ج3.وج4.البداية والنهاية للحافظ ابن كثير
ج3.البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
أَسَاوِرَ فِي يَدَيْهِ وَلَا زِينَةَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ حِلْيَةِ النِّسَاءِ، لَا يَلِيقُ بِشَهَامَةِ الرِّجَالِ، فَكَيْفَ بِالرُّسُلِ الَّذِينَ هُمْ أَكْمَلُ عَقْلًا، وَأَتَمُّ مَعْرِفَةٌ، وَأَعْلَى هِمَّةً، وَأَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا، وَأَعْلَمُ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْأُخْرَى. وَقَوْلُهُ: أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ لَا يَحْتَاجُ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنْ تُعَظِّمَهُ الْمَلَائِكَةُ. فَالْمَلَائِكَةُ يُعَظِّمُونَ وَيَتَوَاضَعُونَ لِمَنْ هُوَ دُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِكَثِيرٍ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ فَكَيْفَ يَكُونُ تَوَاضُعُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ لِمُوسَى الْكَلِيمِ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ وَالتَّكْرِيمُ؟ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، فَقَدْ أُيِّدَ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ بِمَا يَدُلُّ قَطْعًا لِذَوِي الْأَلْبَابِ، وَلِمَنْ قَصَدَ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَيَعْمَى عَمَّا جَاءَ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْحُجَجِ الْوَاضِحَاتِ، مَنْ نَظَرَ إِلَى الْقُشُورِ، وَتَرَكَ لُبَّ اللُّبَابِ، وَطَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ رَبُّ الْأَرْبَابِ، وَخَتَمِ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ، كَمَا هُوَ حَالُ فِرْعَوْنَ الْقِبْطِيِّ الْعَمِيِّ الْكَذَّابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ أَيْ; اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ، وَدَرَّجَهُمْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، إِلَى أَنْ صَدَّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ الرُّبُوبِيَّةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا أَيْ; أَغْضَبُونَا; انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ أَيْ; بِالْغَرَقِ وَالْإِهَانَةِ، وَسَلْبِ الْعِزِّ، وَالتَّبَدُّلِ بِالذُّلِّ وَبِالْعَذَابِ بَعْدَ النِّعْمَةِ، وَالْهَوَانِ بَعْدَ الرَّفَاهِيَةِ، وَالنَّارِ بَعْدَ طِيبِ الْعَيْشِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنْ ذَلِكَ، فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا أَيْ; لِمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِي الصِّفَاتِ، وَمَثَلًا أَيْ; لِمَنِ اتَّعَظَ بِهِمْ، وَخَافَ مِنْ وَبِيلِ
مَصْرَعِهِمْ، مِمَّنْ بَلَغَهُ جَلِيَّةُ خَبَرِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ; كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ [ الْقَصَصِ: 36 - 42 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَمَّا اسْتَكْبَرُوا عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَادَّعَى مِلْكُهُمُ الْبَاطِلَ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، وَأَطَاعُوهُ فِيهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ الْقَدِيرِ الْعَزِيزِ، الَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ، عَلَيْهِمْ، فَانْتَقَمَ مِنْهُمْ أَشَدَّ الِانْتِقَامِ، وَأَغْرَقَهُ هُوَ وَجُنُودَهُ فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ دَيَّارٌ، بَلْ كَانَ قَدْ غَرِقَ، فَدَخَلَ النَّارَ، وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدَّارِ لَعْنَةً بَيْنَ الْعَالَمِينَ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ.
ذِكْرُ هَلَاكِ
فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ
لَمَّا تَمَادَى قِبْطُ مِصْرَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَعُتُوِّهِمْ، وَعِنَادِهِمْ،
مُتَابَعَةً لِمَلِكِهِمْ فِرْعَوْنَ، وَمُخَالَفَةً لِنَبِيِّ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَكَلِيمِهِ، مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَقَامَ
اللَّهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ الْحُجَجَ الْعَظِيمَةَ الْقَاهِرَةَ وَأَرَاهُمْ
مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مَا بَهَرَ الْأَبْصَارَ وَحَيَّرَ الْعُقُولَ، وَهُمْ
مَعَ ذَلِكَ لَا يَرْعَوُونَ، وَلَا يَنْتَهُونَ، وَلَا يَنْزِعُونَ، وَلَا
يَرْجِعُونَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، قِيلَ: ثَلَاثَةٌ;
وَهُمُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَا عِلْمَ لِأَهْلِ الْكِتَابِ بِخَبَرِهَا،
وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، الَّذِي تَقَدَّمَ حِكَايَةُ مَوْعِظَتِهِ،
وَمَشُورَتِهِ، وَحُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، وَالرَّجُلُ النَّاصِحُ، الَّذِي جَاءَ
يَسْعَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ
يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ. وَمُرَادُهُ
غَيْرُ السَّحَرَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْقِبْطِ. وَقِيلَ: بَلْ آمَنَ
بِهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْقِبْطِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَالسَّحَرَةُ كُلُّهُمْ،
وَجَمِيعُ شَعْبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي
الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [ يُونُسَ: 83 ]. فَالضَّمِيرُ فِي
قَوْلِهِ: إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَائِدٌ عَلَى فِرْعَوْنَ;
لِأَنَّ السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: عَلَى مُوسَى; لِقُرْبِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي " التَّفْسِيرِ ". وَإِيمَانُهُمْ كَانَ خُفْيَةً; لِمَخَافَتِهِمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَسَطْوَتِهِ، وَجَبَرُوتِهِ وَسُلْطَتِهِ، وَمِنْ مَلَئِهِمْ أَنْ يَنِمُّوا عَلَيْهِمْ إِلَيْهِ، فَيَفْتِنَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ أَيْ; جَبَّارٌ، عَنِيدٌ، مُسْتَعْلٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أَيْ; فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ وَشُئُونِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَلَكِنَّهُ جُرْثُومَةٌ قَدْ حَانَ انْجِعَافُهَا، وَثَمَرَةٌ خَبِيثَةٌ قَدْ آنَ قِطَافُهَا، وَمُهْجَةٌ مَلْعُونَةٌ قَدْ حُتِمَ إِتْلَافُهَا. وَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ يُونُسَ 84 - 86 ]. يَأْمُرُهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ، فَأْتَمَرُوا بِذَلِكَ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَنْ يَتَّخِذُوا لِقَوْمِهِمَا بُيُوتًا مُتَمَيِّزَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ عَنْ بُيُوتِ الْقِبْطِ; لِيَكُونُوا عَلَى أُهْبَةٍ مِنَ الرَّحِيلِ، إِذَا أَمَرُوا بِهِ، لِيَعْرِفَ بَعْضُهُمْ بُيُوتَ بَعْضٍ. وَقَوْلُهُ: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قِيلَ: مَسَاجِدَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَثْرَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرُهُمْ.
وَمَعْنَاهُ عَلَى
هَذَا الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، وَالشِّدَّةِ،
وَالضِّيقِ، بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ الْبَقَرَةِ:
45 ]. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ
أَمْرٌ صَلَّى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا حِينَئِذٍ
يَقْدِرُونَ عَلَى إِظْهَارِ عِبَادَتِهِمْ فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ،
وَمَعَابِدِهِمْ، فَأُمِرُوا أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ، عِوَضًا عَمَّا
فَاتَهُمْ مِنْ إِظْهَارِ شِعَارِ الدِّينِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ،
الَّذِي اقْتَضَى حَالُهُمْ إِخْفَاءَهُ; خَوْفًا مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.
وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَقْوَى; لِقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ
كَانَ لَا يُنَافِي الثَّانِيَ أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أَيْ; مُتَقَابِلَةً.
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا
يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ
دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا
يَعْلَمُونَ [ يُونُسَ 88 - 89 ]. هَذِهِ دَعْوَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعَا بِهَا كَلِيمُ
اللَّهِ مُوسَى، عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ فِرْعَوْنَ; غَضَبًا لِلَّهِ عَلَيْهِ،
لِتَكَبُّرِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَصَدِّهِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ،
وَمُعَانَدَتِهِ، وَعُتُوِّهِ، وَتَمَرُّدِهِ، وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ،
وَمُكَابَرَتِهِ الْحَقَّ الْوَاضِحَ الْجَلِيَّ الْحِسِّيَّ وَالْمَعْنَوِيَّ،
وَالْبُرْهَانَ الْقَطْعِيَّ، فَقَالَ: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ
وَمَلَأَهُ يَعْنِي: قَوْمَهُ مِنَ الْقِبْطِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِلَّتِهِ،
وَدَانَ بِدِينِهِ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ
أَيْ; وَهَذَا يَغْتَرُّ بِهِ مَنْ يُعَظِّمُ أَمْرَ الدُّنْيَا، فَيَحْسَبُ الْجَاهِلُ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ; لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ، وَهَذِهِ الزِّينَةِ; مِنَ اللِّبَاسِ، وَالْمَرَاكِبِ الْحَسَنَةِ الْهَنِيَّةِ، وَالدُّورِ الْأَنِيقَةِ، وَالْقُصُورِ الْمَبْنِيَّةِ، وَالْمَآكِلِ الشَّهِيَّةِ، وَالْمَنَاظِرِ الْبَهِيَّةِ، وَالْمُلْكِ الْعَزِيزِ، وَالتَّمْكِينِ، وَالْجَاهِ الْعَرِيضِ، فِي الدُّنْيَا لَا الدِّينِ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. أَيْ; أَهْلِكْهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ: اجْعَلْهَا حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَةِ مَا كَانَتْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ زُرُوعَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ حِجَارَةً. وَقَالَ أَيْضًا: صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا حِجَارَةً. ذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِغُلَامٍ لَهُ: ائْتِنِي بِكِيسٍ. فَجَاءَهُ بِكِيسٍ، فَإِذَا فِيهِ.... وَبَيْضٌ قَدْ قُطِّعَ، قَدْ حُوِّلَ حِجَارَةً. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَوْلُهُ: وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ; اطْبَعْ عَلَيْهَا. وَهَذِهِ دَعْوَةُ غَضَبٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِدِينِهِ، وَلِبَرَاهِينِهِ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا، وَحَقَّقَهَا وَتَقَبَّلَهَا; كَمَا اسْتَجَابَ لِنُوحٍ فِي قَوْمِهِ، حَيْثُ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى، مُخَاطِبًا لِمُوسَى حِينَ دَعَا عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَأَمَّنَ أَخُوهُ هَارُونُ عَلَى دُعَائِهِ، فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الدَّاعِي أَيْضًا:
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: اسْتَأْذَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرْعَوْنَ، فِي الْخُرُوجِ إِلَى عِيدٍ لَهُمْ، فَأَذِنَ لَهُمْ وَهُوَ كَارِهٌ، وَلَكِنَّهُمْ تَجَهَّزُوا لِلْخُرُوجِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَكِيدَةٌ بِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ; لِيَتَخَلَّصُوا مِنْهُمْ، وَيَخْرُجُوا عَنْهُمْ، وَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ - أَنْ يَسْتَعِيرُوا حُلِيًّا مِنْهُمْ، فَأَعَارُوهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا، فَخَرَجُوا بِلَيْلٍ فَسَارُوا مُسْتَمِرِّينَ ذَاهِبِينَ مِنْ فَوْرِهِمْ طَالِبِينَ بِلَادَ الشَّامِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَهَابِهِمْ فِرْعَوْنُ، حَنِقَ عَلَيْهِمْ كُلَّ الْحَنَقِ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَشَرَعَ فِي اسْتِحْثَاثِ جَيْشِهِ، وَجَمْعِ جُنُودِهِ لِيَلْحَقَهُمْ، وَيَمْحَقَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [ الشُّعَرَاءِ: 52 - 68 ]. قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا رَكِبَ فِرْعَوْنُ فِي جُنُودِهِ، طَالِبًا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقْفُو أَثَرَهُمْ، كَانَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمْرَمٍ،
حَتَّى قِيلَ: كَانَ
فِي خُيُولِهِ مِائَةُ أَلْفِ فَحْلٍ أَدْهَمَ. وَكَانَتْ عِدَّةُ جُنُودِهِ
تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ، وَسِتِّمِائَةِ أَلْفٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ
مُقَاتِلٍ غَيْرَ الذُّرِّيَّةِ، وَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ صُحْبَةَ
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَدُخُولِهِمْ إِلَيْهَا صُحْبَةَ أَبِيهِمْ
إِسْرَائِيلَ، أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً شَمْسِيَّةً.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَحِقَهُمْ بِالْجُنُودِ، فَأَدْرَكَهُمْ عِنْدَ
شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَتَرَاءَى الْجَمْعَانِ، وَلَمْ يَبْقَ ثَمَّ رَيْبٌ، وَلَا
لَبْسٌ، وَعَايَنَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ، وَتَحَقَّقَهُ وَرَآهُ،
وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمُقَاتَلَةُ، وَالْمُجَاوَلَةُ، وَالْمُحَامَاةُ، فَعِنْدَهَا
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى، وَهُمْ خَائِفُونَ: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ وَذَلِكَ
لِأَنَّهُمُ اضْطُرُّوا فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى الْبَحْرِ، فَلَيْسَ لَهُمْ طَرِيقٌ
وَلَا مَحِيدٌ إِلَّا سُلُوكُهُ وَخَوْضُهُ، وَهَذَا مَا لَا يَسْتَطِيعُهُ أَحَدٌ
وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَالْجِبَالُ عَنْ يَسْرَتِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ،
وَهِيَ شَاهِقَةٌ مُنِيفَةٌ، وَفِرْعَوْنُ قَدْ غَالَقَهُمْ وَوَاجَهَهُمْ،
وَعَايَنُوهُ فِي جُنُودِهِ وَجُيُوشِهِ وَعَدَدِهِ وَعُدَدِهِ، وَهُمْ مِنْهُ فِي
غَايَةِ الْخَوْفِ وَالذُّعْرِ، لِمَا قَاسَوْا فِي سُلْطَانِهِ مِنَ الْإِهَانَةِ
وَالنُّكْرِ، فَشَكَوْا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ مَا هُمْ فِيهِ، مِمَّا قَدْ
شَاهَدُوهُ وَعَايَنُوهُ، فَقَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ:
كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ وَكَانَ فِي السَّاقَةِ، فَتَقَدَّمَ
إِلَى الْمُقَدِّمَةِ، وَنَظَرَ إِلَى الْبَحْرِ، وَهُوَ يَتَلَاطَمُ
بِأَمْوَاجِهِ، وَيَتَزَايَدُ زَبَدُ أُجَاجِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: هَاهُنَا
أُمِرْتُ. وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ; وَيُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٌ
مِنْ سَادَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعُلَمَائِهِمْ،
وَعُبَّادِهِمُ الْكِبَارِ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَهُ نَبِيًّا بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعَهُمْ أَيْضًا مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ وُقُوفٌ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِكَمَالِهِمْ عَلَيْهِمْ عُكُوفٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ جَعَلَ يَقْتَحِمُ بِفَرَسِهِ مِرَارًا فِي الْبَحْرِ، هَلْ يُمْكِنُ سُلُوكُهُ؟ فَلَا يُمْكِنُ، وَيَقُولُ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَهَاهُنَا أُمِرْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَضَاقَ الْحَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، وَاقْتَرَبَ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ فِي جِدِّهِمْ، وَحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِمْ، وَغَضَبِهِمْ، وَحَنَقِهِمْ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَوْحَى الْحَلِيمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ إِلَى مُوسَى الْكَلِيمِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَلَمَّا ضَرَبَهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَالَ لَهُ: انْفَلِقْ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَنَّاهُ بِأَبِي خَالِدٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ انْفَلَقَ اثْنَيْ عَشْرَةَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ يَسِيرُونَ فِيهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ صَارَ أَيْضًا شَبَابِيكَ; لِيَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَفِي هَذَا نَظَرٌ; لِأَنَّ الْمَاءَ جِرْمٌ شَفَّافٌ، إِذَا كَانَ مِنْ وَرَائِهِ ضِيَاءٌ حَكَاهُ. وَهَكَذَا كَانَ مَاءُ الْبَحْرِ قَائِمًا مِثْلَ الْجِبَالِ مَكْفُوفًا بِالْقُدْرَةِ الْعَظِيمَةِ الصَّادِرَةِ عَنِ الَّذِي يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ. فَيَكُونُ. وَأَمَرَ اللَّهُ رِيحَ الدَّبُورِ فَلَفَحَتْ حَالَ الْبَحْرِ، فَأَذْهَبَتْهُ حَتَّى صَارَ يَابِسًا لَا يَعْلَقُ فِي سَنَابِكِ الْخُيُولِ وَالدَّوَابِّ.
قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ
لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [ طه: 77 - 79 ]. وَالْمَقْصُودُ
أَنَّهُ لَمَّا آلَ أَمْرُ الْبَحْرِ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، بِإِذْنِ الرَّبِّ
الْعَظِيمِ الشَّدِيدِ الْمِحَالِ، أُمِرَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ
يَجُوزَهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَانْحَدَرُوا فِيهِ مُسْرِعِينَ،
مُسْتَبْشِرِينَ، مُبَادِرِينَ، وَقَدْ شَاهَدُوا مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ مَا
يُحَيِّرُ النَّاظِرِينَ، وَيَهْدِي قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا جَاوَزُوهُ،
وَجَاوَزَهُ، وَخَرَجَ آخِرُهُمْ مِنْهُ، وَانْفَصَلُوا عَنْهُ، كَانَ ذَلِكَ
عِنْدَ قُدُومِ أَوَّلِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ إِلَيْهِ، وَوُفُودِهِمْ عَلَيْهِ،
فَأَرَادَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ
لِيَرْجِعَ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ; لِئَلَّا يَكُونَ لِفِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ
وَصُولٌ إِلَيْهِ، وَلَا سَبِيلٌ عَلَيْهِ، فَأَمَرَهُ الْقَدِيرُ ذُو الْجَلَالِ،
أَنَّ يَتْرُكَ الْبَحْرَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، كَمَا قَالَ، وَهُوَ الصَّادِقُ
فِي الْمَقَالِ.
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ
أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لَا
تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ وَإِنِّي عُذْتُ
بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ
كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ
عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ
عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ [
الدُّخَانِ: 17 - 33 ].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا أَيْ; سَاكِنًا عَلَى هَيْئَتِهِ، لَا تُغَيِّرْهُ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالرَّبِيعُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُمْ. فَلَمَّا تَرَكَهُ عَلَى هَيْئَتِهِ وَحَالَتِهِ، وَانْتَهَى فِرْعَوْنُ، فَرَأَى مَا رَأَى، وَعَايَنَ مَا عَايَنَ، هَالَهُ هَذَا الْمَنْظَرُ الْعَظِيمُ وَتَحَقَّقَ مَا كَانَ يَتَحَقَّقُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ رَبِّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ، فَأَحْجَمَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ، وَنَدِمَ فِي نَفْسِهِ عَلَى خُرُوجِهِ فِي طَلَبِهِمْ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ، لَكِنَّهُ أَظْهَرَ لِجُنُودِهِ تَجَلُّدًا، وَعَامَلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْعِدَا، وَحَمَلَتْهُ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ وَالسَّجِيَّةُ الْفَاجِرَةُ، عَلَى أَنْ قَالَ لِمَنِ اسْتَخَفَّهُمْ فَأَطَاعُوهُ، وَعَلَى بَاطِلِهِ تَابَعُوهُ: انْظُرُوا كَيْفَ انْحَسَرَ الْبَحْرُ لِي; لِأُدْرِكَ عَبِيدِي الْآبِقِينَ مِنْ يَدِي، الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي وَبَلَدِي؟ وَجَعَلَ يُورِي فِي نَفْسِهِ أَنْ يَذْهَبَ خَلْفَهُمْ، وَيَرْجُو أَنْ يَنْجُوَ وَهَيْهَاتَ، وَيُقْدِمُ تَارَةً، وَيُحْجِمُ تَارَاتٍ. فَذَكَرُوا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَبَدَّى فِي صُورَةِ فَارِسٍ، رَاكِبٍ عَلَى رَمَكَةِ حَائِلٍ، فَمَرَّ بَيْنَ يَدَيْ فَحْلِ فِرْعَوْنَ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَحَمْحَمَ إِلَيْهَا، وَأَقْبَلَ عَلَيْهَا، وَأَسْرَعَ جِبْرِيلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاقْتَحَمَ الْبَحْرَ، وَاسْتَبَقَ الْجَوَادَ، وَقَدْ أَجَادَ فَبَادَرَ مُسْرِعًا، هَذَا وَفِرْعَوْنُ لَا يَمْلِكُ
مِنْ نَفْسِهِ
وَلَا لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فَلَمَّا رَأَتْهُ الْجُنُودُ قَدْ سَلَكَ
الْبَحْرَ، اقْتَحَمُوا وَرَاءَهُ مُسْرِعِينَ، فَحَصَلُوا فِي الْبَحْرِ
أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْصَعِينَ، حَتَّى هَمَّ أَوَّلُهُمْ بِالْخُرُوجِ
مِنْهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَلِيمَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ،
فَضَرَبَهُ، فَارْتَطَمَ عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا كَانَ، فَلَمْ يَنْجُ
مِنْهُمْ إِنْسَانٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ
أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أَيْ فِي
إِنْجَائِهِ أَوْلِيَاءَهُ فَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِغْرَاقِهِ
أَعْدَاءَهُ، فَلَمْ يَخْلُصْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، آيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبُرْهَانٌ
قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى الْعَظِيمَةِ، وَصِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ
بِهِ عَنْ رَبِّهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْمَنَاهِجِ
الْمُسْتَقِيمَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ
الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [ يُونُسَ: 90
- 92 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى، عَنْ كَيْفِيَّةِ غَرَقِ فِرْعَوْنَ، زَعِيمِ كَفَرَةِ
الْقِبْطِ، وَأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَتِ الْأَمْوَاجُ تَخْفِضُهُ تَارَةً،
وَتَرْفَعُهُ أُخْرَى، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَإِلَى
جُنُودِهِ، مَاذَا أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ وَبِهِمْ مِنَ الْبَأْسِ الْعَظِيمِ
وَالْخَطْبِ الْجَسِيمِ، لِيَكُونَ أَقَرَّ لِأَعْيُنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَأَشْفَى لِنُفُوسِهِمْ، فَلَمَّا عَايَنَ فِرْعَوْنُ الْهَلَكَةَ وَأُحِيطَ
بِهِ، وَبَاشَرَ سَكَرَاتِ
الْمَوْتِ، أَنَابَ
حِينَئِذٍ وَتَابَ، وَآمَنَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا; كَمَا قَالَ
تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ يُونُسَ:
96، 97 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غَافِرٍ: 84، 85 ].
وَهَكَذَا دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، أَنْ يُطْمَسَ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ، وَيُشْدَدَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ أَيْ; حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ، وَيَكُونُ حَسْرَةً
عَلَيْهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَهُمَا; أَيْ لِمُوسَى وَهَارُونَ، حِينَ
دَعَوْا بِهَذَا: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَهَذَا مِنْ إِجَابَةِ اللَّهِ
تَعَالَى دَعْوَةَ كَلِيمِهِ وَأَخِيهِ هَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَمِنْ ذَلِكَ، الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ: آمَنْتُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالَ: قَالَ
لِي جِبْرِيلُ: لَوْ رَأَيْتَنِي وَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ
فَدَسَسْتُهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ الرَّحْمَةُ وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ، وَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عِنْدَ هَذِهِ
الْآيَةِ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ.
وَقَالَ أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ وَعَطَاءِ
بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: لَوْ
رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخِذٌ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فَمِ فِرْعَوْنَ;
مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَ ابْنُ
جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.
وَأَشَارَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي رِوَايَةٍ إِلَى وَقْفِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى
الثَّقَفِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا
أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ وَرَفَعَ صَوْتَهُ: آمَنْتُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالَ:
فَخَافَ جِبْرِيلُ أَنْ تَسْبِقَ رَحْمَةُ اللَّهِ فِيهِ غَضَبَهُ، فَجَعَلَ
يَأْخُذُ الْحَالَ بِجَنَاحَيْهِ، فَيَضْرِبُ بِهِ وَجْهَهُ فَيَرْمُسُهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ بِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ
جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ زَاذَانَ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، عَنْ أَبِي
حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، لَوْ رَأَيْتَنِي، وَأَنَا
أُغَطُّهُ، وَأَدُسُّ مِنَ الْحَالِ فِي فِيهِ، مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ
رَحْمَةُ; اللَّهِ فَيَغْفِرَ لَهُ يَعْنِي
فِرْعَوْنَ. وَقَدْ أَرْسَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ; كَإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، وَيُقَالُ إِنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ خَطَبَ بِهِ النَّاسَ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِنَّ جِبْرِيلَ قَالَ: مَا بَغَضْتُ أَحَدًا بُغْضِي لِفِرْعَوْنَ، حِينَ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى. وَلَقَدْ جَعَلْتُ أَدُسُّ فِي فِيهِ الطِّينَ حِينَ قَالَ مَا قَالَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَنَصٌّ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ تَعَالَى مِنْهُ; ذَلِكَ لِأَنَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لَوْ رُدَّ إِلَى الدُّنْيَا كَمَا كَانَ، لَعَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ، إِذَا عَايَنُوا النَّارَ وَشَاهَدُوهَا، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَنْعَامِ: 27 ]. قَالَ اللَّهُ: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ الْأَنْعَامِ: 28 ]. وَقَوْلُهُ: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: شَكَّ بَعْضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَوْتِ فِرْعَوْنَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَمُوتُ. فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ، فَرَفَعَهُ عَلَى مُرْتَفَعٍ - قِيلَ: عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ. وَقِيلَ: عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ - وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا مِنْ مَلَابِسِهِ; لِيَتَحَقَّقُوا بِذَلِكَ هَلَاكَهُ، وَيَعْلَمُوا قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ; وَلِهَذَا قَالَ: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أَيْ; مُصَاحِبًا دِرْعَكَ الْمَعْرُوفَةَ بِكَ لِتَكُونَ أَيْ; أَنْتَ آيَةً لِمَنْ خَلْفَكَ أَيْ; مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دَلِيلًا عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ الَّذِي أَهْلَكَهُ. وَلِهَذَا قَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ: ( لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً ). وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: نُنَجِّيكَ مُصَاحِبًا دِرْعَكَ; لِيَكُونَ دِرْعُكَ عَلَامَةً لِمَنْ
وَرَاءَكَ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى مَعْرِفَتِكَ، وَأَنَّكَ هَلَكْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ هَلَاكُهُ وَجُنُودِهِ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَصُومُ
يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى
مِنْهُمْ فَصُومُوا وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "
وَغَيْرِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا
الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ
وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ
الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا
مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي
ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [ الْأَعْرَافِ: 136 - 141 ]. يَذْكُرُ
تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ، فِي غَرَقِهِمْ، وَكَيْفَ
سَلَبَهُمْ عِزَّهُمْ، وَمَالَهُمْ، وَأَنْفُسَهُمْ، وَأَوْرَثَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، كَمَا قَالَ: كَذَلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ الشُّعَرَاءِ: 59 ]. وَقَالَ: وَنُرِيدُ
أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [ الْقَصَصِ: 5 ].
وَقَالَ هَاهُنَا:
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ
وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ أَيْ: أَهْلَكَ ذَلِكَ
جَمِيعَهُ، وَسَلَبَهُمْ عِزَّهُمُ الْعَزِيزَ الْعَرِيضَ فِي الدُّنْيَا،
وَهَلَكَ الْمَلِكُ وَحَاشِيَتُهُ، وَأُمَرَاؤُهُ، وَجُنُودُهُ، وَلَمْ يَبْقَ
بِبَلَدِ مِصْرَ سِوَى الْعَامَّةِ وَالرَّعَايَا. فَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ
الْحَكَمِ، فِي " تَارِيخِ مِصْرَ "، أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ
تَسَلَّطَ نِسَاءُ مِصْرَ عَلَى رِجَالِهَا; بِسَبَبِ أَنَّ نِسَاءَ الْأُمَرَاءِ
وَالْكُبَرَاءِ تَزَوَّجْنَ بِمَنْ دُونَهُنَّ مِنَ الْعَامَّةِ فَكَانَتْ لَهُنَّ
السَّطْوَةُ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَرَّتْ هَذِهِ سُنَّةَ نِسَاءِ مِصْرَ إِلَى
يَوْمِكَ هَذَا.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا أُمِرُوا
بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّهْرَ أَوَّلَ سَنَتِهِمْ،
وَأُمِرُوا أَنْ يَذْبَحَ كُلُّ أَهْلِ بَيْتٍ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ
كَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى حَمَلٍ، فَلْيَشْتَرِكِ الْجَارُ وَجَارُهُ فِيهِ،
فَإِذَا ذَبَحُوهُ فَلْيَنْضَحُوا مِنْ دَمِهِ عَلَى أَعْتَابِ أَبْوَابِهِمْ;
لِيَكُونَ عَلَّامَةً لَهُمْ عَلَى بُيُوتِهِمْ، وَلَا يَأْكُلُونَهُ مَطْبُوخًا،
وَلَكِنْ مَشْوِيًّا بِرَأْسِهِ، وَأَكَارِعِهِ، وَبَطْنِهِ، وَلَا يُبْقُوا مِنْهُ
شَيْئًا، وَلَا يَكْسِرُوا لَهُ عَظْمًا، وَلَا يُخْرِجُوا مِنْهُ شَيْئًا إِلَى
خَارِجِ بُيُوتِهِمْ، وَلْيَكُنْ خُبْزُهُمْ فَطِيرًا سَبْعَةَ أَيَّامٍ
ابْتِدَاؤُهَا مِنَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَتِهِمْ،
وَكَانَ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الرَّبِيعِ، فَإِذَا أَكَلُوا، فَلْتَكُنْ
أَوْسَاطُهُمْ مَشْدُودَةً، وَخِفَافُهُمْ فِي أَرْجُلِهِمْ، وَعِصِيُّهُمْ فِي
أَيْدِيهِمْ، وَلْيَأْكُلُوا بِسُرْعَةٍ قِيَامًا، وَمَهْمَا فَضَلَ عَنْ
عَشَائِهِمْ، فَمَا بَقِيَ إِلَى الْغَدِ فَلْيَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ، وَشَرَعَ لَهُمْ هَذَا عِيدًا لِأَعْقَابِهِمْ، مَا دَامَتِ التَّوْرَاةُ مَعْمُولًا بِهَا، فَإِذَا نُسِخَتْ بَطَلَ شَرْعُهَا، وَقَدْ وَقَعَ. قَالُوا: وَقَتَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَبْكَارَ الْقِبْطِ، وَأَبْكَارَ دَوَابِّهِمْ، لِيَشْتَغِلُوا عَنْهُمْ وَخَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ انْتَصَفَ النَّهَارُ، وَأَهَّلُ مِصْرَ فِي مَنَاحَةٍ عَظِيمَةٍ، عَلَى أَبْكَارِ أَوْلَادِهِمْ، وَأَبْكَارِ أَمْوَالِهِمْ، لَيْسَ مِنْ بَيْتٍ إِلَّا وَفِيهِ عَوِيلٌ. وَحِينَ جَاءَ الْوَحْيُ إِلَى مُوسَى، خَرَجُوا مُسْرِعِينَ، فَحَمَلُوا الْعَجِينَ قَبْلَ اخْتِمَارِهِ، وَحَمَلُوا الْأَزْوَادَ فِي الْأَرْدِيَةِ، وَأَلْقَوْهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَكَانُوا قَدِ اسْتَعَارُوا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ حُلِيًّا كَثِيرًا، فَخَرَجُوا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ رَجُلٍ، سِوَى الذَّرَّارِيِّ، بِمَا مَعَهُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُقَامِهِمْ بِمِصْرَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمْ. وَهَذِهِ السَّنَةُ عِنْدَهُمْ تُسَمَّى سَنَةَ الْفَسْخِ وَهَذَا الْعِيدُ عِيدُ الْفَسْخِ، وَلَهُمْ عِيدُ الْفَطِيرِ وَعِيدُ الْحَمَلِ، وَهُوَ أَوَّلُ السَّنَةِ. وَهَذِهِ الْأَعْيَادُ الثَّلَاثَةُ آكَدُ أَعْيَادِهِمْ، مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي كِتَابِهِمْ. وَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ أَخْرَجُوا مَعَهُمْ تَابُوتَ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَخَرَجُوا عَلَى طَرِيقِ بَحْرِ سُوفَ. وَكَانُوا فِي النَّهَارِ يَسِيرُونَ وَالسَّحَابُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يَسِيرُ أَمَامَهُمْ، فِيهِ عَامُودُ نُورٍ، وَبِاللَّيْلِ أَمَامَهُمْ عَامُودُ نَارٍ، فَانْتَهَى بِهِمُ الطَّرِيقُ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَنَزَلُوا هُنَالِكَ، وَأَدْرَكَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُمْ هُنَاكَ حُلُولٌ عَلَى شَاطِئِ الْيَمِّ، فَقَلِقَ كَثِيرٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: كَانَ بَقَاؤُنَا بِمِصْرَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنَ الْمَوْتِ بِهَذِهِ الْبَرِّيَّةِ. وَقَالَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ: لَا
تَخْشَوْا فَإِنَّ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى بَلَدِهِمْ بَعْدَ هَذَا. قَالُوا: وَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، وَأَنْ يَقْسِمَهُ; لِيَدْخُلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْبَحْرِ وَالْيَبَسِ. وَصَارَ الْمَاءُ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا كَالْجَبَلَيْنِ وَصَارَ وَسَطُهُ يَبَسًا; لِأَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِ رِيحَ الْجَنُوبِ وَالسَّمُومِ، فَجَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ، وَأَتْبَعُهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوهُ، أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، فَرَجَعَ الْمَاءُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ. لَكِنَّ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّ هَذَا كَانَ فِي اللَّيْلِ، وَأَنَّ الْبَحْرَ ارْتَطَمَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الصُّبْحِ، وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ، وَعَدَمِ فَهْمِهِمْ فِي تَعْرِيبِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَلَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ، حِينَئِذٍ سَبَّحَ مُوسَى وَبَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَذَا التَّسْبِيحِ لِلرَّبِّ، وَقَالُوا: نُسَبِّحُ الرَّبَّ الْبَهِيَّ الَّذِي قَهَرَ الْجُنُودَ، وَنَبَذَ فُرْسَانَهَا فِي الْبَحْرِ الْمَنِيعِ الْمَحْمُودِ. وَهُوَ تَسْبِيحٌ طَوِيلٌ. قَالُوا: وَأَخَذَتْ مَرْيَمُ النَّبِيَّةُ، أُخْتُ هَارُونَ دُفًّا بِيَدِهَا، وَخَرَجَ النِّسَاءُ فِي أَثَرِهَا، كُلُّهُنَّ بِدُفُوفٍ وَطُبُولٍ، وَجَعَلَتْ مَرْيَمُ تُرَتِّلُ لَهُنَّ وَتَقُولُ: سُبْحَانَ الرَّبِّ الْقَهَّارِ، الَّذِي قَهَرَ الْخُيُولَ وَرُكْبَانَهَا، إِلْقَاءً فِي الْبَحْرِ. هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِمْ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مِنَ الَّذِي حَمَلَ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ عَلَى زَعْمِهِ أَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، أُمَّ عِيسَى، هِيَ أُخْتُ هَارُونَ وَمُوسَى، مَعَ قَوْلِهِ: يَا أُخْتَ هَارُونَ وَقَدْ بَيَّنَّا غَلَطَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ، وَلَمْ يُتَابِعْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ خَالَفَهُ فِيهِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا مَحْفُوظٌ، فَهَذِهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأُمُّ عِيسَى عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَافَقَتْهَا فِي
الِاسْمِ، وَاسْمِ
الْأَبِ، وَاسْمِ الْأَخِ; لِأَنَّهُمْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَمَّا سَأَلَهُ أَهْلُ
نَجْرَانَ، عَنْ قَوْلِهِ: يَا أُخْتَ هَارُونَ فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ لَهُمْ،
حَتَّى سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ
أَنْبِيَائِهِمْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُمْ: النَّبِيَّةُ. كَمَا يُقَالُ
لِلْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ: مَلِكَةٌ. وَمِنْ بَيْتِ الْإِمْرَةِ:
أَمِيرَةٌ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُبَاشِرَةً شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَكَذَا هَذِهِ
اسْتِعَارَةٌ لَهَا، لَا أَنَّهَا نَبِيَّةٌ حَقِيقَةً يُوحَى إِلَيْهَا.
وَضَرْبُهَا بِالدُّفِّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ - الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ
الْأَعْيَادِ عِنْدَهُمْ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ شَرْعُ مَنْ
قَبْلَنَا ضَرْبَ الدُّفِّ فِي الْعِيدِ. وَهَذَا مَشْرُوعٌ لَنَا أَيْضًا فِي
حَقِّ النِّسَاءِ; لِحَدِيثِ الْجَارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَ
عَائِشَةَ تَضْرِبَانِ بِالدُّفِّ فِي أَيَّامِ مِنًى، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُضْطَجِعٌ، مُوَلٍّ ظَهْرَهُ إِلَيْهِمْ، وَوَجْهُهُ
إِلَى الْحَائِطِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ زَجَرَهُنَّ، وَقَالَ:
أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: دَعْهُنَّ يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا،
وَهَذَا عِيدُنَا وَهَكَذَا يُشْرَعُ عِنْدَنَا فِي الْأَعْرَاسِ، وَلِقُدُومِ
الْغُيَّابِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمَّا جَاوَزُوا الْبَحْرَ، وَذَهَبُوا قَاصِدِينَ إِلَى
بِلَادِ الشَّامِ، مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَا يَجِدُونَ مَاءً، فَتَكَلَّمَ
مَنْ تَكَلَّمَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَوَجَدُوا مَاءً زُعَاقًا أُجَاجًا،
لَمْ يَسْتَطِيعُوا شُرْبَهُ، فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَأَخَذَ خَشَبَةً فَوَضَعَهَا فِيهِ، فَحَلَا وَسَاغَ شُرْبُهُ، وَعَلَّمَهُ
الرَّبُّ هُنَالِكَ فَرَائِضَ وَسُنَنًا، وَوَصَّاهُ وَصَايَا كَثِيرَةً. وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، الْمُهَيْمِنِ عَلَى مَا
عَدَاهُ مِنَ الْكُتُبِ: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالُوا هَذَا الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ، وَقَدْ عَايَنُوا مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ، مَا دَلَّهُمْ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَرُّوا عَلَى قَوْمٍ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا، قِيلَ: كَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْبَقَرِ. فَكَأَنَّهُمْ سَأَلُوهُمْ: لِمَ يَعْبُدُونَهَا، فَزَعَمُوا لَهُمْ أَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ، وَيَسْتَرْزِقُونَ بِهَا عِنْدَ الضَّرُورَاتِ، فَكَأَنَّ بَعْضَ الْجُهَّالِ مِنْهُمْ صَدَّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَسَأَلُوا نَبِيَّهُمُ الْكَلِيمَ الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً كَمَا لِأُولَئِكَ آلِهَةٌ، فَقَالَ لَهُمْ مُبَيِّنًا لَهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فِي تَفْضِيلِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ بِالْعِلْمِ، وَالشَّرْعِ، وَالرَّسُولِ الَّذِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَمَا أَحْسَنَ بِهِ إِلَيْهِمْ، وَمَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ إِنْجَائِهِمْ مِنْ قَبْضَةِ فِرْعَوْنَ الْجَبَّارِ الْعَنِيدِ، وَإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَتَوْرِيثِهِ إِيَّاهُمْ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ يَجْمَعُونَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسَّعَادَةِ، وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ; لِأَنَّهُ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْقَهَّارُ، وَلَيْسَ كُلُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ هَذَا السُّؤَالَ، بَلِ الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ أَيْ; قَالَ بَعْضُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَحَشَرْنَاهُمْ
فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ
جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ
نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [ الْكَهْفِ: 47، 48 ]. فَالَّذِينَ زَعَمُوا هَذَا
بَعْضُ النَّاسِ، لَا كُلُّهُمْ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ
أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ حُنَيْنٍ، فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ فَقُلْتُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ، كَمَا لِلْكُفَّارِ ذَاتُ
أَنْوَاطٍ. وَكَانَ الْكَفَّارُ يَنُوطُونَ سِلَاحَهُمْ بِسِدْرَةٍ، وَيَعْكُفُونَ
حَوْلَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ
أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا
إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. إِنَّكُمْ تَرْكَبُونَ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ بِهِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
بِهِ. ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَمَعْمَرٍ، وَعَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سِنَانِ
بْنِ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ
مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ
قَالَ: وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، وَيُعَلِّقُونَ
بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: فَمَرَرْنَا
بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، اجْعَلْ
لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ. قَالَ: قُلْتُمْ وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ، كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى " اجْعَلْ لَنَا
إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ
مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا انْفَصَلَ مِنْ بِلَادِ
مِصْرَ، وَوَاجَهَ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَدَ فِيهَا قَوْمًا مِنَ
الْجَبَّارِينَ، مِنْ الْحَيْثَانِيِّينَ، وَالْفَزَارِيِّينَ،
وَالْكَنْعَانِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ فَأَمَرَهُمْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
بِالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ، وَمُقَاتَلَتِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَهُ لَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ إِيَّاهُ،
عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَمُوسَى الْكَلِيمِ الْجَلِيلِ،
فَأَبَوْا وَنَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْخَوْفَ،
وَأَلْقَاهُمْ فِي التِّيهِ; يَسِيرُونَ، وَيَحِلُّونَ، وَيَرْتَحِلُونَ،
وَيَذْهَبُونَ، وَيَجِيئُونَ، فِي مُدَّةٍ مِنَ السِّنِينَ طَوِيلَةٍ، هِيَ مِنَ
الْعَدَدِ أَرْبَعُونَ; كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ
أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ
الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا
حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ
رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ
نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا
إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي
وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ
عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [ الْمَائِدَةِ: 20 - 26 ].
يُذَكِّرُهُمْ
نَبِيُّ اللَّهِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، إِحْسَانَهُ عَلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ
الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَمُقَاتَلَةِ أَعْدَائِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ
الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِكُمْ أَيْ; تَنْكِصُوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَتَنْكِلُوا عَلَى قِتَالِ
أَعْدَائِكُمْ. فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ أَيْ; فَتَخْسَرُوا بَعْدَ الرِّبْحِ،
وَتَنْقُصُوا بَعْدَ الْكَمَالِ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ
أَيْ; عُتَاةً كَفَرَةً مُتَمَرِّدِينَ، وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى
يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، خَافُوا مِنْ
هَؤُلَاءِ الْجَبَّارِينَ، وَقَدْ عَايَنُوا هَلَاكَ فِرْعَوْنَ، وَهُوَ أَجْبَرُ
مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَشَدُّ بَأْسًا، وَأَكْثَرُ جَمْعًا، وَأَعْظَمُ جُنْدًا.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلُومُونَ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ،
وَمَذْمُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، مِنَ الذِّلَّةِ عَنْ مُصَاوَلَةِ
الْأَعْدَاءِ، وَمُقَاوَمَةِ الْمَرَدَةِ الْأَشْقِيَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ هَاهُنَا آثَارًا، فِيهَا
مُجَازَفَاتٌ كَثِيرَةٌ بَاطِلَةٌ، يَدُلُّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ عَلَى
خِلَافِهَا; مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا أَشْكَالًا هَائِلَةً ضِخَامًا جِدًّا، حَتَّى
إِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ رُسُلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ،
تَلَقَّاهُمْ رَجُلٌ مِنْ رُسُلِ الْجَبَّارِينَ، فَجَعَلَ يَأْخُذُهُمْ وَاحِدًا
وَاحِدًا، وَيَلُفُّهُمْ فِي أَكْمَامِهِ وَحُجْزَةِ سَرَاوِيلِهِ، وَهُمُ اثْنَا
عَشَرَ رَجُلًا، فَجَاءَ بِهِمْ، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ
الْجَبَّارِينَ، فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي
آدَمَ حَتَّى عَرَّفُوهُ. وَكُلُّ هَذِهِ هَذَيَانَاتٌ
وَخُرَافَاتٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَأَنَّ الْمَلِكَ بَعَثَ مَعَهُمْ عِنَبًا، كُلُّ عِنَبَةٍ تَكْفِي الرَّجُلَ، وَشَيْئًا مِنْ ثِمَارِهِمْ; لِيَعْلَمُوا ضَخَامَةَ أَشْكَالِهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَذَكَرُوا هَاهُنَا أَنَّ عُوجَ بْنَ عُنُقَ، خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الْجَبَّارِينَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ; لِيُهْلِكَهُمْ، وَكَانَ طُولُهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ، وَثَلَاثَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَثُلْثَ ذِرَاعٍ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ. قَالُوا: فَعَمَدَ عُوجُ إِلَى قِمَّةِ جَبَلٍ، فَاقْتَلَعَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا بِيَدَيْهِ; لِيُلْقِيَهَا عَلَى جَيْشِ مُوسَى، فَجَاءَ طَائِرٌ، فَنَقَرَ تِلْكَ الصَّخْرَةَ، فَخَرَقَهَا، فَصَارَتْ طَوْقًا فِي عُنُقِ عُوجَ بْنِ عُنُقَ، ثُمَّ عَمَدَ مُوسَى إِلَيْهِ، فَوَثَبَ فِي الْهَوَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَطُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَبِيَدِهِ عَصَاهُ، وَطُولُهَا عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، فَوَصَلَ إِلَى كَعْبِ قَدَمِهِ فَقَتَلَهُ. يُرْوَى هَذَا عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ إِلَيْهِ نَظَرٌ. ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَكُلُّ هَذِهِ مِنْ وَضْعِ جُهَّالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الْكِذْبَةَ قَدْ كَثُرَتْ عِنْدَهُمْ، وَلَا تَمْيِيزَ لَهُمْ بَيْنَ صَحِيحِهَا وَبَاطِلِهَا. ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا
صَحِيحًا لَكَانَ
بَنُو إِسْرَائِيلَ مَعْذُورِينَ فِي النُّكُولِ عَنْ قِتَالِهِمْ، وَقَدْ
ذَمَّهُمُ اللَّهُ عَلَى نُكُولِهِمْ، وَعَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ عَلَى تَرْكِ
جِهَادِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ رَسُولَهُمْ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِمْ رَجُلَانِ
صَالِحَانِ مِنْهُمْ بِالْإِقْدَامِ، وَنَهَيَاهُمْ عَنِ الْإِحْجَامِ. وَيُقَالُ:
إِنَّهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا. قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطِيَّةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ
بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَيْ; يَخَافُونَ اللَّهَ وَقَرَأَ
بَعْضُهُمْ: ( يُخَافُونَ ) ; أَيْ يُهَابُونَ، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا
أَيْ; بِالْإِسْلَامِ، وَالْإِيمَانِ، وَالطَّاعَةِ، وَالشَّجَاعَةِ: ادْخُلُوا
عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى
اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أَيْ; إِذَا تَوَكَّلْتُمْ عَلَى
اللَّهِ، وَاسْتَعَنْتُمْ بِهِ، وَلَجَأْتُمْ إِلَيْهِ، نَصَرَكُمْ عَلَى
عَدُوِّكُمْ، وَأَيَّدَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَأَظْفَرَكُمْ بِهِمْ.
قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ فَصَمَّمَ مَلَؤُهُمْ
علىالنُّكُولِ عَنِ الْجِهَادِ، وَوَقَعَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَوَهَنٌ كَبِيرٌ.
فَيُقَالُ: إِنَّ يُوشَعَ، وَكَالِبَ لَمَّا سَمِعَا هَذَا الْكَلَامَ شَقَّا
ثِيَابَهُمَا، وَإِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، سَجَدَا;
إِعْظَامًا لِهَذَا الْكَلَامِ وَغَضَبًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشَفَقَةً
عَلَيْهِمْ مِنْ وَبِيلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ.
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ عُوقِبُوا عَلَى نُكُولِهِمْ بِالتَّيَهَانِ فِي الْأَرْضِ،
يَسِيرُوا إِلَى غَيْرِ مَقْصِدٍ، لَيْلًا وَنَهَارًا، وَصَبَاحًا وَمَسَاءً.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ مِمَّنْ دَخَلَهُ، بَلْ
مَاتُوا كُلُّهُمْ فِي مُدَّةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا
ذَرَّارِيُّهُمْ سِوَى يُوشَعَ، وَكَالِبَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
لَكِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ بَدْرٍ،
لَمْ يَقُولُوا لَهُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى، بَلْ لَمَّا
اسْتَشَارَهُمْ فِي الذَّهَابِ إِلَى النَّفِيرِ، تَكَلَّمَ الصِّدِّيقُ
فَأَحْسَنَ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: أَشِيرُوا
عَلَيَّ حَتَّى قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بِنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا
الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ،
وَمَا نَكْرَهُ أَنْ يَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ فِي
الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ
بِهِ عَيْنُكَ. فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ. فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، وَبَسَطَهُ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ
ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَحْمَسِيِّ، عَنْ طَارِقٍ هُوَ ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّ
الْمِقْدَادَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ
بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى:
فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ
مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَهُ طُرُقٌ أُخْرَى.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ
مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مَشْهَدًا،
لَأَنْ أَكُونَ أَنَا صَاحِبَهُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ; أَتَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَدْعُو عَلَى
الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا
قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا
إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ
يَسَارِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ. فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْرِقُ لِذَلِكَ، وَسُرَّ بِذَلِكَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي، مِنْ طُرُقٍ عَنْ
مُخَارِقٍ بِهِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ،
عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا
سَارَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ
اسْتَشَارَهُمْ، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، إِيَّاكُمْ
يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: إِذًا لَا
نَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ
وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَوْ
ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَاتَّبَعْنَاكَ. رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ
الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ "، عَنْ أَبِي يَعْلَى، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُعْتَمِرٍ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بِهِ نَحْوَهُ.
فَصْلٌ فِي دُخُولِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ التِّيهَ وَمَا جَرَى لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ
الْعَجِيبَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا نُكُولَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ بِالتِّيهِ، وَحَكَمَ بِأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ
مِنْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَمْ أَرَ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْكِتَابِ
قِصَّةَ نُكُولِهِمْ عَنْ قِتَالِ الْجَبَّارِينَ، وَلَكِنَّ فِيهَا أَنَّ يُوشَعَ
جَهَّزَهُ مُوسَى لِقِتَالِ طَائِفَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ مُوسَى
وَهَارُونَ، وَخُورَ، جَلَسُوا عَلَى رَأْسِ أَكَمَةٍ، وَرَفَعَ مُوسَى عَصَاهُ، فَكُلَّمَا
رَفَعَهَا انْتَصَرَ يُوشَعُ عَلَيْهِمْ وَكُلَّمَا مَالَتْ يَدُهُ بِهَا مِنْ
تَعَبٍ أَوْ نَحْوِهِ، غَلَبَهُ أُولَئِكَ، وَجَعَلَ هَارُونُ وَخُورُ
يُدَعِّمَانِ يَدَيْهِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى غُرُوبِ
الشَّمْسِ، فَانْتَصَرَ حِزْبُ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعِنْدَهُمْ; أَنَّ
يَثْرُونَ كَاهِنَ مَدْيَنَ، وَخَتَنَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلَغَهُ مَا
كَانَ مِنْ أَمْرِ مُوسَى، وَكَيْفَ أَظْفَرَهُ اللَّهُ بِعَدُوِّهِ فِرْعَوْنَ
فَقَدِمَ عَلَى مُوسَى مُسْلِمًا وَمَعَهُ ابْنَتُهُ صِفُّورَا زَوْجَةُ مُوسَى،
وَابْنَاهَا مِنْهُ جَرْشُونُ، وَعَازِرُ، فَتَلَقَّاهُ مُوسَى وَأَكْرَمَهُ،
وَاجْتَمَعَ بِهِ شُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعَظَّمُوهُ وَأَجَلُّوهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ رَأَى كَثْرَةَ اجْتِمَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مُوسَى،
فِي الْخُصُومَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَهُمْ، فَأَشَارَ عَلَى مُوسَى أَنْ
يَجْعَلَ عَلَى النَّاسِ رِجَالًا أُمَنَاءَ، أَتْقِيَاءَ،
أَعِفَّاءَ، يُبْغِضُونَ الرِّشَاءَ وَالْخِيَانَةَ، فَيَجْعَلُهُمْ عَلَى النَّاسِ رُءُوسَ أُلُوفٍ، وَرُءُوسَ مِئِينَ، وَرُؤْسَ خَمْسِينَ، وَرُؤْسَ عَشَرَةٍ، فَيَقْضُوا بَيْنَ النَّاسِ، فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ جَاءُوكَ، فَفَصَلْتَ بَيْنَهُمْ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالُوا: وَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْبَرِّيَّةَ، عِنْدَ سَيْنَاءَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ، وَكَانَ خُرُوجُهُمْ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الَّتِي شُرِعَتْ لَهُمْ، وَهِيَ أَوَّلُ فَصْلِ الرَّبِيعِ. فَكَأَنَّهُمْ دَخَلُوا التِّيهَ فِي أَوَّلِ فَصْلِ الصَّيْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالُوا: وَنَزَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَ طُورِ سَيْنَاءَ، وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ، فَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُذَكِّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِنْجَائِهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَكَيْفَ حَمَلَهُمْ عَلَى مِثْلِ جَنَاحَيْ نِسْرٍ مِنْ يَدِهِ وَقَبْضَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا وَيَغْسِلُوا ثِيَابَهُمْ وَلْيَسْتَعِدُّوا إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِذَا كَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلْيَجْتَمِعُوا حَوْلَ الْجَبَلِ، وَلَا يَقْتَرِبَنَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ دَنَا مِنْهُ قُتِلَ، حَتَّى وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْبَهَائِمِ، مَا دَامُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْنِ، فَإِذَا سَكَنَ الْقَرْنُ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ أَنْ تَرْتَقُوهُ، فَسَمِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ ذَلِكَ، وَأَطَاعُوا، وَاغْتَسَلُوا، وَتَنَظَّفُوا، وَتَطَيَّبُوا، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ رَكِبَ الْجَبَلَ غَمَامَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِيهَا أَصْوَاتٌ وَبُرُوقٌ، وَصَوْتُ الصُّورِ شَدِيدٌ جِدًّا، فَفَزِعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَخَرَجُوا فَقَامُوا فِي سَفْحِ الْجَبَلِ، وَغَشِيَ الْجَبَلَ دُخَانٌ عَظِيمٌ فِي وَسَطِهِ عَمُودُ نُورٍ، وَتَزَلْزَلَ الْجَبَلُ كُلُّهُ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً، وَاسْتَمَرَّ صَوْتُ الصُّورِ، وَهُوَ الْبُوقُ، وَاشْتَدَّ، وَمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوْقَ الْجَبَلِ، وَاللَّهِ يُكَلِّمُهُ وَيُنَاجِيهِ، وَأَمَرَ الرَّبُّ، عَزَّ وَجَلَّ، مُوسَى أَنْ يَنْزِلَ، فَيَأْمُرَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنْ
يَقْتَرِبُوا مِنَ الْجَبَلِ; لِيَسْمَعُوا وَصِيَّةَ اللَّهِ، وَيَأْمُرَ
الْأَحْبَارَ، وَهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ، أَنْ يَدْنُوا فَيَصْعَدُوا الْجَبَلَ;
لِيَتَقَدَّمُوا بِالْقُرْبِ - وَهَذَا نَصٌّ فِي كِتَابِهِمْ عَلَى وُقُوعِ
النَّسْخِ لَا مَحَالَةَ - فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ إِنَّهُمْ لَا
يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصْعَدُوهُ، وَقَدْ نَهَيْتَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَذْهَبَ، فَيَأْتِيَ مَعَهُ بِأَخِيهِ هَارُونَ،
وَلْيَكُنِ الْكَهَنَةُ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالشَّعْبُ، وَهُمْ بَقِيَّةُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ، غَيْرَ بَعِيدٍ. فَفَعَلَ مُوسَى، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، فَأَمَرَهُ حِينَئِذٍ بِالْعَشْرِ كَلِمَاتٍ.
