وَلَا ابْنُ عَائِذٍ، وَذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَالِكٍ الْعَجْلَانِيُّ، حَلِيفُ الْأَنْصَارِ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ، أَخُو بَنِي زَعُورَا. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، خَرَجَ مَعَ أَبِيهِ وَالْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ فَرَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَشَهِدَهَا مَعَهُمْ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقِ بْنِ مَالِكٍ الْقُضَاعِيُّ، حَلِيفُ الْأَوْسِ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، مِنْ بَلِيٍّ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ الْخَزْرَجِيُّ، وَكَانَ أَبُوهُ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، أَبُو سَلَمَةَ، زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ،

قُتِلَ يَوْمَئِذٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ النُّعْمَانِ السَّلَمِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْسٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْفُطَةَ بْنِ عَدِيٍّ الْخَزْرَجِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ السَّلَمِيُّ، أَبُو جَابِرٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ الْخَزْرَجِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ النَّجَّارِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ حَرَامٍ السَّلَمِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَدِيِّ بْنِ أَبِي الزَّغْبَاءِ عَلَى النَّفَلِ يَوْمَ بَدْرٍ.. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ الْهُذَلِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ بُلْدُمَةَ السَّلَمِيُّ. عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسَةَ بْنِ النُّعْمَانِ السَّلَمِيُّ. عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرِ بْنِ عَمْرٍو، أَبُو عَبْسٍ الْخَزْرَجِيُّ. عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ أَبُو عَقِيلٍ الْقُضَاعِيُّ الْبَلَوِيُّ. عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ

بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ الزُّهْرِيُّ، أَحَدُ الْعَشَرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. عَبْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَدِيٍّ السَّلَمِيُّ. عُبَيْدُ بْنُ التَّيِّهَانِ أَخُو أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ، وَيُقَالُ: عَتِيكٌ بَدَلَ عُبَيْدٍ. عُبَيْدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ. عُبَيْدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ. عُبَيْدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ. عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَخُو الْحُصَيْنِ وَالطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. عِتْبَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَمْرٍو الْخَزْرَجِيُّ. عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَهْرَانِيُّ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ لَوْذَانَ. عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَخْرٍ السَّلَمِيُّ. عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْأُمَوِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحَدُ الْعَشَرَةِ، تَخَلَّفَ عَلَى زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَرِّضُهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ أَبُو السَّائِبِ، أَخُو عَبْدِ اللَّهِ وَقُدَامَةَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. عَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِيُّ، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو بَيْنَ يَدَيْهِ

عَيْنًا. عِصْمَةُ بْنُ الْحُصَيْنِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَجْلَانِ. عُصَيْمَةُ، حَلِيفٌ لِبَنِي الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ، مِنْ أَشْجَعَ، وَقِيلَ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ. عَطِيَّةُ بْنُ نُوَيْرَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَطِيَّةَ الْخَزْرَجِيُّ. عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي السَّلَمِيُّ. عُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خَلْدَةَ الْخَزْرَجِيُّ، أَخُو سَعْدِ بْنِ عُثْمَانَ. عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ، وَقَعَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا، وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرُوهُ. عُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ الْأَسَدِيُّ، أَسَدُ خُزَيْمَةَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ أَخُو شُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ. عُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ، حَلِيفُ بَنِي غَطَفَانَ. عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْغَنْمِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَمِمَّنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ. عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَأَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَئِذٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ الْعَنْسِيُّ الْمَذْحِجِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ

الْأَوَّلِينَ. عُمَارَةُ بْنُ حَزْمِ بْنِ زَيْدٍ النَّجَّارِيُّ. عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَحَدُ الشَّيْخَيْنِ الْمُقْتَدَى بِهِمَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. عَمْرُو بْنُ إِيَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، حَلِيفٌ لِبَنِي لَوْذَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَخُو رَبِيعٍ وَوَدْفَةَ. عَمْرُو بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ، أَبُو حُكَيْمٍ. عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدَّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبَّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ الْفِهْرِيُّ. عَمْرُو بْنُ سُرَاقَةَ الْعَدَوِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. عَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحٍ الْفِهْرِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَابْنُ عَائِذٍ: مَعْمَرٌ بَدَلَ عَمْرٍو. عَمْرُو بْنُ طَلْقِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ سِنَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمٍ، وَهُوَ فِي بَنِي حَرَامٍ. عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيُّ. عَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمٍ، ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَالْأُمَوِيُّ

عَمْرُو بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَامِرٍ، أَبُو خَارِجَةَ. وَلَمْ يَذْكُرْهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَمْرُو بْنُ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ الْفِهْرِيُّ. ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. عَمْرُو بْنُ مَعْبَدِ بْنِ الْأَزْعَرِ الْأَوْسِيُّ. عَمْرُو بْنُ مُعَاذٍ الْأَوْسِيُّ، أَخُو سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَيُقَالُ: عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لِبْدَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ السَّلَمِيُّ. عُمَيْرُ بْنُ حَرَامِ بْنِ الْجَمُوحِ السَّلَمِيُّ. ذَكَرَهُ ابْنُ عَائِذٍ وَالْوَاقِدِيُّ. عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ، ابْنُ عَمِّ الَّذِي قَبْلَهُ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا. عُمَيْرُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْخَنْسَاءِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ، أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيُّ. عُمَيْرُ بْنُ عَوْفٍ، مَوْلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَسَمَّاهُ الْأُمَوِيُّ وَغَيْرُهُ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ. وَكَذَا وَقَعَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " فِي حَدِيثِ بَعْثِ أَبِي عُبَيْدَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ. عُمَيْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أُهَيْبٍ الزُّهْرِيُّ، أَخُو سَعْدِ بْنِ

أَبِي وَقَّاصٍ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا. عَنْتَرَةُ مَوْلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْهُمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ النَّجَّارِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ بِنْتِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ النَّجَّارِيَّةِ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا. عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ. عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ الْفِهْرِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

حَرْفُ الْغَيْنِ
غَنَّامُ بْنُ أَوْسٍ الْخَزْرَجِيُّ. ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَلَيْسَ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ.

حَرْفُ الْفَاءِ
الْفَاكِهُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْفَاكِهِ الْخَزْرَجِيُّ. فَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَدْقَةَ الْخَزْرَجِيُّ.

حَرْفُ الْقَافِ
قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ الْأَوْسِيُّ. قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجُمَحِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، أَخُو عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ. قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ السَّلَمِيُّ. قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ النَّجَّارِيُّ. قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ الْمَازِنِيُّ، كَانَ عَلَى السَّاقَةِ يَوْمَ بَدْرٍ. قَيْسُ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ خَالِدٍ الْخَزْرَجِيُّ. قَيْسُ بْنُ مُخَلَّدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ النَّجَّارِيُّ.

حَرْفُ الْكَافِ
كَعْبُ بْنُ حِمَارٍ. وَيُقَالُ: جَمَّازٍ. وَيُقَالُ: حِمَّانَ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: مِنْ غُبْشَانَ. وَيُقَالُ: كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جَمَّازٍ. وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: كَعْبُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ حبَالَةَ بْنِ غَنْمٍ الْغَسَّانِيُّ، مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي الْخَزْرَجِ بْنِ

سَاعِدَةَ. كَعْبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ النَّجَّارِيُّ. كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو، أَبُو الْيَسَرِ السَّلَمِيُّ. كُلْفَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ، أَحَدُ الْبَكَّائِينَ. ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنِ بْنِ يَرْبُوعٍ، أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ.

حَرْفُ الْمِيمِ
مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ. وَيُقَالُ: ابْنُ الدُّخْشُنِ الْخَزْرَجِيُّ. مَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ. مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ. مَالِكُ بْنُ قُدَامَةَ الْأَوْسِيُّ. مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو، أَخُو ثَقْفِ بْنِ عَمْرٍو وَكِلَاهُمَا مُهَاجِرِيٌّ، وَهُمَا مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي تَمِيمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ. مَالِكُ بْنُ مَسْعُودٍ

الْخَزْرَجِيُّ. مَالِكُ بْنُ نُمَيْلَةَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَالِكُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ نُمَيْلَةَ الْمُزَنِيُّ، حَلِيفٌ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ. مُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ الْأَوْسِيُّ، أَخُو أَبِي لُبَابَةَ وَرِفَاعَةَ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا. الْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ، مُهَاجِرِيٌّ. مُحْرِزُ بْنُ عَامِرٍ النَّجَّارِيُّ. مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ الْأَسَدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، مُهَاجِرِيٌّ، مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ. مُدْلِجٌ، وَيُقَالُ: مِدْلَاجُ بْنُ عَمْرٍو، أَخُو ثَقْفِ بْنِ عَمْرٍو، مُهَاجِرِيٌّ. مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ. مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ عَوْفٌ. مَسْعُودُ بْنُ أَوْسٍ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ. مَسْعُودُ بْنُ خَلْدَةَ الْخَزْرَجِيُّ.
مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ الْقَارِيُّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ مُهَاجِرِيٌّ. مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ - وَيُقَالُ: ابْنُ عَبْدِ سَعْدٍ - ابْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ جُشَمَ بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ. مَسْعُودُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ. مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ، مُهَاجِرِيٌّ، كَانَ مَعَهُ اللِّوَاءُ يَوْمَئِذٍ. مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْخَزْرَجِيُّ. مُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ النَّجَّارِيُّ، هَذَا هُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ، أَخُو عَوْفٍ وَمُعَوِّذٍ. مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ

الْخَزْرَجِيُّ. مُعَاذُ بْنُ مَاعِصٍ الْخَزْرَجِيُّ، أَخُو عَائِذٍ. مَعْبَدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ قُشَيْرِ بْنِ الْفَدْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ. وَيُقَالُ: مَعْبَدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ قَيْسٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قَشْعَرٌ بَدَلَ قُشَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ قَشْغَرٌ. أَبُو حُمَيْضَةَ. مَعْبَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ صَخْرٍ السَّلَمِيُّ، أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ. مُعَتِّبُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ إِيَاسٍ الْبَلَوِيُّ الْقُضَاعِيُّ. مُعَتِّبُ بْنُ عَوْفٍ الْخُزَاعِيُّ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ الْأَوْسِيُّ. مَعْقِلُ بْنُ الْمُنْذِرِ السَّلَمِيُّ. مَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْجُمَحِيُّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. مَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ الْأَوْسِيُّ. مُعَوِّذُ بْنُ الْحَارِثِ النَّجَّارِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ، أَخُو مُعَاذٍ وَعَوْفٍ. مُعَوِّذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ السَّلَمِيُّ، لَعَلَّهُ أَخُو مُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو. الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيُّ، وَهُوَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، وَهُوَ ذُو الْمَقَالِ الْمَحْمُودِ الَّذِي تَقَدَّمَ

ذِكْرُهُ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُرْسَانِ يَوْمَئِذٍ. مُلَيْلُ بْنُ وَبْرَةَ الْخَزْرَجِيُّ. الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْسٍ السَّاعِدِيُّ. الْمُنْذِرُ بْنُ قُدَامَةَ بْنِ عَرْفَجَةَ الْخَزْرَجِيُّ. الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الْأَنْصَارِيُّ، مِنْ بَنِي جَحْجَبَى. مِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَصْلُهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ.

حَرْفُ النُّونِ
نَصْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ رَزَاحِ بْنِ ظَفَرٍ وَهُوَ كَعْبٌ. نُعْمَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو النَّجَّارِيُّ، وَهُوَ أَخُو الضَّحَّاكِ. نُعْمَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رِفَاعَةَ النَّجَّارِيُّ. نُعْمَانُ بْنُ عَصَرِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ الْحَارِثِ، حَلِيفٌ لِبَنِي الْأَوْسِ. نُعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ قَوْقَلٌ. نُعْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، مَوْلًى لِبَنِي نُعْمَانَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ وَيُقَالُ: نُعْمَانُ بْنُ سِنَانٍ. نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَضْلَةَ الْخَزْرَجِيُّ.

حَرْفُ الْهَاءِ
هَانِئُ بْنُ نِيَارٍ، أَبُو بُرْدَةَ الْبَلَوِيُّ، خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ. هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي أَهْلِ بَدْرٍ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، فِي قِصَّةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي. هِلَالُ بْنُ الْمُعَلَّى الْخَزْرَجِيُّ، أَخُو رَافِعِ بْنِ الْمُعَلَّى.

حَرْفُ الْوَاوِ
وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَدِيعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جُرَادٍ الْجُهَنِيُّ. ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ عَائِذٍ. وَدْقَةُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ عَمْرٍو الْخَزْرَجِيُّ، أَخُو رَبِيعِ بْنِ إِيَاسٍ. وَهْبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، ذَكَرَهُ

مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ عَائِذٍ وَالْوَاقِدِيُّ، فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ

حَرْفُ الْيَاءِ
يَزِيدُ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ جَنَابِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ جُرَّةَ السُّلَمِيُّ، قَالَ السُّهَيْلِيُّ: شَهِدَ هُوَ وَأَبَوْهُ وَابْنُهُ - يَعْنِي بَدْرًا - وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ نَظِيرٌ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَلَا الْأَكْثَرُونَ، لَكِنْ شَهِدُوا مَعَهُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ فُسْحُمٍ. وَهِيَ أُمُّهُ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا بِبَدْرٍ. يَزِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ، أَبُو الْمُنْذِرِ السَّلَمِيُّ. يَزِيدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحٍ السَّلَمِيُّ، وَهُوَ أَخُو مَعْقِلِ بْنِ الْمُنْذِرِ.

بَابُ الْكُنَى
أَبُو أُسَيْدٍ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ، تَقَدَّمَ. أَبُو الْأَعْوَرِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ النَّجَّارِيُّ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو الْأَعْوَرِ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَبُو الْأَعْوَرِ كَعْبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُنْدَبِ بْنِ ظَالِمٍ. أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، تَقَدَّمَ. أَبُو حَبَّةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، أَحَدُ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيُّ. أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَقِيلَ: اسْمُهُ مُهَشِّمٌ. أَبُو الْحَمْرَاءِ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ ابْنِ عَفْرَاءَ. أَبُو خُزَيْمَةَ بْنُ أَوْسِ بْنِ أَصْرَمَ النَّجَّارِيُّ، أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. أَبُو سِنَانِ بْنُ مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ، أَخُو عُكَّاشَةَ وَمَعَهُ ابْنُهُ سِنَانٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. أَبُو الضَّيَّاحِ النُّعْمَانُ، - وَقِيلَ: عُمَيْرُ - ابْنُ ثَابِتِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ

أُمَيَّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ، وَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ، رَجَعَ لِجُرْحٍ أَصَابَهُ مِنْ حَجَرٍ فَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ. أَبُو عَرْفَجَةَ، مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي جَحْجَبَى. أَبُو كَبْشَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَبُو لُبَابَةَ بَشِيرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، تَقَدَّمَ. أَبُو مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ كَنَّازُ بْنُ حُصَيْنٍ، تَقَدَّمَ. أَبُو مَسْعُودٍ الْبَدْرِيُّ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، تَقَدَّمَ. أَبُو مُلَيْلِ بْنُ الْأَزْعَرِ بْنِ زَيْدٍ الْأَوْسِيُّ

فَصْلٌ
فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، ثَنَا زُهَيْرٌ ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ، مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، أَنَّهُمْ كَانُوا عِدَّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَمِائَةٍ. قَالَ الْبَرَاءُ: لَا وَاللَّهِ مَا جَاوَزَ مَعَهُ النَّهْرَ إِلَّا مُؤْمِنٌ. ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ نَحْوَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ، أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، ثَنَا وَهْبٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا عَلَى سِتِّينَ، وَالْأَنْصَارُ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْمُحَارِبِيُّ، ثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْجَنْبِيُّ، عَنِ الْحَجَّاجِ وَهُوَ - ابْنُ أَرْطَاةَ - عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ الْأَنْصَارُ مِائَتَيْنِ وَسِتَّةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَكَانَ حَامِلَ رَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَحَامِلَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتَّةَ رِجَالٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَسَبْعَةَ رِجَالٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ يَكُونُ هَذَا عَدَّ مَعَهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَوَّلُ عَدَّهُمْ بِدُونِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَانُوا ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، وَأَنَّ الْأَوْسَ أَحَدٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَالْخَزْرَجَ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا، وَسَرَدَهُمْ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ شَهِدْتَ بَدْرًا ؟ فَقَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ ؟
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبَى مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَمِيحُ لِأَصْحَابِي الْمَاءَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَهَذَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا الْبُخَارِيُّ وَلَا الضِّيَاءُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَفِي الَّذِينَ عَدَّهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مَنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمٍ فِي مَغْنَمِهَا وَأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهَا، تَخَلَّفَ عَنْهَا لِعُذْرٍ أُذِنَ لَهُ فِي التَّخَلُّفِ بِسَبَبِهِ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةً أَوْ تِسْعَةً، وَهُمْ، عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، تَخَلَّفَ عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُمَرِّضُهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، كَانَ بِالشَّامِ، فَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، كَانَ بِالشَّامِ أَيْضًا فَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَأَبُو لُبَابَةَ بَشِيرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّوْحَاءِ حِينَ بَلَغَهُ خُرُوجُ النَّفِيرِ مِنْ مَكَّةَ، فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أُمَيَّةَ، رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا مِنَ الطَّرِيقِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، كُسِرَ بِالرَّوْحَاءِ فَرَجَعَ، فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ - زَادَ

الْوَاقِدِيُّ: وَأَجْرِهِ - وَخَوَّاتُ بْنُ جُبَيْرٍ، لَمْ يَحْضُرِ الْوَقْعَةَ وَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ، وَأَبُو الضَّيَّاحِ بْنُ ثَابِتٍ، خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَصَابَ سَاقَهُ فَصِيلُ حَجَرٍ، فَرَجَعَ، وَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ تَجَهَّزَ لِيَخْرُجَ فَمَاتَ وَقِيلَ إِنَّهُ مَاتَ بِالرَّوْحَاءِ. فَضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ.
وَكَانَ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ وَهُمْ، عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ، قَتَلَهُ الْعَاصُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّجُوعِ لِصِغَرِهِ فَبَكَى، فَأَذِنَ لَهُ فِي الذَّهَابِ، فَقُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ. وَحَلِيفُهُمْ ذُو الشِّمَالَيْنِ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيُّ، وَصَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ، وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ. وَمِنَ الْأَنْصَارِ ثَمَانِيَةٌ وَهُمْ: حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، رَمَاهُ حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ حَنْجَرَتَهُ، فَمَاتَ، وَمُعَوِّذٌ وَعَوْفٌ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ - وَيُقَالُ ابْنُ فُسْحُمٍ - وَعُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ، وَرَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنِ لَوْذَانَ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ. وَمُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ.
وَكَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ بَعِيرًا كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مَعَهُمْ فَرَسَانِ، عَلَى أَحَدِهِمَا الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَاسْمُهَا بَعْزَجَةُ - وَيُقَالُ: سَبْحَةُ - وَعَلَى الْأُخْرَى الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَاسْمُهَا الْيَعْسُوبُ. وَكَانَ مَعَهُمْ لِوَاءٌ يَحْمِلُهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَرَايَتَانِ، يَحْمِلُ إِحْدَاهُمَا لِلْمُهَاجِرِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالَّتِي لِلْأَنْصَارِ يَحْمِلُهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَكَانَ رَأْسَ مَشُورَةِ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَرَأْسَ مَشُورَةِ الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
وَأَمَّا جَمْعُ الْمُشْرِكِينَ فَأَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِيهِمْ: إِنَّهُمْ كَانُوا مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، وَقَدْ نَصَّ عُرْوَةُ وَقَتَادَةُ أَنَّهُمْ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَجُلًا. وَهَذَا التَّحْدِيدُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفٍ، فَلَعَلَّهُ عَدَدُ أَتْبَاعِهِمْ مَعَهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّهُ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَأُسِرَ سَبْعُونَ. وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَلِهَذَا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
فَأَقَامَ بِالْعَطَنِ الْمُعَطَّنِ مِنْهُمُ سَبْعُونَ عُتْبَةُ مِنْهُمُ وَالْأَسْوَدُ
وَقَدْ حَكَى الْوَاقِدِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَا خِلَافَ ذَلِكَ، وَهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، فَلَا يُمْكِنُ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ بِدُونِ قَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ سَرَدَ أَسْمَاءَ الْقَتْلَى وَالْأُسَارَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَحَرَّرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ فِي " أَحْكَامِهِ " جَيِّدًا، وَقَدْ

تَقَدَّمَ فِي غُضُونِ سِيَاقَاتِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ أَوَّلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَوَّلُ مَنْ فَرَّ، وَهُوَ خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ الْخُزَاعِيُّ - أَوِ الْعُقَيْلِيُّ - حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ، وَمَا أَفَادَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ أُسِرَ، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي شِعْرِهِ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا يَقْطُرُ الدَّمُ
فَمَا صَدَقَ فِي ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ أَسَرُوا: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قُتِلَا صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْنِ الْأُسَارَى، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا قُتِلَ أَوَّلًا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَطْلَقَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُسَارَى مَجَّانًا بِلَا فِدَاءٍ، مِنْهُمْ، أَبُو الْعَاصِ بْنُ الرَّبِيعِ الْأُمَوِيُّ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ، وَصَيْفِيُّ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَبُو عَزَّةَ الشَّاعِرُ، وَوَهْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَفَادَى بَقِيَّتَهُمْ، حَتَّى عَمَّهُ الْعَبَّاسَ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ مِنْ سَائِرِ الْأَسْرَى، لِئَلَّا يُحَابِيَهُ لِكَوْنِهِ عَمَّهُ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَأَلَهُ الَّذِينَ أَسَرُوهُ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَتْرُكُوا لَهُ فِدَاءَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ " لَا تَتْرُكُوا مِنْهُ دِرْهَمًا ". وَقَدْ كَانَ فِدَاؤُهُمْ مُتَفَاوِتًا، فَأَقَلُّ مَا أُخِذَ أَرْبَعُمِائَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ أَرْبَعُونَ أُوقِيَّةً مِنْ ذَهَبٍ. قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ.

وَأُخِذَ مِنَ الْعَبَّاسِ مِائَةُ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ بِمِقْدَارِ فِدَائِهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ قَالَ: قَالَ دَاوُدُ ثَنَا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِدَاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِدَاءَهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا أَوْلَادَ الْأَنْصَارِ الْكِتَابَةَ. قَالَ: فَجَاءَ غُلَامٌ يَوْمًا يَبْكِي إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ ؟ فَقَالَ: ضَرَبَنِي مُعَلِّمِي. فَقَالَ: الْخَبِيثُ يَطْلُبُ بِذَحْلِ بَدْرٍ، وَاللَّهِ لَا تَأْتِيهِ أَبَدًا. انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ السُّنَنِ. وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

فَصْلٌ فِي فَضْلِ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حُمَيْدٍ، سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: أُصِيبَ حَارِثَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ، مِنِّي فَإِنْ يَكُ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرُ وَأَحْتَسِبُ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى تَرَ مَا أَصْنَعُ. فَقَالَ: وَيْحَكِ، أَوَهَبِلْتِ، أَوَجَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ ؟ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ وَقَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، وَأَنَّ حَارِثَةَ كَانَ فِي النَّظَّارَةِ، وَفِيهِ:إِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى فَضْلِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي لَمْ يَكُنْ فِي بَحْبَحَةِ الْقِتَالِ

وَلَا فِي حَوْمَةِ الْوَغَى، بَلْ كَانَ مِنَ النَّظَّارَةِ مِنْ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ، وَمَعَ هَذَا أَصَابَ بِهَذَا الْمَوْقِفِ الْفِرْدَوْسَ، الَّتِي هِيَ أَعْلَى الْجِنَانِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، الَّتِي أَمَرَ الشَّارِعُ أُمَّتَهُ إِذَا سَأَلُوا اللَّهَ الْجَنَّةَ أَنْ يَسْأَلُوهُ إِيَّاهَا، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ هَذَا، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَعَدُوُّهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْعَافِهِمْ عَدَدًا وَعُدَدًا.
ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَبَعْثِهِ الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَأَنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَرْبِ عُنُقِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: " أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ؟! وَلَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ " أَوْ " قَدَ غَفَرْتُ لَكُمْ " فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ

عَبْدًا لِحَاطِبٍ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَبْتَ، لَا يَدْخُلُهَا، فَإِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ رَجُلٌ شَهِدَ بَدْرًا أَوِ الْحُدَيْبِيَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، وَمُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ.
وَرَوَى الْبَزَّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، ثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، ثَنَا

عِكْرِمَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قُلْتُ: وَقَدْ تَفَرَّدَ الْبَزَّارُ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ شُهُودِ الْمَلَائِكَةِ بَدْرًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ - قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ قَالَ: مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.

فَصْلٌ فِي قُدُومِ زَيْنَبَ بِنْتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُهَاجِرَةً مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِشَهْرٍ، بِمُقْتَضَى مَا كَانَ شَرَطَ زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا تَقَدَّمَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَجَعَ أَبُو الْعَاصِ إِلَى مَكَّةَ وَقَدْ خُلِّيَ سَبِيلُهُ - يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ -بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ مَكَانَهُ، فَقَالَ: كُونَا بِبَطْنِ يَأْجَجَ حَتَّى تَمُرَّ بِكُمَا زَيْنَبُ، فَتُصَاحِبَاهَا فَتَأْتِيَانِي بِهَا فَخَرَجَا مَكَانَهُمَا، وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ - أَوْ شَيْعِهِ - فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ مَكَّةَ أَمَرَهَا بِاللُّحُوقِ بِأَبِيهَا، فَخَرَجَتْ تَجَهَّزُ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ زَيْنَبَ أَنَّهَا قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا أَتَجَهَّزُ لَقِيَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، فَقَالَتْ: يَا ابْنَةَ مُحَمَّدٍ، أَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّكِ تُرِيدِينَ اللُّحُوقَ بِأَبِيكِ ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: مَا أَرَدْتُ ذَلِكَ. فَقَالَتْ: أَيِ ابْنَةَ عَمِّ، لَا تَفْعَلِي، إِنْ كَانَتْ لَكِ حَاجَةٌ بِمَتَاعٍ مِمَّا يَرْفُقُ بِكِ فِي سَفَرِكِ أَوْ بِمَالٍ تَتَبَلَّغِينَ بِهِ إِلَى أَبِيكِ، فَإِنَّ عِنْدِي حَاجَتَكِ فَلَا تَضْطَنِي مِنِّي فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ النِّسَاءِ مَا بَيْنَ الرِّجَالِ. قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَرَاهَا قَالَتْ ذَلِكَ إِلَّا لِتَفْعَلَ. قَالَتْ وَلَكِنِّي خِفْتُهَا، فَأَنْكَرْتُ أَنْ أَكُونَ أُرِيدُ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَتَجَهَّزَتْ، فَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ جَهَازِهَا قَدَّمَ إِلَيْهَا أَخُو زَوْجِهَا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بَعِيرًا فَرَكِبَتْهُ، وَأَخَذَ قَوْسَهُ وَكِنَانَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهَا نَهَارًا يَقُودُ بِهَا، وَهِيَ فِي هَوْدَجٍ لَهَا، وَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا حَتَّى أَدْرَكُوهَا بِذِي طُوًى، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى وَالْفِهْرِيُّ، فَرَوَّعَهَا هَبَّارٌ بِالرُّمْحِ، وَهِيَ فِي

الْهَوْدَجِ، وَكَانَتْ حَامِلًا - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فَطَرَحَتْ، وَبَرَكَ حَمُوهَا كِنَانَةُ، وَنَثَرَ كِنَانَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إِلَّا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا. فَتَكَرْكَرَ النَّاسُ عَنْهُ، وَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ فِي جِلَّةٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ، كُفَّ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ. فَكَفَّ، فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالْمَرْأَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ عَلَانِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا، وَمَا دُخِلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ النَّاسُ إِذْ خَرَجْتَ بِابْنَتِهِ إِلَيْهِ عَلَانِيَةً عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا، أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ذُلٍّ أَصَابَنَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَّا ضَعْفٌ وَوَهْنٌ، وَلَعَمْرِي مَا لَنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيهَا مِنْ حَاجَةٍ، وَمَا لَنَا مِنْ ثُؤْرَةٍ، وَلَكِنِ ارْجِعْ بِالْمَرْأَةِ، حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنْ قَدْ رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا سِرًّا وَأَلْحِقْهَا بِأَبِيهَا. قَالَ: فَفَعَلَ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ الَّذِينَ رَدُّوا زَيْنَبَ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ قَالَتْ هِنْدُ تَذُمُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ:
أَفِي السِّلْمِ أَعْيَارٌ جَفَاءً وَغِلْظَةً وَفِي الْحَرْبِ أَشْبَاهُ النِّسَاءِ الْعَوَارِكِ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ ذَلِكَ لِلَّذِينِ رَجَعُوا مِنْ بَدْرٍ، بَعْدَمَا قُتِلَ مِنْهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَتْ لَيَالِيَ حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ خَرَجَ بِهَا لَيْلًا حَتَّى أَسْلَمَهَا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَصَاحِبِهِ، فَقَدِمَا بِهَا لَيْلًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ،عَنْ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ قِصَّةَ خُرُوجِهَا وَرَدِّهِمْ لَهَا وَوَضْعِهَا مَا فِي بَطْنِهَا، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَعْطَاهُ خَاتَمَهُ، لِتَجِيءَ مَعَهُ، فَتَلَطَّفَ زَيْدٌ، فَأَعْطَاهُ رَاعِيًا مِنْ مَكَّةَ، فَأَعْطَى الْخَاتَمَ لِزَيْنَبَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَرَفَتْهُ، فَقَالَتْ: مَنْ دَفَعَ إِلَيْكَ هَذَا ؟ قَالَ: رَجُلٌ فِي ظَاهِرِ مَكَّةَ. فَخَرَجَتْ زَيْنَبُ لَيْلًا فَرَكِبَتْ وَرَاءَهُ حَتَّى قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هِيَ أَفْضَلُ بَنَاتِي أُصِيبَتْ فِيَّ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ، فَأَتَى عُرْوَةَ فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ تَنْتَقِصُ فِيهِ فَاطِمَةَ ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَأَنِّي أَنْتَقِصُ فَاطِمَةَ حَقًّا هُوَ لَهَا، وَأَمَّا بَعْدُ فَلَكَ أَنْ لَا أُحَدِّثَهُ أَبَدًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ فِي ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، أَوْ أَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هِيَ لِأَبِي خَيْثَمَةَ -:
أَتَانِي الَّذِي لَا يَقْدُرُ النَّاسُ قَدْرَهُ لِزَيْنَبَ فِيهِمْ مِنْ عُقُوقٍ وَمَأْثَمِ

وَإِخْرَاجُهَا لَمْ يُخْزَ فِيهَا مُحَمَّدٌ عَلَى مَأْقِطٍ وَبَيْنَنَا عِطْرُ مَنْشِمِ
وَأَمْسَى أَبُو سُفْيَانَ مِنْ حِلْفِ ضَمْضَمٍ وَمِنْ حَرْبِنَا فِي رَغْمِ أَنْفٍ وَمَنْدَمِ
قَرَنَّا ابْنَهُ عَمْرًا وَمَوْلَى يَمِينِهِ بِذِي حَلَقٍ جَلْدِ الصَّلَاصِلِ مُحْكَمِ
فَأَقْسَمْتُ لَا تَنْفَكُّ مِنَّا كَتَائِبٌ سَرَاةُ خَمِيسٍ مَنْ لُهَامٍ مُسَوَّمِ
نَرُوعُ قُرَيْشَ الْكُفْرِ حَتَّى نَعُلَّهَا بِخَاطِمَةٍ فَوْقَ الْأُنُوفِ بِمِيسَمِ
نُنَزِّلُهُمْ أَكْنَافَ نَجْدٍ وَنَخْلَةٍ وَإِنْ يُتْهِمُوا بِالْخَيْلِ وَالرَّجْلِ نُتْهِمِ
يَدَ الدَّهْرِ حَتَّى لَا يُعَوَّجَّ سِرْبُنَا وَنُلْحِقُهُمْ آثَارَ عَادٍ وَجُرْهُمِ

وَيَنْدَمُ قَوْمٌ لَمْ يُطِيعُوا مُحَمَّدًا عَلَى أَمْرِهِمْ وَأَيُّ حِينِ تَنَدُّمِ
فَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ إِمَّا لَقِيتَهُ لَئِنْ أَنْتَ لَمْ تُخْلِصْ سُجُودًا وَتُسْلِمِ
فَأَبْشِرْ بِخِزْيٍ فِي الْحَيَاةِ مُعَجَّلٍ وَسِرْبَالِ قَارٍ خَالِدًا فِي جَهَنَّمَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَوْلَى يَمِينِ أَبِي سُفْيَانَ الَّذِي عَنَاهُ الشَّاعِرُ، هُوَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: إِنَّمَا هُوَ عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَأَمَّا عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ، فَإِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الدَّوْسِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً أَنَا فِيهَا، فَقَالَ: " إِنْ ظَفِرْتُمْ بِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَالرَّجُلِ الَّذِي سَبَقَ مَعَهُ إِلَى زَيْنَبَ فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ " فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ بَعَثَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ بِتَحْرِيقِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحْرِقَ بِالنَّارِ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ ظَفِرْتُمْ بِهِمَا فَاقْتُلُوهُمَا. تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ السُّنَنِ وَلَمْ يُخْرِجُوهُ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، ثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ، فَقَالَ إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرِقُوهُمَا بِالنَّارِ ثُمَّ قَالَ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ: إِنِّي أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَحْرِقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا، وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَأَنَّ أَبَا الْعَاصِ أَقَامَ بِمَكَّةَ عَلَى كُفْرِهِ، وَاسْتَمَرَّتْ زَيْنَبُ عِنْدَ أَبِيهَا بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ فِي تِجَارَةٍ لِقُرَيْشٍ، فَلَمَّا قَفَلَ مِنَ الشَّامِ لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ، فَأَخَذُوا مَا مَعَهُ، وَأَعْجَزَهُمْ هَرَبًا، وَجَاءَ تَحْتَ اللَّيْلِ إِلَى زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ فَاسْتَجَارَ بِهَا فَأَجَارَتْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَبَّرَ، وَكَبَّرَ النَّاسُ، صَرَخَتْ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ. فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ، أَيُّهَا النَّاسُ، هَلْ سَمِعْتُمُ الَّذِي سَمِعْتُ ؟. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ حَتَّى سَمِعْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَإِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ زَيْنَبَ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةَ، أَكْرِمِي مَثْوَاهُ، وَلَا يَخْلُصَنَّ إِلَيْكِ، فَإِنَّكِ لَا تَحِلِّينَ لَهُ. قَالَ: وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثَّهُمْ عَلَى رَدِّ مَا كَانَ مَعَهُ، فَرَدُّوهُ بِأَسْرِهِ لَا يَفْقِدُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَخَذَهُ أَبُو الْعَاصِ فَرَجَعَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَعْطَى كُلَّ إِنْسَانٍ مَا كَانَ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ عِنْدِي مَالٌ لَمْ يَأْخُذْهُ ؟ قَالُوا: لَا، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاكَ وَفِيًّا كَرِيمًا. قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي عَنِ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخُوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ آكُلَ أَمْوَالَكُمْ، فَلَمَّا أَدَّاهَا اللَّهُ إِلَيْكُمْ وَفَرَغْتُ مِنْهَا أَسْلَمْتُ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:رَدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَيْنَبَ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ، وَلَكِنْ لَا نَعْرِفُ وَجْهَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَعَلَّهُ قَدْ جَاءَ مِنْ قِبَلِ حِفْظِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ.

وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فِيمَا عَلِمْتُ. وَفِي لَفْظٍ: رَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ: بَعْدَ سَنَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يُحْدِثْ نِكَاحًا. وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ وَزَوْجُهَا كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تُعُجِّلَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ انْتُظِرَ إِلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَ فِيهَا اسْتَمَرَّ عَلَى نِكَاحِهَا، وَإِنِ انْقَضَتْ وَلَمْ يُسْلِمِ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا، وَزَيْنَبُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَسْلَمَتْ حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَاجَرَتْ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ، وَحُرِّمَ الْمُسْلِمَاتُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، وَأَسْلَمَ أَبُو الْعَاصِ قَبْلَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، فَمَنْ قَالَ: رَدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ. أَيْ مِنْ حِينِ هِجْرَتِهَا، فَهُوَ صَحِيحٌ، وَمَنْ قَالَ: بَعْدَ سَنَتَيْنِ. أَيْ مِنْ حِينِ حُرِّمَتِ الْمُسْلِمَاتُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالظَّاهِرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَقَلُّهَا سَنَتَانِ مِنْ حِينِ التَّحْرِيمِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا، فَكَيْفَ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ: يَحْتَمِلُ أَنَّ عِدَّتَهَا لَمْ تَنْقَضِ، وَهَذِهِ قِصَّةُ عَيْنٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ. وَعَارَضَ آخَرُونَ هَذَا

الْحَدِيثَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ بِنْتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَاهٍ وَلَمْ يَسْمَعْهُ الْحَجَّاجُ مِنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيِّ، وَالْعَرْزَمِيُّ لَا يُسَاوِي حَدِيثُهُ شَيْئًا، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ.
وَهَكَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَالصَّوَابُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهَا بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ قَبْلَ زَوْجِهَا ثُمَّ أَسْلَمَ زَوْجُهَا أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الظَّاهِرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ جَدَّدَ لَهَا نِكَاحًا فَضَعِيفٌ، فَفِي قَضِيَّةِ زَيْنَبَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسْلَمَتْ

وَتَأَخَّرَ إِسْلَامُ زَوْجِهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَنِكَاحُهَا لَا يَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، بَلْ تَبْقَى بِالْخِيَارِ، إِنْ شَاءَتْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، وَإِنْ شَاءَتْ تَرَبَّصَتْ وَانْتَظَرَتْ إِسْلَامَ زَوْجِهَا أَيَّ وَقْتٍ كَانَ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ قُوَّةٌ، وَلَهُ حَظٌّ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَيُسْتَشْهَدُ لِذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ حَيْثُ قَالَ: نِكَاحُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكَاتِ وَعِدَّتُهُنَّ. حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا مُشْرِكِي أَهْلِ حَرْبٍ يُقَاتِلُونَهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ، وَمُشْرِكِي أَهْلِ عَهْدٍ لَا يُقَاتِلُهُمْ وَلَا يُقَاتِلُونَهُ، وَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ، فَإِذَا طَهُرَتْ حَلَّ لَهَا النِّكَاحُ، فَإِنَّ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ، وَإِنْ هَاجَرَ عَبْدٌ مِنْهُمْ أَوْ أَمَةٌ فَهُمَا حُرَّانِ وَلَهُمَا مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مِثْلَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ. هَذَا لَفَظُهُ بِحُرُوفِهِ، فَقَوْلُهُ: فَكَانَ إِذَا هَاجَرَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ تُخْطَبْ حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ. يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَبْرِئُ بِحَيْضَةٍ، لَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى هَذَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنْ هَاجَرَ زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ رُدَّتْ إِلَيْهِ. يَقْتَضِي أَنَّهُ، وَإِنْ هَاجَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَالْعِدَّةِ، أَنَّهَا تُرَدُّ إِلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَنْكِحْ زَوْجًا غَيْرَهُ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

وَكَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْعُظْمَى
فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَنْكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ:
أَلَمْ تَرَ أَمْرًا كَانَ مَنْ عَجَبِ الدَّهْرِ وَلِلْحَيْنِ أَسْبَابٌ مُبَيَّنَةُ الْأَمْرِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّ قَوْمًا أَفَادَهُمْ
فَخَانُوا تَوَاصٍ بِالْعُقُوقِ وَبِالْكُفْرِ عَشِيَّةَ رَاحُوا نَحْوَ بَدْرٍ بِجَمْعِهِمْ
فَكَانُوا رُهُونًا لِلرَّكِيَّةِ مِنْ بَدْرِ وَكُنَّا طَلَبْنَا الْعِيرِ لَمْ نَبْغِ غَيْرَهَا
فَسَارُوا إِلَيْنَا فَالْتَقَيْنَا عَلَى قَدْرِ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا لَمْ تَكُنْ مَثْنَوِيَّةٌ
لَنَا غَيْرَ طَعْنٍ بِالْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ

وَضَرْبٍ بِبِيضٍ يَخْتَلِي الْهَامَ حَدُّهَا
مُشَهَّرَةِ الْأَلْوَانِ بَيِّنَةِ الْأُثْرِ وَنَحْنُ تَرَكْنَا عُتْبَةَ الْغَيِّ ثَاوِيًا
وَشَيْبَةَ فِي قَتْلَى تَجَرْجَمُ فِي الْجَفْرِ وَعَمْرٌو ثَوَى فِيمَنْ ثَوَى مِنْ حُمَاتِهِمْ
فَشُقَّتْ جُيُوبَ النَّائِحَاتِ عَلَى عَمْرِو جُيُوبُ نِسَاءٍ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
كِرَامٍ تَفَرَّعْنَ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرِ أُولَئِكَ قَوْمٌ قُتِّلُوا فِي ضَلَالِهِمْ
وَخَلَّوْا لِوَاءً غَيْرَ مُحْتَضَرِ النَّصْرِ لِوَاءَ ضَلَالٍ قَادَ إِبْلِيسُ أَهْلَهُ
فَخَاسَ بِهِمْ إِنَّ الْخَبِيثَ إِلَى غَدْرِ وَقَالَ لَهُمْ إِذْ عَايَنَ الْأَمْرَ وَاضِحًا
بَرِئْتُ إِلَيْكُمْ مَا بِيَ الْيَوْمَ مِنْ صَبْرِ فَإِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَإِنَّنِي
أَخَافُ عِقَابَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو قَسْرِ فَقَدَّمَهُمْ لِلْحَيْنِ حَتَّى تَوَرَّطُوا
وَكَانَ بِمَا لَمْ يَخْبُرِ الْقَوْمُ ذَا خُبْرِ فَكَانُوا غَدَاةَ الْبِئْرِ أَلْفًا وَجَمْعُنَا
ثَلَاثُ مِئِينٍ كَالْمُسَدَّمَةِ الزُّهْرِ وَفِينَا جُنُودُ اللَّهِ حِينَ يَمُدُّنَا
بِهِمْ فِي مَقَامٍ ثَمَّ مُسْتَوْضِحِ الذِّكْرِ فَشَدَّ بِهِمْ جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا
لَدَى مَأْزَقٍ فِيهِ مَنَايَاهُمُ تَجْرِي

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ جَوَابَهَا مِنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَخِي أَبِي جَهْلٍ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، تَرَكْنَاهَا عَمْدًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - وَأَنْكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ -:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَبْلَى رَسُولَهُ بَلَاءَ عَزِيزٍ ذِي اقْتِدَارٍ وَذِي فَضْلِ
بِمَا أَنْزَلَ الْكُفَّارَ دَارَ مَذَلَّةٍ فَلَاقَوْا هَوَانًا مِنْ إِسَارٍ وَمِنْ قَتْلِ
فَأَمْسَى رَسُولُ اللَّهِ قَدْ عَزَّ نَصْرُهُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ أُرْسِلَ بِالْعَدْلِ
فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ مِنَ اللَّهِ مُنْزَلٍ مُبَيَّنَةٍ آيَاتُهُ لِذَوِي الْعَقْلِ
فَآمَنَ أَقْوَامٌ بِذَاكَ وَأَيْقَنُوا فَأَمْسَوْا بِحَمْدِ اللَّهِ مُجْتَمِعِي الشَّمْلِ
وَأَنْكَرَ أَقْوَامٌ فَزَاغَتْ قُلُوبُهُمْ فَزَادَهُمُ ذُو الْعَرْشِ خَبْلًا عَلَى خَبْلِ
وَأَمْكَنَ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ رَسُولَهُ وَقَوْمًا غِضَابًا فِعْلُهُمْ أَحْسَنُ الْفِعْلِ
بِأَيْدِيهِمُ بِيضٌ خِفَافٌ عَصُوا بِهَا وَقَدْ حَادَثُوهَا بِالْجَلَاءِ وَبِالصَّقْلِ
فَكَمْ تَرَكُوا مِنْ نَاشِئٍ ذِي حَمِيَّةٍ صَرِيعًا وَمِنْ ذِي نَجْدَةٍ مِنْهُمُ كَهْلِ
تَبِيتُ عُيُونُ النَّائِحَاتِ عَلَيْهِمُ تَجُودُ بِإِسْبَالِ الرَّشَاشِ وَبِالْوَبْلِ

نَوَائِحَ تَنْعَيْ عُتْبَةَ الْغَيِّ وَابْنَهُ وَشَيْبَةَ تَنْعَاهُ وَتَنْعَيْ أَبَا جَهْلِ
وَذَا الرِّجْلِ تَنْعَى وَابْنَ جُدْعَانَ فِيهِمُ مُسَلَّبَةً حَرَّى مُبَيَّنَةَ الثُّكْلِ
ثُوَى مِنْهُمُ فِي بِئْرِ بَدْرٍ عِصَابَةٌ ذَوُو نَجَدَاتٍ فِي الْحُرُوبِ وَفِي الْمَحْلِ
دَعَا الْغَيُّ مِنْهُمْ مَنْ دَعَا فَأَجَابَهُ وَلِلْغَيِّ أَسْبَابٌ مُرَمَّقَةُ الْوَصْلِ
فَأَضْحَوْا لَدَى دَارِ الْجَحِيمِ بِمَعْزِلٍ عَنِ الشَّغْبِ وَالْعُدْوَانِ فِي أَسْفَلِ السُّفْلِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ نَقِيضَهَا مِنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَيْضًا، تَرَكْنَاهَا قَصْدًا. وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
عَجِبْتُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاللَّهُ قَادِرُ عَلَى مَا أَرَادَ لَيْسَ لِلَّهِ قَاهِرُ
قَضَى يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ نُلَاقِيَ مَعْشَرًا بَغَوْا وَسَبِيلُ الْبَغْيِ بِالنَّاسِ جَائِرُ
وَقَدْ حَشَدُوا وَاسْتَنْفَرُوا مَنْ يَلِيهِمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى جَمْعُهُمْ مُتَكَاثِرُ
وَسَارَتْ إِلَيْنَا لَا تُحَاوِلُ غَيْرَنَا بِأَجْمَعِهَا كَعْبٌ جَمِيعًا وَعَامِرُ
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ وَالْأَوْسُ حَوْلَهُ لَهُ مَعْقِلٌ مِنْهُمْ عَزِيزٌ وَنَاصِرُ

وَجَمْعُ بَنِي النَّجَّارِ تَحْتَ لِوَائِهِ يَمْشُونَ فِي الْمَاذِيِّ وَالنَّقْعُ ثَائِرُ
فَلَمَّا لَقِينَاهُمْ وَكُلٌّ مُجَاهِدٌ لِأَصْحَابِهِ مُسْتَبْسِلُ النَّفْسِ صَابِرُ
شَهِدْنَا بِأَنَّ اللَّهَ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بِالْحَقِّ ظَاهِرُ
وَقَدْ عُرِّيَتْ بِيضٌ خِفَافٌ كَأَنَّهَا مَقَابِيسُ يُزْهِيهَا لِعَيْنَيْكَ شَاهِرُ
بِهِنَّ أَبَدْنَا جَمْعَهُمْ فَتَبَدَّدُوا وَكَانَ يُلَاقِي الْحَيْنَ مَنْ هُوَ فَاجِرُ
فَكَبَّ أَبُو جَهْلٍ صَرِيعًا لِوَجْهِهِ وَعُتْبَةُ قَدْ غَادَرْتُهُ وَهْوَ عَاثِرُ
وَشَيْبَةَ وَالتَّيْمِيَّ غَادَرْتُ فِي الْوَغَى وَمَا مِنْهُمْ إِلَّا بِذِي الْعَرْشِ كَافِرُ
فَأَمْسَوْا وَقُودَ النَّارِ فِي مُسْتَقَرِّهَا وَكُلُّ كَفُورٍ فِي جَهَنَّمَ صَائِرُ
تَلَظَّى عَلَيْهِمْ وَهْيَ قَدْ شَبَّ حَمْيُهَا بِزُبْرِ الْحَدِيدِ وَالْحِجَارَةِ سَاجِرُ
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ قَالَ أَقْبِلُوا فَوَلَّوْا وَقَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ سَاحِرُ
لِأَمْرٍ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَهْلِكُوا بِهِ وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ زَاجِرُ
وَقَالَ كَعْبٌ فِي يَوْمِ بَدْرٍ

أَلَا هَلْ أَتَى غَسَّانَ فِي نَأْيِ دَارِهَا وَأَخْبَرُ شَيْءٍ بِالْأُمُورِ عَلِيمُهَا
بِأَنْ قَدْ رَمَتْنَا عَنْ قِسِيٍّ عَدَاوَةً مَعَدٌّ مَعًا جُهَّالُهَا وَحَلِيمُهَا
لِأَنَّا عَبَدْنَا اللَّهَ لَمْ نَرْجُ غَيْرَهُ رَجَاءَ الْجِنَانِ إِذْ أَتَانَا زَعِيمُهَا
نَبِيٌّ لَهُ فِي قَوْمِهِ إِرْثُ عِزَّةٍ وَأَعْرَاقُ صِدْقٍ هَذَّبَتْهَا أُرُومُهَا
فَسَارُوا وَسِرْنَا فَالْتَقَيْنَا كَأَنَّنَا أُسُودُ لِقَاءٍ لَا يُرَجَّى كَلِيمُهَا
ضَرَبْنَاهُمُ حَتَّى هَوَى فِي مَكَرِّنَا لِمَنْخِرِ سَوْءٍ مِنْ لُؤَيٍّ عَظِيمُهَا
فَوَلَّوْا وَدُسْنَاهُمْ بِبِيضٍ صَوَارِمٍ سَوَاءٌ عَلَيْنَا حِلْفُهَا وَصَمِيمُهَا
وَقَالَ كَعْبٌ أَيْضًا:
لَعَمْرُ أَبِيكُمَا يَا ابْنَيْ لُؤَيٍّ عَلَى زَهْوٍ لَدَيْكُمْ وَانْتِخَاءِ
لَمَا حَامَتْ فَوَارِسُكُمْ بِبَدْرٍ وَلَا صَبَرُوا بِهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ
وَرَدْنَاهُ وَنُورُ اللَّهِ يَجْلُو دُجَى الظَّلْمَاءِ عَنَّا وَالْغِطَاءِ

رَسُولُ اللَّهِ يَقْدُمُنَا بِأَمْرٍ مِنَ امْرِ اللَّهِ أُحْكِمَ بِالْقَضَاءِ
فَمَا ظَفِرَتْ فَوَارِسُكُمْ بِبَدْرٍ وَمَا رَجَعُوا إِلَيْكُمْ بِالسَّوَاءِ
فَلَا تَعْجَلْ أَبَا سُفْيَانَ وَارْقُبْ جِيَادَ الْخَيْلِ تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءِ
بِنْصِرِ اللَّهِ رُوحُ الْقُدْسِ فِيهَا وَمِيكَالٌ فَيَا طِيبَ الْمَلَاءِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ هِيَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ السَّهْمِيِّ:
مُسْتَشْعِرِي حَلَقَ الْمَاذِيِّ يَقْدُمُهُمْ جَلْدُ النَّحِيزَةِ مَاضٍ غَيْرُ رِعْدِيدِ
أَعْنِي رَسُولَ إِلَهِ الْخَلْقِ فَضَّلَهُ عَلَى الْبَرِيَّةِ بِالتَّقْوَى وَبِالْجُودِ
وَقَدْ زَعَمْتُمْ بِأَنْ تَحْمُوا ذِمَارَكُمُ وَمَاءُ بَدْرٍ زَعَمْتُمْ غَيْرُ مَوْرُودِ
ثُمَّ وَرَدْنَا وَلَمْ نَسْمَعْ لِقَوْلِكُمُ حَتَّى شَرِبْنَا رَوَاءً غَيْرَ تَصْرِيدِ
مُسْتَعْصِمِينَ بِحَبْلٍ غَيْرِ مُنْجَذِمٍ مُسْتَحْكِمٍ مِنْ حِبَالِ اللَّهِ مَمْدُودِ

فِينَا الرَّسُولُ وَفِينَا الْحَقُّ نَتْبَعُهُ حَتَّى الْمَمَاتِ وَنَصْرٌ غَيْرُ مَحْدُودِ
وَافٍ وَمَاضٍ شِهَابٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ بَدْرٌ أَنَارَ عَلَى كُلِّ الْأَمَاجِيدِ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَتَى أَهْلَ مَكَّةٍ إِبَارَتُنَا الْكُفَّارَ فِي سَاعَةِ الْعُسْرِ
قَتَلْنَا سَرَاةَ الْقَوْمِ عِنْدَ مَجَالِنَا فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَّا بِقَاصِمَةِ الظَّهْرِ
قَتَلْنَا أَبَا جَهْلٍ وَعُتْبَةَ قَبْلَهُ وَشَيْبَةَ يَكْبُو لِلْيَدَيْنِ وَلِلنَّحْرِ
قَتَلْنَا سُوَيْدًا ثُمَّ عُتْبَةَ بَعْدَهُ وَطُعْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ ثَائِرَةِ الْقَتْرِ
فَكَمْ قَدْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ مُرَزَّأٍ لَهُ حَسَبٌ فِي قَوْمِهِ نَابِهُ الذِّكْرِ
تَرَكْنَاهُمُ لِلْعَاوِيَاتِ يَنُبْنَهُمْ وَيَصْلَوْنَ نَارًا بَعْدُ حَامِيَةَ الْقَعْرِ
لَعَمْرُكَ مَا حَامَتْ فَوَارِسُ مَالِكٍ وَأَشْيَاعُهُمْ يَوْمَ الْتَقَيْنَا عَلَى بَدْرِ
وَقَالَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَفِي قَطْعِ رِجْلِهِ فِي مُبَارَزَتِهِ هُوَ وَحَمْزَةَ وَعَلِيٍّ مَعَ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَنْكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ:

سَتَبْلُغُ عَنَّا أَهْلَ مَكَّةَ وَقْعَةٌ يَهُبُّ لَهَا مَنْ كَانَ عَنْ ذَاكَ نَائِيَا
بِعُتْبَةَ إِذْ وَلَّى وَشَيْبَةُ بَعْدَهُ وَمَا كَانَ فِيهَا بِكْرُ عُتْبَةَ رَاضِيَا
فَإِنْ تَقْطَعُوا رِجْلِي فَإِنِّيَ مُسْلِمٌ أُرَجِّي بِهَا عَيْشًا مِنَ اللَّهِ دَانِيَا
مَعَ الْحُورِ أَمْثَالِ التَّمَاثِيلِ أُخْلِصَتْ مِنَ الْجَنَّةِ الْعُلْيَا لِمَنْ كَانَ عَالِيَا
وَبِعْتُ بِهَا عَيْشًا تَعَرَّفْتُ صَفْوَهُ وَعَاجَلْتُهُ حَتَّى فَقَدْتُ الْأَدَانِيَا
فَأَكْرَمَنِي الرَّحْمَنُ مِنْ فَضْلِ مَنِّهِ بِثَوْبٍ مِنَ الْإِسْلَامِ غَطَّى الْمَسَاوِيَا
وَمَا كَانَ مَكْرُوهًا إِلَيَّ قِتَالُهُمْ غَدَاةَ دَعَا الْأَكْفَاءَ مَنْ كَانَ دَاعِيَا
وَلَمْ يَبْغِ إِذْ سَالُوا النَّبِيَّ سَوَاءَنَا ثَلَاثَتَنَا حَتَّى حَضَرْنَا الْمُنَادِيَا
لَقِينَاهُمُ كَالْأُسْدِ تَخْطِرُ بِالْقَنَا نُقَاتِلُ فِي الرَّحْمَنِ مَنْ كَانَ عَاصِيَا
فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا مِنْ مَقَامِنَا ثَلَاثَتِنَا حَتَّى أُزِيرُوا الْمَنَائِيَا
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا، يَذُمُّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ عَلَى فِرَارِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَتَرْكِهِ قَوْمَهُ لَا يُقَاتِلُ دُونَهُمْ:

تَبَلَتْ فُؤَادَكَ فِي الْمَنَامِ خَرِيدَةٌ تَشْفِي الضَّجِيعَ بِبَارِدٍ بِسَّامِ
كَالْمِسْكِ تَخْلِطُهُ بِمَاءِ سَحَابَةٍ أَوْ عَاتِقٍ كَدَمِ الذَّبِيحِ مُدَامِ
نُفُجُ الْحَقِيبَةِ بَوْصُهَا مُتَنَضِّدٌ بَلْهَاءُ غَيْرُ وَشِيكَةِ الْأَقْسَامِ
بُنِيَتْ عَلَى قَطَنٍ أَجَمَّ كَأَنَّهُ فُضُلًا إِذَا قَعَدَتْ مَدَاكُ رُخَامِ
وَتَكَادُ تَكْسَلُ أَنْ تَجِيءَ فِرَاشَهَا فِي جِسْمِ خَرْعَبَةٍ وَحُسْنِ قَوَامِ
أَمَّا النَّهَارَ فَلَا أُفَتِّرُ ذِكْرَهَا وَاللَّيْلَ تُوزِعُنِي بِهَا أَحْلَامِي
أَقْسَمْتُ أَنْسَاهَا وَأَتْرُكُ ذِكْرَهَا حَتَّى تُغَيَّبَ فِي الضَّرِيحِ عِظَامِي
يَا مَنْ لِعَاذِلَةٍ تَلُومُ سَفَاهَةً وَلَقَدْ عَصَيْتُ عَلَى الْهَوَى لُوَّامِي

بَكَرَتْ عَلَيَّ بِسُحْرَةٍ بَعْدَ الْكَرَى وَتَقَارُبٍ مِنْ حَادِثِ الْأَيَّامِ
زَعَمَتْ بِأَنَّ الْمَرْءَ يَكْرُبُ عُمْرَهُ عَدَمٌ لِمُعْتَكِرٍ مِنَ الْأَصْرَامِ
إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمْ وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ وَلِجَامِ
تَذَرُ الْعَنَاجِيجُ الْجِيَادَ بِقَفْرَةٍ مَرَّ الدَّمُوكِ بِمُحْصَدٍ وَرِجَامِ
مَلَأَتْ بِهِ الْفَرْجَيْنِ فَارْمَدَّتْ بِهِ وَثَوَى أَحِبَّتُهُ بَشَرِّ مُقَامِ
وَبَنُو أَبِيهِ وَرَهْطُهُ فِي مَعْرَكٍ نَصَرَ الْإِلَهُ بِهِ ذَوِي الْإِسْلَامِ
طَحَنَتْهُمُ وَاللَّهُ يُنْفِذُ أَمْرَهُ حَرْبٌ يُشَبُّ سَعِيرُهَا بِضِرَامِ
لَوْلَا الْإِلَهُ وَجَرْيُهَا لَتَرَكْنَهُ جَزَرَ السِّبَاعِ وَدُسْنَهُ بِحَوَامِ

مِنْ بَيْنِ مَأْسُورٍ يُشَدُّ وَثَاقُهُ صَقْرٍ إِذَا لَاقَى الْأَسِنَّةَ حَامِ
وَمُجَدَّلٍ لَا يَسْتَجِيبُ لِدَعْوَةٍ حَتَّى تَزُولَ شَوَامِخُ الْأَعْلَامِ
بِالْعَارِ وَالذُّلِّ الْمُبَيَّنِ إِذْ رَأَى بِيضَ السُّيُوفِ تَسُوقُ كُلَّ هُمَامِ
بِيَدَيْ أَغَرَّ إِذَا انْتَمَى لَمْ يُخْزِهِ نَسَبُ الْقِصَارِ سَمَيْدَعٍ مِقْدَامِ
بِيضٌ إِذَا لَاقَتْ حَدِيدًا صَمَّمَتْ كَالْبَرْقِ تَحْتَ ظِلَالِ كُلِّ غَمَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا فِي آخِرِهَا ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ أَقْذَعَ فِيهَا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَجَابَهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، أَخُو أَبِي جَهْلٍ عَمْرِو بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ:
الْقَوْمُ أَعْلَمُ مَا تَرَكْتُ قِتَالَهُمْ حَتَّى حَبَوْا مُهْرِي بِأَشْقَرَ مُزْبِدِ
وَعَرَفْتُ أَنِّي إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا أُقْتَلْ وَلَا يَنْكِي عَدُوِّيَ مَشْهَدِي
فَصَدَدْتُ عَنْهُمْ وَالْأَحِبَّةُ فِيهِمُ طَمَعًا لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفْسِدِ

وَقَالَ حَسَّانُ أَيْضًا:
يَا حَارِ قَدْ عَوَّلْتَ غَيْرَ مُعَوَّلِ عِنْدَ الْهِيَاجِ وَسَاعَةَ الْأَحْسَابِ
إِذْ تَمْتَطِي سُرُحَ الْيَدَيْنِ نَجِيبَةً مَرَطَى الْجِرَاءِ طَوِيلَةَ الْأَقْرَابِ
وَالْقَوْمُ خَلْفَكَ قَدْ تَرَكْتَ قِتَالَهُمْ تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَيْسَ حِينَ ذَهَابِ
أَلَّا عَطَفْتَ عَلَى ابْنِ أُمِّكَ إِذْ ثَوَى قَعْصَ الْأَسِنَّةِ ضَائِعَ الْأَسْلَابِ
عَجِلَ الْمَلِيكُ لَهُ فَأَهْلَكَ جَمْعَهُ بِشَنَارِ مُخْزِيَةٍ وَسُوءِ عَذَابِ
وَقَالَ حَسَّانُ أَيْضًا:
لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَدَاةَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ الشَّدِيدِ
بِأَنَّا حِينَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي حُمَاةُ الْحَرْبِ يَوْمَ أَبِي الْوَلِيدِ
قَتَلْنَا ابْنَيْ رَبِيعَةَ يَوْمَ سَارَا إِلَيْنَا فِي مُضَاعَفَةِ الْحَدِيدِ

وَفَرَّ بِهَا حَكِيمٌ يَوْمَ جَالَتْ بَنُو النَّجَّارِ تَخْطِرُ كَالْأُسُودِ
وَوَلَّتْ عِنْدَ ذَاكَ جُمُوعُ فِهْرٍ وَأَسْلَمَهَا الْحُوَيْرِثُ مِنْ بَعِيدِ
لَقَدْ لَاقَيْتُمُ ذُلًّا وَقَتْلًا جَهِيزًا نَافِذًا تَحْتَ الْوَرِيدِ
وَكُلُّ الْقَوْمِ قَدْ وَلَّوْا جَمِيعًا وَلَمْ يَلْوُوا عَلَى الْحَسَبِ التَّلِيدِ
وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، تَرْثِي عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ:
لَقَدْ ضُمِّنَ الصَّفْرَاءُ مَجْدًا وَسُؤْدُدًا وَحِلْمًا أَصِيلًا وَافِرَ اللُّبِّ وَالْعَقْلِ
عُبَيْدَةَ فَابْكِيهِ لِأَضْيَافِ غُرْبَةٍ وَأَرْمَلَةٍ تَهْوِي لِأَشْعَثَ كَالْجِذْلِ
وَبَكِّيهِ لِلْأَقْوَامِ فِي كُلِّ شَتْوَةٍ إِذَا احْمَرَّ آفَاقُ السَّمَاءِ مِنَ الْمَحْلِ

وَبَكِّيهِ لِلْأَيْتَامِ وَالرِّيحُ زَفْزَفٌ وَتَشْبِيبِ قِدْرٍ طَالَمَا أَزْبَدَتْ تَغْلِي
فَإِنْ تُصْبِحِ النِّيرَانُ قَدْ مَاتَ ضَوْءُهَا فَقَدْ كَانَ يُذْكِيهِنَّ بِالْحَطَبِ الْجَزْلِ
لِطَارِقِ لَيْلٍ أَوْ لِمُلْتَمِسِ الْقِرَى وَمُسْتَنْبِحٍ أَضْحَى لَدَيْهِ عَلَى رِسْلِ
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ قَطَنٍ، قَالَ: قَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي رُؤْيَاهَا الَّتِي رَأَتْ وَتَذْكُرُ بَدْرًا:
أَلَمَّا تَكُنْ رُؤْيَايَ حَقًّا وَيَأْتِكُمْ بِتَأْوِيلِهَا فَلٌّ مِنَ الْقَوْمِ هَارِبُ
رَأَى فَأَتَاكُمْ بِالْيَقِينِ الَّذِي رَأَى بِعَيْنَيْهِ مَا تَفْرِي السُّيُوفُ الْقَوَاضِبُ
فَقُلْتُمْ وَلَمْ أَكْذِبْ كَذَبْتِ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُنِي بِالصِّدْقِ مَنْ هُوَ كَاذِبُ

وَمَا جَاءَ إِلَّا رَهْبَةَ الْمَوْتِ هَارِبًا حَكِيمٌ وَقَدْ أَعْيَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ
أَقَامَتْ سُيُوفُ الْهِنْدِ دُونَ رُءُوسِكُمْ وَخَطِّيَّةٌ فِيهَا الشَّبَا وَالثَّعَالِبُ
كَأَنَّ حَرِيقُ النَّارِ لَمْعَ ظُبَاتِهَا إِذَا مَا تَعَاطَتْهَا اللُّيُوثُ الْمَشَاغِبُ
أَلَا بِأَبِي يَوْمَ اللِّقَاءِ مُحَمَّدًا إِذَا عَضَّ مِنْ عُونِ الْحُرُوبِ الْغَوَارِبُ
مَرَى بِالسُّيُوفِ الْمُرْهَفَاتِ نُفُوسَكُمْ كِفَاحًا كَمَا تَمْرِي السَّحَابَ الْجَنَائِبُ

فَكَمْ بَرَدَتْ أَسْيَافُهُ مِنْ مَلِيكَةٍ وَزُعْزِعَ وَرْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ صَالِبُ
فَمَا بَالُ قَتْلَى فِي الْقَلِيبِ وَمِثْلُهُمْ لَدَى ابْنِ أَخِي أَسْرَى لَهُ مَا تُضَارِبُ
فَكَانُوا نِسَاءً أَمْ أَتَى لِنُفُوسِهِمْ مِنَ اللَّهِ حَيْنٌ سَاقَ وَالْحَيْنُ حَالِبُ
فَكَيْفَ رَأَى عِنْدَ اللِّقَاءِ مُحَمَّدًا بَنُو عَمِّهِ وَالْحَرْبُ فِيهَا التَّجَارِبُ
أَلَمْ يَغْشَكُمْ ضَرْبًا يَحَارُ لِوَقْعِهِ الْ جَبَانُ وَتَبْدُو بِالنَّهَارِ الْكَوَاكِبُ
حَلَفْتُ لَئِنْ عَادُوا لَنَصْطَلِيَنَّهُمْ بِحَارًا تَرَدَّى تَجْرِبَتْهَا الْمَقَانِبُ
كَأَنَّ ضِيَاءَ الشَّمْسِ لَمْعَ ظُبَاتِهَا لَهَا مِنْ شُعَاعِ النُّورِ قَرْنٌ وَحَاجِبُ

وَقَالَتْ عَاتِكَةُ أَيْضًا فِيمَا نَقَلَهُ الْأُمَوِيُّ:
هَلَّا صَبَرْتُمْ لِلنَّبِيِّ مُحَمَّدٍ بِبَدْرٍ وَمَنْ يَغْشَى الْوَغَى حَقُّ صَابِرِ
وَلَمْ تَرْجِعُوا عَنْ مُرْهَفَاتٍ كَأَنَّهَا حَرِيقٌ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِوَاتِرِ
وَلَمْ تَصْبِرُوا لِلْبِيضِ حَتَّى أُخِذْتُمُوا قَلِيلًا بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ الْمَسَاعِرِ
وَوَلَّيْتُمُ نَفْرًا وَمَا الْبَطَلُ الَّذِي يُقَاتِلُ مِنْ وَقْعِ السِّلَاحِ بِنَافِرِ
أَتَاكُمْ بِمَا جَاءَ النَّبِيُّونَ قَبْلَهُ وَمَا ابْنُ أَخِي الْبَرُّ الصَّدُوقُ بِشَاعِرِ
سَيَكْفِي الَّذِي ضَيَّعْتُمُ مِنْ نَبِيِّكُمْ وَيَنْصُرُهُ الْحَيَّانِ عَمْرٌو وَعَامِرُ
وَقَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْثِي أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَئِذٍ مِنْ قَوْمِهِ، وَهُوَ بَعْدُ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إِذْ ذَاكَ:
أَلَا إِنَّ عَيْنِي أَنْفَدَتْ دَمْعَهَا سَكْبَا تَبْكِي عَلَى كَعْبٍ وَمَا إِنْ تَرَى كَعْبَا
أَلَا إِنَّ كَعْبًا فِي الْحُرُوبِ تَخَاذَلُوا وَأَرْدَاهُمُ ذَا الدَّهْرُ وَاجْتَرَحُوا ذَنْبَا
وَعَامِرُ تَبْكِي لِلْمُلِمَّاتِ غُدْوَةً فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى لَهُمُ قُرْبَا

فَيَا أَخَوَيْنَا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا فِدًى لَكُمَا لَا تَبْعَثُوا بَيْنَنَا حَرْبَا
وَلَا تُصْبِحُوا مِنْ بَعْدِ وُدٍّ وَأُلْفَةٍ أَحَادِيثَ فِيهَا كُلُّكُمْ يَشْتَكِي النَّكْبَا
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ وَحَرْبِ أَبِي يَكْسُومَ إِذْ مَلَئُوا الشِّعْبَا
فَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ لَأَصْبَحْتُمُ لَا تَمْنَعُونَ لَكُمْ سِرْبَا
فَمَا إِنْ جَنَيْنَا فِي قُرَيْشٍ عَظِيمَةً سِوَى أَنْ حَمَيْنَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ التُّرْبَا
أَخَا ثِقَةٍ فِي النَّائِبَاتِ مُرَزَّأً كَرِيمًا نَثَاهُ لَا بَخِيلًا وَلَا ذَرْبَا
يُطِيفُ بِهِ الْعَافُونَ يَغْشَوْنَ بَابَهُ يَؤُمُّونَ نَهْرًا لَا نَزُورًا وَلَا صَرْبَا
فَوَاللَّهِ لَا تَنْفَكُّ نَفْسِي حَزِينَةً تَمَلْمَلُ حَتَّى تَصْدُقُوا الْخَزْرَجَ الضَّرْبَا

فَصْلٌ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَشْعَارًا مِنْ جِهَةِ الْمُشْرِكِينَ قَوِيَّةَ الصَّنْعَةِ، يَرْثُونَ بِهَا قَتْلَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ضِرَارِ بْنِ الْخَطَّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَخِي بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ، وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالسُّهَيْلِيُّ فِي " رَوْضِهِ " يَتَكَلَّمُ عَلَى أَشْعَارِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ:
عَجِبْتُ لِفَخْرِ الْأَوْسِ وَالْحَيْنُ دَائِرُ عَلَيْهِمْ غَدًا وَالدَّهْرُ فِيهِ بَصَائِرُ وَفَخْرِ بَنِي النَّجَّارِ أَنْ كَانَ مَعْشَرٌ
أُصِيبُوا بِبَدْرٍ كُلُّهُمْ ثَمَّ صَائِرُ فَإِنْ تَكُ قَتْلَى غُودِرَتْ مِنْ رِجَالِنَا
فَإِنَّا رِجَالًا بَعْدَهُمْ سَنُغَادِرُ وَتَرْدِي بِنَا الْجُرْدُ الْعَنَاجِيجُ وَسْطَكُمْ
بَنِي الْأَوْسِ حَتَّى يَشْفِيَ النَّفْسَ ثَائِرُ

وَوَسْطَ بَنِي النَّجَّارِ سَوْفَ نَكُرُّهَا
لَهَا بِالْقَنَا وَالدَّارِعِينَ زَوَافِرُ فَنَتْرُكُ صَرْعَى تَعْصِبُ الطَّيْرُ حَوْلَهُمْ
وَلَيْسَ لَهُمْ إِلَّا الْأَمَانِيَّ نَاصِرُ وَتَبْكِيهِمُ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ نِسْوَةٌ
لَهُنَّ بِهَا لَيْلٌ عَنِ النَّوْمِ سَاهِرُ وَذَلِكَ أَنَّا لَا تَزَالُ سُيُوفُنَا
بِهِنَّ دَمٌ مِمَّنْ يُحَارِبْنَ مَائِرُ فَإِنْ تَظْفَرُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّمَا
بِأَحْمَدَ أَمْسَى جَدُّكُمْ وَهْوَ ظَاهِرُ وَبِالنَّفَرِ الْأَخْيَارِ هُمْ أَوْلِيَاؤُهُ
يُحَامُونَ فِي اللَّأْوَاءِ وَالْمَوْتُ حَاضِرُ يُعَدُّ أَبُو بَكْرٍ وَحَمْزَةُ فِيهِمُ
وَيُدْعَى عَلِيٌّ وَسْطَ مَنْ أَنْتَ ذَاكِرُ أُولَئِكَ لَا مَنْ نَتَّجَتْ فِي دِيَارِهَا
بَنُو الْأَوْسِ وَالنَّجَّارِ حِينَ تُفَاخِرُ وَلَكِنْ أَبُوهُمْ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ
إِذَا عُدَّتِ الْأَنْسَابُ كَعْبٌ وَعَامِرُ هُمُ الطَّاعِنُونَ الْخَيْلَ فِي كُلِّ مَعْرَكٍ
غَدَاةَ الْهِيَاجِ الْأَطْيَبُونَ الْأَكَاثِرُ

فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي أَسْلَفْنَاهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:
عَجِبْتُ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاللَّهُ قَادِرُ عَلَى مَا أَرَادَ لَيْسَ لِلَّهِ قَاهِرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاسْمُهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ شَعُوبَ قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ خَلَفَ عَلَى امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، حِينَ طَلَّقَهَا الصِّدِّيقُ، وَذَلِكَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَاسْمُهَا أُمُّ بَكْرٍ -:
تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمُّ بَكْرٍ وَهَلْ لِي بَعْدَ قَوْمِي مِنْ سَلَامِ
فَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنَ الْقَيْنَاتِ وَالشَّرْبِ الْكِرَامِ
وَمَاذَا بِالْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنَ الشِّيزَى تُكَلَّلُ بِالسَّنَامِ
وَكَمْ لَكَ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ مِنَ الْحَوْمَاتِ وَالنَّعَمِ الْمُسَامِ
وَكَمْ لَكَ بِالطَّوِيِّ طَوِيِّ بَدْرٍ مِنَ الْغَايَاتِ وَالدُّسُعِ الْعِظَامِ

وَأَصْحَابِ الْكَرِيمِ أَبِي عَلِيٍّ أَخِي الْكَأْسِ الْكَرِيمَةِ وَالنِّدَامِ
وَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ أَبَا عَقِيلٍ وَأَصْحَابَ الثَّنِيَّةِ مِنْ نَعَامِ
إِذًا لَظَلِلْتَ مِنْ وَجْدٍ عَلَيْهِمْ كَأُمِّ السَّقْبِ جَائِلَةَ الْمَرَامِ
يُخَبِّرُنَا الرَّسُولُ لَسَوْفَ نَحْيَا وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ
قُلْتُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهَا فِي " صَحِيحِهِ " لِيُعْرَفَ بِهِ حَالُ قَائِلِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، يَرْثِي مِنْ قُتِلَ مِنْ قُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ:
أَلَّا بَكَيْتِ عَلَى الْكِرَا مِ بَنِي الْكِرَامِ أُولِي الْمَمَادِحْ

كَبُكَا الْحَمَامِ عَلَى فُرُو عِ الْأَيْكِ فِي الْغُصُنِ الْجَوَانِحْ
يَبْكِينَ حَرَّى مُسْتَكِي نَاتٍ يَرُحْنَ مَعَ الرَّوَائِحُ
أَمْثَالُهُنَّ الْبَاكِيَا تُ الْمُعْوِلَاتُ مِنَ النَّوَائِحُ
مَنْ يَبْكِهِمْ يَبْكِي عَلَى حُزْنٍ وَيَصْدُقُ كُلُّ مَادِحْ
مَاذَا بِبَدْرٍ وَالْعَقَنْ قَلِ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحُ
فَمَدَافِعُ الْبَرْقَيْنِ فَالْ حَنَّانِ
مِنْ طَرَفِ الْأَوَاشِحْ شُمْطٍ وَشُبَّانٍ بَهَا لِيلٍ مَغَاوِيرٍ وَحَاوِحْ
أَلَّا تَرَوْنَ لِمَا أَرَى وَلَقَدْ أَبَانَ لِكُلِّ لَامِحْ
أَنْ قَدْ تَغَيَّرَ بَطْنُ مَكَّ ةَ فَهْيَ مُوحِشَةُ الْأَبَاطِحْ

مِنْ كُلِّ بِطْرِيقٍ لِبِطْ رِيقٍ نَقِيِّ الْوُدِّ وَاضِحْ
دُعْمُوصِ أَبْوَابِ الْمُلُو كِ وَجَائِبٍ لِلْخَرْقِ فَاتِحْ
وَمِنَ السَّرَاطِمَةِ الْخَلَا جِمَةِ الْمَلَاوِثَةِ الْمَنَاجِحْ
الْقَائِلِينَ الْفَاعِلِي نَ الْآمِرِينَ بِكُلِّ صَالِحْ
الْمُطْعِمِينَ الشَّحْمَ فَوْ قَ الْخُبْزِ شَحْمًا كَالْأَنَافِحْ
نُقُلِ الْجِفَانِ مَعَ الْجِفَا نِ إِلَى جِفَانٍ كَالْمَنَاضِحْ
لَيْسَتْ بِأَصْفَارٍ لِمَنْ يَعْفُو وَلَا رُحٍّ رَحَارِحْ
لِلضَّيْفِ ثُمَّ الضَّيْفِ بَعْ دَ الضَّيْفِ وَالْبُسُطِ السَّلَاطِحْ

وُهُبِ الْمِئِينَ مِنَ الْمِئِي نَ إِلَى الْمِئِينَ مِنَ اللَّوَاقِحْ
سَوْقَ الْمُؤَبَّلِ لِلْمُؤَبَّلِ صَادِرَاتٍ عَنْ بَلَادِحْ
لِكِرَامِهِمْ فَوْقَ الْكِرَا مِ مَزِيَّةٌ وَزْنَ الرَّوَاجِحْ
كَتَثَاقُلِ الْأَرْطَالِ بَالْ قِسْطَاسِ بِالْأَيْدِي الْمَوَائِحْ
خَذَلَتْهُمُ فِئَةٌ وَهُمْ يَحْمُونَ عَوْرَاتِ الْفَضَائِحْ
الضَّارِبِينَ التَّقْدُمِيَّةَ بِالْمُهَنَّدَةِ الصَّفَائِحْ
وَلَقَدْ عَنَانِي صَوْتُهُمْ مِنْ بَيْنِ مُسْتَسْقٍ وَصَائِحْ
لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ أَيِّمٍ مِنْهُمْ وَنَاكِحْ

إِنْ لَمْ يُغِيرُوا غَارَةً شَعْوَاءَ تُجْحِرُ كُلَّ نَابِحْ
بِالْمُقْرَبَاتِ الْمُبْعِدَا تِ الطَّامِحَاتِ مَعَ الطَّوَامِحْ
مُرْدًا عَلَى جُرْدٍ إِلَى أُسْدٍ مُكَالِبَةٍ كَوَالِحْ
وَيُلَاقِ قِرْنٌ قِرْنَهُ مَشْيَ الْمُصَافِحِ لِلْمُصَافِحْ
بِزُهَاءِ أَلْفٍ ثُمَّ أَلْ فٍ بَيْنَ ذِي بَدَنٍ وَرَامِحْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ نَالَ فِيهِمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: هَذَا شِعْرُ الْمَخْذُولِ الْمَعْكُوسِ الْمَنْكُوسِ، الَّذِي حَمَلَهُ كَثْرَةُ جَهْلِهِ وَقِلَّةُ عَقْلِهِ، عَلَى أَنْ مَدَحَ الْمُشْرِكِينَ وَذَمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتَوْحَشَ بِمَكَّةَ مِنْ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَضْرَابِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ اللِّئَامِ، وَالْجَهَلَةِ الطَّغَامِ، وَلَمْ يَسْتَوْحِشْ بِهَا مِنْ

عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَحَبِيبِهِ وَخَلِيلِهِ، فَخْرِ الْبَشَرِ، وَمَنْ وَجْهُهُ أَنْوَرُ مِنَ الْقَمَرِ، ذِي الْعِلْمِ الْأَكْمَلِ، وَالْعَقْلِ الْأَشْمَلِ، وَمِنْ صَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ الْمُبَادِرِ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَالسَّابِقِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَفَعْلِ الْمَكْرُمَاتِ، وَبَذْلِ الْأُلُوفِ وَالْمِئَاتِ، فِي طَاعَةِ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ الْغُرِّ الْكِرَامِ، الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ دَارِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ إِلَى دَارِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ، مَا اخْتَلَطَ الضِّيَاءُ وَالظَّلَامُ، وَمَا تَعَاقَبَتِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَقَدْ تَرَكْنَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً أَوْرَدَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ خَوْفَ الْإِطَالَةِ وَخَشْيَةَ الْمَلَالَةِ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَا كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَالَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ ": سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَعَفَا عَنْ شِعْرِ الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ سُلَيْمَانُ: فَذَكَرَ ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ فَقَالَ:عَفَا عَنْهُ إِلَّا قَصِيدَتَيْنِ، كَلِمَةَ أُمَيَّةَ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا أَهْلَ بَدْرٍ، وَكَلِمَةَ الْأَعْشَى الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا الْأَحْوَصَ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ هَذَا مَتْرُوكٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ غَزْوَةِ بَنِي سُلَيْمٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فَرَاغُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَدْرٍ فِي عَقِبِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَوْ فِي شَوَّالَ، وَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ يُقِمْ بِهَا إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ حَتَّى غَزَا بِنَفْسِهِ يُرِيدُ بَنِي سُلَيْمٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ، أَوِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَ مَاءً مِنْ مِيَاهِهِمْ يُقَالُ لَهُ: الْكُدْرُ. فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلِقْ كَيْدًا، فَأَقَامَ بِهَا بَقِيَّةَ شَوَّالٍ وَذَا الْقِعْدَةِ، وَأَفْدَى فِي إِقَامَتِهِ تِلْكَ جُلَّ الْأُسَارَى مِنْ قُرَيْشٍ.

غَزْوَةُ السَّوِيقِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَهِيَ غَزْوَةُ قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْقَرْقَرَةُ: الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ وَالْكُدْرُ: طَيْرٌ فِي أَلْوَانِهَا كُدْرَةٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ - كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَمَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ - حِينَ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَرَجَعَ فَلُّ قُرَيْشٍ مِنْ بَدْرٍ نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا، فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ مِنْ قُرَيْشٍ لِتَبَرَّ يَمِينُهُ، فَسَلَكَ النَّجْدِيَّةَ حَتَّى نَزَلَ بِصَدْرِ قَنَاةٍ إِلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: ثَيْبٌ. مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى بَرِيدٍ أَوْ نَحْوِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَتَى بَنِي النَّضِيرِ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَأَتَى حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَأَبَى أَنْ يَفْتَحَ لَهُ وَخَافَهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ إِلَى سَلَامِ بْنِ مِشْكَمٍ وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ، وَصَاحِبَ كَنْزِهِمْ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَرَاهُ وَسَقَاهُ، وَبَطَنَ لَهُ مِنْ خَبَرِ

النَّاسِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ حَتَّى أَتَى أَصْحَابَهُ، فَبَعَثَ رِجَالًا مَنْ قُرَيْشٍ فَأَتَوْا نَاحِيَةً مِنْهَا يُقَالُ لَهَا: الْعُرَيْضُ. فَحَرَقُوا فِي أَصْوَارٍ مِنْ نَخْلٍ بِهَا، وَوَجَدُوا رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَحَلِيفًا لَهُ فِي حَرْثٍ لَهُمَا، فَقَتَلُوهُمَا وَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، فَنَذَرَ بِهِمُ النَّاسُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا لُبَابَةَ بَشِيرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا، وَقَدْ فَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، وَوَجَدَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَادًا كَثِيرَةً قَدْ أَلْقَاهَا الْمُشْرِكُونَ يَتَخَفَّفُونَ مِنْهَا وَعَامَّتُهَا سَوِيقٌ، فَسُمِّيَتْ غَزْوَةُ السَّوِيقِ. قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنُطْمَعُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ لَنَا غَزْوَةً ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ هَذَا، وَيَمْدَحُ سَلَامَ بْنَ مُشْكِمٍ الْيَهُودِيَّ:
وَإِنِّي تَخَيَّرْتُ الْمَدِينَةَ وَاحِدًا لِحِلْفٍ فَلَمْ أَنْدَمْ وَلَمْ أَتَلَوَّمِ

سَقَانِي فَرَوَّانِي كُمَيْتًا مُدَامَةً
عَلَى عَجَلٍ مِنِّي سَلَامُ بْنُ مِشْكَمِ وَلِمَا تَوَلَّى الْجَيْشُ قُلْتُ وَلَمْ أَكُنْ
لِأُفْرِحَهُ أَبْشِرْ بِغَزْوٍ وَمَغْنَمِ تَأَمَّلْ فَإِنَّ الْقَوْمَ سِرٌّ وَإِنَّهُمْ
صَرِيحُ لُؤَيٍّ لَا شَمَاطِيطُ جُرْهُمِ وَمَا كَانَ إِلَّا بَعْضُ لَيْلَةِ رَاكِبٍ
أَتَى سَاعِيًا مِنْ غَيْرِ خَلَّةِ مُعْدِمِ

فَصْلٌ فِي دُخُولِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَلَى زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَذَلِكَ فِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كَانَتْ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُمْسِ يَوْمَئِذٍ، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِي بِفَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاعَدْتُ رَجُلًا صَوَّاغًا فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِي فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ مِنَ الصَّوَّاغِينَ فَأَسْتَعِينُ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي، فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفِي مِنَ الْأَقْتَابِ وَالْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَايَ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى جَمَعْتُ مَا جَمَعْتُ، فَإِذَا أَنَا بِشَارِفِي قَدْ أُجِبَّتْ أَسْنِمَتُهُمَا وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، فَلَمْ أَمْلِكْ

عَيْنِي حِينَ رَأَيْتُ الْمَنْظَرَ، فَقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ قَالُوا: فَعَلَهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَهُوَ فِي شَرْبٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَعِنْدَهُ قَيْنَةٌ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَتْ فِي غِنَائِهَا:
أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ
فَوَثْبَ حَمْزَةُ إِلَى السَّيْفِ، فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا وَأَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا. قَالَ عَلِيٌّ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَقِيتُ فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ فَقَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ، عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ. فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِدَائِهِ فَارْتَدَاهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ حَمْزَةُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ، فَطَفِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ، فَإِذَا حَمْزَةُ ثَمِلٌ مُحَمَرَّةٌ عَيْنَاهُ، فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ حَمْزَةُ: وَهَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِأَبِي ؟ فَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ثَمِلٌ، فَنَكَصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، فَخَرَجَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي، وَقَدْ

رَوَاهُ فِي أَمَاكِنَ أُخَرَ مِنْ صَحِيحِهِ بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ قَدْ خُمِّسَتْ، لَا كَمَا زَعَمَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ " مِنْ أَنَّ الْخُمْسَ إِنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ قِسْمَتِهَا، وَقَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، وَبَيَّنَّا غَلَطَهُ فِي ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَفِيمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ هَذَا الصُّنْعُ مِنْ حَمْزَةَ وَأَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، بَلْ قَدْ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى أَنَّ عِبَارَةَ السَّكْرَانِ مَسْلُوبَةٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا ; لَا فِي طَلَاقٍ، وَلَا إِقْرَارٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَجُلٍسَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ: أَرَدْتُ أَنْ أَخْطُبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَتَهُ، فَقُلْتُ: مَا

لِي مِنْ شَيْءٍ، فَكَيْفَ ؟ ! ثُمَّ ذَكَرْتُ صِلَتَهُ وَعَائِدَتَهُ فَخَطَبْتُهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ: هِيَ عِنْدِي. قَالَ: فَأَعْطِنِيهَا. قَالَ: فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ. هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَفِيهِ رَجُلٌ مُبْهَمٌ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الطَّالْقَانِيُّ، ثَنَا عَبْدَةُ، ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا تَزَوَّجَ عَلِيٌّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِهَا شَيْئًا. قَالَ مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ ؟ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ بِهِ.

وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، ثَنَا أَبُو حَيْوَةَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي غَيْلَانُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ لِي شَيْءٌ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطِهَا دِرْعَكَ. فَأَعْطَاهَا دِرْعَهُ، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: خَطَبْتُ فَاطِمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ مَوْلَاةٌ لِي: هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ فَاطِمَةَ قَدْ خُطِبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَتْ: فَقَدْ خُطِبَتْ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُزَوِّجَكَ ؟ فَقُلْتُ: وَعِنْدِي شَيْءٌ أَتَزَوَّجُ بِهِ ؟، فَقَالَتْ: إِنَّكَ إِنْ جِئْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَوَّجَكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ تُرَجِّينِي حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَنْ قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ أُفْحِمْتُ، فَوَاللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ جَلَالَةً وَهَيْبَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا جَاءَ بِكَ، أَلِكَ حَاجَةٌ ؟ فَسَكَتُّ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ

جِئْتَ تَخْطُبُ فَاطِمَةَ. فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّهَا بِهِ. فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: مَا فَعَلَتْ دِرْعٌ سَلَّحْتُكَهَا ؟ - فَوَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَحُطَمِيَّةٌ مَا قِيمَتُهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ - فَقُلْتُ: عِنْدِي. فَقَالَ: قَدْ زَوَّجْتُكَهَا، فَابْعَثْ إِلَيْهَا بِهَا فَاسْتَحِلَّهَا بِهَا. فَإِنْ كَانَتْ لَصَدَاقَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَلَدَتْ فَاطِمَةُ لَعِلِيٍّ، حَسَنًا، وَحُسَيْنًا، وَمُحْسِنًا - مَاتَ صَغِيرًا - وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَزَيْنَبَ.
ثُمَّ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ فِي خَمِيلٍ وَقِرْبَةٍ وَوِسَادَةٍ أُدُمٍ حَشْوُهَا إِذْخِرٌ. وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ كِتَابِ " الْمَعْرِفَةِ " لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ أَنَّ عَلِيًّا تَزَوَّجَ فَاطِمَةَ بَعْدَ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَابْتَنَى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ أُخْرَى.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ دُخُولُهُ بِهَا فِي أَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَظَاهِرُ سِيَاقِ حَدِيثِ الشَّارِفَيْنِ، يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ عَقِبَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ جُمَلٍ مِنَ الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَزْوِيجِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَذَكَرْنَا مَا سَلَفَ مِنَ الْغَزَوَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ وَفَيَاتِ أَعْيَانٍ مِنَ الْمَشَاهِيرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ مِمَّنْ تُوَفِّيَ فِيهَا: مِنَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ وَهْمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، مَا بَيْنَ مُهَاجِرِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ، تَقَدَّمَ تَسْمِيَتُهُمْ، وَالرُّؤَسَاءُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ وَقَدْ كَانُوا سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتُوفِيَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ بِيَسِيرٍ أَبُو لَهَبٍ عَبَدُ الْعُزَّى بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَعَنَهُ اللَّهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا جَاءَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِالْمُشْرِكِينَ وَبِمَا فَتَحَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَجَدُوا رُقَيَّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تُوُفِّيَتْ، وَسَاوَوْا عَلَيْهَا التُّرَابَ، وَكَانَ زَوْجُهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ قَدْ أَقَامَ عِنْدَهَا يُمَرِّضُهَا بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا ضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ فِي مَغَانِمِ بَدْرٍ وَأَجْرُهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ زَوَّجَهُ بِأُخْتِهَا الْأُخْرَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: ذُو

النُّورَيْنِ. وَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَعْلَقْ أَحَدٌ عَلَى ابْنَتَيْ نَبِيٍّ، وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى غَيْرُهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَفِيهَا حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ عَلَى مَا سَلَفَ. وَفِيهَا فُرِضَ الصِّيَامُ؛ صِيَامُ رَمَضَانَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِيهَا فُرِضَتِ الزَّكَاةُ ذَاتُ النُّصُبِ، وَفُرِضَتْ زَكَاةُ الْفِطْرِ. وَفِيهَا خَضَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا ; مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَبَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي قُرَيْظَةَ وَيَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ، وَصَانَعُوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ، وَهُمْ فِي الْبَاطِنِ مُنَافِقُونَ ; مِنْهُمْ مَنَ هُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ انْحَلَّ بِالْكُلِّيَّةِ، فَبَقِيَ مُذَبْذَبًا، لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَعَاقِلَ، وَكَانَتْ مُعَلَّقَةً بِسَيْفِهِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقِيلَ إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وُلِدَ فِيهَا. قَالَ: وَأَمَّا

الْوَاقِدِيُّ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ حَدَّثَهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَنَى بِفَاطِمَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا. فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ.

سَنَةُ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِي أَوَّلِهَا كَانَتْ غَزْوَةُ نَجْدٍ وَيُقَالُ لَهَا: غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ السَّوِيقِ أَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيَّةَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ غَزَا نَجْدًا يُرِيدُ غَطَفَانَ وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمَرَّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ بِنَجْدٍ صَفَرًا كُلَّهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ مُحَارِبٍ تَجَمَّعُوا بِذِي أَمَرَّ يُرِيدُونَ حَرْبَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْخَمِيسَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى

الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَغَابَ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ مَعَهُ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ رَجُلًا، وَهَرَبَتْ مِنْهُ الْأَعْرَابُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، حَتَّى بَلَغَ مَاءً يُقَالُ لَهُ: ذُو أَمَرَّ. فَعَسْكَرَ بِهِ، وَأَصَابَهُمْ مَطَرٌ كَثِيرٌ، فَابْتَلَّتْ ثِيَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ هُنَاكَ، وَنَشَرَ ثِيَابَهُ لِتَجِفَّ، وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَاشْتَغَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي شُئُونِهِمْ، فَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ رَجُلًا شُجَاعًا مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ: غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ. أَوْ دُعْثُورُ بْنُ الْحَارِثِ. فَقَالُوا: قَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْ قَتْلِ مُحَمَّدٍ. فَذَهَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، وَمَعَهُ سَيْفٌ صَقِيلٌ، حَتَّى قَامَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ مَشْهُورًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي الْيَوْمَ ؟ قَالَ: اللَّهُ. وَدَفَعَ جِبْرِيلُ فِي صَدْرِهِ فَوَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟ قَالَ: لَا أَحَدَ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا أُكَثِّرُ عَلَيْكَ جَمْعًا أَبَدًا. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالُوا: وَيْلَكَ، مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: نَظَرْتُ إِلَى رَجُلٍ طَوِيلٍ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي، فَوَقَعْتُ لِظَهْرِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَشَهِدْتُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا أُكَثِّرُ عَلَيْهِ جَمْعًا. وَجَعَلَ يَدْعُو قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَنَزَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ

أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ: 11 ].
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَسَيَأْتِي فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ قِصَّةٌ تُشْبِهُ هَذِهِ، فَلَعَلَّهُمَا قِصَّتَانِ.
قُلْتُ: إِنْ كَانَتْ هَذِهِ مَحْفُوظَةً فَهِيَ غَيْرُهَا قَطْعًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ اسْمُهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا لَمْ يُسْلِمْ، بَلِ اسْتَمَرَّ عَلَى دِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

غَزْوَةُ الْفُرُعِ مِنْ بُحْرَانَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ رَبِيعًا الْأَوَّلَ كُلَّهُ، أَوْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُ، ثُمَّ غَدَا يُرِيدُ قُرَيْشًا. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى بَلَغَ بُحْرَانَ وَهُوَ مَعْدِنٌ بِالْحِجَازِ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرُعِ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَجُمَادَى الْأُولَى ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّمَا كَانَتْ غَيْبَتُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ الْمَدِينَةِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.

خَبَرُ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
، وَقَدْ زَعَمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، النِّصْفَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ الْحَشْرِ: 15 ].
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ غَزْوِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرُ بَنِي قَيْنُقَاعَ. قَالَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَهُمْ فِي سُوقِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النِّقْمَةِ وَأَسْلِمُوا ; فَإِنَّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ وَعَهْدِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَرَى أَنَّا قَوْمُكَ ! لَا يَغُرُّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ، فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً، إِنَّا وَاللَّهِ لَئِنْ حَارَبْنَاكَ لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَوْلًى لِآلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَوْ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نَزَلْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا

فِيهِمْ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا يَعْنِي أَصْحَابَ بِدْرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ بَنِي قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَارَبُوا فِيمَا بَيْنَ بِدْرٍ وَأُحُدٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ قَالَ: كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلَبٍ لَهَا، فَبَاعَتْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَجَلَسَتْ إِلَى صَائِغٍ هُنَاكَ مِنْهُمْ، فَجَعَلُوا يُرِيدُونَهَا عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَأَبَتْ، فَعَمَدَ الصَّائِغُ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إِلَى ظَهْرِهَا، فَلَمَّا قَامَتِ انْكَشَفَتْ سَوْأَتُهَا ; فَضَحِكُوا بِهَا، فَصَاحَتْ، فَوَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّائِغِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ يَهُودِيًّا، فَشَدَّتِ الْيَهُودُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَتَلُوهُ، فَاسْتَصْرَخَ أَهْلُ الْمُسْلِمِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْيَهُودِ

فَأُغْضِبَ الْمُسْلِمُونَ، فَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي قَيْنُقَاعَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ حِينَ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ - وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ - قَالَ: فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ. قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ. قَالَ: فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ الْفُضُولِ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْنِي. وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رَأَوْا لِوَجْهِهِ ظُلَلًا، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ ! أَرْسِلْنِي. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مَوِالِيَّ ; أَرْبَعِمِائَةِ حَاسِرٍ وَثَلَاثِمِائَةِ دَارِعٍ، قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، إِنِّي وَاللَّهِ امْرُؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُمْ لَكَ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُحَاصَرَتِهِ إِيَّاهُمْ أَبَا لُبَابَةَ بَشِيرَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَكَانَتْ مُحَاصَرَتُهُ إِيَّاهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قَيْنُقَاعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَقَامَ دُونَهُمْ، وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مِنْ بَنِي عَوْفٍ لَهُ مِنْ حِلْفِهِ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَخَلَعَهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَأَبْرَأُ مِنْ حِلْفِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَوِلَايَتِهِمْ. قَالَ: فَفِيهِ وَفِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ نَزَلَتِ الْقِصَّةُ مِنَ الْمَائِدَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَاتِ، حَتَّى قَوْلِهِ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ إِلَى قَوْلِهِ:

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [ الْمَائِدَةِ: 51 - 56 ] يَعْنِي عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ.

سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى عِيرِ قُرَيْشٍ صُحْبَةَ أَبِي سُفْيَانَ أَيْضًا، وَقِيلَ: صُحْبَةَ صَفْوَانَ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ قُرَيْشًا خَافُوا طَرِيقَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَسْلُكُونَ إِلَى الشَّامِ حِينَ كَانَ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ مَا كَانَ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِرَاقِ فَخَرَجَ مِنْهُمْ تُجَّارٌ، فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ وَمَعَهُ فِضَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ عُظْمُ تِجَارَتِهِمْ، وَاسْتَأْجَرُوا رَجُلًا مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ: فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ - يَعْنِي الْعِجْلِيَّ حَلِيفَ بَنِي سَهْمٍ - لِيَدُلَّهُمْ عَلَى تِلْكَ الطَّرِيقِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَلَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: الْقَرَدَةُ. مِنْ مِيَاهِ نَجْدٍ فَأَصَابَ تِلْكَ الْعِيرَ وَمَا فِيهَا، وَأَعْجَزَهُ الرِّجَالُ، فَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:

دَعُوا فَلَجَاتِ الشَّامِ قَدْ حَالَ دُونَهَا جِلَادٌ كَأَفْوَاهِ الْمَخَاضِ الْأَوَارِكِ بِأَيْدِي رِجَالٍ هَاجَرُوا نَحْوَ رَبِّهِمْ
وَأَنْصَارِهِ حَقًّا وَأَيِّدِي الْمَلَائِكِ إِذَا سَلَكَتْ لِلْغَوْرِ مِنْ بَطْنِ عَالِجٍ
فَقُوْلَا لَهَا لَيْسَ الطَّرِيقُ هُنَالِكِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لِحَسَّانَ، وَقَدْ أَجَابَهُ فِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ خُرُوجُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ مُسْتَهَلُّ جُمَادَى الْأُولَى عَلَى رَأْسِ ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ رَئِيسَ هَذِهِ الْعِيرِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَكَانَ سَبَبُ بَعْثِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَنَّ نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَمَعَهُ خَبَرُ هَذِهِ الْعِيرِ، وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَاجْتَمَعَ بِكِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فِي بَنِي النَّضِيرِ وَمَعَهُمْ سَلِيطُ بْنُ النُّعْمَانِ وَكَانَ أَسْلَمَ، فَشَرِبُوا، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، فَتَحَدَّثَ بِقَضِيَّةِ الْعِيرِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ وَخُرُوجِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فِيهَا، وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَخَرَجَ سَلِيطٌ مِنْ سَاعَتِهِ فَأَعْلَمَ

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ مِنْ وَقْتِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَلَقُوهُمْ، فَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ، وَأَعْجَزَهُمُ الرِّجَالُ، وَإِنَّمَا أَسَرُوا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ وَقَدِمُوا بِالْعِيرِ، فَخَمَّسَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ خُمْسُهَا عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَسَّمَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا عَلَى السَّرِيَّةِ، وَكَانَ فِيمَنْ أُسِرَ الدَّلِيلُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَسْلَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعْمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ فِي رَبِيعٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا.

مَقْتَلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ
وَكَانَ مِنْ بَنِي طَيِّئٍ ثُمَّ أَحَدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَلَكِنَّ أُمَّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ قَبْلَ جَلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ قِصَّةِ بَنِي النَّضِيرِ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ لِمَا سَيَأْتِي، فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ إِنَّمَا كَانَ أَمْرُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَفِي مُحَاصَرَتِهِمْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بِطَرِيقِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": قَتْلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا. قَالَ: قُلْ. فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسَتَسْلِفُكَ. قَالَ: وَأَيْضًا وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ. قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ، فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا. قَالَ: نَعَمْ. ارْهَنُونِي. قُلْتُ: أَيُّ شَيْءٍ

تُرِيدُ ؟ قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ. فَقَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا، وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ. قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا ; فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ، فَيُقَالُ: رَهْنٌ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ. هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنْ نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ. قَالَ: سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلَاحَ. فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ لَيْلًا، فَجَاءَهُ لَيْلًا وَمَعَهُ أَبُو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْحِصْنِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو. قَالَتْ: أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ. قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلِمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لَأَجَابَ. قَالَ: وَيَدْخُلُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسَلَّمَةَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ - قِيلَ لِسُفْيَانَ: سَمَّاهُمْ عَمْرٌو ؟ قَالَ: سَمَّى بَعْضَهُمْ. قَالَ عَمْرٌو: جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ، وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ - قَالَ عَمْرٌو: جَاءَ مَعَهُ بِرَجُلَيْنِ، فَقَالَ: إِذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعْرِهِ فَأَشُمُّهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ. وَقَالَ مَرَّةً: ثُمَّ أُشِمُّكُمْ. فَنَزَلَ إِلْيَهِمْ مُتَوَشِّحًا وَهُوَ يَنْفُخُ مِنْهُ رِيحُ الطَّيِّبِ، فَقَالَ: مَا

رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا. أَيْ أَطْيَبَ. وَقَالَ: غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَ: عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَأَجْمَلُ الْعَرَبِ. قَالَ عَمْرٌو: فَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَشَمَّهُ ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ، قَالَ دُونَكُمْ. فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ - وَكَانَ رَجُلًا مِنْ طَيِّئٍ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ، وَأُمُّهُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ - أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ عَنْ مَقْتَلِ أَهِلِ بَدْرٍ حِينَ قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ قَالَ: وَاللَّهِ، لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَصَابَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، لَبَطْنُ الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرِهَا. فَلَمَّا تَيَقَّنَ عَدُوُّ اللَّهِ الْخَبَرَ، خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلَ عَلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ بْنِ صُبَيْرَةَ السَّهْمِيِّ وَعِنْدَهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمِيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فَأَنْزَلَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُنْشِدُ الْأَشْعَارَ، وَيَنْدُبُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي أَوَّلُهَا
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٌ لِمَهْلِكِ أَهْلِهِ وَلِمَثَلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلُّ وَتَدْمَعُ
وَذَكَرَ جَوَابَهَا مِنْ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْ غَيْرِهِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَجَعَلَ يُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَيَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهَ.