وَعِنْدَهُمْ; أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَمْ
يَفْهَمُوا حَتَّى فَهَّمَهُمْ مُوسَى، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ لِمُوسَى:
بَلِّغْنَا أَنْتَ عَنِ الرَّبِّ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ نَمُوتَ. فَبَلَّغَهُمْ
عَنْهُ، فَقَالَ هَذِهِ الْعَشْرُ الْكَلِمَاتِ; وَهِيَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةِ
اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْحَلِفِ بِاللَّهِ
كَاذِبًا، وَالْأَمْرُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى السَّبْتِ، وَمَعْنَاهُ تَفَرُّغُ
يَوْمٍ مِنَ الْأُسْبُوعِ لِلْعِبَادَةِ. وَهَذَا حَاصِلٌ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ،
الَّذِي نَسَخَ اللَّهُ بِهِ السَّبْتَ، أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، لِيَطُولَ
عُمْرُكَ فِي الْأَرْضِ، الَّذِي يُعْطِيكَ اللَّهُ رَبُّكَ، لَا تَقْتُلْ، لَا
تَزْنِ، لَا تَسْرِقْ، لَا تَشْهَدْ عَلَى صَاحِبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ، لَا تَمُدَّ
عَيْنَكَ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِكَ، وَلَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ صَاحِبِكَ، وَلَا
عَبْدَهُ، وَلَا أَمَتَهُ، وَلَا ثَوْرَهُ، وَلَا حِمَارَهُ، وَلَا شَيْئًا مِنَ
الَّذِي لِصَاحِبِكَ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ الْحَسَدِ.
وَقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ: مَضْمُونُ هَذِهِ
الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ
فِي آيَتَيْنِ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْأَنْعَامِ "
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ
شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ
إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا
إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ [ الْأَنْعَامِ: 151 - 153 ]. وَذَكَرُوا بَعْدَ الْعَشْرِ
الْكَلِمَاتِ وَصَايَا كَثِيرَةً، وَأَحْكَامًا مُتَفَرِّقَةً عَزِيزَةً، كَانَتْ
فَزَالَتْ وَعُمِلَ بِهَا حِينًا مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهَا
عِصْيَانٌ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا ثُمَّ عَمَدُوا إِلَيْهَا فَبَدَّلُوهَا،
وَحَرَّفُوهَا، وَأَوَّلُوهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ سَلَبُوهَا، فَصَارَتْ
مَنْسُوخَةً مُبَدَّلَةً، بَعْدَ مَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً مُكَمِّلَةً، فَلِلَّهِ
الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ مَا يَشَاءُ، وَيَفْعَلُ
مَا يُرِيدُ، أَلَّا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ
عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتٍ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا
فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ
هَوَى وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى
[ طه: 80 - 82 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى مِنَّتَهُ
وَإِحْسَانَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، بِمَا أَنْجَاهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَخَلَّصَهُمْ مِنَ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، وَأَنَّهُ وَعَدَهُمْ صُحْبَةَ نَبِيِّهِمْ كَلِيمِهِ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، أَيْ مِنْهُمْ لِيُنَزِّلَ عَلَيْهِ أَحْكَامًا عَظِيمَةً فِيهَا مُصْلِحَةٌ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ شِدَّتِهِمْ وَضَرُورَتِهِمْ، فِي سَفَرِهِمْ فِي الْأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلَا ضَرْعٌ، مِنَّا مِنَ السَّمَاءِ، يُصْبِحُونَ فَيَجِدُونَهُ خِلَالَ بُيُوتِهِمْ، فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ قَدْرَ حَاجَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْغَدِ، وَمَنِ ادَّخَرَ مِنْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ قَلِيلًا كَفَاهُ، أَوْ كَثِيرًا لَمْ يَفْضُلْ عَنْهُ، فَيَصْنَعُونَ مِنْهُ مِثْلَ الْخُبْزِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبَيَاضِ وَالْحَلَاوَةِ، فَإِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ غَشِيَهُمْ طَيْرُ السَّلْوَى، فَيَقْتَنِصُونَ مِنْهُ بِلَا كُلْفَةٍ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ حَسَبَ كِفَايَتِهِمْ لِعَشَائِهِمْ، وَإِذَا كَانَ فَصْلُ الصَّيْفِ ظَلَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ، وَهُوَ السَّحَابُ الَّذِي يَسْتُرُ عَنْهُمْ حَرَّ الشَّمْسِ، وَضَوْءَهَا الْبَاهِرَ. كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ ": يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [ الْبَقَرَةِ: 40، 41 ]. إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 49 - 57 ].
إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [ الْبَقَرَةِ: 60، 61 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ بِمَا يَسَّرَ لَهُمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى طَعَامَيْنِ شَهِيَّيْنِ بِلَا كُلْفَةٍ وَلَا سَعْيٍ لَهُمْ فِيهِ، بَلْ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْمَنَّ بَاكِرًا، وَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ طَيْرَ السَّلْوَى عَشِيًّا، وَأَنْبَعَ الْمَاءَ لَهُمْ بِضَرْبِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَجَرًا كَانُوا يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ، بِالْعَصَا فَتَفَجَّرَ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ مِنْهُ تَنْبَجِسُ ثُمَّ تَنْفَجِرُ مَاءً زُلَالًا، فَيَسْتَقُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَسْقُونَ دَوَابَّهُمْ، وَيَدَّخِرُونَ كِفَايَتَهُمْ. وَظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ مِنَ الْحَرِّ. وَهَذِهِ نِعَمٌ مِنَ اللَّهِ
عَظِيمَةٌ وَعَطِيَّاتٌ جَسِيمَةٌ، فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، وَلَا قَامُوا بِشُكْرِهَا وَحَقِّ عِبَادَتِهَا، ثُمَّ ضَجِرَ كَثِيرٌ مِنْهَا وَتَبَرَّمُوا بِهَا، وَسَأَلُوا أَنْ يَسْتَبْدِلُوا مِنْهَا بِبَدَلِهَا، مِمَّا تَنْبُتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا، وَقِثَّائِهَا، وَفُومِهَا، وَعَدَسِهَا، وَبَصَلِهَا. فَقَرَّعَهُمُ الْكَلِيمُ، وَوَبَّخَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ، وَعَنَّفَهُمْ قَائِلًا: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ أَيْ; هَذَا الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَتُرِيدُونَهُ بَدَلَ هَذِهِ النِّعَمِ الَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، حَاصِلٌ لِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، مَوْجُودٌ بِهَا، وَإِذَا هَبَطْتُمْ إِلَيْهَا، أَيْ; وَنَزَلْتُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُونَ لِمَنْصِبِهَا، تَجِدُوا بِهَا مَا تَشْتَهُونَ، وَمَا تَرُومُونَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْمَآكِلِ الدَّنِيَّةِ وَالْأَغْذِيَةِ الرَّدِيَّةِ، وَلَكِنِّي لَسْتُ أُجِيبُكُمْ إِلَى سُؤَالِكُمْ ذَلِكَ هَاهُنَا، وَلَا أُبَلِّغُكُمْ مَا تَعَنَّتُّمْ بِهِ مِنَ الْمُنَى، وَكُلُّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَنْهُمُ الصَّادِرَةِ مِنْهُمْ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى [ طه: 81 ]. أَيْ; فَقَدْ هَلَكَ، وَحَقَّ لَهُ وَاللَّهِ الْهَلَاكُ وَالدَّمَارُ، وَقَدْ حَلَّ عَلَيْهِ غَضَبُ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى مَزَجَ هَذَا الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالرَّجَاءِ لِمَنْ أَنَابَ وَتَابَ، وَلَمْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مُتَابَعَةِ الشَّيْطَانِ الْمَرِيدِ، فَقَالَ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [ طه: 82 ].
سُؤَالُ
الرُّؤْيَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً
وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ
مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ
سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ
قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ يَا
مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا
آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِ
شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ سَأَصْرِفُ
عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ
يَرَوْا كُلَ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الْأَعْرَافِ: 142 - 147 ].
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ; مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَسْرُوقٌ، وَمُجَاهِدٌ:
الثَّلَاثُونَ لَيْلَةً هِيَ; شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ
بِكَمَالِهِ،
وَأُتِمَّتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ
كَلَامُ اللَّهِ لَهُ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ، وَفِي مِثْلِهِ أَكْمَلَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَهُ، وَأَقَامَ
حُجَّتَهُ وَبَرَاهِينَهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا اسْتَكْمَلَ
الْمِيقَاتَ، وَكَانَ فِيهِ صَائِمًا، يُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَسْتَطْعِمِ
الطَّعَامَ. فَلَمَّا كَمَلَ الشَّهْرُ أَخَذَ لِحَا شَجَرَةٍ فَمَضَغَهُ،
لِيُطَيِّبَ رِيحَ فَمِهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُمْسِكَ عَشْرًا أُخْرَى،
فَصَارَتْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ: خَلُوفَ
فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ فَلَمَّا عَزَمَ
عَلَى الذَّهَابِ، اسْتَخْلَفَ عَلَى شَعْبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَاهُ هَارُونَ
الْمُحَبَّبَ الْمُبَجَّلَ الْجَلِيلَ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّهِ وَأَبِيهِ،
وَوَزِيرُهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى مُصْطَفِيهِ، فَوَصَّاهُ وَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ،
وَلَيْسَ فِي هَذَا لِعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي نُبُوَّتِهِ مُنَافَاةٌ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا أَيْ; فِي الْوَقْتِ
الَّذِي أُمِرَ بِالْمَجِيءِ فِيهِ، وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أَيْ; كَلَّمَهُ اللَّهُ
مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، إِلَّا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ الْخِطَابَ، فَنَادَاهُ
وَنَاجَاهُ، وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ، وَهَذَا مَقَامٌ رَفِيعٌ، وَمَعْقِلٌ
مَنِيعٌ، وَمَنْصِبٌ شَرِيفٌ، وَمَنْزِلٌ مُنِيفٌ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
تَتْرَى وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى. وَلَمَّا أُعْطِيَ
هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعَلِيَّةَ وَالْمَرْتَبَةَ السَّنِيَّةَ، وَسَمِعَ
الْخِطَابَ، سَأَلَ رَفْعَ الْحِجَابِ، فَقَالَ لِلْعَظِيمِ الَّذِي لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، الْقَوِّيُّ الْبُرْهَانِ: رَبِّي أَرِنِي أَنْظُرْ
إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ
أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ تَجَلِّيهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى; لِأَنَّ الْجَبَلَ الَّذِي
هُوَ أَقْوَى وَأَكْبَرُ ذَاتًا، وَأَشَدُّ ثَبَاتًا مِنَ الْإِنْسَانِ، لَا
يَثْبُتُ عِنْدَ التَّجَلِّي مِنَ الرَّحْمَنِ، وَلِهَذَا قَالَ:
وَلَكِنِ انْظُرْ
إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي.
وَفِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى،
إِنَّهُ لَا يَرَانِي حَيٌّ إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ. وَفِي
" الصَّحِيحَيْنِ "، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: حِجَابُهُ النُّورُ وَفِي رِوَايَةٍ:
النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ
بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ذَاكَ نُورُهُ الَّذِي هُوَ نُورُهُ إِذَا تَجَلَّى
لِشَيْءٍ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ
قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ
مُجَاهِدٌ: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ
فَسَوْفَ تَرَانِي فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْكَ وَأَشَدُّ خَلْقًا، فَلَمَّا
تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فَنَظَرَ إِلَى الْجَبَلِ لَا يَتَمَالَكُ،
وَأَقْبَلَ الْجَبَلُ فَدُكَّ عَلَى أَوَّلِهِ، وَرَأَى مُوسَى مَا يَصْنَعُ
الْجَبَلُ، فَخَرَّ صَعِقَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " مَا
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ،
وَالْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، زَادَ ابْنُ
جَرِيرٍ، وَلَيْثٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَرَأَ: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قَالَ:
هَكَذَا بِأُصْبُعِهِ وَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْإِبْهَامَ عَلَى الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى
مِنَ الْخِنْصَرِ،
فَسَاخَ الْجَبَلُ. لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا تَجَلَّى - يَعْنِي مِنَ الْعَظَمَةِ - إِلَّا قَدْرُ
الْخِنْصَرِ، فَجَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا، قَالَ: تُرَابًا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا
أَيْ; مَغْشِيًّا عَلَيْهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَيِّتًا. وَالصَّحِيحُ
الْأَوَّلُ; لِقَوْلِهِ: فَلَمَّا أَفَاقَ فَإِنَّ الْإِفَاقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ
عَنْ غَشْيٍ. قَالَ: سُبْحَانَكَ تَنْزِيهٌ، وَتَعْظِيمٌ، وَإِجْلَالٌ أَنْ
يَرَاهُ بِعَظَمَتِهِ أَحَدٌ. تُبْتُ إِلَيْكَ أَيْ: فَلَسْتُ أَسْأَلُ بَعْدَ
هَذَا الرُّؤْيَةَ: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ حَيٌّ
إِلَّا مَاتَ، وَلَا يَابِسٌ إِلَّا تَدَهْدَهَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ
يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْمَازِنِيِّ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ
فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ
يُفِيقُ، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٍ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ الْعَرْشِ،
فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ، وَفِي أَوَّلِهِ قِصَّةُ الْيَهُودِيِّ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَهُ
الْأَنْصَارِيُّ، حِينَ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَيِّرُونِي
مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي
" الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَفِيهِ: لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى. وَذَكَرَ تَمَامَهُ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ، أَوْ نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ وَالْعَصَبِيَّةِ، أَوْ لَيْسَ هَذَا إِلَيْكُمْ، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَلَيْسَ يُنَالُ هَذَا بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ، بَلْ بِالتَّوْقِيفِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ، ثُمَّ نُسِخَ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. فَفِي قَوْلِهِ نَظَرٌ; لَأَنَّ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَا هَاجَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَّا عَامَ خَيْبَرَ مُتَأَخِّرًا، فَيَبْعُدُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَذَا إِلَّا بَعْدَ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَفْضَلُ الْبَشَرِ، بَلِ الْخَلِيقَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [ آلِ عِمْرَانَ: 110 ]. وَمَا كَمُلُوا إِلَّا بِشَرَفِ نَبِيِّهِمْ، وَثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، أَنَّهُ قَالَ: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ثُمَّ ذَكَرَ اخْتِصَاصَهُ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، الَّذِي تَحِيدُ عَنْهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، حَتَّى أُولُو الْعَزْمِ الْأَكْمَلُونَ; نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ - أَيْ; آخِذًا بِهَا - فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ.
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّعْقَ، الَّذِي يَحْصُلُ لِلْخَلَائِقِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ، فَيُصْعَقُونَ مِنْ شِدَّةِ الْهَيْبَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ، فَيَكُونُ أَوَّلَهُمْ إِفَاقَةً مُحَمَّدٌ، خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَمُصْطَفَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَيَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ. قَالَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: لَا أَدْرِي أَصُعِقُ، فَأَفَاقَ قَبْلِي أَيْ كَانَتْ صَعْقَتُهُ خَفِيفَةً; لِأَنَّهُ قَدْ نَالَهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي الدُّنْيَا صَعْقٌ، أَوْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ، يَعْنِي فَلَمْ يُصْعَقْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا فِيهِ شَرَفٌ كَبِيرٌ وَعُلُوُّ مَرْتَبَةٍ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ تَفْضِيلُهُ بِهَا مُطْلَقًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ; وَلِهَذَا نَبَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضِيلَتِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ; لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَمَّا ضَرَبَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، حِينَ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. قَدْ يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ الْمُشَاهِدِينَ لِذَلِكَ هَضْمٌ بِجَنَابِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَتَهُ وَشَرَفَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي أَيْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَا مَا قَبْلَهُ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَا مَا بَعْدَهُ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْهُمَا; كَمَا ظَهَرَ شَرَفُهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَلَى جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ، وَكَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ: سَأَقُومُ مَقَامًا يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أَيْ; فَخُذْ مَا أَعْطَيْتُكَ مِنَ الرِّسَالَةِ
وَالْكَلَامِ،
وَلَا تَسْأَلْ زِيَادَةً عَلَيْهِ، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَكَانَتِ الْأَلْوَاحُ مِنْ جَوْهَرٍ
نَفِيسٍ، فَفِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لَهُ التَّوْرَاةَ
بِيَدِهِ وَفِيهَا مَوَاعِظُ عَنِ الْآثَامِ، وَتَفْصِيلٌ لِكُلِّ مَا
يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحُدُودِ
وَالْأَحْكَامِ، فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ أَيْ; بِعَزْمٍ وَنِيَّةٍ صَادِقَةٍ
قَوِيَّةٍ، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا أَيْ، يَضَعُوهَا عَلَى
أَحْسَنِ وُجُوهِهَا، وَأَجْمَلِ مَحَامِلِهَا، سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ
أَيْ; سَتَرَوْا عَاقِبَةَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِي، الْمُخَالِفِينَ
لِأَمْرِي، الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِي. سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي أَيْ; عَنْ
فَهْمِهَا، وَتَدَبُّرِهَا، وَتَعْقُّلِ مَعْنَاهَا الَّذِي أُرِيدَ مِنْهَا،
وَدَلَّ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهَا، الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا أَيْ; وَلَوْ شَاهَدُوا
مَهْمَا شَاهَدُوا مِنَ الْخَوَارِقِ، وَالْمُعْجِزَاتِ، لَا يَنْقَادُوا
لِاتِّبَاعِهَا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا
أَيْ; لَا يَسْلُكُوهُ، وَلَا يَتَّبِعُوهُ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ
يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أَيْ;
صَرَفْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ; لِتَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِنَا، وَتَغَافُلِهِمْ
عَنْهَا، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِهَا، وَالتَّفَكُّرِ فِي
مَعْنَاهَا، وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
قِصَّةُ
عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ فِي غَيْبَةِ كَلِيمِ اللَّهِ مُوسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ
عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا
يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ
وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا
وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى
قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ
يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا
يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ
الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي
رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ
سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا
مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا
هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [ الْأَعْرَافِ: 148 -
154 ].
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَ شَيْءٍ عِلْمًا [ طه: 83 - 98 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، حِينَ ذَهَبَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى مِيقَاتِ رَبِّهِ، فَمَكَثَ عَلَى الطُّورِ يُنَاجِيهِ رَبُّهُ، وَيَسْأَلُهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَهُوَ تَعَالَى يُجِيبُهُ عَنْهَا، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: السَّامِرِيُّ.
فَأَخَذَ مَا كَانَ اسْتَعَارُوهُ مِنَ الْحُلِيِّ فَصَاغَ مِنْهُ عِجْلًا، وَأَلْقَى فِيهِ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ، كَانَ أَخَذَهَا مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، حِينَ رَآهُ يَوْمَ أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ عَلَى يَدَيْهِ، فَلَمَّا أَلْقَاهَا فِيهِ خَارَ كَمَا يَخُورُ الْعِجْلُ الْحَقِيقِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَحَالَ عِجْلًا جَسَدًا. أَيْ لَحْمًا وَدَمًا، حَيًّا يَخُورُ. قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: بَلْ كَانَتِ الرِّيحُ إِذَا دَخَلَتْ مِنْ دُبُرِهِ، خَرَجَتْ مِنْ فَمِهِ، فَيَخُورُ كَمَا تَخُورُ الْبَقَرَةُ، فَيَرْقُصُونَ حَوْلَهُ وَيَفْرَحُونَ. فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَيْ; فَنَسِيَ مُوسَى رَبَّهُ عِنْدَنَا، وَذَهَبَ يَتَطَلَّبُهُ، وَهُوَ هَاهُنَا. تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ، وَتَضَاعَفَتْ آلَاؤُهُ وَعِدَاتُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، مُبَيِّنًا لَهُمْ بُطْلَانَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَمَا عَوَّلُوا عَلَيْهِ، مِنْ إِلَهِيَّةِ هَذَا الَّذِي قُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ حَيَوَانًا بَهِيمًا وَشَيْطَانًا رَجِيمًا: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَقَالَ: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ فَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يَرُدُّ جَوَابًا وَلَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا يَهْدِي إِلَى رُشْدٍ، اتَّخَذُوهُ وَهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَالِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ، وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أَيْ; نَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَيْهِمْ، وَرَأَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، وَمَعَهُ الْأَلْوَاحُ الْمُتَضَمِّنَةُ التَّوْرَاةَ، أَلْقَاهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ كَسَرَهَا. وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَهُ غَيْرَهَا. وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْقُرْآنِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَلْقَاهَا حِينَ عَايَنَ مَا عَايَنَ. وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّهُمَا كَانَا لَوْحَيْنِ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا أَلْوَاحٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ، فَأَمَرَهُ بِمُعَايَنَةِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَعَنَّفَهُمْ، وَوَبَّخَهُمْ، وَهَجَّنَهُمْ فِي صَنِيعِهِمْ، هَذَا الْقَبِيحِ، فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيح; قَالُوا: إِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ تَحَرَّجُوا مِنْ تَمَلُّكِ حُلِيِّ آلِ فِرْعَوْنَ، وَهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ، وَقَدْ أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِأَخْذِهِ، وَأَبَاحَهُ لَهُمْ وَلَمْ يَتَحَرَّجُوا بِجَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَعَقْلِهِمْ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ الْجَسَدِ، الَّذِي لَهُ خُوَارٌ، مَعَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، الْفَرْدِ الصَّمَدِ الْقَهَّارِ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَخِيهِ هَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَائِلًا لَهُ: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَيْ; هَلَّا لَمَّا رَأَيْتَ مَا صَنَعُوا اتَّبَعْتَنِي فَأَعْلَمْتَنِي بِمَا فَعَلُوا، فَقَالَ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ; تَرَكْتَهُمْ وَجِئْتَنِي، وَأَنْتَ قَدِ اسْتَخْلَفْتَنِي فِيهِمْ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَقَدْ كَانَ هَارُونُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الْفَظِيعِ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ أَتَمَّ الزَّجْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ أَيْ; إِنَّمَا قَدَّرَ اللَّهُ أَمَرَ هَذَا الْعِجْلِ، وَجَعَلَهُ يَخُورُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا لَكُمْ. وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ أَيْ; لَا هَذَا الْعِجْلُ فَاتَّبِعُونِي أَيْ; فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى يَشْهَدُ اللَّهُ لِهَارُونَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا، أَنَّهُ نَهَاهُمْ وَزَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يُطِيعُوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى السَّامِرِيِّ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ أَيْ; مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ. قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أَيْ; رَأَيْتُ جِبْرَائِيلَ، وَهُوَ رَاكِبٌ فَرَسًا فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أَيْ; مِنْ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ. وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَآهُ وَكَانَ كُلَّمَا وَطِئَتْ بِحَوَافِرِهَا عَلَى مَوْضِعٍ، اخْضَرَّ وَأَعْشَبَ، فَأَخَذَ مِنْ أَثَرِ حَافِرِهَا، فَلَمَّا أَلْقَاهُ فِي هَذَا الْعِجْلِ الْمَصْنُوعِ مِنَ الذَّهَبِ، كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَمَسَّ أَحَدًا; مُعَاقَبَةً لَهُ عَلَى مَسِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَسُّهُ. هَذَا مُعَاقَبَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ تَوَعَّدَهُ فِي الْأُخْرَى فَقَالَ: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ قُرِئَ: ( لَنْ نُخْلِفَهُ ). وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا قَالَ: فَعَمَدَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى هَذَا الْعِجْلِ فَحَرَقَهُ، قِيلَ: بِالنَّارِ. كَمَا
قَالَهُ قَتَادَةُ،
وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: بِالْمَبَارِدِ. كَمَا قَالَهُ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ،
وَغَيْرُهُمَا. وَهُوَ نَصُّ أَهْلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْبَحْرِ،
وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَشَرِبُوا، فَمَنْ كَانَ مِنْ عَابِدِيهِ، عَلَّقَ
عَلَى شِفَاهِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الرَّمَادِ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَقِيلَ:
بَلِ اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا
إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا
وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُفْتَرِينَ وَهَكَذَا وَقَعَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ مُسَجَّلَةٌ لِكُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ،
وَإِحْسَانِهِ عَلَى عَبِيدِهِ فِي قَبُولِهِ تَوْبَةَ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ،
بِتَوْبَتِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا
مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لَكِنْ
لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَةَ عَابِدِي الْعِجْلِ إِلَّا بِالْقَتْلِ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ
أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ الْبَقَرَةِ: 54 ]. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ
أَصْبَحُوا يَوْمًا وَقَدْ أَخَذَ مَنْ لَمْ يَعْبُدِ الْعِجْلَ فِي أَيْدِيهِمُ
السُّيُوفَ، وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ ضَبَابًا، حَتَّى لَا يَعْرِفَ الْقَرِيبُ
قَرِيبَهُ، وَلَا النَّسِيبُ نَسِيبَهُ، ثُمَّ مَالُوا عَلَى
عَابِدِيهِ،
فَقَتَلُوهُمْ، وَحَصَدُوهُمْ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَتَلُوا فِي صَبِيحَةٍ
وَاحِدَةٍ سَبْعِينَ أَلْفًا. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى
الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ
هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَفِي
نُسْخَتِهَا عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ، وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرٌ،
وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَكَسَّرَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الْفُتُونِ، كَمَا سَيَأْتِي، أَنَّ
عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ عَلَى أَثَرِ خُرُوجِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ، وَمَا
هُوَ بِبَعِيدٍ; لِأَنَّهُمْ حِينَ خَرَجُوا قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا
إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.
وَهَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّ عِبَادَتَهُمُ الْعِجْلَ كَانَتْ
قَبْلَ مَجِيئِهِمْ بِلَادَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا
أُمِرُوا بِقَتْلِ مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، قَتَلُوا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ
آلَافٍ. ثُمَّ ذَهَبَ مُوسَى يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، فَغُفِرَ لَهُمْ، بِشَرْطِ أَنْ
يَدْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا
أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ
وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا
فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ
عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ
الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ
وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ [ الْأَعْرَافِ: 155 - 157 ].
ذَكَرَ السُّدِّيُّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُمَا، أَنَّ هَؤُلَاءِ السَّبْعِينَ كَانُوا عُلَمَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَعَهُمْ مُوسَى، وَهَارُونُ، وَيُوشَعُ، وَنَادَابُ، وَأَبِيهُو، ذَهَبُوا مَعَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِيَعْتَذِرُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عِبَادَةِ مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ، وَكَانُوا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَتَطَيَّبُوا وَيَتَطَهَّرُوا وَيَغْتَسِلُوا، فَلَمَّا ذَهَبُوا مَعَهُ، وَاقْتَرَبُوا مِنَ الْجَبَلِ، وَعَلَيْهِ الْغَمَامُ، وَعَمُودُ النُّورِ سَاطِعٌ، وَصَعِدَ مُوسَى الْجَبَلَ، فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ، وَهَذَا قَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 57 ]. وَلَيْسَ هَذَا بِلَازِمٍ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ أَيْ; مُبَلَّغًا، وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ سَمِعُوهُ مُبَلَّغًا مِنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَزَعَمُوا أَيْضًا أَنَّ السَّبْعِينَ رَأَوُا اللَّهَ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا الرُّؤْيَةَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ الْبَقَرَةِ: 55، 56 ]. وَقَالَ هَاهُنَا:
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ الْآيَةَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اخْتَارَ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعِينَ رَجُلًا، الْخَيِّرَ فَالْخَيِّرَ وَقَالَ: انْطَلَقُوا إِلَى اللَّهِ، فَتُوبُوا إِلَيْهِ مِمَّا صَنَعْتُمْ، وَسَلُوهُ التَّوْبَةَ عَلَى مَنْ تَرَكْتُمْ وَرَاءَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ، صُومُوا وَتَطَهَّرُوا، وَطَهِّرُوا ثِيَابَكُمْ. فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى طُورِ سَيْنَاءَ لِمِيقَاتٍ وَقَّتَهُ لَهُ رَبَّهُ، وَكَانَ لَا يَأْتِيهِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ وَعِلْمٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ السَّبْعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ، فَقَالَ: أَفْعَلُ. فَلَمَّا دَنَا مُوسَى مِنَ الْجَبَلِ وَقَعَ عَلَيْهِ عَمُودُ الْغَمَامِ حَتَّى تَغَشَّى الْجَبَلَ كُلَّهُ، وَدَنَا مُوسَى فَدَخَلَ فِي الْغَمَامِ، وَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوا. وَكَانَ مُوسَى إِذَا كَلَّمَهُ اللَّهُ وَقَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ نُورٌ سَاطِعٌ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَضَرَبَ دُونَهُ بِالْحِجَابِ، وَدَنَا الْقَوْمُ، حَتَّى إِذَا دَخَلُوا فِي الْغَمَامِ، وَقَعُوا سُجُودًا، فَسَمِعُوهُ وَهُوَ يُكَلِّمُ مُوسَى، يَأْمُرُ وَيَنْهَاهُ; افْعَلْ. وَلَا تَفْعَلْ. فَلَمَّا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ، وَانْكَشَفَ عَنْ مُوسَى الْغَمَامَ أَقْبَلَ إِلَيْهِمْ قَالُوا لِمُوسَى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ - وَهِيَ الصَّاعِقَةُ - فَافْتَلَتَتْ أَرْوَاحُهُمْ، فَمَاتُوا جَمِيعًا فَقَامَ مُوسَى يُنَاشِدُ رَبَّهُ، وَيَدْعُوهُ، وَيَرْغَبُ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أَيْ; لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ مِنَّا، فَإِنَّا بُرَآءُ مِمَّا عَمِلُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ،
وَقَتَادَةُ،
وَابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا
قَوْمَهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ. وَقَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ
أَيِ; اخْتِبَارُكَ، وَابْتِلَاؤُكَ، وَامْتِحَانُكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. يَعْنِي: أَنْتَ الَّذِي
قَدَّرْتَ هَذَا، وَخَلَقْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْعِجْلِ، اخْتِبَارًا
تَخْتَبِرُهُمْ بِهِ، كَمَا قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ: يَا قَوْمِ
إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ أَيِ ; اخْتُبِرْتُمْ بِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: تُضِلُّ
بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَيْ ; مَنْ شِئْتَ أَضْلَلْتَهُ
بِاخْتِبَارِكَ إِيَّاهُ، وَمَنْ شِئْتَ هَدَيْتَهُ، لَكَ الْحُكْمُ وَالْمَشِيئَةُ،
فَلَا مَانِعَ وَلَا رَادَّ لِمَا حَكَمْتَ وَقَضَيْتَ. أَنْتَ وَلِيُّنَا
فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا
إِلَيْكَ أَيْ; تُبْنَا إِلَيْكَ وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا. قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ،
وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ. قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ
مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَيْ; أَنَا أُعَذِّبُ مَنْ
شِئْتُ بِمَا أَشَاءُ مِنَ الْأُمُورِ، الَّتِي أَخْلُقُهَا وَأُقَدِّرُهَا،
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ كَمًّا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ
" عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ اللَّهَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَتَبَ
كِتَابًا، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ
غَضَبِي فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
أَيْ; فَسَأُوجِبُهَا حَتْمًا لِمَنْ يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الْآيَةَ. وَهَذَا فِيهِ تَنْوِيهٌ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتِهِ، مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي جُمْلَةِ مَا نَاجَاهُ بِهِ، وَأَعْلَمَهُ وَأَطْلَعَهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا فِي " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَمَقْنَعٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ أَجِدُّ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، هُمُ الْآخِرُونَ فِي الْخَلْقِ، السَّابِقُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، يَقْرَؤُونَهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ نَظَرًا، حَتَّى إِذَا رَفَعُوهَا لَمْ يَحْفَظُوا شَيْئًا وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ مِنَ الْحِفْظِ شَيْئًا، لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنَ الْأُمَمِ. قَالَ: رَبِّ اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، يُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ، وَبِالْكِتَابِ الْآخِرِ، وَيُقَاتِلُونَ فُضُولَ الضَّلَالَةِ، حَتَّى يُقَاتِلُوا الْأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، صَدَقَاتُهُمْ يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ، وَيُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَقُبِلَتْ مِنْهُ بَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهَا نَارًا فَأَكْلَتْهَا، وَإِنْ رُدَّتْ عَلَيْهِ تُرِكَتْ فَتَأْكُلُهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ، وَإِنَّ اللَّهَ أَخَذَ صَدَقَاتِكُمْ مِنْ غَنِيِّكُمْ لِفَقِيرِكُمْ قَالَ: رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي. قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ فَإِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمَّةً، إِذَا هَمَّ أَحَدُهُمْ
بِحَسَنَةٍ، ثُمَّ
لَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ
أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، قَالَ: رَبِّ، اجْعَلْهُمْ أُمَّتِي.
قَالَ: تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ
أُمَّةً هُمُ الْمُشَفَّعُونَ، الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي.
قَالَ تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ. قَالَ لَنَا قَتَادَةُ: فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَبَذَ الْأَلْوَاحَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي
مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مَا كَانَ مِنْ
مُنَاجَاةِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَوْرَدُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا
أَصْلَ لَهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا تَيَسَّرَ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ
وَالْآثَارِ، بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَحُسْنِ هِدَايَتِهِ وَمَعُونَتِهِ
وَتَأْيِيدِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمٍ، مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ فِي "
صَحِيحِهِ ": ذِكْرُ سُؤَالِ كَلِيمِ اللَّهِ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ عَنْ
أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَرْفَعِهِمْ مَنْزِلَةً; أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ
سَعِيدٍ الطَّائِيُّ بِمَنْبَجَ، حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفُ بْنُ طَرِيفٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَبْجَرَ - شَيْخَانِ صَالِحَانِ - سَمِعْنَا الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ
الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَأَلَ رَبَّهُ،
عَزَّ وَجَلَّ: أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَدْنَى مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: رَجُلٌ
يَجِيءُ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ: ادْخُلِ
الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: كَيْفَ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ
مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ. فَيُقَالُ لَهُ: تَرْضَى أَنْ يَكُونَ
لَكَ مِنَ الْجَنَّةِ مِثْلُ مَا كَانَ لِمَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ.
فَيُقَالُ: لَكَ هَذَا، وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، رَضِيتُ. فَيُقَالُ: إِنَّ لَكَ هَذَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهِ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ رَضِيتُ. فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ مَعَ هَذَا مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ، وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. وَسَأَلَ رَبَّهُ: أَيُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْفَعُ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: سَأُحَدِّثُكَ عَنْهُمْ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ الْآيَةَ. وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ، وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، بِهِ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ مُلْكِ مَلِكٍ مَنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ. فَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ، فَأَعْلَاهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، فَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَالْمَرْفُوعُ أَصَحُّ.
وَقَالَ ابْنُ
حِبَّانِ: ذِكْرُ سُؤَالِ الْكَلِيمِ رَبَّهُ عَنْ خِصَالٍ سَبْعٍ; حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمٍ، بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَدَّثَنَا
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ سِتِّ خِصَالٍ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهَا
لَهُ خَالِصَةٌ، وَالسَّابِعَةُ لَمْ يَكُنْ مُوسَى يُحِبُّهَا; قَالَ: يَا رَبِّ
أَيُّ عِبَادِكَ أَتْقَى؟ قَالَ: الَّذِي يَذْكُرُ وَلَا يَنْسَى. قَالَ: فَأَيُّ
عِبَادِكَ أَهْدَى؟ قَالَ الَّذِي يَتَّبِعُ الْهُدَى. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ
أَحْكَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَحْكُمُ لِلنَّاسِ كَمَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ. قَالَ:
فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: عَالِمٌ لَا يَشْبَعُ مِنَ الْعِلْمِ، يَجْمَعُ
عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعَزُّ؟ قَالَ:
الَّذِي إِذَا قَدَرَ غَفَرَ. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَغْنَى؟ قَالَ: الَّذِي
يَرْضَى بِمَا يُؤْتَى. قَالَ: فَأَيُّ عِبَادِكَ أَفْقَرُ؟ قَالَ: صَاحِبٌ
مَنْقُوصٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ
الْغِنَى عَنْ ظَهْرٍ، إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَإِذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فِي نَفْسِهِ، وَتُقَاهُ فِي قَلْبِهِ،
وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: قَوْلُهُ: صَاحِبٌ مَنْقُوصٌ. يُرِيدُ بِهِ مَنْقُوصَ
حَالَتِهِ، يَسْتَقِلُّ مَا أُوتِيَ، وَيَطْلُبُ الْفَضْلَ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ "، عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ،
عَنْ يَعْقُوبَ
الْقُمِّيِّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَفِيهِ: قَالَ: أَيْ رَبِّ، فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْلَمُ؟ قَالَ: الَّذِي يَبْتَغِي عِلْمَ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ، عَسَى أَنْ يُصِيبَ كَلِمَةً تَهْدِيهِ إِلَى هُدًى، أَوْ تَرُدُّهُ عَنْ رَدًى. قَالَ: أَيْ رَبِّ، فَهَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، الْخَضِرُ. فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
ذِكْرُ حَدِيثٍ
آخَرَ بِمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
إِنَّ مُوسَى قَالَ: أَيْ رَبِّ، عَبْدُكَ الْمُؤْمِنُ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا. قَالَ: فَفُتِحَ لَهُ بَابٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا،
قَالَ: يَا مُوسَى، هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ. فَقَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ
وَجَلَالِكَ، لَوْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، يُسْحَبُ عَلَى
وَجْهِهِ مُنْذُ يَوْمَ خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ هَذَا
مَصِيرَهُ، لَمْ يَرَ بُؤْسًا قَطُّ. قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيْ رَبِّ، عَبْدُكَ
الْكَافِرُ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: فَفُتِحَ لَهُ بَابٌ إِلَى
النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا مُوسَى، هَذَا مَا أَعْدَدْتُ لَهُ. فَقَالَ: أَيْ
رَبِّ، وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ، لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا مُنْذُ يَوْمَ
خَلَقْتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ هَذَا مَصِيرَهُ، لَمْ يَرَ
خَيْرًا قَطُّ تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَفِي صِحَّتِهِ
نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: ذِكْرُ سُؤَالِ كَلِيمِ اللَّهِ رَبَّهُ، جَلَّ وَعَلَا،
أَنْ يُعَلِّمَهُ شَيْئًا يَذْكُرُهُ بِهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ سَلْمٍ، حَدَّثَنَا
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، إِنَّ دَرَّاجًا حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ،
عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ
عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ بِهِ وَأَدْعُوكَ بِهِ. قَالَ: قُلْ يَا مُوسَى:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: يَا رَبِّ كُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَا.
قَالَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا
تَخُصُّنِي بِهِ. قَالَ: يَا مُوسَى لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ
وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ فِي كِفَّةٍ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ
مَالَتْ بِهِمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُوَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ
الْبِطَاقَةِ. وَأَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى مَعْنَاهُ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي
" السُّنَنِ " عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ، دُعَاءُ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ
أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الدَّشْتَكِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَشْعَثُ
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالُوا لِمُوسَى: هَلْ
يَنَامُ رَبُّكَ؟ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ. فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا مُوسَى
سَأَلُوكَ هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ، فَخُذْ زُجَاجَتَيْنِ فِي يَدَيْكَ فَقُمِ
اللَّيْلَ، فَفَعَلَ مُوسَى، فَلَمَّا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُ، نَعَسَ
فَوَقَعَ لِرُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ انْتَعَشَ،
فَضَبَطَهُمَا
حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ نَعَسَ، فَسَقَطَتِ الزُّجَاجَتَانِ،
فَانْكَسَرَتَا. فَقَالَ: يَا مُوسَى، لَوْ كُنْتُ أَنَامُ، لَسَقَطَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَهَلَكْنَ كَمَا هَلَكَتِ الزُّجَاجَتَانِ فِي
يَدَيْكَ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، حَدَّثَنَا
هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ شِبْلٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ،
عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي عَنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى
الْمِنْبَرِ، قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَلْ يَنَامُ
اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا، فَأَرَّقَهُ
ثَلَاثًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ قَارُورَتَيْنِ، فِي كُلِّ يَدِ قَارُورَةٌ، وَأَمَرَهُ
أَنْ يَحْتَفِظَ بِهِمَا، قَالَ: فَجَعَلَ يَنَامُ، وَكَادَتْ يَدَاهُ
تَلْتَقِيَانِ فَيَسْتَيْقِظُ، فَيَحْبِسُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، حَتَّى
نَامَ نَوْمَةً، فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ، فَانْكَسَرَتِ الْقَارُورَتَانِ قَالَ:
ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ مَثَلًا، أَنْ لَوْ كَانَ يَنَامُ، لَمْ تَسْتَمْسِكِ
السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ رَفْعُهُ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ
يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَأَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ إِسْرَائِيلِيًّا.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ الْبَقَرَةِ: 63، 64 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الْأَعْرَافِ: 171 ]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: لَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْأَلْوَاحِ فِيهَا التَّوْرَاةُ، أَمَرَهُمْ بِقَبُولِهَا، وَالْأَخْذِ بِهَا بِقُوَّةٍ وَعَزْمٍ، فَقَالُوا: انْشُرْهَا عَلَيْنَا، فَإِنْ كَانَتْ أَوَامِرُهَا وَنَوَاهِيهَا سَهْلَةً، قَبِلْنَاهَا. فَقَالَ: بَلِ اقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا. فَرَاجَعُوهُ مِرَارًا فَأَمْرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ فَرَفَعُوا الْجَبَلَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، أَيْ غَمَامَةٌ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ تَقْبَلُوهَا بِمَا فِيهَا، وَإِلَّا سَقَطَ هَذَا الْجَبَلُ عَلَيْكُمْ. فَقَبِلُوا ذَلِكَ، وَأُمِرُوا بِالسُّجُودِ فَسَجَدُوا، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ بِشِقِّ وُجُوهِهِمْ، فَصَارَتْ سُنَّةً لِلْيَهُودِ إِلَى الْيَوْمِ، يَقُولُونَ لَا سَجْدَةَ أَعْظَمُ مِنْ سَجْدَةٍ رَفَعَتْ عَنَّا الْعَذَابَ. وَقَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: فَلَمَّا نَشَرَهَا لَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ، إِلَّا اهْتَزَّ، فَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيٌّ صَغِيرٌ وَلَا كَبِيرٌ تَقْرَأُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ إِلَّا اهْتَزَّ، وَنَفَضَ لَهَا رَأْسَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أَيْ; ثُمَّ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ هَذَا الْمِيثَاقِ الْعَظِيمِ، وَالْأَمْرِ الْجَسِيمِ، نَكَثْتُمْ عُهُودَكُمْ وَمَوَاثِيقَكُمْ، فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بِأَنْ تَدَارَكَكُمْ بِالْإِرْسَالِ إِلَيْكُمْ، وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْكُمْ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
قِصَّةُ بَقَرَةِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ
أَعُوَذٌ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ
وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا
بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا
رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا
ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا
قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ
قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَءتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ
تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ
الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [ الْبَقَرَةِ: 67 - 73
].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ،
وَمُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: كَانَ رَجُلٌ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَ الْمَالِ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا وَلَهُ بَنُو
أَخٍ، وَكَانُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ; لِيَرِثُوهُ، فَعَمَدَ أَحَدُهُمْ
فَقَتَلَهُ فِي اللَّيْلِ، وَطَرْحَهُ فِي مَجْمَعِ الطُّرُقِ، وَيُقَالُ: عَلَى
بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ. فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ اخْتَصَمُوا فِيهِ، وَجَاءَ
ابْنُ أَخِيهِ، فَجَعَلَ يَصْرُخُ وَيَتَظَلَّمُ، فَقَالُوا: مَا لَكُمْ
تَخْتَصِمُونَ وَلَا تَأْتُونَ نَبِيَّ اللَّهِ، فَجَاءَ ابْنُ أَخِيهِ فَشَكَى
أَمْرَ عَمِّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلًا عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ
أَمْرِ
هَذَا الْقَتِيلِ
إِلَّا أَعْلَمَنَا بِهِ. فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عِلْمٌ،
وَسَأَلُوهُ أَنَّ يَسْأَلَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ،
فَسَأَلَ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي ذَلِكَ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ
يَأْمُرَهُمْ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يَعْنُونَ; نَحْنُ نَسْأَلُكَ
عَنْ أَمْرِ هَذَا الْقَتِيلِ، وَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا. قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ أَيْ; أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَقُولَ عَنْهُ
غَيْرَ مَا أَوْحَى إِلَيَّ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجَابَنِي حِينَ سَأَلْتُهُ
عَمَّا سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ أَنْ أَسْأَلَهُ فِيهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَعَبِيدَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فَلَوْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَيِّ بَقَرَةٍ فَذَبَحُوهَا
لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ. وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ،
فَسَأَلُوا عَنْ صِفَتِهَا، ثُمَّ عَنْ لَوْنِهَا ثُمَّ عَنْ سِنِّهَا فَأُجِيبُوا
بِمَا عَزَّ وُجُودُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ
فِي " التَّفْسِيرِ ".
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ عَوَانٍ; وَهِيَ الْوَسَطُ
بَيْنَ النِّصْفِ الْفَارِضِ، وَهِيَ الْكَبِيرَةُ، وَالْبِكْرُ، وَهِيَ
الصَّغِيرَةُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ،
وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَجَمَاعَةٌ. ثُمَّ شَدَّدُوا،
وَضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَسَأَلُوا عَنْ لَوْنِهَا، فَأُمِرُوا
بِصَفْرَاءَ فَاقِعٍ لَوْنُهَا، أَيْ مُشْرَبٍ بِحُمْرَةٍ، تَسُرُّ النَّاظِرِينَ،
وَهَذَا اللَّوْنُ عَزِيزٌ. ثُمَّ شَدَّدُوا أَيْضًا فَقَالُوا:
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ فَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ: لَوْلَا أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ اسْتَثْنَوْا لَمَا أُعْطُوا وَفِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ أَضْيَقُ مِمَّا تَقَدَّمَ، حَيْثُ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، لَيْسَتْ بِالذَّلُولِ، وَهِيَ الْمُذَلَّلَةُ بِالْحِرَاثَةِ وَسَقْيِ الْأَرْضِ بِالسَّانِيَةِ، مُسَلَّمَةٌ; وَهِيَ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا عَيْبَ فِيهَا. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ. وَقَوْلُهُ: لَا شِيَةَ فِيهَا أَيْ; لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ يُخَالِفُ لَوْنَهَا بَلْ هِيَ مُسَلَّمَةٌ مِنَ الْعُيُوبِ وَمِنْ مُخَالَطَةِ سَائِرِ الْأَلْوَانِ غَيْرِ لَوْنِهَا، فَلَمَّا حَدَّدَهَا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَحَصَرَهَا بِهَذِهِ النُّعُوتِ وَالْأَوْصَافِ، قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا هَذِهِ الْبَقَرَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، كَانَ بَارًّا بِأَبِيهِ، فَطَلَبُوهَا مِنْهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَأَرْغَبُوهُ فِي ثَمَنِهَا، حَتَّى - أَعْطَوْهُ فِيمَا ذَكَرَ السُّدِّيُّ - بِوَزْنِهَا ذَهَبًا، فَأَبَى عَلَيْهِمْ حَتَّى أَعْطَوْهُ بِوَزْنِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَبَاعَهَا مِنْهُمْ، فَأَمَرَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى بِذَبْحِهَا، فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أَيْ; وَهُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرِهَا. ثُمَّ أَمَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ أَنْ يَضْرِبُوا ذَلِكَ الْقَتِيلَ بِبَعْضِهَا، قِيلَ: بِلَحْمِ فَخِذِهَا. وَقِيلَ: بِالْعَظْمِ الَّذِي يَلِي الْغُضْرُوفَ. وَقِيلَ: بِالْبِضْعَةِ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، فَلَمَّا ضَرَبُوهُ بِبَعْضِهَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَامَ وَهُوَ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ، فَسَأَلَهُ نَبِيُّ اللَّهِ: مَنْ قَتَلَكَ؟ قَالَ قَتَلَنِي ابْنُ أَخِي. ثُمَّ عَادَ
مَيِّتًا كَمَا كَانَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ; كَمَا شَاهَدْتُمْ إِحْيَاءَ هَذَا الْقَتِيلِ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ، كَذَلِكَ أَمْرُهُ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى، إِذَا شَاءَ إِحْيَاءَهُمْ أَحْيَاهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا قَالَ: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ الْآيَةَ [ لُقْمَانَ: 28 ].
قِصَّةُ مُوسَى
وَالْخَضِرِ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى
أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ
بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ
سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ
أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا
نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا
آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا قَالَ
لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ
تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي
لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ
خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا
إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا
تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَانْطَلَقَا
حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً
بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا
فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى
إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ فَأَقَامَهُ
قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ
أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ. مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا
خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا
صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [ الْكَهْفِ: 60 - 82 ].
قَالَ بَعْضُ
أَهْلِ الْكِتَابِ: إِنَّ مُوسَى هَذَا الَّذِي رَحَلَ إِلَى الْخَضِرِ، هُوَ
مُوسَى بْنُ مِيشَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ. وَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ صُحُفِهِمْ،
وَيَنْقُلُ عَنْ كُتُبِهِمْ، مِنْهُمْ نَوْفُ بْنُ فَضَالَةَ الْحِمْيَرِيُّ
الشَّامِيُّ الْبِكَالِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ دِمَشْقِيٌّ. وَكَانَتْ أُمُّهُ
زَوْجَةَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ سِيَاقِ
الْقُرْآنِ، وَنَصُّ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ،
أَنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، صَاحِبُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ
عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ
لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَبَ
عَدُوُّ اللَّهِ; حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ; إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، إِنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ. فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ بِمِكْتَلٍ، ثُمَّ انْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا الصَّخْرَةَ، وَضَعَا رُءُوسَهُمَا فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتَ فِي الْمِكْتَلِ، فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ، فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ " قَالَ " مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا. وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ " قَالَ " لَهُ فَتَاهَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا قَالَ: فَرَجَعَا يَقُصَّانِ أَثَرَهُمَا، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ. قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا. " قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا "، يَا مُوسَى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ، لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مَنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ، فَقَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا. قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا
فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ، فَكَلَّمَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لَمْ يَفْجَأْ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا " لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا " قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ. ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: " أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا " قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، " قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ " قَالَ: مَائِلٌ. فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ " فَأَقَامَهُ " فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا، وَلَمْ يُضَيِّفُونَا " لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ
صَبَرَ، حَتَّى
يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَكَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: ( وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ
صَالِحَةٍ غَصْبًا ). وَكَانَ يَقْرَأُ: ( وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا
وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ).
ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ: فَخَرَجَ مُوسَى، وَمَعَهُ فَتَاهُ
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَمَعَهُمَا الْحُوتُ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ،
فَنَزَلَا عِنْدَهَا. قَالَ: فَوَضَعَ مُوسَى رَأْسَهُ فَنَامَ قَالَ سُفْيَانُ:
وَفِي حَدِيثِ غَيْرِ عَمْرٍو، قَالَ: وَفِي أَصْلِ الصَّخْرَةِ عَيْنٌ يُقَالُ لَهَا:
الْحَيَاةُ. لَا يُصِيبُ مِنْ مَائِهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، فَأَصَابَ الْحُوتُ
مِنْ مَاءِ تِلْكَ الْعَيْنِ، قَالَ: فَتَحَرَّكَ، وَانْسَلَّ مِنَ الْمِكْتَلِ،
وَدَخَلَ الْبَحْرَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا
غَدَاءَنَا كَذَا قَالَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: وَوَقَعَ عُصْفُورٌ عَلَى
حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَغَمَسَ مِنْقَارَهُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ الْخَضِرُ
لِمُوسَى: مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ وَعِلْمُ الْخَلَائِقِ، فِي عِلْمِ اللَّهِ،
إِلَّا مِقْدَارُ مَا غَمَسَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْقَارَهُ وَذَكَرَ تَمَامَ
الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ
بْنُ يُوسُفَ، أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى
بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - يَزِيدُ
أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَغَيْرُهُمَا قَدْ سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُهُ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - قَالَ: إِنَّا لَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَيْتِهِ إِذْ
قَالَ: سَلُونِي. فَقُلْتُ: أَيْ أَبَا عَبَّاسٍ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ،
بِالْكُوفَةِ رَجُلٌ قَاصٌّ، يُقَالُ لَهُ: نَوْفٌ. يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ
بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. أَمَّا عَمْرٌو فَقَالَ لِي: قَالَ: قَدْ كَذَبَ
عَدُوُّ اللَّهِ.
وَأَمَّا يَعْلَى، فَقَالَ لِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: ذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ، وَلَّى، فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ; إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ. قِيلَ: بَلَى. قَالَ: أَيْ رَبِّ فَأَيْنَ؟ قَالَ: بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: أَيْ رَبِّ، اجْعَلْ لِي عِلْمًا أَعْلَمُ ذَلِكَ بِهِ. قَالَ لِي عَمْرٌو: قَالَ: حَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ. وَقَالَ لِي يَعْلَى: قَالَ: خُذْ حُوتًا مَيِّتًا، حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ، فَقَالَ لِفَتَاهُ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الْحُوتُ. قَالَ مَا كَلَّفْتَ كَبِيرًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ - لَيْسَتْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ظِلِّ صَخْرَةٍ، فِي مَكَانٍ ثَرْيَانَ ; إِذْ تَضَرَّبَ الْحُوتُ، وَمُوسَى نَائِمٌ، فَقَالَ فَتَاهَ: لَا أُوقِظُهُ. حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ، نَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ، وَتَضَرَّبَ الْحُوتُ حَتَّى دَخَلَ الْبَحْرَ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُ جَرْيَةَ الْبَحْرِ، حَتَّى كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ قَالَ لِي عَمْرٌو: هَكَذَا كَأَنَّ أَثَرَهُ فِي حَجَرٍ وَحَلَّقَ بَيْنَ إِبْهَامَيْهِ وَاللَّتَيْنِ تَلِيَانِهِمَا.
لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا قَالَ: " وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ عَنْكَ النَّصَبَ " لَيْسَتْ هَذِهِ عَنْ سَعِيدٍ، " أَخْبَرَهُ فَرَجَعَا، فَوَجَدَا خَضِرًا، قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: " عَلَى طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ، عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ ". قَالَ سَعِيدٌ: " مُسَجًّى بِثَوْبِهِ، قَدْ جَعَلَ طَرَفَهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ، وَطَرَفَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: هَلْ بِأَرْضٍ مِنْ سَلَامٍ؟ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: جِئْتُكَ لِ " تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا " قَالَ: أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ بِيَدَيْكَ وَأَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيكَ؟ يَا مُوسَى، إِنَّ لِي عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَعْلَمَهُ، وَإِنَّ لَكَ عِلْمًا لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَعْلَمَهُ، فَأَخَذَ طَائِرٌ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ، إِلَّا كَمَا أَخَذَ هَذَا الطَّائِرُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ وَجَدَا مَعَابِرَ صِغَارًا، تَحْمِلُ أَهْلَ هَذَا السَّاحِلِ إِلَى أَهْلِ هَذَا السَّاحِلِ الْآخَرِ، عَرَفُوهُ فَقَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ الصَّالِحُ؟ " قَالَ: فَقُلْنَا لِسَعِيدٍ: خَضِرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. " لَا نَحْمِلُهُ بِأَجْرٍ فَخَرَقَهَا وَوَتَّدَ فِيهَا وَتِدًا " قَالَ " مُوسَى: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا - قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْكَرًا - قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا كَانَتِ الْأُولَى، نِسْيَانًا، وَالْوُسْطَى شَرْطًا، وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ يَعْلَى: قَالَ سَعِيدٌ: وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا ظَرِيفًا، فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ
قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَمْ تَعْمَلْ بِالْخَبَثِ ". ابْنُ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا: ( زَكِيَّةً زَاكِيَةً مُسْلِمَةً ). كَقَوْلِكَ: غُلَامًا زَكِيًّا. فَانْطَلَقَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ " قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَرَفَعَ يَدَهُ فَاسْتَقَامَ. قَالَ يَعْلَى: حَسِبْتُ أَنَّ سَعِيدًا قَالَ: " فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ سَعِيدٌ: أَجْرًا نَأْكُلُهُ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ( وَكَانَ أَمَامَهُمْ ) قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَزْعُمُونَ عَنْ غَيْرِ سَعِيدٍ أَنَّهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ وَالْغُلَامُ الْمَقْتُولُ يَزْعُمُونَ: جَيْسُورُ. مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فَإِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ يَدَعُهَا بِعَيْبِهَا فَإِذَا جَاوَزُوا أَصْلَحُوهَا فَانْتَفَعُوا بِهَا. مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بِالْقَارِ. فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ وَكَانَ كَافِرًا فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا أَيْ; يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا لِقَوْلِهِ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً " وَأَقْرَبَ رُحْمًا " هُمَا بِهِ أَرْحَمُ مِنْهَا بِالْأَوَّلِ، الَّذِي قَتَلَ خَضِرٌ. وَزَعَمَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُمَا أُبْدِلَا جَارِيَةً، وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ فَقَالَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: إِنَّهَا جَارِيَةٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَبَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ،
فَقَالَ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ مِنِّي. فَأُمِرَ أَنْ
يَلْقَى هَذَا الرَّجُلَ. فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا، وَرَوَاهُ الْعَوْفِيُّ عَنْهُ
مَوْقُوفًا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ
الْفَزَارِيُّ، فِي صَاحِبِ مُوسَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ. فَمَرَّ
بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي
تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ
إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ:
نَعَمْ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَصَّيْنَا طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ،
وَأَلْفَاظَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْكَهْفِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ
تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَهُمَا أَصْرَمُ وَصَرِيمُ، ابْنَا كَاشِحَ. وَكَانَ تَحْتَهُ
كَنْزٌ لَهُمَا قِيلَ: كَانَ ذَهَبًا. قَالَهُ عِكْرِمَةُ، وَقِيلَ: عِلْمًا.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ،
مَكْتُوبًا فِيهِ عِلْمٌ.
قَالَ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ،
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْيَحْصُبِيُّ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ الْغَسَّانِيِّ، عَنِ ابْنِ
حُجَيْرَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَفَعَهُ قَالَ: إِنَّ الْكَنْزَ الَّذِي ذَكَرَ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ مُصْمَتٍ: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ
بِالْقَدَرِ كَيْفَ نَصِبَ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ النَّارَ ثُمَّ ضَحِكَ،
وَعَجِبْتُ لِمَنْ ذَكَرَ الْمَوْتَ ثُمَّ غَفَلَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ،
وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ، نَحْوُ هَذَا. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ الْأَبَ السَّابِعَ، وَقِيلَ: الْعَاشِرَ. وَعَلَى
كُلِّ تَقْدِيرٍ، فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ يُحْفَظُ فِي
ذُرِّيَّتِهِ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَوْلُهُ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا،
وَأَنَّهُ مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ بِأَمْرِ رَبِّهِ،
فَهُوَ نَبِيٌّ وَقِيلَ: رَسُولٌ. وَقِيلَ: وَلِيٌّ. وَأَغْرَبُ
مِنْ هَذَا مَنْ قَالَ: كَانَ مَلَكًا. قُلْتُ: وَقَدْ أَغْرَبَ جِدًّا مَنْ قَالَ: هُوَ ابْنُ فِرْعَوْنَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ ضَحَّاكٍ الَّذِي مَلَكَ الدُّنْيَا أَلْفَ سَنَةٍ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ الَّذِي قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ أَفْرِيدُونَ، وَذُو الْفَرَسِ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الْخَلِيلِ. وَزَعَمُوا أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ، فَخَلَدَ، وَهُوَ بَاقٍ إِلَى الْآنَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ وَلَدِ بَعْضِ مَنْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ. وَقِيلَ: اسْمُهُ مَلْكَانُ. وَقِيلَ: إِرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا. وَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا فِي زَمَنِ سَبَاسِبَ بْنِ لَهْرَاسِبَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ كَانَ بَيْنَ أَفْرِيدُونَ وَبَيْنَ سَبَاسِبَ دُهُورٌ طَوِيلَةٌ، لَا يَجْهَلُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ أَفْرِيدُونَ، وَاسْتَمَرَّ حَيًّا إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ نُبُوَّةُ مُوسَى فِي زَمَنِ مَنُوشِهْرَ، الَّذِي هُوَ مِنْ وَلَدِ إِيرَجَ بْنِ أَفْرِيدُونَ، أَحَدِ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَكَانَ إِلَيْهِ الْمُلْكُ بَعْدَ جَدِّهِ أَفْرِيدُونَ لِعَهْدِهِ، وَكَانَ عَادِلًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَنْدَقَ الْخَنَادِقَ، وَأَوَّلُ مَنْ جَعَلَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ دِهْقَانًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ قَرِيبًا مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الْخُطَبِ الْحِسَانِ، وَالْكَلِمِ الْبَلِيغِ النَّافِعِ الْفَصِيحِ، مَا يُبْهِرُ الْعَقْلَ، وَيُحَيِّرُ السَّامِعَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا
آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا
مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ [ آلِ
عِمْرَانَ: 81 ].
فَأَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ كُلِّ نَبِيٍّ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ يَجِيءُ
بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَنْصُرُهُ، فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا فِي
زَمَانِهِ، لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، وَالِاجْتِمَاعُ بِهِ،
وَالْقِيَامُ بِنَصْرِهِ، وَلَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ تَحْتَ لِوَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ،
كَمَا كَانَ تَحْتَهَا جِبْرِيلُ وَسَادَاتٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقُصَارَى
الْخَضِرِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَهُوَ الْحَقُّ، أَوْ
رَسُولًا، كَمَا قِيلَ، أَوْ مَلَكًا فِيمَا ذُكِرَ، وَأَيًّا مَا كَانَ،
فَجِبْرِيلُ رَئِيسُ الْمَلَائِكَةِ، وَمُوسَى أَشْرَفُ مِنَ الْخَضِرِ، وَلَوْ
كَانَ حَيًّا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ وَنُصْرَتُهُ، فَكَيْفَ
إِنْ كَانَ الْخَضِرُ وَلِيًّا، كَمَا يَقُولُهُ طَوَائِفُ كَثِيرُونَ، فَأَوْلَى
أَنْ يَدْخُلَ فِي عُمُومِ الْبَعْثَةِ، وَأَحْرَى.
وَلَمْ يُنْقَلْ فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، بَلْ وَلَا ضَعِيفٍ يُعْتَمَدُ، أَنَّهُ
جَاءَ يَوْمًا وَاحِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَلَا اجْتَمَعَ بِهِ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ حَدِيثِ التَّعْزِيَةِ فِيهِ، وَإِنْ
كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ رَوَاهُ، فَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسَنُفْرِدُ لِخَضِرٍ تَرْجَمَةً عَلَى حِدَةٍ بَعْدَ هَذَا.
ذِكْرُ الْحَدِيثِ
الْمُلَقَّبِ بِحَدِيثِ الْفُتُونِ الْمُتَضَمِّنِ قِصَّةَ مُوسَى مَبْسُوطَةً
مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ، فِي كِتَابِ
التَّفْسِيرِ مِنْ سُنَنِهِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " طه
": وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا.
( حَدِيثُ الْفُتُونِ ): حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا أَصْبَغُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ
بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِمُوسَى: وَفَتَنَّاكَ
فُتُونًا. فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفُتُونِ: مَا هُوَ؟ فَقَالَ: اسْتَأْنِفِ
النَّهَارَ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ، فَإِنَّ لَهَا حَدِيثًا طَوِيلًا. فَلَمَّا
أَصْبَحْتُ، غَدَوْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ; لِأَنْتَجِزَ مِنْهُ مَا وَعَدَنِي
مِنْ حَدِيثِ الْفُتُونِ، فَقَالَ: تَذَاكَرَ فِرْعَوْنُ وَجُلَسَاؤُهُ مَا كَانَ
اللَّهُ وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَجْعَلَ فِي
ذُرِّيَّتِهِ أَنْبِيَاءَ وَمُلُوكًا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ يَنْتَظِرُونَ ذَلِكَ، مَا يَشُكُّونَ فِيهِ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ
أَنَّهُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، فَلَمَّا هَلَكَ قَالُوا: لَيْسَ هَكَذَا كَانَ
وَعْدُ إِبْرَاهِيمَ. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: فَكَيْفَ تَرَوْنَ؟ فَائْتَمَرُوا،
وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ رِجَالًا مَعَهُمُ الشِّفَارُ،
يَطُوفُونَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَا يَجِدُونَ مَوْلُودًا ذَكَرًا
إِلَّا ذَبَحُوهُ فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَمُوتُونَ بِآجَالِهِمْ، وَالصِّغَارَ يُذْبَحُونَ، قَالُوا: تُوشِكُونَ أَنْ تُفْنُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَصِيرُوا إِلَى أَنْ تُبَاشِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْخِدْمَةِ، الَّذِي كَانُوا يَكْفُونَكُمْ، فَاقْتُلُوا عَامًا كُلَّ مَوْلُودٍ ذَكَرٍ، فَيَقِلُّ نَبَاتُهُمْ، وَدَعُوا عَامًا فَلَا تَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا فَيَشِبُّ الصِّغَارُ مَكَانَ مَنْ يَمُوتُ مِنَ الْكِبَارِ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَكْثُرُوا بِمَنْ تَسْتَحْيُونَ مِنْهُمْ، فَتَخَافُوا مُكَاثَرَتَهُمْ إِيَّاكُمْ، وَلَنْ يَفْنَوْا بِمَنْ تَقْتُلُونَ، وَتَحْتَاجُونَ إِلَيْهِمْ. فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَحَمَلَتْ أُمُّ مُوسَى بِهَارُونَ فِي الْعَامِ الَّذِي لَا يُذْبَحُ فِيهِ الْغِلْمَانُ، فَوَلَدَتْهُ عَلَانِيَةً آمِنَةً. فَلَمَّا كَانَ مِنْ قَابِلٍ، حَمَلَتْ بِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا الْهَمُّ وَالْحُزْنُ - وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ - مَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ ; فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهَا: أَنْ لَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَمَرَهَا إِذَا وَلَدَتْ أَنْ تَجْعَلَهُ فِي تَابُوتٍ، وَتُلْقِيَهُ فِي الْيَمِّ، فَلَمَّا وَلَدَتْ فَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَوَارَى عَنْهَا ابْنُهَا، أَتَاهَا الشَّيْطَانُ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا: مَا فَعَلْتُ بِابْنِي؟ لَوْ ذُبِحَ عِنْدِي فَوَارَيْتُهُ وَكَفَّنْتُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقِيَهُ إِلَى دَوَابِّ الْبَحْرِ وَحِيتَانِهِ. فَانْتَهَى الْمَاءُ بِهِ حَتَّى أَوْفَى عِنْدَ فُرْضَةٍ تَسْتَقِي مِنْهَا جَوَارِي امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَخَذْنَهُ، فَهَمَمْنَ أَنْ يَفْتَحْنَ
التَّابُوتَ، فَقَالَ بَعْضُهُنَّ: إِنَّ فِي هَذَا مَالًا وَإِنَّا إِنْ فَتَحْنَاهُ، لَمْ تُصَدِّقْنَا امْرَأَةُ الْمَلِكِ بِمَا وَجَدْنَا فِيهِ فَحَمَلْنَهُ كَهَيْئَتِهِ لَمْ يُخْرِجْنَ مِنْهُ شَيْئًا حَتَّى دَفَعْنَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتْ فِيهِ غُلَامًا، فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَحَبَّةٌ، لَمْ تُلْقَ مِنْهَا عَلَى أَحَدٍ قَطُّ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا مِنْ ذِكْرِ كُلِّ شَيْءٍ، إِلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى، فَلَمَّا سَمِعَ الذَّبَّاحُونَ بِأَمْرِهِ أَقْبَلُوا بِشِفَارِهِمْ إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ; لِيَذْبَحُوهُ - وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ - فَقَالَتْ لَهُمْ: أَقِرُّوهُ فَإِنَّ هَذَا الْوَاحِدَ لَا يَزِيدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، حَتَّى آتِيَ فِرْعَوْنَ، فَأَسْتَوْهِبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِي، كُنْتُمْ قَدْ أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ، وَإِنْ أَمَرَ بِذَبْحِهِ، لَمْ أَلُمْكُمْ. فَأَتَتْ فِرْعَوْنَ فَقَالَتْ: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [ الْقَصَصِ: 9 ]. فَقَالَ فِرْعَوْنُ: يَكُونُ لَكِ، فَأَمَّا لِي، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي يُحْلَفُ بِهِ لَوْ أَقَرَّ فِرْعَوْنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ كَمَا أَقَرَّتِ امْرَأَتُهُ، لَهَدَاهُ اللَّهُ كَمَا هَدَاهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُ ذَلِكَ فَأَرْسَلَتْ إِلَى مَنْ حَوْلَهَا، إِلَى كُلِّ امْرَأَةٍ لَهَا لَبَنٌ، تَخْتَارُ لَهُ ظِئْرًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا أَخَذَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ لِتُرْضِعَهُ، لَمْ يُقْبِلْ عَلَى ثَدْيِهَا، حَتَّى أَشْفَقَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنَ اللَّبَنِ فَيَمُوتَ، فَأَحْزَنَهَا ذَلِكَ فَأَمَرَتْ بِهِ، فَأُخْرِجَ إِلَى السُّوقِ وَمَجْمَعِ النَّاسِ تَرْجُو أَنْ تَجِدَ لَهُ ظِئْرًا تَأْخُذُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَصْبَحَتْ أُمُّ مُوسَى وَالِهًا، فَقَالَتْ لِأُخْتِهِ: قُصِّي أَثَرَهُ وَاطْلُبِيهِ هَلْ تَسْمَعِينَ لَهُ ذِكْرًا؟ أَحَيٌّ ابْنِي أَمْ أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ؟ وَنَسِيَتْ مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا فِيهِ، فَبَصُرَتْ بِهِ أُخْتُهُ عَنْ جُنُبٍ - وَالْجُنُبُ; أَنْ يَسْمُوَ بَصَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى شَيْءٍ بَعِيدٍ وَهُوَ إِلَى جَنْبِهِ لَا
يَشْعُرُ بِهِ
فَقَالَتْ مِنَ الْفَرَحِ، حِينَ أَعْيَاهُمُ الظُّؤورَاتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ
عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ، وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ. فَأَخَذُوهَا
فَقَالُوا: مَا يُدْرِيكِ مَا نُصْحُهُمْ؟ هَلْ تَعْرِفُونَهُ؟ حَتَّى شَكُّوا فِي
ذَلِكَ - وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ - فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ
لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ، رَغْبَتُهُمْ فِي صِهْرِ الْمَلِكِ، وَرَجَاءُ مَنْفَعَةِ
الْمَلِكِ. فَأَرْسَلُوهَا، فَانْطَلَقَتْ إِلَى أُمِّهَا، فَأَخْبَرَتْهَا
الْخَبَرَ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَلَمَّا وَضَعَتْهُ فِي حِجْرِهَا نَزَا إِلَى
ثَدْيِهَا، فَمَصَّهُ حَتَّى امْتَلَأَ جَنْبَاهُ رِيًّا، وَانْطَلَقَ الْبَشِيرُ
إِلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ يُبَشِّرُونَهَا أَنَّ قَدْ وَجَدْنَا لِابْنِكِ
ظِئْرًا، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ بِهَا وَبِهِ. فَلَمَّا رَأَتْ مَا
يَصْنَعُ بِهَا، قَالَتِ: امْكُثِي تُرْضِعِي ابْنِي هَذَا; فَإِنِّي لَمْ أُحِبَّ
شَيْئًا حُبَّهُ قَطُّ. قَالَتْ أُمُّ مُوسَى: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتْرُكَ
بَيْتِي وَوَلَدِي فَيَضِيعَ فَإِنْ طَابَتْ نَفْسُكِ أَنْ تُعْطِينِيهِ،
فَأَذْهَبَ بِهِ إِلَى بَيْتِي فَيَكُونَ مَعِي لَا آلُوهُ خَيْرًا، فَعَلْتُ،
فَإِنِّي غَيْرُ تَارِكَةٍ بَيْتِي وَوَلَدِي.
وَذَكَرَتْ أُمُّ مُوسَى مَا كَانَ اللَّهُ وَعَدَهَا، فَتَعَاسَرَتْ عَلَى
امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَأَيْقَنَتْ أَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ مَوْعُودَهُ،
فَرَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهَا مِنْ يَوْمِهَا، وَأَنْبَتَهُ اللَّهُ نَبَاتًا
حَسَنًا، وَحَفِظَهُ لِمَا قَدْ قَضَى فِيهِ، فَلَمْ يَزَلْ بَنُو إِسْرَائِيلَ،
وَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ، مُمْتَنِعِينَ مِنَ السُّخْرَةِ وَالظُّلْمِ
مَا كَانَ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ، قَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِأُمِّ
مُوسَى: أَرِينِي ابْنِي. فَوَعَدَتْهَا يَوْمًا تُرِيهَا إِيَّاهُ فِيهِ،
وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ لِخُزَّانِهَا وَظُؤُورِهَا وَقَهَارِمَتِهَا: لَا
يَبْقَيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا اسْتَقْبَلَ ابْنِيَ الْيَوْمَ بِهَدِيَّةٍ
وَكَرَامَةٍ; لِأَرَى ذَلِكَ فِيهِ، وَأَنَا بَاعِثَةٌ أَمِينًا يُحْصِي كُلَّ مَا
يَصْنَعُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ. فَلَمْ تَزَلِ الْهَدَايَا وَالْكَرَامَةُ
وَالنِّحَلُ تَسْتَقْبِلُهُ مِنْ حِينَ خَرَجَ مِنْ بَيْتِ
أُمِّهِ إِلَى أَنَّ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا نَحَلَتْهُ، وَأَكْرَمَتْهُ وَفَرِحَتْ بِهِ، وَنَحَلَتْ أُمَّهُ بِحُسْنِ أَثَرِهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَتْ: لَآتِيَنَّ بِهِ فِرْعَوْنَ، فَلَيَنْحِلَنَّهُ، وَلَيُكْرِمَنَّهُ. فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهِ عَلَيْهِ، جَعَلَهُ فِي حِجْرِهِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ فَمَدَّهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ الْغُوَاةُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ لِفِرْعَوْنَ: أَلَا تَرَى مَا وَعَدَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيَّهُ، أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يَرُبُّكَ وَيَعْلُوكَ، وَيَصْرَعُكَ؟ فَأَرْسِلْ إِلَى الذَّبَّاحِينَ لِيَذْبَحُوهُ - وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ، بَعْدَ كُلِّ بَلَاءٍ ابْتُلِيَ بِهِ وَأُرِيدَ بِهِ فُتُونًا - فَجَاءَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تَسْعَى إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَتْ: مَا بَدَا لَكَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي وَهَبَتْهُ لِي؟ فَقَالَ: أَلَا تَرَيْنَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَصْرَعُنِي وَيَعْلُونِي؟ فَقَالَتِ: اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَمْرًا تَعْرِفُ فِيهِ الْحَقَّ; ائْتِ بِجَمْرَتَيْنِ، وَلُؤْلُؤَتَيْنِ، فَقَرِّبْهُنَّ إِلَيْهِ، فَإِنْ بَطَشَ بِاللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَاجْتَنَبَ الْجَمْرَتَيْنِ، عَرَفْتَ أَنَّهُ يَعْقِلُ. وَإِنْ تَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ، وَلَمْ يُرِدِ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، عَلِمْتَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُؤْثِرُ الْجَمْرَتَيْنِ عَلَى اللُّؤْلُؤَتَيْنِ وَهُوَ يَعْقِلُ. فَقُرِّبَ إِلَيْهِ، فَتَنَاوَلَ الْجَمْرَتَيْنِ، فَانْتَزَعَهُمَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ يَحْرِقَا يَدَهُ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: أَلَّا تَرَى؟ فَصَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ، بَعْدَ مَا كَانَ هَمَّ بِهِ، وَكَانَ اللَّهُ بَالِغًا فِيهِ أَمْرَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَكَانَ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَخْلُصُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ، بِظُلْمٍ وَلَا سُخْرَةٍ، حَتَّى امْتَنَعُوا كُلَّ الِامْتِنَاعِ، فَبَيْنَمَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَمْشِي فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، أَحَدُهُمَا فِرْعَوْنِيٌّ، وَالْآخَرُ إِسْرَائِيلِيٌّ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَغَضِبَ مُوسَى غَضَبًا شَدِيدًا; لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَنْزِلَتَهُ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَحِفْظَهُ لَهُمْ لَا يَعْلَمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا أُمُّ مُوسَى، إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَطْلَعَ مُوسَى مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَوَكَزَ مُوسَى الْفِرْعَوْنِيَّ، فَقَتَلَهُ، وَلَيْسَ يَرَاهُمَا أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالْإِسْرَائِيلِيُّ، فَقَالَ مُوسَى حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ثُمَّ قَالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [ الْقَصَصِ: 15، 16 ]. فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْأَخْبَارَ، فَأُتِيَ فِرْعَوْنُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، فَخُذْ لَنَا بِحَقِّنَا، وَلَا تُرَخِّصْ لَهُمْ. فَقَالَ: ابْغُونِي قَاتِلَهُ، مَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ الْمَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَفْوُهُ مَعَ قَوْمِهِ، لَا يَسْتَقِيمُ لَهُ أَنْ يُقِيدَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبَتٍ، فَاطْلُبُوا لِي عِلْمَ ذَلِكَ، آخُذْ لَكُمْ بِحَقِّكُمْ. فَبَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ لَا يَجِدُونَ بَيِّنَةً، إِذَا مُوسَى مِنَ الْغَدِ قَدْ رَأَى ذَلِكَ الْإِسْرَائِيلِيَّ، يُقَاتِلُ رَجُلًا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ آخَرَ، فَاسْتَغَاثَهُ الْإِسْرَائِيلِيُّ عَلَى الْفِرْعَوْنِيِّ، فَصَادَفَ مُوسَى قَدْ نَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَكَرِهَ الَّذِي رَأَى، فَغَضِبَ الْإِسْرَائِيلِيُّ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْطِشَ بِالْفِرْعَوْنِيِّ، فَقَالَ لِلْإِسْرَائِيلِيِّ، لِمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ وَالْيَوْمِ: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [ الْقَصَصِ: 18 ]. فَنَظَرَ الْإِسْرَائِيلِيُّ إِلَى مُوسَى، بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ، مَا قَالَ فَإِذَا هُوَ غَضْبَانُ كَغَضَبِهِ بِالْأَمْسِ، الَّذِي قَتَلَ فِيهِ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَا قَالَ لَهُ: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ، وَلَمْ يَكُنْ أَرَادَهُ، إِنَّمَا أَرَادَ الْفِرْعَوْنِيَّ، فَخَافَ الْإِسْرَائِيلِيُّ، وَقَالَ: يَا مُوسَى، أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ لَهُ; مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ إِيَّاهُ أَرَادَ مُوسَى لِيَقْتُلَهُ، فَتَتَارَكَا،
وَانْطَلَقَ الْفِرْعَوْنِيُّ، فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّ مِنَ الْخَبَرِ، حِينَ يَقُولُ: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ؟ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الذَّبَّاحِينَ لِيَقْتُلُوا مُوسَى، فَأَخَذَ رُسُلُ فِرْعَوْنَ الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ، يَمْشُونَ عَلَى هِينَتِهِمْ يَطْلُبُونَ مُوسَى، وَهُمْ لَا يَخَافُونَ أَنْ يَفُوتَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ شِيعَةِ مُوسَى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ، فَاخْتَصَرَ طَرِيقًا حَتَّى سَبَقَهُمْ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرَهُ - وَذَلِكَ مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ - فَخَرَجَ مُوسَى مُتَوَجِّهًا نَحْوَ مَدْيَنَ، لَمْ يَلْقَ بَلَاءً قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُ بِالطَّرِيقِ عِلْمٌ إِلَّا حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ قَالَ: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ [ الْقَصَصِ: 22، 23 ]. يَعْنِي بِذَلِكَ حَابِسَتَيْنِ غَنَمَهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا خَطْبُكُمَا مُعْتَزِلَتَيْنِ، لَا تَسْقِيَانِ مَعَ النَّاسِ؟ قَالَتَا: لَيْسَ لَنَا قُوَّةٌ نُزَاحِمُ الْقَوْمَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ فُضُولَ حِيَاضِهِمْ. فَسَقَى لَهُمَا، فَجَعَلَ يَغْرِفُ مِنَ الدَّلْوِ مَاءً كَثِيرًا، حَتَّى كَانَ أَوَّلَ الرِّعَاءِ، وَانْصَرَفَتَا بِغَنَمِهِمَا إِلَى أَبِيهِمَا، وَانْصَرَفَ مُوسَى، فَاسْتَظَلَّ بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [ الْقَصَصِ: 24 ]. وَاسْتَنْكَرَ أَبُوهُمَا سُرْعَةَ صُدُورِهِمَا بِغَنَمِهِمَا حُفَّلًا بِطَانًا، فَقَالَ: إِنَّ لَكُمَا الْيَوْمَ لَشَأْنًا. فَأَخْبَرَتَاهُ بِمَا صَنَعَ مُوسَى، فَأَمَرَ إِحْدَاهُمَا أَنْ تَدْعُوَهُ، فَأَتَتْ مُوسَى فَدَعَتْهُ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ: لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ الْقَصَصِ: 25 ]. لَيْسَ لِفِرْعَوْنَ وَلَا لِقَوْمِهِ عَلَيْنَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَسْنَا فِي مَمْلَكَتِهِ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [ الْقَصَصِ: 26 ]. فَاحْتَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى
أَنْ قَالَ لَهَا:
مَا يُدْرِيكِ مَا قُوَّتُهُ، وَمَا أَمَانَتُهُ؟ فَقَالَتْ: أَمَّا قُوَّتُهُ
فَمَا رَأَيْتُ مِنْهُ فِي الدَّلْوِ حِينَ سَقَى لَنَا، لَمْ أَرَ رَجُلًا قَطُّ
أَقْوَى فِي ذَلِكَ السَّقْيِ مِنْهُ، وَأَمَّا الْأَمَانَةُ فَإِنَّهُ نَظَرَ
إِلَيَّ حِينَ أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ وَشَخَصْتُ لَهُ فَلَمَّا عَلِمَ أَنِّي
امْرَأَةٌ صَوَّبَ رَأْسَهُ، فَلَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى بَلَّغْتُهُ رِسَالَتَكَ،
ثُمَّ قَالَ لِي: امْشِي خَلْفِي، وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيقَ. فَلَمْ يَفْعَلْ
هَذَا إِلَّا وَهُوَ أَمِينٌ. فَسُرِّيَ عَنْ أَبِيهَا، وَصَدَّقَهَا، وَظَنَّ
بِهِ الَّذِي قَالَتْ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ
عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ
شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [ الْقَصَصِ: 27 ]. فَفَعَلَ، فَكَانَتْ عَلَى
نَبِيِّ اللَّهِ مُوسَى ثَمَانِيَ سِنِينَ وَاجِبَةً، وَكَانَتِ السَّنَتَانِ
عِدَةً مِنْهُ، فَقَضَى اللَّهُ عَنْهُ عِدَتَهُ، فَأَتَمَّهَا عَشْرًا.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَلَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ،
مِنْ عُلَمَائِهِمْ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟
قُلْتُ: لَا. وَأَنَا يَوْمَئِذٍ لَا أَدْرِي، فَلَقِيتُ ابْنَ عَبَّاسٍ،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَمَا عَلِمَتْ أَنَّ ثَمَانِيَةً كَانَتْ عَلَى
نَبِيِّ اللَّهِ وَاجِبَةً؟ لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ لِيُنْقِصَ مِنْهَا
شَيْئًا وَتَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَاضِيًا عَنْ مُوسَى عِدَتَهُ الَّتِي
وَعَدَهُ، فَإِنَّهُ قَضَى عَشْرَ سِنِينَ. فَلَقِيتُ النَّصْرَانِيَّ،
فَأَخْبَرَتْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: الَّذِي سَأَلْتَهُ فَأَخْبَرَكَ أَعْلَمُ مِنْكَ
بِذَلِكَ. قُلْتُ: أَجَلْ، وَأَوْلَى.
فَلَمَّا سَارَ مُوسَى بِأَهْلِهِ، كَانَ مِنْ أَمْرِ النَّارِ، وَالْعَصَا،
وَيَدِهِ، مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، فَشَكَا إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى مَا يَتَخَوَّفُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فِي الْقَتِيلِ، وَعُقْدَةِ
لِسَانِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةٌ تَمْنَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ
الْكَلَامِ وَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُعِينَهُ بِأَخِيهِهَارُونَ، وَيَكُونُ لَهُ
رَدْءًا وَيَتَكَلَّمُ عَنْهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا لَا يُفْصِحُ بِهِ لِسَانُهُ،
فَآتَاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، سُؤْلَهُ وَحَلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَارُونَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَلْقَاهُ، فَانْدَفَعَ مُوسَى بِعَصَاهُ حَتَّى لَقِيَ هَارُونَ، فَانْطَلَقَا جَمِيعًا إِلَى فِرْعَوْنَ، فَأَقَامَا عَلَى بَابِهِ حِينًا لَا يُؤْذَنُ لَهُمَا، ثُمَّ أُذِنَ لَهُمَا بَعْدَ حِجَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَا: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ. فَقَالَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَصَّ اللَّهُ عَلَيْكَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَمَا تُرِيدَانِ؟ وَذَكَّرَهُ الْقَتِيلَ، فَاعْتَذَرَ بِمَا قَدْ سَمِعْتَ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَتُرْسِلَ مَعِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَأَبَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: ائْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَاغِرَةً فَاهَا، مُسْرِعَةً إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا رَآهَا فِرْعَوْنُ، قَاصِدَةً إِلَيْهِ خَافَهَا، فَاقْتَحَمَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَاسْتَغَاثَ بِمُوسَى أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَرَآهَا بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ - يَعْنِي مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ - ثُمَّ رَدَّهَا فَعَادَتْ إِلَى لَوْنِهَا الْأَوَّلِ، فَاسْتَشَارَ الْمَلَأَ حَوْلَهُ فِيمَا رَأَى، فَقَالُوا لَهُ: هَذَانِ سَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى. يَعْنِي مُلْكَهُمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَالْعَيْشَ، وَأَبَوْا عَلَى مُوسَى أَنْ يُعْطُوهُ شَيْئًا مِمَّا طَلَبَ، وَقَالُوا لَهُ: اجْمَعِ السَّحَرَةَ فَإِنَّهُمْ بِأَرْضِكَ كَثِيرٌ ; حَتَّى تَغْلِبَ بِسِحْرِكَ سِحْرَهُمَا. فَأَرْسَلَ إِلَى الْمَدَائِنِ، فَحُشِرَ لَهُ كُلُّ سَاحِرٍ مُتَعَالِمٍ، فَلَمَّا أَتَوْا فِرْعَوْنَ، قَالُوا: بِمَ يَعْمَلُ هَذَا السَّاحِرُ؟ قَالُوا: يَعْمَلُ بِالْحَيَّاتِ. قَالُوا: فَلَا وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ فِي الْأَرْضِ يَعْمَلُ بِالسِّحْرِ بِالْحَيَّاتِ وَالْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ الَّذِي نَعْمَلُ، وَمَا أَجْرُنَا إِنْ نَحْنُ غَلَبْنَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَقَارِبِي وَخَاصَّتِي، وَأَنَا صَانِعٌ إِلَيْكُمْ كُلَّ شَيْءٍ أَحْبَبْتُمْ. فَتَوَاعَدُوا يَوْمَ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. قَالَ سَعِيدٌ: فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ يَوْمَ الزِّينَةِ الْيَوْمَ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَالسَّحَرَةِ، هُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي
صَعِيدٍ قَالَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْطَلِقُوا فَلْنَحْضُرْ هَذَا الْأَمْرَ; لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنَّ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ. يَعْنُونَ مُوسَى وَهَارُونَ، اسْتِهْزَاءً بِهِمَا، فَقَالُوا: يَا مُوسَى - بِقُدْرَتِهِمْ بِسِحْرِهِمْ - إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. قَالَ: بَلْ أَلْقُوا. فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 44 ]. فَرَأَى مُوسَى مِنْ سِحْرِهِمْ مَا أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ، فَلَمَّا أَلْقَاهَا، صَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمَةً، فَاغِرَةً فَاهَا، فَجَعَلَتِ الْعِصِيُّ تَلْتَبِسُ بِالْحِبَالِ، حَتَّى صَارَتْ جُرُزًا عَلَى الثُّعْبَانِ تَدْخُلُ فِيهِ، حَتَّى مَا أَبْقَتْ عَصًا وَلَا حَبْلًا إِلَّا ابْتَلَعَتْهُ فَلَمَّا عَرَفَ السَّحَرَةُ ذَلِكَ، قَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا لَمْ تَبْلُغْ مِنْ سِحْرِنَا كُلَّ هَذَا وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى، وَنَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ. فَكَسَرَ اللَّهُ ظَهَرَ فِرْعَوْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ وَأَشْيَاعِهِ، وَظَهَرَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ، وَامْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَارِزَةٌ مُتَبَذِّلَةٌ تَدْعُو لِلَّهِ بِالنَّصْرِ لِمُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، فَمَنْ رَآهَا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ظَنَّ أَنَّهَا إِنَّمَا ابْتُذِلَتْ لِلشَّفَقَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ حُزْنُهَا وَهَمُّهَا لِمُوسَى، فَلَمَّا طَالَ مُكْثُ مُوسَى بِمَوَاعِيدِ فِرْعَوْنَ الْكَاذِبَةِ، كُلَّمَا جَاءَ بِآيَةٍ وَعَدَهُ عِنْدَهَا أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا مَضَتْ أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ وَقَالَ: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يَصْنَعَ غَيْرَ هَذَا؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى قَوْمِهِ الطُّوفَانَ، وَالْجَرَادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفَادِعَ، وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَشْكُو إِلَى مُوسَى وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ أَنْ يَكُفَّهَا عَنْهُ، وَيُوَافِقَهُ عَلَى أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَفَّ ذَلِكَ عَنْهُ، أَخْلَفَ مَوْعِدَهُ، وَنَكَثَ عَهْدَهُ، حَتَّى
أَمَرَ مُوسَى بِالْخُرُوجِ بِقَوْمِهِ، فَخَرَجَ بِهِمْ لَيْلًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ فِرْعَوْنُ، وَرَأَى أَنَّهُمْ قَدْ مَضَوْا، أَرْسَلَ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، فَتَبِعَهُ بِجُنُودٍ عَظِيمَةٍ كَثِيرَةٍ، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْبَحْرِ: إِذَا ضَرَبَكَ عَبْدِي مُوسَى بِعَصَاهُ، فَانْفَلِقِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً، حَتَّى يَجُوزَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ الْتَقِ عَلَى مَنْ بَقِيَ بَعْدُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَأَشْيَاعِهِ. فَنَسِيَ مُوسَى أَنْ يَضْرِبَ الْبَحْرَ بِالْعَصَا، وَانْتَهَى إِلَى الْبَحْرِ وَلَهُ قَصِيفٌ مَخَافَةَ أَنْ يَضْرِبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ وَهُوَ غَافِلٌ فَيَصِيرُ عَاصِيًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ وَتَقَارَبَا، قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ افْعَلْ مَا أَمَرَكَ بِهِ رَبُّكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ تَكْذِبْ. قَالَ: وَعَدَنِي رَبِّي إِذَا أَتَيْتُ الْبَحْرَ انْفَرَقَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً حَتَّى أُجَاوِزَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَصَا، فَضَرَبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، حِينَ دَنَا أَوَائِلُ جُنْدِ فِرْعَوْنَ مِنْ أَوَاخِرِ جُنْدِ مُوسَى، فَانْفَرَقَ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَهُ رَبُّهُ، وَكَمَا وَعَدَ مُوسَى، فَلَمَّا أَنْ جَاوَزَ مُوسَى وَأَصْحَابُهُ كُلُّهُمُ الْبَحْرَ، وَدَخَلَ فِرْعَوْنُ وَأَصْحَابُهُ، الْتَقَى عَلَيْهِمُ الْبَحْرُ كَمَا أَمَرَ، فَلَمَّا جَاوَزَ مُوسَى، قَالَ أَصْحَابُهُ: إِنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ فِرْعَوْنُ غَرِقَ، وَلَا نُؤْمِنُ بِهَلَاكِهِ. فَدَعَا رَبَّهُ، فَأَخْرَجَهُ لَهُ بِبَدَنِهِ، حَتَّى اسْتَيْقَنُوا بِهَلَاكِهِ، ثُمَّ مَرُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ، قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ الْأَعْرَافِ: 138، 139 ]. قَدْ رَأَيْتُمْ مِنَ الْعِبَرِ، وَسَمِعْتُمْ مَا يَكْفِيكُمْ وَمَضَى، فَأَنْزَلَهُمْ مُوسَى مَنْزِلًا، وَقَالَ أَطِيعُوا هَارُونَ، فَإِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي. وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ فِيهَا، فَلَمَّا أَتَى رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَأَرَادَ أَنْ
يُكَلِّمَهُ فِي
ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَقَدْ صَامَهُنَّ، لَيْلَهُنَّ وَنَهَارَهُنَّ وَكَرِهَ أَنْ
يُكَلِّمَ رَبَّهُ وَرِيحُ فِيهِ رِيحُ فَمِ الصَّائِمِ، فَتَنَاوَلَ مُوسَى
شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ فَمَضَغَهُ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَ أَتَاهُ:
لِمَ أَفْطَرْتَ؟ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالَّذِي كَانَ، قَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي
كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَكَ إِلَّا وَفَمِي طَيِّبُ الرِّيحِ. قَالَ: أَوَمَا
عَلِمْتَ يَا مُوسَى أَنَّ رِيحَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ
ارْجِعْ فَصُمْ عَشْرًا، ثُمَّ ائْتِنِي. فَفَعَلَ مُوسَى مَا أَمَرَهُ بِهِ
رَبُّهُ، فَلَمَّا رَأَى قَوْمُ مُوسَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ فِي
الْأَجَلِ، سَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَكَانَ هَارُونُ قَدْ خَطَبَهُمْ وَقَالَ:
إِنَّكُمْ خَرَجْتُمْ مِنْ مِصْرَ، وَلِقَوْمِ فِرْعَوْنَ عِنْدَكُمْ عَوَارِيُّ
وَوَدَائِعُ، وَلَكُمْ فِيهَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَأَنَا أَرَى أَنْ تَحْتَسِبُوا مَا
لَكُمْ عِنْدَهُمْ، وَلَا أُحِلُّ لَكُمْ وَدِيعَةً اسْتَوْدَعْتُمُوهَا، وَلَا
عَارِيَّةً، وَلَسْنَا بِرَادِّينَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا
مُمْسَكِيهِ لِأَنْفُسِنَا. فَحَفَرَ حَفِيرًا، وَأَمَرَ كُلَّ قَوْمٍ عِنْدَهُمْ
مِنْ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ أَنْ يَقْذِفُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَفِيرِ.
ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهِ النَّارَ فَأَحْرَقَهُ، فَقَالَ: لَا يَكُونُ لَنَا وَلَا
لَهُمْ.
وَكَانَ السَّامِرِيُّ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْبَقَرَ، جِيرَانٍ لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاحْتَمَلَ مَعَ مُوسَى
وَبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ احْتَمَلُوا، فَقُضِيَ لَهُ أَنْ رَأَى أَثَرًا
فَقَبَضَ مِنْهُ قَبْضَةً، فَمَرَّ بِهَارُونَ، فَقَالَ لَهُ هَارُونُ: يَا
سَامِرِيُّ، أَلَا تُلْقِي مَا فِي يَدِكَ؟ وَهُوَ قَابِضٌ عَلَيْهِ، لَا يَرَاهُ
أَحَدٌ طَوَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذِهِ قَبْضَةٌ مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ الَّذِي
جَاوَزَ بِكُمُ الْبَحْرَ، وَلَا أُلْقِيهَا لِشَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَدْعُوَ
اللَّهَ إِذَا أَلْقَيْتُهَا أَنْ يَكُونَ مَا أُرِيدُ. فَأَلْقَاهَا وَدَعَا لَهُ
هَارُونُ، فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عِجْلًا. فَاجْتَمَعَ مَا كَانَ فِي
الْحُفْرَةِ مِنْ مَتَاعٍ أَوْ حِلْيَةٍ، أَوْ نُحَاسٍ، أَوْ حَدِيدٍ،
فَصَارَ عِجْلًا
أَجْوَفَ، لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ، لَهُ خُوَارٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لَهُ صَوْتٌ قَطُّ، إِنَّمَا
كَانَتِ الرِّيحُ تَدْخُلُ مِنْ دُبُرِهِ، وَتَخْرُجُ مِنْ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ
الصَّوْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَتَفَرَّقَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِرَقًا، فَقَالَتْ
فِرْقَةٌ: يَا سَامِرِيُّ، مَا هَذَا، وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ؟ قَالَ: هَذَا
رَبُّكُمْ، وَلَكِنَّ مُوسَى أَضَلَّ الطَّرِيقَ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا
نُكَذِّبُ بِهَذَا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى، فَإِنْ كَانَ رَبُّنَا، لَمْ
نَكُنْ ضَيَّعْنَاهُ وَعَجَزْنَا فِيهِ حِينَ رَأَيْنَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
رَبَّنَا فَإِنَّا نَتَّبِعُ قَوْلَ مُوسَى. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا مِنْ
عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَلَيْسَ بِرَبِّنَا، وَلَا نُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نُصَدِّقُ.
وَأُشْرِبُ فِرْقَةٌ فِي قُلُوبِهِمُ الصِّدْقَ بِمَا قَالَ السَّامِرِيُّ فِي
الْعِجْلِ، وَأَعْلَنُوا التَّكْذِيبَ بِهِ، فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ: يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ [
طه: 90 ]. لَيْسَ هَذَا، قَالُوا: فَمَا بَالُ مُوسَى وَعَدَنَا ثَلَاثِينَ
يَوْمًا ثُمَّ أَخْلَفَنَا؟ هَذِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَدْ مَضَتْ. قَالَ
سُفَهَاؤُهُمْ: أَخْطَأَ رَبَّهُ، فَهُوَ يَطْلُبُهُ وَيَبْتَغِيهِ. فَلَمَّا
كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ مَا قَالَ، أَخْبَرَهُ بِمَا لَقِيَ قَوْمُهُ
مِنْ بَعْدِهِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسَفًا، فَقَالَ لَهُمْ مَا
سَمِعْتُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ
وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ عَذَرَ أَخَاهُ بِعُذْرِهِ،
وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى السَّامِرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ
عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ
وَفَطِنْتُ لَهَا، وَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فَقَذَفْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي
نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ
وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [
طه: 96، 97 ]. وَلَوْ كَانَ إِلَهًا لَمْ نَخْلُصْ إِلَى ذَلِكَ مِنْهُ،
فَاسْتَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالْفِتْنَةِ، وَاغْتَبَطَ
الَّذِينَ كَانَ
رَأْيُهُمْ فِيهِ مِثْلَ رَأْيِ هَارُونَ، فَقَالُوا جَمَاعَتُهُمْ: يَا مُوسَى
سَلْ لَنَا أَنْ يُفْتَحَ لَنَا بَابُ تَوْبَةٍ نَصْنَعْهَا، فَيُكَفَّرْ عَنَّا
مَا عَمِلْنَا. فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِذَلِكَ، لَا يَأْلُو
الْخَيْرَ، خِيَارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ فِي الْعِجْلِ،
فَانْطَلَقَ بِهِمْ يَسْأَلُ لَهُمُ التَّوْبَةَ، فَرَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ،
فَاسْتَحْيَا نَبِيُّ اللَّهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ قَوْمِهِ، وَمِنْ
وَفْدِهِ، حِينَ فُعِلَ بِهِمْ مَا فُعِلَ، فَقَالَ: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ
مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا وَفِيهِمْ
مَنْ كَانَ اللَّهُ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى مَا أُشْرِبَ قَلْبُهُ مِنْ حُبِّ
الْعِجْلِ، وَإِيمَانٍ بِهِ، فَلِذَلِكَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ،
فَقَالَ:وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [ الْأَعْرَافِ: 156، 157 ].
فَقَالَ: يَا رَبِّ، سَأَلْتُكَ التَّوْبَةَ لِقَوْمِي، فَقُلْتَ: إِنَّ
رَحْمَتَكَ كَتَبْتَهَا لِقَوْمٍ غَيْرِ قَوْمِي فَلَيْتَكَ أَخَّرْتَنِي حَتَّى
تُخْرِجَنِي فِي أُمَّةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَرْحُومَةِ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ
تَوْبَتَهُمْ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مَنْ لَقِيَ مِنْ وَالِدٍ وَوَلَدٍ،
فَيَقْتُلُهُ بِالسَّيْفِ، لَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ.
وَتَابَ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ خَفِيَ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَاطَّلَعَ
اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، فَاعْتَرَفُوا بِهَا، وَفَعَلُوا مَا أُمِرُوا،
وَغَفَرَ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ مُوسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَخَذَ
الْأَلْوَاحَ بَعْدَ مَا سَكَتَ عَنْهُ الْغَضَبُ، فَأَمَرَهُمْ بِالَّذِي أُمِرَ
بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ فَثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا
بِهَا، وَنَتَقَ
اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَدَنَا مِنْهُمْ حَتَّى خَافُوا أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذُوا الْكِتَابَ بِأَيْمَانِهِمْ وَهُمْ يُصْغُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى الْجَبَلِ، وَالْكِتَابُ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْجَبَلِ، مَخَافَةَ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَضَوْا حَتَّى أَتَوُا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فَوَجَدُوا مَدِينَةً فِيهَا قَوْمٌ جَبَّارُونَ، خَلْقُهُمْ خَلْقٌ مُنْكَرٌ - وَذَكَرَ مِنْ ثِمَارِهِمْ أَمْرًا عَجِيبًا مِنْ عِظَمِهَا - فَقَالُوا: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِمْ، وَلَا نَدْخُلُهَا مَا دَامُوا فِيهَا، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ. قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ - قِيلَ لِيَزِيدَ: هَكَذَا قَرَأَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ - مِنَ الْجَبَّارِينَ آمَنَّا بِمُوسَى، وَخَرَجَا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِقَوْمِنَا، إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تَخَافُونَ مَا رَأَيْتُمْ مِنْ أَجْسَامِهِمْ وَعَدَدِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَا قُلُوبَ لَهُمْ، وَلَا مَنَعَةَ عِنْدَهُمْ، فَادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ. وَيَقُولُ أُنَاسٌ: إِنَّهُمَا مِنْ قَوْمِ مُوسَى. فَقَالَ الَّذِينَ يَخَافُونَ; بَنُو إِسْرَائِيلَ: قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ الْمَائِدَةِ: 24 ]. فَأَغْضَبُوا مُوسَى، فَدَعَا عَلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ، وَلَمْ يَدْعُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ; لِمَا رَأَى مِنْهُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَإِسَاءَتِهِمْ، حَتَّى كَانَ يَوْمَئِذٍ، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَسَمَّاهُمْ كَمَا سَمَّاهُمْ فَاسِقِينَ، فَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ، فَيَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، ثُمَّ ظَلَّلَ عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ فِي التِّيهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَجَعَلَ لَهُمْ ثِيَابًا لَا تَبْلَى وَلَا تَتَّسِخُ، وَجَعَلَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ حَجَرًا مُرَبَّعًا وَأَمَرَ مُوسَى فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ،
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ ثَلَاثَةُ أَعْيُنٍ، وَأَعْلَمَ كُلَّ سِبْطٍ عَيْنَهُمُ الَّتِي يَشْرَبُونَ مِنْهَا، فَلَا يَرْتَحِلُونَ مِنْ مَنْقَلَةٍ إِلَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْحَجَرَ بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بِالْأَمْسِ. رَفَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَ ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِرْعَوْنِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَى مُوسَى أَمْرَ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَ، فَقَالَ: كَيْفَ يُفْشِي عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهِ وَلَا ظَهَرَ عَلَيْهِ إِلَّا الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي حَضَرَ ذَلِكَ؟ فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَأَخَذَ بِيَدِ مُعَاوِيَةَ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ الزُّهْرِيِّ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، هَلْ تَذْكُرُ يَوْمَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتِيلِ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ؟ الْإِسْرَائِيلِيُّ الَّذِي أَفْشَى عَلَيْهِ، أَمِ الْفِرْعَوْنِيُّ؟ قَالَ: إِنَّمَا أَفْشَى عَلَيْهِ الْفِرْعَوْنِيُّ بِمَا سَمِعَ الْإِسْرَائِيلِيَّ الَّذِي شَهِدَ ذَلِكَ وَحَضَرَهُ. هَكَذَا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ مَوْقُوفٌ، وَكَوْنُهُ مَرْفُوعًا فِيهِ نَظَرٌ، وَغَالِبُهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِيهِ شَيْءٌ يَسِيرٌ مُصَرَّحٌ بِرَفْعِهِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَفِي بَعْضِ مَا فِيهِ نَظَرٌ وَنَكَارَةٌ، وَالْأَغْلَبُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمِزِّيَّ يَقُولُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ بِنَاءِ
قُبَّةِ الزَّمَانِ
قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
بِعَمَلِ قُبَّةٍ مِنْ خَشَبِ الشَّمْشَارِ، وَجُلُودِ الْأَنْعَامِ، وَشَعْرِ
الْأَغْنَامِ، وَأَمَرَ بِزِينَتِهَا بِالْحَرِيرِ الْمُصَبَّغِ، وَالذَّهَبِ،
وَالْفِضَّةِ، عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُفَصَّلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَهَا
عَشْرُ سُرَادِقَاتٍ، طُولُ كُلِّ وَاحِدٍ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا،
وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، وَأَطْنَابٌ مِنْ
حَرِيرٍ، وَدِمَقْسٍ مُصَبَّغٍ، وَفِيهَا رُفُوفٌ وَصَفَائِحُ، مِنْ ذَهَبٍ
وَفِضَّةٍ، وَلِكُلِّ زَاوِيَةٍ بَابَانِ، وَأَبْوَابٌ أُخَرُ كَبِيرَةٌ،
وَسُتُورٌ مِنْ حَرِيرٍ مُصَبَّغٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ،
وَبِعَمَلِ تَابُوتٍ مِنْ خَشَبِ الشَّمْشَارِ، يَكُونُ طُولُهُ ذِرَاعَيْنِ
وَنِصْفًا، وَعَرْضُهُ ذِرَاعَيْنِ، وَارْتِفَاعُهُ ذِرَاعًا وَنِصْفًا، وَيَكُونُ
مُضَبَّبًا بِذَهَبٍ خَالِصٍ مِنْ دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ، وَلَهُ أَرْبَعُ حِلَقٍ،
فِي أَرْبَعِ زَوَايَاهُ، وَيَكُونُ عَلَى حَافَّتَيْهِ كَرُوبِيَّانِ مِنْ
ذَهَبٍ، يَعْنُونَ صِفَةَ مَلِكَيْنِ بِأَجْنِحَةٍ، وَهُمَا مُتَقَابِلَانِ
صَنَعَهُ رَجُلٌ اسْمُهُ بَصْلِيَالُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ مَائِدَةً مِنْ
خَشَبِ الشَّمْشَارِ، طُولُهَا ذِرَاعَانِ، وَعَرْضُهَا ذِرَاعٌ وَنَصِفٌ، لَهَا
ضِبَابُ ذَهَبٍ، وَإِكْلِيلُ ذَهَبٍ بِشَفَةٍ مُرْتَفِعَةٍ، بِإِكْلِيلٍ مِنْ
ذَهَبٍ، وَأَرْبَعِ حِلَقٍ مِنْ نَوَاحِيهَا مِنْ ذَهَبٍ; خَرَزُهُ مِثْلِ
الرُّمَّانِ مِنْ خَشَبٍ مُلَبَّسٍ ذَهَبًا، وَاعْمَلْ صِحَافًا وَمَصَافِيَ
وَقِصَاعًا عَلَى الْمَائِدَةِ، وَاصْنَعْ مَنَارَةً مِنْ ذَهَبٍ دُلِيَّ فِيهَا
سِتُّ قَصَبَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ ثَلَاثٌ،
عَلَى كُلِّ قَصَبَةٍ ثَلَاثُ سُرُجٍ، وَلْيَكُنْ فِي الْمَنَارَةِ أَرْبَعُ
قَنَادِيلَ، وَلْتَكُنْ هِيَ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْآنِيَةِ مِنْ قِنْطَارٍ مِنْ
ذَهَبٍ، صَنَعَ ذَلِكَ بَصْلِيَالُ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي عَمِلَ الْمَذْبَحَ
أَيْضًا، وَنَصَبَ هَذِهِ الْقُبَّةَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ سَنَتِهِمْ، وَهُوَ
أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الرَّبِيعِ وَنَصَبَ تَابُوتَ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ -
وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ
يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا
تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
[ الْبَقَرَةِ: 248 ]. وَقَدْ بُسِطَ هَذَا الْفَصْلُ فِي كِتَابِهِمْ مُطَوَّلًا
جِدًّا، وَفِيهِ شَرَائِعُ لَهُمْ وَأَحْكَامٌ، وَصِفَةُ قُرْبَانِهِمْ،
وَكَيْفِيَّتُهُ، وَفِيهِ أَنَّ قُبَّةَ الزَّمَانِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ
عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ، الَّذِي هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَجِيئِهِمْ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ لَهُمْ كَالْكَعْبَةِ يُصَلُّونَ فِيهَا
وَإِلَيْهَا، وَيَتَقَرَّبُونَ عِنْدَهَا، وَأَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
كَانَ إِذَا دَخَلَهَا يَقِفُونَ عِنْدَهَا، وَيُنْزِلُ عَمُودَ الْغَمَامِ عَلَى
بَابِهَا فَيَخِرُّونَ عِنْدَ ذَلِكَ سُجَّدًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ،
وَيُكَلِّمُ اللَّهُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ ذَلِكَ الْعَمُودِ
الْغَمَامِ، الَّذِي هُوَ نُورٌ وَيُخَاطِبُهُ، وَيُنَاجِيهِ، وَيَأْمُرُهُ،
وَيَنْهَاهُ، وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ التَّابُوتِ صَامِدٌ إِلَى مَا بَيْنَ
الْكَرُوبِيِّيْنِ، فَإِذَا فُصِلَ الْخِطَابُ، يُخْبِرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا
أَوْحَاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي،
وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ، لَيْسَ عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ فِيهِ
شَيْءٌ، يَجِيءُ إِلَى قُبَّةِ الزَّمَانِ، وَيَقِفُ عِنْدَ التَّابُوتِ،
وَيَصْمُدُ لِمَا بَيْنَ ذَيْنِكَ الْكَرُوبِيِّيْنِ، فَيَأْتِيهِ الْخِطَابُ
بِمَا فِيهِ فَصْلُ تِلْكَ الْحُكُومَةِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَهُمْ
فِي زَمَانِهِمْ، أَعْنِي اسْتِعْمَالَ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ الْمُصَبَّغِ،
وَاللَّآلِيءِ فِي
مَعْبَدِهِمْ، وَعِنْدَ مُصَلَّاهُمْ، فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَلَا، بَلْ قَدْ
نُهِينَا عَنْ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَزْيِينِهَا; لِئَلَّا تَشْغَلَ
الْمُصَلِّينَ، كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
لَمَّا وَسَّعَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لِلَّذِي وَكَّلَهُ عَلَى عِمَارَتِهِ: ابْنِ لِلنَّاسِ مَا يُكِنُّهُمْ
وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
كَنَائِسَهُمْ.
وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ وَالتَّنْزِيهِ، فَهَذِهِ
الْأُمَّةُ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ; إِذْ جَمَعَ
اللَّهُ هَمَّهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ
عَلَيْهِ، وَصَانَ أَبْصَارَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ عَنِ الِاشْتِغَالِ
وَالتَّفَكُّرِ فِي غَيْرِ مَا هُمْ بِصَدَدِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ،
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانَتْ قُبَّةُ الزَّمَانِ هَذِهِ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التِّيهِ،
يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قِبْلَتُهُمْ وَكَعْبَتُهُمْ، وَإِمَامُهُمْ كَلِيمُ
اللَّهِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُقَدِّمُ الْقُرْبَانِ أَخُوهُ هَارُونُ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَلَمَّا مَاتَ هَارُونُ، ثُمَّ مُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، اسْتَمَرَّتْ
بَنُو هَارُونَ فِي الَّذِي كَانَ يَلِيهِ أَبُوهُمْ مِنْ أَمْرِ الْقُرْبَانِ،
وَهُوَ فِيهِمْ إِلَى الْآنَ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ بَعْدَ مُوسَى
وَتَدْبِيرِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ، فَتَاهَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهُوَ الَّذِي دَخَلَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ; كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، نَصَبَ هَذِهِ الْقُبَّةَ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانُوا يُصَلُّونَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَادَتْ صَلَّوْا إِلَى مَحِلَّتِهَا، وَهِيَ الصَّخْرَةُ، فَلِهَذَا كَانَتْ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ صَلَّى إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ يَجْعَلُ الْكَعْبَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا هَاجَرَ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى إِلَيْهَا سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ: سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا. ثُمَّ حُوِّلَتِ الْقِبْلَةُ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهِيَ قِبْلَةُ إِبْرَاهِيمَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ، فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعَصْرِ. وَقِيلَ: الظُّهْرِ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ الْبَقَرَةِ: 142 - 144 ].
قِصَّةُ قَارُونَ
مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى
عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ
اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ
مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ
الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ
لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ
اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ
فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ
اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا
أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ
الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ
عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [
الْقَصَصِ: 76 - 83 ]. قَالَ الْأَعْمَشُ: عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ قَارُونُ ابْنَ عَمِّ
مُوسَى. وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَزَادَ فَقَالَ: هُوَ قَارُونُ بْنُ يَصْهَرَ بْنَ قَاهَثَ، وَمُوسَى بْنُ عِمْرَانَ بْنِ قَاهَثَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ; أَنَّهُ كَانَ ابْنَ عَمِّ مُوسَى. وَرَدَّ قَوْلَ ابْنِ إِسْحَاقَ إِنَّهُ كَانَ عَمَّ مُوسَى. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَ يُسَمَّى الْمُنَوِّرَ; لِحُسْنِ صَوْتِهِ بِالتَّوْرَاةِ وَلَكِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ نَافَقَ، كَمَا نَافَقَ السَّامِرِيُّ، فَأَهْلَكَهُ الْبَغْيُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: زَادَ فِي ثِيَابِهِ شِبْرًا طُولًا; تَرَفُّعًا عَلَى قَوْمِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى كَثْرَةَ كُنُوزِهِ; حَتَّى إِنَّ مَفَاتِيحَهُ كَانَ يَثْقُلُ حِمْلُهَا عَلَى الْفِئَامِ مِنَ الرِّجَالِ الشِّدَادِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ مِنَ الْجُلُودِ، وَإِنَّهَا كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى سِتِّينَ بَغْلًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ وَعَظَهُ النُّصَحَاءُ مِنْ قَوْمِهِ; قَائِلِينَ: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أَيْ; لَا تَبْطَرْ بِمَا أُعْطِيتَ، وَتَفْخَرْ عَلَى غَيْرِكَ. وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ يَقُولُونَ: لِتَكُنْ هِمَّتُكَ مَصْرُوفَةً لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَمَعَ هَذَا وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا أَيْ; وَتَنَاوَلْ مِنْهَا بِمَالِكَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، فَتَمَتَّعْ لِنَفْسِكَ بِالْمَلَاذِّ الطَّيِّبَةِ الْحَلَالِ، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أَيْ; وَأَحْسِنْ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ خَالِقُهُمْ وَبَارِئُهُمْ إِلَيْكَ، وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ أَيْ; وَلَا تُسِئْ إِلَيْهِمْ، وَلَا تُفْسِدْ فِيهِمْ فَتُقَابِلَهُمْ ضِدَّ مَا
أُمِرْتَ فِيهِمْ،
فَيُعَاقِبَكَ وَيَسْلُبَكَ مَا وَهَبَكَ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُفْسِدِينَ فَمَا كَانَ جَوَابَهُ قَوْمَهُ لِهَذِهِ النَّصِيحَةِ
الصَّحِيحَةِ الْفَصِيحَةِ، إِلَّا أَنَّ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ
عِنْدِي يَعْنِي: أَنَا لَا أَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَلَا
إِلَى مَا إِلَيْهِ أَشَرْتُمْ; فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَعْطَانِي هَذَا
لِعِلْمِهِ أَنِّي أَسْتَحِقُّهُ، وَأَنِّي أَهْلٌ لَهُ، وَلَوْلَا أَنِّي حَبِيبٌ
إِلَيْهِ، وَحَظِيٌّ عِنْدَهُ، لَمَا أَعْطَانِي مَا أَعْطَانِي. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ
جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ أَيْ; قَدْ أَهْلَكْنَا
مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِينَ بِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْ
قَارُونَ قُوَّةً وَأَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا، فَلَوْ كَانَ مَا قَالَ
صَحِيحًا لَمْ نُعَاقِبْ أَحَدًا مِمَّنْ كَانَ أَكْثَرَ مَالًا مِنْهُ، وَلَمْ
يَكُنْ مَالُهُ دَلِيلًا عَلَى مَحَبَّتِنَا لَهُ، وَاعْتِنَائِنَا بِهِ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ
عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [ سَبَأٍ: 37 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56
]. وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مِنْ
مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي.
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ، أَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ
صَنْعَةَ الْكِيمْيَاءِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ،
فَاسْتَعْمَلَهُ فِي جَمْعِ الْأَمْوَالِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ; لِأَنَّ
الْكِيمْيَاءَ
تَخْيِيلٌ وَصِبْغَةٌ لَا تُحِيلُ الْحَقَائِقَ، وَلَا تُشَابِهُ صَنْعَةَ
الْخَالِقِ، وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ لَا يَصْعَدُ الدُّعَاءُ بِهِ مِنْ كَافِرٍ
بِهِ، وَقَارُونُ كَانَ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ، مُنَافِقًا فِي الظَّاهِرِ،
ثُمَّ لَا يَصِحُّ جَوَابُهُ لَهُمْ بِهَذَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَا
يَبْقَى بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ تَلَازُمٌ، وَقَدْ وَضَّحْنَا هَذَا فِي كِتَابِنَا
" التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ذَكَرَ كَثِيرٌ
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ; مِنْ مَلَابِسَ،
وَمَرَاكِبَ، وَخَدَمٍ، وَحَشَمٍ، فَلَمَّا رَآهُ مَنْ يُعَظِّمُ زَهْرَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، تَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا مِثْلَهُ، وَغَبَطُوهُ بِمَا
عَلَيْهِ وَلَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ مَقَالَتَهُمُ الْعُلَمَاءُ ذَوُو الْفَهْمِ
الصَّحِيحِ، الزُّهَّادُ الْأَلِبَّاءُ، قَالُوا لَهُمْ: وَيْلَكُمْ ثَوَابُ
اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا أَيْ; ثَوَابُ اللَّهِ فِي
الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وَأَجَلُّ وَأَعْلَى، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ أَيْ; وَمَا يُلْقَى هَذِهِ
النَّصِيحَةَ، وَهَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَهَذِهِ الْهِمَّةَ السَّامِيَةَ إِلَى
الدَّارِ الْآخِرَةِ الْعَلِيَّةِ، عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى زَهْرَةِ هَذِهِ
الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ، إِلَّا مِنْ هَدَى اللَّهُ قَلْبَهُ، وَثَبَّتَ
فُؤَادَهُ، وَأَيَّدَ لُبَّهُ، وَحَقَّقَ مُرَادَهُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ
الشُّبُهَاتِ، وَالْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ
مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ
لَمَّا ذَكَرَ
تَعَالَى خُرُوجَهُ فِي زِينَتِهِ، وَاخْتِيَالَهُ فِيهَا، وَفَخْرَهُ عَلَى
قَوْمِهِ بِهَا، قَالَ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ.
كَمَّا رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: بَيْنَا
رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ، إِذْ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ
بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، أَنَّ قَارُونَ أَعْطَى
امْرَأَةً بَغِيًّا مَالًا، عَلَى أَنْ تَقُولَ لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهُوَ فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ: إِنَّكَ فَعَلْتَ بِي كَذَا وَكَذَا. فَيُقَالُ:
إِنَّهَا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ فَأَرْعَدَ مِنَ الْفَرَقِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ،
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا فَاسْتَحْلَفَهَا: مَنْ دَلَّكِ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا
حَمَلَكَ عَلَيْهِ؟ فَذَكَرَتْ أَنَّ قَارُونَ هُوَ الَّذِي حَمَلَهَا عَلَى
ذَلِكَ، وَاسْتَغْفَرَتِ اللَّهَ، وَتَابَتْ إِلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَّ
مُوسَى لِلَّهِ سَاجِدًا، وَدَعَا اللَّهَ عَلَى قَارُونَ، فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ أَمَرْتُ الْأَرْضَ أَنْ تُطِيعَكَ فِيهِ، فَأَمَرَ مُوسَى
الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَهُ وَدَارَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَارُونَ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ، مَرَّ
بِجَحْفَلِهِ، وَبِغَالِهِ، وَمَلَابِسِهِ، عَلَى مَجْلِسِ مُوسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَهُوَ يُذَكِّرُ قَوْمَهُ بِأَيَّامِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَآهُ
النَّاسُ انْصَرَفَتْ وُجُوهُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،
فَدَعَاهُ
مُوسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ يَا مُوسَى، أَمَا
لَئِنْ كُنْتَ فُضِّلْتَ عَلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَقَدْ فُضِّلْتُ عَلَيْكَ
بِالْمَالِ، وَلَئِنْ شِئْتَ لَتَخْرُجَنَّ فَلَتَدْعُوَنَّ عَلَيَّ،
وَلَأَدْعُوَنَّ عَلَيْكَ. فَخَرَجَ، وَخَرَجَ قَارُونُ فِي قَوْمِهِ، فَقَالَ
لَهُ مُوسَى تَدْعُو أَوْ أَدْعُو؟ قَالَ: أَدْعُو أَنَا. فَدَعَا قَارُونُ،
فَلَمْ يُجَبْ فِي مُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: أَدْعُو؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ مُوسَى:
اللَّهُمَّ مُرِ الْأَرْضَ فَلْتُطِعْنِي الْيَوْمَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ. فَقَالَ مُوسَى: يَا أَرْضُ خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ
إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ قَالَ خُذِيهِمْ. فَأَخَذَتْهُمْ إِلَى رُكَبِهِمْ،
ثُمَّ إِلَى مَنَاكِبِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: أَقْبِلِي بِكُنُوزِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ. فَأَقْبَلَتْ بِهَا، حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهَا ثُمَّ أَشَارَ
مُوسَى بِيَدِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بَنِي لَاوِي. فَاسْتَوَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: يُخْسَفُ بِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ
قَامَةً، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خُسِفَ
بِهِمْ إِلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
هَاهُنَا إِسْرَائِيلِيَّاتٍ كَثِيرَةً، أَضْرَبْنَا عَنْهَا صَفْحًا وَتَرَكْنَاهَا
قَصْدًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاصِرٌ مِنْ
نَفْسِهِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا
نَاصِرٍ [ الطَّارِقِ: 10 ]. وَلَمَّا حَلَّ بِهِ مَا حَلَّ مِنَ الْخَسْفِ،
وَذَهَابِ الْأَمْوَالِ، وَخَرَابِ الدَّارِ، وَهَلَاكِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ
وَالْعَقَارِ، نَدِمَ مَنْ كَانَ تَمَنَّى مِثْلَ مَا أُوتِيَ، وَشَكَرُوا اللَّهَ
تَعَالَى الَّذِي يُدَبِّرُ عِبَادَهُ بِمَا يَشَاءُ مِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ
الْمَخْزُونِ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ
بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ
وَقَدْ
تَكَلَّمْنَا عَلَى لَفْظِ: " وَيْكَ " فِي " التَّفْسِيرِ "،
وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ: وَيْكَأَنَّ بِمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ. وَهَذَا قَوْلٌ
حَسَنٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ. وَهِيَ الدَّارُ الَّتِي
يُغْبَطُ مَنْ أُعْطِيَهَا، وَيُعَزَّى مَنْ حُرِمَهَا، إِنَّمَا هِيَ مُعَدَّةٌ
لِلَّذِينِ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا. فَالْعُلُوُّ
هُوَ التَّكَبُّرُ وَالْفَخْرُ وَالْأَشَرُ وَالْبَطَرُ. وَالْفَسَادُ هُوَ عَمَلُ
الْمَعَاصِي اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ; مِنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِفْسَادِ
مَعَايِشِهِمْ، وَالْإِسَاءَةِ إِلَيْهِمْ، وَعَدَمِ النُّصْحِ لَهُمْ، ثُمَّ
قَالَ تَعَالَى: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
وَقِصَّةُ قَارُونَ هَذِهِ، قَدْ تَكُونُ قَبْلَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ;
لِقَوْلِهِ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَإِنَّ الدَّارَ ظَاهِرَةٌ
فِي الْبُنْيَانِ، وَقَدْ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي التِّيهِ، وَتَكُونُ الدَّارُ
عِبَارَةً عَنِ الْمَحِلَّةِ الَّتِي تُضْرَبُ فِيهَا الْخِيَامُ، كَمَا قَالَ
عَنْتَرَةُ:
يَا دَارَ عَبْلَةَ بِالْجِوَاءِ تَكَلَّمِي وَعِمِي صَبَاحًا دَارَ عَبْلَةَ
وَاسْلِمِي
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَذَمَّةَ قَارُونَ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنَ
الْقُرْآنِ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ
كَذَّابٌ [ غَافِرٍ: 23، 24 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ "
الْعَنْكَبُوتِ " بَعْدَ ذِكْرِ عَادٍ وَثَمُودَ: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ
وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي
الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ
مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [
الْعَنْكَبُوتِ: 39، 40 ].
فَالَّذِي خُسِفَ
بِهِ الْأَرْضُ قَارُونُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالَّذِي أُغْرِقَ فِرْعَوْنُ،
وَهَامَانُ، وَجُنُودُهُمَا، إِنَّهُمْ كَانُوا خَاطِئِينَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا
سَعِيدٌ، حَدَّثَنَا كَعْبُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ
الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، فَقَالَ: مَنْ حَافَظَ
عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ
لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ
وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ
بْنِ خَلَفٍ انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ذِكْرُ فَضَائِلِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَمَائِلِهِ وَصِفَاتِهِ وَوَفَاتِهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا
وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ
نَبِيًّا [ مَرْيَمَ: 51 - 53 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [ الْأَعْرَافِ: 144 ].
وَتَقَدَّمَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى،
فَإِنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ
يُفِيقُ، فَأَجِدُ مُوسَى بَاطِشًا بِقَائِمَةِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَصُعِقُ
فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ جُوزِيَ بِصَعْقَةِ الطُّورِ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ
وَالتَّوَاضُعِ، وَإِلَّا فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، عَلَيْهِ خَاتَمُ
الْأَنْبِيَاءِ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَطْعًا
جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالْأَسْبَاطِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ
قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا
[ النِّسَاءِ: 163، 164 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا [
الْأَحْزَابِ: 69 ].
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ،
وَمُحَمَّدٍ، وَخِلَاسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا
سِتِّيرًا، لَا يَرَى جِلْدَهُ شَيْءٌ; اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا
مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ; إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ وَإِمَّا آفَةٌ وَإِنَّ
اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى،
فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجْرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ،
فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا
بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ:
ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ. حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَأٍ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا، أَحْسَنَ مَا خَلْقَ اللَّهُ وَبَرَّأَهُ
مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ
بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ
أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْسًا قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا
مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ،
وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهِ، وَهُوَ فِي
"
الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
هَمَّامٍ، عَنْهُ بِهِ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
شَقِيقٍ الْعُقَيْلِيِّ عَنْهُ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كَانَ مِنْ وَجَاهَتِهِ أَنَّهُ شَفَعَ فِي أَخِيهِ
عِنْدَ اللَّهِ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ وَزِيرًا، فَأَجَابَهُ
اللَّهُ إِلَى سُؤَالِهِ، وَأَعْطَاهُ طَلِبَتَهُ، وَجَعَلَهُ نَبِيًّا; كَمَا
قَالَ: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا ثُمَّ قَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ، سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ:
قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًا، فَقَالَ
رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. فَأَتَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَغَضِبَ حَتَّى
رَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ
أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ غَيْرِ
وَجْهٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ.،
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَجَّاجٍ، سَمِعْتُ
إِسْرَائِيلَ بْنَ يُونُسَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ مَوْلًى
لِهَمْدَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي زَائِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِأَصْحَابِهِ: لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ شَيْئًا،
فَإِنِّي أُحِبُّ
أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ; وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ قَالَ: وَأَتَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالٌ فَقَسَمَهُ، قَالَ: فَمَرَرْتُ
بِرَجُلَيْنِ وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ
بِقِسْمَتِهِ وَجْهَ اللَّهِ، وَلَا الدَّارَ الْآخِرَةَ، فَثَبَتُّ حَتَّى
سَمِعْتُ مَا قَالَا. ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَنَا: لَا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ
أَصْحَابِي شَيْئًا، وَإِنِّي مَرَرْتُ بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَهُمَا يَقُولَانِ
كَذَا وَكَذَا، فَاحْمَرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَشَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَصَبَرَ وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ
بِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِيِّ، وَلِأَبِي دَاوُدَ، مِنْ طَرِيقِ
الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنِ
الْوَلِيدِ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " فِي أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمُوسَى، وَهُوَ
قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ
مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَنَّهُ مَرَّ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، بِمُوسَى فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ،
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ. قَالَ:
فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ.
فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى; قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ
غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّا
يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ، وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ،
عَنْ أَنَسٍ، مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي
السَّابِعَةِ، بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْحُفَّاظِ، أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَادَّةُ، أَنَّ مُوسَى فِي السَّادِسَةِ،
وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّابِعَةِ، وَأَنَّهُ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ
الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ.
وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا فَرَضَ
عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمَّتِهِ، خَمْسِينَ
صَلَاةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَمَرَّ بِمُوسَى، قَالَ: " ارْجِعْ
إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَإِنِّي قَدْ عَالَجْتُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، وَإِنَّ أُمَّتَكَ أَضْعَفُ
أَسْمَاعًا، وَأَبْصَارًا، وَأَفْئِدَةً " فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ
مُوسَى وَبَيْنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُخَفِّفُ عَنْهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ،
حَتَّى صَارَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ أَيْ; بِالْمُضَاعَفَةِ فَجَزَى اللَّهُ
عَنَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا، وَجَزَى اللَّهُ
عَنَّا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَيْرًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ،
عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: عُرِضْتَ عَلَيَّ الْأُمَمُ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا
كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ،
فَقِيلَ: هَذَا
مُوسَى فِي قَوْمِهِ هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُطَوَّلًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: كُنْتُ
عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي
انْقَضَّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. ثُمَّ قُلْتُ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ
فِي صَلَاةٍ وَلَكِنْ لُدِغْتُ. قَالَ: وَكَيْفَ فَعَلْتَ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ.
قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ حَدِيثٌ حَدَّثَنَاهُ
الشَّعْبِيُّ، عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَا رُقْيَةَ
إِلَّا مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حُمَةٍ، فَقَالَ سَعِيدٌ - يَعْنِي ابْنَ جُبَيْرٍ -:
قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ. ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ
عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عُرِضَتْ
عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ، وَالنَّبِيَّ
مَعَهُ الرَّجُلَ، وَالرَّجُلَيْنِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ; إِذْ
رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقُلْتُ: هَذِهِ أُمَّتِي. فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى
وَقَوْمُهُ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْأُفُقِ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ
قِيلَ: انْظُرْ إِلَى هَذَا الْجَانِبِ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ: هَذِهِ
أُمَتُّكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا، يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَلَا عَذَابٍ ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَدَخَلَ فَخَاضَ الْقَوْمُ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَعَلَّهُمُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ
يُشْرِكُوا بِاللَّهِ
شَيْئًا قَطُّ. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ مَا هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ تَخُوضُونَ فِيهِ؟ فَأَخْبَرُوهُ بِمَقَالَتِهِمْ، فَقَالَ: هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ، وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ، فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنْتَ مِنْهُمْ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهُوَ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ، وَغَيْرِهَا، وَسَنُورِدُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ صِفَةِ الْجَنَّةِ، عِنْدَ ذِكْرِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَأَوْرَدَ قِصَّتَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِرَارًا، وَكَرَّرَهَا كَثِيرًا، مُطَوَّلَةً، وَمَبْسُوطَةً، وَمُخْتَصَرَةً، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَلِيغًا. وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُهُ اللَّهُ، وَيَذْكُرُهُ، وَيَذْكُرُ كِتَابَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِتَابِهِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ ": وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 110 ]. وَقَالَ تَعَالَى: الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [ آلِ عِمْرَانَ: 1 - 4 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْأَنْعَامِ ": وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ
الْقُرَى وَمَنْ
حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى
صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [ الْأَنْعَامِ: 91، 92 ].
فَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى التَّوْرَاةِ، ثُمَّ مَدَحَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
مَدْحًا عَظِيمًا، وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِهَا: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [
الْأَنْعَامِ: 154، 155 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ
": إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ
بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا
تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [
الْمَائِدَةِ: 44 ]. إِلَى أَنْ قَالَ: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [ الْمَائِدَةِ:
47، 48 ]. الْآيَةَ. فَجُعِلَ الْقُرْآنُ حَاكِمًا عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ
غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لَهَا، وَمُبَيِّنًا مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ
التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ اسْتُحْفِظُوا عَلَى مَا
بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْكُتُبِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى حِفْظِهَا، وَلَا عَلَى
ضَبْطِهَا وَصَوْنِهَا، فَلِهَذَا دَخَلَهَا مَا دَخَلَهَا مِنْ تَغْيِيرِهِمْ
وَتَبْدِيلِهِمْ; لِسُوءِ فُهُومِهِمْ، وَقُصُورِهِمْ فِي عُلُومِهِمْ،
وَرَدَاءَةِ قُصُودِهِمْ، وَخِيَانَتِهِمْ لِمَعْبُودِهِمْ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ
اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي
كُتُبِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ الْبَيِّنِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ، مَا لَا
يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، وَمَا لَا
يُوجَدُ مِثْلُهُ
وَلَا يُعْرَفُ. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْأَنْبِيَاءِ ":
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا
لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ
السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 48 - 50 ]. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ
" الْقَصَصِ ": فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا
لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ
مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ
كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا
أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ الْقَصَصِ: 48، 49 ]. فَأَثْنَى اللَّهُ
عَلَى الْكِتَابَيْنِ، وَعَلَى الرَّسُولَيْنِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَتِ
الْجِنُّ لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [ الْأَحْقَافِ: 30 ]. وَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ
نَوْفَلٍ لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، خَبَرَ مَا رَأَى مِنْ أَوَّلِ الْوَحْيِ، وَتَلَا عَلَيْهِ: اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ [ الْعَلَقِ: 1 - 5 ]. قَالَ سُبُّوحٌ سُبُّوحٌ، هَذَا النَّامُوسُ
الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَشَرِيعَةُ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَتْ عَظِيمَةً،
وَأُمَّتُهُ كَانَتْ أُمَّةً كَثِيرَةً، وَوُجِدَ فِيهَا أَنْبِيَاءُ،
وَعُلَمَاءُ، وَعُبَّادٌ، وَزُهَّادٌ، وَأَلِبَّاءُ، وَمُلُوكٌ، وَأُمَرَاءُ،
وَسَادَاتٌ، وَكُبَرَاءُ، لَكِنَّهُمْ كَانُوا فَبَادُوا وَتَبَدَّلُوا، كَمَا
بُدِّلَتْ شَرِيعَتُهُمْ، وَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، ثُمَّ نُسِخَتْ
بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ مِلَّتُهُمْ، وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ خُطُوبٌ وَأُمُورٌ يَطُولُ
ذِكْرُهَا، وَلَكِنْ سَنُورِدُ مَا فِيهِ مَقْنَعٌ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَهُ
خَبَرُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ
التُّكْلَانُ.
ذِكْرُ حَجِّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَصِفَتِهِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي
هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ، فَقَالَ: أَيُّ
وَادٍ هَذَا؟ قَالُوا: وَادِي الْأَزْرَقِ. قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى
مُوسَى، وَهُوَ هَابِطٌ مِنَ الثَّنِيَّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ
وَجَلَّ، بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَاءَ فَقَالَ: أَيُّ
ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ ثَنِيَّةُ هَرْشَاءَ. قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى، عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ
صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتُهُ خُلْبَةٌ، - قَالَ هُشَيْمٌ: يَعْنِي لِيفًا - وَهُوَ
يُلَبِّي وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ بِهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ مُوسَى حَجَّ
عَلَى ثَوْرٍ أَحْمَرَ وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ
ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرُوا
الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ: ( ك ف
ر ). قَالَ: مَا تَقُولُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ( ك ف
ر ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنْ قَالَ: أَمَّا
إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ
جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ
وَقَدِ انْحَدَرَ مِنَ الْوَادِي يُلَبِّي قَالَ هُشَيْمٌ: الْخُلْبَةُ اللِّيفُ.
ثُمَّ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَسْوَدَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ; فَأَمَّا عِيسَى، فَأَبْيَضُ، جَعْدٌ،
عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى، فَآدَمُ، جَسِيمٌ، قَالُوا: فَإِبْرَاهِيمُ؟
قَالَ: انْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا
يُونُسُ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، قَالَ: حَدَّثَ قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسَرِي بِي مُوسَى بْنَ
عِمْرَانَ، رَجُلًا طُوَالًا، جَعْدًا، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ،
وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، مَرْبُوعُ الْخَلْقِ، إِلَى الْحُمْرَةِ
وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، حِينَ أُسْرِيَ بِهِ: لَقِيتُ مُوسَى فَنَعَتَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ:
قَالَ: حَسِبْتُهُ قَالَ:
مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ. يَعْنِي حَمَّامًا، قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ. الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَالِبُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي تَرْجَمَةِ الْخَلِيلِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ.
ذِكْرُ وَفَاتِهِ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": ( وَفَاةُ مُوسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ ): حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا
جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي
إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ يَضَعُ
يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ
سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ:
فَالْآنَ. قَالَ: فَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الْأَرْضِ
الْمُقَدَّسَةِ، رَمْيَةً بِحَجَرٍ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ
لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ، عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ.
قَالَ: وَأَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَهُ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ
الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ. وَرَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ
أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَسَيَأْتِي.
وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو
يُونُسَ، يَعْنِي سُلَيْمَ بْنَ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَرْفَعْهُ - قَالَ: جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَجِبْ رَبَّكَ. فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ
مَلَكِ الْمَوْتِ، فَفَقَأَهَا، فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ:
إِنَّكَ بَعَثْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ: وَقَدْ
فَقَأَ عَيْنِي، قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى
عَبْدِي، فَقُلْ لَهُ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ،
فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّكَ
تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ:
فَالْآنَ يَا رَبِّ، مِنْ قَرِيبٍ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ
بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ "، مِنْ طَرِيقِ
مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ
مَعْمَرٌ: وَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ ابْنُ حِبَّانَ،
وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ، لَمَّا قَالَ لَهُ
هَذَا لَمْ يَعْرِفْهُ; لِمَجِيئِهِ لَهُ عَلَى غَيْرِ صُورَةٍ يَعْرِفُهَا
مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا جَاءَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي
صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ، وَكَمَا وَرَدَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَلَوْ
فِي صُورَةِ شَبَابٍ، فَلَمْ يَعْرِفْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَلَا لُوطٌ أَوَّلًا،
وَكَذَلِكَ مُوسَى لَعَلَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ لِذَلِكَ وَلَطَمَهُ فَفَقَأَ
عَيْنَهُ; لِأَنَّهُ دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ
لِشَرِيعَتِنَا فِي جَوَازِ فَقْءِ عَيْنِ مَنْ
نَظَرَ إِلَيْكَ فِي دَارِكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، قَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ. فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ - كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ - ثُمَّ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَ يَدَهُ لِيَلْطِمَهُ قَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَتَمَشَّى عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ اللَّفْظُ، مِنْ تَعْقِيبِ قَوْلِهِ: أَجِبْ رَبَّكَ. بِلَطْمِهِ، وَلَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، لَتَمَشَّى لَهُ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَلَمْ يَحْمِلْ قَوْلَهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مُطَابِقٌ; إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ أَنَّهُ مَلَكٌ كَرِيمٌ; لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو أُمُورًا كَثِيرَةً كَانَ يُحِبُّ وُقُوعَهَا فِي حَيَاتِهِ; مِنْ خُرُوجِهِ مِنَ التِّيهِ، وَدُخُولِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، وَكَانَ قَدْ سَبَقَ فِي قَدَرِ اللَّهِ، أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَمُوتُ فِي التِّيهِ، بَعْدَ هَارُونَ أَخِيهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ الَّذِي خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ، وَدَخَلَ بِهِمُ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ. وَهَذَا خِلَافُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، قَوْلُهُ لَمَّا اخْتَارَ الْمَوْتَ: رَبِّ، أَدْنِنِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، رَمْيَةً بِحَجَرٍ. وَلَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَهَا، لَمْ يَسْأَلْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعَ قَوْمِهِ بِالتِّيهِ، وَحَانَتْ وَفَاتُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَحَبَّ أَنْ يَتَقَرَّبَ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا، وَحَثَّ قَوْمَهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا الْقَدَرُ، رَمْيَةً بِحَجَرٍ، وَلِهَذَا قَالَ
سَيِّدُ الْبَشَرِ،
وَرَسُولُ اللَّهِ إِلَى أَهْلِ الْوَبَرِ وَالْمَدَرِ: فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ
لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ،
حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِي، مَرَرْتُ
بِمُوسَى، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ، عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالُوا:
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى مُوسَى: إِنِّي مُتَوَفٍّ هَارُونَ،
فَائِتِ بِهِ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا. فَانْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ نَحْوَ ذَلِكَ
الْجَبَلِ، فَإِذَا هُمْ بِشَجَرَةٍ لَمْ تُرَ شَجَرَةٌ مِثْلُهَا، وَإِذَا هُمْ
بِبَيْتٍ مَبْنِيٍّ، وَإِذَا هُمْ بِسَرِيرٍ عَلَيْهِ فُرُشٌ، وَإِذَا فِيهِ رِيحٌ
طَيِّبَةٌ، فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ إِلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ وَالْبَيْتِ وَمَا
فِيهِ، أَعْجَبَهُ، قَالَ: يَا مُوسَى، إِنِّي أُحِبُّ أَنَّ أَنَامَ عَلَى هَذَا
السَّرِيرِ. قَالَ لَهُ مُوسَى: فَنَمْ عَلَيْهِ، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ
يَأْتِيَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَغْضَبَ عَلَيَّ. قَالَ لَهُ: لَا تَرْهَبْ،
أَنَا أَكْفِيكَ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، فَنَمْ. قَالَ: يَا مُوسَى، بَلْ نَمْ
مَعِي فَإِنْ جَاءَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ، غَضِبَ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا
فَلَمَّا نَامَا، أَخَذَ هَارُونَ الْمَوْتُ، فَلَمَّا وَجَدَ حِسَّهُ، قَالَ: يَا
مُوسَى، خَدَعَتْنِي. فَلَمَّا قُبِضَ، رُفِعَ ذَلِكَ الْبَيْتُ، وَذَهَبَتْ
تِلْكَ الشَّجَرَةُ، وَرُفِعَ السَّرِيرُ
بِهِ إِلَى
السَّمَاءِ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، وَلَيْسَ مَعَهُ هَارُونُ
قَالُوا: فَإِنَّ مُوسَى قَتَلَ هَارُونَ، وَحَسَدَهُ حُبَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
لَهُ. وَكَانَ هَارُونُ أَكَفَّ عَنْهُمْ وَأَلْيَنَ لَهُمْ مِنْ مُوسَى، وَكَانَ
فِي مُوسَى بَعْضُ الْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قَالَ
لَهُمْ: وَيْحَكُمْ، كَانَ أَخِي أَفَتَرُونِي أَقْتُلُهُ؟ فَلَمَّا أَكْثَرُوا
عَلَيْهِ، قَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا اللَّهَ فَنَزَلَ السَّرِيرُ
حَتَّى نَظَرُوا إِلَيْهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي وَيُوشَعُ فَتَاهُ، إِذْ أَقْبَلَتْ
رِيحٌ سَوْدَاءُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا يُوشَعُ ظَنَّ أَنَّهَا السَّاعَةُ،
فَالْتَزَمَ مُوسَى وَقَالَ: تَقُومُ السَّاعَةُ وَأَنَا مُلْتَزِمٌ مُوسَى
نَبِيَّ اللَّهِ، فَاسْتَلَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ تَحْتِ الْقَمِيصِ،
وَتَرَكَ الْقَمِيصَ فِي يَدَيْ يُوشَعَ، فَلَمَّا جَاءَ يُوشَعُ بِالْقَمِيصِ
أَخَذَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَالُوا: قَتَلْتَ نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا
وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَكِنَّهُ اسْتَلَّ مِنِّي. فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ
وَأَرَادُوا قَتْلَهُ. قَالَ: فَإِذَا لَمْ تُصَدِّقُونِي فَأَخِّرُونِي ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ. فَدَعَا اللَّهَ، فَأَتَى كُلُّ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَحْرُسُهُ فِي
الْمَنَامِ فَأَخْبَرَ أَنَّ يُوشَعَ لَمْ يَقْتُلْ مُوسَى، وَإِنَّا قَدْ
رَفَعْنَاهُ إِلَيْنَا، فَتَرَكُوهُ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَبَى أَنْ
يَدْخُلَ قَرْيَةَ الْجَبَّارِينَ مَعَ مُوسَى، إِلَّا مَاتَ، وَلَمْ يَشْهَدِ
الْفَتْحَ. وَفِي بَعْضِ هَذَا السِّيَاقِ نَكَارَةٌ وَغَرَابَةٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنَ التِّيهِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ
مُوسَى، سِوَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَكَالِبَ بْنِ يُوفَنَّا، وَهُوَ زَوْجُ
مَرْيَمَ أُخْتِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَهُمَا الرَّجُلَانِ الْمَذْكُورَانِ فِيمَا
تَقَدَّمَ اللَّذَانِ أَشَارَا عَلَى مَلَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالدُّخُولِ
عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
مَرَّ بِمَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفِرُونَ قَبْرًا، فَلَمْ يَرَ أَحْسَنَ
مِنْهُ، وَلَا أَنْضَرَ وَلَا أَبْهَجَ، فَقَالَ: يَا مَلَائِكَةَ اللَّهِ لِمَنْ
تَحْفِرُونَ هَذَا الْقَبْرَ؟
فَقَالُوا:
لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ كَرِيمٍ، فَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ هَذَا
الْعَبْدَ، فَادْخُلْ هَذَا الْقَبْرَ، وَتَمَدَّدْ فِيهِ، وَتَوَجَّهْ إِلَى
رَبِّكَ، وَتَنَفَّسْ أَسْهَلَ تَنَفُّسٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ فَمَاتَ، صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَصَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، وَدَفَنُوهُ.
وَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَيُونُسُ،
قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ
يُونُسُ: رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا قَالَ:
فَأَتَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَطَمَهُ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَأَتَى
رَبَّهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ عَبْدُكَ مُوسَى فَقَأَ عَيْنِي، وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ
عَلَيْكَ لَعَنُفْتُ بِهِ " وَقَالَ يُونُسُ: " لَشَقَقْتُ عَلَيْهِ
". " قَالَ لَهُ اذْهَبْ إِلَى عَبْدِي، فَقُلْ لَهُ: فَلْيَضَعْ يَدَهُ
عَلَى جِلْدِ - أَوْ مَسْكِ - ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ
سَنَةٌ. فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ، فَقَالَ: مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ،
قَالَ: فَالْآنَ ". قَالَ: فَشَمَّهُ شَمَّةً، فَقَبَضَ رُوحَهُ قَالَ
يُونُسُ: " فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ، وَكَانَ يَأْتِي النَّاسَ
خُفْيَةً " وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ
مُصْعَبِ بْنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ، فَرَفَعَهُ
أَيْضًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ نُبُوَّةِ
يُوشَعَ وَقِيَامِهِ بِأَعْبَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ،
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَايِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَهْلُ
الْكِتَابِ يَقُولُونَ: يُوشَعُ بْنُ عَمِّ هُودٍ. وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ غَيْرَ مُصَرَّحٍ بِاسْمِهِ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ، كَمَا
تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ [ الْكَهْفِ: 60 ].
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ [ الْكَهْفِ: 62 ]. وَقَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ
فِي " الصَّحِيحِ "، مِنْ رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّهُ
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ عِنْدَ أَهْلِ
الْكِتَابِ، فَإِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ وَهُمُ السَّامِرَةُ لَا يُقِرُّونَ
بِنُبُوَّةِ أَحَدٍ بَعْدَ مُوسَى إِلَّا يُوشَعَ بْنَ نُونٍ; لِأَنَّهُ مُصَرَّحٌ
بِهِ فِي التَّوْرَاةِ وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ، فَعَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ.
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ حُوِّلَتْ مِنْ مُوسَى إِلَى
يُوشَعَ فِي آخِرِ عُمْرِ مُوسَى، فَكَانَ مُوسَى يَلْقَى يُوشَعَ فَيَسْأَلُهُ
مَا أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، حَتَّى قَالَ
لَهُ: يَا كَلِيمَ
اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لَا أَسْأَلُكَ عَمَّا يُوحِي اللَّهُ إِلَيْكَ، حَتَّى تُخْبِرَنِي أَنْتَ ابْتِدَاءً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ. فَعِنْدَ ذَلِكَ كَرِهَ مُوسَى الْحَيَاةَ، وَأَحَبَّ الْمَوْتَ. فَفِي هَذَا نَظَرٌ; لِأَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ، وَالْوَحْيُ، وَالتَّشْرِيعُ، وَالْكَلَامُ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَزَلْ مُعَزَّزًا، مُكَرَّمًا، مُدَلَّلًا، وَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي " الصَّحِيحِ "، مِنْ قِصَّةِ فَقْئِهِ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْ يَدُهُ سَنَةٌ يَعِيشُهَا، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ. قَالَ: فَالْآنَ يَا رَبِّ. وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، وَقَدْ أُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَقُولُهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَفِي كِتَابِهِمُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ التَّوْرَاةَ أَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَزَلْ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى فِي كُلِّ أَمْرٍ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ إِلَى آخِرِ مُدَّةِ مُوسَى، كَمَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ سِيَاقِ كِتَابِهِمْ عِنْدَ تَابُوتِ الشَّهَادَةِ، فِي قُبَّةِ الزَّمَانِ. وَقَدْ ذَكَرُوا فِي السَّفَرِ الثَّالِثِ، أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ مُوسَى وَهَارُونَ أَنْ يَعُدَّا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَسْبَاطِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلَا عَلَى كُلِّ سِبْطٍ مِنَ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَمِيرًا، وَهُوَ النَّقِيبُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِيَتَأَهَّبُوا لِلْقِتَالِ; قِتَالِ الْجَبَّارِينَ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ التِّيهِ، وَكَانَ هَذَا عِنْدَ اقْتِرَابِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا فَقَأَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ; لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ فِي صُورَتِهِ تِلْكَ وَلِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ أُمِرَ بِأَمْرٍ كَانَ يَرْتَجِي وُقُوعَهُ فِي زَمَانِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قَدَرِ اللَّهِ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ بَلْ فِي زَمَانِ فَتَاهَ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ أَرَادَ غَزْوَ الرُّومِ بِالشَّامِ، فَوَصَلَ إِلَى تَبُوكَ، ثُمَّ رَجَعَ عَامَهُ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ عَشْرٍ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَهَّزَ جَيْشَ أُسَامَةَ إِلَى الشَّامِ، طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ; امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ التَّوْبَةِ: 29 ]. وَلَمَّا جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ جَيْشَ أُسَامَةَ، تُوُفِّيَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأُسَامَةُ مُخَيِّمٌ بِالْجَرْفِ فَنَفَّذَهُ صَدِيقُهُ وَخَلِيفَتُهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ لَمَّا لَمَّ شَعَثَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَا كَانَ وَهَى مِنْ أَمْرِ أَهْلِهَا، وَعَادَ الْحَقُّ إِلَى نِصَابِهِ، جَهَّزَ الْجُيُوشَ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، إِلَى الْعِرَاقِ، أَصْحَابِ كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ، وَإِلَى الشَّامِ، أَصْحَابِ قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ، فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ، وَمَكَّنَ لَهُمْ وَبِهِمْ، وَمَلَّكَهُمْ نَوَاصِيَ أَعْدَائِهِمْ، كَمَا سَنُورِدُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ مُفَصَّلًا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِعَوْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَحُسْنِ إِرْشَادِهِ. وَهَكَذَا مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ; كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُجَنِّدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِمْ نُقَبَاءَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [ الْمَائِدَةِ: 12 ].
يَقُولُ لَهُمْ:
لَئِنْ قُمْتُمْ بِمَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ تَنْكِلُوا عَنِ الْقِتَالِ،
كَمَا نَكَلْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، لَأَجْعَلَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ مُكَفِّرَةً
لِمَا وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِ تِلْكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِمَنْ
تَخَلَّفَ مِنَ الْأَعْرَابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ
سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ
تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [
الْفَتْحِ: 16 ]. وَهَكَذَا قَالَ تَعَالَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: فَمَنْ كَفَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ثُمَّ ذَمَّهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَنَقْضِهِمْ مَوَاثِيقَهُمْ، كَمَا ذَمَّ مَنْ
بَعْدَهُمْ مِنَ النَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ " مُسْتَقْصًى، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ
يَكْتُبَ أَسْمَاءَ الْمُقَاتِلَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِمَّنْ يَحْمِلُ
السِّلَاحَ وَيُقَاتِلُ، مِمَّنْ بَلَغَ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، وَأَنْ
يَجْعَلَ عَلَى كُلِّ سِبْطٍ نَقِيبًا مِنْهُمْ; السِّبْطُ الْأَوَّلُ سِبْطُ
رُوبِيلَ; لِأَنَّهُ بِكْرُ يَعْقُوبَ، كَانَ عِدَّةُ الْمُقَاتِلَةِ مِنْهُمْ
سِتَّةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ مِنْهُمْ، وَهُوَ
أَلِيصُورُ بْنُ شَدَيْئُورَا، السِّبْطُ الثَّانِي سِبْطُ شَمْعُونَ، وَكَانُوا
تِسْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَثَلَاثَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ شَلُومِيئِيلُ بْنُ
هُورِيشَدَّاي، السِّبْطُ الثَّالِثُ سِبْطُ يَهُوذَا،
وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ نَحْشُوَنُ بْنُ عَمِّينَادَابَ، السِّبْطُ الرَّابِعُ سِبْطُ إِيسَّاخَرَ، وَكَانُوا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ نَشَائِيلُ بْنُ صُوغَرَ، السِّبْطُ الْخَامِسُ سِبْطُ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، السِّبْطُ السَّادِسُ سِبْطُ مِيشَا، وَكَانُوا أَحَدًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، وَنَقِيبَهُمْ جَمْلِيئِيلُ بْنُ فَدَهْصُورَ. السِّبْطُ السَّابِعُ سِبْطُ بِنْيَامِينَ، وَكَانُوا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ أَبِيدَنُ بْنُ جِدْعُونَ، السِّبْطُ الثَّامِنُ سِبْطُ جَادَ، وَكَانُوا خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، وَنَقِيبُهُمْ الْيَاسَافُ بْنُ رَعُوئِيلَ، السِّبْطُ التَّاسِعُ سِبْطُ أَشِيرَ، وَكَانُوا أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ فَجْعِيئِيلُ بْنُ عُكْرَنَ، السِّبْطُ الْعَاشِرُ سِبْطُ دَانَ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ أَخِيعَزَرُ بْنُ عَمِّيشَدَّايْ، السِّبْطُ الْحَادِي عَشَرَ سِبْطُ نِفْتَالِي، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ أَخِيرَعُ بْنُ عِينَ، السِّبْطُ الثَّانِي عَشَرَ سَبْطُ زَبُولُونَ، وَكَانُوا سَبْعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَنَقِيبُهُمْ أَلْبَابُ بْنُ حِيلُونَ. هَذَا نَصُّ كِتَابِهِمُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَيْسَ مِنْهُمْ بَنُو لَاوِي، فَأَمَرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ لَا يَعُدَّهُمْ مَعَهُمْ; لِأَنَّهُمْ مُوَكَّلُونَ بِحَمْلِ قُبَّةِ الشَّهَادَةِ، وَخَزْنِهَا وَنَصْبِهَا إِذَا ارْتَحَلُوا وَهُمْ سَبِطُ مُوسَى وَهَارُونَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفًا مِنِ ابْنِ شَهْرٍ فَمَا فَوْقُ، ذَلِكَ وَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَبَائِلُ، إِلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ مِنْ قُبَّةِ الزَّمَانِ يَحْرُسُونَهَا، وَيَحْفَظُونَهَا، وَيَقُومُونَ بِمَصَالِحِهَا، وَنَصْبِهَا، وَحَمْلِهَا، وَهُمْ كُلُّهُمْ
حَوْلَهَا
يَنْزِلُونَ وَيَرْتَحِلُونَ أَمَامَهَا وَيَمِينَهَا وَشِمَالَهَا وَوَرَاءَهَا.
وَجُمْلَةُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، غَيْرَ بَنِي لَاوِي، خَمْسُمِائَةِ
أَلْفٍ وَأَحَدٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا وَسِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ،
لَكِنْ قَالُوا: فَكَانَ عَدَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِمَّنْ عُمْرُهُ عِشْرُونَ
سَنَةً فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مِمَّنْ حَمَلَ السِّلَاحَ، سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ
وَثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا، سِوَى بَنِي لَاوِي
وَفِي هَذَا نَظَرٌ; فَإِنَّ جَمِيعَ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إِنْ كَانَتْ
كَمَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِهِمْ لَا تُطَابِقُ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرُوهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَكَانَ بَنُو لَاوِي الْمُوَكَّلُونَ بِحِفْظِ قُبَّةِ
الزَّمَانِ، يَسِيرُونَ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمُ الْقَلْبُ،
وَرَأْسُ الْمَيْمَنَةِ بَنُو رُوبِيلَ، وَرَأْسُ الْمَيْسَرَةِ بَنُو رَانَ،
وَبَنُو نِفْتَالِي يَكُونُونَ سَاقَةً، وَقَرَّرَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، الْكِهَانَةَ فِي بَنِي هَارُونَ، كَمَا كَانَتْ
لِأَبِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَهُمْ: نَادَابُ، وَهُوَ بِكْرُهُ، وَأَبِيهُو،
وَالْعَازَرُ، وَيَثْمَرُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ
كَانَ نَكَلَ عَنْ دُخُولِ مَدِينَةِ الْجَبَّارِينَ، الَّذِينَ قَالُوا:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [
الْمَائِدَةِ: 24 ]. قَالَهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَهُ قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَرَوَاهُ السُّدِّيُّ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: وَمَاتَ
مُوسَى، وَهَارُونُ قَبْلَهُ، كِلَاهُمَا فِي التِّيهِ جَمِيعًا. وَقَدْ زَعَمَ
ابْنُ
إِسْحَاقَ أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هُوَ مُوسَى، وَإِنَّمَا كَانَ يُوشَعُ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ، وَذَكَرَ فِي مُرُورِهِ إِلَيْهَا قِصَّةَ بِلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ، الَّذِي قَالَ تَعَالَى فِيهِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ [ الْأَعْرَافِ: 175 - 177 ]. وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي " التَّفْسِيرِ "، وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَغَيْرُهُ، يَعْلَمُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا أَلَحُّوا عَلَيْهِ، رَكِبَ حِمَارَةً لَهُ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ مُعَسْكَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، رَبَضَتْ بِهِ حِمَارَتُهُ، فَضَرَبَهَا، حَتَّى قَامَتْ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَبَضَتْ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا أَشَدَّ مِنَ الْأَوَّلِ فَقَامَتْ، ثُمَّ رَبَضَتْ فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: يَا بِلْعَامُ أَيْنَ تَذْهَبُ؟ أَمَا تَرَى الْمَلَائِكَةَ أَمَامِي، تَرُدُّنِي عَنْ وَجْهِي هَذَا، أَتَذْهَبُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ تَدْعُو عَلَيْهِمْ؟ فَلَمْ يَنْزِعْ عَنْهَا فَضَرَبَهَا حَتَّى سَارَتْ بِهِ، حَتَّى أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ رَأْسِ جَبَلِ حُسْبَانَ، وَنَظَرَ إِلَى مُعَسْكَرِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخَذَ يَدْعُو عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ لِسَانُهُ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا أَنْ يَدْعُوَ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ، وَيَدْعُو عَلَى قَوْمِ نَفْسِهِ، فَلَامُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ إِلَّا هَذَا، وَانْدَلَعَ لِسَانُهُ حَتَّى وَقَعَ عَلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: ذَهَبَتْ مِنِّي الْآنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْمَكْرُ وَالْحِيلَةِ. ثُمَّ أَمَرَ قَوْمَهُ
أَنْ يُزَيِّنُوا النِّسَاءَ، وَيَبْعَثُوهُنَّ بِالْأَمْتِعَةِ يَبِعْنَ عَلَيْهِمْ، وَيَتَعَرَّضْنَ لَهُمْ، حَتَّى لَعَلَّهُمْ يَقَعُونَ فِي الزِّنَى فَإِنَّهُ مَتَى زَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ كُفِيتُمُوهُمْ. فَفَعَلُوا وَزَيَّنُوا نِسَاءَهُمْ وَبَعَثُوهُنَّ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، فَمَرَّتِ امْرَأَةٌ مِنْهُمُ اسْمُهَا كَسْتَى بِرَجُلٍ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ زِمْرِيُّ بْنُ شَلُومَ، يُقَالُ إِنَّهُ كَانَ رَأْسَ سِبْطِ بَنِي شَمْعُونَ بْنِ يَعْقُوبَ. فَدَخَلَ بِهَا قُبَّتَهُ، فَلَمَّا خَلَا بِهَا أَرْسَلَ اللَّهُ الطَّاعُونَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَجَعَلَ يَجُوسُ فِيهِمْ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى فِنْحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ، أَخَذَ حَرْبَتَهُ، وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا الْقُبَّةَ، فَانْتَظَمَهُمَا جَمِيعًا فِيهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِمَا عَلَى النَّاسِ وَالْحَرْبَةِ فِي يَدِهِ، وَقَدِ اعْتَمَدَ عَلَى خَاصِرَتِهِ وَأَسْنَدَهَا إِلَى لِحْيَتِهِ، وَرَفْعَهُمَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ هَكَذَا نَفْعَلُ بِمَنْ يَعْصِيكَ. وَرَفَعَ الطَّاعُونَ، فَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ مَاتَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَالْمُقَلِّلُ يَقُولُ: عِشْرِينَ أَلْفًا. وَكَانَ فِنْحَاصُ بِكْرَ أَبِيهِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ، فَلِهَذَا يَجْعَلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِوَلَدِ فِنْحَاصَ مِنَ الذَّبِيحَةِ الْقِبَةَ وَالذِّرَاعَ وَاللَّحْيَ، وَلَهُمُ الْبِكْرُ مِنْ كُلِّ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ قِصَّةِ بِلْعَامَ صَحِيحٌ قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ، لَكِنْ لَعَلَّهُ لَمَّا أَرَادَ مُوسَى دُخُولَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوَّلَ مَقْدَمِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَلَكِنَّهُ مَا فَهِمَهُ بَعْضُ النَّاقِلِينَ عَنْهُ. وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ نَصِّ التَّوْرَاةِ مَا يَشْهَدُ لِبَعْضِ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَعَلَّ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى كَانَتْ فِي خِلَالِ
سَيْرِهِمْ فِي
التِّيهِ، فَإِنَّ فِي هَذَا السِّيَاقِ ذِكْرَ حُسْبَانَ، وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنْ
أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ لَعَلَّهُ كَانَ هَذَا لِجَيْشِ مُوسَى الَّذِينَ
عَلَيْهِمْ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، حِينَ خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ قَاصِدًا
بَيْتَ الْمَقْدِسِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّدِّيَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، أَنَّ هَارُونَ
تُوُفِّيَ بِالتِّيهِ قَبِلَ مُوسَى أَخِيهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَنَتَيْنِ. وَبَعْدَهُ
مُوسَى فِي التِّيهِ أَيْضًا، كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ
يُقَرَّبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، فَكَانَ الَّذِي
خَرَجَ بِهِمْ مِنَ التِّيهِ، وَقَصَدَ بِهِمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، هُوَ يُوشَعُ
بْنُ نُونٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ
أَهْلِ التَّارِيخِ، أَنَّهُ قَطَعَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ نَهْرَ الْأُرْدُنِّ،
وَانْتَهَى إِلَى أَرِيحَا، وَكَانَتْ مَنْ أَحْصَنِ الْمَدَائِنَ سُورًا،
وَأَعْلَاهَا قُصُورًا، وَأَكْثَرِهَا أَهْلًا، فَحَاصَرَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ،
ثُمَّ إِنَّهُمْ أَحَاطُوا بِهَا يَوْمًا، وَضَرَبُوا بِالْقُرُونِ، يَعْنِي
الْأَبْوَاقَ، وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَتَفَسَّخَ سُورُهَا،
وَسَقَطَ وَجْبَةً وَاحِدَةً، فَدَخَلُوهَا، وَأَخَذُوا مَا وَجَدُوا فِيهَا مِنَ
الْغَنَائِمِ، وَقَتَلُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ،
وَحَارَبُوا مُلُوكًا كَثِيرَةً، وَيُقَالُ: إِنَّ يُوشَعَ ظَهَرَ عَلَى أَحَدٍ
وَثَلَاثِينَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الشَّامِ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ انْتَهَى
مُحَاصَرَتُهُ لَهَا إِلَى يَوْمِ جُمُعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَلَمَّا غَرَبَتِ
الشَّمْسُ، أَوْ كَادَتْ تَغْرُبُ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِمُ السَّبْتُ الَّذِي
جُعِلَ
عَلَيْهِمْ،
وَشُرِعَ لَهُمْ ذَلِكَ الزَّمَانَ، قَالَ لَهَا: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا
مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ. فَحَبَسَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ، حَتَّى
تَمَكَّنَ مِنْ فَتْحِ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ الْقَمَرَ فَوَقَفَ عِنْدَ الطُّلُوعِ،
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ كَانَتِ اللَّيْلَةَ الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ مِنَ الشَّهْرِ. وَالْأَوَّلُ، وَهُوَ قِصَّةُ الشَّمْسِ الْمَذْكُورَةِ
فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَأَذْكُرُهُ. وَأَمَّا قِصَّةُ الْقَمَرِ، فَمِنْ عِنْدِ
أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا يُنَافِي الْحَدِيثَ، بَلْ فِيهِ زِيَادَةٌ تُسْتَفَادُ،
فَلَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ، وَلَكِنَّ ذِكْرَهُمْ أَنَّ هَذَا فِي فَتْحِ
أَرِيحَا فِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّ هَذَا كَانَ فِي
فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، وَفَتْحُ
أَرِيحَا كَانَ وَسِيلَةً إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّمْسَ لَمْ
تُحْبَسْ لِبَشَرٍ إِلَّا لِيُوشَعَ لَيَالِيَ سَارَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
انْفَرَدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ
الْبُخَارِيِّ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي فَتَحَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا مُوسَى، وَأَنَّ حَبْسَ
الشَّمْسِ كَانَ فِي فَتْحِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا أَرِيحَا، كَمَا قُلْنَا
وَفِيهِ أَنَّ هَذَا كَانَ مِنْ خَصَائِصِ يُوشَعَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ; أَنَّ الشَّمْسَ رَجَعَتْ
حَتَّى صَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ صَلَاةَ الْعَصْرِ، بَعْدَ مَا
فَاتَتْهُ، بِسَبَبِ نَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
رُكْبَتِهِ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ، حَتَّى يُصَلِّيَ
الْعَصْرَ،
فَرَجَعَتْ. وَقَدْ صَحَّحَهُ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ، وَلَكِنَّهُ
مُنْكَرٌ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الصِّحَاحِ وَلَا الْحِسَانِ، وَهُوَ مِمَّا
تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَتَفَرَّدَتْ بِنَقْلِهِ امْرَأَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ مَجْهُولَةٌ، لَا يُعْرَفُ حَالُهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ
لِقَوْمِهِ: لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ
أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ، وَلَا آخَرُ قَدْ بَنَى بُنْيَانًا وَلَمْ
يَرْفَعْ سَقْفَهَا، وَلَا آخَرِ قَدِ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خُلُفَاتٍ وَهُوَ
يَنْتَظِرُ أَوْلَادَهَا. فَغَزَا فَدَنَا مِنَ الْقَرْيَةِ حِينَ صَلَّى
الْعَصْرَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ: أَنْتِ مَأْمُورَةٌ
وَأَنَا مَأْمُورٌ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيَّ شَيْئًا. فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ
حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا فَأَقْبَلَتِ النَّارُ
لِتَأْكُلَهُ، فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ فَقَالَ: فِيكُمْ غُلُولٌ
فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ. فَبَايَعُوهُ، فَلَصِقَتْ يَدُ
رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ وَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ.