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَ كَعْبُ بْنِ الْأَشْرَفِ أَحَدَ بَنِي النَّضِيرِ أَوْ فِيهِمْ، قَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجَاءِ، وَرَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ فَاسْتَغْوَاهُمْ، وَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ بِمَكَّةَ: أُنَاشِدُكَ اللَّهَ، أَدِينُنَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ ؟ وَأَيُّنَا أَهْدَى فِي رَأْيِكَ وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ ؟ إِنَّا نُطْعِمُ الْجَزُورَ الْكَوْمَاءَ، وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ، وَنُطْعِمُ مَا هَبَّتِ الشَّمَالُ. فَقَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ: أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلًا. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا [ النِّسَاءِ: 52، 51 ]
قَالَ مُوسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يُعْلِنُ بِالْعَدَاوَةِ وَيُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْحَرْبِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أَجْمَعَ أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يُشَبِّبُ بِأُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَذَاهُمْ

.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغِيثِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ:مَنْ لِي بِابْنِ الْأَشْرَفِ ؟ فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَنَا لَكَ بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَقْتُلُهُ. قَالَ: فَافْعَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ فَرَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَمَكَثَ ثَلَاثًا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إِلَّا مَا يُعَلِّقُ نَفْسَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لِمَ تَرَكْتَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتُ لَكَ قَوْلًا لَا أَدْرِي هَلْ أَفِي لَكَ بِهِ أَمْ لَا ؟. قَالَ: إِنَّمَا عَلَيْكَ الْجَهْدُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَقُولَ. قَالَ: فَقُولُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَسِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ، وَهُوَ أَبُو نَائِلَةَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، وَكَانَ أَخَا كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَالْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ. قَالَ: فَقَدَّمُوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى عَدُوِّ اللَّهِ كَعْبٍ، سِلْكَانَ بْنَ سَلَامَةَ أَبَا نَائِلَةَ فَجَاءَهُ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً، وَتَنَاشَدَا شِعْرًا - وَكَانَ أَبُو نَائِلَةَ يَقُولُ الشِّعْرَ - ثُمَّ قَالَ: وَيَحَكَ يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لَكَ فَاكْتُمْ عَنِّي. قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلِ عَلَيْنَا بَلَاءً مِنَ الْبَلَاءِ ; عَادَتْنَا الْعَرَبُ، وَرَمَتْنَا عَنْ

قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَقَطَعَتْ عَنَّا السُّبُلَ، حَتَّى ضَاعَ الْعِيَالُ، وَجَهِدَتِ الْأَنْفُسُ، وَأَصْبَحْنَا قَدْ جَهِدْنَا وَجَهِدَ عِيَالُنَا. فَقَالَ: كَعْبٌ: أَنَا ابْنُ الْأَشْرَفِ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أُخْبِرُكَ يَا ابْنَ سَلَامَةَ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا أَقُولُ. فَقَالَ لَهُ سِلْكَانُ: إِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا وَنَرْهَنَكَ وَنُوَثِّقَ لَكَ، وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: تَرْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ ؟ قَالَ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْضَحَنَا، إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيَكَ بِهِمْ فَتَبِيعَهُمْ، وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ، وَنَرْهَنُكَ مِنَ الْحَلْقَةِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ. وَأَرَادَ سِلْكَانُ أَنْ لَا يُنْكِرَ السِّلَاحَ إِذَا جَاءُوا بِهَا، فَقَالَ: إِنَّ فِي الْحَلْقَةِ لَوَفَاءٌ. قَالَ: فَرَجَعَ سِلْكَانُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ ثُمَّ يَنْطَلِقُوا، فَيَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ:مَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ثُمَّ وَجَّهَهُمْ وَقَالَ: انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَانْطَلَقُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى حِصْنِهِ، فَهَتَفَ بِهِ أَبُو نَائِلَةَ وَكَانَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، فَوَثَبَ فِي مِلْحَفَتِهِ، فَأَخَذْتِ امْرَأَتُهُ بِنَاحِيَتِهَا، وَقَالَتْ: أَنْتَ امْرُؤٌ مُحَارَبٌ، وَإِنَّ أَصْحَابَ الْحَرْبِ لَا يَنْزِلُونَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ. قَالَ: إِنَّهُ أَبُو نَائِلَةَ لَوْ وَجَدَنِي نَائِمًا مَا أَيْقَظَنِي. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ فِي صَوْتِهِ الشَّرَّ. قَالَ:

يَقُولُ لَهَا كَعْبٌ لَوْ دُعِيَ الْفَتَى لِطَعْنَةٍ أَجَابَ. فَنَزَلَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ سَاعَةً وَتَحَدَّثُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالُوا: هَلْ لَكَ يَا ابْنَ الْأَشْرَفِ أَنْ نَتَمَاشَى إِلَى شِعْبِ الْعَجُوزِ فَنَتَحَدَّثُ بِهِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا هَذِهِ ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ. فَخَرَجُوا يَتَمَاشَوْنَ فَمَشَوْا سَاعَةً. ثُمَّ إِنَّ أَبَا نَائِلَةَ شَامَ يَدَهُ فِي فَوْدِ رَأْسِهِ، ثُمَّ شَمَّ يَدَهُ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ طِيبًا أَعْطرَ قَطُّ. ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِهَا حَتَّى اطْمَأَنَّ، ثُمَّ مَشَى سَاعَةً، ثُمَّ عَادَ لِمِثْلِهَا فَأَخَذَ بِفَوْدَيْ رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: اضْرِبُوا عَدُوَّ اللَّهِ فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ أَسْيَافُهُمْ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: فَذَكَرْتُ مِغْوَلًا فِي سَيْفِي فَأَخَذْتُهُ، وَقَدْ صَاحَ عَدُوُّ اللَّهِ صَيْحَةً لَمْ يَبْقَ حَوْلَنَا حِصْنٌ إِلَّا أُوقِدَتْ عَلَيْهِ نَارٌ. قَالَ فَوَضَعَتْهُ فِي ثُنَّتِهِ، ثُمَّ تَحَامَلْتُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغْتُ عَانَتَهُ، فَوَقْعَ عَدُوُّ اللَّهِ، وَقَدْ أُصِيبَ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ بِجُرْحٍ فِي رِجْلِهِ أَوْ فِي رَأْسِهِ، أَصَابَهُ بَعْضُ أَسْيَافِنَا. قَالَ: فَخَرَجْنَا حَتَّى سَلَكْنَا عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ ثُمَّ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ عَلَى بُعَاثٍ حَتَّى أَسْنَدْنَا فِي حَرَّةِ الْعُرَيْضِ وَقَدْ أَبْطَأَ

عَلَيْنَا صَاحِبُنَا الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ وَنَزْفَهُ الدَّمُ فَوَقَفْنَا لَهُ سَاعَةً، ثُمَّ أَتَانَا يَتْبَعُ آثَارَنَا، فَاحْتَمَلْنَاهُ، فَجِئْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ اللَّيْلِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوِّ اللَّهِ، وَتَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جُرْحِ صَاحِبِنَا، وَرَجَعْنَا إِلَى أَهْلِنَا، فَأَصْبَحْنَا، وَقَدْ خَافَتْ يَهُودُ لِوَقْعَتِنَا بِعَدُوِّ اللَّهِ، فَلَيْسَ بِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا وَهُوَ خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعْمَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّهُمْ جَاءُوا بِرَأْسِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
فَغُودِرَ مِنْهُمْ كَعْبٌ صَرِيعًا فَذَلَّتْ بَعْدَ مَصْرَعِهِ النَّضِيرُ
عَلَى الْكَفَّيْنِ ثُمَّ وَقَدْ عَلَتْهُ بِأَيْدِينَا مُشَهَّرَةٌ ذُكُورُ
بِأَمْرِ مُحَمَّدٍ إِذْ دَسَّ لَيْلًا إِلَى كَعْبٍ أَخَا كَعْبٍ يَسِيرُ
فَمَاكَرَهُ فَأَنْزَلَهُ بِمَكْرٍ وَمَحْمُودٌ أَخُو ثِقَةٍ جَسُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي يَوْمِ بَنِي النَّضِيرِ سَتَأْتِي. قُلْتُ: كَانَ قَتْلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ عَلَى يَدَيِ الْأَوْسِ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، ثُمَّ إِنَّ الْخَزْرَجَ قَتَلُوا أَبَا رَافِعِ بْنَ أَبِي الْحَقِيقَ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ

شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ شِعْرَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:
لِلَّهِ دَرُّ عِصَابَةٍ لَاقَيْتُهُمْ يَابْنَ الْحَقِيقِ وَأَنْتَ يَابْنَ الْأَشْرَفِ
يَسْرُونَ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ إِلَيْكُمُ مُرُحًا كَأُسْدٍ فِي عَرِينٍ مُغْرِفِ
حَتَّى أَتَوْكُمْ فِي مَحَلِّ بِلَادِكُمْ فَسَقَوْكُمُ حَتْفًا بِبَيْضٍ ذُفَّفِ
مُسْتَبْصِرِينَ لِنَصْرِ دِينِ نَبِيِّهِمْ مُسْتَصْغِرِينَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُجْحِفِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ ظَفَرْتُمْ بِهِ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ فَاقْتُلُوهُ فَوَثْبَ عِنْدَ ذَلِكَ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَوْسِيُّ عَلَى ابْنِ سُنَيْنَةَ - رَجُلٍ مِنْ تُجَّارِ يَهُودَ كَانَ يُلَابِسُهُمْ وَيُبَايِعُهُمْ - فَقَتَلَهُ، وَكَانَ أَخُوهُ حُوَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ أَسَنَّ مِنْهُ، وَلَمْ يُسْلِمْ بَعْدُ، فَلَمَّا قَتَلَهُ جَعَلَ حُوَيِّصَةُ يَضْرِبُهُ وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، أَقَتَلْتَهُ ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ. قَالَ مُحَيِّصَةُ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ مَنْ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَأَوَّلَ إِسْلَامِ حُوَيِّصَةَ. وَقَالَ آوَاللَّهِ لَوْ أَمَرَكَ مُحَمَّدٌ

بِقَتْلِي لَتَقْتُلُنِي ؟ ! قَالَ: نَعَمْ. وَاللَّهِ لَوْ أَمَرَنِي بِضَرْبِ عُنُقِكَ لَضَرَبْتُهَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا لَعَجَبٌ فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ مَوْلًى لِبَنِي حَارِثَةَ عَنِ ابْنَةِ مُحَيِّصَةَ عَنْ أَبِيهَا. وَقَالَ فِي ذَلِكَ مُحَيِّصَةُ:
يَلُومُ ابْنُ أُمٍّ لَوْ أُمِرْتُ بِقَتْلِهِ لَطَبَّقْتُ ذِفْرَاهُ بِأَبْيَضَ قَاضِبِ
حُسَامٍ كَلَوْنِ الْمِلْحِ أُخْلِصَ صَقْلُهُ مَتَى مَا أُصَوِّبْهُ فَلَيْسَ بِكَاذِبِ
وَمَا سَرَّنِي أَنِّي قَتَلْتُكَ طَائِعًا وَأَنَّ لَنَا مَا بَيْنَ بُصْرَى وَمَأْرِبِ
وَحَكَى ابْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ كَانَتْ بَعْدَ مَقْتَلِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ كَعْبُ بْنُ يَهُوذَا فَلَمَّا قَتَلَهُ مُحَيِّصَةُ عَنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ لَهُ أَخُوهُ حُوَيِّصَةُ مَا قَالَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ مُحَيِّصَةُ بِمَا تَقَدَّمَ، فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ يَوْمَئِذٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ، وَالْبُخَارِيُّ قَبْلَهُ خَبَرَ بَنِي النَّضِيرِ قُبَلَ وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَالصَّوَابُ إِيرَادُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَغَازِي، وَبُرْهَانُهُ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ لَيَالِيَ حِصَارِ بَنِي النَّضِيرِ وَثَبَتَ

فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ اصْطَبَحَ الْخَمْرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ إِذْ ذَاكَ حَلَالًا، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَتَبَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ قِصَّةَ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ آخَرُ: خَبَرُ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ عَلَى يَدَيِ الْأَوْسِ وَخَبَرُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَكَذَلِكَ مَقْتَلُ أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ تَاجِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى يَدَيِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَخَبَرُ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، وَقِصَّةِ الْخَنْدَقِ كَمَا سَيَأْتِي.

غَزْوَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ
فَائِدَةٌ ذَكَرَهَا الْمُؤَلِّفُ فِي تَسْمِيَةِ أُحُدٍ: قَالَ: سُمِّيَ أُحُدٌ أُحَدًا ; لِتَوَحُّدِهِ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْجِبَالِ، وَفِي " الصَّحِيحِ ": أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ قِيلَ مَعْنَاهُ أَهْلُهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ يُبَشِّرُهُ بِقُرْبِ أَهْلِهِ إِذَا رَجَعَ مِنْ سَفَرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُحِبُّ. وَقِيلَ: عَلَى ظَاهِرِهِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [ الْبَقَرَةِ: 74 ]. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ:أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، وَهُوَ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، وَعَيْرٌ يُبْغِضُنَا وَنُبْغِضُهُ، وَهُوَ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: مُقَوِّيًا لِهَذَا الْحَدِيثِ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ. وَهَذَا

مِنْ غَرِيبِ صُنْعِ السُّهَيْلِيِّ ; فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ النَّاسُ، وَلَا يُسَمَّى الْجَبَلُ امْرَأً.
وَكَانَتْ هَذِهِ الْغَزْوَةُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ. قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمَالِكٌ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَوْمَ السَّبْتِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْهُ. قَالَ مَالِكٌ: وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ. وَهِيَ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى قَوْلِهِ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [ آلِ عِمْرَانَ: 121 - 179 ]. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى تَفَاصِيلِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا مُلَخَّصَ الْوَقْعَةِ مِمَّا سَاقَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ أُحُدٍ كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، كُلُّهُمْ قَدْ حَدَّثَ بِبَعْضِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ كُلُّهُمْ فِيمَا سُقْتُ، قَالُوا - أَوْ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ -: لَمَّا أُصِيبَ يَوْمَ بِدْرٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِعِيرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ تِلْكَ الْعِيرُ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ ; فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرَنَا. فَفَعَلُوا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَفِيهِمْ كَمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [ الْأَنْفَالِ: 36 ]. قَالُوا: فَأَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ، وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُمَحِيُّ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، وَكَانَ فِي الْأُسَارَى، فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ يَا أَبَا عَزَّةَ، إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ وَاخْرُجْ مَعَنَا. فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلَيَّ، فَلَا أُرِيدُ أَنْ أُظَاهِرَ عَلَيْهِ. قَالَ: بَلَى فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ إِنْ رَجَعْتَ أَنْ أُعِيَنَكَ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَنْ أَجْعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي، يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ. فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ يَسِيرُ فِي تِهَامَةَ وَيَدْعُو بَنِي كِنَانَةَ وَيَقُولُ:
أَيَا بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرُّزَّامْ أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ
لَا يَعْدُونِي نَصْرُكُمْ بَعْدَ الْعَامْ لَا تُسَلِمُونِي لَا يَحِلُّ إِسْلَامْ

قَالَ: وَخَرَجَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهَبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ إِلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ يُحَرِّضُهُمْ وَيَقُولُ:
يَا مَالِ مَالِ الْحَسَبِ الْمُقَدَّمِ أَنْشُدُ ذَا الْقُرْبَى وَذَا التَّذَمُّمِ
مَنْ كَانَ ذَا رَحْمٍ وَمَنْ لَمْ يَرْحُمِ الْحِلْفَ وَسْطَ الْبَلَدِ الْمُحَرَّمِ
عِنْدَ حَطِيمِ الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمِ
قَالَ: وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ حَبَشِيًّا، يُقَالُ لَهُ: وَحْشِيٌّ. يَقْذِفُ بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ. فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَحَدِيدِهَا وَجَدِّهَا وَأَحَابِيشِهَا، وَمَنْ تَابَعَهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالظُّعُنِ ; الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ وَأَنْ لَا يَفِرُّوا، وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ وَهُوَ قَائِدُ النَّاسِ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهِلٍ بِزَوْجَتِهِ ابْنَةِ عَمِّهِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ

بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَخَرَجَ عَمُّهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ بِزَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَخَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بِبَرْزَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيَّةِ وَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِرَيْطَةَ بِنْتِ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَهِيَ أَمُّ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَذَكَرَ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ خَرَجَ بِامْرَأَتِهِ، قَالَ: وَكَانَ وَحْشِيُّ كُلَّمَا مَرَّ بِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ أَوْ مَرَّتْ بِهِ، تَقُولُ وَيْهًا أَبَا دَسْمَةَ اشْفِ وَاشْتَفِ - يَعْنِي تُحَرِّضُهُ عَلَى قَتْلِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - قَالَ: فَأَقْبَلُوا حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، قَالَ لَهُمْ:إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَاللَّهِ خَيْرًا، رَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ

مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلَى إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى، فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِيهَا أَيْضًا بَقَرًا، وَاللَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ النَّفَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ

كَانَ رَأْيُهُ أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ فَيُقَاتِلُهُمْ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ نَاسٌ لَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا بَدْرًا: تَخْرُجُ بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ نُقَاتِلُهُمْ بِأُحُدٍ. وَرَجَوْا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ الْفَضِيلَةِ مَا أَصَابَ أَهْلَ بَدْرٍ فَمَا زَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَبِسَ أَدَاتَهُ، ثُمَّ نَدِمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ، فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَضَعَ أَدَاتَهُ بَعْدَ مَا لَبِسَهَا، حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ. قَالَ: وَكَانَ قَالَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَلْبَسَ الْأَدَاةَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلَتُهَا الْمَدِينَةَ، وَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَأَوَّلْتُهُ كَبْشَ الْكَتِيبَةِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ سَيْفَيِ ذَا الْفَقَارِ فُلَّ، فَأَوَّلْتُهُ فَلًّا فِيكُمْ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، فَبَقْرٌ. وَاللَّهُ خَيْرٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ

مَرْفُوعًا قَالَ: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّيَ مُرْدِفٌ كَبْشًا، وَكَأَنَّ ظُبَةَ سَيْفِي انْكَسَرَتْ، فَأَوَّلْتُ أَنِّي أَقْتُلُ كَبْشَ الْقَوْمِ، وَأَوَّلْتُ كَسْرَ ظُبَةِ سَيْفِي قَتْلَ رَجُلٍ مِنْ عِتْرَتَيْ. فَقُتِلَ حَمْزَةُ، وَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلْحَةَ وَكَانَ صَاحِبَ اللِّوَاءِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَرَجَعَتْ قُرَيْشٌ فَاسْتَجْلَبُوا مَنْ أَطَاعَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَسَارَّ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي جَمْعِ قُرَيْشٍ وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ حَتَّى نَزَلُوا بِبَطْنِ الْوَادِي الَّذِي قَبْلَ أُحُدٍ وَكَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا قَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ السَّابِقَةِ، وَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ; لِيُبْلُوَا مَا أَبْلَى إِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَلَمَّا نَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكُونَ بِأَصْلِ أُحُدٍ فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ لَمَّ يَشْهَدُوا بَدْرًا بِقُدُومِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا: قَدْ سَاقَ اللَّهُ عَلَيْنَا أُمْنِيَّتَنَا. ثُمَّإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ رُؤْيَا فَأَصْبَحَ، فَجَاءَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ: رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي مَنَامِي بَقَرًا تُذْبَحُ، وَاللَّهُ خَيْرٌ، وَرَأَيْتُ سَيْفِي ذَا الْفَقَارِ انْقَصَمَ مِنْ عِنْدِ ظُبَّتِهِ - أَوْ قَالَ: بِهِ فُلُولٌ - فَكَرِهْتُهُ، وَهُمَا مُصِيبَتَانِ، وَرَأَيْتُ أَنِّيَ فِي

دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وَأَنِّيَ مُرْدِفٌ كَبْشًا. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرُؤْيَاهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَاذَا أَوَّلْتَ رُؤْيَاكَ ؟ قَالَ: أَوَّلْتُ الْبَقْرَ الَّذِي رَأَيْتُ نَفَرًا فِينَا وَفِي الْقَوْمِ، وَكَرِهْتُ مَا رَأَيْتُ بِسَيْفِي: وَيَقُولُ رِجَالٌ: كَانَ الَّذِي رَأَى بِسَيْفِهِ، الَّذِي أَصَابَ وَجْهَهُ ; فَإِنَّ الْعَدُوَّ أَصَابَ وَجْهَهُ يَوْمَئِذٍ، وَقَصَمُوا رَبَاعِيَتَهُ وَخَرَقُوا شَفَتَهُ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي رَمَاهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ، وَكَانَ الْبَقْرُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ. وَقَالَ: أَوَّلْتُ الْكَبْشَ أَنَّهُ كَبْشُ كَتِيبَةِ الْعَدُوِّ يَقْتُلُهُ اللَّهُ، وَأَوَّلْتُ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةَ، فَامْكُثُوا وَاجْعَلُوا الذَّرَارِيَّ فِي الْآطَامِ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ فِي الْأَزِقَّةِ، قَاتَلْنَاهُمْ وَرُمُوا مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَكَانُوا قَدْ سَكُّوا أَزِقَّةَ الْمَدِينَةِ بِالْبُنْيَانِ حَتَّى صَارَتْ كَالْحِصْنِ. فَقَالَ الَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا: كُنَّا نَتَمَنَّى هَذَا الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللَّهَ، فَقَدْ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا وَقَرَّبَ الْمَسِيرَ. وَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: مَتَى نُقَاتِلُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا لَمْ نُقَاتِلْهُمْ عِنْدَ شِعَبِنَا ؟ وَقَالَ رِجَالٌ: مَاذَا نَمْنَعُ إِذَا لَمْ تَمْنَعُ الْحَرْثَ يُزْرَعُ ؟

وَقَالَ رِجَالٌ: قَوْلًا صَدَقُوا بِهِ وَمَضَوْا عَلَيْهِ، مِنْهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، قَالَ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَنُجَالِدَنَّهُمْ. وَقَالَ نُعْمَانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَا تَحْرِمْنَا الْجَنَّةَ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَدْخُلَنَّهَا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ ؟. قَالَ: بِأَنِّي أَحَبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا أَفِرُّ يَوْمَ الزَّحْفِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقْتَ. وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَئِذٍ. وَأَبَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الْخُرُوجَ إِلَى الْعَدُوِّ، وَلَمْ يَتَنَاهَوْا إِلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأْيِهِ، وَلَوْ رَضُوا بِالَّذِي أَمَرَهُمْ كَانَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ غَلَبَ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، وَعَامَّةُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ رِجَالٌ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا، قَدْ عَلِمُوا الَّذِي سَبَقَ لِأَصْحَابِ بِدْرٍ مِنَ الْفَضِيلَةِ، فَلَّمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَةَ، وَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالْجِهَادِ، ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَصِلَاتِهِ، فَدَعَا بِلَأْمَتِهِ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْخُرُوجِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ، قَالُوا: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَمْكُثَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَمَا يُرِيدُ، وَيَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْكُثْ كَمَا أَمَرْتَنَا. فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا أَخَذَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ وَأَذَّنَ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعَدُوِّ، أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يُقَاتِلَ، وَقَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ إِلَّا الْخُرُوجَ، فَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَأْسِ إِذَا لَقِيتُمُ الْعَدُوَّ، وَانْظُرُوا مَاذَا آمُرُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ. قَالَ: فَخَرَجَ

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ، فَسَلَكُوا عَلَى الْبَدَائِعِ، وَهُمْ أَلْفُ رَجُلٍ، وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِأُحِدٍ وَرَجَعَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ، فَبَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي سَبْعِمِائَةٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي ; أَنَّهُمْ بَقُوا فِي سَبْعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ. قَالَ: وَالْمَشْهُورُ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ بَقُوا فِي أَرْبَعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ أَصْبَغَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقِيلَ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ: سَبْعُمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَكَانَ عَلَى خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ مَعَهُمْ مِائَةُ فَرَسٍ، وَكَانَ لِوَاؤُهُ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُثْمَانَ. قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسٌ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ ذَكَرَ الْوَقْعَةَ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ لَمَّا قَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ قَالَ لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بَشَرِّ مُقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا. وَكَانَ رَأْيُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ بْنِ

سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا تَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍّ قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ. فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ بْنُ عَمْرٍو. فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ نَدِمَ النَّاسُ، وَقَالُوا: اسْتَكْرَهْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ذَلِكَ. فَلَمَّا خَرَجَ عَلَيْهِمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ. فَقَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَلْفٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشَّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِثُلْثِ النَّاسِ، وَقَالَ: أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيُّهَا النَّاسُ ؟ فَرَجَعَ بِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالرَّيْبِ، وَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ السُّلَمِيُّ، وَالِدُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَنْ لَا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيَّكُمْ عِنْدَ مَا حَضَرَ مِنْ عَدُوِّهِمْ.

قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِّنَّا لَا نَرَى أَنْ يَكُونَ قِتَالٌ فَلَمَّا اسْتَعْصُوا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إِلَّا الِانْصِرَافَ، قَالَ أَبْعَدَكُمُ اللَّهُ أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ هُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 167 ]. يَعْنِي، أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ. وَذَلِكَ لِأَنَّ وُقُوعَ الْقِتَالِ أَمْرُهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ، لَا خَفَاءَ وَلَا شَكَّ فِيهِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 88 ]. وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً قَالَتْ: نُقَاتِلُهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا نُقَاتِلُهُمْ. كَمَا ثَبَتَ وَبُيِّنَ فِي " الصَّحِيحِ ". وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ الْأَنْصَارَ اسْتَأْذَنُوا حِينَئِذٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِحُلَفَائِهِمْ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ. وَذَكَرَ عُرْوَةُ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ وَبَنِي حَارِثَةَ لَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ، هَمَّتَا

أَنْ تَفْشَلَا، فَثَبَّتَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. وَلِهَذَا قَالَ: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 122 ] قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا أُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، وَاللَّهُ يَقُولُ: وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَلَكَ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ فَذَبَّ فَرَسٌ بِذَنَبِهِ، فَأَصَابَ كُلَّابَ سَيْفٍ فَاسْتَلَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبِ السَّيْفِ: شِمْ سَيْفَكَ - أَيْ أَغْمِدْهُ - فَإِنِّي أُرَى السُّيُوفَ سُتُسَلُّ الْيَوْمَ. ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ - أَيْ مِنْ قَرِيبٍ - مِنْ طَرِيقٍ لَا يَمُرُّ بِنَا عَلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَنَفَذَ بِهِ فِي حَرَّةِ بَنِي حَارِثَةَ وَبَيْنَ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى سَلَكَ بِهِ فِي مَالٍ لِمِرْبَعِ بْنِ قَيْظِيٍّ، وَكَانَ رَجُلًا مُنَافِقًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ، فَلَّمَا سَمِعَ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَامَ يَحْثِي فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنِّي لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ فِي حَائِطِي. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَا أُصِيبُ بِهَا غَيْرَكَ يَا مُحَمَّدُ لَضَرَبْتُ بِهَا وَجْهَكَ.

فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْتُلُوهُ، فَهَذَا الْأَعْمَى أَعْمَى الْقَلْبِ أَعْمَى الْبَصَرِ. وَقَدْ بَدَرَ إِلَيْهِ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَبْلَ نَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَرَبَهُ بِالْقَوْسِ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ وَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لَا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حَتَّى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ وَقَدْ سَرَّحَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ وَالْكُرَاعَ فِي زُرُوعٍ كَانَتْ بِالصَّمْغَةِ مِنْ قَنَاةٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْقِتَالِ: أَتُرْعَى زُرُوعُ بَنِيَ قَيْلَةَ وَلَمَّا نُضَارِبْ ؟ وَتَعَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِتَالِ، وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَئِذٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ أَخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مُعَلَّمٌ يَوْمَئِذَ بِثِيَابٍ بِيضٍ، وَالرُّمَاةُ خَمْسُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: انْضَحِ الْخَيْلَ عَنَّا بِالنَّبْلِ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أَوْ عَلَيْنَا فَاثْبُتْ مَكَانَكَ، لَا نُؤْتَيَنَّ مِنْ قِبَلِكَ. وَسَيَأْتِي شَاهِدُ هَذَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ - يَعْنِي لَبِسَ دِرْعًا فَوْقَ دِرْعٍ - وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. قُلْتُ: وَقَدْ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مِنَ الْغِلْمَانِ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ حُضُورِ الْحَرْبِ لِصِغَرِهِمْ ; مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَمَا ثَبَتَ فِي

" الصَّحِيحَيْنِ " قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فِلَمْ يُجِزْنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ، فَأَجَازَنِي. وَكَذَلِكَ رَدَّ يَوْمَئِذٍ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَالْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَأُسَيْدَ بْنَ ظُهَيْرٍ، وَعَرَابَةَ بْنَ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيٍّ، ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ، وَأَوْرَدَهُ السُّهَيْلِيُّ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ الشَّمَّاخُ
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
وَمِنْهُمْ سَعْدُ ابْنُ حَبْتَةَ، ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا، وَأَجَازَهُمْ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَكَانَ قَدْ رَدَّ يَوْمَئِذٍ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَهُمَا ابْنَا خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ رَافِعًا رَامٍ. فَأَجَازَهُ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّ سَمُرَةَ يَصْرَعُ رَافِعًا فَأَجَازَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهْمُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَلَى

مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهِلِ بْنِ هِشَامٍ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ رِجَالٌ، فَأَمْسَكُهُ عَنْهُمْ، حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ قَالَ: أَنَا آخُذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِحَقِّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعًا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذَ هَذَا السَّيْفَ ؟ فَأَخَذَهُ قَوْمٌ فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ ؟ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكٌ: أَنَا آخُذُهُ بِحَقِّهِ. فَأَخَذَهُ فَفَلَقَ بِهِ هَامَ الْمُشْرِكِينَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَفَّانَ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَبُو دُجَانَةَ رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ، وَكَانَ لَهُ عِصَابَةٌ حَمْرَاءُ يُعْلَمُ بِهَا عِنْدَ الْحَرْبِ، يَعْتَصِبُ بِهَا فَيَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ سَيُقَاتِلُ. قَالَ: فَلَمَّا أَخَذَ السَّيْفَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَ عِصَابَتَهُ تِلْكَ فَاعْتَصَبَ بِهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ.
قَالَ: فَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ

رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ: إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يُبَغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِ اللِّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ: يَا بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، قَدْ وُلِّيتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ، إِذَا زَالَتْ زَالُوا، فَإِمَّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَنَكْفِيكُمُوهُ. فَهَمُّوا بِهِ وَتَوَاعَدُوهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ نُسْلِمُ إِلَيْكَ لِوَاءَنَا! سَتَعْلَمُ غَدًا إِذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ. وَذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ. قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، قَامَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فِي النِّسْوَةِ اللَّاتِي مَعَهَا، وَأَخَذْنَ الدُّفُوفَ يَضْرِبْنَ بِهَا خَلْفَ الرِّجَالِ، وَيُحَرِّضْنَ عَلَى الْقِتَالِ، فَقَالَتْ هِنْدُ فِيمَا تَقُولُ
وَيْهًا بَنِي عَبْدِ الدَّارْ وَيْهًا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ
ضَرْبًا بِكُلِّ بَتَّارْ
وَتَقُولُ أَيْضًا:
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ وَنَفْرِشِ النَّمَارِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ فِرَاقَ غَيْرِ وَامِقْ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا عَامِرٍ عَبْدَ عَمْرِو بْنَ صَيْفِيِّ بْنِ مَالِكِ بْنِ النُّعْمَانِ أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ، وَكَانَ قَدْ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُبَاعِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ خَمْسُونَ غُلَامًا مِنَ الْأَوْسِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ. وَكَانَ يَعِدُ قُرَيْشًا أَنْ لَوْ قَدْ لَقِيَ قَوْمَهُ، لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ. فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ أَبُو عَامِرٍ فِي الْأَحَابِيشِ وَعُبْدَانِ أَهْلِ مَكَّةَ فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ، أَنَا أَبُو عَامِرٍ. قَالُوا: فَلَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِكَ عَيْنًا يَا فَاسِقُ. وَكَانَ يُسَمَّى فِي الْجَاهِلِيَّةِ الرَّاهِبَ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَاسِقَ. فَلَمَّا سَمِعَ رَدَّهُمْ عَلَيْهِ قَالَ: لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ. ثُمَّ قَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَاضَخَهُمْ بِالْحِجَارَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ قَالَ: وَجَدْتُ فِي نَفْسِي حِينَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْفَ فَمَنَعَنِيهِ وَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ، وَقُلْتُ: أَنَا ابْنُ صَفِيَّةَ عَمَّتِهِ، وَمِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ إِيَّاهُ قَبْلَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا دُجَانَةَ وَتَرَكَنِي، وَاللَّهِ لَأَنْظُرَنَّ مَا يَصْنَعُ. فَاتَّبَعْتُهُ فَأَخْرَجَ عِصَابَةً

لَهُ حَمْرَاءَ، فَعَصَبَ بِهَا رَأْسَهُ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَخْرَجَ أَبُو دُجَانَةَ عِصَابَةَ الْمَوْتِ. وَهَكَذَا كَانَتْ تَقُولُ لَهُ إِذَا تَعَصَّبَ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي وَنَحْنُ بِالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيلِ
أَنْ لَا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ أَضْرِبْ بِسَيْفِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ وَهُوَ يُقَاتِلُ، فَسَأَلَهُ سَيْفًا يُقَاتِلُ بِهِ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ، تُقَاتِلْ فِي الْكَيُّولِ ؟ قَالَ: لَا. فَأَعْطَاهُ سَيْفًا، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
أَنَا الَّذِي عَاهَدَنِي خَلِيلِي أَنْ لَا أَقُومَ الدَّهْرَ فِي الْكَيُّولِ
وَهَذَا حَدِيثٌ يُرْوَى عَنْ شُعْبَةَ وَرَوَاهُ إِسْرَائِيلُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ هِنْدِ بِنْتِ خَالِدٍ أَوْ غَيْرِهِ يَرْفَعُهُ. الْكَيُّولُ يَعْنِي مُؤَخَّرَ الصُّفُوفِ، سَمِعْتُهُ مِنْ عِدَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْحَرْفَ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا إِلَّا قَتَلَهُ، وَكَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ جَرِيحًا إِلَّا ذَفَفَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدْنُو مِنْ صَاحِبِهِ

فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالْتَقَيَا، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَ الْمُشْرِكُ أَبَا دُجَانَةَ فَاتَّقَاهُ بِدَرَقَتِهِ فَعَضَّتْ بِسَيْفِهِ، وَضَرَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَدْ حَمَلَ السَّيْفَ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ ثُمَّ عَدَلَ السَّيْفَ عَنْهَا. قَالَ الزُّبَيْرُ: فَقُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ أَبُو دُجَانَةَ: رَأَيْتُ إِنْسَانًا يَحْمِشُ النَّاسَ حَمْشًا شَدِيدًا، فَصَمَدْتُ لَهُ، فَلَّمَا حَمَلْتُ عَلَيْهِ السَّيْفَ وَلْوَلَ، فَاذَا امْرَأَةٌ، فَأَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَضْرِبَ بِهِ امْرَأَةً.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَرَضَهُ، طَلَبَهُ مِنْهُ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهُ الزُّبَيْرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَوَجَدَا فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَضَهُ الثَّالِثَةَ، فَطَلَبَهُ أَبُو دُجَانَةَ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، فَأَعْطَى السَّيْفَ حَقَّهُ. قَالَ: فَزَعَمُوا أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ جُرِحَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ

مَثْلَ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ قُمْتُ فَتَجَاوَزْتُ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ جِمْعُ اللَّأْمَةِ يَحُوزُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ يَقُولُ: اسْتَوْسِقُوا كَمَا اسْتَوْسَقَتْ جَزَرُ الْغَنَمِ. قَالَ: وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَنْتَظِرُهُ وَعَلَيْهِ لَأْمَتُهُ، فَمَضَيْتُ حَتَّى كُنْتُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قُمْتُ أَقْدُرُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ بِبَصَرِي، فَإِذَا الْكَافِرُ أَفْضَلُهُمَا عُدَّةً وَهَيْئَةً. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُهُمَا حَتَّى الْتَقَيَا، فَضَرَبَ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ فَبَلَغَتْ وَرِكَهُ، وَتَفَرَّقَ فِرْقَتَيْنِ، ثُمَّ كَشَفَ الْمُسْلِمُ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: كَيْفَ تَرَى يَا كَعْبُ ؟ أَنَا أَبُو دُجَانَةَ.