فَبَايَعَتْهُ قَبِيلَتُهُ، فَلَصِقَ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ:
فِيكُمُ الْغُلُولُ، أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ. فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ
بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَوَضَعُوهُ بِالْمَالِ وَهُوَ بِالصَّعِيدِ،
فَأَقْبَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ، فَلَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِأَحَدٍ مِنْ
قَبْلِنَا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ رَأَى ضَعْفَنَا، وَعَجْزَنَا، فَطَيَّبَهَا
لَنَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. قَالَ: وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: وَرَوَاهُ قَتَادَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِهِمْ بَابَ الْمَدِينَةِ، أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا سُجَّدًا; أَيْ رُكَّعًا مُتَوَاضِعِينَ شَاكِرِينَ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَتْحِ الْعَظِيمِ، الَّذِي كَانَ اللَّهُ وَعْدَهُمْ إِيَّاهُ، وَأَنْ يَقُولُوا حَالَ دُخُولِهِمْ: حِطَّةٌ. أَيْ; حُطَّ عَنَّا خَطَايَانَا الَّتِي سَلَفَتْ مِنْ نُكُولِنَا الَّذِي تَقَدَّمَ مِنَّا. وَلِهَذَا لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا دَخَلَهَا وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ، وَهُوَ مُتَوَاضِعٌ حَامِدٌ شَاكِرٌ، حَتَّى إِنَّ عُثْنُونَهُ، وَهُوَ طَرَفُ لِحْيَتِهِ، لَيَمَسُّ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، مِمَّا يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ خُضْعَانًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعَهُ الْجُنُودُ وَالْجُيُوشُ، مِمَّنْ لَا يُرَى مِنْهُ إِلَّا الْحَدَقُ لَا سِيَّمَا الْكَتِيبَةُ الْخَضْرَاءُ، الَّتِي فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَهَا، اغْتَسَلَ وَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ. وَهِيَ صَلَاةُ الشُّكْرِ عَلَى النَّصْرِ، عَلَى الْمَنْصُورِ مِنْ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا صَلَاةُ الضُّحَى. وَمَا حَمَلَ هَذَا الْقَائِلَ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا، إِلَّا لِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَقْتَ الضُّحَى. وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَإِنَّهُمْ خَالَفُوا مَا أُمِرُوا بِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا; دَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أسْتَاهِهِمْ وَهُمْ
يَقُولُونَ: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: حِنْطَةٌ فِي شَعْرَةٍ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّهُمْ بَدَّلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، حَاكِيًا عَنْهُمْ فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ "، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ [ الْأَعْرَافِ: 161، 162 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ مُخَاطِبًا لَهُمْ: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [ الْبَقَرَةِ: 58، 59 ]. قَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا قَالَ: رُكَّعًا مِنْ بَابٍ صَغِيرٍ. رَوَاهُ الْحَاكِمُ، وَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ،
وَالضَّحَّاكُ:
الْبَابُ هُوَ بَابُ حِطَّةٍ مِنْ بَيْتِ إِيلِيَاءَ، بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ: فَدَخَلُوا مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ، ضِدَّ مَا أُمِرُوا بِهِ.
وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ
عَلَى أَسْتَاهِهِمْ. وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَنُورِدُهُ بَعْدُ،
فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا يَزْحَفُونَ وَهُمْ مُقْنِعُو رُءُوسِهِمْ. وَقَوْلُهُ:
وَقُولُوا حِطَّةٌ الْوَاوُ هُنَا حَالِيَّةٌ، لَا عَاطِفَةٌ أَيِ ادْخُلُوا
سُجَّدًا فِي حَالِ قَوْلِكُمْ: حِطَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ،
وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّبِيعُ: أُمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا،
وَقُولُوا حِطَّةٌ. فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ فَبَدَّلُوا
وَقَالُوا: حِطَّةٌ; حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ
حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِبَعْضِهِ، وَرَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ بِهِ مَوْقُوفًا. وَقَدْ
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ،
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا هَذِهِ
الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ
سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا فَدَخَلُوا
الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى
أَسْتَاهِهِمْ، فَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ تَبْدِيلُهُمْ كَمَا حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كِيسَانَ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَمَّنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: دَخَلُوا الْبَابَ الَّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ سُجَّدًا، يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ: حِنْطَةٌ فِي شُعَيْرَةٍ وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي قَوْلِهِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قَالَ: قَالُوا: ( هطى سمقاثا أزبة مزبا ) فَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ: حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَمْرَاءُ مَثْقُوبَةٌ، فِيهَا شَعْرَةٌ سَوْدَاءُ. وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَاقَبَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ بِإِرْسَالِ الرِّجْزِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الطَّاعُونُ، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، وَمِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَسَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْوَجَعَ - أَوِ السَّقَمَ - رِجْزٌ عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَهَذَا لَفْظُهُ، مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،
عَنْ أَبِيهِ،
وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطَّاعُونُ رِجْزُ عَذَابٍ، عُذِّبَ
بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرِّجْزُ:
الْعَذَابُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالسُّدِّيُّ،
وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ الْغَضَبُ. وَقَالَ
الشَّعْبِيُّ: الرِّجْزُ إِمَّا الطَّاعُونُ، وَإِمَّا الْبَرْدُ. وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ هُوَ الطَّاعُونُ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ يَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
اسْتَمَرُّوا فِيهِ، وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ يُوشَعُ، يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ التَّوْرَاةِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ،
وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَسَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَكَانَ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ
بَعْدَ مُوسَى، سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ قِصَّتَيِ
الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
أَمَّا الْخَضِرُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَحَلَ
إِلَيْهِ فِي طَلَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَقَصَّ اللَّهُ
مِنْ خَبَرِهِمَا فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فِي سُورَةِ " الْكَهْفِ "،
وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ هُنَالِكَ، وَأَوْرَدْنَا هُنَا ذِكْرَ
الْحَدِيثِ الْمُصَرِّحِ بِذِكْرِ الْخَضِرِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ
الَّذِي رَحَلَ إِلَيْهِ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، نَبِيُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْخَضِرِ; فِي اسْمِهِ، وَنَسَبِهِ، وَنُبُوَّتِهِ،
وَحَيَاتِهِ إِلَى الْآنَ، عَلَى أَقْوَالٍ سَأَذْكُرُهَا لَكَ هَاهُنَا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ وَبِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: يُقَالُ: إِنَّهُ الْخَضِرُ بْنُ آدَمَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِصُلْبِهِ. ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الدَّارَقُطْنِيِّ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَتْحِ الْقَلَانِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّرْقُفِيُّ، حَدَّثَنَا رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ،
حَدَّثَنَا مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: الْخَضِرُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ، وَنُسِئَ لَهُ فِي أَجَلِهِ حَتَّى
يُكَذِّبَ الدَّجَّالَ. وَهَذَا مُنْقَطِعٌ وَغَرِيبٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ
سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ السِّجِسْتَانِيُّ: سَمِعْتُ مَشْيَخَتَنَا;
مِنْهُمْ، أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ،
قَالُوا: إِنَّ أَطْوَلَ بَنِي آدَمَ عُمْرًا الْخَضِرُ، وَاسْمَهُ: خَضْرُونُ بْنُ قَابِيلَ بْنِ آدَمَ. قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، أَخْبَرَ بَنِيهِ أَنَّ الطُّوفَانَ سَيَقَعُ بِالنَّاسِ، وَأَوْصَاهُمْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلُوا جَسَدَهُ مَعَهُمْ فِي السَّفِينَةِ، وَأَنْ يَدْفِنُوهُ فِي مَكَانٍ عَيَّنَهُ لَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الطُّوفَانُ، حَمَلُوهُ مَعَهُمْ، فَلَمَّا هَبَطُوا إِلَى الْأَرْضِ، أَمَرَ نُوحٌ بَنِيهِ أَنْ يَذْهَبُوا بِبَدَنِهِ فَيَدْفِنُوهُ حَيْثُ أَوْصَى، فَقَالُوا: إِنَّ الْأَرْضَ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، وَعَلَيْهَا وَحْشَةٌ، فَحَرَّضَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ: إِنَّ آدَمَ دَعَا لِمَنْ يَلِي دَفْنَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ، فَهَابُوا الْمَسِيرَ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَمْ يَزَلْ جَسَدُهُ عِنْدَهُمْ، حَتَّى كَانَ الْخَضِرُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى دَفْنَهُ، وَأَنْجَزَ اللَّهُ مَا وَعَدَهُ، فَهُوَ يَحْيَى إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ لَهُ أَنَّ يَحْيَى. وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي " الْمَعَارِفِ "، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّ اسْمَ الْخَضِرِ بَلْيَا. وَيُقَالُ: إِيلِيَا بْنُ مَلْكَانَ بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابَرَ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: اسْمُ الْخَضِرِ فِيمَا بَلَغْنَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - الْمُعَمَّرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ خَضْرُونُ بْنُ عَمْيَايِيلَ بْنِ الْيَفْزِ بْنِ الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَيُقَالُ: هُوَ أَرَمَيَا بْنُ حَلْقِيَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ فِرْعَوْنَ صَاحِبِ مُوسَى، مَلِكِ مِصْرَ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَهُوَ أَخُو إِلْيَاسَ. قَالَهُ السُّدِّيُّ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقِيلَ إِنَّهُ
كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ بَعْضِ مَنْ
آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَهَاجَرَ مَعَهُ. وَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا فِي
زَمَنِ بَشْتَاسَبَ بْنِ لَهْرَاسَبَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي زَمَنِ
أَفْرِيدُونَ ابْنِ أَثْفِيَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ مُوسَى، عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ. وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
أَنَّهُ قَالَ: الْخَضِرُ أُمُّهُ رُومِيَّةٌ وَأَبُوهُ فَارِسِيٌّ.
وَقَدْ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
زَمَانِ فِرْعَوْنَ أَيْضًا. قَالَ أَبُو زُرْعَةَ فِي " دَلَائِلِ
النُّبُوَّةِ ": حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ الدِّمَشْقِيُّ،
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ،
مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَيْلُهُ أُسَرِيَ بِهِ وَجَدَ
رَائِحَةً طَيِّبَةً، فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ
الطَّيِّبَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الْمَاشِطَةِ، وَابْنَيْهَا،
وَزَوْجِهَا وَقَالَ: وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ مَمَرُّهُ بِرَاهِبٍ فِي صَوْمَعَتِهِ فَتَطَّلَعَ
عَلَيْهِ الرَّاهِبُ، فَعَلَّمَهُ الْإِسْلَامَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَضِرُ
زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً، فَعَلَّمَهَا الْإِسْلَامَ وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ
لَا تُعْلِمَ أَحَدًا، وَكَانَ لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، ثُمَّ
زَوَّجَهُ أَبُوهُ بِأُخْرَى فَعَلَّمَهَا الْإِسْلَامَ، وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ
لَا تُعْلِمَ أَحَدًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَكَتَمَتْ إِحْدَاهُمَا،
وَأَفْشَتْ
عَلَيْهِ الْأُخْرَى، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى أَتَى جَزِيرَةً فِي الْبَحْرِ،
فَأَقْبَلَ رَجُلَانِ يَحْتَطِبَانِ فَرَأَيَاهُ، فَكَتَمَ أَحَدُهُمَا، وَأَفْشَى
عَلَيْهِ الْآخَرُ، قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الْخَضِرَ. فَقِيلَ وَمَنْ رَآهُ مَعَكَ؟
قَالَ: فُلَانٌ. فَسُئِلَ فَكَتَمَ، وَكَانَ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّهُ مَنْ كَذَبَ
قُتِلَ فَقُتِلَ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ الْكَاتِمُ الْمَرْأَةَ الْكَاتِمَةَ،
قَالَ: فَبَيْنَمَا هِيَ تُمَشِّطُ بِنْتَ فِرْعَوْنَ، إِذْ سَقَطَ الْمُشْطُ مِنْ
يَدِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ فِرْعَوْنُ. فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا، وَكَانَ
لِلْمَرْأَةِ ابْنَانِ، وَزَوْجٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَرَاوَدَ الْمَرْأَةَ
وَزَوْجَهَا أَنْ يَرْجِعَا عَنْ دِينِهِمَا، فَأَبَيَا فَقَالَ: إِنِّي
قَاتِلُكُمَا. فَقَالَا: إِحْسَانٌ مِنْكَ إِلَيْنَا إِنْ أَنْتَ قَتَلَتْنَا أَنْ
تَجْعَلَنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. فَجَعَلَهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: وَمَا
وَجَدْتُ رِيحًا أَطْيَبَ مِنْهُمَا، وَقَدْ دَخَلَتِ الْجَنَّةَ وَقَدْ
تَقَدَّمَتْ قِصَّةُ مَائِلَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَهَذَا الْمُشْطُ فِي أَمْرِ
الْخَضِرِ قَدْ يَكُونُ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَوْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كُنْيَتُهُ أَبُو
الْعَبَّاسِ. وَالْأَشْبَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْخَضِرَ لَقَبٌ غَلَبَ
عَلَيْهِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ
الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَإِذَا
هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءُ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَكَذَلِكَ
رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ بِهِ. ثُمَّ قَالَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ:
الْفَرْوَةُ; الْحَشِيشُ الْأَبْيَضُ وَمَا أَشْبَهَهُ، يَعْنِي الْهَشِيمَ
الْيَابِسَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: الْفَرْوَةُ;
الْأَرْضُ الْبَيْضَاءُ، الَّتِي لَا نَبَاتَ فِيهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ الْهَشِيمُ
الْيَابِسُ، شَبَّهَهُ بِالْفَرْوَةِ، وَمِنْهُ قِيلُ فَرْوَةُ الرَّأْسِ، وَهِيَ
جِلْدَتُهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ كَمَا قَالَ الرَّاعِي:
وَلَقَدْ تَرَى الْحَبَشِيَّ حَوْلَ بُيُوتِنَا جَذِلًا إِذَا مَا نَالَ يَوْمًا
مَأْكَلًا جَعْدًا أَسَكَّ كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ
بُذِرَتْ فَأَنْبَتَ جَانِبَاهُ فُلْفُلًا
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا; لِحُسْنِهِ
وَإِشْرَاقِ وَجْهِهِ.
قُلْتُ: هَذَا لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ "، فَإِنْ
كَانَ وَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْلِيلِ بِأَحَدِهِمَا، فَمَا ثَبَتَ فِي "
الصَّحِيحِ " أَوْلَى وَأَقْوَى، بَلْ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا عَدَاهُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ
أَبِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الْأَيْلِيِّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ،
وَأَبُو جَزِيٍّ، وَهَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ خَضِرًا; لِأَنَّهُ
صَلَّى عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فَاهْتَزَّتْ خَضْرَاءَ وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ قَبِيصَةُ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، قَالَ إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ; لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى
اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ مُوسَى، وَيُوشَعَ، عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، لَمَّا رَجَعَا يَقُصَّانِ الْأَثَرَ، وَجَدَاهُ عَلَى طِنْفِسَةٍ
خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ، وَهُوَ مُسَجًّى بِثَوْبٍ، قَدْ جُعِلَ
طَرَفَاهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَقَدَمَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، فَرَدَّ وَقَالَ: أَنَّى بِأَرْضِكِ
السَّلَامُ! مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى. قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
قَالَ: نَعَمْ. فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ
عَنْهُمَا.
وَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْقِصَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ مِنْ وُجُوهٍ; أَحَدُهَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ
عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [ الْكَهْفِ: 65 ]. الثَّانِي،
قَوْلُ مُوسَى لَهُ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى
مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا
وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ
شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [ الْكَهْفِ: 66 - 70 ]. فَلَوْ كَانَ
وَلِيًّا وَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، لَمْ يُخَاطِبْهُ مُوسَى بِهَذِهِ الْمُخَاطَبَةِ،
وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى مُوسَى هَذَا الرَّدَّ، بَلْ مُوسَى إِنَّمَا سَأَلَ
صُحْبَتَهُ لِيَنَالَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ، الَّذِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ
بِهِ دُونَهُ، فَلَوْ كَانَ غَيْرَ نَبِيٍّ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا، وَلَمْ تَكُنْ
لِمُوسَى - وَهُوَ نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَرَسُولٌ كَرِيمٌ، وَاجِبُ الْعِصْمَةِ -
كَبِيرُ رَغْبَةٍ، وَلَا
عَظِيمُ طَلِبَةٍ فِي عِلْمِ وَلِيٍّ غَيْرِ وَاجِبِ الْعِصْمَةِ، وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّهُ يَمْضِي حُقُبًا مِنَ الزَّمَانِ، قِيلَ: ثَمَانِينَ سَنَةً. ثُمَّ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ تَوَاضَعَ لَهُ، وَعَظَّمَهُ، وَاتَّبَعَهُ فِي صُورَةِ مُسْتَفِيدٍ مِنْهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ خُصَّ مِنَ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَالْأَسْرَارِ النَّبَوِيَّةِ، بِمَا لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، الْكَلِيمَ، نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَرِيمَ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ بِعَيْنِهِ الرُّمَّانِيُّ، عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْخَضِرَ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ. وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَبُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى عِصْمَتِهِ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ النُّفُوسِ بِمُجَرَّدِ مَا يُلْقَى فِي خَلَدِهِ، لِأَنَّ خَاطِرَهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْعِصْمَةِ; إِذْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَمَّا أَقْدَمَ الْخَضِرُ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ يَكْفُرُ، وَيَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَنِ الْكُفْرِ; لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمَا لَهُ، فَيُتَابِعَانِهِ عَلَيْهِ، فَفِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَرْبُو عَلَى بَقَاءِ مُهْجَتِهِ; صِيَانَةً لِأَبَوَيْهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ وَعُقُوبَتِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ. وَقَدْ رَأَيْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ طَرَقَ هَذَا الْمَسْلَكَ بِعَيْنِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ وَصَحَّحَهُ. وَحَكَى الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِ الرُّمَّانِيُّ أَيْضًا. الرَّابِعُ، أَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الْخَضِرُ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْأَفَاعِيلِ لِمُوسَى، وَوَضَّحَ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَجَلَّى، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يَعْنِي: مَا فَعَلَتْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، بَلْ أُمِرْتُ بِهِ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ فِيهِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حُصُولَ وِلَايَتِهِ، بَلْ وَلَا رِسَالَتَهُ، كَمَا قَالَ آخَرُونَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَغَرِيبٌ جِدًّا. وَإِذَا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لَمْ يَبْقَ لِمَنْ قَالَ بِوِلَايَتِهِ - وَإِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى
حَقِيقَةِ
الْأُمُورِ دُونَ أَرْبَابِ الشَّرْعِ الظَّاهِرِ - مُسْتَنَدٌ يَسْتَنِدُونَ
إِلَيْهِ، وَلَا مُعْتَمَدٌ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي وُجُودِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، فَالْجُمْهُورُ عَلَى
أَنَّهُ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ، قِيلَ: لِأَنَّهُ دَفَنَ آدَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ
مِنَ الطُّوفَانِ، فَنَالَتْهُ دَعْوَةُ أَبِيهِ آدَمَ بِطُولِ الْحَيَاةِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّهُ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ فَحَيِيَ.
وَذَكَرُوا أَخْبَارًا اسْتَشْهَدُوا بِهَا عَلَى بَقَائِهِ إِلَى الْآنَ،
وَسَنُورِدُهَا مَعَ غَيْرِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَهَذِهِ وَصِيَّتُهُ لِمُوسَى حِينَ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [ الْكَهْفِ: 78
]. رُوِيَ فِي ذَلِكَ آثَارٌ مُنْقَطِعَةٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ:
أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْمَلْطِيُّ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ مُوسَى أَنْ يُفَارِقَ الْخَضِرَ،
قَالَ لَهُ مُوسَى: أَوْصِنِي. قَالَ: كُنْ نَفَّاعًا وَلَا تَكُنْ ضَرَّارًا،
كُنْ بَشَّاشًا وَلَا تَكُنْ غَضْبَانَ، ارْجِعْ عَنِ اللَّجَاجَةِ، وَلَا تَمْشِ
فِي غَيْرِ حَاجَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى زِيَادَةُ: وَلَا
تَضْحَكْ إِلَّا مِنْ عَجَبٍ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ قَالَ الْخَضِرُ: يَا
مُوسَى، إِنَّ النَّاسَ مُعَذَّبُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَدْرِ هُمُومِهِمْ
بِهَا. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي: قَالَ مُوسَى لِلْخَضِرِ:
أَوْصِنِي. فَقَالَ: يَسَّرَ اللَّهُ
عَلَيْكَ طَاعَتَهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى الْوَقَارِ، إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ. قَالَ: قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ، قَالَ الثَّوْرِيُّ: قَالَ مُجَالِدٌ: قَالَ أَبُو الْوَدَّاكِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ أَخِي مُوسَى: يَا رَبِّ. ذَكَرَ كَلِمَةً، فَأَتَاهُ الْخَضِرُ، وَهُوَ فَتًى طَيِّبُ الرِّيحِ، حَسَنُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، مُشَمِّرُهَا، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ. قَالَ مُوسَى: هُوَ السَّلَامُ، وَإِلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي لَا أُحْصِي نِعَمَهُ، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِهِ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، ثُمَّ قَالَ مُوسَى: أُرِيدُ أَنْ تُوصِيَنِي بِوَصِيَّةٍ، يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا بَعْدَكَ. فَقَالَ الْخُضَرُ: يَا طَالِبَ الْعِلْمِ إِنَّ الْقَائِلَ أَقَلُّ مَلَالَةً مِنَ الْمُسْتَمِعِ، فَلَا تُمِلَّ جُلَسَاءَكَ إِذَا حَدَّثَتْهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَلْبَكَ وِعَاءٌ فَانْظُرْ مَاذَا تَحْشُو بِهِ وِعَاءَكَ؟ وَاعْزِفْ عَنِ الدُّنْيَا وَأَنْبِذْهَا وَرَاءَكَ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ بِدَارٍ، وَلَا لَكَ فِيهَا مَحَلُّ قَرَارٍ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ بُلْغَةً لِلْعِبَادِ، وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا لِيَوْمِ الْمَعَادِ. وَرُضْ نَفْسَكَ عَلَى الصَّبْرِ، تَخْلُصْ مِنَ الْإِثْمِ، يَا مُوسَى تَفَرَّغْ لِلْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهُ، فَإِنَّمَا الْعِلْمُ لِمَنْ تَفَرَّغَ لَهُ، وَلَا تَكُنْ مِكْثَارًا بِالْمَنْطِقِ مِهْدَارًا; فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَنْطِقِ تَشِينُ
الْعُلَمَاءَ،
وَتُبْدِي مَسَاوِئَ السُّخَفَاءِ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالِاقْتِصَادِ، فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنَ التَّوْفِيقِ وَالسَّدَادِ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجُهَّالِ
وَبَاطِلِهِمْ، وَاحْلُمْ عَنِ السُّفَهَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْحُكَمَاءِ،
وَزَيْنُ الْعُلَمَاءِ، إِذَا شَتَمَكَ الْجَاهِلُ فَاسْكُتْ عَنْهُ حِلْمًا،
وَجَانِبْهُ حَزْمًا; فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ جَهْلِهِ عَلَيْكَ، وَسَبِّهِ
إِيَّاكَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ. يَا ابْنَ عِمْرَانَ، وَلَا تَرَ أَنَّكَ أُوتِيتَ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا; فَإِنَّ الِانْدِلَاثَ وَالتَّعَسُّفَ، مِنَ
الِاقْتِحَامِ وَالتَّكَلُّفِ، يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَا تَفْتَحَنَّ بَابًا لَا
تَدْرِي مَا غَلْقُهُ، وَلَا تُغْلِقَنَّ بَابًا لَا تَدْرِي مَا فَتْحُهُ. يَا
ابْنَ عِمْرَانَ مَنْ لَا تَنْتَهِي مِنَ الدُّنْيَا نَهْمَتُهُ، وَلَا تَنْقَضِي
مِنْهَا رَغْبَتُهُ، كَيْفَ يَكُونُ عَابِدًا؟! وَمَنْ يُحَقِّرُ حَالَهُ
وَيَتَّهِمُ اللَّهَ فِيمَا قَضَى لَهُ، كَيْفَ يَكُونُ زَاهِدًا؟! هَلْ يَكُفُّ
عَنِ الشَّهَوَاتِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَوَاهُ، أَوْ يَنْفَعُهُ طَلَبُ
الْعِلْمِ وَالْجَهْلُ قَدْ حَوَاهُ; لِأَنَّ سَعْيَهُ إِلَى آخِرَتِهِ، وَهُوَ
مُقْبِلٌ عَلَى دُنْيَاهُ؟! يَا مُوسَى تَعَلَّمْ مَا تَعَلَّمْتَ لِتَعْمَلَ
بِهِ، وَلَا تَعَلَّمْهُ لِتُحَدِّثَ بِهِ، فَيَكُونَ عَلَيْكَ بَوَارُهُ
وَلِغَيْرِكَ نُورُهُ. يَا مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، اجْعَلِ الزُّهْدَ وَالتَّقْوَى
لِبَاسَكَ، وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ كَلَامَكَ، وَاسْتَكْثِرْ مِنَ الْحَسَنَاتِ،
فَإِنَّكَ مُصِيبٌ السَّيِّئَاتِ، وَزَعْزِعْ بِالْخَوْفِ قَلْبَكَ، فَإِنَّ
ذَلِكَ يُرْضِي رَبَّكَ، وَاعْمَلْ خَيْرًا فَإِنَّكَ لَا بُدَّ عَامِلٌ سُوءًا.
قَدْ وُعِظْتَ إِنْ حَفِظْتَ قَالَ: فَتَوَلَّى الْخَضِرُ، وَبَقِيَ مُوسَى
مَحْزُونًا مَكْرُوبًا يَبْكِي.
لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَدِيثُ، وَأَظُنُّهُ مِنْ صَنْعَةِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى
الْوَقَارِ
الْمِصْرِيِّ، كَذَّبَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ سَكَتَ عَنْهُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عِمْرَانَ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَّا أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْخَضِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ يَمْشِي فِي سُوقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مَكَاتَبٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ عَلَيَّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ. فَقَالَ الْخَضِرُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَمْرٍ يَكُونُ، مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ أُعْطِيكَهُ. فَقَالَ الْمِسْكِينُ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ اللَّهِ لَمَا تَصَدَّقْتَ عَلَيَّ، فَإِنِّي نَظَرْتُ السِّيمَاءَ فِي وَجْهِكَ، وَرَجَوْتُ الْبَرَكَةَ عِنْدَكَ. فَقَالَ الْخَضِرُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ أُعْطِيكَهُ، إِلَّا أَنْ تَأْخُذَنِي فَتَبِيعَنِي. فَقَالَ الْمِسْكِينُ: وَهَلْ يَسْتَقِيمُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ، لَقَدْ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، أَمَا إِنِّي لَا أُخَيِّبُكَ بِوَجْهِ رَبِّي بِعْنِي. قَالَ: فَقَدَّمَهُ إِلَى السُّوقِ فَبَاعَهُ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَكَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي زَمَانًا لَا يَسْتَعْمِلُهُ فِي شَيْءٍ; فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا ابْتَعْتَنِي الْتِمَاسَ خَيْرٍ عِنْدِي، فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ. قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ. قَالَ: لَيْسَ تَشُقُّ عَلَيَّ. قَالَ: فَانْقُلْ هَذِهِ الْحِجَارَةَ. وَكَانَ لَا يَنْقُلُهَا دُونَ سِتَّةِ نَفَرٍ فِي يَوْمٍ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَدْ نَقَلَ
الْحِجَارَةَ فِي
سَاعَةٍ. فَقَالَ: أَحْسَنْتَ وَأَجْمَلْتَ، وَأَطَقْتَ مَا لَمْ أَرَكَ
تُطِيقُهُ. ثُمَّ عُرِضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ فَقَالَ: إِنِّي أَحْسَبُكَ أَمِينًا
فاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي خِلَافَةً حَسَنَةً. قَالَ: فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ. قَالَ:
إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ. قَالَ: لَيْسَ تَشُقُّ عَلَيَّ. قَالَ:
فَاضْرِبْ مِنَ اللَّبِنِ لِبَيْتِي حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْكَ. فَمَضَى الرَّجُلُ
لِسَفَرِهِ فَرَجَعَ وَقَدْ شَيَّدَ بِنَاءَهُ. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ
اللَّهِ مَا سَبِيلُكَ وَمَا أَمْرُكَ؟ فَقَالَ: سَأَلْتَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ،
وَالسُّؤَالُ بِوَجْهِ اللَّهِ أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ، سَأُخْبِرُكَ
مَنْ أَنَا، أَنَا الْخَضِرُ الَّذِي سَمِعْتَ بِهِ، سَأَلَنِي مِسْكِينٌ
صَدَقَةً، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيهِ، فَسَأَلَنِي بِوَجْهِ اللَّهِ
فَأَمْكَنْتُهُ مِنْ رَقَبَتِي، فَبَاعَنِي، وَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ
بِوَجْهِ اللَّهِ، فَرَدَّ سَائِلَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ، وَقَفَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ; جِلْدُهُ لَا لَحْمَ لَهُ وَلَا عَظْمَ يَتَقَعْقَعُ. فَقَالَ
الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، شَقَقْتُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَلَمْ
أَعْلَمْ. فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَحْسَنْتَ وَأَبْقَيْتَ. فَقَالَ الرَّجُلُ:
بِأَبِي وَأُمِّي يَا نَبِيَّ اللَّهِ، احْكُمْ فِي أَهْلِي وَمَالِي بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ، أَوْ أُخَيِّرُكَ فَأُخَلِّي سَبِيلَكَ. فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ
تُخَلِّيَ سَبِيلِي فَأَعْبُدُ رَبِّي. فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَالَ الْخَضِرُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَوْقَعَنِي فِي الْعُبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِي
مِنْهَا وَهَذَا حَدِيثٌ رَفْعُهُ خَطَأٌ، وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا،
وَفِي رِجَالِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، فِي كِتَابِهِ " عُجَالَةِ الْمُنْتَظِرِ
فِي شَرْحِ حَالِ الْخَضِرِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ
الضَّحَّاكِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ بَقِيَّةَ. وَقَدْ
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى السُّدِّيُّ، أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ كَانَا أَخَوَيْنِ، وَكَانَ أَبُوهُمَا مَلِكًا، فَقَالَ إِلْيَاسُ لِأَبِيهِ: إِنَّ أَخِي الْخَضِرَ لَا رَغْبَةَ لَهُ فِي الْمُلْكِ، فَلَوْ أَنَّكَ زَوَّجْتَهُ; لَعَلَّهُ يَجِيءُ مِنْهُ وَلَدٌ يَكُونُ الْمُلْكُ لَهُ. فَزَوَّجَهُ أَبُوهُ بِامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ بِكْرٍ، فَقَالَ لَهَا الْخَضِرُ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ، فَإِنْ شِئْتِ أَطْلَقْتُ سَرَاحَكِ، وَإِنْ شِئْتِ أَقَمْتِ مَعِي تَعْبُدِينَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَتَكْتُمِينَ عَلَى سِرِّي. فَقَالَتْ: نَعَمْ. وَأَقَامَتْ مَعَهُ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ، دَعَاهَا الْمَلِكُ فَقَالَ: إِنَّكِ شَابَّةٌ وَابْنِي شَابٌّ، فَأَيْنَ الْوَلَدُ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا الْوَلَدُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ كَانَ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. فَأَمَرَهُ أَبُوهُ فَطَلَّقَهَا وَزَوَّجَهُ أُخْرَى ثَيِّبًا قَدْ وُلِدَ لَهَا، فَلَمَّا زُفَّتْ إِلَيْهِ قَالَ لَهَا كَمَا قَالَ لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَأَجَابَتْ إِلَى الْإِقَامَةِ عِنْدَهُ، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ، سَأَلَهَا الْمَلِكُ عَنِ الْوَلَدِ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنَكَ لَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ. فَتَطَلَّبَهُ أَبُوهُ فَهَرَبَ، فَأَرْسَلَ وَرَاءَهُ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، فَيُقَالُ إِنَّهُ قَتَلَ الْمَرْأَةَ الثَّانِيَةَ، لِكَوْنِهَا أَفْشَتْ سِرَّهُ فَهَرَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ سَرَاحَ الْأُخْرَى، فَأَقَامَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِي بَعْضِ نَوَاحِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ يَوْمًا، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتْ لَهُ: أَنَّى لَكَ هَذَا الِاسْمُ؟ فَقَالَ: إِنِّي مِنْ أَصْحَابِ الْخَضِرِ. فَتَزَوَّجَتْهُ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا، ثُمَّ صَارَ مِنْ أَمْرِهَا أَنْ صَارَتْ مَاشِطَةَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا تُمَشِّطُهَا; إِذْ وَقَعَ الْمُشْطُ مِنْ يَدِهَا، فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ. فَقَالَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: أَبِي؟ فَقَالَتْ: لَا، رَبِّي وَرَبُّكِ وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ. فَأَعْلَمَتْ أَبَاهَا، فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ، فَأُحْمِيَتْ، ثُمَّ أُمِرَ بِهَا، فَأُلْقِيَتْ فِيهِ، فَلَمَّا عَايَنَتْ
ذَلِكَ،
تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا ابْنٌ مَعَهَا صَغِيرٌ: يَا
أُمَّهْ، اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ. فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا فِي النَّارِ،
فَمَاتَتْ رَحِمَهَا اللَّهُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى نُفَيْعٍ، وَهُوَ
كَذَّابٌ وَضَّاعٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَمِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ كَذَّابٌ أَيْضًا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، أَنَّ الْخَضِرَ جَاءَ لَيْلَةً فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي
عَلَى مَا يُنَجِّينِي مِمَّا خَوَّفْتَنِي، وَارْزُقْنِي شَوْقَ الصَّالِحِينَ
إِلَى مَا شَوَّقَتْهُمْ إِلَيْهِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ
لَهُ: إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا فَضَّلَ شَهْرَ
رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ، وَفَضَّلَ أُمَّتَكَ عَلَى الْأُمَمِ، كَمَا
فَضَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِ. الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَكْذُوبٌ، لَا
يَصِحُّ سَنَدًا وَلَا مَتْنًا; كَيْفَ لَا يَتَمَثَّلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجِيءُ بِنَفْسِهِ مُسَلِّمًا
وَمُتَعَلِّمًا، وَهُمْ يَذْكُرُونَ فِي حِكَايَاتِهِمْ وَمَا يُسْنِدُونَهُ عَنْ
بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ، أَنَّ الْخَضِرَ يَأْتِي إِلَيْهِمْ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ،
وَيَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَنَازِلَهُمْ وَمَحَالَّهُمْ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا
يَعْرِفُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، كَلِيمَ اللَّهِ، الَّذِي اصْطَفَاهُ اللَّهُ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، حَتَّى يَتَعَرَّفَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ
مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
الْمُنَادَى بَعْدَ إِيرَادِهِ حَدِيثَ أَنَسٍ هَذَا: وَأَهْلُ الْحَدِيثِ
مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ، سَقِيمُ الْمَتْنِ،
يَتَبَيَّنُ فِيهِ أَثَرُ الصَّنْعَةِ. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، قَائِلًا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْدَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَبَكَوْا حَوْلَهُ، وَاجْتَمَعُوا، فَدَخَلَ رَجُلٌ أَشْهَبُ اللِّحْيَةِ، جَسِيمٌ، صَبِيحٌ، فَتَخَطَّى رِقَابَهُمْ، فَبَكَى ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَعِوَضًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ، فَإِلَى اللَّهِ فَأَنِيبُوا، وَإِلَيْهِ فَارْغَبُوا، وَنَظَرَهُ إِلَيْكُمْ فِي الْبَلَاءِ فَانْظُرُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ لَمْ يُجْبَرْ. وَانْصَرَفَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعْرِفُونَ الرَّجُلَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَعَلِيٌّ: نَعَمْ، هَذَا أَخُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ كَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ بِهِ، وَفِي مَتْنِهِ مُخَالَفَةٌ لِسِيَاقِ الْبَيْهَقِيِّ، ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ ضَعِيفٌ، وَهَذَا مُنْكَرٌ بِمَرَّةٍ. قُلْتُ: عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ هَذَا، هُوَ ابْنِ مَعْمَرٍ الْبَصْرِيِّ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ نُسْخَةً. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْعُقَيْلِيُّ: أَكْثَرُهَا مَوْضُوعٌ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا مُنْكَرُهُ.
وَقَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ عَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ فِي فَضَائِلِ عَلِيٍّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، غَالٍ فِي
التَّشَيُّعِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ": أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَ التَّعْزِيَةُ، سَمِعُوا قَائِلًا
يَقُولُ: إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ
هَالِكٍ، وَدَرْكًا مَنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ
فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ أَتُدْرُونَ مَنْ هَذَا؟ هَذَا الْخَضِرُ. شَيْخُ الشَّافِعِيِّ
الْقَاسِمُ الْعُمَرِيُّ مَتْرُوكٌ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ
مَعِينٍ: يَكْذِبُ. زَادَ أَحْمَدُ: وَيَضَعُ الْحَدِيثَ. ثُمَّ هُوَ مُرْسَلٌ،
وَمَثَلُهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ هَاهُنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ. وَلَا يَصِحُّ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَجْلَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
بَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى جَنَازَةٍ; إِذْ سَمِعَ هَاتِفًا وَهُوَ يَقُولُ:
لَا تَسْبِقْنَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَانْتَظَرَهُ حَتَّى لَحِقَ بِالصَّفِّ،
فَذَكَرَ دُعَاءَهُ لِلْمَيِّتِ; إِنْ تُعَذِّبْهُ فَكَثِيرًا عَصَاكَ، وَإِنْ
تَغْفِرْ لَهُ فَفَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ. وَلَمَّا
دُفِنَ قَالَ:
طُوبَى لَكَ يَا صَاحِبَ الْقَبْرِ، إِنْ لَمْ تَكُنْ عَرِيفًا، أَوْ جَابِيًا،
أَوْ خَازِنًا، أَوْ كَاتِبًا، أَوْ شُرْطِيًّا. فَقَالَ عُمَرُ: خُذُوا الرَّجُلَ
نَسْأَلْهُ عَنْ صَلَاتِهِ وَكَلَامِهِ عَمَّنْ هُوَ. قَالَ: فَتَوَارَى عَنْهُمْ،
فَنَظَرُوا فَإِذَا أَثَرُ قَدَمِهِ ذِرَاعٌ. فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ
الْخَضِرُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ مُبْهَمٌ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، وَلَا يَصِحُّ
مَثَلُهُ.
وَرَوَى الْحَافِظَ ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُحَرَّرِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
قَالَ: دَخَلْتُ الطَّوَافَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ
مُتَعَلِّقٍ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَمْنَعُهُ
سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لَا تُغْلِطُهُ الْمَسَائِلُ، وَيَا مَنْ لَا
يُبْرِمُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ، وَلَا مَسْأَلَةُ السَّائِلِينَ، ارْزُقْنِي
بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: أَعِدْ عَلَيَّ مَا
قُلْتَ. فَقَالَ لِي: أَوَسَمِعْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ لِي: وَالَّذِي
نَفْسُ الْخَضِرِ بِيَدِهِ - قَالَ: وَكَانَ هُوَ الْخَضِرَ - لَا يَقُولُهَا
عَبْدٌ خَلْفَ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ; إِلَّا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلَوْ
كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَوَرَقِ الشَّجَرِ، وَعَدَدِ النُّجُومِ;
لَغَفَرَهَا اللَّهُ لَهُ. وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُحَرَّرِ; فَإِنَّهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ لَمْ
يُدْرِكْ عَلِيًّا. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ
رَوَاهُ أَبُو
إِسْمَاعِيلَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ
أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ مَحْفُوظِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، قَالَ: بَيْنَمَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَطُوفُ
بِالْكَعْبَةِ، إِذَا هُوَ بَرْجَلٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ
يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ، وَيَا مَنْ لَا يُغْلِطُهُ
السَّائِلُونَ، وَيَا مَنْ لَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، أَذِقْنِي
بَرْدَ عَفْوِكَ، وَحَلَاوَةَ رَحْمَتِكَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا
عَبْدَ اللَّهِ، أَعِدْ دُعَاءَكَ هَذَا. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَادْعُ بِهِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ، فَوَالَّذِي نَفْسُ
الْخَضِرِ بِيَدِهِ، لَوْ كَانَتْ عَلَيْكَ مِنَ الذُّنُوبِ عَدَدُ نُجُومِ
السَّمَاءِ وَمَطَرِهَا، وَحَصْبَاءِ الْأَرْضِ وَتُرَابِهَا، لَغَفَرَ لَكَ
أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ. وَهَذَا أَيْضًا مُنْقَطِعٌ وَفِي إِسْنَادِهِ
مَنْ لَا يُعْرَفُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِسْنَادٌ مَجْهُولٌ
مُنْقَطِعٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ الْخَضِرُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنْبَأَنَا أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ الْحُصَيْنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَيْدٍ،
أَمَلَّهُ عَلَيْنَا بِعَبَّادَانَ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا
الْحَسَنُ بْنُ رَزِينٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ -
قَالَ: وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَلْتَقِي الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ كُلَّ عَامٍ فِي
الْمَوْسِمِ، فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ،
وَيَتَفَرَّقَانِ عَنْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ،
لَا يَسُوقُ الْخَيْرَ إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا يَصْرِفُ الشَّرَّ
إِلَّا اللَّهُ، مَا شَاءَ اللَّهُ، مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، مَا
شَاءَ اللَّهُ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: مَنَّ قَالَهُنَّ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،
آمَنَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْحَرْقِ، وَالسَّرَقِ. قَالَ: وَأَحْسَبُهُ
قَالَ: وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَالسُّلْطَانِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْعَقْرَبِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْأَفْرَادِ ": هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ غَيْرُ هَذَا الشَّيْخِ عَنْهُ.
يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ رَزِينٍ هَذَا. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ
كَثِيرٍ الْعَبْدِيُّ أَيْضًا، وَمَعَ هَذَا قَالَ فِيهِ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ
ابْنُ عَدِيٍّ: لَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو جَعْفَرٍ
الْعُقَيْلِيُّ: مَجْهُولٌ، وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَقَالَ أَبُو
الْحُسَيْنِ ابْنُ الْمُنَادِي: هُوَ حَدِيثٌ وَاهٍ، بِالْحَسَنِ بْنِ رَزِينٍ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ
الْجَهْضَمِيِّ، وَهُوَ كَذَّابٌ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ الْمَقْدِسِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ
الْقُشَيْرِيِّ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ مَرْفُوعًا، قَالَ: يَجْتَمِعُ كُلَّ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ
جِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَالْخَضِرُ. وَذَكَرَ حَدِيثًا
طَوِيلًا مَوْضُوعًا تَرَكْنَا إِيرَادَهُ قَصْدًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
يَحْيَى الْخُشَنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، قَالَ: إِلْيَاسُ وَالْخَضِرُ
يَصُومَانِ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَحُجَّانِ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، وَيَشْرَبَانِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً وَاحِدَةً تَكْفِيهُمَا إِلَى
مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
بَانِيَ جَامِعِ دِمَشْقَ، أَحَبَّ أَنْ يَتَعَبَّدَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ
فَأَمَرَ الْقَوَمَةَ أَنْ يُخْلُوهُ لَهُ، فَفَعَلُوا، فَلَمَّا كَانَ مِنَ
اللَّيْلِ، جَاءَ مِنْ بَابِ السَّاعَاتِ، فَدَخَلَ الْجَامِعَ، فَإِذَا رَجُلٌ
قَائِمٌ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَابِ الْخَضْرَاءِ، فَقَالَ
لِلْقَوَمَةِ: أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ تُخْلُوهُ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا الْخَضِرُ يَجِيءُ كُلَّ لَيْلَةٍ يُصَلِّي هَاهُنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا: أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
أَحْمَدَ، أَنْبَأَنَا أَبُو
بَكْرِ ابْنُ
الطَّبَرِيِّ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْفَضْلِ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - هُوَ ابْنُ سُفْيَانَ -
الْفَسَوِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ،
عَنِ السَّرِيِّ بْنِ يَحْيَى، عَنْ رِيَاحِ بْنِ عَبِيدَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ
رَجُلًا يُمَاشِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعْتَمَدًا عَلَى يَدَيْهِ
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ جَافٍ. قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ
مِنَ الصَّلَاةِ، قُلْتُ: مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدِكَ
آنِفًا؟ قَالَ: وَهَلْ رَأَيْتَهُ يَا رِيَاحُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا
أَحْسَبُكَ إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا. ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ، بَشَّرَنِي أَنِّي
سَأَلِي وَأَعْدِلُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
الرَّمْلِيُّ مَجْرُوحٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قَدَحَ أَبُو الْحُسَيْنِ
بْنُ الْمُنَادِي فِي ضَمْرَةَ، وَالسَّرِيِّ، وَرِيَاحٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ
طُرُقٍ أُخْرَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ اجْتَمَعَ
بِالْخَضِرِ. وَضَعَّفَهَا كُلَّهَا. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَيْضًا، أَنَّهُ
اجْتَمَعَ بِإِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، وَبِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،
وَجَمَاعَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ.
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَالْحِكَايَاتُ، هِيَ عُمْدَةُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى
حَيَاتِهِ إِلَى الْيَوْمِ. وَكُلٌّ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَرْفُوعَةِ ضَعِيفَةٌ
جِدًّا، لَا يَقُومُ بِمِثْلِهَا حُجَّةٌ فِي
الدِّينِ.
وَالْحِكَايَاتُ لَا يَخْلُو أَكْثَرُهَا عَنْ ضَعْفٍ فِي الْإِسْنَادِ،
وَقُصَارَاهَا أَنَّهَا صَحِيحَةٌ إِلَى مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ; مِنْ صَحَابِيٍّ
أَوْ غَيْرِهِ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا
سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدَّجَّالِ، فَقَالَ فِيمَا يُحَدِّثُنَا: يَأْتِي
الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ،
فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، هُوَ خَيْرُ النَّاسِ، أَوْ مِنْ
خَيْرِهِمْ، فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِهِ. فَيَقُولُ
الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، أَتَشُكُّونَ
فِي الْأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ حِينَ
يُحْيَى: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَشَدَّ بَصِيرَةً فِيكَ مِنِّي الْآنَ قَالَ
فَيُرِيدُ قَتْلَهُ الثَّانِيَةَ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ قَالَ مَعْمَرٌ:
بَلَغَنِي أَنَّهُ يَجْعَلُ عَلَى حَلْقِهِ صَفِيحَةً مِنْ نُحَاسٍ، وَبَلَغَنِي
أَنَّهُ الْخَضِرُ الَّذِي يَقْتُلُهُ الدَّجَّالُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ
مُخَرَّجٌ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، الْفَقِيهُ
الرَّاوِي عَنْ مُسْلِمٍ: الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ
الْخَضِرُ. وَقَوْلُ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ: بَلَغَنِي. لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ وَقَدْ
وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: فَيَأْتِي بِشَابٍّ مُمْتَلِئٍ شَبَابًا
فَيَقْتُلُهُ وَقَوْلُهُ: " الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". لَا يَقْتَضِي الْمُشَافَهَةَ،
بَلْ يَكْفِي
التَّوَاتُرُ.
وَقَدْ تَصَدَّى الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ
فِي كِتَابِهِ: " عُجَالَةُ الْمُنْتَظَرِ، فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ
" لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَرْفُوعَاتِ، فَبَيَّنَ
أَنَّهَا مَوْضُوعَاتٌ، وَمِنَ الْآثَارِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينِ
وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَبَيَّنَ ضَعْفَ أَسَانِيدِهَا بِبَيَانِ أَحْوَالِهَا،
وَجَهَالَةِ رِجَالِهَا، وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ.
وَأَمَّا الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، وَمِنْهُمُ الْبُخَارِيُّ،
وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ الْمُنَادِي، وَالشَّيْخُ
أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَدِ انْتَصَرَ لِذَلِكَ وَأَلَّفَ فِيهِ
كِتَابًا سَمَّاهُ: " عُجَالَةَ الْمُنْتَظَرِ فِي شَرْحِ حَالَةِ الْخَضِرِ
" فَيَحْتَجُّ لَهُمْ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ; مِنْهَا، قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 34 ].
فَالْخَضِرُ، إِنْ كَانَ بَشَرًا، فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْعُمُومِ لَا مَحَالَةَ،
وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مِنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ
حَتَّى يَثْبُتَ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ عَنْ
مَعْصُومٍ يَجِبُ قَبُولُهُ. وَمِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [ آلِ
عِمْرَانَ: 81 ]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا
أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ: لَئِنْ بُعِثَ
مُحَمَّدٌ، وَهُوَ
حَيٌّ، لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى
أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْمُ أَحْيَاءٌ; لِيُؤْمِنُنَّ
بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ. فَالْخَضِرُ إِنْ كَانَ
نَبِيًّا أَوْ وَلِيًّا فَقَدْ دَخَلَ فِي هَذَا الْمِيثَاقِ، فَلَوْ كَانَ حَيًّا
فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لَكَانَ أَشْرَفُ
أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَيَنْصُرُهُ أَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ إِلَيْهِ; لِأَنَّهُ
إِنْ كَانَ وَلِيًّا; فَالصَّدِيقُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا;
فَمُوسَى أَفْضَلُ مِنْهُ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا
سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ
مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي وَهَذَا الَّذِي
يُقْطَعُ بِهِ وَيَعْلَمُ مِنَ الدِّينِ عِلْمَ الضَّرُورَةِ، وَقَدْ دَلَّتْ
عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ; أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ لَوْ
فُرِضَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُكَلَّفُونَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَانُوا كُلُّهُمْ أَتْبَاعًا لَهُ، وَتَحْتَ
أَوَامِرِهِ، وَفِي عُمُومِ شَرْعِهِ، كَمَا أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ لَمَّا اجْتَمَعَ مَعَهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، رُفِعَ فَوْقَهُمْ
كُلِّهِمْ، وَلَمَّا هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَحَانَتِ
الصَّلَاةُ; أَمَرَهُ جِبْرِيلُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، فَصَلَّى
بِهِمْ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِمْ، وَدَارِ إِقَامَتِهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَالرَّسُولُ الْخَاتَمُ الْمُبَجَّلُ الْمُقَدَّمُ،
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. فَإِذَا عُلِمَ
هَذَا - وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ مُؤْمِنٍ - عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ
الْخَضِرُ
حَيًّا، لَكَانَ
مِنْ جُمْلَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِمَّنْ
يَقْتَدِي بِشَرْعِهِ، لَا يَسَعُهُ إِلَّا ذَلِكَ. هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يَحْكُمُ بِهَذِهِ
الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا،
وَهُوَ أَحَدُ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَخَاتَمُ
أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْخَضِرَ، لَمْ يُنْقَلْ
بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ، أَنَّهُ اجْتَمَعَ
بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ
يَشْهَدْ مَعَهُ قِتَالًا فِي مَشْهَدٍ مِنَ الْمَشَاهِدِ، وَهَذَا يَوْمُ بَدْرٍ،
يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، فِيمَا دَعَا بِهِ لِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ،
وَاسْتَنْصَرَهُ، وَاسْتَفْتَحَهُ، عَلَى مَنْ كَفَرَهُ: اللَّهُمَّ إِنَّ
تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ، لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ، وَتِلْكَ
الْعِصَابَةُ كَانَ تَحْتَهَا سَادَةُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ، وَسَادَةُ
الْمَلَائِكَةِ، حَتَّى جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ
بْنُ ثَابِتٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، فِي بَيْتٍ يُقَالُ: إِنَّهُ أَفْخَرُ بَيْتٍ
قَالَتْهُ الْعَرَبُ:
وَبِبِئْرِ بَدْرٍ إِذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ جِبْرِيلُ تَحْتَ لِوَائِنَا
وَمُحَمَّدُ
فَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ وُقُوفُهُ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ
أَشْرَفَ مَقَامَاتِهِ، وَأَعْظَمَ غَزَوَاتِهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَّاءِ
الْحَنْبَلِيُّ: سُئِلَ بَعْضُ
أَصْحَابِنَا عَنِ الْخَضِرِ: هَلْ مَاتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَبَلَغَنِي مِثْلُ هَذَا عَنْ أَبِي طَاهِرِ بْنِ الْغُبَارِيِّ قَالَ: وَكَانَ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، لَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْعُجَالَةِ ". فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرَاهُ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذَا الِاحْتِمَالِ الْبَعِيدِ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومَاتِ بِمُجَرَّدِ التَّوَهُّمَاتِ، ثُمَّ مَا الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِفَاءِ؟ وَظُهُورُهُ أَعْظَمُ لِأَجْرِهِ، وَأَعْلَى فِي مَرْتَبَتِهِ، وَأَظْهَرُ لِمُعْجِزَتِهِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ بَاقِيًا بَعْدَهُ، لَكَانَ تَبْلِيغُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ، وَإِنْكَارُهُ لِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ، وَالرِّوَايَاتِ الْمَقْلُوبَةِ، وَالْآرَاءِ الْبِدْعِيَّةِ، وَالْأَهْوَاءِ الْعَصَبِيَّةِ، وَقِتَالُهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزَوَاتِهِمْ، وَشُهُودُهُ جُمُعَهُمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ، وَنَفْعُهُ إِيَّاهُمْ، وَدَفْعُهُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ مِمَّنْ سِوَاهُمْ، وَتَسْدِيدُهُ الْعُلَمَاءَ وَالْحُكَّامَ، وَتَقْرِيرُهُ الْأَدِلَّةَ وَالْأَحْكَامَ، أَفْضَلَ مِمَّ يُقَالُ عَنْهُ مِنْ كُنُونِهِ فِي الْأَمْصَارِ، وَجَوْبِهِ الْفَيَافِيَ وَالْأَقْطَارَ، وَاجْتِمَاعِهِ بِعُبَّادٍ لَا يُعْرَفُ أَحْوَالُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَجَعْلِهِ لَهُمْ كَالنَّقِيبِ الْمُتَرْجِمِ عَنْهُمْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَوَقَّفُ أَحَدٌ فِيهِ بَعْدَ التَّفَهُّمِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى لَيْلَةً الْعِشَاءَ، ثُمَّ
قَالَ:
أَرَأَيْتُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّهُ إِلَى مِائَةٍ سَنَةٍ، لَا يَبْقَى
مِمَّنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ الْيَوْمَ أَحَدٌ - وَفِي رِوَايَةٍ: -
عَيْنٌ تَطْرِفُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهِلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ
قَرْنِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبُو
بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ
الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ
لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى مِمَّنْ
عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، مِنْ
حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ
سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ أَوْ بِشَهْرٍ: مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ - أَوْ: مَا
مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ الْيَوْمَ مَنْفُوسَةٍ - يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ
وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَيَّةٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ،
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: يَسْأَلُونَنِي عَنِ
السَّاعَةِ، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ مَا عَلَى
الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ،
يَأْتِي عَلَيْهَا
مِائَةُ سَنَةٍ وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي نَضْرَةَ، وَأَبِي
الزُّبَيْرِ، كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ
يَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ تَقْطَعُ دَابِرَ دَعْوَى
حَيَاةِ الْخَضِرِ. قَالُوا: فَالْخَضِرُ إِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا هُوَ الْمَظْنُونُ
الَّذِي يَتَرَقَّى فِي الْقُوَّةِ إِلَى الْقَطْعِ فَلَا إِشْكَالَ. وَإِنْ كَانَ
قَدْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ، فَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَعِشْ
بَعْدَهُ مِائَةَ سَنَةٍ، فَيَكُونُ الْآنَ مَفْقُودًا لَا مَوْجُودًا; لِأَنَّهُ
دَاخِلٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُخَصَّصِ لَهُ، حَتَّى
يَثْبُتَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ يَجِبُ قَبُولُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ حَكَى الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِهِ: "
التَّعْرِيفُ وَالْإِعْلَامُ " عَنِ الْبُخَارِيِّ وَشَيْخِهِ أَبِي بَكْرِ
ابْنِ الْعَرَبِيِّ، أَنَّهُ أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ مَاتَ بَعْدَهُ; لِهَذَا الْحَدِيثِ. وَفِي كَوْنِ الْبُخَارِيِّ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ بِهَذَا، وَأَنَّهُ بَقِيَ إِلَى زَمَانِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَظَرٌ. وَرَجَّحَ السُّهَيْلِيُّ بَقَاءَهُ،
وَحَكَاهُ عَنِ
الْأَكْثَرِينَ; قَالَ: وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَعْزِيَتُهُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، بَعْدَهُ فَمَرْوِيٌّ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا ضَعَّفْنَاهُ، وَلَمْ يُورِدْ أَسَانِيدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا إِلْيَاسُ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى، بَعْدَ قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ مِنْ سُورَةِ "
الصَّافَّاتِ ": وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ
الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ
فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِلَ يَاسِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [ الصَّافَّاتِ: 123 - 132
]. قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ: هُوَ إِلْيَاسُ بْنُ تَسْبِي. وَيُقَالُ: ابْنُ
يَاسِينَ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ. وَقِيلَ: إِلْيَاسُ
بْنُ الْعَازِرِ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ. قَالُوا:
وَكَانَ إِرْسَالُهُ إِلَى أَهْلِ بَعْلَبَكَّ، غَرْبِيَّ دِمَشْقَ، فَدَعَاهُمْ
إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ صَنَمٍ
لَهُمْ، كَانُوا يُسَمُّونَهُ بَعْلًا. وَقِيلَ: كَانَتِ امْرَأَةً اسْمُهَا
بَعْلُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: أَلَا تَتَّقُونَ
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ
وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ، وَأَرَادُوا
قَتْلَهُ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ هَرَبَ مِنْهُمْ، وَاخْتَفَى عَنْهُمْ.
قَالَ أَبُو
يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عَمَّارٍ، قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَنَّهُ
قَالَ: إِنَّ إِلْيَاسَ اخْتَبَأَ مَنْ مَلِكِ قَوْمِهِ، فِي الْغَارِ الَّذِي
تَحْتَ الدَّمِ، عَشْرَ سِنِينَ، حَتَّى أَهْلَكَ اللَّهُ الْمَلِكَ، وَوَلَّى
غَيْرَهُ، فَأَتَاهُ إِلْيَاسُ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ،
وَأَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ خَلْقٌ عَظِيمٌ، غَيْرَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْهُمْ،
فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ
هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ بَعْضِ مَشْيَخَةِ دِمَشْقَ، قَالَ: أَقَامَ إِلْيَاسُ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَارِبًا مِنْ قَوْمِهِ، فِي كَهْفِ جَبَلٍ، عِشْرِينَ
لَيْلَةً، أَوْ قَالَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، تَأْتِيهِ الْغِرْبَانُ بِرِزْقِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ: أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ
بُعِثَ إِدْرِيسُ، ثُمَّ نُوحٌ، ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ إِسْمَاعِيلُ
وَإِسْحَاقُ، ثُمَّ يَعْقُوبُ، ثُمَّ يُوسُفُ، ثُمَّ لُوطٌ، ثُمَّ هُودٌ، ثُمَّ
صَالِحٌ، ثُمَّ شُعَيْبٌ، ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونُ، ابْنَا عِمْرَانَ، ثُمَّ
إِلْيَاسُ بْنُ تَسْبِي بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ
قَاهَثَ بْنِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِمُ
السَّلَامُ. هَكَذَا قَالَ، وَفِي هَذَا التَّرْتِيبِ نَظَرٌ. وَقَالَ مَكْحُولٌ
عَنْ كَعْبٍ:
أَرْبَعَةُ
أَنْبِيَاءَ أَحْيَاءٌ، اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ: إِلْيَاسُ وَالْخَضِرُ،
وَاثْنَانِ فِي السَّمَاءِ: إِدْرِيسُ وَعِيسَى. وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ مَنْ
ذَكَرَ أَنَّ إِلْيَاسَ وَالْخَضِرَ يَجْتَمِعَانِ فِي كُلِّ عَامٍ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَنَّهُمَا يَحُجَّانِ كُلَّ سَنَةٍ،
وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمَ شَرْبَةً تَكْفِيهُمَا إِلَى مِثْلِهَا مِنَ الْعَامِ
الْمُقْبِلِ. وَأَوْرَدْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُمَا يَجْتَمِعَانِ
بِعَرَفَاتٍ كُلَّ سَنَةٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ،
وَأَنَّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ: أَنَّ الْخَضِرَ مَاتَ، وَكَذَلِكَ
إِلْيَاسُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَمَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ،
وَغَيْرُهُ; أَنَّهُ لَمَّا دَعَا رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَقْبِضَهُ
إِلَيْهِ لَمَّا كذَّبُوهُ، وَآذَوْهُ، فَجَاءَتْهُ دَابَّةٌ لَوْنُهَا لَوْنُ
النَّارِ فَرَكِبَهَا، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ رِيشًا، وَأَلْبَسَهُ النُّورَ،
وَقَطَعَ عَنْهُ لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَصَارَ مَلَكِيًّا
بَشَرِيًّا، سَمَاوِيًّا أَرْضِيًّا، وَأَوْصَى إِلَى الْيَسَعِ بْنِ أَخْطُوبَ،
فَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، الَّتِي لَا تُصَدَّقُ
وَلَا تُكَذَّبُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنَّ صِحَّتَهَا بَعِيدَةٌ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَعْدَانِيُّ بِبُخَارَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرْقِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَلَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَإِذَا رَجُلٌ فِي الْوَادِي يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْحُومَةِ، الْمَغْفُورَةِ، الْمُثَابِ لَهَا. قَالَ: فَأَشْرَفْتُ عَلَى الْوَادِي، فَإِذَا رَجُلٌ طُولُهُ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ، فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَا يَسْمَعُ كَلَامَكَ. قَالَ: فَأْتِهِ فَأَقْرِئْهُ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: أَخُوكَ إِلْيَاسُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ. قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ فَجَاءَ حَتَّى لَقِيَهُ، فَعَانَقَهُ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَعَدَا يَتَحَدَّثَانِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي مَا آكُلُ فِي سَنَةٍ إِلَّا يَوْمًا، وَهَذَا يَوْمُ فِطْرِي، فَآكُلُ أَنَا وَأَنْتَ. قَالَ: فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمَا مَائِدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا خُبْزٌ، وَحُوتٌ، وَكَرَفْسٌ، فَأَكَلَا وَأَطْعَمَانِي، وَصَلَّيْنَا الْعَصْرَ، ثُمَّ وَدَّعَهُ، وَرَأَيْتُهُ مَرَّ فِي السَّحَابِ نَحْوَ السَّمَاءِ. فَقَدْ كَفَانَا الْبَيْهَقِيُّ أَمْرَهُ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيَّ أَخْرَجَهُ فِي " مُسْتَدْرِكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ "، وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدْرَكُ بِهِ عَلَى " الْمُسْتَدْرَكِ "، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، مِنْ وُجُوهٍ. وَمَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ، حَتَّى الْآنَ وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ هُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ; لِأَنَّهُ
كَانَ أَحَقَّ
بِالسَّعْي إِلَى بَيْنِ يَدَيْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ. وَفِيهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ
فِي السَّنَةِ مَرَّةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُ سَلَبَهُ اللَّهُ
لَذَّةَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
يَشْرَبُ مِنْ زَمْزَمَ كُلَّ سَنَةٍ شَرْبَةً تَكْفِيهِ إِلَى مِثْلِهَا مِنَ
الْحَوْلِ الْآخَرِ. وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَعَارِضَةٌ، وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ لَا
يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَقَدْ سَاقَ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى، وَاعْتَرَفَ
بِضَعْفِهَا وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ، كَيْفَ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ
أَوْرَدَهُ مِنْ طَرِيقِ خَيْرِ بْنِ عَرَفَةَ، عَنْ هَانِئِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ
بَقِيَّةَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ
الْأَسْقَعِ، فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا مُطَوَّلًا، وَفِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ، وَأَنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، قَالَا: فَإِذَا
هُوَ أَعْلَى جِسْمًا مِنَّا بِذِرَاعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَاعْتَذَرَ بِعَدَمِ
قُدُومِهِ لِئَلَّا تَنْفِرَ الْإِبِلُ. وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَا مِنْ طَعَامِ
الْجَنَّةِ، وَقَالَ: إِنَّ لِي فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَكْلَةً، وَفِي
الْمَائِدَةِ خُبْزٌ، وَرُمَّانٌ، وَعِنَبٌ، وَمَوْزٌ، وَرُطَبٌ، وَبَقْلٌ، مَا
عَدَّا الْكُرَّاثَ. وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنِ الْخَضِرِ، فَقَالَ: عَهْدِي بِهِ عَامَ أَوَّلَ، وَقَالَ
لِي: إِنَّكَ سَتَلْقَاهُ قَبْلِي فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ. وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ، بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمَا وَصِحَّةِ هَذَا
الْحَدِيثِ، لَمْ يَجْتَمِعَا
بِهِ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَذَا لَا يَسُوغُ شَرْعًا، وَهَذَا مَوْضُوعٌ أَيْضًا. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ طُرُقًا فِي مَنِ اجْتَمَعَ بِإِلْيَاسَ مِنَ الْعُبَّادِ، وَكُلُّهَا لَا يُفْرَحُ بِهَا; لِضَعْفِ إِسْنَادِهَا أَوْ لِجَهَالَةِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِيهَا. وَمِنْ أَحْسَنِهَا مَا قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ، فَدَخَلْتُ حَائِطًا أُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، فَافْتَتَحْتُ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [ غَافِرٍ: 1 - 3 ]. فَإِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلَفِي عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، عَلَيْهِ مُقَطِّعَاتٌ يَمَنِيَّةٌ، فَقَالَ لِي: إِذَا قُلْتَ: غَافِرِ الذَّنْبِ فَقُلْ: يَا غَافِرَ الذَّنْبِ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. وَإِذَا قُلْتَ: قَابِلِ التَّوْبِ فَقُلْ: يَا قَابِلَ التَّوْبِ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي. وَإِذَا قُلْتَ: شَدِيدِ الْعِقَابِ فَقُلْ: يَا شَدِيدَ الْعِقَابِ لَا تُعَاقِبْنِي. وَإِذَا قُلْتَ: ذِي الطَّوْلِ فَقُلْ: يَا ذَا الطَّوْلِ تَطَوَّلْ عَلَيَّ بِرَحْمَةٍ. فَالْتَفَتُّ فَإِذَا لَا أَحَدَ، وَخَرَجْتُ فَسَأَلْتُ: مَرَّ بِكُمْ رَجُلٌ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، عَلَيْهِ مُقَطِّعَاتٌ يَمَنِيَّةٌ؟ فَقَالُوا: مَا مَرَّ بِنَا أَحَدٌ. فَكَانُوا لَا يَرَوْنَ إِلَّا أَنَّهُ إِلْيَاسُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أَيْ; لِلْعَذَابِ; إِمَّا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيْ; إِلَّا مَنْ آمَنُ مِنْهُمْ، وَقَوْلُهُ: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ أَيْ; أَبْقَيْنَا بَعْدَهُ ذِكْرًا حَسَنًا لَهُ فِي
الْعَالَمِينَ فَلَا يُذْكَرُ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ أَيْ; سَلَامٌ عَلَى إِلْيَاسَ. وَالْعَرَبُ تُلْحِقُ النُّونَ فِي أَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ، وَتُبَدِّلُهَا مِنْ غَيْرِهَا، كَمَا قَالُوا: إِسْمَاعِيلُ وَإِسْمَاعِينُ، وَإِسْرَائِيلُ وإِسْرَائِينُ، وَإِلْيَاسُ وَإِلْيَاسِينُ. وَمَنْ قَرَأَ ( سَلَامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ ) أَيْ; عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: ( سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِينَ ). وَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، وَحَكَاهُ قَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
بَابُ ذِكْرِ
جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُوسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ
ثُمَّ نُتْبِعُهُمْ بِذِكْرِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ، فِي " تَارِيخِهِ ": لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْمَاضِينَ، وَأُمُورِ السَّالِفِينِ مِنْ أُمَّتِنَا،
وَغَيْرِهِمْ; أَنَّ الْقَيِّمَ بِأُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ يُوشَعَ،
كَالِبُ بْنُ يُوفَنَّا. يَعْنِي أَحَدَ أَصْحَابِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ مَرْيَمَ، وَهُوَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ
مِمَّنْ يَخَافُونَ اللَّهَ، وَهُمَا يُوشَعُ، وَكَالِبُ وَهُمَا الْقَائِلَانِ
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ حِينَ نَكَلُوا عَنِ الْجِهَادِ: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ
الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ
فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ الْمَائِدَةِ: 23 ]. قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ كَانَ الْقَائِمُ بِأُمُورِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
حِزِقْيلَ بْنَ بُوذَى. وَهُوَ الَّذِي دَعَا اللَّهَ فَأَحْيَا الَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ.
قِصَّةُ حِزْقِيلَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ
أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ [ الْبَقَرَةِ: 243 ]. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، إِنَّ كَالِبَ بْنَ يُوفَنَّا لَمَّا قَبَضَهُ
اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ يُوشَعَ، خَلَفَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ حِزْقِيلَ بْنَ
بُوذَى، وَهُوَ ابْنُ الْعَجُوزِ، وَهُوَ الَّذِي دَعَا لِلْقَوْمِ الَّذِينَ
ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، فِيمَا بَلَغَنَا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ
فَرُّوا مِنَ الْوَبَاءِ، فَنَزَلُوا بِصَعِيدٍ مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ لَهُمُ
اللَّهُ: مُوتُوا. فَمَاتُوا جَمِيعًا، فَحَظَرُوا عَلَيْهِمْ حَظِيرَةً دُونَ
السِّبَاعِ، فَمَضَتْ عَلَيْهِمْ دُهُورٌ طَوِيلَةٌ، فَمَرَّ بِهِمْ حِزْقِيلُ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ مُتَفَكِّرًا، فَقِيلَ لَهُ: أَتُحِبُّ
أَنْ يَبْعَثَهُمُ اللَّهُ وَأَنْتَ تَنْظُرُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَأُمِرَ أَنْ
يَدْعُوَ تِلْكَ الْعِظَامَ أَنْ تَكْتَسِيَ لَحْمًا، وَأَنْ يَتَّصِلَ الْعَصَبُ بَعْضُهُ
بِبَعْضٍ. فَنَادَاهُمْ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ، فَقَامَ الْقَوْمُ
أَجْمَعُونَ، وَكَبَّرُوا تَكْبِيرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ قَالُوا: كَانَتْ قَرْيَةٌ يُقَالُ لَهَا: " دَاوَرْدَانُ "، قِبَلَ " وَاسِطَ " وَقَعَ بِهَا الطَّاعُونُ فَهَرَبَ عَامَّةُ أَهْلِهَا، فَنَزَلُوا نَاحِيَةً مِنْهَا، فَهَلَكَ مَنْ بَقِيَ فِي الْقَرْيَةِ، وَسَلِمَ الْآخَرُونَ، فَلَمْ يَمُتْ مِنْهُمْ كَثِيرٌ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الطَّاعُونُ، رَجَعُوا سَالِمِينَ، فَقَالَ الَّذِينَ بَقُوا: أَصْحَابُنَا هَؤُلَاءِ كَانُوا أَحْزَمَ مِنَّا، لَوْ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعُوا بَقِينَا، وَلَئِنْ وَقَعَ الطَّاعُونُ ثَانِيَةً لَنَخْرُجَنَّ مَعَهُمْ. فَوَقَعَ فِي قَابِلٍ، فَهَرَبُوا وَهُمْ بِضْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا، حَتَّى نَزَلُوا ذَلِكَ الْمَكَانَ، وَهُوَ وَادٍ أَفْيَحُ، فَنَادَاهُمْ مَلَكٌ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي، وَآخَرُ مِنْ أَعْلَاهُ: أَنْ مُوتُوا. فَمَاتُوا، حَتَّى إِذَا هَلَكُوا، وَبَقِيَتْ أَجْسَادُهُمْ، مَرَّ بِهِمْ نَبِيٌّ، يُقَالُ لَهُ: حِزْقِيلُ. فَلَمَّا رَآهُمْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَجَعَلَ يَتَفَكَّرُ فِيهِمْ وَيَلْوِي شِدْقَيْهِ وَأَصَابِعَهُ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: تُرِيدُ أَنْ أُرِيَكَ كَيْفَ أُحْيِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَإِنَّمَا كَانَ تَفَكُّرُهُ أَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ: نَادِ. فَنَادَى: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَجْتَمِعِي. فَجَعَلَتِ الْعِظَامُ
يَطِيرُ بَعْضُهَا
إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى كَانَتْ أَجْسَادًا مِنْ عِظَامٍ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ; أَنْ نَادِ: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ
تَكْتَسِي لَحْمًا. فَاكْتَسَتْ لَحْمًا، وَدَمًا، وَثِيَابَهَا الَّتِي مَاتَتْ
فِيهَا. ثُمَّ قِيلَ لَهُ: نَادِ. فَنَادَى: أَيَّتُهَا الْأَجْسَادُ، إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكِ أَنْ تَقُومِي. فَقَامُوا. قَالَ أَسْبَاطٌ: فَزَعَمَ مَنْصُورٌ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُمْ قَالُوا حِينَ أُحْيُوْا: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا،
وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ أَحْيَاءً،
يَعْرِفُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا مَوْتَى، سَحْنَةَ الْمَوْتِ عَلَى وُجُوهِهِمْ،
لَا يَلْبَسُونَ ثَوْبًا إِلَّا عَادَ كَفَنًا دَسْمًا، حَتَّى مَاتُوا
لِآجَالِهِمُ الَّتِى كُتِبَتْ لَهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ; أَنَّهُمْ كَانُوا
أَرْبَعَةَ آلَافٍ. وَعَنْهُ: ثَمَانِيَةَ آلَافٍ. وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: تِسْعَةَ
آلَافٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كَانُوا أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَعَنْ
سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ " أَذَرِعَاتٍ ".
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: هَذَا مَثَلٌ. يَعْنِي أَنَّهُ سِيقَ
مَثَلًا مُبَيِّنًا أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ
أَقْوَى; أَنَّ هَذَا وَقَعَ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَاحِبَا " الصَّحِيحِ " مِنْ
طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ
بْنِ نَوْفَلٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى
الشَّامِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ، لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ، أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ
وَقَعَ بِالشَّامِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. يَعْنِي فِي مُشَاوَرَتِهِ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَجَاءَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا بِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَالَ:
إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا; سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا
تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ; فَلَا تَقْدَمُوا
عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَيَزِيدُ الْمَعْنَى قَالَا:
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ
أَخْبَرَ عُمَرُ وَهُوَ فِي الشَّامِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا السَّقَمَ عُذِّبَ بِهِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا
سَمِعْتُمْ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ
وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ: فَرَجَعَ عُمَرُ مِنَ
الشَّامِ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِنَحْوِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا مُدَّةَ لُبْثِ حِزِقْيلَ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ قَبَضَهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قُبِضَ
نَسِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، وَعَظُمَتْ
فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ، وَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: بَعْلٌ. فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ إِلْيَاسَ بْنَ يَاسِيَنَ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ. قُلْتُ: وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّةَ إِلْيَاسَ تَبَعًا لِقِصَّةِ الْخَضِرِ; لِأَنَّهُمَا يُقْرَنَانِ فِي الذِّكْرِ غَالِبًا، وَلِأَجْلِ أَنَّهَا بَعْدَ قِصَّةِ مُوسَى فِي سُورَةِ " الصَّافَّاتِ " فَتَعَجَّلْنَا قِصَّتَهُ لِذَلِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِيمَا ذُكِرَ لَهُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: ثُمَّ تَنَبَّأَ فِيهِمْ بَعْدَ إِلْيَاسَ، وَصِّيُهُ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهَذِهِ:
قِصَّةُ الْيَسَعَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، فِي سُورَةِ "
الْأَنْعَامِ " فِي قَوْلِهِ: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا
وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ
[ الْأَنْعَامِ: 86 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " ص ": وَاذْكُرْ
إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ [ ص: 48 ].
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، أَبُو حُذَيْفَةَ: أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ بَعْدَ إِلْيَاسَ، الْيَسَعُ -
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ; يَدْعُوهُمْ
إِلَى اللَّهِ مُسْتَمْسِكًا بِمِنْهَاجِ إِلْيَاسَ وَشَرِيعَتِهِ، حَتَّى
قَبَضَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، إِلَيْهِ، ثُمَّ خَلَفَ فِيهِمُ الْخُلُوفُ،
وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْخَطَايَا، وَكَثُرَتِ الْجَبَابِرَةُ،
وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، وَكَانَ فِيهِمْ مَلَكٌ جَبَّارٌ عَنِيدٌ طَاغٍ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ الَّذِي تَكَفَّلَ لَهُ ذُو الْكِفْلِ إِنْ هُوَ تَابَ
وَرَاجَعَ، دَخَلَ الْجَنَّةَ; فَسُمِّى ذَا الْكِفْلِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْحَاقَ: هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ، فِي حَرْفِ الْيَاءِ مِنْ
" تَارِيخِهِ ": الْيَسَعُ; وَهُوَ: الْأَسْبَاطُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ
شُوتَلْمَ بْنِ أَفْرَاثِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. وَيُقَالُ: هُوَ ابْنُ عَمِّ إِلْيَاسَ النَّبِيِّ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَيُقَالُ: كَانَ مُسْتَخْفِيًا مَعَهُ بِجَبَلِ قَاسِيُونَ مِنْ مَلِكِ بَعْلَبَكَّ، ثُمَّ ذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا رُفِعَ إِلْيَاسُ خَلَفَهُ الْيَسَعُ فَى قَوْمِهِ، وَنَبَّأَهُ اللَّهُ بَعْدَهُ. ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الْأَسْبَاطُ بِبَانْيَاسَ. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: الْيَسَعُ، بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّشْدِيدِ، وَمَنْ قَرَأَ: " اللَّيْسَعَ "، وَهُوَ اسْمٌ وَاحِدٌ لِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. قُلْتُ: قَدْ قَدَّمْنَا قِصَّةَ ذِي الْكِفْلِ بَعْدَ قِصَّةِ أَيُّوبَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ; لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَيُّوبَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَصْلٌ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ مَرَجَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالْخُطُوبُ وَالْخَطَايَا، وَقَتَلُوا مَنْ
قَتَلُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَدَلَ
الْأَنْبِيَاءِ مُلُوكًا جَبَّارِينَ يَظْلِمُونَهُمْ، وَيَسْفِكُونَ دِمَاءَهُمْ،
وَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْأَعْدَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ أَيْضًا. وَكَانُوا
إِذَا قَاتَلُوا أَحَدًا مِنَ الْأَعْدَاءِ، يَكُونُ مَعَهُمْ تَابُوتُ
الْمِيثَاقِ الَّذِي كَانَ فِي قُبَّةِ الزَّمَانِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ،
فَكَانُوا يُنْصَرُونَ بِبَرَكَتِهِ، وَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ
السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ، مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ، فَلَمَّا
كَانَ فِي بَعْضِ حُرُوبِهِمْ مَعَ أَهْلِ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ، غَلَبُوهُمْ
عَلَيْهِ، وَقَهَرُوهُمْ عَلَى أَخْذِهِ، فَانْتَزَعُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ،
فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ مَلِكُ بَنَى إِسْرَائِيلَ، فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ،
مَالَتْ عُنُقُهُ فَمَاتَ كَمَدًا، وَبَقِيَ بَنُو إِسْرَائِيلَ كَالْغَنَمِ بِلَا
رَاعٍ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُقَالُ لَهُ:
شَمْوِيلُ. فَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُقِيمَ لَهُمْ مَلِكًا لِيُقَاتِلُوا مَعَهُ
الْأَعْدَاءَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ مِمَّا قَصَّ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَكَانَ بَيْنَ وَفَاةِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ إِلَى أَنَّ
بَعْثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
شَمْوِيلَ بْنَ بَالَى، أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً. ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَهَا بِمُدَدِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ مُلِّكُوا عَلَيْهِمْ، وَسَمَّاهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، تَرَكْنَا ذِكْرَهُمْ قَصْدًا.
قِصَّةُ شَمْوِيلَ،
وَفِيهَا بَدَأَ أَمْرُ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
هُوَ شَمْوِيلُ - وَيُقَالُ: أَشْمَوِيلُ - بْنُ بَالَى بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ
يَرْخَامَ بْنِ أَلْيَهْوَ بْنِ تَهْوِ بْنِ صُوفَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ مَاحِثَ
بْنِ عَمُوصَا بْنِ عِزْرِيَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَشْمَوِيلُ بْنُ هَلْفَاقَا. وَلَمْ يَرْفَعْ فِي
نَسَبِهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَكَى السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُنَاسٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ - وَالثَّعْلَبِيِّ - وَغَيْرِهِمْ; أَنَّهُ لَمَّا غَلَبَتِ
الْعَمَالِقَةُ مِنْ أَرْضِ غَزَّةَ وَعَسْقَلَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ،
وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا مِنْ أَبْنَائِهِمْ جَمْعًا
كَثِيرًا، وَانْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ مِنْ سِبْطِ لَاوِي، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ
إِلَّا امْرَأَةٌ حُبْلَى، فَجَعَلَتْ تَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ
يَرْزُقَهَا وَلَدًا ذَكَرًا، فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَسَمَّتْهُ أَشْمَوِيلَ،
وَمَعْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ إِسْمَاعِيلُ; أَيْ سَمْعِ اللَّهُ دُعَائِي،
فَلَمَّا
تَرَعْرَعَ بَعَثَتْهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَسْلَمَتْهُ عِنْدَ رَجُلٍ صَالِحٍ فِيهِ; يَكُونُ عِنْدَهُ لِيَتَعَلَّمَ مِنْ خَيْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ نَائِمٌ، إِذَا صَوْتٌ يَأْتِيهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ، فَانْتَبَهَ مَذْعُورًا فَظَنَّهُ الشَّيْخُ يَدْعُوهُ فَسَأَلَهُ: أَدَعَوْتَنِي؟ فَكَرِهَ أَنْ يُفْزِعَهُ فَقَالَ: نَعَمْ، نَمْ. فَنَامَ. ثُمَّ نَادَاهُ الثَّانِيَةَ، فَكَذَلِكَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فَإِذَا جِبْرِيلُ يَدْعُوهُ، فَجَاءَهُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ قَدْ بَعَثَكَ إِلَى قَوْمِكَ. فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُمْ مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [ الْبَقَرَةِ: 246 - 251 ].
قَالَ أَكْثَرُ
الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ نَبِيُّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ فِي هَذِهِ
الْقِصَّةِ، هُوَ شَمْوِيلَ. وَقِيلَ: شَمْعُونُ. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ.
وَقِيلَ: يُوشَعُ. وَهَذَا بَعِيدٌ; لِمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ
بْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ "، أَنَّ بَيْنَ مَوْتِ يُوشَعَ
وَبَعْثَةِ شَمْوِيلَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمَّا أَنْهَكَتْهُمُ الْحُرُوبُ،
وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ، سَأَلُوا نَبِيَّ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ،
وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُنَصِّبَ لَهُمْ مَلِكًا يَكُونُونَ تَحْتَ طَاعَتِهِ;
لِيُقَاتِلُوا مِنْ وَرَائِهِ وَمَعَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْدَاءَ، فَقَالَ
لَهُمْ: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا
قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ
يَمْنَعُنَا مِنَ الْقِتَالِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا
يَقُولُونَ: نَحْنُ
مَحْرُوبُونَ مَوْتُورُونَ، فَحَقِيقٌ لَنَا أَنْ نُقَاتِلَ عَنْ أَبْنَائِنَا
الْمَنْهُوبِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِيهِمْ، الْمَأْسُورِينَ فِي قَبْضَتِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا
قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ
الْقِصَّةِ، أَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ النَّهْرَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَّا الْقَلِيلُ،
وَالْبَاقُونَ رَجَعُوا وَنَكَلُوا عَنِ الْقِتَالِ: وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ
إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهُوَ
طَالُوتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ أَفِيلَ بْنِ صَارُو بْنِ نَحُورَتَ بْنِ أَفِيحَ بْنِ
أَنِيسَ بْنِ بِنْيَامِينَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ سَقَّاءً. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ كَانَ دَبَّاغًا. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا
قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ
مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ فِي سِبْطِ لَاوِي، وَأَنَّ الْمُلْكَ
كَانَ فِي سِبْطِ يَهُوذَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ،
نَفَرُوا مِنْهُ، وَطَعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا: نَحْنُ
أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ. وَذَكَرُوا أَنَّهُ فَقِيرٌ لَا سِعَةَ مِنَ الْمَالِ
مَعَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا مَلِكًا؟ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ
عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ
قِيلَ: كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْحَى إِلَى شَمْوِيلَ، أَنَّ أَيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ طُولُهُ عَلَى طُولِ هَذِهِ الْعَصَا، وَإِذَا حَضَرَ عِنْدَكَ يَفُورُ هَذَا الْقَرْنُ الَّذِي فِيهِ مِنْ دُهْنِ الْقُدْسِ، فَهُوَ مِلْكُهُمْ. فَجَعَلُوا يَدْخُلُونَ وَيَقِيسُونَ أَنْفُسَهُمْ بِتِلْكَ الْعَصَا، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى طُولِهَا سِوَى طَالُوتَ، وَلَمَّا حَضَرَ عِنْدَ شَمْوِيلَ فَارَ ذَلِكَ الْقَرْنُ فَدَهَنَهُ مِنْهُ وَعَيَّنَهُ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ ; قِيلَ: فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ. وَقِيلَ: بَلْ مُطْلَقًا. " وَالْجِسْمِ " ; قِيلَ: الطُّولُ. وَقِيلَ: الْجَمَالُ. وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ كَانَ أَجْمَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ فَلَهُ الْحُكْمُ، وَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَرَكَةِ وِلَايَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ عَلَيْهِمْ وَيُمْنِهِ عَلَيْهِمْ; أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّابُوتَ الَّذِي كَانَ سُلِبَ مِنْهُمْ، وَقَهْرَهُمُ الْأَعْدَاءُ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانُوا يُنْصَرُونَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ بِسَبَبِهِ. فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ، قِيلَ: طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ يُغْسَلُ فِيهِ صُدُورُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقِيلَ: السِّكِّينَةُ مِثْلُ الرِّيحِ الْخَجُوجِ. وَقِيلَ: صُورَتُهَا مِثْلُ الْهِرَّةِ، إِذَا صَرَخَتْ فِي حَالِ الْحَرْبِ، أَيْقَنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالنَّصْرِ. وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ
قِيلَ: كَانَ فِيهِ رُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَشَيْءٌ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بِالتِّيهِ. تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ أَيْ; تَأْتِيكُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ يَحْمِلُونَهُ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ ذَلِكَ عِيَانًا; لِيَكُونَ آيَةً لِلَّهِ عَلَيْكُمْ وَحُجَّةً بَاهِرَةً عَلَى صِدْقِ مَا أَقُولُهُ لَكُمْ، وَعَلَى صِحَّةِ وِلَايَةِ هَذَا الْمَلِكِ الصَّالِحِ عَلَيْكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا غَلَبَ الْعَمَالِقَةُ عَلَى هَذَا التَّابُوتِ، وَكَانَ فِيهِ مَا ذُكِرَ مِنَ السِّكِّينَةِ وَالْبَقِيَّةِ الْمُبَارَكَةِ - وَقِيلَ: كَانَ فِيهِ التَّوْرَاةُ أَيْضًا - فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي أَيْدِيهِمْ وَضَعُوهُ تَحْتَ صَنَمٍ لَهُمْ بِأَرْضِهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا إِذَا التَّابُوتُ عَلَى رَأْسِ الصَّنَمِ فَوَضَعُوهُ تَحْتَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي إِذَا التَّابُوتُ فَوْقَ الصَّنَمِ، فَلَمَّا تَكَرَّرَ هَذَا عَلِمُوا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِمْ، وَجَعَلُوهُ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ، فَأَخَذَهُمْ دَاءٌ فِي رِقَابِهِمْ، فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمْ هَذَا جَعَلُوهُ فِي عَجَلَةٍ وَرَبَطُوهَا فِي بَقَرَتَيْنِ وَأَرْسَلُوهُمَا، فَيُقَالُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ سَاقَتْهُمَا حَتَّى جَاءُوا بِهِمَا مَلَأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، كَمَا أَخْبَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ جَاءَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَانَتْ تَحْمِلُهُ بِأَنْفُسِهِمْ، كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ. فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هَذَا النَّهْرُ هُوَ نَهْرُ الْأُرْدُنِّ.
وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالشَّرِيعَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ بِجُنُودِهِ
عِنْدَ هَذَا النَّهْرِ، عَنْ أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ لَهُ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ
لَهُ، اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا; أَنَّ مَنْ شَرِبَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ
الْيَوْمَ فَلَا يَصْحَبُنِي فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَلَا يَصْحَبُنِي إِلَّا مَنْ
لَمْ يَطْعَمْهُ، إِلَّا غُرْفَةً فِي يَدِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَشَرِبُوا
مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ الْجَيْشُ ثَمَانِينَ
أَلْفًا، فَشَرِبَ مِنْهُ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَتَبَقَّىمَعَهُ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ. كَذَا قَالَ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "، مِنْ حَدِيثِ
إِسْرَائِيلَ وَزُهَيْرٍ وَالثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ
بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ
طَالُوتَ - الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا
مُؤْمِنٌ - بِضْعَةَ عَشْرَ وَثَلَاثُمِائَةِ مُؤْمِنٍ وَقَوْلُ السُّدِّيِّ أَنَّ
عِدَّةَ الْجَيْشِ كَانُوا ثَمَانِينَ أَلْفًا، فِيهِ نَظَرٌ; لِأَنَّ أَرْضَ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهَا جَيْشُ مُقَاتِلَةٍ
يَبْلُغُونَ ثَمَانِينَ أَلْفًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ أَيِ; اسْتَقَلُّوا أَنْفُسَهُمْ
وَاسْتَضْعَفُوهَا عَنْ مُقَاوَمَةِ أَعْدَائِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ
اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
; يَعْنِي:
ثَبَّتَهُمُ الشُّجْعَانُ مِنْهُمْ وَالْفُرْسَانُ أَهْلُ الْإِيمَانِ
وَالْإِيقَانِ، الصَّابِرُونَ عَلَى الْجِلَادِ وَالْجِدَالِ وَالطِّعَانِ.
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ أَنْ يُفْرِغَ عَلَيْهِمُ الصَّبْرَ; أَيْ يَغْمُرَهُمْ
بِهِ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَتَسْتَقِرَّ قُلُوبُهُمْ وَلَا تَقْلَقَ، وَأَنْ
يُثَبِّتَ أَقْدَامَهُمْ فِي مَجَالِ الْحَرْبِ، وَمُعْتَرَكِ الْأَبْطَالِ،
وَحَوْمَةِ الْوَغَى، وَالدُّعَاءِ إِلَى النِّزَالِ، فَسَأَلُوا التَّثَبُّتَ
الظَّاهِرَ وَالْبَاطِنَ، وَأَنْ يُنْزِلَ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ عَلَى
أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ، مِنَ الْكَافِرِينَ الْجَاحِدِينَ بِآيَاتِهِ
وَآلَائِهِ، فَأَجَابَهُمُ الْعَظِيمُ الْقَدِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ إِلَى مَا سَأَلُوا وَأَنَالَهُمْ مَا إِلَيْهِ فِيهِ
رَغِبُوا وَلِهَذَا قَالَ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ; بِحَوْلِ اللَّهِ
لَا بِحَوْلِهِمْ، وَبِقُوَّةِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ لَا بِقُوَّتِهِمْ
وَعَدَدِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِمْ وَكَمَالِ عَدَدِهِمْ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ
وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى شَجَاعَةِ
دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ قَتَلَهُ قَتْلًا أَذَلَّ بِهِ جُنْدَهُ
وَكَسَّرَ جَيْشَهُ، وَلَا أَعْظَمَ مِنْ غَزْوَةٍ يَقْتُلُ فِيهَا مَلِكٌ
عَدُوَّهُ، فَيَغْنَمُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَيَأْسِرُ
الْأَبْطَالَ
وَالشُّجْعَانَ وَالْأَقْرَانَ، وَتَعْلُو كَلِمَةُ الْإِيمَانِ عَلَى الْأَوْثَانِ، وَيُدَالُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَيَظْهَرُ الدِّينُ الْحَقُّ عَلَى الْبَاطِلِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِيمَا يَرْوِيهِ أَنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَبِيهِ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، كَانَ سَمِعَ طَالُوتُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ يُحَرِّضُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى قَتْلِ جَالُوتَ وَجُنُودِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَنْ قَتَلَ جَالُوتَ زَوَّجْتُهُ بِابْنَتِي، وَأَشْرَكْتُهُ فِي مُلْكِي. وَكَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَرْمِي بِالْقَذَّافَةِ - وَهُوَ الْمِقْلَاعُ - رَمْيًا عَظِيمًا، فَبَيْنَا هُوَ سَائِرٌ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ نَادَاهُ حَجَرٌ، أَنْ خُذْنِي فَإِنَّ بِي تَقْتُلُ جَالُوتَ. فَأَخَذَهُ، ثُمَّ حَجَرٌ آخَرُ كَذَلِكَ، ثُمَّ آخَرُ كَذَلِكَ، فَأَخَذَ الثَّلَاثَةَ فِي مِخْلَاتِهِ، فَلَمَّا تَوَاجَهَ الصَّفَّانِ، بَرَزَ جَالُوتُ وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ دَاوُدُ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ، فَإِنِّي أَكْرَهُ قَتْلَكَ. فَقَالَ: لَكِنِّي أُحِبُّ قَتْلَكَ. وَأَخَذَ تِلْكَ الْأَحْجَارَ الثَّلَاثَةَ مِنْ مِخْلَاتِهِ فَوَضَعَهَا فِي الْقَذَّافَةِ ثُمَّ أَدَارَهَا، فَصَارَتِ الثَّلَاثَةُ حَجَرًا وَاحِدًا، ثُمَّ رَمَى بِهَا جَالُوتَ فَفَلَقَ رَأَسَهُ، وَفَرَّ جَيْشُهُ مُنْهَزِمًا، فَوَفَّى لَهُ طَالُوتُ بِمَا وَعَدَهُ; فَزَوَّجَهُ ابْنَتَهُ وَأَجْرَى حُكْمَهُ فِي مُلْكِهِ، وَعَظُمَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَحَبُّوهُ وَمَالُوا إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ طَالُوتَ، فَذَكَرُوا أَنَّ طَالُوتَ حَسَدَهُ وَأَرَادَ قَتْلَهُ، وَاحْتَالَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ الْعُلَمَاءُ يَنْهَوْنَ طَالُوتَ عَنْ قَتْلِ دَاوُدَ، فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ تَوْبَةٌ وَنَدَمٌ وَإِقْلَاعٌ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُ، وَجَعَلَ يُكْثِرُ مِنَ الْبُكَاءِ،
وَيَخْرُجُ إِلَى
الْجَبَّانَةِ فَيَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ الثَّرَى بِدُمُوعِهِ، فَنُودِيَ ذَاتَ
يَوْمٍ مِنَ الْجَبَّانَةِ: أَنْ يَا طَالُوتُ، قَتَلْتَنَا وَنَحْنُ أَحْيَاءٌ،
وَآذَيْتَنَا وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ. فَازْدَادَ لِذَلِكَ بُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ،
وَاشْتَدَّ وَجَلُهُ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ عَالِمٍ يَسْأَلُهُ عَنْ
أَمْرِهِ، وَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: وَهَلْ أَبْقَيْتَ عَالِمًا؟
حَتَّى دُلَّ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْعَابِدَاتِ، فَأَخَذَتْهُ فَذَهَبَتْ بِهِ
إِلَى قَبْرِ يُوشَعَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالُوا: فَدَعَتِ اللَّهَ فَقَامَ
يُوشَعُ مِنْ قَبْرِهِ، فَقَالَ: أَقَامَتِ الْقِيَامَةُ؟ فَقَالَتْ: لَا
وَلَكِنَّ هَذَا طَالُوتُ يَسْأَلُكَ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ،
يَنْخَلِعُ مِنَ الْمُلْكِ، وَيَذْهَبُ فَيُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى
يُقْتَلَ. ثُمَّ عَادَ مَيِّتًا. فَتَرَكَ الْمُلْكَ لِدَاوُدَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَذَهَبَ وَمَعَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَقَاتَلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قُتِلُوا. قَالُوا: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ هَكَذَا ذَكَرَهُ
ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ
بِإِسْنَادِهِ. وَفِي بَعْضِ هَذَا نَظَرٌ وَنَكَارَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: النَّبِيُّ الَّذِي بُعِثَ فَأَخْبَرَ طَالُوتَ
بِتَوْبَتِهِ، هُوَ الْيَسَعُ بْنُ أَخْطُوبَ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّهَا أَتَتْ بِهِ إِلَى قَبْرِ أَشْمَوِيلَ،
فَعَاتَبَهُ عَلَى مَا صَنَعَ بَعْدَهُ مِنَ الْأُمُورِ. وَهَذَا أَنْسَبُ.
وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا رَآهُ فِي النَّوْمِ، لَا أَنَّهُ قَامَ مِنَ الْقَبْرِ
حَيًّا; فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ، وَتِلْكَ
الْمَرْأَةُ لَمْ
تَكُنْ نَبِيَّةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُدَّةَ مُلْكِ طَالُوتَ إِلَى أَنْ قُتِلَ مَعَ أَوْلَادِهِ، كَانَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ دَاوُدَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا كَانَ فِي أَيَّامِهِ وَذِكْرُ فَضَائِلِهِ
وَشَمَائِلِهِ وَدَلَائِلُ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِهِ
هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا بْنِ عُوَيْدَ بْنِ بَاعَزَ بْنِ سَلَمُونَ بْنِ
نَحْشُوَنَ بْنِ عَوِينَاذَبَ بْنِ إِرَمَ بْنِ حَصَرُونَ بْنِ فَارَصَ بْنِ
يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَبْدُ
اللَّهِ وَنَبِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، كَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَصِيرًا، أَزْرَقَ
الْعَيْنَيْنِ، قَلِيلَ الشَّعْرِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ نَقِيَّهُ. تُقُدِّمَ
أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ جَالُوتَ، وَكَانَ قَتْلُهُ لَهُ - فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ
عَسَاكِرَ - عِنْدَ قَصْرِ أُمِّ حَكِيمٍ بِقُرْبِ مَرْجِ الصُّفَّرِ.
فَأَحَبَّتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَالُوا إِلَيْهِ وَإِلَى مُلْكِهِ
عَلَيْهِمْ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ مَا كَانَ وَصَارَ الْمُلْكُ إِلَى
دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَمَعَ اللَّهُ
لَهُ بَيْنَ الْمُلْكِ
وَالنُّبُوَّةِ، بَيْنَ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَ الْمُلْكُ
يَكُونُ فِي سِبْطٍ، وَالنُّبُوَّةُ فِي سِبْطٍ آخَرَ، فَاجْتَمَعَ فِي دَاوُدَ
هَذَا وَهَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى الْعَالَمِينَ [ الْبَقَرَةِ: 251 ]. أَيْ: لَوْلَا إِقَامَةُ الْمُلُوكِ
حُكَّامًا عَلَى النَّاسِ لَأَكَلَ قَوِيُّ النَّاسِ ضَعِيفَهُمْ. وَلِهَذَا جَاءَ
فِي بَعْضِ الْآثَارِ: السُّلْطَانُ ظِلُّ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَقَالَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ
مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ
": أَنَّ جَالُوتَ لَمَّا بَارَزَ طَالُوتَ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَيَّ
أَوْ أَخْرُجُ إِلَيْكَ فَنَدَبَ طَالُوتُ النَّاسَ، فَانْتَدَبَ دَاوُدُ،
فَقَتَلَ جَالُوتَ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَمَالَ النَّاسُ إِلَى دَاوُدَ،
حَتَّى لَمْ يَكُنْ لِطَالُوتَ ذِكْرٌ وَخَلَعُوا طَالُوتَ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ
دَاوُدَ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ شَمْوِيلَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهُ وَلَّاهُ قَبْلَ الْوَقْعَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ إِنَّمَا وَلِيَ
الْمُلْكَ بَعْدَ قَتْلِ
جَالُوتَ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ: أَنَّ قَتْلَهُ جَالُوتَ كَانَ عِنْدَ قَصْرِ أَمِّ حَكِيمٍ، وَأَنَّ
النَّهْرَ الَّذِي هُنَاكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي
مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ
فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ سَبَأٍ:
10، 11 ].
وَقَالَ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ
بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 79، 80 ]. أَعَانَهُ
اللَّهُ عَلَى عَمَلِ الدُّرُوعِ مِنَ الْحَدِيدِ ; لِيُحَصِّنَ الْمُقَاتِلَةَ
مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى صَنْعَتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، فَقَالَ:
وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أَيْ: لَا تُدِقَّ الْمِسْمَارَ فَيَقْلَقَ، وَلَا
تُغَلِّظْهُ فَيَفْصِمَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ،
وَعِكْرِمَةُ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ،
وَالْأَعْمَشُ: كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلَانَ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ
يَفْتِلُهُ بِيَدِهِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَارٍ وَلَا مِطْرَقَةٍ. قَالَ
قَتَادَةُ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَمِلَ الدُّرُوعَ مِنْ زَرَدٍ،
وَإِنَّمَا كَانَتْ
قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ صَفَائِحَ. قَالَ ابْنُ شَوْذَبٍ: كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ
دِرْعًا يَبِيعُهَا بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ: أَنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ
اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ
الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ ص: 17 - 20 ]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ،
وَمُجَاهِدٌ: الْأَيْدُ: الْقُوَّةُ فِي الطَّاعَةِ. يَعْنِي: ذَا قُوَّةٍ فِي
الْعِبَادَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. قَالَ قَتَادَةُ: أُعْطِيَ قُوَّةً فِي
الْعِبَادَةِ وَفِقْهًا فِي الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ
كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ نِصْفَ الدَّهْرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ
دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ ; كَانَ يَنَامُ
نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا
وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلَا يَفِرُّ إِذَا لَاقَى وَقَوْلُهُ: إِنَّا سَخَّرْنَا
الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ كَمَا قَالَ: يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ أَيْ:
سَبِّحِي مَعَهُ.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ
الْآيَةِ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ
وَالْإِشْرَاقِ أَيْ: عِنْدَ آخَرِ النَّهَارِ وَأَوَّلِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَهَبَهُ مِنَ الصَّوْتِ الْعَظِيمِ مَا لَمْ
يُعْطِهِ أَحَدًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ إِذَا تَرَنَّمَ بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِ،
يَقِفُ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ، يُرَجِّعُ بِتَرْجِيعِهِ وَيُسَبَّحُ
بِتَسْبِيحِهِ، وَكَذَلِكَ الْجِبَالُ تُجِيبُهُ، وَتُسَبِّحُ مَعَهُ، كُلَّمَا
سَبَّحَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ قَالَ: أُعْطِيَ دَاوُدُ
مِنْ حُسْنِ الصَّوْتِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ قَطُّ ; حَتَّى إِنْ كَانَ
الطَّيْرُ وَالْوَحْشُ لَيَعْكُفُ حَوْلَهُ حَتَّى يَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا،
وَحَتَّى إِنَّ الْأَنْهَارَ لَتَقِفُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ كَانَ لَا
يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا حَجَلَ كَهَيْئَةِ الرَّقْصِ، وَكَانَ يَقْرَأُ
الزَّبُورَ بِصَوْتٍ لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ، فَيَعْكُفُ الْجِنُّ
وَالْإِنْسُ وَالطَّيْرُ وَالدَّوَابُّ عَلَى صَوْتِهِ حَتَّى يَهْلَكَ بَعْضُهَا
جُوعًا.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ
أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ الطُّوسِيُّ، سَمِعْتُ
صُبَيْحًا أَبَا تُرَابٍ. " ح "، قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: وَحَدَّثَنِي
أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعَدَوِيُّ،
حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، هُوَ ابْنُ حَاتِمٍ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكٍ قَالَ:
كَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا أَخَذَ
فِي قِرَاءَةِ
الزَّبُورِ، تَفَتَّقَتِ الْعَذَارَى. وَهَذَا غَرِيبٌ. وَقَالَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَأَلْتُ عَطَاءً عَنِ الْقِرَاءَةِ عَلَى
الْغِنَاءِ، فَقَالَ: وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ ؟ سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ
يَقُولُ: كَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَأْخُذُ الْمِعْزَفَةَ فَيَضْرِبُ
بِهَا، فَيَقْرَأُ عَلَيْهَا، فَتَرُدُّ عَلَيْهِ صَوْتَهُ ; يُرِيدُ بِذَلِكَ
أَنْ يَبْكِيَ وَيُبْكِيَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
وَهُوَ يَقْرَأُ، فَقَالَ لَقَدْ أُوتِيَ أَبُو مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ آلِ
دَاوُدَ وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَقَدْ أُعْطِيَ أَبُو
مُوسَى مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ
سَمِعْتُ
الْبَرْبَطَ
وَالْمِزْمَارَ، فَمَا سَمِعْتُ صَوْتًا أَحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ.
وَقَدْ كَانَ مَعَ هَذَا الصَّوْتِ الرَّخِيمِ، سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ لِكِتَابِهِ
الزَّبُورِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقِرَاءَةُ، فَكَانَ
يَأْمُرُ بِدَابَّتِهِ فَتُسْرَجُ فَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تُسْرَجَ دَابَّتُهُ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَلَفْظُهُ خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ
الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ
قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ
ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ - هُوَ
ابْنُ سُلَيْمٍ - عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَسْنَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي تَارِيخِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ
أَبِي بَكْرٍ السَّبْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ بِهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ هَاهُنَا الزَّبُورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَوْحَاهُ إِلَيْهِ. وَذِكْرُ
دَوَابِّهِ
أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا ; فَإِنَّهُ كَانَ مَلِكًا لَهُ أَتْبَاعٌ،
فَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِمِقْدَارِ مَا تُسْرَجُ الدَّوَابُّ، وَهَذَا
أَمْرٌ سَرِيعٌ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّرَنُّمِ وَالتَّغَنِّي بِهِ عَلَى وَجْهِ
التَّخَشُّعِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَالزَّبُورُ كِتَابٌ مَشْهُورٌ،
وَذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَفِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ
وَالْحِكَمِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ
الْخِطَابِ [ ص: 20 ]. أَيْ: أَعْطَيْنَاهُ مُلْكًا عَظِيمًا وَحُكْمًا نَافِذًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا إِلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي بَقَرٍ، ادَّعَى
أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ اغْتَصَبَهَا مِنْهُ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ، فَأَرْجَأَ أَمْرَهُمَا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ،
أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يَقْتُلَ الْمُدَّعِيَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ
لَهُ دَاوُدُ: إِنِ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَأَنَا
قَاتِلُكَ لَا مَحَالَةَ فَمَا خَبَرُكَ فِيمَا ادَّعَيْتَهُ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ:
وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي لَمُحِقٌّ فِيمَا ادَّعَيْتُ عَلَيْهِ،
وَلَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ أَبَاهُ قَبْلَ هَذَا فَقَتَلْتُهُ. فَأَمَرَ بِهِ دَاوُدُ فَقُتِلَ ; فَعَظُمَ أَمْرُ دَاوُدَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ جِدًّا، وَخَضَعُوا لَهُ خُضُوعًا عَظِيمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ، أَيِ النُّبُوَّةَ. وَفَصْلَ الْخِطَابِ قَالَ شُرَيْحٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَغَيْرُهُمْ وَفَصْلَ الْخِطَابِ الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ. يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ: هُوَ إِصَابَةُ الْقَضَاءِ وَفَهْمُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْفَصْلُ فِي الْكَلَامِ وَفِي الْحُكْمِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ قَوْلُ: أَمَّا بَعْدُ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: لَمَّا كَثُرَ الشَّرُّ وَشَهَادَاتُ الزُّورِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أُعْطِيَ دَاوُدُ سِلْسِلَةٌ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، فَكَانَتْ مَمْدُودَةً مِنَ السَّمَاءِ إِلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِذَا تَشَاجَرَ الرَّجُلَانِ فِي حَقٍّ، فَأَيُّهُمَا كَانَ مُحِقًّا نَالَهَا، وَالْآخَرُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا، فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا لُؤْلُؤَةً، فَجَحَدَهَا مِنْهُ، وَاتَّخَذَ عُكَّازًا وَأَوْدَعَهَا فِيهِ، فَلَمَّا حَضَرَا عِنْدَ السِّلْسِلَةِ تَنَاوَلَهَا الْمُدَّعِي، فَلَمَّا قِيلَ لِلْآخَرِ: خُذْهَا بِيَدِكَ. عَمَدَ إِلَى الْعُكَّازِ، فَأَعْطَاهُ الْمُدَّعِي وَفِيهِ تِلْكَ اللُّؤْلُؤَةُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ ثُمَّ تَنَاوَلَ السِّلْسِلَةَ فَنَالَهَا، فَأَشْكَلَ أَمْرُهَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ رُفِعَتْ سَرِيعًا مِنْ بَيْنِهِمْ. ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَدْ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ وَهْبٍ بِهِ بِمَعْنَاهُ.