مَقْتَلُ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى قَتَلَ أَرْطَاةَ بْنَ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ، وَكَانَ أَحَدَ النَّفَرِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ اللِّوَاءَ.
وَكَذَلِكَ قَتَلَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَهُوَ حَامِلُ اللِّوَاءِ، وَهُوَ يَقُولُ:
إِنَّ عَلَى أَهْلِ اللِّوَاءِ حَقًّا أَنْ يَخْضِبُوا الصَّعْدَةَ أَوْ تَنْدَقَّا
فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ فَقَتْلَهُ، ثُمَّ مَرَّ بِهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْغُبْشَانِيُّ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي نِيَارٍ فَقَالَ حَمْزَةُ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ. وَكَانَتْ أُمُّهُ أُمُّ أَنْمَارٍ مُوَلَّاةَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَتْ خَتَّانَةً بِمَكَّةَ، فَلَمَّا الْتَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ وَحْشِيٌّ غُلَامُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى حَمْزَةَ يَهُدُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ مَا يُلِيقُ شَيْئًا، يَمُرُّ بِهِ مِثْلَ الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَنِي إِلَيْهِ سِبَاعٌ فَقَالَ حَمْزَةُ: هَلُمَّ يَا ابْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ. فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَكَأَنَّمَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ، وَهَزَزْتُ حَرْبَتِي، حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ، فَوَقَعَتْ فِي

ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، فَأَقْبَلَ نَحْوِي، فَغُلِبَ فَوَقَعَ، وَأَمْهَلْتُهُ حَتَّى إِذَا مَاتَ جِئْتُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَّ تَنَحَّيْتُ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِشَيْءٍ حَاجَةٌ غَيْرُهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ بَحِيرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَبِي بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الشِّعْبِ آخِرَ أَصْحَابِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ غَيْرُ حَمْزَةَ يُقَاتِلُ الْعَدُوَّ، فَرَصَدَهُ وَحْشِيُّ فَقَتَلَهُ، وَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ بِيَدِ حَمْزَةَ مِنَ الْكُفَّارِ أَحَدًا وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ يُدْعَى أَسَدَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ

الْحَارِثِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَعَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَحَدُ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ فَأَدْرَبْنَا، مَعَ النَّاسِ، فَلَمَّا مَرَرْنَا بِحِمْصَ وَكَانَ وَحْشِيُّ مَوْلَى جُبَيْرٍ قَدْ سَكَنَهَا وَأَقَامَ بِهَا، فَلَمَّا قَدِمْنَاهَا قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ: هَلْ لَكَ فِي أَنْ نَأْتِيَ وَحْشِيًّا فَنَسْأَلُهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ كَيْفَ قَتَلَهُ ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنْ شِئْتَ. فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْهُ بِحِمْصَ فَقَالَ لَنَا رَجُلٌ وَنَحْنُ نَسْأَلُ عَنْهُ: إِنَّكُمَا سَتَجِدَانِهِ بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَهُوَ رَجُلٌ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْخَمْرُ، فَإِنْ تَجِدَاهُ صَاحِيًا تَجِدَا رَجُلًا عَرَبِيًّا، وَتَجِدَا عِنْدَهُ بَعْضَ مَا تُرِيدَانِ وَتُصِيبَا عِنْدَهُ مَا شِئْتُمَا مِنْ حَدِيثٍ تَسْأَلَانِهِ عَنْهُ، وَإِنْ تَجِدَاهُ وَبِهِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بِهِ، فَانْصَرِفَا عَنْهُ وَدَعَاهُ. قَالَ فَخَرَجْنَا نَمْشِي حَتَّى جِئْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ بِفَنَاءِ دَارِهِ عَلَى طِنْفِسَةٍ لَهُ، وَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ مِثْلُ الْبُغَاثِ، وَإِذَا هُوَ صَاحٍ لَا بَأْسَ بِهِ فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَىعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ: ابْنٌ لِعُدَيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ نَاوَلْتُكَ أُمَّكَ السَّعْدِيَّةَ الَّتِي أَرْضَعَتْكَ بِذِي طَوًى، فَإِنِّي نَاوَلْتُكَهَا وَهِيَ عَلَى بَعِيرِهَا، فَأَخَذَتْكَ بِعُرْضَيْكَ، فَلَمَعَتْ لِي قَدَمَاكَ حِينَ

رَفَعْتُكَ إِلَيْهَا، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَقَفْتَ عَلَيَّ فَعَرَفْتُهُمَا. قَالَ: فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا: جِئْنَاكَ لِتَحَدِّثَنَا عَنْ قَتْلِكَ حَمْزَةَ كَيْفَ قَتَلْتَهُ ؟. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَأُحَدِّثُكُمَا كَمَا حَدَّثْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ ; كُنْتُ غُلَامًا لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَكَانَ عَمُّهُ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ قَدْ أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمَّا سَارَتْ قُرَيْشٌ إِلَى أُحُدٍ قَالَ لِي جُبَيْرٌ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ عَمَّ مُحَمَّدٍ بِعَمِّي، فَأَنْتَ عَتِيقٌ. قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَبَشِيًّا أَقْذِفُ بِالْحَرْبَةِ قَذْفَ الْحَبَشَةِ، قَلَّمَا أُخْطِئُ بِهَا شَيْئًا، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ خَرَجْتُ أَنْظُرُ حَمْزَةَ وَأَتَبَصَّرُهُ، حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي عَرْضِ النَّاسِ كَأَنَّهُ الْجَمَلُ الْأَوْرَقُ، يَهُدُّ النَّاسَ بِسَيْفِهِ هَذَا مَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَتَهَيَّأُ لَهُ، أُرِيدُهُ وَأَسْتَتِرُ مِنْهُ بِشَجَرَةٍ أَوْ بِحَجَرٍ لِيَدْنُوَ مِنِّي، إِذْ تَقَدَّمَنِي إِلَيْهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فَلَمَّا رَآهُ حَمْزَةُ قَالَ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ. قَالَ: فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً كَأَنَّمَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ. قَالَ: وَهَزَزْتُ حَرْبَتِي، حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ، فَوَقَعَتْ فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ رِجْلَيْهِ، وَذَهَبَ لِيَنُوءَ نَحْوِي فَغُلِبَ، وَتَرَكْتُهُ وَإِيَّاهَا حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَخَذْتُ حَرْبَتِي، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَقَعَدْتُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي بِغَيْرِهِ حَاجَةٌ، إِنَّمَا قَتَلْتُهُ لَأُعْتَقَ، فَلَمَّا قَدِمْتُ مَكَّةَ عُتِقْتُ ثُمَّ أَقَمْتُ، حَتَّى إِذَا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ هَرَبْتُ إِلَى الطَّائِفِ فَكُنْتُ بِهَا، فَلَمَّا خَرَجَ وَفْدُ الطَّائِفِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لِيُسَلِمُوا، تَعَيَّتْ عَلَيَّ الْمَذَاهِبُ، فَقُلْتُ: أَلْحَقُ بِالشَّامِ أَوْ بِالْيَمَنِ أَوْ بِبَعْضِ الْبِلَادِ. فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي ذَلِكَ مِنْ هَمِّي، إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ: وَيْحَكَ ! إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا يَقْتُلُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ دَخَلَ فِي دِينِهِ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ. قَالَ: فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ، خَرَجْتُ حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَلَمْ يَرُعْهُ إِلَّا بِي قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ أَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقِّ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أَوَحْشِيٌّ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ اقْعُدْ فَحَدِّثْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ. قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ كَمَا حَدَّثْتُكُمَا، فَلَّمَا فَرَغْتُ مِنْ حَدِيثِي قَالَ: وَيْحَكَ ! غَيِّبْ عَنِّي وَجْهَكَ فَلَا أَرَيَنَّكَ. قَالَ: فَكُنْتُ أَتَنَكَّبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَانَ ; لِئَلَّا يَرَانِي، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ خَرَجْتُ مَعَهُمْ، وَأَخَذْتُ حَرْبَتِي الَّتِي قَتَلْتُ بِهَا حَمْزَةَ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ وَرَأَيْتُ مُسَيْلِمَةَ قَائِمًا وَبِيَدِهِ السَّيْفُ، وَمَا أَعْرِفُهُ، فَتَهَيَّأْتُ لَهُ، وَتَهَيَّأَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنَ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى، كِلَانَا يُرِيدُهُ، فَهَزَزْتُ حَرْبَتِي، حَتَّى إِذَا رَضِيتُ مِنْهَا، دَفَعَتُهَا عَلَيْهِ، فَوَقَعَتْ فِيهِ، وَشَدَّ عَلَيْهِ الْأَنْصَارِيُّ بِالسَّيْفِ، فَرَبُّكَ أَعْلَمُ أَيُّنَا قَتَلَهُ، فَإِنْ كُنْتُ قَتَلْتُهُ، فَقَدْ قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَتَلْتُ شَرَّ النَّاسِ.
قُلْتُ: الْأَنْصَارِيُّ هُوَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي مَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةَ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي الرِّدَّةِ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ

بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيِّ وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ: هُوَ عَدِيُّ بْنُ سَهْلٍ وَهُوَ الْقَائِلُ:
أَلَمْ تَرَ أَنِّي وَوَحْشِيَّهُمْ قَتَلْتُ مُسَيْلِمَةَ الْمُفْتَتَنْ
وَيَسْأَلُنِي النَّاسُ عَنْ قَتْلِهِ فَقُلْتُ ضَرَبْتُ وَهَذَا طَعَنْ
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ وَحْشِيًّا هُوَ الَّذِي بَدَرَهُ بِالضَّرْبَةِ، وَذَفَّفَ عَلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ ; لِمَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ صَارِخًا يَوْمَ الْيَمَامَةِ يَقُولُ: قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ قِصَّةَ مَقْتَلِ حَمْزَةَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ. قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيٍّ كَانَ مُعْتَجِرًا عِمَامَةً، لَا يَرَى مِنْهُ وَحْشِيٌّ إِلَّا عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَذَكَرَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ لَهُ مَا تَقَدَّمَ، وَهَذِهِ قِيَافَةٌ عَظِيمَةٌ - كَمَا عَرَفَ مُجَزِّزٌ الْمُدْلِجِيُّ أَقْدَامَ زَيْدٍ وَابْنِهِ أُسَامَةَ مَعَ اخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمَا - وَقَالَ فِي سِيَاقَتِهِ: فَلَمَّا أَنَّ صُفَّ النَّاسُ لِلْقِتَالِ، خَرَجَ

سِبَاعٌ فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ: يَا سِبَاعُ، يَا ابْنَ أُمِّ أَنْمَارٍ مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ، أَتُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ. قَالَ: وَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِ وِرْكَيْهِ. قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ. إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ قُلْتُ: لَأَخْرُجُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئُ بِهِ حَمْزَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ. قَالَ: فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثُلْمَةِ جِدَارٍ، كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ، ثَائِرُ الرَّأْسِ. قَالَ فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي، فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ كَتِفَيْهِ. قَالَ: وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ: فَأَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: فَقَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ الْبَيْتِ: وَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَتَلَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي أَنَّ وَحْشِيًّا لَمْ يَزَلْ يُحَدُّ فِي الْخَمْرِ حَتَّى خُلِعَ مِنَ الدِّيوَانِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ

لِيَدَعَ قَاتِلَ حَمْزَةَ.
قُلْتُ: وَتُوُفِّيَ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ أَبُو دَسْمَةَ - وَيُقَالُ: أَبُو حَرْبٍ - بِحِمْصَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ الثِّيَابَ الْمَدْلُوكَةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قُتِلَ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُ ابْنُ قَمِئَةَ اللِّيثِيُّ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا.
قُلْتُ: وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ "، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الَّذِي قَتَلَ مُصْعَبًا هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ اللِّوَاءُ أَوَّلًا مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ قَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ مِنْهُمْ أَخَذَ اللِّوَاءَ مِنْ عَلِيٍّ، فَدَفَعَهُ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ أَعْطَى اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ.، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَاتَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْمَازِنِيُّ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ الْقِتَالُ يَوْمَ أُحُدٍ جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ أَنْ قَدِّمَ الرَّايَةَ، فَتَقَدَّمَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَبُو الْقُصَمِ. فَنَادَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ - وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ - هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَبَرَزَا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ فَصَرَعَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَلَمْ يُجْهِزْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَفَلَا أَجْهَزْتَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ، فَعَطَفَتْنِي عَلَيْهِ الرَّحِمُ، وَعَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ قَتَلَهُ. وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَوْمَ صِفِّينَ مَعَ بُسْرِ بْنِ أَبِي أَرْطَأَةَ لَمَّا حَمَلَ عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، أَبْدَى لَهُ عَنْ عَوْرَتِهِ فَرَجَعَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ حِينَ حَمَلَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ أَيَّامِ صِفِّينَ أَبْدَى عَنْ عَوْرَتِهِ فَرَجَعَ عَلِيٌّ أَيْضًا. فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الْحَارِثُ بْنُ النَّضْرِ:
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ فَارِسٌ غَيْرُ مُنْتَهٍ وَعَوْرَتُهُ وَسْطَ الْعَجَاجَةِ بَادِيَهْ
يَكُفُّ لَهَا عَنْهُ عَلَيٌّ سِنَانَهُ وَيَضْحَكُ مِنْهَا فِي الْخَلَاءِ مُعَاوِيَهْ

وَذَكَرَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ طَلْحَةَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ الْعَبْدَرِيَّ حَامِلَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ دَعَا إِلَى الْبِرَازِ، فَأَحْجَمَ عَنْهُ النَّاسُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فَوَثَبَ حَتَّى صَارَ مَعَهُ عَلَى جَمَلِهِ، ثُمَّ اقْتَحَمَ بِهِ الْأَرْضَ، فَأَلْقَاهُ عَنْهُ وَذَبَحَهُ بِسَيْفِهِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حِوَارِيًّا، وَحِوَارِيِّ الزُّبَيْرُ. وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْرُزْ إِلَيْهِ، لَبَرَزْتُ أَنَا إِلَيْهِ ; لِمَا رَأَيْتُ مِنْ إِحْجَامِ النَّاسِ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَتَلَ أَبَا سَعْدِ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَاتَلَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ فَقَتَلَ مُسَافِعَ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَأَخَاهُ الْجُلَاسَ، كِلَاهُمَا يُشْعِرُهُ سَهْمًا، فَيَأْتِي أُمَّهُ سُلَافَةَ فَيَضَعُ رَأْسَهُ فِي حِجْرِهَا، فَتَقُولُ: يَا بُنَيَّ، مَنْ أَصَابَكَ ؟ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ رَجُلًا حِينَ رَمَانِي وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ أَبَى الْأَقْلَحِ. فَنَذَرَتْ إِنْ أَمْكَنَهَا اللَّهُ مِنْ رَأْسِ عَاصِمٍ أَنْ تَشْرَبَ فِيهِ الْخَمْرَ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ أَنْ لَا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا، وَلَا يَمَسَّهُ. وَلِهَذَا حَمَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الرَّجِيعِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالْتَقَى حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ وَاسْمُهُ عَمْرٌو

، وَيُقَالُ: عَبْدُ عَمْرِو بْنُ صَيْفِيٍّ. وَكَانَ يُقَالُ لِأَبِي عَامِرٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: الرَّاهِبُ. لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهِ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْفَاسِقُ ; لَمَّا خَالَفَ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ هَرَبًا مِنَ الْإِسْلَامِ، وَمُخَالَفَةً لِلرَّسُولِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَنْظَلَةُ الَّذِي يُعْرَفُ بِحَنْظَلَةَ الْغَسِيلِ ; لِأَنَّهُ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا سَيَأْتِي - هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا عَلَاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَوْسِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ شَعُوبٍ، فَضَرَبَهُ شَدَّادٌ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ لُتُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ، فَاسْأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ - قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، وَكَانَتْ عَرُوسًا عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ - فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَاتِفَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَدْ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ أَبَاهُ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: ذَنْبَانِ أَصَبْتَهُمَا، وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ مَصْرَعِكَ هَذَا، وَلَقَدْ وَاللَّهِ كُنْتَ وُصُولًا لِلرَّحِمِ، بَرًّا بِالْوَالِدِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ فِي قَتْلِهِ حَنْظَلَةَ:

لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ
وَقَالَ ابْنُ شَعُوبٍ:
وَلَوْلَا دِفَاعِي يَا بْنَ حَرْبٍ وَمَشْهَدِي لَأُلْفِيتَ يَوْمَ النَّعْفِ غَيْرَ مُجِيبِ
وَلَوْلَا مَكَرِّي الْمُهْرَ بِالنَّعْفِ قَرْقَرَتْ عَلَيْهِ ضِبَاعٌ أَوْ ضِرَاءُ كَلِيبِ
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
وَلَوْ شِئْتُ نَجَّتْنِي كُمَيْتٌ طِمِرَّةٌ وَلَمْ أَحْمِلِ النَّعْمَاءَ لِابْنِ شَعُوبِ
وَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ
أُقَاتِلُهُمْ وَأَدَّعِي يَا لِغَالِبٍ وَأَدْفَعُهُمْ عَنِّي بِرُكْنِ صَلِيبِ
فَبَكِّي وَلَا تَرْعَيْ مَقَالَةَ عَاذِلٍ وَلَا تَسْأَمِي مِنْ عَبْرَةٍ وَنَحِيبِ
أَبَاكِ وَإِخْوَانًا لَهُ قَدْ تَتَابَعُوا وَحُقَّ لَهُمْ مِنْ عَبْرَةٍ بِنَصِيبِ
وَسَلِي الَّذِي قَدْ كَانَ فِي النَّفْسِ إِنَّنِي قَتَلْتُ مِنَ النَّجَّارِ كُلَّ نَجِيبِ

وَمِنْ هَاشِمٍ قَرْمًا كَرِيمًا وَمُصْعَبًا وَكَانَ لَدَى الْهَيْجَاءِ غَيْرَ هَيُوبِ
فَلَوْ أَنَّنِي لَمْ أَشْفِ نَفْسِي مِنْهُمُ لَكَانَتْ شَجًى فِي الْقَلْبِ ذَاتَ نُدُوبِ
فَآبُوا وَقَدْ أَوْدَى الْجَلَابِيبُ مِنْهُمُ بِهَمْ خَدَبٌ مِنْ مُغْبَطٍ وَكَئِيبِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ كِفَاءً وَلَا فِي خُطَّةٍ بِضَرِيبِ
فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
ذَكَرْتَ الْقُرُومَ الصِّيدَ مِنْ آلِ هَاشِمٍ وَلَسْتَ لِزُورٍ قُلْتَهُ بِمُصِيبِ
أَتَعْجَبُ أَنْ أَقْصَدْتَ حَمْزَةَ مِنْهُمُ نَجِيبًا وَقَدْ سَمَّيْتَهُ بِنَجِيبِ
أَلَمْ يَقْتُلُوا عَمَرًا، وَعُتْبَةَ وَابْنَهُ وَشَيْبَةَ، وَالْحَجَّاجَ، وَابْنَ حَبِيبِ
غَدَاةَ دَعَا الْعَاصِي عَلِيًّا فَرَاعَهُ بِضَرْبَةِ عَضْبٍ بَلَّهُ بِخَضِيبِ

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَصَدَقَهُمْ وَعْدَهُ فَحَسُّوهُمْ بِالسُّيُوفِ حَتَّى كَشَفُوهُمْ عَنِ الْعَسْكَرِ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ لَا شَكَّ فِيهَا، وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَبَّادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبِهَا ; مُشَمِّرَاتٍ هَوَارِبَ، مَا دُونَ أَخْذِهِنَّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، إِذْ مَالَتِ الرُّمَاةُ عَلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينَا مِنْ خَلْفِنَا، وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ الْقَوْمُ عَلَيْنَا بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللِّوَاءِ، حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. قَالَ: فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ اللِّوَاءَ لَمْ يَزَلْ صَرِيعًا حَتَّى أَخَذَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ فَرَفْعَتْهُ لِقُرَيْشٍ فَلَاثُوا بِهِ، وَكَانَ اللِّوَاءُ مَعَ صُؤَابٍ غُلَامٍ لِبَنِي أَبِي طَلْحَةَ حَبَشِيٍّ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، فَقَاتَلَ بِهِ حَتَّى قُطِعَتْ يَدَاهُ، ثُمَّ بَرَكَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِصَدْرِهِ وَعُنُقِهِ حَتَّى قُتِلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ هَلْ أَعْزَرْتُ ؟ يَعْنِي اللَّهُمَّ هَلْ أَعْذَرْتُ ؟ فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ:
فَخَرْتُمْ بِاللِّوَاءِ وَشَرُّ فَخْرٍ لِوَاءٌ حِينَ رُدَّ إلى صُؤَابِ جَعَلْتُمْ فَخْرَكُمْ فِيهِ لِعَبْدٍ
وَأَلْأَمِ مَنْ يَطَا عَفْرَ التُّرَابِ ظَنَنْتُمْ وَالسَّفِيهُ لَهُ ظُنُونٌ
وَمَا إِنْ ذَاكَ مِنْ أَمْرِ الصَّوَابِ بِأَنَّ جِلَادَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا
بِمَكَّةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ الْعِيَابِ أَقَرَّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهُ
وَمَا إِنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَابِ
وَقَالَ حَسَّانٌ أَيْضًا فِي رَفْعِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَلْقَمَةَ اللِّوَاءَ لَهُمْ:
إِذَا عَضَلٌ سِيقَتْ إِلَيْنَا كَأَنَّهَا جَدَايَةُ شِرْكٍ مُعْلَمَاتِ الْحَوَاجِبِ
أَقَمْنَا لَهُمْ طَعْنًا مُبِيرًا مُنَكِّلًا وَحُزْنَاهُمُ بِالضَّرْبِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ

فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيَّةِ أَصْبَحُوا يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلَائِبِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، وَأَصَابَ مِنْهُمُ الْعَدُوُّ، وَكَانَ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ أَكْرَمَ بِالشَّهَادَةِ، حَتَّى خَلَصَ الْعَدُوُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدُثَّ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّهِ، فَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَكُلِمَتْ شَفَتُهُ، وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ، فَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ فِي وَجْهِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ ؟ فَأَنْزَلُ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَتَى ابْنُ قَمِئَةَ الْحَارِثِيُّ فَرَمَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرٍ، فَكَسَرَ أَنْفَهُ وَرَبَاعِيَتَهُ، وَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ فَأَثْقَلَهُ، وَتَفَرَّقَ

عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلَ بَعْضُهُمُ الْمَدِينَةَ وَانْطَلَقَ طَائِفَةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ إِلَى الصَّخْرَةِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ رَجُلًا، فَجَعَلُوا يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يَقِفْ أَحَدٌ إِلَّا طَلْحَةُ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ فَحَمَاهُ طَلْحَةُ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ فِي يَدِهِ فَيَبُسَتْ يَدُهُ، وَأَقْبَلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَقَدْ حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ. فَقَالَ: يَا كَذَّابُ، أَيْنَ تَفِرُّ ؟ فَحَمَلَ عَلَيْهِ، فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ، فَجُرِحَ جَرْحًا خَفِيفًا، فَوَقَعَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَاحْتَمَلُوهُ، وَقَالُوا: لَيْسَ بِكَ جِرَاحَةٌ، فَمَا يُجْزِعُكَ ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ ؟ لَوْ كَانَتْ بِجَمِيعِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ لَقَتَلَتْهُمْ. فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ، وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ: بَعَضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ: لَيْتَ لَنَا رَسُولًا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَيَأْخُذُ لَنَا أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، يَا قَوْمُ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ. فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: يَا قَوْمُ، إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ، فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ، فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو النَّاسَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَضَعَ رَجُلٌ سَهْمًا فِي قَوْسِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرْمِيَهُ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ

فَفَرِحُوا بِذَلِكَ حِينَ وَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى أَنَّ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يَمْتَنِعُ بِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا وَفِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَهَبَ عَنْهُمُ الْحُزْنُ، فَأَقْبَلُوا يَذْكُرُونَ الْفَتْحَ وَمَا فَاتَهُمْ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ أَصْحَابَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فِي الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 144 ] فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ نَسُوا ذَلِكَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَهَمَّهُمْ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا، اللَّهُمَّ إِنْ تُقْتَلْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ، لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ نَدَبَ أَصْحَابَهُ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى أَنْزَلُوهُمْ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَئِذٍ: اعْلُ هُبْلَ، حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ وَيَوْمُ أُحُدٍ بِيَوْمِ بَدْرٍ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِي بَعْضِهِ نَكَارَةٌ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَزَعَمَ رُبَيْحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَمَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ الْيُمْنَى السُّفْلَى، وَجَرَحَ شِفَتَهُ السُّفْلَى، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ شَجَّهُ فِي جَبْهَتِهِ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَمِئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ، فَدَخَلَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ

الْمِغْفَرِ فِي وَجْنَتِهِ، وَوَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي عَمِلَ أَبُو عَامِرٍ ; لِيَقَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَأَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ، وَرَفَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا، وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ، أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الدَّمَ مِنْ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ، فَقَالَ: مَنْ مَسَّ دَمُهُ دَمِي لَمْ تُصِبْهُ النَّارُ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ قَتَادَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَعَ لِشِقِّهِ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَمَرَّ بِهِ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ فَأَجْلَسَهُ وَمَسَحَ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، فَأَفَاقَ وَهُوَ يَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ ؟ فَأَنْزَلُ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْآيَةَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذَا فِي فَصْلٍ وَحْدَهُ.
قُلْتُ: كَانَ أَوَّلُ النَّهَارِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ

تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 152، 153 ].
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا نَصَرَ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ كَمَا نَصَرَ يَوْمَ أُحُدٍ. قَالَ: فَأَنْكَرْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أَنْكَرَ ذَاكَ كِتَابُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْحَسُّ الْقَتْلُ. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاةَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِعٍ، ثُمَّ قَالَ:احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نَغْنَمُ فَلَا تُشْرِكُونَا. فَلَمَّا غَنِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحُوا عَسْكَرَ الْمُشْرِكِينَ، أَكَبَّ الرُّمَاةُ جَمِيعًا، فَدَخَلُوا فِي الْعَسْكَرِ يَنْهَبُونَ، وَقَدِ الْتَقَتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ هَكَذَا - وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ - وَالْتَبَسُوا، فَلَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخَلَّةَ الَّتِي كَانُوا فِيهَا، دَخَلَتِ الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالْتَبَسُوا، وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ، حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ لِوَاءِ

الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ، وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً نَحْوَ الْجَبَلِ، وَلَمْ يَبْلُغُوا - حَيْثُ يَقُولُ النَّاسُ - الْغَارَ، إِنَّمَا كَانَ تَحْتَ الْمِهْرَاسِ، وَصَاحَ الشَّيْطَانُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ. فَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ، فَمَا زِلْنَا كَذَلِكَ مَا نَشُكُّ أَنَّهُ حَقٌّ، حَتَّى طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ السَّعْدَيْنِ، نَعْرِفُهُ بِتَكَفُّئِهِ إِذَا مَشَى. قَالَ: فَفَرِحْنَا كَأَنَّهُ لَمْ يُصِبْنَا مَا أَصَابَنَا. قَالَ: فَرَقِيَ نَحْوَنَا وَهُوَ يَقُولُ:اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ وَيَقُولُ مَرَّةً أُخْرَى:اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا حَتَّى انْتَهَى إِلَيْنَا فَمَكَثَ سَاعَةً، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يَصِيحُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ: اعْلُ هُبْلُ - مَرَّتَيْنِ؛ يَعْنِي آلِهَتَهُ - أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَلَا أُجِيبُهُ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ فَلَمَّا قَالَ: اعْلُ هُبَلَ. قَالَ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، قَدْ أَنْعَمَتْ عَيْنُهَا، فَعَادِ عَنْهَا. أَوْ: فَعَالِ عَنْهَا.

فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ ؟ أَيْنَ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَيْنَ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ وَهَا أَنَا ذَا عُمَرُ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، الْأَيَّامُ دُوَلٌ، وَإِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ. قَالَ: فَقَالَ: عُمَرُ: لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ. قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَزْعُمُونَ ذَلِكَ، لَقَدْ خِبْنَا إِذَنْ وَخَسِرْنَا. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمَا إِنَّكُمْ سَوْفَ تَجِدُونَ فِي قَتْلَاكُمْ مَثْلًا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ رَأْيِ سَرَاتِنَا. قَالَ: ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ نَكْرَهْهُ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْهَاشِمِيِّ بِهِ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ مِنْ مُرْسَلَاتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَهُ شَوَاهِدٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، سَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي

إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَقِيَنَا الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ وَأَجْلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشًا مِنَ الرُّمَاةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ: لَا تَبْرَحُوا ; إِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَلَا تَبْرَحُوا، وَإِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنَا فَلَا تُعَيِّنُونَا فَلَّمَا لَقِينَاهُمْ هَرَبُوا، حَتَّى رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ فِي الْجَبَلِ، رَفَعْنَ عَنْ سُوقِهِنَّ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِلُهُنَّ فَأَخَذُوا يَقُولُونَ: الْغَنِيمَةَ الْغَنِيمَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا تَبْرَحُوا. فَأَبَوْا، فَلَمَّا أَبَوْا صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ، فَأُصِيبُ سَبْعُونَ قَتِيلًا، وَأَشْرَفَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟. فَقَالَ: لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ فَقَالَ: لَا تُجِيبُوهُ. فَقَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قُتِلُوا، فَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءً لَأَجَابُوا. فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ مَا يُحْزِنُكَ. فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ اعْلُ هُبَلُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوهُ. قَالُوا: مَا نَقُولُ ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَجِيبُوهُ. قَالُوا: مَا نَقُولُ ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. وَهَذَا مِنْ إِفْرَادِ الْبُخَارِيِّ دُونَ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو

إِسْحَاقَ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ - وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ. قَالَ: وَوَضَعَهُمْ مَوْضِعًا. وَقَالَ: إِنْ رَأَيْتُمُونَا تَخْطَفُنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا، حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا ظَهَرْنَا عَلَى الْعَدُوِّ وَأَوْطَأْنَاهُمْ، فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ. قَالَ: فَهَزَمُوهُمْ. قَالَ: فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ عَلَى الْجَبَلِ، وَقَدْ بَدَتْ أَسُوقُهُنَّ وَخَلَاخِلُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابِهِنَّ. فَقَالَ: أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَيْ قَوْمُ، الْغَنِيمَةَ، ظَهْرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْظُرُونَ ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنْسَيْتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالُوا: إِنَّا وَاللَّهِ لِنَأْتِيَنَّ النَّاسَ فَلْنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ. فَلَمَّا أَتَوْهُمْ صُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ، فَأَقْبَلُوا مُنْهَزِمِينَ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ أَصَابُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بِدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً ; سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلًا، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ ثَلَاثًا، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا وَقَدْ

كُفَيْتُمُوهُمْ، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كُلُّهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ. فَقَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُجِيبُونَهُ ؟ قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. قَالَ: إِنَّ الْعُزَّى لَنَا، وَلَا عُزَّى لَكُمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا تُجِيبُونَهُ ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نَقُولُ ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ مُخْتَصَرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رِوَايَتُهُ لَهُ مُطَوَّلَةً مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، وَعَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَهِقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ أَيْضًا قَالَ: مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ ؟ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِي " الدَّلَائِلِ " بِإِسْنَادِهِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ:انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَبَقِيَ مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَصْعَدُ فِي الْجَبَلِ، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ: أَلَا أَحَدٌ لِهَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: كَمَا أَنْتَ يَا طَلْحَةُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَاتَلَ عَنْهُ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، ثُمَّ قُتِلَ الْأَنْصَارِيُّ فَلَحِقُوهُ، فَقَالَ: أَلَا رَجُلٌ لِهَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلَ قَوْلِهِ، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَذِنَ لَهُ. فَقَاتَلَ مِثْلَ قِتَالِهِ وَقِتَالِ صَاحِبِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَصْعَدُونَ، ثُمَّ قُتِلَ فَلَحِقُوهُ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَيَقُولُ طَلْحَةُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَيَحْبِسُهُ فَيَسْتَأْذِنُهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لِلْقِتَالِ

فَيَأْذَنُ لَهُ فَيُقَاتِلُ مِثْلَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا طَلْحَةُ فَغَشُوهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لِهَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا. فَقَاتَلَ مِثْلَ قِتَالِ جَمِيعِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ وَأُصِيبَتْ أَنَامِلُهُ، فَقَالَ: حَسِّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ. أَوْ ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ ; لَرَفَعَتْكَ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ، حَتَّى تَلِجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ثُمَّ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ ; وَقَى بِهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ غَيْرُ طَلْحَةَ، وَسَعْدٍ عَنْ حَدِيثِهِمَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ هَاشِمٍ

الزُّهْرِيِّ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ:نَثَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مَرْوَانَ بِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: يَا سَعْدُ، ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ بَعْضِ آلِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍأَنَّهُ رَمَى يَوْمَ أُحُدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ سَعْدٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِلُنِي النَّبْلَ، وَيَقُولُ: ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ لَيْسَ لَهُ نَصْلٌ فَأَرْمِي بِهِ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:رَأَيْتُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا

ثِيَابٌ بِيضٌ، يُقَاتِلَانِ أَشَدَّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ. يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَرْمِي بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ يَتَتَرَّسُ بِهِ، وَكَانَ رَامِيًا، وَكَانَ إِذَا رَمَى رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَخْصَهُ يَنْظُرُ أَيْنَ يَقَعُ سَهْمُهُ، وَيَرْفَعُ أَبُو طَلْحَةَ صَدْرَهُ، وَيَقُولُ: هَكَذَا بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا يُصِيبُكَ سَهْمٌ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ يَشُورُ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ: إِنِّي جَلْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَجِّهْنِي فِي حَوَائِجِكَ، وَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَوِّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ لَهُ، وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ

رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ بِجَعْبَةٍ مِنَ النَّبْلِ فَيَقُولُ: انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ. قَالَ: وَيُشْرِفُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ، فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّيٌّ لَا تُشْرِفُ يُصِبْكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ، أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا، تُنْقِزَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا، تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآنِهَا، ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ، وَلَقَدْ وَقَعَ السَّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إِمَّا مَرَّتَيْنِ وَإِمَّا ثَلَاثًا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا، يَسْقُطُ وَآخُذُهُ، وَيَسْقُطُ فَآخُذُهُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ

إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ 003 155 ] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 154، 155 ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ حَجَّ الْبَيْتَ فَرَأَى قَوْمًا جُلُوسًا، فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ الْقُعُودُ ؟ قَالُوا: هَؤُلَاءِ قُرَيْشٌ. قَالَ: مَنِ الشَّيْخُ ؟ قَالُوا: ابْنُ عُمَرَ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ شَيْءٍ أَتُحَدِّثُنِي ؟ قَالَ: أَنْشُدُكَ بِحُرْمَةِ هَذَا الْبَيْتِ، أَتَعْلَمُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَرَّ يَوْمَ أُحِدٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُهُ تَغِّيبَ عَنْ بِدْرٍ فَلَمْ يَشْهَدْهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ فَلَمْ يَشْهَدْهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَبَّرَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَعَالَ، لِأُخْبِرَكَ وَلِأُبَيِّنَ لَكَ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ ; أَمَّا فِرَارُهُ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَفَا عَنْهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَدْرٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ تَحْتَهُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ مَرِيضَةٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لَكَ أَجْرَ رَجُلٍ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا وَسَهْمَهُ، وَأَمَّا تَغَيُّبُهُ عَنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعَزَّ

بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَبَعَثَهُ مَكَانَهُ، فَبَعَثَ عُثْمَانَ وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى:هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ هَذِهِ لِعُثْمَانَ اذْهَبْ بِهَذَا الْآنَ مَعَكَ
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عِوَانَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ بِهِ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ. حِينَ صَنَعَ مَا صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ انْهَزَمُوا عَنْهُ حَتَّى بَلَغَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمُنَقَّى دُونَ الْأَعْوَصِ وَفَرَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَسَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ - رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ - حَتَّى بَلَغُوا الْجَلَعْبَ ; جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ مِمَّا يَلِي الْأَعْوَصِ فَأَقَامُوا ثَلَاثًا ثُمَّ رَجَعُوا، فَزَعَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ لَهُمْ: لَقَدْ ذَهَبْتُمْ فِيهَا عَرِيضَةً.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أُحُدًا وَقَعَ فِيهَا أَشْيَاءُ مِمَّا وَقَعَ فِي بَدْرٍ مِنْهَا ; حُصُولُ النُّعَاسِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى طُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ بِنَصْرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَمَامِ تَوَكُّلِهَا عَلَى خَالِقِهَا وَبَارِئِهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ الْآيَةَ [ الْأَنْفَالِ: 11 ] وَقَالَ هَاهُنَا: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الْكُمَّلَ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: النُّعَاسُ فِي الْحَرْبِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ النِّفَاقِ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 154 ].
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْصَرَ يَوْمَ أُحُدٍ كَمَا اسْتَنْصَرَ يَوْمَ بِدْرٍ بِقَوْلِهِ:إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَكَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تَشَأْ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ الشَّاعِرِ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا ؟ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ بِهِ، وَهَذَا شَبِيهٌ بِقِصَّةِ عُمَيْرِ بْنِ الْحُمَامِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَرْضَاهُمَا

فَصْلٌ فِيمَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: مَا أَصَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِرَاحِ يَوْمَ أُحُدٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوًا بِنَبِيِّهِ - يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ - اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ دَمَّوْا وَجْهَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَقَالَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:

كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 128 ] وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ هُشَيْمٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَشُجَّ فِي جَبْهَتِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ ؟ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ جُرْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ، وَبِمَا دُووِيَ. قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْسِلُهُ، وَعَلَيٌّ يَسْكُبُ الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةً مِنْ حَصِيرٍ، فَأَحْرَقَتْهَا وَأَلْصَقَتْهَا، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَئِذٍ

وَجُرِحَ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا ذُكِرَ يَوْمُ أُحُدٍ بَكَى ثُمَّ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ. قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَهُ. وَأَرَاهُ قَالَ: يَحْمِيهِ. قَالَ: فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ. حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي، فَقُلْتُ: يَكُونُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي أَحَبَّ إِلَيَّ، وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْمَشْرِقِ رَجُلٌ لَا أَعْرِفُهُ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَهُوَ يَخْطِفُ الْمَشْيَ خَطْفًا لَا أَخْطِفُهُ، فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجِرَاحِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي وَجْنَتَيْهِ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمَا صَاحَبَكُمَا يُرِيدُ طَلْحَةَ وَقَدْ نَزَفَ فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، قَالَ: وَذَهَبَتْ لِأَنْزِعَ ذَاكَ مِنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي

لَمَا تَرَكْتَنِي فَتَرَكْتُهُ، فَكَرِهَ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ، فَيُؤْذَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَزَمَ عَلَيْهِمَا بِفِيهِ، فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلْقَتَيْنِ، وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ مَعَ الْحَلْقَةِ، وَذَهَبْتُ لِأَصْنَعَ مَا صَنَعَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي. قَالَ: فَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ الْأُخْرَى مَعَ الْحَلْقَةِ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ هَتْمًا، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجِفَارِ، فَإِذَا بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ، وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ أُصْبُعُهُ، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ: عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِيِ فَرْوَةَ، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إِلَى النَّبْلِ تَأْتِي مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْطَهَا، كُلُّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِهِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ ثُمَّ جَاوَزَهُ، فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ، أَحْلِفُ بِاللَّهِ إِنَّهُ مِنَّا مَمْنُوعٌ، خَرَجْنَا أَرْبَعَةٌ، فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمْ نَخْلُصْ إِلَيْهِ.

قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَالثَّابِتُ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي رَمَى فِي وَجْنَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ قَمِئَةَ وَالَّذِي رَمَى فِي شَفَتِهِ وَأَصَابَ رَبَاعِيَتَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوُ هَذَا - وَأَنَّ الرَبَاعِيَةَ الَّتِي كُسِرَتْ لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، هِيَ الْيُمْنَى السُّفْلَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ قَطُّ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لِسَيِّءَ الْخُلُقِ، مُبَغَّضًا فِي قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كَفَانِي فِيهِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رَسُولِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَعَنْ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ كَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ، وَدَمَّى وَجْهَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُحِلْ عَلَيْهِ الْحَوْلَ

حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا. فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا إِلَى النَّارِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاوَى وَجْهَهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِعَظْمٍ بَالٍ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَأَيْتُهُ فِي أَثْنَاءِ كِتَابِ " الْمَغَازِي " لِلْأُمَوِيِّ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ.
وَلَمَّا نَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَمِئَةَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَالَ، رَجَعَ وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا. وَصَرَخَ الشَّيْطَانُ أَزَبُّ الْعَقَبَةِ يَوْمَئِذٍ بِأَبْعَدِ صَوْتٍ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَحَصَلَ بَهْتَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَاعْتَقَدَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ، وَصَمَّمُوا عَلَى الْقِتَالِ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى التَّسْلِيَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِهِ فَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّنْ

مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 144 - 151 ]. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِنَا التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ خَطَبَ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي أَوَّلِ مَقَامٍ قَامَهُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ الْآيَةَ قَالَ: فَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَسْمَعُوهَا قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا يَتْلُوهَا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ: فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي

دَمِهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ، أَشْعَرْتَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ ؟ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ. فَنَزَلَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الْآيَةَ. وَلَعَلَّ هَذَا الْأَنْصَارِيَّ هُوَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عَمَّهُ غَابَ عَنْ قِتَالِ بِدْرٍ فَقَالَ: غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ قِتَالًا لِلْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ عَمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ فَلَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ دُونَ أُحُدٍ فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا مَعَكَ. قَالَ سَعْدٌ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَصْنَعُ مَا صَنَعَ. فَوُجِدَ فِيهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ، وَطَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ. قَالَ: فَكُنَّا نَقُولُ: فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ نَزَلَتْ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [ الْأَحْزَابِ: 23 ] وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ. وَالنَّسَائِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ ابْنِ رَاهْوَيْهِ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ. قُلْتُ: بَلْ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ، وَحَدَّثَنَا هَاشِمٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ: عَمِّي - قَالَ هَاشِمٌ: أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ - سُمِّيتُ بِهِ، وَلَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بِدْرٍ. قَالَ: فَشَقَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِبْتُ عَنْهُ ! لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ. قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ ؟ وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ، أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ. قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ. قَالَ: فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ: فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ أَسَدٍ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَزَادَ النَّسَائِيُّ: وَأَبُو دَاوُدَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ. أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ. وَقَالَ

التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: كَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أَخُو بَنِي جُمَحَ قَدْ حَلَفَ وَهُوَ بِمَكَّةَ لِيَقْتُلْنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلْفَتُهُ قَالَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَ أُبَيٌّ فِي الْحَدِيدِ مُقَنَّعًا، وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ. فَحَمَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ يَقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، فَقُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْقُوَةَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الدِّرْعِ وَالْبَيْضَةِ، فَطَعَنَهُ فِيهَا بِحَرْبَتِهِ، فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ طَعْنَتِهِ دَمٌ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ فَاحْتَمَلُوهُ، وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ، فَقَالُوا لَهُ: مَا أَجْزَعَكَ ! إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ. فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَقْتُلُ أُبَيًّا ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي بِي بِأَهْلِ ذِي الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ. فَمَاتَ إِلَى النَّارِ، فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ. وَقَدْ رَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي " مَغَازِيهِ " عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَسْنَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ، أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَعْطِفُ

عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَّا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعُوهُ. فَلَمَّا دَنَا تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ كَمَا ذُكِرَ لِي: فَلَمَّا أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً، تَطَايَرْنَا عَنْهُ تَطَايُرَ الشَّعْرِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إِذَا انْتَفَضَ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ نَحْوَ ذَلِكَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَاتَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ بِبَطْنِ رَابِغٍ، فَإِنِّي لَأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَنَا بِنَارٍ تَأَجَّجُ، فَهِبْتُهَا، وَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا يُهَيِّجُهُ الْعَطَشُ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: لَا تَسْقِهِ ; فَإِنَّهُ قَتِيلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ

مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِيَدِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ: لِمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، فَجَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنَنِي، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَبْكِهِ - أَوْ مَا تَبْكِيهِ - مَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ هَكَذَا ذُكِرَ هَذَا الْحَدِيثُ هَاهُنَا مُعَلَّقًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ فِي الْجَنَائِزِ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُتِيَ بِطَعَامٍ، وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غُطِّي رِجْلَاهُ بَدَا رَأَسُهُ - وَأُرَاهُ قَالَ: وَقُتِلَ حَمْزَةُ

هُوَ خَيْرٌ مِنِّي - ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ - أَوْ قَالَ: أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا - وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا. ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَضَى - أَوْ ذَهَبَ - لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا ; كَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَتْرُكْ إِلَّا نَمِرَةً، كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلَاهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلِهِ الْإِذْخِرَ. وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا. وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ، لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ. فَرَجَعَتْ أُولَاهُمْ

فَاجْتَلَدَتْ هِيَ وَأُخْرَاهُمْ، فَبَصُرَ حُذَيْفَةُ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، أَبِي أَبِي. قَالَ: قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا احْتَجَزُوا حَتَّى قَتَلُوهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. قَالَ عُرْوَةُ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَ فِي حُذَيْفَةَ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
قُلْتُ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ ; أَنَّ الْيَمَانَ، وَثَابِتَ بْنَ وَقْشٍ كَانَا فِي الْآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ ; لِكِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا، فَقَالَا: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ آجَالِنَا إِلَّا ظِمْءُ حِمَارٍ فَنَزَلَا لِيَحْضُرَا الْحَرْبَ، فَجَاءَ طَرِيقُهُمَا نَاحِيَةَ الْمُشْرِكِينَ ; فَأَمَّا ثَابِتٌ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا الْيَمَانُ فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ خَطَأً، وَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَةِ أَبِيهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ ; لِظُهُورِ الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأُصِيبَ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ حَتَّى سَقَطَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ

أُحُدٍ حَتَّى سَالَتْ عَلَى خَدِّهِ، فَرَدَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَانَهَا، فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْهِ وَأَحَدَّهُمَا، وَكَانَتْ لَا تَرْمِدُ إِذَا رَمَدَتِ الْأُخْرَى
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ: بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَخِيهِ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: أُصِيبَتْ عَيْنَايَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَقَطَتَا عَلَى وَجْنَتِي، فَأَتَيْتُ بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعَادَهُمَا مَكَانَهُمَا، وَبَصَقَ فِيهِمَا فَعَادَتَا تَبْرُقَانِ.
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ ; أَنَّهُ أُصِيبَتْ إِنَّمَا عَيْنُهُ الْوَاحِدَةُ. وَلِهَذَا لَمَّا وَفَدَ وَلَدُهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ لَهُ مُرْتَجِلًا:
أَنَا ابْنُ الَّذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ فَرَدَّتْ بِكَفِّ الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِّ فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لِأَوَّلِ أَمْرِهَا
فَيَا حُسْنَ مَا عَيْنٍ وَيَا حَسَنَ مَا خَدِّ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِنْدَ ذَلِكَ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَاَنِ مِنْ لَبَنٍ شِيبًا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
ثُمَّ وَصَلَهُ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَاتَلَتْ أُمُّ عُمَارَةَ نَسِيبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ الْمَازِنِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ أُمَّ سَعْدٍ بِنْتَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ كَانَتْ تَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ عُمَارَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا خَالَةُ، أَخْبِرِينِي خَبَرَكِ. فَقَالَتْ: خَرَجْتُ أَوَّلَ النَّهَارِ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النَّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ، فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ، وَالدَّوْلَةُ وَالرِّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَلَّمَا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُمْتُ أُبَاشِرُ الْقِتَالَ، وَأَذُبُّ عَنْهُ بِالسَّيْفِ، وَأَرْمِي عَنِ الْقَوْسِ، حَتَّى خَلَصَتِ الْجِرَاحُ إِلَيَّ. قَالَتْ: فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ، فَقُلْتُ لَهَا: مَنْ أَصَابَكِ بِهَذَا ؟ قَالَتْ: ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللَّهُ، لَمَّا وَلَّى النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلُ يَقُولُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَأُنَاسٌ مِمَّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضَّرْبَةَ، وَلَقَدْ ضَرَبْتُهُ عَلَى ذَلِكَ ضَرَبَاتٍ، وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعَانِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَترَّسَ أَبُو دُجَانَةَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ، وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَيْهِ، حَتَّى كَثُرَ فِيهِ النَّبْلُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ فَكَانَتْ عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي رِجَالٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَقَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: فَمَا يُجْلِسُكُمْ ؟ قَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ ؟ ! قُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَبِهِ سُمِّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ.
فَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَقَدْ وَجَدْنَا بِأَنَسِ بْنِ النَّضْرِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ ضَرْبَةً، فَمَا عَرَفَهُ إِلَّا أُخْتُهُ، عَرَفَتْهُ بِبَنَانِهِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أُصِيبَ فُوهُ يَوْمَئِذٍ، فَهَتِمَ وَجُرِحَ عِشْرِينَ جِرَاحَةً أَوْ أَكْثَرَ، أَصَابَهُ بَعْضُهَا فِي رِجْلِهِ فَعَرَجَ.
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ فِي أُحُدٍ ]

فَصْلٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَقَوْلِ النَّاسِ: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كَمَا ذَكَرَ لِي الزُّهْرِيُّ - كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تُزْهِرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَشَارَ إِلَيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَنْصِتْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَضُوا بِهِ، وَنَهَضَ مَعَهُمْ نَحْوُ الشِّعْبِ، مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطِلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ وَرَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُسْنِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ

بْنُ خَلَفٍ. فَذَكَرَ قَتْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُبَيًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ - كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ عِنْدِي الْعَوْدَ ; فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ، أَقْتُلُكَ عَلَيْهِ. فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَّمَا رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غَيْرَ كَبِيرٍ، فَاحْتَقَنَ الدَّمُ، فَقَالَ: قَتَلَنِي وَاللَّهِ مُحَمَّدٌ. فَقَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاللَّهِ فُؤَادُكَ، وَاللَّهِ إِنَّ بِكَ بَأْسٌ. قَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ قَالَ لِي بِمَكَّةَ: أَنَا أَقْتُلُكَ. فَوَاللَّهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عَدُوُّ اللَّهِ بِسَرِفٍ وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: فِي ذَلِكَ:
لَقَدْ وَرِثَ الضَّلَالَةَ عَنْ أَبِيهِ أُبَيٌّ يَوْمَ بَارَزَهُ الرَّسُولُ

أَتَيْتَ إِلَيْهِ تَحْمِلُ رِمَّ عَظْمٍ
وَتُوعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ جَهُولُ وَقَدْ قَتَلَتْ بَنُو النَّجَّارِ مِنْكُمْ
أُمَيَّةَ إِذْ يُغَوِّثُ يَا عَقِيلُ وَتَبَّ ابْنَا رَبِيعَةَ إِذْ أَطَاعَا
أَبَا جَهْلٍ لِأُمِّهِمَا الْهَبُولُ وَأَفْلَتَ حَارِثٌ لَمَّا شُغِلْنَا
بِأَسْرِ الْقَوْمِ أُسْرَتُهُ فَلِيلُ
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي أُبَيًّا فَقَدْ أُلْقِيتَ فِي سُحُقِ السَّعِيرِ
تَمَنَّى بِالضَّلَالَةِ مِنْ بَعِيدٍ وَتُقْسِمُ إِنْ قَدَرْتَ مَعَ النُّذُورِ
تَمَنِّيكَ الْأَمَانِي مِنْ بَعِيدٍ وَقَوْلُ الْكُفْرِ يَرْجِعُ فِي غُرُورِ
فَقَدْ لَاقَتْكَ طَعْنَةُ ذِي حِفَاظٍ كَرِيمِ الْبَيْتِ لَيْسَ بِذِي فُجُورِ
لَهُ فَضْلٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ طُرًّا إِذَا نَابَتْ مُلِمَّاتُ الْأُمُورِ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى مَلَأَ دَرَقَتَهُ مَاءً مِنَ الْمِهْرَاسِ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَهُ رِيحًا فَعَافَهُ وَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ، وَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ نَبِيَّهُ " وَقَدْ تَقَدَّمَ شَوَاهِدُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ، مَعَهُ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ، إِذْ عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِيهِمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا فَقَاتَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى أَهْبَطُوهُمْ مِنَ الْجَبَلِ، وَنَهَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَخْرَةٍ مِنَ الْجَبَلِ لِيَعْلُوَهَا، وَقَدْ كَانَ بَدَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا، فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: أَوْجَبَ طَلْحَةُ

حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذَ مَا صَنَعَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظَّهْرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَاعِدًا مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي أَصَابَتْهُ، وَصَلَّى الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ قُعُودًا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَتَى لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، يُقَالُ لَهُ: قُزْمَانُ. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا ذُكِرَ لَهُ: إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ قَالَ: فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَقَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَاحْتُمِلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ. قَالَ: فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ فَأَبْشِرْ. قَالَ: بِمَاذَا أُبْشِرُ ؟ فَوَاللَّهِ إِنْ قَاتَلْتُ إِلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا قَاتَلْتُ. قَالَ: فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ. وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ قِصَّةِ هَذَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ الَّذِي قُلْتَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَدْ مَاتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَى النَّارِ فَكَادَ بَعْضُ الْقَوْمِ يَرْتَابُ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ قِيلَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنْ بِهِ جِرَاحٌ شَدِيدَةٌ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ، فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةُ، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ. وَأَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَيْرِيقُ وَكَانَ أَحَدَ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيَوْنَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقٌّ. قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ. قَالَ: لَا سَبْتَ لَكُمْ. فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ. ثُمَّ غَدَا إِلَى

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا: مُخَيْرِيقُ خَيْرُ يَهُودَ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْوَالَ مُخَيْرِيقَ - وَكَانَتْ سَبْعَ حَوَائِطَ - أَوْقَافًا بِالْمَدِينَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: وَكَانَتْ أَوَّلَ وَقْفٍ بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ. فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ ؟ فَيَقُولُ: أُصَيْرِمُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ. قَالَ: الْحُصَيْنُ: فَقُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنُ لَبِيدٍ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الْأُصَيْرِمِ ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ بَدَا لَهُ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ، فَغَدَا حَتَّى دَخَلَ فِي عَرْضِ النَّاسِ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ. قَالَ: فَبَيْنَمَا رِجَالٌ

مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَتَلَمَّسُونَ قَتْلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ، إِذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَلْأُصَيْرِمُ، مَا جَاءَ بِهِ ؟ ! لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنَّهُ لِمُنْكِرٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ ! فَسَأَلُوهُ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو ; أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِكَ، أَمْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ: بَلْ رَغْبَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ سَيْفِي وَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ قَالُوا: كَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَجُلًا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ مِثْلُ الْأُسْدِ، يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّ بَنِيَّ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْخُرُوجِ مَعَكَ فِيهِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنَّ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَنْتَ فَقَدَ عَذَرَكَ اللَّهُ، فَلَا جِهَادَ عَلَيْكَ وَقَالَ لِبَنِيهِ مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الشَّهَادَةَ فَخَرَجَ مَعَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَوَقَعَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ - كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ

كَيْسَانَ - وَالنِّسْوَةُ اللَّائِي مَعَهَا، يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْدِعْنَ الْآذَانَ وَالْأُنُوفَ، حَتَّى اتَّخَذَتْ هِنْدُ مِنْ آذَانِ الرِّجَالِ وَأُنُوفِهِمْ خَدَمًا وَقَلَائِدَ، وَأَعْطَتْ خَدَمَهَا وَقَلَائِدَهَا وَقِرَطَتَهَا وَحْشِيًّا وَبَقَرَتْ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا فَلَفَظَتْهَا. وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ الَّذِي بَقَرَ كَبِدَ حَمْزَةَ، وَحْشِيٌّ فَحَمَلَهَا إِلَى هِنْدٍ فَلَاكَتْهَا فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ، فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ
مَا كَانَ لِي عَنْ عُتْبَةَ مِنْ صَبْرِ وَلَا أَخِي وَعَمِّهِ وَبِكْرِي
شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي
فَشُكْرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي حَتَّى تَرِمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي
قَالَ: فَأَجَابَتْهَا هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ:
خَزِيتِ فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرِ يَا بِنْتَ وَقَّاعٍ عَظِيمِ الْكُفْرِ

صَبَّحَكِ اللَّهُ غَدَاةَ الْفَجْرِ مِلْهَاشِمِيِّينَ الطِّوَالِ الزُّهْرِ
بِكُلِّ قَطَّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي حَمْزَةُ لَيْثِي وَعَلَيٌّ صَقْرِي
إِذْ رَامَ شَيْبٌ وَأَبُوكِ غَدْرِي فَخَضَّبَا مِنْهُ ضَوَاحِيَ النَّحْرِ
وَنَذْرُكِ السُّوءُ فَشَرُّ نَذْرِ
. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْحُلَيْسُ بْنُ زَبَّانَ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ، مَرَّ بِأَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِزُجِّ الرُّمْحِ وَيَقُولُ: ذُقْ عُقَقُ. فَقَالَ الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ يَصْنَعُ بِابْنِ عَمِّهِ مَا تَرَوْنَ لَحْمًا. فَقَالَ: وَيْحَكَ! اكْتُمْهَا عَنِّي، فَإِنَّهَا كَانَتْ زَلَّةً.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ حِينَ أَرَادَ الِانْصِرَافَ، أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَنْعَمَتْ فَعَالِ، إِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، يَوْمٌ بِيَوْمِ

بَدْرٍ اعْلُ هُبَلُ. أَيْ أَظْهِرْ دِينَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: قُمْ يَا عُمَرُ فَأَجِبْهُ، فَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، لَا سَوَاءَ، قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا عُمَرُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: ائْتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ. فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عُمَرُ، أَقَتَلْنَا مُحَمَّدًا ؟ فَقَالَ عُمُرُ اللَّهُمَّ لَا، وَإِنَّهُ لِيُسْمَعُ كَلَامَكَ الْآنَ. قَالَ: أَنْتَ عِنْدِي أَصْدَقُ مِنَ ابْنِ قَمِئَةَ وَأَبَرُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قَتْلَاكُمْ مَثْلٌ، وَاللَّهِ مَا رَضِيتُ وَمَا سَخِطْتُ، وَمَا نَهَيْتُ وَلَا أَمَرْتُ. قَالَ: وَلَمَّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ نَادَى: إِنَّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ الْعَامَ الْقَابِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: قُلْ: نَعَمْ. هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدٌ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: اخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطُوا الْإِبِلَ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ مَكَّةَ وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ، فَهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ أَرَادُوهَا، لَأَسِيرَنَّ إِلَيْهِمْ فِيهَا ثُمَّ لَأُنَاجِزَنَّهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ، فَجَنَّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطُوا الْإِبِلَ وَوَجَّهُوا إِلَى مَكَّةَ.

ذِكْرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَكِّيُّ، عَنِ ابْنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ. فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبْعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ

يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهِ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تُوفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَّابَ إِلَهَ الْحَقِّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَفَرَغَ النَّاسُ لِقَتْلَاهُمْ، فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيُّ، أَخُو بَنِي النَّجَّارِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ ؟ أَفِي الْأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا، فَنَظَرَ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ، أَفِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ

فِي الْأَمْوَاتِ. فَقَالَ: إِنَّا فِي الْأَمْوَاتِ، فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكَ: جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ. وَأَبْلِغْ قَوْمَكَ عَنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى نَبِيِّكُمْ، وَمِنْكُمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ. قَالَ: ثُمَّ لَمْ أَبْرَحْ حَتَّى مَاتَ. قَالَ: فَجِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَهُ.
قُلْتُ: كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي الْتَمَسَ سَعْدًا فِي الْقَتْلَى مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ مَرَّتَيْنِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَلَمَّا قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَنِي أَنْ أَنْظُرَ خَبَرَكَ. أَجَابَهُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ، وَذَكَرَهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ فِي " الِاسْتِيعَابِ ": كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي الْتَمَسَ سَعْدًا أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ مِنَ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَلْتَمِسُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَوَجَدَهُ بِبَطْنِ الْوَادِي، قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ، وَمُثِّلَ بِهِ ;

فَجُدِعَ أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ، فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ رَأَى مَا رَأَى: لَوْلَا أَنْ تَحْزَنَ صَفِيَّةُ وَتَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي، لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يَكُونَ فِي بُطُونِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ، وَلَئِنْ أَظْهَرَنِي اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ فِي مَوْطِنٍ مِنَ الْمَوَاطِنِ لَأُمَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حُزْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَيْظَهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِعَمِّهِ مَا فَعَلَ، قَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ أَظْفَرَنَا اللَّهُ بِهِمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ الْآيَةَ. [ النَّحْلِ: 127، 126 ] قَالَ: فَعَفَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَبَرَ وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، وَقِصَّةُ أُحُدٍ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، فَكَيْفَ يَلْتَئِمُ مَعَ هَذَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامٍ قَطُّ فَفَارَقَهُ حَتَّى يَأْمُرَ بِالصَّدَقَةِ، وَيَنْهَى عَنِ

الْمُثْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَمَّا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَمْزَةَقَالَ: لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا، مَا وَقَفْتُ مَوْقِفًا قَطُّ أَغْيَظَ إِلَيَّ مِنْ هَذَا. ثُمَّ قَالَ: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ حَمْزَةَ مَكْتُوبٌ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ حَمْزَةُ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ أَخَوَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ ; أَرْضَعَتْهُمْ ثَلَاثَتَهُمْ ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ تَسْعَى، حَتَّى إِذَا كَادَتْ أَنْ تُشْرِفَ عَلَى الْقَتْلَى. قَالَ: فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرَاهُمْ، فَقَالَ: " الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ ". قَالَ الزُّبَيْرُ: فَتَوَسَّمْتُ أَنَّهَا أُمِّي صَفِيَّةُ، قَالَ: فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا، فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْقَتْلَى. قَالَ: فَلَدَمَتْ فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَلْدَةً، قَالَتْ: إِلَيْكَ، لَا أَرْضَ لَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ

عَلَيْكِ. قَالَ: فَوَقَفَتْ، وَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا، فَقَالَتْ: هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا لِأَخِي حَمْزَةَ، فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ، فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا. قَالَ: فَجِئْنَا بِالثَّوْبَيْنِ لِنُكَفِّنَ فِيهِمَا حَمْزَةَ، فَإِذَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَتِيلٌ، قَدْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِحَمْزَةَ. قَالَ: فَوَجَدْنَا غَضَاضَةً وَحَيَاءً أَنْ نُكَفِّنَ حَمْزَةَ فِي ثَوْبَيْنِ وَالْأَنْصَارِيُّ لَا كَفَنَ لَهُ، فَقُلْنَا: لِحَمْزَةَ ثَوْبٌ وَلِلْأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ. فَقَدَّرْنَاهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الْآخَرِ، فَأَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا، فَكَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثَّوْبِ الَّذِي طَارَ لَهُ.

ذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَى حَمْزَةَ وَقَتْلَى أُحُدٍ
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْزَةَ فَسُجِّيَ بِبُرْدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ فَكَبَّرَ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ أَتَى بِالْقَتْلَى يُوضَعُونَ إِلَى حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ مَعَهُمْ، حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ صَلَاةً. وَهَذَا غَرِيبٌ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَوْ حَلَفْتُ يَوْمَئِذٍ رَجَوْتُ أَنْ أَبَرَّ: إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [ آلِ عِمْرَانَ: 152 ] فَلَمَّا خَالَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَصَوْا مَا أُمِرُوا بِهِ، أُفْرِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِسْعَةٍ ; سَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَاثْنَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ عَاشِرُهُمْ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَدَّهُمْ عَنَّا قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ

فَقَاتَلَ سَاعَةً حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ أَيْضًا قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا رَدَّهُمْ عَنَّا. فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ ذَا حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَاحِبَيْهِ: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا. فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: اعْلُ هُبَلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. فَقَالُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ يَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ عَلَيْنَا، وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرُّ، حَنْظَلَةُ بِحَنْظَلَةَ وَفُلَانٌ بِفُلَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا سَوَاءَ، أَمَّا قَتْلَانَا فَأَحْيَاءٌ يُرْزَقُونَ، وَقَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ كَانَتْ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَعَنْ غَيْرِ مَلَأٍ مِنَّا، مَا أَمَرْتُ وَلَا نَهَيْتُ، وَلَا أَحْبَبْتُ وَلَا كَرِهْتُ، وَلَا سَاءَنِي وَلَا سَرَّنِي. قَالَ: فَنَظَرُوا، فَإِذَا حَمْزَةُ قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ، وَأَخَذَتْ هِنْدُ كَبِدَهُ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَأْكُلَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَكَلَتْ مِنْهُ شَيْئًا ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ. قَالَ: فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَجِيءَ بِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَوُضِعَ إِلَى جَنْبِهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ، فَرُفِعَ الْأَنْصَارِيُّ، وَتُرِكَ حَمْزَةُ ثُمَّ جِيءَ بِآخِرَ فَوَضَعَهُ إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَ وَتُرِكَ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ صَلَاةً. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ فِيهِ ضَعْفٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ

عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَثْبَتَ، حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ؟ فَإِذَا أُشِيرَ إِلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا. تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ، يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْتُ عَبْدَ رَبِّهِ يُحَدِّثُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: فَإِنَّ كُلَّ جُرْحٍ أَوْ كُلَّ دَمٍ يَفُوحُ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ.
وَثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ عَدِيدَةٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِيَسِيرٍ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ،

أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ، كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا قَالَ: فَكَانَ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظْرَتُهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْأُمَوِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَرَجْنَا مِنَ السَّحَرِ مَخْرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ نَسْتَطْلِعُ الْخَبَرَ، حَتَّى إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِذَا رَجُلٌ مُحْتَجِرٌ يَشْتَدُّ وَيَقُولُ:
لَبِّثْ قَلِيلًا يَشْهَدِ الْهَيْجَا حَمَلْ
قَالَتْ: فَنَظَرْنَا، فَإِذَا أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ثُمَّ مَكَثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا بِعِيرٌ قَدْ أَقْبَلَ، عَلَيْهِ امْرَأَةٌ بَيْنَ وَسَقَيْنِ. قَالَتْ: فَدَنَوْنَا مِنْهَا، فَإِذَا هِيَ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ

الْجَمُوحِ فَقُلْنَا لَهَا: مَا الْخَبَرُ ؟ قَالَتْ: دَفَعَ اللَّهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ شُهَدَاءَ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا. ثُمَّ قَالَتْ: لِبَعِيرِهَا: حُلْ. ثُمَّ نَزَلَتْ، فَقُلْنَا لَهَا: مَا هَذَا ؟ قَالَتْ: أَخِي وَزَوْجِي.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ أَقْبَلَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِتَنْظُرَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَخَاهَا لِأَبِيهَا وَأُمِّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِهَا الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ: الْقَهَا فَأَرْجِعْهَا ; لَا تَرَى مَا بِأَخِيهَا فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهْ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَرْجِعِي. قَالَتْ: وَلِمَ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ مُثِّلَ بِأَخِي، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ ؟ ! فَمَا أَرْضَانَا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، لَأَحْتَسِبَنَّ وَلَأَصْبِرَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا جَاءَ الزُّبَيْرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: خَلِّ سَبِيلَهَا. فَأَتَتْهُ فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُفِنَ، وَدُفِنَ مَعَهُ ابْنُ أُخْتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ - وَأُمُّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَكَانَ قَدْ مُثِّلَ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُبْقَرْ عَنْ كَبِدِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الْمُجَدَّعُ فِي اللَّهِ. قَالَ: وَذَكَرَ سَعْدٌ أَنَّهُ هُوَ

وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ دَعَوَا بِدَعْوَةٍ فَاسْتُجِيبَتْ لَهُمَا ; فَدَعَا سَعْدٌ أَنْ يَلْقَى فَارِسًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيَقْتُلَهُ وَيَسْتَلِبَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ، وَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ أَنْ يَلْقَاهُ فَارِسٌ فَيَقْتُلَهُ وَيَجْدَعَ أَنْفَهُ فِي اللَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ سَيْفَهُ يَوْمَئِذٍ انْقَطَعَ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرْجُونًا، فَصَارَ فِي يَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ سَيْفًا يُقَاتِلُ بِهِ، ثُمَّ بِيعَ فِي تَرِكَةِ بَعْضِ وَلَدِهِ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ. وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ لِعُكَّاشَةَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، بَلْ فِي الْكَفَنِ الْوَاحِدِ وَإِنَّمَا أَرْخَصَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ; لِمَا بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي يَشُقُّ مَعَهَا أَنْ يَحْفِرُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، وَيُقَدِّمَ فِي اللَّحْدِ أَكْثَرَهُمَا أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ الْمُتَصَاحِبَيْنِ فِي اللَّحْدِ الْوَاحِدِ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَالِدِ جَابِرٍ وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ; لِأَنَّهُمَا كَانَا مُتَصَاحِبَيْنِ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا، بَلْ تَرَكَهُمْ بِجِرَاحِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، كَمَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلَى يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، إِنَّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللَّهِ، إِلَّا وَاللَّهُ يَبْعَثُهُ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ يَدْمَى جُرْحُهُ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَمِّي مُوسَى بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللَّهِ، إِلَّا وَاللَّهُ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ بِالشُّهَدَاءِ أَنْ يُنْزَعَ عَنْهُمُ الْحَدِيدُ وَالْجُلُودُ، وَقَالَ: ادْفِنُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ الْمُغِيرَةِ حَدَّثَهُمْ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ:جَاءَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالُوا: قَدْ أَصَابَنَا قُرْحٌ وَجَهْدٌ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا ؟ فَقَالَ: احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا، وَاجْعَلُوا الرَّجُلَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ. قِيلَ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَيُّهُمْ يُقَدَّمُ ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ قُرْآنًا. ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ فَذَكَرُهُ، وَزَادَ " وَأَعْمِقُوا ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدِ احْتَمَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَتْلَاهُمُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَنُوهُمْ بِهَا، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ، وَعَتَّابٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ الْمَدِينِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:اسْتُشْهِدَ أَبِي بِأُحُدٍ فَأَرْسَلَنِي أَخَوَاتِي إِلَيْهِ بِنَاضِحٍ لَهُنَّ، فَقُلْنَ: اذْهَبْ فَاحْتَمِلْ أَبَاكَ عَلَى هَذَا الْجَمَلِ، فَادْفِنْهُ فِي مَقْبَرَةِ بَنِي سَلَمَةَ. فَقَالَ: فَجِئْتُهُ وَأَعْوَانٌ لِي، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ بِأُحُدٍ فَدَعَانِي فَقَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُدْفَنُ إِلَّا مَعَ إِخْوَتِهِ " فَدُفِنَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِأُحُدٍ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.

وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ قَتْلَى أُحُدٍ حُمِلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ، فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ رُدُّوا الْقَتْلَى إِلَى مَضَاجِعِهِمْ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كُلُّهُمْ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا نُبَيْحٌ الْعَنْزِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِيُقَاتِلَهُمْ، وَقَالَ لِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ: يَا جَابِرُ، لَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ فِي نَظَّارِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ حَتَّى تَعْلَمَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُنَا، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَتْرُكُ بَنَاتٍ لِي بَعْدِي، لَأَحْبَبْتُ أَنْ تُقْتَلَ بَيْنَ يَدِيَّ. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي النَّظَّارِينَ، إِذْ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأَبِي وَخَالِي، عَادَلَتْهُمَا عَلَى نَاضِحٍ، فَدَخَلَتْ بِهِمَا الْمَدِينَةَ لِتَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا، إِذْ لَحِقَ رَجُلٌ يُنَادِي: أَلَا إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا بِالْقَتْلَى، فَتَدْفِنُوهَا فِي

مَصَارِعِهَا حَيْثُ قُتِلَتْ. فَرَجَعْنَا بِهِمَا، فَدَفَنَّاهُمَا حَيْثُ قُتِلَا، فَبَيْنَا أَنَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ أَثَارَ أَبَاكَ عُمَّالُ مُعَاوِيَةَ فَبَدَا، فَخَرَجَ طَائِفَةٌ مِنْهُ. فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي دَفَنْتُهُ، لَمْ يَتَغَيَّرْ إِلَّا مَا لَمْ يَدَعِ الْقَتْلُ، أَوِ الْقَتِيلُ. ثُمَّ سَاقَ الْإِمَامُ قِصَّةَ وَفَائِهِ دَيْنَ أَبِيهِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أَجْرَى مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ عِنْدَ قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، اسْتَصْرَخْنَاهُمْ إِلَيْهِمْ، فَأَتَيْنَاهُمْ فَأَخْرَجْنَاهُمْ، فَأَصَابَتِ الْمِسْحَاةُ قَدَمَ حَمْزَةَ فَانْبَعَثَ دَمًا. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ كَأَنَّمَا دُفِنُوا بِالْأَمْسِ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ الْعَيْنَ، نَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ كَانَ لَهُ قَتِيلٌ بِأُحُدٍ فَلْيَشْهَدْ. قَالَ جَابِرٌ: فَحَفَرْنَا عَنْهُمْ، فَوَجَدْتُ أَبِي فِي قَبْرِهِ كَأَنَّمَا هُوَ نَائِمٌ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَوَجَدْتُ جَارَهُ فِي قَبْرِهِ عَمْرَو

بْنَ الْجَمُوحِ، وَيَدُهُ عَلَى جُرْحِهِ فَأُزِيلَتْ عَنْهُ، فَانْبَعَثَ جُرْحُهُ دَمًا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ فَاحَ مِنْ قُبُورِهِمْ مِثْلُ رِيحِ الْمِسْكِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَذَلِكَ بَعْدَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ دُفِنُوا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ لِي: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ، غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ عَلِيَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، فَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ فِي قَبْرِهِ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ، هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ أَبُوهُ، جَعَلَ يَكْشِفُ عَنِ الثَّوْبِ وَيَبْكِي، فَنَهَاهُ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبْكِيهِ أَوْ لَا تَبْكِيهِ، لَمْ تَزَلِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ. وَفِي رِوَايَةٍ، أَنَّ عَمَّتَهُ هِيَ الْبَاكِيَةُ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، وَأَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا فَيْضُ بْنُ وَثِيقٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرٍ: يَا جَابِرُ، أَلَّا أُبَشِّرُكَ ؟ قَالَ: بَلَى، بَشَّرَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ. فَقَالَ أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ فَقَالَ: تَمَنَّ عَلَيَّ عَبْدِي مَا شِئْتَ أُعْطِكَهُ. قَالَ: يَا رَبِّ، مَا عَبَدْتُكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، أَتَمَنَّى عَلَيْكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأَقْتُلَ مَعَ نَبِيِّكَ، وَأُقْتَلَ فِيكَ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَلَفَ مِنِّي أَنَّهُ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْمَعْرُوفِ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَهْلٍ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ بَشِيرِ بْنِ الْفَاكِهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خِرَاشِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ السَّلْمَيَّ قَالَ:سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُهْتَمًّا ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُتِلَ أَبِي، وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالًا. فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ ؟ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ

حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، وَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدِي، سَلْنِي أُعْطِكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيًا. فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي الْقَوْلُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ الْآيَةَ. [ آلِ عِمْرَانَ: 169 ]
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُبَشِّرُكَ يَا جَابِرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: إِنَّ أَبَاكَ حَيْثُ أُصِيبَ بِأُحِدٍ أَحْيَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا تُحِبُّ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ أَفْعَلَ بِكَ ؟ قَالَ: أَيْ رَبِّ، أُحِبُّ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا، فَأُقَاتِلَ فِيكَ، فَأُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ السُّلَمِيِّ، عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرٍ وَزَادَ، فَقَالَ اللَّهُ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جَابِرِ

بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحِدٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابِ نُحْصِ الْجَبَلِ. يَعْنِي سَفْحَ الْجَبَلِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ مَقْتُولٌ عَلَى طَرِيقِهِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَدَعَا لَهُ ثُمَّ قَرَأَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الْآيَةَ. [ الْأَحْزَابِ: 23 ] قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ وَزُورُوهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; إِلَّا رَدُّوا عَلَيْهِ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ مُرْسَلًا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي قُبُورَ الشُّهَدَاءِ، فَإِذَا أَتَى فُرْضَةَ الشِّعْبِ قَالَ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ " ثُمَّ كَانَ

أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ، وَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ يَفْعَلُهُ، وَكَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُهُمْ كُلَّ حَوْلٍ، فَإِذَا تَفَوَّهَ الشِّعْبَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. ثُمَّ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ حَوْلٍ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ، وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْتِيهِمْ، فَتَبْكِي عِنْدَهُمْ وَتَدْعُو لَهُمْ، وَكَانَ سَعْدٌ يُسَلِّمُ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: أَلَّا تُسَلِّمُونَ عَلَى قَوْمٍ يَرُدُّونَ عَلَيْكُمْ. ثُمَّ حَكَى زِيَارَتَهُمْ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَتْنِي خَالَتِي قَالَتْ: رَكِبْتُ يَوْمًا إِلَى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ - وَكَانَتْ لَا تَزَالُ تَأْتِيهِمْ - فَنَزَلْتُ عِنْدَ حَمْزَةَ فَصَلَّيْتُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أُصَلِّيَ، وَمَا فِي الْوَادِي دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ، إِلَّا غُلَامًا قَائِمًا آخِذًا بِرَأْسِ دَابَّتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ صَلَاتِي قُلْتُ هَكَذَا بِيَدِي: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. قَالَتْ: فَسُمِعْتُ رَدَّ السَّلَامِ عَلَيَّ يَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ، أَعْرِفُهُ كَمَا أَعْرِفُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَنِي

وَكَمَا أَعْرِفُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَاقْشَعَرَّتْ كُلُّ شَعْرَةٍ مِنِّي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَشْرَبِهِمْ وَمَأْكَلِهِمْ، وَحُسْنَ مَقِيلِهِمْ قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ ; لِئَلَّا يَنْكُلُوا عَنِ الْحَرْبِ، وَلَا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ ؟ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
وَرَوَى مُسْلِمٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ

يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ كَطَيْرٍ خُضْرٍ، تَسْرَحُ فِي أَيِّهَا شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذِ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ اطِّلَاعَةً، فَقَالَ: سَلُونِي مَا شِئْتُمْ. فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا، وَمَا نَسْأَلُكَ وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيِّهَا شِئْنَا ؟ ! فَلَمَّا رَأَوْا أَنْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا، قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا إِلَى أَجْسَادِنَا فِي الدُّنْيَا، نُقْتُلُ فِي سَبِيلِكَ. قَالَ فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا هَذَا تُرِكُوا.

فَصْلٌ فِي عَدَدِ الشُّهَدَاءِ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: جَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ أَنَسٍ قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَا رَبَّ السَّبْعِينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَيَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ وَيَوْمَ مُؤْتَةَ وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:

قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ الْيَمَامَةِ سَبْعُونَ، وَيَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ سَبْعُونَ. وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَعُرْوَةُ وَ الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [ آلِ عِمْرَانَ: 165 ] يَعْنِي أَنَّهُمْ قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.
وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ،: قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ. وَكَلَامُهُ فِي " السِّيرَةِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ ; أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ; حَمْزَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَشَمَّاسُ بْنُ عُثْمَانَ وَالْبَاقُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ وَسَرَدَ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى قَبَائِلِهِمْ. وَقَدِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ خَمْسَةً آخَرِينَ، فَصَارُوا سَبْعِينَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ، وَسَرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَسْمَاءَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ

الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا.
وَعَنْ عُرْوَةَ: كَانَ الشُّهَدَاءُ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَةً - أَوْ قَالَ: سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ -. وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ.
قَالَ مُوسَى: وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَقَالَ عُرْوَةُ: تِسْعَةَ عَشَرَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: وَلَمْ يُؤْسَرْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سِوَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ وَقَدْ كَانَ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا فِدْيَةٍ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَلَّا يُقَاتِلَهُ، فَلَمَّا أُسِرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، امْنُنْ عَلَيَّ لِبَنَاتِي، وَأُعَاهِدُ أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَدْعُكَ تَمَسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ وَتَقُولُ: خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَوْمَئِذٍ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ

فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَقِيَتْهُ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ كَمَا ذُكِرَ لِي، فَلَّمَا لَقِيَتِ النَّاسَ نُعِيَ إِلَيْهَا أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمَّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ مِنْهَا لَبِمَكَانٍ. لِمَا رَأَى مِنْ تَثَبُّتِهَا عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا، وَصِيَاحِهَا عَلَى زَوْجِهَا.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّهُ قِيلَ: لَهَا: قُتِلَ أَخُوكِ. فَقَالَتْ: رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالُوا: قُتِلَ زَوْجُكِ. قَالَتْ: وَاحُزْنَاهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِلزَّوْجِ مِنَ الْمَرْأَةِ لَشُعْبَةً، مَا هِيَ لِشَيْءٍ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ مِنْ بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ فَلَمَّا نُعُوْا لَهَا قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالُوا: خَيْرًا يَا أَمَّ فُلَانٍ، هُوَ بِحَمْدِ اللَّهِ كَمَا تُحِبِّينَ. قَالَتْ: أَرَوْنِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَأُشِيرَ لَهَا إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْجَلَلُ يَكُونُ. مِنَ الْقَلِيلِ وَمِنَ الْكَثِيرِ، وَهُوَ هَاهُنَا مِنَ الْقَلِيلِ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
لِقَتْلِ بَنِي أَسَدٍ رَبَّهُمْ أَلَا كُلُّ شَيْءٍ خَلَاهُ جَلَلْ
أَيْ صَغِيرٌ وَقَلِيلٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ نَاوَلَ سَيْفَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ فَقَالَ: اغْسِلِي عَنْ هَذَا دَمَهُ يَا بُنِيَّةُ، وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَنَاوَلَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَيْفَهُ فَقَالَ: وَهَذَا فَاغْسِلِي عَنْهُ دَمَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ

صَدَقَنِي الْيَوْمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ الْقِتَالَ، لَقَدْ صَدَقَهُ مَعَكَ سَهْلُ بْنُ حَنَيْفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيْفَ عَلِيٍّ مُخَضَّبًا بِالدِّمَاءِ قَالَ: لَئِنْ كُنْتَ أَحْسَنْتَ الْقِتَالَ فَقَدْ أَحْسَنَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِسَيْفِهِ يَوْمَ أُحُدٍ قَدِ انْحَنَى، فَقَالَ لِفَاطِمَةَ: هَاكِ السَّيْفَ حَمِيدًا ; فَإِنَّهَا قَدْ شَفَتْنِي. فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ كُنْتَ أَجَدْتَ الضَّرْبَ بِسَيْفِكَ، لَقَدْ أَجَادَهُ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَبُو دُجَانَةَ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا هُوَ ذُو الْفَقَارِ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ يَوْمَ أُحُدٍ: لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفَقَارِ، وَلَا فَتَى إِلَّا عَلِيٌّ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَعَلِيٍّ لَا يُصِيبُ الْمُشْرِكُونَ مِنَّا مِثْلَهَا حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَسَمِعَ

الْبُكَاءَ وَالنَّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بِوَاكِيَ لَهُ. فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَأُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ إِلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُنَّ أَنْ يَتَحَزَّمْنَ، ثُمَّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَحَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ: لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُكَاءَهُنَّ عَلَى حَمْزَةَ خَرَجَ عَلَيْهِنَّ، وَهُنَّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ يَبْكِينَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْنَ يَرْحَمُكُنَّ اللَّهُ، فَقَدَ آسَيْتُنَّ بِأَنْفُسِكُنَّ قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّوْحِ. فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مُنْقَطِعٌ، وَمِنْهُ مُرْسَلٌ.
وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَقَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ، فَجَعَلَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ عَلَى مَنْ قُتِلَ مِنْ أَزْوَاجِهِنَّ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بِوَاكِيَ لَهُ. قَالَ: ثُمَّ نَامَ فَاسْتَنْبَهَ، وَهُنَّ

يَبْكِينَ قَالَ: فَهُنَّ الْيَوْمَ إِذًا يَبْكِينَ يَنْدُبْنَ حَمْزَةَ ؟ ! وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِنِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ هَلْكَاهُنَّ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بِوَاكِيَ لَهُ. فَجَاءَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ حَمْزَةَ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَيْحَهُنَّ ! مَا انْقَلَبْنَ بَعْدُ ؟ ! مُرُوهُنَّ فَلْيَنْقَلِبْنَ، وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزِقَّةَ الْمَدِينَةِ إِذَا النَّوْحُ وَالْبُكَاءُ فِي الدُّورِ، قَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: هَذِهِ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ قَتْلَاهُمْ. فَقَالَ: " لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بِوَاكِيَ لَهُ " وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَمَشَوْا إِلَى دُورِهِمْ، فَجَمَعُوا كُلَّ نَائِحَةٍ بَاكِيَةٍ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَبْكِينَ قَتْلَى الْأَنْصَارِ حَتَّى تَبْكِينَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بِوَاكِيَ لَهُ بِالْمَدِينَةِ. وَزَعَمُوا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِالنَّوَائِحِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا هَذَا ؟ فَأُخْبِرَ بِمَا فَعَلَتِ الْأَنْصَارُ بِنِسَائِهِمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ خَيْرًا

وَقَالَ: " مَا هَذَا أَرَدْتُ، وَمَا أُحِبُّ الْبُكَاءَ ". وَنَهَى عَنْهُ. وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ سَوَاءً.
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَأَخَذَ الْمُنَافِقُونَ، عِنْدَ بُكَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فِي الْمَكْرِ وَالتَّفْرِيقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَحْزِينِ الْمُسْلِمِينَ، وَظَهَرَ غِشُّ الْيَهُودِ وَفَارَتِ الْمَدِينَةُ بِالنِّفَاقِ فَوْرَ الْمِرْجَلِ، وَقَالَتِ: الْيَهُودُ لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ، وَلَا أُصِيبَ مِنْهُ مَا أُصِيبَ، وَلَكِنَّهُ طَالِبُ مُلْكٍ ; تَكُونُ لَهُ الدَّوْلَةُ وَعَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، وَقَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: لَوْ كُنْتُمْ أَطَعْتُمُونَا مَا أَصَابَكُمُ الَّذِينَ أَصَابُوا مِنْكُمْ. فَأَنْزِلُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِي طَاعَةِ مَنْ أَطَاعَ وَنِفَاقِ مَنْ نَافَقَ، وَتَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِينَ ; يَعْنِي فِيمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ 121 ] الْآيَاتِ كُلَّهَا، كَمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.

ذِكْرُ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنَ الْقُرْحِ وَالْجِرَاحِ، فِي أَثَرِ أَبِي سُفْيَانَ ; إِرْهَابًا لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ وَقْعَةَ أُحُدٍ وَذِكْرِهِ رُجُوعَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ: وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنَ أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ: نَازَلْتُهُمْ فَسَمِعَتْهُمْ يَتَلَاوَمُونَ ; يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا ; أَصَبْتُمْ شَوْكَةَ الْقَوْمِ وَحْدَهُمْ، ثُمَّ تَرَكْتُمُوهُمْ، وَلَمْ تَبْتُرُوهُمْ، فَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَبِهِمْ أَشَدُّ الْقَرْحِ، بِطَلَبِ الْعَدُوِّ ; لِيَسْمَعُوا بِذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَنْطَلِقَنَّ مَعِي إِلَّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنَا: رَاكِبٌ مَعَكَ. فَقَالَ: لَا، فَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ عَلَى الَّذِي بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، فَانْطَلَقُوا

فَقَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 172 ] قَالَ: وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَمَرَهُ بِالْمُقَامِ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى أَخَوَاتِهِ. قَالَ: وَطَلَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَدُوَّ حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ سَوَاءً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فِي " مَغَازِيهِ ": وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ النِّصْفَ مِنْ شَوَّالٍ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ، أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوِّ، وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُهُ أَلَّا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ. فَكَلَّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ، وَلِيَبْلُغَهُمْ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ ; لِيَظُنُّوا بِهِ قُوَّةً، وَأَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ لَمْ يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوِّهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السَّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ: شَهِدْتُ أُحُدًا أَنَا وَأَخٌ لِي فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمَّا أَذَّنَ مُؤَذِّنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ، قُلْتُ لِأَخِي وَقَالَ لِي: أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَاللَّهِ مَا لَنَا مِنْ دَابَّةٍ نَرْكَبُهَا، وَمَا مَنَّا إِلَّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ

فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ أَيْسَرَ جُرْحًا مِنْهُ، فَكَانَ إِذَا غُلِبَ حَمَلْتُهُ عُقْبَةً وَمَشَى عُقْبَةً، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى مَا انْتَهَى إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ وَهِيَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، فَأَقَامَ بِهَا الْاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَدْ كَانَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ:، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ مَعْبَدَ بْنَ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيَّ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مُسَلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ عَيْبَةَ نُصْحٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِهَامَةَ، صَفْقُهُمْ مَعَهُ، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِهَا وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ. ثُمَّ خَرَجَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالُوا: أَصَبْنَا

حَدَّ أَصْحَابِهِ وَقَادَتِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ، ثُمَّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ نَسْتَأْصِلَهُمْ ؟ ! لَنَكُرَّنَّ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ فَلْنَفْرُغَنَّ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ يَا مَعْبَدُ ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ، يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ ; يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنَ الْحَنَقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ. قَالَ: وَيْلَكَ، مَا تَقُولُ ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَاكَ تَرْتَحِلُ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ; لِنَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ. قَالَ: فَإِنِّي أَنْهَاكَ عَنْ ذَلِكَ، وَوَاللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ. قَالَ: وَمَا قُلْتَ ؟ قَالَ: قُلْتُ:
كَادَتْ تُهِدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ تَرْدَى بِأُسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ
عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٍ مَعَازِيلِ فَظَلْتُ عَدُوًّا أَظُنُّ الْأَرْضَ مَائِلَةً
لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ

فَقُلْتُ وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمْ
إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْجِيلِ إِنِّي نَذِيرٌ لِأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَةً
لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لَا وَخْشٍ قَنَابِلُهُ
وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ
قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَمَرَّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ ؟ قَالُوا: الْمَدِينَةَ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيرَةَ. قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عَنِّي مُحَمَّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إِلَيْهِ وَأُحَمِّلُ لَكُمْ إِبِلَكُمْ هَذِهِ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظٍ إِذَا وَافَيْتُمُوهَا ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِذَا وَافَيْتُمُوهُ، فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا السَّيْرَ إِلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ ; لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ. فَمَرَّ الرَّكْبُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ فَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.

وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أُرَاهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ آلِ عِمْرَانَ: 173 ] تَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 172 ] قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي، كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ يَوْمَ أُحُدٍ وَانْصَرَفَ عَنْهُ الْمُشْرِكُونَ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ. هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ رَوَاهُ

مُسْلِمٌ مُخْتَصَرًا مِنْ أَوْجُهٍ، عَنْ هِشَامٍ. وَهَكَذَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيُّ جَمِيعًا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُؤَدِّبِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهِ، وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْبَهِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ وَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا: صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. كَذَا قَالَ.
وَهَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا ; فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ أَصْحَابِ الْمَغَازِي أَنَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ كُلُّ مَنْ شَهِدَ أُحُدًا وَكَانُوا سَبْعَمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ، قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ، وَبَقِيَ الْبَاقُونَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَذَفَ فِي قَلْبِ أَبِي سُفْيَانَ الرُّعْبَ يَوْمَ أُحُدٍ بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ وَكَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ فِي شَوَّالٍ، وَكَانَ التُّجَّارُ يَقْدَمُونَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ

الْمَدِينَةَ فَيَنْزِلُونَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَأَنَّهُمْ قَدِمُوا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَكَانَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ الْقَرْحُ، وَاشْتَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ النَّاسَ لِيَنْطَلِقُوا مَعَهُ وَيَتَّبِعُوا مَا كَانُوا مُتَّبِعِينَ، وَقَالَ لَنَا: إِنَّمَا يَرْتَحِلُونَ الْآنَ فَيَأْتُونَ الْحَجَّ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مِثْلِهَا حَتَّى عَامَ قَابِلٍ. فَجَاءَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ. فَأَبَى عَلَيْهِ النَّاسُ أَنْ يَتَّبِعُوهُ، فَقَالَ: إِنِّي ذَاهِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَتَّبِعْنِي أَحَدٌ فَانْتَدَبَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَحُذَيْفَةُ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا، فَسَارُوا فِي طَلَبِ أَبِي سُفْيَانَ حَتَّى بَلَغُوا الصَّفْرَاءَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وَهَذَا غَرِيبٌ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ:، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ لَمَّا انْصَرَفَ يَوْمَ أُحُدٍ أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ: لَا تَفْعَلُوا ; فَإِنَّ الْقَوْمَ قَدْ حَرِبُوا، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قِتَالٌ غَيْرَ الَّذِي كَانَ، فَارْجِعُوا. فَرَجَعُوا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ هَمُّوا بِالرَّجْعَةِ:

وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سُوِّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ، لَوْ صُبِّحُوا بِهَا لَكَانُوا كَأَمْسِ الذَّاهِبِ. قَالَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ ذَلِكَ - قَبْلَ رُجُوعِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ - مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ جَدَّ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لِأُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَسَرَهُ بِبَدْرٍ ثُمَّ مَنَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِلْنِي. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ: خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ اسْتَأْمَنَ لَهُ عُثْمَانُ عَلَى أَنْ لَا يُقِيمَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَقَالَ سَتَجِدَانِهِ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا فَاقْتُلَاهُ فَفَعَلَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ لَهُ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلَّ جُمُعَةٍ، لَا يُنْكَرُ لَهُ، شَرَفًا فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ، وَكَانَ فِيهِ شَرِيفًا، إِذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ، قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ، وَأَعَزَّكُمْ بِهِ، فَانْصُرُوهُ وَعَزِّرُوهُ وَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا. ثُمَّ يَجْلِسُ حَتَّى إِذَا صَنَعَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا صَنَعَ، وَرَجَعَ النَّاسُ، قَامَ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِثِيَابِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ، وَقَالُوا: اجْلِسْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَسْتَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَقَدْ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ. فَخَرَجَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بُجْرًا أَنْ قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ. فَلَقِيَهُ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِبَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالُوا: وَيْلَكَ، مَا لَكَ ؟ قَالَ: قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ فَوَثَبَ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْذِبُونَنِي وَيُعَنِّفُونَنِي، لَكَأَنَّمَا قُلْتُ بُجْرًا أَنْ قُمْتُ أُشَدِّدُ أَمْرَهُ. قَالُوا: وَيْلَكَ. ارْجِعْ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْتَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ مِنْ سُورَةِ آلِ

عِمْرَانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ آلِ عِمْرَانَ: 121 ] قَالَ: إِلَى تَمَامِ سِتِّينَ آيَةً. وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ. ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي ذِكْرِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَتَعْدَادِهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ عَلَى قَبَائِلِهِمْ، كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ، فَذَكَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَرْبَعَةً ; حَمْزَةَ، وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ، وَشَمَّاسَ بْنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى تَمَامِ خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ خَمْسَةً آخَرِينَ، فَصَارُوا سَبْعِينَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ ثُمَّ سَمَّى ابْنُ إِسْحَاقَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَهُمُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا، عَلَى قَبَائِلِهِمْ أَيْضًا.
قُلْتُ: وَلَمْ يُؤْسَرْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سِوَى أَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ ; أَمَرَ الزُّبَيْرَ - وَيُقَالُ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ - فَضَرَبَ عُنُقَهُ.

فَصْلٌ فِيمَا تَقَاوَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ مِنَ الْأَشْعَارِ
وَإِنَّمَا نُورِدُ شِعْرَ الْكُفَّارِ لِنَذْكُرَ جَوَابَهَا مِنْ شِعْرِ الْإِسْلَامِ ; لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي وَقْعِهَا مِنَ الْأَسْمَاعِ وَالْأَفْهَامِ، وَأَقْطَعَ لِشُبْهَةِ الْكَفَرَةِ الطَّغَامِ.
قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكَانَ مِمَّا قِيلَ مِنَ الشِّعْرِ يَوْمَ أُحُدٍ قَوْلُ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيِّ - وَهُوَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ -:
مَا بَالُ هَمٍّ عَمِيدٍ بَاتَ يَطْرُقُنِي بِالْوُدِّ مِنْ هِنْدَ إِذْ تَعْدُو عَوَادِيهَا بَاتَتْ تُعَاتِبُنِي هِنْدٌ وَتَعْذِلُنِي
وَالْحَرْبُ قَدْ شُغِلَتْ عَنِّي مَوَالِيهَا مَهْلًا فَلَا تَعْذِلِينِي إِنَّ مِنْ خُلُقِي
مَا قَدْ عَلِمْتِ وَمَا إِنْ لَسْتُ أُخْفِيهَا مُسَاعِفٌ لِبَنِي كَعْبٍ بِمَا كَلِفُوا
حَمَّالُ عِبْءٍ وَأَثْقَالٍ أُعَانِيهَا وَقَدْ حَمَلْتُ سِلَاحِي فَوْقَ مُشْتَرَفٍ
سَاطٍ سَبُوحٍ إِذَا يَجْرِي يُبَارِيهَا

كَأَنَّهُ إِذْ جَرَى عَيْرٌ بِفَدْفَدَةٍ
مُكَدَّمٌ لَاحِقٌ بِالْعُونِ يَحْمِيهَا مِنْ آلِ أَعْوَجَ يَرْتَاحُ النَّدَيُّ لَهُ
كَجِذْعِ شَعْرَاءَ مُسْتَعْلٍ مَرَاقِيهَا أَعْدَدْتُهُ وَرُقَاقَ الْحَدِّ مُنْتَخَلًا
وَمَارِنًا لِخُطُوبٍ قَدْ أُلَاقِيهَا هَذَا وَبَيْضَاءَ مِثْلَ النَّهْيِ مُحْكَمَةً
نِيطَتْ عَلَيَّ فَمَا تَبْدُو مَسَاوِيهَا سُقْنَا كِنَانَةَ مِنْ أَطْرَافِ ذِي يَمَنٍ
عُرْضَ الْبِلَادِ عَلَى مَا كَانَ يُزْجِيهَا قَالَتْ كِنَانَةُ أَنَّى تَذْهَبُونَ بِنَا
قُلْنَا النَّخِيلَ فَأَمُّوهَا وَمَنْ فِيهَا نَحْنُ الْفَوَارِسُ يَوْمَ الْجَرِّ مِنْ
أُحُدٍ هَابَتْ مَعَدٌّ فَقُلْنَا نَحْنُ نَأْتِيهَا هَابُوا ضِرَابًا وَطَعْنًا صَادِقًا خَذِمًا
مِمَّا يَرَوْنَ وَقَدْ ضُمَّتْ قَوَاصِيهَا

ثُمَّتَ رُحْنَا كَأَنَّا عَارِضٌ بَرِدٌ
وَقَامَ هَامُ بَنِي النَّجَّارِ يَبْكِيهَا كَأَنَّ هَامَهُمُ عِنْدَ الْوَغَى فِلَقٌ
مِنْ قَيْضِ رُبْدٍ نَفَتْهُ عَنْ أَدَاحِيهَا أَوْ حَنْظَلٌ ذَعْذَعَتْهُ الرِّيحُ فِي غُصُنٍ
بَالٍ تَعَاوَرُهُ مِنْهَا سَوَافِيهَا قَدْ نَبْذُلُ الْمَالَ سَحًّا لَا حِسَابَ لَهُ
وَنَطْعُنُ الْخَيْلَ شَزْرًا فِي مَآقِيهَا وَلَيْلَةٍ يَصْطَلِي بِالْفَرْثِ جَازِرُهَا
يَخْتَصُّ بِالنَّقَرَى الْمُثْرِينَ دَاعِيهَا وَلَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ
جَرْبَى جُمَادِيَّةٍ قَدْ بَتُّ أَسَرِيهَا لَا يَنْبَحُ الْكَلْبُ فِيهَا غَيْرَ وَاحِدَةٍ
مِنَ الْقَرِيسِ وَلَا تَسْرِي أَفَاعِيهَا أَوْقَدْتُ فِيهَا لِذِي الضَّرَّاءِ جَاحِمَةً
كَالْبَرْقِ ذَاكِيَةَ الْأَرْكَانِ أَحْمِيهَا

أَوْرَثَنِي ذَاكُمُ عَمْرٌو وَوَالِدُهُ
مِنْ قَبْلِهِ كَانَ بِالْمَثْنَى يُغَالِيهَا كَانُوا يُبَارُونَ أَنْوَاءَ النُّجُومِ فَمَا
. دَنَّتْ عَنِ السُّورَةِ الْعُلْيَا مَسَاعِيهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَلِغَيْرِهِ. قُلْتُ: وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَشْهُرُ وَأَكْثَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ -:
سُقْتُمْ كِنَانَةَ جَهْلًا مِنْ سَفَاهَتِكُمْ إِلَى الرَّسُولِ فَجُنْدُ اللَّهِ مُخْزِيهَا
أَوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ الْمَوْتِ ضَاحِيَةً فَالنَّارُ مَوْعِدُهَا وَالْقَتْلُ لَاقِيهَا
جَمَعْتُمُوهُمْ أَحَابِيشًا بِلَا حَسَبٍ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ غَرَّتْكُمْ طَوَاغِيهَا
أَلَا اعْتَبَرْتُمْ بِخَيْلِ اللَّهِ إِذْ قَتَلَتْ أَهْلَ الْقَلِيبِ وَمَنْ أَلْقَيْنَهُ فِيهَا
كَمْ مِنْ أَسِيرٍ فَكَكْنَاهُ بِلَا ثَمَنٍ وَجَزِّ نَاصِيَةٍ كُنَّا مَوَالِيهَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُجِيبُ هُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ

الْمَخْزُومِيَّ أَيْضًا:
أَلَا هَلْ أَتَى غَسَّانَ عَنَّا وَدُونَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ خَرْقٌ سَيْرُهُ مُتَنَعْنِعُ
صَحَارٍ وَأَعْلَامٌ كَأَنَّ قَتَامَهَا مِنَ الْبُعْدِ نَقْعٌ هَامِدٌ مُتَقَطِّعُ
تَظَلُّ بِهِ الْبُزْلُ الْعَرَامِيسُ رُزَّحًا وَيَخْلُو بِهِ غَيْثُ السِّنِينَ فَيُمْرِعُ
بِهِ جِيَفُ الْحَسْرَى يَلُوحُ صَلِيبُهَا كَمَا لَاحَ كَتَّانُ التِّجَارِ الْمُوَضَّعُ
بِهِ الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَبَيْضُ نَعَامٍ قَيْضُهُ يَتَفَلَّعُ
مُجَالِدُنَا عَنْ دِينِنَا كُلُّ فَخْمَةٍ مُذَرَّبَةٍ فِيهَا الْقَوَانِسُ تَلْمَعُ

وَكُلُّ صَمُوتٍ فِي الصِّوَانِ كَأَنَّهَا إِذَا لُبِسَتْ نِهْيٌ مِنَ الْمَاءِ مُتْرَعُ
وَلَكِنْ بِبَدْرٍ سَائِلُوا مَنْ لَقِيتُمُ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْبَاءِ بِالْغَيْبِ تَنْفَعُ
وَإِنَّا بِأَرْضِ الْخَوْفِ لَوْ كَانَ أَهْلُهَا سِوَانَا لَقَدْ أَجْلَوْا بِلَيْلٍ فَأَقْشَعُوا
إِذَا جَاءَ مِنَّا رَاكِبٌ كَانَ قَوْلُهُ أَعِدُّوا لِمَا يُزْجِي ابْنُ حَرْبٍ وَيَجْمَعُ
فَمَهْمَا يُهِمُّ النَّاسَ مِمَّا يَكِيدُنَا فَنَحْنُ لَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ أَوْسَعُ
فَلَوْ غَيْرُنَا كَانَتْ جَمِيعًا تَكِيدُهُ الْ بَرِيَّةُ قَدْ أَعْطَوْا يَدًا وَتَوَزَّعُوا
نُجَالِدُ لَا تَبْقَى عَلَيْنَا قَبِيلَةٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَنْ يَهَابُوا وَيُفْظَعُوا
وَلَمَّا ابْتَنَوْا بِالْعِرْضِ قَالَتْ سَرَاتُنَا عَلَامَ إِذًا لَمْ نَمْنَعِ الْعِرْضَ نَزْرَعُ
وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ نَتْبَعُ أَمْرَهُ إِذَا قَالَ فِينَا الْقَوْلَ لَا نَتَطَلَّعُ
تَدَلَّى عَلَيْهِ الرُّوحُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ يُنَزَّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ وَيَرْفَعُ

نُشَاوِرُهُ فِيمَا نُرِيدُ وَقَصَرْنَا إِذَا مَا اشْتَهَى أَنَّا نُطِيعُ وَنَسْمَعُ
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا بَدَوْا لَنَا ذَرُوا عَنْكُمُ هَوْلَ الْمَنِيَّاتِ وَاطْمَعُوا
وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الْحَيَاةَ تَقَرُّبًا إِلَى مَلِكٍ يُحْيَا لَدَيْهِ وَيُرْجَعُ
وَلَكِنْ خُذُوا أَسْيَافَكُمْ وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ لِلَّهِ أَجْمَعُ
فَسِرْنَا إِلَيْهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالِهِمْ ضُحِيًّا عَلَيْنَا الْبَيْضُ لَا نَتَخَشَّعُ
بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السَّنَوَّرُ وَالْقَنَا إِذَا ضَرَبُوا أَقْدَامَهَا لَا تَوَرَّعُ
فَجِئْنَا إِلَى مَوْجٍ مِنَ الْبَحْرِ وَسْطَهُ أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَنَحْنُ نَصِيَّةٌ ثَلَاثُ مِئِينَ إِنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ
نُغَاوِرُهُمْ تَجْرِي الْمَنِيَّةُ بَيْنَنَا نُشَارِعُهُمْ حَوْضَ الْمَنَايَا وَنَشْرَعُ
تَهَادَى قِسِيُّ النَّبْعِ فِينَا وَفِيهِمُ وَمَا هُوَ إِلَّا الْيَثْرِبِيُّ الْمُقَطَّعُ

وَمَنْجُوفَةٌ حَرْمِيَّةٌ صَاعِدِيَّةٌ يُذَرُّ عَلَيْهَا السُّمُّ سَاعَةَ تُصْنَعُ
تَصُوبُ بِأَبْدَانِ الرِّجَالِ وَتَارَةً تَمُرُّ بِأَعْرَاضِ الْبِصَارِ تَقَعْقَعُ
وَخَيْلٌ تَرَاهَا بِالْفَضَاءِ كَأَنَّهَا جَرَادُ صَبًا فِي قُرَّةٍ يَتَرَيَّعُ
فَلَمَّا تَلَاقَيْنَا وَدَارَتْ بِنَا الرَّحَا وَلَيْسَ لِأَمْرٍ حَمَّهُ اللَّهُ مَدْفَعُ
ضَرَبْنَاهُمْ حَتَّى تَرَكْنَا سَرَاتَهُمْ كَأَنَّهُمْ بِالْقَاعِ خُشْبٌ مُصَرَّعُ
لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى اسْتَفَقْنَا عَشِيَّةً كَأَنَّ ذَكَانَا حَرُّ نَارٍ تَلَفَّعُ
وَرَاحُوا سِرَاعًا مُوجَعِينَ كَأَنَّهُمْ جَهَامٌ هَرَاقَتْ مَاءَهُ الرِّيحُ مُقْلِعُ
وَرُحْنَا وَأُخْرَانَا بِطَاءٌ كَأَنَّنَا أُسُودٌ عَلَى لَحْمٍ بِبِيشَةَ ظُلَّعُ

فَنِلْنَا وَنَالَ الْقَوْمُ مِنَّا وَرُبَّمَا فَعَلْنَا وَلَكِنْ مَا لَدَى اللَّهِ أَوْسَعُ
وَدَارَتْ رَحَانَا وَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمُ وَقَدْ جَعَلُوا ; كُلٌّ مِنَ الشَّرِّ يَشْبَعُ
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْمِي الذِّمَارَ وَيَمْنَعُ
جِلَادٌ عَلَى رَيْبِ الْحَوَادِثِ لَا نَرَى عَلَى هَالِكٍ عَيْنًا لَنَا الدَّهْرُ تَدْمَعُ
بَنُو الْحَرْبِ لَا نَعْيَا بِشَيْءٍ نَقُولُهُ وَلَا نَحْنُ مِمَّا جَرَّتِ الْحَرْبُ نَجْزَعُ
بَنُو الْحَرْبِ إِنْ نَظْفَرْ فَلَسْنَا بِفُحَّشٍ وَلَا نَحْنُ مِنْ أَظْفَارِهَا نَتَوَجَّعُ
وَكُنَّا شِهَابًا يَتَّقِي النَّاسُ حَرَّهُ وَيَفْرُجُ عَنْهُ مَنْ يَلِيهِ وَيَسْفَعُ
فَخَرَّتْ عَلَى ابْنِ الزِّبَعْرَى وَقَدْ سَرَى لَكُمْ طَلَبٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ مُتْبَعُ
فَسَلْ عَنْكَ فِي عُلْيَا مَعَدٍّ وَغَيْرِهَا مِنَ النَّاسِ مَنْ أَخْزَى مَقَامًا وَأَشْنَعُ
وَمَنْ هُوَ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ الْحَرْبُ مَفْخَرًا وَمَنْ خَدُّهُ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَضْرَعُ
شَدَدْنَا بِحَوَلِ اللَّهِ وَالنَّصْرِ شَدَّةً عَلَيْكُمْ وَأَطْرَافُ الْأَسِنَّةِ شُرَّعُ
تَكِرُّ الْقَنَا فِيكُمْ كَأَنَّ فُرُوغَهَا عَزَالِي مَزَادٍ مَاؤُهَا يَتَهَزَّعُ

عَمَدْنَا إِلَى أَهْلِ اللِّوَاءِ وَمَنْ يَطِرْ بِذِكْرِ اللِّوَاءِ فَهُوَ فِي الْحَمْدِ أَسْرَعُ
فَخَانُوا وَقَدْ أَعْطَوْا يَدًا وَتَخَاذَلُوا أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَمَرَهُ وَهُوَ أَصْنَعُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى فِي يَوْمِ أُحُدٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ بَعْدُ:
يَا غُرَابَ الْبَيْنِ أَسْمَعْتَ فَقُلْ إِنَّمَا تَنْطِقُ شَيْئًا قَدْ فُعِلْ
إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
وَالْعَطِيَّاتُ خِسَاسٌ بَيْنَهُمْ وَسَوَاءٌ قَبْرُ مُثْرٍ وَمُقِلْ
كُلُّ عَيْشٍ وَنَعِيمٍ زَائِلٌ وَبَنَاتُ الدَّهْرِ يَلْعَبْنَ بِكُلِّ
أَبْلِغَنْ حَسَّانَ عَنِّي آيَةً فَقَرِيضُ الشِّعْرِ يَشْفِي ذَا الْغُلَلْ
كَمْ تَرَى بِالْجَرِّ مِنْ جُمْجُمَةٍ وَأَكُفٍّ قَدْ أُتِرَّتْ وَرَجَلْ

وَسَرَابِيلَ حِسَانٍ سُرِيَتْ عَنْ كُمَاةٍ أُهْلِكُوا فِي الْمُنْتَزَلْ
كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيِّدٍ مَاجِدِ الْجَدَّيْنِ مِقْدَامٍ بَطَلْ
صَادِقِ النَّجْدَةِ قَرْمٍ بَارِعٍ غَيْرِ مُلْتَاثٍ لَدَى وَقْعِ الْأَسَلْ
فَسَلِ الْمِهْرَاسَ مَا سَاكِنُهُ بَيْنَ أَقْحَافٍ وَهَامٍ كَالْحَجَلْ
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلْ
حِينَ حَكَّتْ بِقُبَاءٍ بَرْكَهَا وَاسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الْأَشَلْ

ثُمَّ خَفُّوا عِنْدَ ذَاكُمْ رُقَّصًا رَقْصَ الْحَفَّانِ يَعْلُو فِي الْجَبَلْ
فَقَتَلْنَا الضِّعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَعَدَلْنَا مَيْلَ
بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ لَا أَلُومُ النَّفْسَ إِلَّا أَنَّنَا لَوْ كَرَّرْنَا لَفَعَلْنَا الْمُفْتَعَلْ
بِسُيُوفِ الْهِنْدِ تَعْلُو هَامَهُمْ عِلَلًا تَعْلُوهُمْ بَعْدَ نَهَلْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَجَابَهُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
ذَهَبَتْ بِابْنِ الزِّبَعْرَى وَقْعَةٌ كَانَ مِنَّا الْفَضْلُ فِيهَا لَوْ عَدَلْ
وَلَقَدْ نِلْتُمْ وَنِلْنَا مِنْكُمُ وَكَذَاكَ الْحَرْبُ أَحْيَانًا دُوَلْ

نَضَعُ الْأَسْيَافَ فِي أَكْتَافِكُمْ حَيْثُ نَهْوَى عِلَلًا بَعْدَ نَهَلْ
نُخْرِجُ الْأَصْبَحَ مِنْ أَسْتَاهِكُمْ كَسُلَاحِ النِّيبِ يَأْكُلْنَ الْعَصَلْ
إِذْ تُوَلُّونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ هَرَبًا فِي الشِّعْبِ أَشْبَاهَ الرَّسَلْ
إِذْ شَدَّدْنَا شَدَّةً صَادِقَةً فَأَجَأْنَاكُمُ إِلَى سَفْحِ الْجَبَلْ
بِخَنَاطِيلَ كَأَمْذَاقِ الْمَلَا مَنْ يُلَاقُوهُ مِنَ النَّاسِ يُهَلْ
ضَاقَ عَنَّا الشِّعْبُ إِذْ نَجْزَعُهُ وَمَلَأْنَا الْفَرْطَ مِنْهُ وَالرِّجَلْ
بِرِجَالٍ لَسْتُمُ أَمْثَالَهُمْ أُيِّدُوا جِبْرِيلَ نَصْرًا فَنَزَلْ
وَعَلَوْنَا يَوْمَ بِدْرٍ بِالتُّقَى طَاعَةِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلْ

وَقَتَلْنَا كُلَّ رَأْسٍ مِنْهُمُ وَقَتَلْنَا كُلَّ جَحْجَاجٍ رِفَلٍّ
وَتَرَكْنَا فِي قُرَيْشٍ عَوْرَةً يَوْمَ بَدْرٍ وَأَحَادِيثَ الْمَثَلْ
وَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا شَاهِدًا يَوْمَ
بِدْرٍ وَالتَّنَابِيلُ الْهُبُلْ فِي قُرَيْشٍ مِنْ جُمُوعٍ جُمِّعُوا مِثْلَ مَا يُجْمَعُ فِي الْخِصْبِ الْهَمَلْ
نَحْنُ لَا أَمْثَالُكُمْ وُلْدَ اسْتِهَا نَحْضُرُ الْبَأْسَ إِذَا الْبَأْسُ نَزَلْ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ يَبْكِي حَمْزَةَ وَمَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ:
نَشَجَتْ وَهَلْ لَكَ مِنْ مَنْشَجِ وَكُنْتَ مَتَى تَذَّكِرْ تَلْجَجِ
تَذَكُّرَ قَوْمٍ أَتَانِي لَهُمْ أَحَادِيثُ فِي الزَّمَنِ الْأَعْوَجِ
فَقَلْبُكَ مِنْ ذِكْرِهِمْ خَافِقٌ مِنَ الشَّوْقِ وَالْحُزْنِ الْمُنْضِجِ

وَقَتْلَاهُمْ فِي جِنَانِ النَّعِيمِ كِرَامُ الْمَدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ
بِمَا صَبَرُوا تَحْتَ ظِلِّ اللِّوَاءِ لِوَاءِ الرَّسُولِ بِذِي الْأَضْوُجِ
غَدَاةَ أَجَابَتْ بِأَسْيَافِهَا جَمِيعًا بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
وَأَشْيَاعُ أَحْمَدَ إِذْ شَايَعُوا عَلَى الْحَقِّ ذِي النُّورِ وَالْمَنْهَجِ
فَمَا بَرِحُوا يَضْرِبُونَ الْكُمَاةَ وَيَمْضُونَ فِي الْقَسْطَلِ الْمُرْهِجِ
كَذَلِكَ حَتَّى دَعَاهُمْ مَلِيكٌ إِلَى جَنَّةٍ دَوْحَةِ الْمَوْلِجِ
فَكُلُّهُمُ مَاتَ حُرَّ الْبَلَاءِ عَلَى مِلَّةِ اللَّهِ لَمْ يَحْرَجِ
كَحَمْزَةَ لَمَّا وَفَى صَادِقًا بِذِي هِبَّةٍ صَارِمٍ سَلْجَجِ
فَلَاقَاهُ عَبْدُ بَنِي نَوْفَلٍ يُبَرْبِرُ كَالْجَمَلِ الْأَدْعَجِ
فَأَوْجَرَهُ حَرْبَةً كَالشِّهَابِ تَلَهَّبُ فِي اللَّهَبِ الْمُوَهَجِ

وَنُعْمَانُ أَوْفَى بِمِيثَاقِهِ وَحَنْظَلَةُ الْخَيْرِ لَمْ يُحْنَجِ
عَنِ الْحَقِّ حَتَّى غَدَتْ رُوحُهُ إِلَى مَنْزِلٍ فَاخِرِ الزِّبْرِجِ
أُولَئِكَ لَا مَنْ ثَوَى مِنْكُمُ مِنَ النَّارِ فِي الدَّرَكِ الْمُرْتَجِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي حَمْزَةَ وَمَنْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَهِيَ عَلَى رَوِيِّ قَصِيدَةِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ فِي قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ مَنْ يُنْكِرُ هَذِهِ لِحَسَّانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ -:
يَا مَيُّ قُومِي فَانْدُبِنْ بِسُحَيْرَةٍ شَجْوَ الْنَّوَائِحْ
كَالْحَامِلَاتِ الْوِقْرَ بِالثِّ قْلِ الْمُلِحَّاتِ الدَّوَالِحْ

الْمُعْوِلَاتِ الْخَامِشَا تِ وُجُوهَ حُرَّاتٍ صَحَائِحْ
وَكَأَنَّ سَيْلَ دُمُوعِهَا الْ أَنْصَابُ تُخْضَبُ بِالذَّبَائِحْ
يَنْقُضْنَ أَشْعَارًا لَهُنَّ هُنَاكَ بَادِيَةَ الْمَسَائِحْ
وَكَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْ لٍ بِالضُّحَى شُمْسٍ رَوَامِحْ
مِنْ بَيْنِ مَشْرُورٍ وَمَجْ زُوْرٍ يُذَعْذَعُ بِالْبَوَارِحْ
يَبْكِينَ شَجْوًا مُسْلِبَا تٍ كَدَّحَتْهُنَّ الْكَوَادِحْ
وَلَقَدْ أَصَابَ قُلُوبَهَا مَجْلٌ لَهُ جُلَبٌ قَوَارِحْ
إِذْ أَقْصَدَ الْحِدْثَانُ مَنْ كُنَّا نُرَجِّي إِذْ نُشَايِحْ
أَصْحَابَ أُحْدٍ غَالَهُمْ دَهْرٌ أَلَمَّ لَهُ جَوَارِحْ

مَنْ كَانَ فَارِسَنَا وَحَا مِينَا إِذَا بُعِثَ الْمَسَالِحْ
يَا حَمْزَ لَا وَاللَّهِ لَا أَنْسَاكَ مَا صُرَّ اللَّقَائِحْ
لِمُنَاخِ أَيْتَامٍ وَأَضْ يَافٍ وَأَرْمَلَةٍ تُلَامِحْ
وَلَمَّا يَنُوبُ الدَّهْرُ فِي حَرْبٍ لِحَرْبٍ وَهْيَ لَاقِحْ
يَا فَارِسًا يَا مِدْرَهًا يَا حَمْزَ قَدْ كُنْتَ الْمُصَامِحْ
عَنَّا شَدِيدَاتِ الْخُطُو بِ إِذَا يَنُوبُ لَهُنَّ فَادِحْ
ذَكَّرْتَنِي أَسَدَ الرَّسُو لِ وَذَاكَ مِدْرَهُنَا الْمُنَافِحْ
عَنَّا وَكَانَ يُعَدُّ إِذْ عُدَّ الشَّرِيفُونَ الْجَحَاجِحْ
يَعْلُو الْقَمَاقِمَ جَهْرَةً سَبْطَ الْيَدَيْنِ أَغَرَّ وَاضِحْ

لَا طَائِشٌ رَعِشٌ وَلَا ذُو عِلَّةٍ بِالْحِمْلِ آنِحْ
بَحْرٌ فَلَيْسَ يَغِيبُ جَا رًا مِنْهُ سَيْبٌ أَوْ مَنَادِحْ
أَوْدَى شَبَابُ أُولِي الْحَفَا ئِظِ وَالثَّقِيلُونَ الْمَرَاجِحْ
الْمُطْعِمُونَ إِذَا الْمَشَا تِيَ مَا يُصَفِّقُهُنَّ نَاضِحْ
لَحْمَ الْجِلَادِ وَفَوْقَهُ مِنْ شَحْمِهِ شُطَبٌ شَرَائِحْ
لِيُدَافِعُوا عَنْ جَارِهِمْ مَا رَامَ ذُو الضِّغْنِ الْمُكَاشِحْ
لَهَفِي لِشُبَّانٍ رُزِئْ نَاهُمْ كَأَنَّهُمُ الْمَصَابِحْ
شُمٍّ بَطَارِقَةٍ غَطَا رِفَةٍ خَضَارِمَةٍ مَسَامِحْ

الْمُشْتَرُونَ الْحَمْدَ بِالْ أَمْوَالِ إِنَّ الْحَمْدَ رَابِحْ
وَالْجَامِزُونَ بِلُجْمِهِمْ يَوْمًا إِذَا مَا صَاحَ صَائِحْ
مَنْ كَانَ يُرْمَى بِالنَّوَا قِرِ مِنْ زَمَانٍ غَيْرِ صَالِحْ
مَا إِنْ تَزَالُ رِكَابُهُ يَرْسِمْنَ فِي غُبْرٍ صَحَاصِحْ
رَاحَتْ تُبَارَى وَهْوَ فِي رَكْبٍ صُدُورُهُمُ رَوَاشِحْ
حَتَّى تَئُوبَ لَهُ الْمَعَا لِي لَيْسَ مِنْ فَوْزِ السَّفَائِحْ
يَا حَمْزُ قَدْ أَوْحَدْتَنِي كَالْعُودِ شَذَّبَهُ الْكَوَافِحْ
أَشْكُوا إِلَيْكَ وَفَوْقَكَ التُّرْ بُ الْمُكَوَّرُ وَالصَّفَائِحْ
مِنْ جَنْدَلٍ يُلْقِيهِ فَوْ قَكَ إِذْ أَجَادَ الضَّرْحَ ضَارِحْ
فِي وَاسِعٍ يَحْشُونَهُ بِالتُّرْبِ سَوَّتْهُ الْمَمَاسِحْ

فَعَزَاؤُنَا أَنَّا نَقُو لُ وَقَوْلُنَا بَرْحٌ بَوَارِحْ
مَنْ كَانَ أَمْسَى وَهْوَ عَمَّا أَوْقَعَ الْحِدْثَانُ جَانِحْ
فَلْيَأْتِنَا فَلْتَبْكِ عَيْ نَاهُ لِهَلْكَانَا النَّوَافِحْ
الْقَائِلِينَ الْفَاعِلِي نَ ذَوِي السَّمَاحَةِ وَالْمَمَادِحْ
مَنْ لَا يَزَالُ نَدَى يَدَيْ هِ لَهُ طَوَالَ الدَّهْرِ مَائِحْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ يُنْكِرُهَا لِحَسَّانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَبْكِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابَهَ:
طَرَقَتْ هُمُومُكَ فَالرُّقَادُ مُسَهَّدُ وَجَزِعْتَ أَنْ سُلِخَ الشَّبَابُ الْأَغْيَدُ
وَدَعَتْ فُؤَادَكَ لِلْهَوَى ضَمْرِيَّةٌ فَهَوَاكَ غَوْرِيٌّ وَصَحْوُكَ مُنْجِدُ

فَدَعِ التَّمَادِيَ فِي الْغَوَايَةِ سَادِرًا قَدْ كُنْتَ فِي طَلَبِ الْغَوَايَةِ تُفْنَدُ
وَلَقَدْ أَنَى لَكَ أَنْ تَنَاهَى طَائِعًا أَوْ تَسْتَفِيقَ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ
وَلَقَدْ هُدِدْتَ لِفَقْدِ حَمْزَةَ هَدَّةً ظَلَّتْ بَنَاتُ الْجَوْفِ مِنْهَا تُرْعِدُ
وَلَوِ انَّهُ فُجِعَتْ حِرَاءُ بِمِثْلِهِ لَرَأَيْتَ رَاسِيَ صَخْرِهَا يَتَبَدَّدُ
قَرْمٌ تَمَكَّنَ فِي ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ حَيْثُ النُّبُوَّةُ وَالنَّدَى وَالسُّؤْدُدُ
وَالْعَاقِرُ الْكَوْمَ الْجِلَادَ إِذَا غَدَتْ رِيحٌ يَكَادُ الْمَاءُ مِنْهَا يَجْمُدُ
وَالتَّارِكُ الْقِرْنَ الْكَمِيَّ مُجَدَّلًا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ وَالْقَنَا يَتَقَصَّدُ
وَتَرَاهُ يَرْفُلُ فِي الْحَدِيدِ كَأَنَّهُ ذُو لِبْدَةٍ شَثْنُ الْبَرَاثِنِ أَرْبَدُ

عَمُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ وَصَفِيُّهُ وَرَدَ الْحِمَامَ فَطَابَ ذَاكَ الْمَوْرِدُ
وَأَتَى الْمَنِيَّةَ مُعْلِمًا فِي أُسْرَةٍ نَصَرُوا النَّبِيَّ وَمِنْهُمُ الْمُسْتَشْهِدُ
وَلَقَدْ إِخَالُ بِذَاكَ هِنْدًا بُشِّرَتْ لَتُمِيتَ دَاخِلَ غُصَّةٍ لَا تَبْرُدُ
مِمَّا صَبَحْنَا بِالْعَقَنْقَلِ قَوْمَهَا يَوْمًا تَغَيَّبَ فِيهِ عَنْهَا الْأَسْعَدُ
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا وَمُحَمَّدُ
حَتَّى رَأَيْتُ لَدَى النَّبِيِّ سَرَاتَهُمْ قِسْمَيْنِ يَقْتُلُ مَنْ يَشَاءُ وَيَطْرُدُ
فَأَقَامَ بِالْعَطَنِ الْمُعَطَّنِ مِنْهُمُ سَبْعُونَ عُتْبَةُ مِنْهُمُ وَالْأَسْوَدُ
وَابْنُ الْمُغِيرَةِ قَدْ ضَرَبْنَا ضَرْبَةً فَوْقَ الْوَرِيدِ لَهَا رَشَاشٌ مُزْبِدُ
وَأُمَيَّةُ الْجُمَحِيُّ قَوَّمَ مَيْلَهُ عَضْبٌ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ مُهَنَّدُ
فَأَتَاكَ فَلُّ الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُمْ وَالْخَيْلُ تُثْفِنُهُمْ نَعَامٌ شُرَّدُ
شَتَّانَ مَنْ هُوَ فِي جَهَنَّمَ ثَاوِيًا أَبَدًا وَمَنْ هُوَ فِي الْجِنَانِ مُخَلَّدُ

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَبْكِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْشَدَنِيهَا أَبُو زَيْدٍ، لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ:
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ
عَلَى أَسَدِ الْإِلَهِ غَدَاةَ قَالُوا أَحَمْزَةُ ذَاكُمُ الرَّجُلُ الْقَتِيلُ
أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعًا هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرَّسُولُ
أَبَا يَعْلَى لَكَ الْأَرْكَانُ هُدَّتْ وَأَنْتَ الْمَاجِدُ الْبَرُّ الْوُصُولُ
عَلَيْكَ سَلَامُ رَبِّكَ فِي جَنَانٍ مُخَالِطُهَا نَعِيمٌ لَا يَزُولُ
أَلَا يَا هَاشِمَ الْأَخْيَارِ صَبْرًا فَكُلُّ فِعَالِكُمْ حَسَنٌ جَمِيلُ
رَسُولُ اللَّهِ مُصْطَبِرٌ كَرِيمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ يَنْطِقُ إِذْ يَقُولُ
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لُؤَيًّا فَبَعْدَ الْيَوْمِ دَائِلَةٌ تَدُولُ
وَقُبَلَ الْيَوْمِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا وَقَائِعَنَا بِهَا يُشْفَى الْغَلِيلُ
نَسِيتُمْ ضَرْبَنَا بِقَلِيبِ بَدْرٍ غَدَاةَ أَتَاكُمُ الْمَوْتُ الْعُجَيْلُ
غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلٍ صَرِيعًا عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَائِمَةً تَجُولُ
وَعُتْبَةُ وَابْنُهُ خَرَّا جَمِيعًا وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ

وَمَتْرَكُنَا أُمَيَّةَ مُجْلَعِبًّا وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيلُ
وَهَامَ بَنِي رَبِيعَةَ سَائِلُوهَا فَفِي أَسْيَافِنَا مِنْهَا فُلُولُ
أَلَّا يَا هِنْدُ فَابْكِي لَا تَمَلِّي فَأَنْتِ الْوَالِهُ الْعَبْرَى الْهَبُولُ
أَلَا يَا هِنْدُ لَا تُبْدِي شَمَاتًا بِحَمْزَةَ إِنَّ عِزَّكُمُ ذَلِيلُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَبْكِي أَخَاهَا حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَهِيَ أُمُّ الزُّبَيْرِ عَمَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ:
أَسَائِلَةٌ أَصْحَابَ أُحْدٍ مَخَافَةً بَنَاتُ أَبِي مِنْ أَعْجَمٍ وَخَبِيرِ
فَقَالَ الْخَبِيرُ إِنَّ حَمْزَةَ قَدْ ثَوَى وَزِيرُ رَسُولِ اللَّهِ خَيْرُ وَزِيرِ
دَعَاهُ إِلَهُ الْحَقِّ ذُو الْعَرْشِ دَعْوَةً إِلَى جَنَّةٍ يَحْيَا بِهَا وَسُرُورِ
فَذَلِكَ مَا كُنَّا نُرَجِّي وَنَرْتَجِي لِحَمْزَةَ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ مَصِيرِ
فَوَاللَّهِ لَا أَنْسَاكَ مَا هَبَّتِ الصَّبَا بُكَاءً وَحُزْنًا مَحْضَرِي وَمَسِيرِي
عَلَى أَسَدِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ مِدْرَهَا يَذُودُ عَنِ الْإِسْلَامِ كُلَّ كَفُورِ

فَيَا لَيْتَ شِلْوِي عِنْدَ ذَاكَ وَأَعْظُمِي لَدَى أَضْبُعٍ تَعْتَادُنِي وَنُسُورِ
أَقُولُ وَقَدْ أَعْلَى النَّعِيُّ عَشِيرَتِي جَزَى اللَّهُ خَيْرًا مِنْ أَخٍ وَنَصِيرِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَتْ نُعْمُ امْرَأَةُ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ تَبْكِي زَوْجَهَا:
يَا عَيْنُ جُودِي بِفَيْضٍ غَيْرَ إِبْسَاسٍ عَلَى كِرِيمٍ مِنَ الْفِتْيَانِ لَبَّاسِ
صَعْبِ الْبَدِيهَةِ مَيْمُونٍ نَقِيبَتُهُ حَمَّالِ أَلْوِيَةٍ رَكَّابِ أَفْرَاسِ
أَقُولُ لَمَّا أَتَى النَّاعِي لَهُ جَزَعًا أَوْدَى الْجَوَادُ وَأَوْدَى الْمُطْعِمُ الْكَاسِي
وَقُلْتُ لَمَّا خَلَتْ مِنْهُ مَجَالِسُهُ لَا يُبْعِدُ اللَّهُ مِنَّا قُرْبَ شَمَّاسِ
قَالَ: فَأَجَابَهَا أَخُوهَا الْحَكَمُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ يُعَزِّيهَا فَقَالَ:
اقْنَيْ حَيَاءَكِ فِي سِتْرٍ وَفِي كَرَمٍ فَإِنَّمَا كَانَ شَمَّاسٌ مِنَ النَّاسِ
لَا تَقْتُلِي النَّفْسَ إِذْ حَانَتْ مَنِيَّتُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ يَوْمَ الرَّوْعِ وَالِبَاسِ

قَدْ كَانَ حَمْزَةُ لَيْثُ اللَّهِ فَاصْطَبِرِي فَذَاقَ يَوْمَئِذٍ مِنْ كَأْسِ شَمَّاسِ
وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ رَجَعُوا مِنْ أُحُدٍ:
رَجَعْتُ وَفِي نَفْسِي بَلَابِلُ جَمَّةٌ وَقَدْ فَاتَنِي بَعْضُ الَّذِي كَانَ مَطْلَبِي
مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْهُمْ وَمِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ
وَلَكِنَّنِي قَدْ نِلْتُ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ كَمَا كُنْتُ أَرْجُو فِي مَسِيرِي وَمَرْكَبِي
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي هَذَا أَشْعَارًا كَثِيرَةً، تَرَكْنَا كَثِيرًا مِنْهَا، خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَخَوْفَ الْمَلَالَةِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْأَمَوِيُّ فِي " مَغَازِيهِ " مِنَ الْأَشْعَارِ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ كَمَا جَرَتْ عَادَتُهُ، وَلَا سِيَّمَا هَاهُنَا، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: - فَاللَّهُ أَعْلَمُ -
طَاوَعُوا الشَّيْطَانَ إِذْ أَخْزَاهُمُ فَاسْتَبَانَ الْخِزْيُ فِيهِمْ وَالْفَشَلْ
حِينَ صَاحُوا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَالُوا اعْلُ هُبَلْ
فَأَجَبْنَاهُمْ جَمِيعًا كُلُّنَا رَبُّنَا الرَّحْمَنُ أَعْلَى وَأَجَلُّ
اثْبُتُوا نَسْقِيكُمُوهَا مُرَّةً مِنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ وَالْمَوْتُ نَهَلْ

وَاعْلَمُوا أَنَّا إِذَا مَا نُضِّجَتْ عَنْ حِيَالِ الْمَوْتِ قِدْرٌ تَشْتَعِلْ
وَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ قِطْعَةٌ مِنْ جَوَابِهِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى وَقْعَةِ أُحُدٍ
فَصْلٌ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْغَزَوَاتِ وَالسَّرَايَا، وَمِنْ أَشْهَرِهَا وَقْعَةُ أُحُدٍ وَكَانَتْ فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُهَا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا فِي أُحُدٍ تُوفِّيَ شَهِيدًا أَبُو يَعْلَى وَيُقَالُ: أَبُو عُمَارَةَ. أَيْضًا ; حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُلَقَّبُ بِأَسَدِ اللَّهِ وَأَسَدِ رَسُولِهِ، وَكَانَ رَضِيعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ أَرْضَعَتْهُمْ ثُوَيْبَةُ مَوْلَاةُ أَبِي لَهَبٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ الْخَمْسِينَ مِنَ السِّنِينَ يَوْمَ قُتِلَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْأَبْطَالِ، وَمِنَ الصَّدِّيقَيْنِ الْكِبَارِ، وَقُتِلَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ تَمَامُ السَّبْعِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: وُلِدَ لِيَعْلَى بْنِ حَمْزَةَ خَمْسَةُ بَنِينَ كُلُّهُمُ

انْقَرَضُوا. وَكَانَتْ لَهُ بِنْتٌ يُقَالُ لَهَا: عُمَارَةُ.
قُلْتُ: وَهِيَ الَّتِي تَنَاوَلَهَا عَلِيٌّ، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ: دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكَ. فَاخْتَصَمَ فِي حَضَانَتِهَا عَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرٌ فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا امْرَأَةِ جَعْفَرٍ. وَقَالَ:الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ.
وَفِيهَا عَقَدَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ وَفَاةِ أُخْتِهَا رُقْيَةَ، وَكَانَ عَقْدُهُ عَلَيْهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَبَنَى بِهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا، كَمَا تَقَدَّمَ، فِيمَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَفِيهَا، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وُلِدَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. قَالَ: وَفِيهَا عَلِقَتْ بِالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ سَرِيَّةُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ إِلَى طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيِّ فَانْتَهَى إِلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: قَطَنٌ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الْيَرْبُوعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ أُحُدًا، فَجُرِحَ جُرْحًا عَلَى عَضُدِهِ، فَأَقَامَ شَهْرًا يُدَاوَى، فَلَمَّا كَانَ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ عَلَى رَأْسِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اخْرُجْ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ، فَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَيْهَا. وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً، وَقَالَ:

سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ فَأَغِرْ عَلَيْهِمْ. وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا وَخَرَجَ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّرِيَّةِ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ، فَانْتَهَى إِلَى أَدْنَى قَطَنٍ وَهُوَ مَاءٌ لِبَنِي أَسَدٍ وَكَانَ هُنَاكَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ وَأَخُوهُ سَلَمَةُ ابْنَا خُوَيْلِدٍ، وَقَدْ جَمَعَا حُلَفَاءَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ لِيَقْصِدُوا حَرْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ، فَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا سَلَمَةَ فِي سَرِيَّتِهِ هَذِهِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى أَرْضِهِمْ، تَفَرَّقُوا وَتَرَكُوا نَعَمًا كَثِيرًا لَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، فَأَخَذَ ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو سَلَمَةَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ مَعَهُ ثَلَاثَةَ مَمَالِيكَ، وَأَقْبَلَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَعْطَى ذَلِكَ الرَّجُلَ الْأَسَدِيَّ الَّذِي دَلَّهُمْ نَصِيبًا وَافِرًا مِنَ الْغَنَمِ، وَأَخْرَجَ صَفِيَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; عَبْدًا، وَخَمَّسَ الْغَنِيمَةَ، وَقَسَّمَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كَانَ الَّذِي جُرِحَ أَبِي أَبُو أُسَامَةَ الْجُشْمِيُّ فَمَكَثَ شَهْرًا يُدَاوِيهِ، فَبَرَأَ، فِيمَا نَرَى، فَلَمَّا بَرَأَ وَبَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ - يَعْنِي مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ - إِلَى قَطَنٍ فَغَابَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ انْتَقَضَ بِهِ جُرْحُهُ، فَمَاتَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى

الْأُولَى. قَالَ عُمَرُ: وَاعْتَدَّتْ أُمِّي حَتَّى خَلَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، ثُمَّ تُزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ بِهَا فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ، فَكَانَتْ أُمِّي تَقُولُ: مَا بَأْسٌ بِالنِّكَاحِ فِي شَوَّالٍ وَالدُّخُولِ فِيهِ وَقَدْ تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَوَّالٍ وَأَعْرَسَ بِي فِيهِ. قَالَ: وَمَاتَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قُلْتُ: سَنَذْكُرُ فِي أَوَاخِرَ هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالِهَا تَزْوِيجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمِّ سَلَمَةَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ وِلَايَةِ الِابْنِ أُمَّهُ فِي النِّكَاحِ، وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.

غَزْوَةُ الرَّجِيعِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَتْ فِي صَفَرٍ - يَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ - بَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِيُخْبِرُوهُ. قَالَ: وَالرَّجِيعُ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ عُسْفَانَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ، وَهُوَ جَدُّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ. فَتَبِعُوهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، حَتَّى أَتَوْا مَنْزِلًا نَزَلُوهُ فَوَجَدُوا فِيهِ نَوَى تَمْرٍ تَزَوَّدُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا: هَذَا تَمْرُ يَثْرِبَ. فَتَبِعُوا آثَارَهُمْ حَتَّى لَحِقُوهُمْ، فَلَمَّا انْتَهَى عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ لَجَئُوا إِلَى فَدْفَدٍ، وَجَاءَ الْقَوْمُ فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَقَالُوا: لَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ إِنْ نَزَلْتُمْ

إِلَيْنَا ; أَلَّا نَقْتُلَ مِنْكُمْ رَجُلًا. فَقَالَ عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا رَسُولَكَ. فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى قَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةِ نَفَرٍ بِالنَّبْلِ، وَبَقِيَ خُبَيْبٌ، وَزَيْدٌ وَرَجُلٌ آخَرُ، فَأَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، فَلَمَّا أَعْطَوْهُمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ، نَزَلُوا إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ الَّذِي مَعَهُمَا: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ. فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ عَلَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ، وَزَيْدٍ حَتَّى بَاعُوهُمَا بِمَكَّةَ فَاشْتَرَى خُبَيْبًا بَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، اسْتَعَارَ مُوسًى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ. قَالَتْ: فَغَفَلْتُ عَنْ صَبِيٍّ لِي، فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَلِكَ مِنِّي، وَفِي يَدِهِ الْمُوسَى، فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ ؟ مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَكَانَتْ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قَطْفِ عِنَبٍ، وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ مِنْ ثَمَرِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِي الْحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ. فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ، فَقَالَ: دَعَونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَزِدْتُ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا. ثُمَّ قَالَ:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنَّ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
قَالَ: ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ ; لِيُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَبَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ، فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الَّذِي قَتَلَ خُبَيْبًا هُوَ أَبُو سِرْوَعَةَ. قُلْتُ: وَاسْمُهُ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقَدْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَهُ حَدِيثٌ فِي الرَّضَاعِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَبَا سِرْوَعَةَ، وَعُقْبَةَ أَخَوَانِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
هَكَذَا سَاقَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي مِنْ " صَحِيحِهِ " قِصَّةَ أَصْحَابِ

الرَّجِيعِ وَرَوَاهُ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ وَفِي الْجِهَادِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: عُمَرُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ. وَالْمَشْهُورُ عَمْرٌو. وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ:بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ رَهْطٍ سَرِيَّةً عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ وَسَاقَ نَحْوَهُ. وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ ابْنِ إِسْحَاقَ ; لِيُعَرَفَ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ إِمَامٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَغَيْرُ مُدَافَعٍ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِي فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أُحُدٍ رَهْطٌ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ، فَقَالُوا:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فِينَا إِسْلَامًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ يُفَقِّهُونَنَا فِي الدِّينِ، وَيُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ، وَيُعَلِّمُونَنَا شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ نَفَرًا سِتَّةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ حَلِيفُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ أَمِيرُ الْقَوْمِ - وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَدِيٍّ وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَخَبِيبُ بْنُ عَدِيٍّ أَخُو بَنِي جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ أَخُو بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرٍ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. هَكَذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ كَانُوا سِتَّةً، وَكَذَا ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَسَمَّاهُمْ كَمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا عَشَرَةً، وَعِنْدَهُ أَنَّ كَبِيرَهُمْ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ - مَاءٍ لِهُذَيْلٍ بِنَاحِيَةِ الْحِجَازِ مِنْ صُدُورِ الْهَدْأَةِ - غَدَرُوا بِهِمْ، فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلًا فَلَمْ يَرُعِ الْقَوْمَ - وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ - إِلَّا الرِّجَالُ بِأَيْدِيهِمِ السُّيُوفُ قَدْ غَشُوهُمْ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ لِيُقَاتِلُوا الْقَوْمَ، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ، وَلَكُنَّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بِكُمْ شَيْئًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَلَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ لَا نَقْتُلَكُمْ. فَأَمَّا مَرْثَدٌ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَعَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ مِنْ=التالي ج9.وج10.*

*=بمشيئة الله الواحد

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البشارة بالرسول محمد

الباب التاسع-البشارة بالرسول محمد  أقول في هذا الباب إن ثبت أن هناك نبوءات عن سيد ولد آدم محمد بن عبد الله رسول الله r في الكتاب المق...