قَالَ تَعَالَى:
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا
عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا
عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ
نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِيُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ ص: 21 - 25 ].
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، هَاهُنَا
قِصَصًا وَأَخْبَارًا أَكْثَرُهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ
مَكْذُوبٌ لَا مَحَالَةَ، تَرَكْنَا إِيرَادَهَا فِي كِتَابِنَا قَصْدًا ;
اكْتِفَاءً وَاقْتِصَارًا عَلَى مُجَرَّدِ تِلَاوَةِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي سَجْدَةِ " ص " ; هَلْ هِيَ مِنْ
عَزَائِمِ السُّجُودِ، أَوْ إِنَّمَا هِيَ سَجْدَةُ شُكْرٍ لَيْسَتْ مِنْ
عَزَائِمِ السُّجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ، عَنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: سَأَلْتُ
مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ " ص "، فَقَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ:
مِنْ أَيْنَ سَجَدْتَ ؟ فَقَالَ: أَوَمَا تَقْرَأُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ
وَسُلَيْمَانَ [ الْأَنْعَامِ: 84 ] أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ
[ الْأَنْعَامِ: 90
].، فَكَانَ دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، هُوَ ابْنُ
عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ
فِي السُّجُودِ فِي " ص ": لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَقَدْ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ فِيهَا.
وَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ،
وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ الْمِقْسَمِيُّ،
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِي " ص " وَقَالَ سَجَدَهَا دَاوُدُ
تَوْبَةً، وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ،
عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ " ص "، فَلَمَّا بَلَغَ
السَّجْدَةَ، نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ
آخَرُ
قَرَأَهَا،
فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقَالَ: إِنَّمَا
هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ، وَلَكِنْ رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ فَنَزَلَ وَسَجَدَ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو
الصِّدِّيقِ النَّاجِي، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ
رَأَى رُؤْيَا، أَنَّهُ يَكْتُبُ " ص " فَلَمَّا بَلَغَ إِلَى الَّتِي يَسْجُدُ
بِهَا رَأَى الدَّوَاةَ وَالْقَلَمَ وَكُلَّ شَيْءٍ بِحَضْرَتِهِ انْقَلَبَ
سَاجِدًا. قَالَ: فَقَصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمْ يَزَلْ يَسْجُدُ بِهَا بَعْدُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ خُنَيْسٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
يَزِيدَ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ جُرَيْجٍ: حَدَّثَنِي جَدُّكَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ
فِيمَا يَرَى النَّائِمُ كَأَنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَقَرَأْتُ
السَّجْدَةَ فَسَجَدْتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجُودِي فَسَمِعْتُهَا تَقُولُ
وَهِيَ سَاجِدَةٌ: اللَّهُمَّ اكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَكَ أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا
لِي
عِنْدَكَ ذُخْرًا،
وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاقْبَلْهَا مِنِّي كَمَا قَبِلْتَ مِنْ عَبْدِكَ
دَاوُدَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَامَ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ ثُمَّ سَجَدَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ وَهُوَ
سَاجِدٌ كَمَا حَكَى الرَّجُلُ عَنْ كَلَامِ الشَّجَرَةِ. ثُمَّ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَكَثَ
سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا.
وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، لَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ
الرَّقَاشِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الرِّوَايَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا
لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ ص: 25 ]. أَيْ: وَإِنَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لِزُلْفَى، وَهِيَ الْقُرْبَةُ الَّتِي يُقَرِّبُهُ اللَّهُ بِهَا، وَيُدْنِيهِ
مِنْ حَظِيرَةِ قُدُسِهِ بِسَبَبِهَا، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ:
الْمُقْسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا
يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يُقْسِطُونَ فِي أَهْلِيهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمَا
وَلُوا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ
مَجْلِسًا، إِمَامٌ عَادِلٌ، وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ
إِلَى اللَّهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُمْ عَذَابًا، إِمَامٌ جَائِرٌ وَهَكَذَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ الْأَغَرِّ بِهِ، وَقَالَ:
لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
زِيَادٍ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ
مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ
مَآبٍ قَالَ: يُقَامُ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ
سَاقِ الْعَرْشِ، فَيَقُولُ اللَّهُ: يَا دَاوُدُ مَجِّدْنِي الْيَوْمَ بِذَلِكَ
الصَّوْتِ الْحَسَنِ الرَّخِيمِ، الَّذِي كُنْتَ تُمَجِّدُنِي بِهِ فِي
الدُّنْيَا. فَيَقُولُ: وَكَيْفَ وَقَدْ سُلِبْتُهُ ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي أَرُدُّهُ
عَلَيْكَ الْيَوْمَ. قَالَ: فَيَرْفَعُ دَاوُدُ بِصَوْتٍ يَسْتَفْرِغُ نَعِيمَ
أَهْلِ الْجِنَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ هَذَا خِطَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ
دَاوُدَ وَالْمُرَادُ: وُلَاةُ الْأُمُورِ وَحُكَّامُ النَّاسِ، وَأَمْرُهُمْ
بِالْعَدْلِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ لَا مَا سِوَاهُ مِنَ
الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَوَعُّدُ مَنْ سَلَكَ غَيْرَ ذَلِكَ وَحَكَمَ
بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، هُوَ الْمُقْتَدَى
بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فِي
الْعَدْلِ وَكَثْرَةِ
الْعِبَادَةِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ لَا تَمْضِي سَاعَةٌ
مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ وَأَطْرَافِ النَّهَارِ إِلَّا وَأَهْلُ بَيْتِهِ فِي
عِبَادَةٍ لَيْلًا وَنَهَارًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ
شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [ سَبَأٍ: 13 ]. قَالَ أَبُو بَكْرٍ
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَسَّامٍ،
حَدَّثَنَا صَالِحٌ الْمُرِّيُّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَبِي
الْجَلْدِ، قَالَ: قَرَأْتُ فِي مَسْأَلَةِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ
قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ لِي أَنْ أَشْكُرَكَ وَأَنَا لَا أَصِلُ إِلَى شُكْرِكَ
إِلَّا بِنِعْمَتِكَ ؟ قَالَ: فَأَتَاهُ الْوَحْيُ: أَنْ يَا دَاوُدُ، أَلَيْسَ
تَعَلَمُ أَنَّ الَّذِي بِكَ مِنَ النِّعَمِ مِنِّي ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ.
قَالَ: فَإِنِّي أَرْضَى بِذَلِكَ مِنْكَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ،
أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ بَالَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ
الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
لَاحِقٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ دَاوُدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا
يَنْبَغِي لِكَرَمِ وَجْهِهِ وَعِزِّ جَلَالِهِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ:
إِنَّكَ أَتْعَبْتَ الْحَفَظَةَ يَا دَاوُدَ. وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ مِثْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ " الزُّهْدِ ":
أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
رَجُلٍ، عَنْ
وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: إِنَّ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ: حَقٌّ عَلَى
الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَغْفُلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا
رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُفْضِي فِيهَا إِلَى
إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدُقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ،
وَسَاعَةٌ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ
وَيَجْمُلُ; فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ عَلَى هَذِهِ السَّاعَاتِ،
وَإِجْمَامٌ لِلْقُلُوبِ، وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ زَمَانَهُ،
وَيَحْفَظَ لِسَانَهُ، وَيُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ، وَحَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ
لَا يَظْعَنَ إِلَّا فِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: زَادٌ لِمَعَادِهِ، وَمَرَمَّةٌ
لِمَعَاشِهِ، وَلَذَّةٌ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
خَيْثَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ، عَنْ
وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فَذَكَرَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ
الْجَعْدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْهَيْثَمِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَبِي الْأَغَرِّ،
عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فَذَكَرَهُ. وَأَبُو الْأَغَرِّ هَذَا، هُوَ الَّذِي
أَبْهَمَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي رِوَايَتِهِ. قَالَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا بِشْرُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا شَيْخٌ
مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ: سَمِعْتُ
وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَقَدْ رَوَى
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَلِيحَةً، مِنْهَا قَوْلُهُ: كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ
الرَّحِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ. وَرَوَى
بِسَنَدٍ غَرِيبٍ مَرْفُوعًا، قَالَ دَاوُدُ: يَا زَارِعَ السَّيِّئَاتِ، أَنْتَ
تَحْصُدُ شَوْكَهَا وَحَسَكَهَا. وَعَنْ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ
قَالَ: مَثَلُ الْخَطِيبِ الْأَحْمَقِ فِي نَادِي الْقَوْمِ، كَمَثَلِ الْمُغَنِّي
عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ
الْغِنَى، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ الضَّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى. وَقَالَ: انْظُرْ
مَا تَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْكَ فِي نَادِي الْقَوْمِ، فَلَا تَفْعَلْهُ إِذَا
خَلَوْتَ. وَقَالَ: لَا تَعِدَنَّ أَخَاكَ بِمَا لَا تُنْجِزُهُ لَهُ. فَإِنَّ
ذَلِكَ عَدَاوَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ،
حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، قَالَ: قَالَتْ
يَهُودُ لَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنَ
الطَّعَامِ، وَلَا وَاللَّهِ مَا لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا إِلَى النِّسَاءِ. حَسَدُوهُ
لِكَثْرَةِ نِسَائِهِ، وَعَابُوهُ بِذَلِكَ فَقَالُوا: لَوْ كَانَ نَبِيًّا مَا
رَغِبَ فِي النِّسَاءِ. وَكَانَ أَشَدَّهُمْ فِي ذَلِكَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ،
فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَأَخْبَرَهُمْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَسِعَتِهِ عَلَى
نَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَقَالَ: أَمْ يَحْسُدُونَ
النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [ النِّسَاءِ: 54 ]. يَعْنِي
بِالنَّاسِ:
رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [ النِّسَاءِ: 54 ]. يَعْنِي مَا
آتَى اللَّهُ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ، كَانَتْ لَهُ أَلْفُ امْرَأَةٍ:
سَبْعُمِائَةٍ مَهِيرَةٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ سُرِّيَّةٌ. وَكَانَتْ لِدَاوُدَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِائَةُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ امْرَأَةُ أُورْيَا أَمُّ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْفِتْنَةِ، هَذَا
أَكْثَرُ مِمَّا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ ذَكَرَ
الْكَلْبِيُّ نَحْوَ هَذَا، وَأَنَّهُ كَانَ لِدَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
مِائَةُ امْرَأَةٍ وَلِسُلَيْمَانَ أَلْفُ امْرَأَةٍ، مِنْهُنَّ ثَلَاثُمِائَةٍ
سُرِّيَّةٌ.
وَرَوَى الْحَافِظُ فِي " تَارِيخِهِ " فِي تَرْجَمَةِ صَدَقَةَ
الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي يَرْوِيِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِنْ طَرِيقِ الْفَرَجِ
الْحِمْصِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ الْحِمْصِيِّ، عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ
أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الصِّيَامِ فَقَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكَ
بِحَدِيثٍ كَانَ عِنْدِي فِي التَّخْتِ مَخْزُونًا، إِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ
بِصَوْمِ دَاوُدَ فَإِنَّهُ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا وَكَانَ شُجَاعًا لَا
يَفِرُّ إِذَا لَاقَى وَكَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ
دَاوُدَ وَكَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِسَبْعِينَ صَوْتًا يُلَوِّنُ فِيهَا،
وَكَانَتْ لَهُ رَكْعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ يُبْكِي فِيهَا نَفْسَهُ، وَيَبْكِي بِبُكَائِهِ
كُلُّ شَيْءٍ، وَيَطْرَبُ بِصَوْتِهِ الْمَهْمُومُ وَالْمَحْمُومُ. وَإِنْ شِئْتَ
أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ مِنْ
أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمِنْ وَسَطِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
وَمِنْ آخِرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَسْتَفْتِحُ الشَّهْرَ بِصِيَامٍ وَوَسَطَهُ
بِصِيَامٍ وَيَخْتِمُهُ
بِصِيَامٍ. وَإِنْ
شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ ابْنِ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ; فَإِنَّهُ كَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ وَيَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَلْبَسُ
الشَّعْرَ، يَأْكُلُ مَا وَجَدَ وَلَا يَسْأَلُ عَمَّا فَقَدَ، لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ
يَمُوتُ وَلَا بَيْتٌ يَخْرَبُ، وَكَانَ أَيْنَمَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ صَفَنَ
بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَقَامَ يُصَلِّي حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ رَامِيًا لَا
يَفُوتُهُ صَيْدٌ يُرِيدُهُ، وَكَانَ يَمُرُّ بِمَجَالِسِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَيَقْضِي لَهُمْ حَوَائِجَهُمْ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ أُمِّهِ
مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ; فَإِنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمًا وَتُفْطِرُ
يَوْمَيْنِ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْبَأْتُكَ بِصَوْمِ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ
الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُ كَانَ
يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ صَوْمُ
الدَّهْرِ.
وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ. الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ فَرَجِ
بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي هَرِمٍ، عَنْ صَدَقَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا
فِي صَوْمِ دَاوُدَ.
ذِكْرُ كَمِّيَّةِ
حَيَّاتِهِ وَكَيْفِيَّةِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَدْ تَقَدَّمَ فِي ذِكْرِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي خَلْقِ آدَمَ، أَنَّ
اللَّهَ لَمَّا اسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ ظَهْرِهِ، فَرَأَى فِيهِمُ
الْأَنْبِيَاءَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يُزْهِرُ،
فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ
رَبِّ، كَمْ عُمُرُهُ ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا. قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْ فِي
عُمُرِهِ. قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمُرِكَ. وَكَانَ عُمُرُ آدَمَ
أَلْفَ عَامٍ فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ
جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً.
وَنَسِيَ آدَمُ مَا كَانَ وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ دَاوُدَ، فَأَتَمَّهَا اللَّهُ
لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَلِدَاوُدَ مِائَةَ سَنَةٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ
خُزَيْمَةَ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ طُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ فِي قِصَّةِ آدَمَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ عُمُرَ دَاوُدَ كَانَ سَبْعًا
وَسَبْعِينَ سَنَةً. قُلْتُ: هَذَا غَلَطٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِمْ. قَالُوا: وَكَانَ
مُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَهَذَا قَدْ يُقْبَلُ نَقْلُهُ ; لِأَنَّهُ
لَيْسَ عِنْدَنَا مَا يُنَافِيهِ وَلَا مَا يَقْتَضِيهِ.
وَأَمَّا وَفَاتُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مَسْنَدِهِ ": حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَطَّلِبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ دَاوُدُ النَّبِيُّ فِيهِ غَيْرَةٌ شَدِيدَةٌ، وَكَانَ إِذَا خَرَجَ أُغْلِقَتِ الْأَبْوَابُ، فَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَهْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى يَرْجِعَ، قَالَ: فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَغُلِّقَتِ الدَّارُ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ تَطَّلِعُ إِلَى الدَّارِ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَتْ لِمَنْ فِي الْبَيْتِ: مِنْ أَيْنَ دَخَلَ هَذَا الرَّجُلُ وَالدَّارُ مُغْلَقَةٌ ؟ وَاللَّهِ لَتُفْتَضَحُنَّ بِدَاوُدَ. فَجَاءَ دَاوُدُ، فَإِذَا الرَّجُلُ قَائِمٌ وَسَطَ الدَّارِ، فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي لَا أَهَابُ الْمُلُوكَ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنِّي شَيْءٌ، فَقَالَ دَاوُدُ: أَنْتَ وَاللَّهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَمَرْحَبًا بِأَمْرِ اللَّهِ. فَرَمَلَ دَاوُدُ مَكَانَهُ حَيْثُ قُبِضَتْ رُوحُهُ، حَتَّى فُرِغَ مِنْ شَأْنِهِ، وَطَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لِلطَّيْرِ: أَظِلِّي عَلَى دَاوُدَ. فَأَظَلَّتْهُ الطَّيْرُ حَتَّى أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمَا الْأَرْضُ، فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ: اقْبِضِي جَنَاحًا جَنَاحًا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يُرِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ فَعَلَتِ الطَّيْرُ. وَقَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ
قَوِيٌّ ; رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ الْمَضْرَحِيَّةُ ; أَيْ: وَغَلَبَتْ عَلَى التَّظْلِيلِ عَلَيْهِ الْمَضْرَحِيَّةُ، وَهِيَ الصُّقُورُ الطِّوَالُ الْأَجْنِحَةِ، وَاحِدُهَا مَضْرَحِيٌّ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ الصَّقْرُ الطَّوِيلُ الْجَنَاحِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجْأَةً، وَكَانَ يَسْبِتُ، وَكَانَتِ الطَّيْرُ تُظِلُّهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَوْمَ السَّبْتِ فَجْأَةً. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَمَاتَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَجْأَةً. وَقَالَ أَبُو السَّكَنِ الْهَجَرِيُّ: مَاتَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، فَجْأَةً وَدَاوُدُ فَجْأَةً، وَابْنُهُ سُلَيْمَانُ فَجْأَةً، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ. وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ جَاءَهُ وَهُوَ نَازِلٌ مِنْ مِحْرَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: دَعْنِي أَنْزِلُ أَوْ أَصْعَدُ. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ نَفِذَتِ السُّنُونُ وَالشُّهُورُ وَالْآثَارُ وَالْأَرْزَاقُ. قَالَ: فَخَرَّ سَاجِدًا عَلَى مَرْقَاةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَرَاقِي، فَقَبَضَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا وَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْفِلَسْطِينِيِّ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: إِنِ النَّاسَ حَضَرُوا جِنَازَةَ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَجَلَسُوا فِي الشَّمْسِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ. قَالَ: وَكَانَ قَدْ شَيَّعَ جِنَازَتَهُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَاهِبٍ، عَلَيْهِمُ الْبَرَانِسُ، سِوَى غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَمُتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ - بَعْدَ مُوسَى وَهَارُونَ - أَحَدٌ كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ جَزَعًا عَلَيْهِ مِنْهُمْ عَلَى دَاوُدَ. قَالَ:
فَآذَاهُمُ
الْحَرُّ، فَنَادَوْا سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ يَعْجَلَ عَلَيْهِمْ
لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْحَرِّ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطَّيْرَ
فَأَجَابَتْ، فَأَمَرَهَا فَأَظَلَّتِ النَّاسَ. قَالَ: فَتَرَاصَّ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى اسْتَمْسَكَتِ الرِّيحُ، فَكَادَ النَّاسُ
أَنْ يَهْلِكُوا غَمًّا، فَصَاحُوا إِلَى سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ
الْغَمِّ، فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ فَنَادَى الطَّيْرَ أَنْ أَظِلِّي النَّاسَ مِنْ
نَاحِيَةِ الشَّمْسِ، وَتَنَحِّي عَنْ نَاحِيَةِ الرِّيحِ. فَفَعَلَتْ، فَكَانَ
النَّاسُ فِي ظِلٍّ وَتَهُبُّ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا
رَأَوْهُ مِنْ مُلْكِ سُلَيْمَانَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الْوَلِيدُ بْنُ
شُجَاعٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ،
عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ
نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ مَا
فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا وَلَقَدْ مَكَثَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَى سُنَّتِهِ
وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي رَفْعِهِ نَظَرٌ،
وَالْوَضِينُ بْنُ عَطَاءٍ كَانَ ضَعِيفًا فِي الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ إِيشَا
بْنِ عُوَيْدِ بْنِ بَاعِزَ بْنِ سَلْمُونَ بْنِ نَحْشُونَ بْنِ عَمِينَاذِبَ بْنِ
إِرَمَ بْنِ حَصَرُونَ بْنِ فَارِصَ بْنِ يَهُودَا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الرَّبِيعِ، نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ.
جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ دَخَلَ دِمَشْقَ. قَالَ ابْنُ مَاكُولَا:
فَارْصُ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ. وَذَكَرَ نَسَبَهُ قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَهُ
ابْنُ عَسَاكِرَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ [ النَّمْلِ: 16 ]. أَيْ:
وَرِثَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ وِرَاثَةَ الْمَالِ ;
لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ بَنُونَ غَيْرُهُ، فَمَا كَانَ لِيُخَصَّ بِالْمَالِ
دُونَهُمْ. وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصِّحَاحِ " مِنْ غَيْرِ
وَجْهٍ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ
صَدَقَةٌ وَفِي لَفْظٍ: إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ فَأَخْبَرَ
الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا تُورَثُ أَمْوَالُهُمْ عَنْهُمْ
كَمَا يُورَثُ غَيْرُهُمْ، بَلْ تَكُونُ أَمْوَالُهُمْ صَدَقَةً مِنْ بَعْدِهِمْ
عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ، لَا يَخُصُّونَ بِهَا أَقْرِبَاءَهُمْ ;
لِأَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ وَأَحْقَرَ عِنْدَهُمْ مِنْ
ذَلِكَ، كَمَا هِيَ عِنْدَ الَّذِي أَرْسَلَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ وَفَضَّلَهُمْ.
وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ يَعْنِي أَنَّهُ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَعْرِفُ مَا تَتَخَاطَبُ بِهِ الطُّيُورُ
بِلُغَاتِهَا، وَيُعَبِّرُ لِلنَّاسِ عَنْ مَقَاصِدِهَا وَإِرَادَاتِهَا.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ
بْنُ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ قُدَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْوَانِيُّ
- يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ يَعْقُوبَ الْقُمِّيِّ،
حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ، قَالَ: مَرَّ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ بِعُصْفُورٍ
يَدُورُ حَوْلَ عُصْفُورَةٍ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ ؟
قَالُوا: وَمَا يَقُولُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؟ قَالَ يَخْطُبُهَا إِلَى نَفْسِهِ،
وَيَقُولُ: زَوِّجِينِي أُسْكِنْكِ أَيَّ غُرَفِ دِمَشْقَ شِئْتِ. قَالَ
سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِأَنَّ غُرَفَ دِمَشْقَ مَبْنِيَّةٌ
بِالصَّخْرِ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَسْكُنَهَا أَحَدٌ، وَلَكِنْ كَلُّ
خَاطِبٍ كَذَّابٌ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ زَاهِرِ بْنِ طَاهِرٍ، عَنِ الْبَيْهَقِيِّ بِهِ. وَكَذَلِكَ مَا عَدَاهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ صُنُوفِ الْمَخْلُوقَاتِ ; وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا مِنَ الْآيَاتِ: وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ مَا يَحْتَاجُ الْمَلِكُ إِلَيْهِ، مِنَ الْعِدَدِ، وَالْآلَاتِ، وَالْجُنُودِ، وَالْجُيُوشِ، وَالْجَمَاعَاتِ مِنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، وَالطُّيُورِ، وَالْوُحُوشِ، وَالشَّيَاطِينِ السَّارِحَاتِ، وَالْعُلُومِ، وَالْفُهُومِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنْ ضَمَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ النَّاطِقَاتِ وَالصَّامِتَاتِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أَيْ: مِنْ بَارِئِ الْبَرِيَّاتِ وَخَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [ النَّمْلِ: 17 - 19 ]. يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ وَابْنِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ رَكِبَ يَوْمًا فِي جَيْشِهِ جَمِيعِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ، فَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَسِيرُونَ مَعَهُ، وَالطَّيْرُ سَائِرَةٌ مَعَهُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا مِنَ الْحَرِّ وَغَيْرِهِ، وَعَلَى كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْجُيُوشِ الثَّلَاثَةِ وَزَعَةٌ، أَيْ
نُقَبَاءُ
يَرُدُّونَ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ، فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَنْ مَوْضِعِهِ
الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:حَتَّى
إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا
يَشْعُرُونَ فَأَمَرَتْ، وَحَذَّرَتْ، وَاعْتَذَرَتْ عَنْ سُلَيْمَانَ وَجُنُودِهِ
بِعَدَمِ الشُّعُورِ. وَقَدْ ذَكَرَ وَهْبٌ أَنَّهُ مَرَّ وَهُوَ عَلَى الْبِسَاطِ
بِوَادٍ بِالطَّائِفِ، وَأَنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ كَانَ اسْمُهَا " جَرْسَ
" وَكَانَتْ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو الشَّيْصَبَانِ، وَكَانَتْ
عَرْجَاءَ، وَكَانَتْ بِقَدْرِ الذِّئْبِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ نَظَرٌ، بَلْ فِي
هَذَا السِّيَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْكِبِهِ رَاكِبًا فِي
خُيُولِهِ وَفُرْسَانِهِ، لَا كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذْ
ذَاكَ عَلَى الْبِسَاطِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنَلِ النَّمْلَ
مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا وَطْءٌ ; لَأَنَّ الْبِسَاطَ كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا
يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْجُيُوشِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ
وَالْخِيَامِ وَالْأَنْعَامِ، وَالطَّيْرُ مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا
سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهِمَ مَا خَاطَبَتْ
بِهِ تِلْكَ النَّمْلَةُ لِأُمَّتِهَا مِنَ الرَّأْيِ السَّدِيدِ وَالْأَمْرِ
الْحَمِيدِ، وَتَبَسَّمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِبْشَارِ وَالْفَرَحِ
وَالسُّرُورِ بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَمَا
يَقُولُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، مِنْ أَنَّ الدَّوَابَّ كَانَتْ تَنْطِقُ قَبْلَ
سُلَيْمَانَ، وَتُخَاطِبُ النَّاسَ حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُدَ الْعَهْدَ وَأَلْجَمَهَا، فَلَمْ تَتَكَلَّمْ مَعَ النَّاسِ بَعْدَ
ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ إِلَّا الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَوْ
كَانَ هَذَا هَكَذَا لَمْ يَكُنْ لِسُلَيْمَانَ فِي فَهْمِ لُغَاتِهَا مَزِيَّةٌ
عَلَى غَيْرِهِ ; إِذْ قَدْ كَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ يَفْهَمُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ
كَانَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهَا الْعَهْدَ أَنْ لَا تَتَكَلَّمَ مَعَ غَيْرِهِ،
وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُهَا، لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا أَيْضًا
فَائِدَةٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قَالَ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَيْ: أَلْهِمْنِي وَأَرْشِدْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فَطَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يُقَيِّضَهُ لِلشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَا خَصَّهُ بِهِ مِنَ الْمَزِيَّةِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَنْ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ، وَأَنْ يَحْشُرَهُ إِذَا تَوَفَّاهُ مَعَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ. وَالْمُرَادُ بِوَالِدَيْهِ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأُمُّهُ، وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ سُنَيْدُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَتْ أَمُّ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ: يَا بُنَيَّ لَا تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ ; فَإِنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ تَدَعُ الْعَبْدَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ مَشَايِخِهِ، عَنْهُ بِهِ نَحْوَهُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَسْتَسْقُونَ، فَرَأَى نَمْلَةً قَائِمَةً رَافِعَةً إِحْدَى قَوَائِمِهَا تَسْتَسْقِي، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ، إِنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ اسْتَسْقَتْ فَاسْتُجِيبَ لَهَا. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سُلَيْمَانُ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَزِيزٍ عَنْ سَلَامَةَ بْنِ رَوْحِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: خَرَجَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقُونَ اللَّهَ، فَإِذَا هُمْ بِنَمْلَةٍ رَافِعَةٍ بَعْضَ قَوَائِمِهَا إِلَى
السَّمَاءِ فَقَالَ
النَّبِيُّ: ارْجِعُوا فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكُمْ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ النَّمْلَةِ
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَصَابَ النَّاسَ قَحْطٌ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فَأَمَرَ النَّاسَ فَخَرَجُوا، فَإِذَا بِنَمْلَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى
رِجْلَيْهَا، بَاسِطَةٍ يَدَيْهَا وَهِيَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا خَلْقٌ مِنْ
خَلْقِكَ وَلَا غَنَاءَ بِنَا عَنْ فَضْلِكَ. قَالَ: فَصَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
الْمَطَرَ.
قَالَ تَعَالَى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ
أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ
لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ
فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا
عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ
فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ
أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا
الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ
قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو
بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ
الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا
أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ
فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ
أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ
بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ
صَاغِرُونَ [ النَّمْلِ: 20 - 37 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ سُلَيْمَانَ وَالْهُدْهُدِ ; وَذَلِكَ أَنَّ الطُّيُورَ كَانَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا مُقَدَّمُونَ يَقُومُونَ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ، وَيَحْضُرُونَ عِنْدَهُ بِالنَّوْبَةِ، كَمَا هِيَ عَادَةُ الْجُنُودِ مَعَ الْمُلُوكِ، وَكَانَتْ وَظِيفَةُ الْهُدْهُدِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَعْوَزُوا الْمَاءَ فِي الْقِفَارِ فِي حَالِ الْأَسْفَارِ، يَجِيءُ فَيَنْظُرُ لَهُمْ هَلْ بِهَذِهِ الْبِقَاعِ مِنْ مَاءٍ، وَفِيهِ مِنَ الْقُوَّةِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْمَاءِ تَحْتَ تُخُومِ الْأَرْضِ، فَإِذَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ حَفَرُوا عَنْهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ وَأَخْرَجُوهُ، وَاسْتَعْمَلُوهُ لِحَاجَتِهِمْ، فَلَمَّا تَطَلَّبَهُ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَدَهُ وَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَحَلِّ خِدْمَتِهِ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ أَيْ: مَا لَهُ أَمَفْقُودٌ مِنْ هَاهُنَا، أَوْ قَدْ غَابَ عَنْ بَصَرِي فَلَا أَرَاهُ بِحَضْرَتِي ؟ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا تَوَعَّدَهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ أَيْ بِحُجَّةٍ تُنْجِيهِ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أَيْ: فَغَابَ الْهُدْهُدُ غَيْبَةً لَيْسَتْ بِطَوِيلَةٍ ثُمَّ قَدِمَ مِنْهَا فَقَالَ لِسُلَيْمَانَ: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ أَيِ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ أَيْ: بِخَبَرٍ صَادِقٍ.
إِنِّي وَجَدْتُ
امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ
يَذْكُرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُلُوكُ سَبَأٍ فِي بِلَادِ الْيَمَنِ مِنَ
الْمَمْلَكَةِ الْعَظِيمَةِ وَالتَّبَابِعَةِ الْمُتَوَّجِينَ، وَكَانَ الْمُلْكُ
قَدْ آلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْهُمُ ابْنَةُ مَلِكِهِمْ،
لَمْ يُخْلِفْ غَيْرَهَا فَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِمْ.
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَوْمَهَا مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بَعْدَ
أَبِيهَا رَجُلًا، فَعَمَّ بِهِ الْفَسَادُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تَخْطُبُهُ
فَتَزَوَّجَهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ سَقَتْهُ خَمْرًا، ثُمَّ حَزَّتْ
رَأْسَهُ وَنَصَبَتْهُ عَلَى بَابِهَا، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَيْهَا
وَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِمْ. وَهِيَ بَلْقِيسُ بِنْتُ الْبَشْرَخِ، وَهُوَ
الْهَذْهَاذُ. وَقِيلَ: شَرَاحِيلُ بْنُ ذِي جَدَنِ بْنِ الْبَشْرَخِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ
بْنِ قَحْطَانَ. وَكَانَ أَبُوهَا مِنْ أَكَابِرِ الْمُلُوكِ، وَكَانَ تَأَبَّى
أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ
مِنَ الْجِنِّ، اسْمُهَا رَيْحَانَةُ بِنْتُ الشَّكْرِ، فَوَلَدَتْ لَهُ هَذِهِ
الْمَرْأَةَ، وَاسْمُهَا بَلْعَمَةُ وَيُقَالُ لَهَا: بَلْقِيسُ.
وَقَدْ رَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: كَانَ
أَحَدَ أَبَوَيْ بَلْقِيسَ جِنِّيًّا وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِي سَنَدِهِ
ضَعْفٌ.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ: أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ قَبْحُونَةَ،
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ جُرْجَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي اللَّيْثِ،
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: ذُكِرَتْ بَلْقِيسُ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ
وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ هَذَا هُوَ
الْمَكِّيُّ، ضَعِيفٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ، عَنِ
الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَّغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَةَ
كِسْرَى، قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً وَرَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي
بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَيْ:
مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ تُؤْتَاهُ الْمُلُوكُ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ يَعْنِي
سَرِيرَ مَمْلَكَتِهَا، كَانَ مُزَخْرَفًا بِأَنْوَاعِ الْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ
وَالذَّهَبِ وَالْحُلِيِّ الْبَاهِرِ. ثُمَّ ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِاللَّهِ
وَعِبَادَتَهُمُ الشَّمْسَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِضْلَالَ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَصَدَّهُ
إِيَّاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي يُخْرِجُ
الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ أَيْ: يَعْلَمُ السَّرَائِرَ وَالظَّوَاهِرَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ
وَالْمَعْنَوِيَّاتِ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
أَيْ: لَهُ الْعَرْشُ الْعَظِيمُ، الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ مَعَهُ سُلَيْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كِتَابَهُ يَتَضَمَّنُ دَعْوَتَهُ لَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَالْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْخُضُوعِ لِمُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أَيْ: لَا تَسْتَكْبِرُوا عَنْ طَاعَتِي وَامْتِثَالِ أَوَامِرِي. وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أَيْ: وَأَقْدِمُوا عَلَيَّ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ بِلَا مُعَاوَدَةٍ وَلَا مُرَاوَدَةٍ، فَلَمَّا جَاءَهَا الْكِتَابُ مَعَ الطَّيْرِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَ النَّاسُ الْبَطَائِقَ، وَلَكِنْ أَيْنَ الثُّرَيَّا مِنَ الثَّرَى ؟! تِلْكَ الْبِطَاقَةُ كَانَتْ مَعَ طَائِرٍ سَامِعٍ مُطِيعٍ فَاهِمٍ عَالِمٍ بِمَا يَقُولُ وَيُقَالُ لَهُ. فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ الْهُدْهُدَ حَمَلَ الْكِتَابَ وَجَاءَ إِلَى قَصْرِهَا فَأَلْقَاهُ إِلَيْهَا وَهِيَ فِي خَلْوَةٍ لَهَا، ثُمَّ وَقَفَ نَاحِيَةً يَنْتَظِرُ مَا يَكُونُ مِنْ جَوَابِهَا عَنْ كِتَابِهَا، فَجَمَعَتْ أُمَرَاءَهَا وَوُزَرَاءَهَا وَأَكَابِرَ دَوْلَتِهَا وَأُولِي مَشُورَتِهَا قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ثُمَّ قَرَأَتْ عَلَيْهِمْ عُنْوَانَهُ أَوَّلًا: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ ثُمَّ قَرَأَتْهُ: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ثُمَّ شَاوَرَتْهُمْ فِي أَمْرِهَا وَمَا قَدْ حَلَّ بِهَا، وَتَأَدَّبَتْ مَعَهُمْ، وَخَاطَبَتْهُمْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ تَعْنِي: مَا كُنْتُ لِأَبُتَّ أَمْرًا إِلَّا وَأَنْتُمْ حَاضِرُونَ: قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ يَعْنُونَ: لَنَا قُوَّةٌ وَقُدْرَةٌ عَلَى الْجِلَادِ وَالْقِتَالِ وَمُقَاوَمَةِ الْأَبْطَالِ، فَإِنْ أَرَدْتِ مِنَّا ذَلِكَ فَإِنَّا عَلَيْهِ مِنَ الْقَادِرِينَ وَ مَعَ هَذَا
الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ فَبَذَلُوا لَهَا السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَأَخْبَرُوهَا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَفَوَّضُوا إِلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْأَمْرَ ; لِتَرَى فِيهِ مَا هُوَ الْأَرْشَدُ لَهَا وَلَهُمْ، فَكَانَ رَأْيُهَا أَتَمَّ وَأَسَدَّ مِنْ رَأْيِهِمْ، وَعَلِمَتْ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ وَلَا يُخَادَعُ. قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ تَقُولُ بِرَأْيِهَا السَّدِيدِ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَوْ قَدْ غَلَبَ عَلَى هَذِهِ الْمَمْلَكَةِ، لَمْ يَخْلُصِ الْأَمْرُ مِنْ بَيْنِكُمْ إِلَّا إِلَيَّ وَلَمْ تَكُنِ الْحِدَّةُ الشَّدِيدَةُ وَالسَّطْوَةُ الْبَلِيغَةُ إِلَّا عَلَيَّ. وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ أَرَادَتْ أَنْ تُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهَا وَأَهْلِ مَمْلَكَتِهَا بِهَدِيَّةٍ تُرْسِلُهَا، وَتُحَفٍ تَبْعَثُهَا، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - صَرْفًا وَلَا عَدْلًا ; لِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ، وَهُوَ وَجُنُودُهُ عَلَيْهِمْ قَادِرُونَ، وَلِهَذَا فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، هَذَا وَقَدْ كَانَتْ تِلْكَ الْهَدَايَا مُشْتَمِلَةً عَلَى أُمُورٍ عَظِيمَةٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ. ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهَا إِلَيْهِ وَوَافِدِهَا الَّذِي قَدِمَ عَلَيْهِ، وَالنَّاسُ حَاضِرُونَ يَسْمَعُونَ: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ يَقُولُ: ارْجِعْ بِهَدِيَّتِكَ - الَّتِي قَدِمْتَ بِهَا - إِلَى مَنْ قَدْ مَنَّ بِهَا، فَإِنَّ عِنْدِي مِمَّا قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ وَأَسْدَاهُ إِلَيَّ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ وَالرِّجَالِ، مَا هُوَ أَضْعَافُ هَذَا، وَخَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي أَنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ وَتَفْخَرُونَ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ بِسَبَبِهِ. فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا أَيْ: فَلْأَبْعَثَنَّ إِلَيْهِمْ بِجُنُودٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ دِفَاعَهُمْ وَلَا نِزَالَهُمْ وَلَا مُمَانَعَتَهُمْ وَلَا قِتَالَهُمْ، وَلَأُخْرِجَنَّهُمْ مِنْ بَلَدِهِمْ وَحَوْزَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ وَدَوْلَتِهِمْ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ، عَلَيْهِمُ الصَّغَارُ وَالْعَارُ وَالدَّمَارُ. فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ
مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَبَادَرُوا إِلَى إِجَابَتِهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَأَقْبَلُوا صُحْبَةَ الْمَلِكَةِ أَجْمَعِينَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ خَاضِعِينَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ وَوُفُودِهِمْ إِلَيْهِ، قَالَ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ مِنَ الْجَانِّ، مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ: قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ النَّمْلِ: 38 - 44 ]. لَمَّا طَلَبَ سُلَيْمَانُ مِنَ الْجَانِّ أَنْ يُحْضِرُوا لَهُ عَرْشَ بَلْقِيسَ، وَهُوَ سَرِيرُ مَمْلَكَتِهَا الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْهِ وَقْتَ حُكْمِهَا، قَبْلَ قُدُومِهَا عَلَيْهِ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ يَعْنِي: قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ مَجْلِسُ حُكْمِكَ، وَكَانَ - فِيمَا يُقَالُ - مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى قَرِيبِ الزَّوَالِ يَتَصَدَّى لِمُهِمَّاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَمَا لَهُمْ مِنَ الْأَشْغَالِ: وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ أَيْ: وَإِنِّي لَذُو قُوَّةٍ عَلَى إِحْضَارِهِ
إِلَيْكَ، وَأَمَانَةٍ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ لَدَيْكَ. قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ آصِفُ بْنُ بَرَخْيَا، وَهُوَ ابْنُ خَالَةِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ مُؤْمِنِي الْجَانِّ، كَانَ فِيمَا يُقَالُ يَحْفَظُ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ. وَقِيلَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِنْ عُلَمَائِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ سُلَيْمَانُ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَضَعَّفَهُ السُّهَيْلِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ. قَالَ: وَقَدْ قِيلَ فِيهِ قَوْلٌ رَابِعٌ، أَنَّهُ جِبْرِيلُ. أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قِيلَ: مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ رَسُولًا إِلَى أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ طَرْفُكَ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعُودَ إِلَيْكَ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ أَبْعَدُ مَنْ تَرَاهُ مِنَ النَّاسِ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يَكِلَّ طَرْفُكَ إِذَا أَدَمْتَ النَّظَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُطْبِقَ جَفْنَكَ. وَقِيلَ: قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْكَ طَرْفُكَ إِذَا نَظَرْتَ بِهِ إِلَى أَبْعَدِ غَايَةٍ مِنْكَ ثُمَّ أَغْمَضْتَهُ. وَهَذَا أَقْرَبُ مَا قِيلَ. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أَيْ: فَلَمَّا رَأَى عَرْشَ بَلْقِيسَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ بِلَادِ الْيَمَنِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ أَيْ: هَذَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيَّ وَفَضْلِهِ عَلَى عَبِيدِهِ ; لِيَخْتَبِرَهُمْ عَلَى الشُّكْرِ أَوْ خِلَافِهِ. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أَيْ: إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ يُغَيَّرَ حَلْيُ هَذَا الْعَرْشِ وَيُنَكَّرَ لَهَا ; لِيَخْتَبِرَ فَهْمَهَا وَعَقْلَهَا، وَلِهَذَا قَالَ: نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ
وَهَذَا مِنْ
فِطْنَتِهَا وَغَزَارَةِ فَهْمِهَا ; لِأَنَّهَا اسْتَبْعَدَتْ أَنْ يَكُونَ
عَرْشُهَا ; لِأَنَّهَا خَلَّفَتْهُ وَرَاءَهَا بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَلَمْ تَكُنْ
تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الصُّنْعِ الْعَجِيبِ الْغَرِيبِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سُلَيْمَانَ وَقَوْمِهِ: وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ أَيْ: وَمَنَعَهَا
عِبَادَةُ الشَّمْسِ الَّتِي كَانَتْ تَسْجُدُ لَهَا هِيَ وَقَوْمُهَا مِنْ دُونِ
اللَّهِ، اتِّبَاعًا لِدِينِ آبَائِهِمْ وَأَسْلَافِهِمْ لَا لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ
إِلَى ذَلِكَ وَلَا حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ قَدْ أَمَرَ
بِبِنَاءِ صَرْحٍ مِنْ زُجَاجٍ، وَعَمِلَ فِي مَمَرِّهِ مَاءً، وَجَعَلَ عَلَيْهِ
سَقْفًا مِنْ زُجَاجٍ وَجَعَلَ فِيهِ مِنَ السَّمَكِ وَغَيْرِهَا مِنْ دَوَابِّ
الْمَاءِ، وَأُمِرَتْ بِدُخُولِ الصَّرْحِ وَسُلَيْمَانُ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ
فِيهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ
إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ
الْجِنَّ أَرَادُوا أَنْ يُبَشِّعُوا مَنْظَرَهَا عِنْدَ سُلَيْمَانَ، وَأَنْ
تُبْدِيَ عَنْ سَاقَيْهَا لِيَرَى مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّعْرِ فَيُنَفِّرَهُ
ذَلِكَ مِنْهَا، وَخَشُوا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ; لِأَنَّ أُمَّهَا مِنَ الْجَانِّ
فَتَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَعَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ حَافِرَهَا كَانَ
كَحَافِرِ الدَّابَّةِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَفِي الْأَوَّلِ أَيْضًا نَظَرٌ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. إِلَّا أَنَّ سُلَيْمَانَ قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ
إِزَالَتَهُ حِينَ عَزَمَ عَلَى تَزَوُّجِهَا سَأَلَ الْإِنْسَ عَنْ زَوَالِهِ، فَذَكَرُوا
لَهُ الْمُوسَى، فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَ الْجَانَّ فَصَنَعُوا لَهُ
النُّورَةَ، وَوَضَعُوا لَهُ الْحَمَّامَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ
الْحَمَّامَ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّهُ قَالَ: أَوْهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْهِ
أَوْهِ قَبْلَ
أَنْ لَا يَنْفَعَ
أَوْهِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا،
أَقَرَّهَا عَلَى مَمْلَكَةِ الْيَمَنِ وَرَدَّهَا إِلَيْهِ، وَكَانَ يَزُورُهَا
فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً، فَيُقِيمُ عِنْدَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ يَعُودُ
عَلَى الْبِسَاطِ، وَأَمَرَ الْجَانَّ فَبَنَوْا لَهُ ثَلَاثَةَ قُصُورٍ
بِالْيَمَنِ: غُمْدَانَ، وَسَالِحِينَ، وَبَنْيُونَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بَلْ زَوَّجَهَا بِمَلِكِ
هَمْدَانَ، وَأَقَرَّهَا عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَسَخَّرَ زَوْبَعَةَ مَلِكَ
جِنِّ الْيَمَنِ فَبَنَى لَهَا الْقُصُورَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا
بِالْيَمَنِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " ص ": وَوَهَبَنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ
الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا
بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا
لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا
لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ
بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى
وَحُسْنَ مَآبٍ
[ ص: 30 - 40 ]. يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ وَهَبَ لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فَقَالَ: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أَيْ: رَجَّاعٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْخَيْلِ الصَّافِنَاتِ - وَهِيَ الَّتِي تَقِفُ عَلَى ثَلَاثٍ وَطَرَفِ حَافِرِ الرَّابِعَةِ - الْجِيَادِ ; وَهِيَ الْمُضَمَّرَةُ السِّرَاعُ: فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ يَعْنِي الشَّمْسَ. وَقِيلَ: الْخَيْلُ. عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ قِيلَ: مَسَحَ عَرَاقِيبَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسُّيُوفِ. وَقِيلَ: مَسَحَ عَنْهَا الْعَرَقَ لَمَّا أَجْرَاهَا وَسَابَقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ يَدَيْهِ، عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّلَفِ الْأَوَّلُ ; فَقَالُوا اشْتَغَلَ بِعَرْضِ تِلْكَ الْخُيُولِ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الْعَصْرِ وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ. رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ. وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ، أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الصَّلَاةَ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ كَانَ سَائِغًا فِي شَرِيعَتِهِمْ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ أَسْبَابِ الْجِهَادِ، وَعَرْضُ الْخَيْلِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدِ ادَّعَى طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْرُوعًا إِذْ ذَاكَ، حَتَّى نُسِخَ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ. قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ مَكْحُولٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: بَلْ هُوَ حُكْمٌ مُحْكَمٌ إِلَى الْيَوْمِ، أَنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا لِعُذْرِ الْقِتَالِ الشَّدِيدِ. كَمَا ذَكَرْنَا تَقْرِيرَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " عِنْدَ صَلَاةِ الْخَوْفِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ نِسْيَانًا. وَعَلَى هَذَا فَيُحْمَلُ فِعْلُ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى هَذَا.
وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَقَالَ إِنِّي
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
عَائِدٌ عَلَى الْخَيْلِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ وَقْتُ صَلَاةٍ، وَإِنَّ
الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ
يَعْنِي: مَسَحَ الْعَرَقَ عَنْ عَرَاقِيبِهَا وَأَعْنَاقِهَا. فَهَذَا الْقَوْلُ
اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
مَسْحِ الْعَرَقِ. وَوَجَّهَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ ; بِأَنَّهُ مَا كَانَ
لِيُعَذِّبَ الْحَيَوَانَ بِالْعَرْقَبَةِ، وَيُهْلِكَ مَالًا بِلَا سَبَبٍ وَلَا
ذَنْبٍ لَهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
هَذَا سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَى أَنَّهُ
إِذَا خَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَظْفَرَ الْكُفَّارُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ
الْحَيَوَانَاتِ مِنْ أَغْنَامٍ وَنَحْوِهَا ; جَازَ ذَبْحُهَا وَإِهْلَاكُهَا
لِئَلَّا يَتَقَوَّوْا بِهَا، وَعَلَيْهِ حُمِلَ صَنِيعُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ يَوْمَ عَقَرَ فَرَسَهُ بِمَوْتِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا
عَظِيمَةً ; قِيلَ: كَانَتْ عَشَرَةَ آلَافِ فَرَسٍ. وَقِيلَ: عِشْرِينَ أَلْفَ
فَرَسٍ. وَقِيلَ: كَانَ فِيهَا عِشْرُونَ فَرَسًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنْبَأَنَا يَحْيَى بْنُ
أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ غَزِيَّةَ أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ - أَوْ خَيْبَرَ - وَفِي سَهْوَتِهَا
سِتْرٌ، فَهَبَّتِ الرِّيحُ فَكَشَفَتْ نَاحِيَةَ السِّتْرِ عَنْ بَنَاتٍ
لِعَائِشَةَ لُعَبٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ! فَقَالَتْ: بَنَاتِي.
وَرَأَى بَيْنَهُنَّ فَرَسًا لَهُ جَنَاحَانِ مِنْ رِقَاعٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا
الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ ؟ قَالَتْ: فَرَسٌ. قَالَ: وَمَا الَّذِي عَلَيْهِ
هَذَا ؟ قَالَتْ: جَنَاحَانِ. قَالَ: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ ؟ قَالَتْ: أَمَا
سَمِعْتَ أَنَّ لِسُلَيْمَانَ خَيْلًا لَهَا أَجْنِحَةٌ! قَالَتْ: فَضَحِكَ حَتَّى
رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ: لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ لِلَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا
هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا، وَهُوَ الرِّيحُ الَّتِي كَانَ غُدُوُّهَا شَهْرًا
وَرَوَاحُهَا شَهْرًا، كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ وَأَبِي
الدَّهْمَاءِ وَكَانَا يُكْثِرَانِ السَّفَرَ نَحْوَ الْبَيْتِ، قَالَا: أَتَيْنَا
عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ الْبَدَوِيُّ: أَخَذَ بِيَدِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يُعَلِّمُنِي مِمَّا
عَلَّمَهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ: إِنَّكَ لَا تَدَعُ شَيْئًا اتِّقَاءَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى
كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، هَاهُنَا، آثَارًا كَثِيرَةً عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ السَّلَفِ، وَأَكْثَرُهَا أَوْ كُلُّهَا مُتَلَقَّاةٌ مِنَ
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْهَا نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ،
وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ "، وَاقْتَصَرْنَا هَاهُنَا عَلَى مُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ. وَمَضْمُونُ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَابَ عَنْ سَرِيرِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا عَادَ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَنَاهُ بِنَاءً مُحْكَمًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ جَدَّدَهُ وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ جَعَلَهُ مَسْجِدًا إِسْرَائِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ أَبِي ذَرٍّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ: ثُمَّ أَيْ ؟ قَالَ: مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَزِيدَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، دَعْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ سُؤَالُهُ الْمُلْكَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، بَعْدَ إِكْمَالِهِ بِنَاءَ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، خِلَالًا ثَلَاثًا، فَأَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَنَا الثَّالِثَةُ ; سَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مَنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ إِلَّا
الصَّلَاةَ فِي
هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ،
فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَعْطَانَا إِيَّاهَا ".
فَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يُوَافِقُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ أَثْنَى
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ فِي قَوْلِهِ: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا
وَعِلْمًا وَقَدْ ذَكَرَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ،
أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ كَانَ لَهُمْ كَرْمٌ فَنَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ قَوْمٍ
آخَرِينَ أَيْ رَعَتْهُ بِاللَّيْلِ فَأَكَلَتْ شَجَرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ،
فَتَحَاكَمُوا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحَكَمَ لِأَصْحَابِ الْكَرْمِ
بِقِيمَتِهِ، فَلَمَّا خَرَجُوا عَلَى سُلَيْمَانَ قَالَ: بِمَا حَكَمَ لَكُمْ
نَبِيُّ اللَّهِ ؟ فَقَالُوا: بِكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: أَمَا لَوْ كُنْتُ أَنَا
لَمَا حَكَمْتُ إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَنَمِ إِلَى أَصْحَابِ الْكَرْمِ،
فَيَسْتَغِلُّونَهَا نِتَاجًا وَدَرًّا حَتَّى يُصْلِحَ أَصْحَابُ الْغَنَمِ
كَرْمَ أُولَئِكَ وَيَرُدُّوهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَتَسَلَّمُوا
غَنَمَهُمْ. فَبَلَغَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ فَحَكَمَ بِهِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا
ابْنَاهُمَا، إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَأَخَذَ ابْنَ إِحْدَاهُمَا فَتَنَازَعَتَا
فِي الْآخَرِ، فَقَالَتِ الْكُبْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. وَقَالَتِ
الصُّغْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَحَكَمَ
بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: ائْتُونِي
بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ نِصْفَيْنِ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا نِصْفُهُ. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لَهَا وَلَعَلَّ كُلًّا مِنَ الْحُكْمَيْنِ كَانَ سَائِغًا فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَلَكِنْ مَا قَالَهُ سُلَيْمَانُ أَرْجَحُ، وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا أَلْهَمَهُ إِيَّاهُ، وَمَدَحَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَاهُ فَقَالَ: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ثُمَّ قَالَ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً أَيْ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 80 - 82 ]. وَقَالَ فِي سُورَةِ " ص ": فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ لَمَّا تَرَكَ الْخَيْلَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْهَا الرِّيحَ، الَّتِي هِيَ أَسْرَعُ سَيْرًا وَأَقْوَى وَأَعْظَمُ، وَلَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ لَهَا. تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ أَيْ: حَيْثُ أَرَادَ مِنْ أَيِّ الْبِلَادِ. كَانَ لَهُ بِسَاطٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَخْشَابٍ، بِحَيْثُ إِنَّهُ يَسَعُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الدُّورِ الْمَبْنِيَّةِ وَالْقُصُورِ وَالْخِيَامِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْخُيُولِ وَالْجِمَالِ وَالْأَثْقَالِ وَالرِّجَالِ مِنَ الْأِنْسِ وَالْجَانِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ، فَإِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ مُسْتَنْزَهًا، أَوْ قِتَالَ مَلِكٍ أَوْ أَعْدَاءٍ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ شَاءَ، فَإِذَا حَمَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى الْبِسَاطِ، أَمَرَ الرِّيحَ فَدَخَلَتْ تَحْتَهُ فَرَفَعَتْهُ، فَإِذَا اسْتَقَلَّ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَرَ الرُّخَاءَ فَسَارَتْ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَ الْعَاصِفَةَ فَحَمَلَتْهُ أَسْرَعَ مَا يَكُونُ، فَوَضَعَتْهُ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ يَرْتَحِلُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَتَغْدُو بِهِ الرِّيحُ فَتَضَعُهُ بِإِصْطَخْرَ، مَسِيرَةَ شَهْرٍ، فَيُقِيمُ هُنَاكَ إِلَى آخَرِ النَّهَارِ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ آخِرِهِ، فَتَرُدُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [ سَبَأٍ: 12، 13 ]. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ يَغْدُو مِنْ دِمَشْقَ، فَيَنْزِلُ بِإِصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِهَا، وَيَذْهَبُ رَائِحًا مِنْهَا فَيَبِيتُ بِكَابُلَ، وَبَيْنَ دِمَشْقَ وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَبَيْنَ إِصْطَخْرَ وَكَابُلَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ. قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْعِمْرَانِ وَالْبُلْدَانِ، أَنَّ إِصْطَخْرَ بَنَتْهَا الْجَانُّ لِسُلَيْمَانَ وَكَانَ فِيهَا قَرَارُ مَمْلَكَةِ التُّرْكِ قَدِيمًا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى; كَتَدْمُرَ، وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَابِ جَيْرُونَ، وَبَابِ الْبَرِيدِ، اللَّذَيْنِ بِدِمَشْقَ، عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَأَمَّا الْقِطْرُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ النُّحَاسُ. قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ ; أَنَبْعَهَا اللَّهُ لَهُ. قَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَقَطْ، أَخَذَ مِنْهَا جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْبِنَايَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: وَمِنَ
الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ
عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ أَيْ: وَسَخَّرَ اللَّهُ لَهُ
مِنَ الْجِنِّ عُمَّالًا يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ، لَا يَفْتُرُونَ وَلَا
يَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ عَنِ الْأَمْرِ عَذَّبَهُ
وَنَكَّلَ بِهِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَهِيَ
الْأَمَاكِنُ الْحَسَنَةُ وَصُدُورُ الْمَجَالِسِ. وَتَمَاثِيلَ وَهِيَ الصُّوَرُ
فِي الْجُدْرَانِ، وَكَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شَرِيعَتِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ.
وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَفْنَةُ كَالْجَوْبَةِ مِنَ
الْأَرْضِ. وَعَنْهُ: كَالْحِيَاضِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ،
وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ (
الْجَوَابُ ): جَمْعُ جَابِيَةٍ ; وَهِيَ الْحَوْضُ الَّذِي يُجْبَى فِيهِ
الْمَاءُ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
نَفَى الذَّمَّ عَنْ آلِ الْمُحَلَّقِ جَفْنَةٌ كَجَابِيَةِ السَّيْحِ
الْعِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
وَأَمَّا الْقُدُورُ الرَّاسِيَاتُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَثَافِيُّهَا مِنْهَا.
يَعْنِي أَنَّهُنَّ ثَوَابِتُ لَا يَزُلْنَ عَنْ أَمَاكِنِهِنَّ. وَهَكَذَا قَالَ
مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا بِصَدَدِ إِطْعَامِ الطَّعَامِ،
وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ، قَالَ تَعَالَى: اعْمَلُوا
آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ وَقَالَ تَعَالَى:
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفَادِ [ ص: 37، 38 ]. يَعْنِي أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ سَخَّرَهُ فِي
الْبِنَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُهُ بِالْغَوْصِ فِي الْمَاءِ لِاسْتِخْرَاجِ
مَا هُنَالِكَ مِنَ
الْجَوَاهِرِ
وَاللَّلَآلِئِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجَدُ إِلَّا هُنَالِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ أَيْ: قَدْ عَصَوْا
فَقُيِّدُوا مُقَرَّنِينَ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي الْأَصْفَادِ، وَهِيَ
الْقُيُودُ. هَذَا كُلُّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا هَيَّأَ اللَّهُ وَسَخَّرَ لَهُ مِنَ
الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ تَمَامِ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ
مِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ. وَقَدْ قَالَ
الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ
عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ صَلَاتِي
فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى
سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ; حَتَّى تَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ،
فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي " [ ص: 35 ]. فَرَدَدْتُهُ
خَاسِئًا وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ
بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلَّى،
فَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ.
ثَلَاثًا، وَبَسَطَ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ
الصَّلَاةِ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْنَاكَ تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ
شَيْئًا لَمْ نَسْمَعْكَ تَقُولُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَأَيْنَاكَ بَسَطْتَ يَدَكَ.
قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَ بِشِهَابٍ
مِنْ نَارٍ
لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي فَقُلْتُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
- ثُمَّ قُلْتُ: أَلْعَنُكَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ. فَلَمْ يَسْتَأْخِرْ
- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - ثُمَّ أَرَدْتُ أَخْذَهُ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَعْوَةُ
أَخِينَا سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مُوثَقًا يَلْعَبُ بِهِ وِلْدَانُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مَسَرَّةُ بْنُ
مَعْبَدٍ، ثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ صَاحِبُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَطَاءَ
بْنَ يَزِيدَ اللَّيْثِيَّ قَائِمًا يُصَلِّي، فَذَهَبْتُ أَمُرُّ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَرَدَّنِي ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ
الصُّبْحِ وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ،
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ،
فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ
بَيْنَ أُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا
دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي
الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ
مِنْكُمْ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ أَحَدٌ فَلْيَفْعَلْ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْهُ: فَمَنِ اسْتَطَاعَ، إِلَى آخِرِهِ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ سُرَيْجٍ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ بِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، أَنَّهُ كَانَتْ لِسُلَيْمَانَ مِنَ النِّسَاءِ
أَلْفُ امْرَأَةٍ ; سَبْعُمِائَةٍ بِمُهُورٍ، وَثَلَاثُمِائَةٍ سَرَارِيُّ.
وَقِيلَ بِالْعَكْسِ: ثَلَاثُمِائَةٍ حَرَائِرُ وَسَبْعُمِائَةٍ مِنَ الْإِمَاءِ.
وَقَدْ كَانَ يُطِيقُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالنِّسَاءِ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً،
تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ
صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ، فَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا
وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ شُعَيْبٌ
وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: " تِسْعِينَ ". وَهُوَ أَصَحُّ. تَفَرَّدَ
بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَنْبَأَنَا
هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ
تَلِدُ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ
شَاءَ اللَّهُ. فَطَافَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، فَلَمْ
تَلِدْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ، إِلَّا امْرَأَةٌ وَلَدَتْ نِصْفَ إِنْسَانٍ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَ:
إِنْ شَاءَ
اللَّهُ. لَوَلَدَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحِ "
وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، ثَنَا هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ
سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ:
لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمْ يَسْتَثْنِ ; فَمَا
وَلَدَتْ إِلَّا وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِشِقِّ إِنْسَانٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوِ اسْتَثْنَى لَوُلِدَ لَهُ
مِائَةُ غُلَامٍ كُلُّهُمْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ تَفَرَّدَ
بِهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، ثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لَأَطُوفَنَّ
اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا
يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ
اللَّهُ. فَأَطَافَ بِهِنَّ، قَالَ: فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ، إِلَّا
وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا
لِحَاجَتِهِ وَهَكَذَا أَخْرَجَاهُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ مِثْلَهُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا مُقَاتِلٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ،
وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ: أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ امْرَأَةٍ
وَسِتُّمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، فَقَالَ يَوْمًا: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى
أَلْفِ امْرَأَةٍ، فَتَحْمِلُ كُلُّ
وَاحِدَةٍ
مِنْهُنَّ بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَمْ يَسْتَثْنِ، فَطَافَ
عَلَيْهِنَّ فَلَمْ تَحْمِلْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ، إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ
مِنْهُنَّ جَاءَتْ بِشِقِّ إِنْسَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اسْتَثْنَى فَقَالَ: إِنْ شَاءَ
اللَّهُ. لَوُلِدَ لَهُ مَا قَالَ، فُرْسَانٌ، وَلَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ ; لِحَالِ إِسْحَاقَ بْنِ بِشْرٍ،
فَإِنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ خَالَفَ الرِّوَايَاتِ
الصِّحَاحَ. وَقَدْ كَانَ لَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ أُمُورِ الْمُلْكِ،
وَاتِّسَاعِ الدَّوْلَةِ، وَكَثْرَةِ الْجُنُودِ وَتَنَوُّعِهَا، مَا لَمْ يَكُنْ
لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَا يُعْطِيهِ اللَّهُ أَحَدًا بَعْدَهُ، كَمَا قَالَ:
وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَقَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وَقَدْ أَعْطَاهُ
اللَّهُ ذَلِكَ بِنَصِّ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ. وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا
أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ وَأَسْدَاهُ مِنَ النِّعَمِ الْكَامِلَةِ الْعَظِيمَةِ
إِلَيْهِ، قَالَ: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
أَيْ; أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَاحْرِمْ مَنْ شِئْتَ، فَلَا حِسَابَ عَلَيْكَ، أَيْ:
تَصَرَّفْ فِي الْمَالِ كَيْفَ شِئْتَ ; فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ سَوَّغَ لَكَ كُلَّ
مَا تَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُحَاسِبُكَ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا شَأْنُ
النَّبِيِّ الْمَلِكِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الرَّسُولِ ; فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِ
أَنْ لَا يُعْطِيَ أَحَدًا وَلَا يَمْنَعَ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ
فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ خُيِّرَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ،
بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا. وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ اسْتَشَارَ جِبْرِيلَ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَ
إِلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ. فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، صَلَوَاتُ
اللَّهِ
وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْخِلَافَةَ وَالْمُلْكَ مِنْ بَعْدِهِ فِي
أُمَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ
ظَاهِرِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا وَهَبَهُ لِنَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا، نَبَّهَ عَلَى مَا أَعَدَّهُ لَهُ فِي
الْآخِرَةِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَالْأَجْرِ الْجَمِيلِ، وَالْقُرْبَةِ
الَّتِي تُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَالْإِكْرَامِ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْمَعَادِ وَالْحِسَابِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ.
ذِكْرُ وَفَاتِهِ
وَمُدَّةِ مُلْكِهِ وَحَيَاتِهِ
قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا
دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ
فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا
لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [ سَبَأٍ: 14 ]. رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ نَبِيُّ
اللَّهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا صَلَّى رَأَى شَجَرَةً نَابِتَةً بَيْنَ
يَدَيْهِ فَيَقُولُ لَهَا: مَا اسْمُكِ ؟ فَتَقُولُ: كَذَا. فَيَقُولُ: لِأَيِّ
شَيْءٍ أَنْتِ ؟ فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غُرِسَتْ، وَإِنْ كَانَتْ لِدَوَاءٍ
كُتِبَتْ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَأَى شَجَرَةً بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: مَا اسْمُكِ ؟ قَالَتِ: الْخَرُّوبُ. قَالَ: لِأَيِّ
شَيْءٍ أَنْتِ ؟ قَالَتْ: لِخَرَابِ هَذَا الْبَيْتِ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ:
اللَّهُمَّ عَمِّ عَلَى الْجِنِّ مَوْتِي ; حَتَّى تَعْلَمَ الْإِنْسُ أَنَّ
الْجِنَّ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ. فَنَحَتَهَا عَصًا، فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا
حَوْلًا وَالْجِنُّ تَعْمَلُ، فَأَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ فَتَبَيَّنَتِ الْإِنْسُ
أَنَّ الْجِنَّ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا حَوْلًا فِي
الْعَذَابِ الْمُهِينِ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ.
قَالَ: فَشَكَرَتِ الْجِنُّ لِلْأَرَضَةِ، فَكَانَتْ تَأْتِيهَا بِالْمَاءِ.
لَفَظُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، فِي حَدِيثِهِ نَكَارَةٌ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ أُنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَجَرَّدُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ، وَالشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ، وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرَ، يُدْخِلُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ. فَأَدْخَلَهُ فِي الْمَرَّةِ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا، فَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمٌ يُصْبِحُ فِيهِ إِلَّا نَبَتَتْ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَجَرَةٌ، فَيَأْتِيهَا، فَيَسْأَلُهَا: مَا اسْمُكِ ؟ فَتَقُولُ الشَّجَرَةُ: اسْمِي كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ كَانَتْ لِغَرْسٍ غَرَسَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَبَتَتْ دَوَاءً قَالَتْ: نَبَتُّ دَوَاءً لِكَذَا وَكَذَا. فَيَجْعَلُهَا كَذَلِكَ، حَتَّى نَبَتَتْ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْخَرُّوبَةُ. فَسَأَلَهَا: مَا اسْمُكِ ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْخَرُّوبَةُ. فَقَالَ: وَلِأَيِّ شَيْءٍ نَبَتِّ ؟ فَقَالَتْ: نَبَتُّ لِخَرَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُخْرِبَهُ وَأَنَا حَيٌّ، أَنْتِ الَّتِي عَلَى وَجْهِكِ هَلَاكِي وَخَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَنَزَعَهَا وَغَرَسَهَا فِي حَائِطٍ لَهُ، ثُمَّ دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَقَامَ يُصَلِّي مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ، فَمَاتَ وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَعْمَلُونَ لَهُ، يَخَافُونَ أَنْ يَخْرُجَ فَيُعَاقِبَهُمْ، وَكَانَتِ الشَّيَاطِينُ تَجْتَمِعُ حَوْلَ الْمِحْرَابِ، وَكَانَ الْمِحْرَابُ لَهُ كُوًى بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ، فَكَانَ الشَّيْطَانُ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ يَقُولُ: أَلَسْتُ جَلِيدًا إِنْ دَخَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ ؟ فَيَدْخُلُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَدَخَلَ شَيْطَانٌ مِنْ أُولَئِكَ، فَمَرَّ - وَلَمْ يَكُنْ
شَيْطَانٌ يَنْظُرُ
إِلَى سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي الْمِحْرَابِ إِلَّا
احْتَرَقَ - وَلَمْ يَسْمَعْ صَوْتَ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمْ يَسْمَعْ،
ثُمَّ رَجَعَ فَوَقَعَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يَحْتَرِقْ، وَنَظَرَ إِلَى
سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ سَقَطَ مَيِّتًا، فَخَرَجَ فَأَخْبَرَ
النَّاسَ أَنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ مَاتَ، فَفَتَحُوا عَنْهُ، فَأَخْرَجُوهُ
وَوَجَدُوا مِنْسَأَتَهُ - وَهِيَ الْعَصَا بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ - قَدْ
أَكَلَتْهَا الْأَرَضَةُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مُنْذُ كَمْ مَاتَ، فَوَضَعُوا
الْأَرَضَةَ عَلَى الْعَصَا، فَأَكَلَتْ مِنْهَا يَوْمًا وَلَيْلَةً. ثُمَّ
حَسَبُوا عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ مُنْذُ سَنَةٍ، وَهِيَ
قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: ( فَمَكَثُوا يَدْأَبُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ
حَوْلًا كَامِلًا ). فَأَيْقَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا
يَكْذِبُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْغَيْبَ لَعَلِمُوا بِمَوْتِ
سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلْبَثُوا فِي الْعَذَابِ سَنَةً يَعْمَلُونَ لَهُ، وَذَلِكَ
قَوْلُ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ: مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ
الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ يَقُولُ:
تَبَيَّنَ أَمْرُهُمْ لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْذِبُونَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ
الشَّيَاطِينَ قَالُوا لِلْأَرَضَةِ: لَوْ كُنْتِ تَأْكُلِينَ الطَّعَامَ
لَأَتَيْنَاكِ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ، وَلَوْ كُنْتِ تَشْرَبِينَ الشَّرَابَ
سَقَيْنَاكِ أَطْيَبَ الشَّرَابِ، وَلَكِنَّا سَنَنْقُلُ إِلَيْكِ الْمَاءَ
وَالطِّينَ. قَالَ: فَهُمْ يَنْقُلُونَ إِلَيْهَا ذَلِكَ حَيْثُ كَانَتْ، قَالَ:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الطِّينِ الَّذِي يَكُونُ فِي جَوْفِ الْخَشَبِ، فَهُوَ مَا
تَأْتِيهَا بِهِ الشَّيَاطِينُ شُكْرًا لَهَا. وَهَذَا فِيهِ مِنَ
الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ ": حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ
عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، لِمَلَكِ الْمَوْتِ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقْبِضَ رُوحِي
فَأَعْلِمْنِي. قَالَ: مَا أَنَا بِأَعْلَمَ بِذَاكَ مِنْكَ ; إِنَّمَا هِيَ
كُتُبٌ تُلْقَى إِلَيَّ، فِيهَا تَسْمِيَةُ مَنْ يَمُوتُ.
وَقَالَ أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ لِمَلَكِ
الْمَوْتِ: إِذَا أُمِرْتَ بِي فَأَعْلِمْنِي. فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا سُلَيْمَانُ
قَدْ أُمِرْتُ بِكَ قَدْ بَقِيَتْ لَكَ سُوَيْعَةٌ. فَدَعَا الشَّيَاطِينَ
فَبَنَوْا عَلَيْهِ صَرْحًا مِنْ قَوَارِيرَ لَيْسَ لَهُ بَابٌ، فَقَامَ يُصَلِّي
فَاتَّكَأَ عَلَى عَصَاهُ. قَالَ: فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَبَضَ
رُوحَهُ وَهُوَ مُتَوَكِّئٌ عَلَى عَصَاهُ. وَلَمْ يَصْنَعْ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ
مَلَكِ الْمَوْتِ. قَالَ: وَالْجِنُّ تَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَنْظُرُونَ
إِلَيْهِ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَيٌّ. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةَ
الْأَرْضِ، يَعْنِي إِلَى مِنْسَأَتِهِ، فَأَكْلَتْهَا حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ
جَوْفَ الْعَصَا ضَعُفَتْ وَثَقُلَ عَلَيْهَا، فَخَرَّ فَلَمَّا رَأَتِ الْجِنُّ
ذَلِكَ، انْفَضُّوا وَذَهَبُوا. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَا دَلَّهُمْ عَلَى
مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ
الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ
الْمُهِينِ قَالَ أَصْبَغُ: وَبَلَغَنِي عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهَا مَكَثَتْ سَنَةً
تَأْكُلُ فِي مِنْسَأَتِهِ حَتَّى خَرَّ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
وَغَيْرِهِ: أَنَّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاشَ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ مُلْكُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ إِسْحَاقُ:
أَنْبَأَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
مُلْكَهُ كَانَ عِشْرِينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَكَانَ جَمِيعُ عُمْرِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، نَيِّفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَفِي سَنَةِ أَرْبَعٍ مِنْ مُلْكِهِ ابْتَدَأَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيمَا ذُكِرَ. ثُمَّ مَلَكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ رُحُبْعُمُ مُدَّةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ قَالَ: ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بَعْدَهُ مَمْلَكَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
بَابُ ذِكْرِ
جَمَاعَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
وَقَبْلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ
فَمِنْهُمْ شِعْيَا بْنُ أَمْصِيَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ
قَبْلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى، وَهُوَ مِمَّنْ بَشَّرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَكَانَ فِي زَمَانِهِ مَلِكٌ اسْمُهُ صَدِيقَةُ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ بِبِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ سَامِعًا مُطِيعًا
لِشِعْيَا فِيمَا يَأْمُرُهُ بِهِ وَيَنْهَاهُ عَنْهُ مِنَ الْمَصَالِحِ،
وَكَانَتِ الْأَحْدَاثُ قَدْ عَظُمَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَرِضَ الْمَلِكُ
وَخَرَجَتْ فِي رِجْلِهِ قُرْحَةٌ وَقَصَدَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَلِكُ بَابِلَ فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهُوَ سَنْحَارِيبُ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي سِتِّمِائَةِ
أَلْفِ رَايَةٍ. وَفَزِعَ النَّاسُ فَزَعًا عَظِيمًا شَدِيدًا، وَقَالَ الْمَلِكُ
لِلنَّبِيِّ شِعْيَا: مَاذَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ فِي أَمْرِ سَنْحَارِيبَ
وَجُنُودِهِ ؟ فَقَالَ: لَمْ يُوحِ إِلَيَّ فِيهِمْ شَيْئًا بَعْدُ. ثُمَّ نَزَلَ
عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِالْأَمْرِ لِلْمَلِكِ صَدِيقَةَ بِأَنْ يُوصِيَ
وَيَسْتَخْلِفَ عَلَى مُلْكِهِ مَنْ يَشَاءُ ; فَإِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُ،
فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ أَقْبَلَ الْمَلِكُ عَلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى
وَسَبَّحَ
وَدَعَا وَبَكَى،
فَقَالَ وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، بِقَلْبٍ
مُخْلِصٍ وَتَوَكُّلٍ وَصَبْرٍ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ وَإِلَهَ
الْآلِهَةِ، يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ، يَا مَنْ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا
نَوْمٌ، اذْكُرْنِي بِعِلْمِي، وَفِعْلِي، وَحُسْنِ قَضَائِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، سِرِّي
وَإِعْلَانِي لَكَ. قَالَ: فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ، وَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنْ يُبَشِّرَهُ بِأَنَّهُ قَدْ رَحِمَ بُكَاءَهُ، وَقَدْ
أَخَّرَ فِي أَجَلِهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَنْجَاهُ مِنْ عَدُوِّهِ
سَنْحَارِيبَ. فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ مِنْهُ الْوَجَعُ وَانْقَطَعَ
عَنْهُ الشَّرُّ وَالْحُزْنُ، وَخَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ فِي سُجُودِهِ: اللَّهُمَّ
أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزِعُهُ مِمَّنْ تَشَاءُ،
وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ، عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ،
وَأَنْتَ تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ.
فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَا أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مَاءَ التِّينِ فَيَجْعَلَهُ عَلَى قُرْحَتِهِ، فَيَشْفَى وَيُصْبِحَ
قَدْ بَرِئَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَشُفِيَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى جَيْشِ
سَنْحَارِيبَ الْمَوْتَ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ سِوَى
سَنْحَارِيبَ وَخَمْسَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ بُخْتُ نَصَّرَ فَأَرْسَلَ
مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَاءَ بِهِمْ، فَجَعَلَهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَطَافَ
بِهِمْ فِي الْبِلَادِ عَلَى وَجْهِ التَّنْكِيلِ بِهِمْ وَالْإِهَانَةِ لَهُمْ
سَبْعِينَ يَوْمًا، وَيُطْعِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفَيْنِ
مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى
شِعْيَا أَنْ يَأْمُرَ الْمَلِكَ بِإِرْسَالِهِمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، لِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ مَا قَدْ حَلَّ بِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا جَمَعَ سَنْحَارِيبُ
قَوْمَهُ
وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ لَهُ السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ: إِنَّا أَخْبَرْنَاكَ عَنْ شَأْنِ رَبِّهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ فَلَمْ تُطِعْنَا، وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مِنْ رَبِّهِمْ. فَكَانَ أَمْرُ سَنْحَارِيبَ مِمَّا خَوَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ مَاتَ سَنْحَارِيبُ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ لَمَّا مَاتَ صَدِيقَةُ مَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَرَجَ أَمَرُهُمْ وَاخْتَلَطَتْ أَحْدَاثُهُمْ، وَكَثُرَ شَرُّهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى شِعْيَا، فَقَامَ فِيهِمْ فَوَعَظَهُمْ وَذَكَّرَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنِ اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَأَنْذَرَهُمْ بَأْسَهُ وَعِقَابَهُ إِنْ خَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَقَالَتِهِ عَدَوْا عَلَيْهِ وَطَلَبُوهُ لِيَقْتُلُوهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَمَرَّ بِشَجَرَةٍ فَانْفَلَقَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا، وَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ بِهُدْبَةِ ثَوْبِهِ فَأَبْرَزَهَا، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ جَاءُوا بِالْمِنْشَارِ فَوَضَعُوهُ عَلَى الشَّجَرَةِ، فَنَشَرُوهَا وَنَشَرُوهُ مَعَهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِنْهُمْ
أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْخَضِرُ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهُوَ غَرِيبٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: جَاءَ فِي بَعْضِ
الْآثَارِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهُوَ يَفُورُ
بِدِمَشْقَ فَقَالَ: أَيُّهَا الدَّمُ، فَتَنْتَ النَّاسَ فَاسْكُنْ. فَسَكَنَ
وَرَسَبَ حَتَّى غَابَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي
عَلِيُّ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَبَّابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قَالَ: قَالَ أَرْمِيَا: أَيْ رَبِّ أَيُّ عِبَادِكَ
أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ: أَكْثَرُهُمْ لِي ذِكْرًا، الَّذِينَ يَشْتَغِلُونَ
بِذِكْرِي عَنْ ذِكْرِ الْخَلَائِقِ، الَّذِينَ لَا تَعْرِضُ لَهُمْ وَسَاوِسُ
الْغَنَاءِ، وَلَا يُحَدِّثُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْبَقَاءِ، الَّذِينَ إِذَا
عَرَضَ لَهُمْ عَيْشُ الدُّنْيَا قَلَوْهُ، وَاذَا زُوِيَ عَنْهُمْ سُرُّوا
بِذَلِكَ. أُولَئِكَ أَنْحَلُهُمْ مَحَبَّتِي وَأُعْطِيهِمْ فَوْقَ غَايَاتِهِمْ.
ذِكْرُ خَرَابِ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا
مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا
كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ
وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ
حَصِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 2 - 8 ]. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَوْحَى
اللَّهُ إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ:
أَرْمِيَا حِينَ ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْمَعَاصِي، أَنْ قُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ
قَوْمِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا وَلَا يَفْقَهُونَ، وَأَعْيُنًا
وَلَا يُبْصِرُونَ، وَآذَانًا وَلَا يَسْمَعُونَ، وَإِنِّي تَذَكَّرْتُ صَلَاحَ
آبَائِهِمْ، فَعَطَفَنِي ذَلِكَ عَلَى أَبْنَائِهِمْ، فَسَلْهُمْ: كَيْفَ وَجَدُوا
غِبَّ طَاعَتِي ؟ وَهَلْ سَعِدَ أَحَدٌ مِمَّنْ عَصَانِي بِمَعْصِيَتِي ؟ وَهَلْ
شَقِيَ أَحَدٌ مِمَّنْ أَطَاعَنِي بِطَاعَتِي ؟ إِنِ الدَّوَابَّ تَذْكُرُ
أَوْطَانَهَا فَتَنْزِعُ إِلَيْهَا، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ تَرَكُوا
الْأَمْرَ الَّذِي أَكْرَمْتُ عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، وَالْتَمَسُوا الْكَرَامَةَ
مِنْ غَيْرِ
وَجْهِهَا، أَمَّا أَحْبَارُهُمْ فَأَنْكَرُوا حَقِّي، وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ فَعَبَدُوا غَيْرِي، وَأَمَّا نُسَّاكُهُمْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا عَلِمُوا، وَأَمَّا وُلَاتُهُمْ فَكَذَبُوا عَلَيَّ وَعَلَى رُسُلِي، خَزَنُوا الْمَكْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَعَوَّدُوا الْكَذِبَ أَلْسِنَتَهُمْ. وَإِنِّي أُقْسِمُ بِجَلَالِي وَعِزَّتِي، لَأُهَيِّجَنَّ عَلَيْهِمْ جُيُولًا لَا يَفْقَهُونَ أَلْسِنَتَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ وُجُوهَهُمْ، وَلَا يَرْحَمُونَ بُكَاءَهُمْ، وَلَأَبْعَثَنَّ فِيهِمْ مَلِكًا جَبَّارًا قَاسِيًا، لَهُ عَسَاكِرُ كَقِطَعِ السَّحَابِ، وَمَوَاكِبُ كَأَمْثَالِ الْفِجَاجِ، كَأَنَّ خَفَقَانَ رَايَاتِهِ طَيَرَانُ النُّسُورِ، وَكَأَنَّ حَمْلَ فُرْسَانِهِ كَرُّ الْعِقْبَانِ، يُعِيدُونَ الْعُمْرَانَ خَرَابًا، وَيَتْرُكُونَ الْقُرَى وَحْشَةً، فَيَا وَيْلَ إِيلِيَاءَ وَسُكَّانِهَا، كَيْفَ أُذَلِّلُهُمْ لِلْقَتْلِ وَأُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ السِّبَاءَ، وَأُعِيدُ بَعْدَ لَجَبِ الْأَعْرَاسِ صُرَاخًا، وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيْلِ عُوَاءَ الذِّئَابِ، وَبَعْدَ شُرَافَاتِ الْقُصُورِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ، وَبَعْدَ ضَوْءِ السُّرُجِ وَهَجَ الْعَجَاجِ، وَبِالْعِزِّ الذُّلَّ، وَبِالنِّعْمَةِ الْعُبُودِيَّةَ، وَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهُمْ بَعْدَ الطِّيبِ التُّرَابَ، وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ الْخَبَبَ. وَلَأَجْعَلَنَّ أَجْسَادَهُمْ زِبْلًا لِلْأَرْضِ، وَعِظَامَهُمْ ضَاحِيَةً لِلشَّمْسِ، وَلَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَلْوَانِ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَآمُرَنَّ السَّمَاءَ فَلَتَكُونَنَّ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ، وَالْأَرْضَ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ، فَإِنْ أَمْطَرَتْ لَمْ تَنْبُتِ الْأَرْضُ، وَإِنْ أَنْبَتَتْ شَيْئًا فِي خِلَالِ ذَلِكَ فَبِرَحْمَتِي لِلْبَهَائِمِ، ثُمَّ أَحْبِسُهُ فِي زَمَانِ الزَّرْعِ، وَأُرْسِلُهُ فِي زَمَانِ الْحَصَادِ، فَإِنْ زَرَعُوا فِي خِلَالِ ذَلِكَ شَيْئًا سَلَّطْتُ عَلَيْهِ الْآفَةَ
فَإِنْ خَلُصَ
مِنْهُ شَيْءٌ نَزَعْتُ مِنْهُ الْبَرَكَةَ، فَإِنْ دَعَوْنِي لَمْ أُجِبْهُمْ،
وَإِنْ سَأَلُوا لَمْ أُعْطِهِمْ، وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ، وَإِنْ
تَضَرَّعُوا صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِهَذَا
اللَّفْظِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا إِدْرِيسُ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ أَرْمِيَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ حِينَ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِيهِمْ ; فَعَمِلُوا
بِالْمَعَاصِي وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ، طَمِعَ بُخْتُ نَصَّرَ فِيهِمْ،
وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، وَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ ;
لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْتَقِمَ بِهِ مِنْهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى
أَرْمِيَا أَنِّي مُهْلِكٌ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ، فَقُمْ
عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَأْتِيكَ أَمْرِي وَوَحْيِي. فَقَامَ
أَرْمِيَا، فَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَجَعَلَ الرَّمَادَ عَلَى رَأْسِهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا
وَقَالَ: يَا رَبِّ، وَدِدْتُ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي حِينَ جَعَلْتَنِي آخِرَ
أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَيَكُونُ خَرَابُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبَوَارُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَجْلِي. فَقِيلَ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ. فَرَفَعَ
رَأْسَهُ فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ مَنْ تُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ:
عَبَدَةُ النِّيرَانِ، لَا يَخَافُونَ عِقَابِي وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابِي، قُمْ
يَا أَرْمِيَا، فَاسْتَمِعْ وَحْيِي أُخْبِرْكَ خَبَرَكَ وَخَبَرَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ قَبْلِ أَنْ أَخْلُقَكَ اخْتَرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ
أُصَوِّرَكَ فِي رَحِمِ أُمِّكَ قَدَّسْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْرِجَكَ مِنْ
بَطْنِ أُمِّكَ طَهَّرْتُكَ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ نَبَّأْتُكَ، وَمِنْ
قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الْأَشُدَّ اخْتَرْتُكَ، وَلِأَمْرٍ عَظِيمٍ اجْتَبَيْتُكَ،
فَقُمْ مَعَ الْمَلِكِ تُسَدِّدُهُ وَتُرْشِدُهُ. فَكَانَ مَعَ الْمَلِكِ
يُرْشِدُهُ وَيَأْتِيهِ
الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ، حَتَّى عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ، وَنَسَوْا مَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَدَوِّهِمْ سَنْحَارِيبَ وَجُنُودِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا قُمْ، فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ، وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي عَلَيْهِمْ وَعَرِّفْهُمْ أَحْدَاثَهُمْ. فَقَالَ أَرْمِيَا: يَا رَبِّ، إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي، عَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي، مُخْطِئٌ إِنْ لَمْ تُسَدِّدْنِي، مَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي، ذَلِيلٌ إِنْ لَمْ تُعِزَّنِي، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: أَوَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرُ عَنْ مَشِيئَتِي، وَأَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ كُلَّهُ لِي، وَأَنَّ الْقُلُوبَ وَالْأَلْسِنَةَ كُلَّهَا بِيَدِي، فَأُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ فَتُطِيعُنِي، فَأَنَا اللَّهُ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلِي، قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ بِكَلِمَتِي، وَأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ التَّوْحِيدُ وَلَمْ تَتِمَّ الْقُدْرَةُ إِلَّا لِي، وَلَا يَعْلَمُ مَا عِنْدِي غَيْرِي، وَأَنَا الَّذِي كَلَّمْتُ الْبِحَارَ فَفَهِمَتْ قَوْلِي، وَأَمَرْتُهَا فَفَعَلَتْ أَمْرِي، وَحَدَّدْتُ عَلَيْهَا حُدُودًا فَلَا تَعْدُو حَدِّي، وَتَأْتِي بِأَمْوَاجٍ كَالْجِبَالِ، فَإِذَا بَلَغَتْ حَدِّي أَلْبَسْتُهَا مَذَلَّةً لِطَاعَتِي، وَخَوْفًا وَاعْتِرَافًا لِأَمْرِي، وَإِنِّي مَعَكَ، وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مَعِي، وَإِنِّي بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ عَظِيمٍ مِنْ خَلْقِي ; لِتُبَلِّغَهُمْ رِسَالَاتِي فَتَسْتَوْجِبَ لِذَلِكَ أَجْرَ مَنِ اتَّبَعَكَ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَإِنْ تُقَصِّرْ عَنْهَا تَسْتَحِقَّ بِذَلِكَ وِزْرَ مَنْ تَرَكْتَهُ فِي عِمَايَةٍ، وَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، انْطَلِقْ إِلَى قَوْمِكَ فَقُمْ فِيهِمْ، وَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَكُمْ بِصَلَاحِ آبَائِكُمْ ; فَلِذَلِكَ اسْتَبَقَاكُمْ يَا مَعْشَرَ
أَبْنَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ، كَيْفَ وَجَدَ آبَاؤُكُمْ مَغَبَّةَ طَاعَتِي، وَكَيْفَ
وَجَدْتُمْ مَغَبَّةَ مَعْصِيَتِي ؟ وَهَلْ وَجَدُوا أَحَدًا عَصَانِي فَسَعِدَ
بِمَعْصِيَتِي ؟ وَهَلْ عَلِمُوا أَحَدًا أَطَاعَنِي فَشَقِيَ بِطَاعَتِي ؟ إِنَّ الدَّوَابَّ
إِذَا ذَكَرَتْ أَوْطَانَهَا الصَّالِحَةَ نَزَعَتْ إِلَيْهَا، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ رَتَعُوا فِي مُرُوجِ الْهَلَكَةِ وَتَرَكُوا الْأَمْرَ الَّذِي بِهِ
أَكْرَمْتُ آبَاءَهُمْ وَابْتَغَوُا الْكَرَامَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهَا. أَمَّا
أَحْبَارُهُمْ وَرُهْبَانُهُمْ فَاتَّخَذُوا عِبَادِي خَوَلًا يَتَعَبَّدُونَهُمْ
وَيَحْكُمُونَ فِيهِمْ بِغَيْرِ كِتَابِي، حَتَّى أَجْهَلُوهُمْ أَمْرِي،
وَأَنْسَوْهُمْ ذِكْرِي وَسُنَّتِي، وَغَرُّوهُمْ عَنِّي، فَدَانَ لَهُمْ عِبَادِي
بِالطَّاعَةِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي، فَهُمْ يُطِيعُونَهُمْ فِي
مَعْصِيَتِي.
وَأَمَّا مُلُوكُهُمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ، فَبَطَرُوا نِعْمَتِي، وَأَمِنُوا مَكْرِي،
وَغَرَّتْهُمُ الدُّنْيَا، حَتَّى نَبَذُوا كِتَابِي، وَنَسُوا عَهْدِي، فَهُمْ
يُحَرِّفُونَ كِتَابِي وَيَفْتَرُونَ عَلَى رُسُلِي ; جُرْأَةً مِنْهُمْ عَلَيَّ
وَغِرَّةً بِي. فَسُبْحَانَ جَلَالِي، وَعُلُوِّ مَكَانِي، وَعَظَمَةِ شَأْنِي،
هَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِي شَرِيكٌ فِي مُلْكِي ؟! وَهَلْ يَنْبَغِي
لِبَشَرٍ أَنْ يُطَاعَ فِي مَعْصِيَتِي ؟! وَهَلْ يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْلُقَ عِبَادًا
أَجْعَلُهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِي ؟! أَوْ آذَنَ لِأَحَدٍ بِالطَّاعَةِ
لِأَحَدٍ وَهِيَ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِي! وَأَمَّا قُرَّاؤُهُمْ
وَفُقَهَاؤُهُمْ، فَيَدْرُسُونَ مَا يَتَخَيَّرُونَ، فَيَنْقَادُونَ لِلْمُلُوكِ،
فَيُتَابِعُونَهُمْ عَلَى الْبِدَعِ الَّتِي يَبْتَدِعُونَ فِي دِينِي،
وَيُطِيعُونَهُمْ فِي مَعْصِيَتِي، وَيُوفُونَ لَهُمْ بِالْعُهُودِ النَّاقِضَةِ
لِعَهْدِي، فَهُمْ جَهَلَةٌ بِمَا يَعْلَمُونَ، لَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا
عَلِمُوا مِنْ كِتَابِي. وَأَمَّا
أَوْلَادُ النَّبِيِّينَ، فَمَقْهُورُونَ وَمَفْتُونُونَ، يَخُوضُونَ مَعَ الْخَائِضِينَ، يَتَمَنَّوْنَ مِثْلَ نَصْرِي آبَاءَهُمْ، وَالْكَرَامَةَ الَّتِي أَكْرَمْتُهُمْ بِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ، بِغَيْرِ صِدْقٍ مِنْهُمْ، وَلَا تَفَكُّرٍ، وَلَا يَذْكُرُونَ كَيْفَ كَانَ صَبْرُ آبَائِهِمْ، وَكَيْفَ كَانَ جُهْدُهُمْ فِي أَمْرِي، حَتَّى اغْتَرَّ الْمُغْتَرُّونَ، وَكَيْفَ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَدِمَاءَهُمْ، فَصَبَرُوا وَصَدَقُوا، حَتَّى عَزَّ أَمْرِي، وَظَهَرَ دِينِي، فَتَأَنَّيْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَعَلَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِنِّي وَيَرْجِعُونَ، فَتَطَوَّلْتُ عَلَيْهِمْ وَصَفَحْتُ عَنْهُمْ، فَأَكْثَرْتُ وَمَدَدْتُ لَهُمْ فِي الْعُمُرِ، وَأَعْذَرْتُ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَكُلُّ ذَلِكَ أُمْطِرُ عَلَيْهِمُ السَّمَاءَ، وَأُنْبِتُ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَأُلْبِسُهُمُ الْعَافِيَةَ، وَأُظْهِرُهُمْ عَلَى الْعَدُوِّ، وَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا طُغْيَانًا وَبُعْدًا مِنِّي، فَحَتَّى مَتَى هَذَا! أَبِي يَسْخَرُونَ! أَمْ بِي يَتَمَرَّسُونَ! أَمْ إِيَّايَ يُخَادِعُونَ! أَمْ عَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ! فَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي، لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَلِيمُ وَيَضِلُّ فِيهَا رَأْيُ ذَوِي الرَّأْيِ وَحِكْمَةُ الْحَكِيمِ، ثُمَّ لَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا عَاتِيًا، أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ، وَأَنْزِعُ مِنْ قَلْبِهِ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ، وَآلَيْتُ أَنْ يَتَّبِعَهُ عَدَدٌ وَسَوَادٌ مِثْلُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، لَهُ فِيهِ عَسَاكِرُ مِثْلُ قِطَعِ السَّحَابِ، وَمُوَاكِبُ مِثْلُ الْعَجَاجِ، وَكَأَنَّ حَفِيفَ رَايَاتِهِ طَيَرَانُ النُّسُورِ، وَحَمْلَ فُرْسَانِهِ كَسِرْبِ الْعِقْبَانِ، يُعِيدُونَ الْعِمْرَانَ خَرَابًا، وَالْقُرَى وَحْشًا، وَيَعِيثُونَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَيُتَبِّرُونَ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا، قَاسِيَةً قُلُوبُهُمْ; لَا
يَكْتَرِثُونَ،
وَلَا يَرِقُّونَ، وَلَا يَرْحَمُونَ، وَلَا يُبْصِرُونَ، وَلَا يَسْمَعُونَ،
يَجُولُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بِأَصْوَاتٍ مُرْتَفِعَةٍ مِثْلَ زَئِيرِ الْأُسْدِ،
تَقْشَعِرُّ مِنْ هَيْبَتِهَا الْجُلُودُ، وَتَطِيشُ مِنْ سَمْعِهَا الْأَحْلَامُ،
بِأَلْسِنَةٍ لَا يَفْقَهُونَهَا، وَوُجُوهٍ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا الْمُنْكَرُ، لَا
يَعْرِفُونَهَا. فَوَعِزَّتِي لَأُعَطِّلَنَّ بُيُوتَهُمْ مِنْ كُتُبِي وَقُدُسِي،
وَلَأُخْلِيَنَّ مَجَالِسَهُمْ مِنْ حَدِيثِهَا وَدُرُوسِهَا، وَلَأُوحِشَنَّ
مَسَاجِدَهُمْ مِنْ عُمَّارِهَا وَزُوَّارِهَا، الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَيَّنُونَ
بِعِمَارَتِهَا لِغَيْرِي، وَيَتَهَجَّدُونَ فِيهَا وَيَتَعَبَّدُونَ لِكَسْبِ
الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَيَتَفَقَّهُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الدِّينِ،
وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهَا لِغَيْرِ الْعَمَلِ. لَأُبَدِّلَنَّ مُلُوكَهَا
بِالْعِزِّ الذُّلَّ، وَبِالْأَمْنِ الْخَوْفَ، وَبِالْغِنَى الْفَقْرَ، وَبِالنِّعْمَةِ
الْجُوعَ، وَبِطُولِ الْعَافِيَةِ وَالرَّخَاءِ أَنْوَاعَ الْبَلَاءِ، وَبِلِبَاسِ
الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ مَدَارِعَ الْوَبَرِ وَالْعَبَاءَ، وَبِالْأَرْوَاحِ
الطَّيِّبَةِ وَالْأَدْهَانِ جِيَفَ الْقَتْلَى، وَبِلِبَاسِ التِّيجَانِ
أَطْوَاقَ الْحَدِيدِ وَالسَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ. ثُمَّ لَأُعِيدَنَّ فِيهِمْ
بَعْدَ الْقُصُورِ الْوَاسِعَةِ وَالْحُصُونِ الْحَصِينَةِ الْخَرَابَ، وَبَعْدَ
الْبُرُوجِ الْمُشَيَّدَةِ مَسَاكِنَ السِّبَاعِ، وَبَعْدَ صَهِيلِ الْخَيْلِ
عُوَاءَ الذِّئَابِ، وَبَعْدَ ضَوْءِ السِّرَاجِ دُخَانَ الْحَرِيقِ، وَبَعْدَ
الْأُنْسِ الْوَحْشَةَ وَالْقِفَارَ، ثُمَّ لَأُبَدِّلَنَّ نِسَاءَهَا
بِالْأَسْوِرَةِ الْأَغْلَالَ، وَبِقَلَائِدِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ سَلَاسِلَ
الْحَدِيدِ، وَبِأَلْوَانِ الطِّيبِ وَالْأَدْهَانِ النَّقْعَ وَالْغُبَارَ،
وَبِالْمَشْيِ عَلَى الزَّرَابِيِّ عُبُورَ الْأَسْوَاقِ وَالْأَنْهَارِ
وَالْخَبَبَ إِلَى اللَّيْلِ فِي بُطُونِ الْأَسْوَاقِ، وَبِالْخُدُورِ
وَالسُّتُورِ الْحُسُورَ عَنِ الْوُجُوهِ وَالسُّوقِ وَالْإِسْفَارَ،
وَالْأَرْوَاحِ السَّمُومَ، ثُمَّ لَأَدُوسَنَّهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى
لَوْ كَانَ الْكَائِنُ مِنْهُمْ فِي حَالِقٍ، لَوَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ.
إِنِّي إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي، وَإِنَّمَا أُهِينُ مَنْ هَانَ
عَلَيْهِ أَمْرِي. ثُمَّ لَآمُرَنَّ السَّمَاءَ خِلَالَ ذَلِكَ ; فَلَتَكُونَنَّ
عَلَيْهِمْ طَبَقًا مِنْ حَدِيدٍ، وَلَآمُرَنَّ
الْأَرْضَ فَلَتَكُونَنَّ سَبِيكَةً مِنْ نُحَاسٍ، فَلَا سَمَاءَ تُمْطِرُ وَلَا أَرْضَ تُنْبِتُ، فَإِنْ أَمْطَرَتْ خِلَالَ ذَلِكَ شَيْئًا سَلَّطْتُ عَلَيْهِمُ الْآفَةَ، فَإِنْ خَلُصَ مِنْهُ شَيْءٌ نَزَعْتُ مِنْهُ الْبَرَكَةَ، وَإِنْ دَعَوْنِي لَمْ أُجِبْهُمْ، وَإِنْ سَأَلُونِي لَمْ أُعْطِهِمْ، وَإِنْ بَكَوْا لَمْ أَرْحَمْهُمْ، وَإِنْ تَضَرَّعُوا إِلَيَّ صَرَفْتُ وَجْهِي عَنْهُمْ. وَإِنْ قَالُوا: اللَّهُمَّ أَنْتَ الَّذِي ابْتَدَأْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرَامَتِكَ وَذَلِكَ بِأَنَّكَ اخْتَرْتَنَا لِنَفْسِكَ وَجَعَلْتَ فِينَا نُبُوَّتَكَ وَكِتَابَكَ وَمَسَاجِدَكَ، ثُمَّ مَكَّنَتْ لَنَا فِي الْبِلَادِ وَاسْتَخْلَفْتَنَا فِيهَا وَرَبَّيْتَنَا وَآبَاءَنَا مِنْ قَبْلِنَا بِنِعْمَتِكَ صِغَارًا، وَحَفِظْتَنَا وَإِيَّاهُمْ بِرَحْمَتِكَ كِبَارًا، فَأَنْتَ أَوْفَى الْمُنْعِمِينَ، فَلَا تُغَيِّرْ وَإِنْ غَيَّرْنَا، وَلَا تُبَدِّلْ وَإِنْ بَدَّلْنَا، وَأَنْ تُتِمَّ فَضْلَكَ وَمَنَّكَ وَطَوْلَكَ وَإِحْسَانَكَ. فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ قُلْتُ لَهُمْ: إِنِّي أَبْتَدِئُ عِبَادِي بِرَحْمَتِي وَنِعْمَتِي، فَإِنْ قَبِلُوا أَتْمَمْتُ، وَإِنِ اسْتَزَادُوا زِدْتُ، وَإِنْ شَكَرُوا ضَاعَفْتُ، وَإِنْ بَدَّلُوا غَيَّرْتُ، وَإِذَا غَيَّرُوا غَضِبْتُ، وَإِذَا غَضِبْتُ عَذَّبْتُ، وَلَيْسَ يَقُومُ شَيْءٌ لِغَضَبِي. قَالَ كَعْبٌ: فَقَالَ أَرْمِيَا: بِرَحْمَتِكَ أَصْبَحْتُ أَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَهَلْ يَنْبَغِي ذَلِكَ لِي وَأَنَا أَذَلُّ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَنْبَغِيَ لِي أَنْ أَتَكَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنْ بِرَحْمَتِكَ أَبْقَيْتَنِي لِهَذَا الْيَوْمِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ أَنْ يَخَافَ هَذَا الْعَذَابَ وَهَذَا الْوَعِيدَ مِنِّي، بِمَا رَضِيتَ بِهِ مِنِّي طَوْلًا، وَالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الْخَاطِئِينَ وَهُمْ يَعْصُونَكَ حَوْلِي بِغَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا تَغْيِيرٍ مِنِّي، فَإِنْ
تُعَذِّبْنِي فَبِذَنْبِي وَإِنْ تَرْحَمْنِي فَذَلِكَ ظَنِّي بِكَ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ، أَتُهْلِكُ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَمَا حَوْلَهَا وَهِيَ مَسَاكِنُ أَنْبِيَائِكَ، وَمَنْزِلُ وَحْيِكَ ؟ يَا رَبِّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ لِمَخْرَبِ هَذَا الْمَسْجِدِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، وَمِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي رُفِعَتْ لِذِكْرِكَ ؟ يَا رَبِّ، سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ لِمَقْتِكَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَعَذَابِكَ إِيَّاهُمْ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِكَ، وَأُمَّةِ مُوسَى نَجِيِّكَ، وَقَوْمِ دَاوُدَ صَفِيِّكَ، يَا رَبِّ، أَيُّ الْقُرَى تَأْمَنُ عُقُوبَتَكَ بَعْدَ أُورْشَلِيمَ ؟ وَأَيُّ الْعِبَادِ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَكَ بَعْدَ وَلَدِ خَلِيلِكَ إِبْرَاهِيمَ، وَأُمَّةِ نَجِيِّكَ مُوسَى، وَقَوْمِ خَلِيفَتِكَ دَاوُدَ ؟ تُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَبَدَةَ النِّيرَانِ! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَرْمِيَا مَنْ عَصَانِي فَلَا يَسْتَنْكِرُ نِقْمَتِي ; فَإِنِّي إِنَّمَا أَكْرَمْتُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى طَاعَتِي، وَلَوْ أَنَّهُمْ عَصَوْنِي لَأَنْزَلْتُهُمْ دَارَ الْعَاصِينَ، إِلَّا أَنْ أَتَدَارَكَهُمْ بِرَحْمَتِي. قَالَ أَرْمِيَا: يَا رَبِّ، اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَحَفِظْتَنَا بِهِ، وَمُوسَى قَرَّبْتَهُ نَجَّيًا، فَنَسْأَلُكَ أَنْ تَحْفَظَنَا وَلَا تَتَخَطَّفَنَا، وَلَا تُسَلِّطَ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا أَرْمِيَا إِنِّي قَدَّسْتُكَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ، وَأَخَّرْتُكَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ، فَلَوْ أَنَّ قَوْمَكَ حَفِظُوا الْيَتَامَى وَالْأَرَامِلَ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ، لَكُنْتُ الدَّاعِمَ لَهُمْ، وَكَانُوا عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ جَنَّةٍ نَاعِمٍ شَجَرُهَا، طَاهِرٍ مَاؤُهَا، وَلَا يَغُورُ مَاؤُهَا، وَلَا تَبُورُ ثِمَارُهَا، وَلَا تَنْقَطِعُ
وَلَكِنْ سَأَشْكُو
إِلَيْكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ; إِنِّي كُنْتُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّاعِي
الشَّفِيقِ، أُجَنِّبُهُمْ كُلَّ قَحْطٍ وَكُلَّ عُسْرَةٍ، وَأُتْبِعُ بِهِمُ
الْخَصْبَ، حَتَّى صَارُوا كِبَاشًا يَنْطَحُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَا وَيْلَهُمْ
ثُمَّ يَا وَيْلَهُمْ، إِنَّمَا أُكْرِمُ مَنْ أَكْرَمَنِي، وَأُهِينَ مَنْ هَانَ
عَلَيْهِ أَمْرِي، إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنَ الْقُرُونِ
يَسْتَخْفُونَ بِمَعْصِيَتِي، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَتَبَرَّعُونَ
بِمَعْصِيَتِي تَبَرُّعًا ; فَيُظْهِرُونَهَا فِي الْمَسَاجِدِ، وَالْأَسْوَاقِ،
وَعَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ، وَظِلَالِ الْأَشْجَارِ، حَتَّى عَجَّتِ السَّمَاءُ
إِلَيَّ مِنْهُمْ، وَعَجَّتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَنَفَرَتْ مِنْهَا
الْوُحُوشُ بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ وَأَقَاصِيهَا، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ لَا
يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا عَلِمُوا مِنَ الْكِتَابِ.
قَالَ: فَلَمَّا بَلَّغَهُمْ أَرْمِيَا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، وَسَمِعُوا مَا
فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ، عَصَوْهُ وَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ
وَقَالُوا: كَذَبْتَ وَعَظَّمْتَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ، فَتَزْعُمُ أَنَّ
اللَّهَ مُعَطِّلٌ أَرْضَهُ وَمَسَاجِدَهُ مِنْ كِتَابِهِ وَعِبَادَتِهِ
وَتَوْحِيدِهِ، فَمَنْ يَعْبُدُهُ حِينَ لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْأَرْضِ عَابِدٌ
وَلَا مَسْجِدٌ وَلَا كِتَابٌ ؟ لَقَدْ أَعْظَمْتَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ
وَاعْتَرَاكَ الْجُنُونُ. فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ وَسَجَنُوهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ فَأَقْبَلَ يَسِيرُ بِجُنُودِهِ حَتَّى
نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ حَاصَرَهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ [ الْإِسْرَاءِ: 5 ]. قَالَ: فَلَمَّا طَالَ بِهِمُ
الْحَصْرُ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، فَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ، وَتَخَلَّلُوا
الْأَزِقَّةَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَحَكَمَ
فِيهِمْ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ وَبَطْشَ
الْجَبَّارِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمُ الثُّلُثَ، وَسَبَى الثُّلُثَ، وَتَرَكَ الزَّمْنَى وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ، ثُمَّ وَطِئَهُمْ بِالْخَيْلِ، وَهَدَمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَسَاقَ الصِّبْيَانَ، وَأَوْقَفَ النِّسَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ مُحْسَرَاتٍ، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَخَرَّبَ الْحُصُونَ، وَهَدَمَ الْمَسَاجِدَ، وَحَرَقَ التَّوْرَاةَ، وَسَأَلَ عَنْ دَانْيَالَ الَّذِي كَانَ كَتَبَ لَهُ الْكِتَابَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ مَاتَ، وَأَخْرَجَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْكِتَابَ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِمْ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ الْأَصْغَرُ وَمِيشَائِيلُ، وَعِزْرَائِيلُ، وَمِيخَائِيلُ، فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ، وَكَانَ دَانْيَالُ بْنُ حِزْقِيلَ خَلَفًا مِنْ دَانْيَالَ الْأَكْبَرِ، وَدَخَلَ بُخْتُ نَصَّرَ بِجُنُودِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَوَطِئَ الشَّامَ كُلَّهَا، وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا انْصَرَفَ رَاجِعًا، وَحَمَلَ الْأَمْوَالَ الَّتِي كَانَتْ بِهَا وَسَاقَ السَّبَايَا، فَبَلَغَ مَعَهُ عِدَّةُ صِبْيَانِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَحْبَارِ وَالْمُلُوكِ تِسْعِينَ أَلْفَ غُلَامٍ، وَقَذَفَ الْكُنَاسَاتِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَبَحَ فِيهِ الْخَنَازِيرَ، وَكَانَ الْغِلْمَانُ سَبْعَةَ آلَافِ غُلَامٍ مَنْ بَيْتِ دَاوُدَ، وَأَحَدَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ، وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ إِيشَا بْنِ يَعْقُوبَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ زَبَالُونَ وَنِفْتَالِي ابْنَيْ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سِبْطِ دَانِ بْنِ يَعْقُوبَ، وَثَمَانِيَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ يَسْتَاخِرَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَلْفَيْنِ مِنْ سِبْطِ رَايْلُونَ بْنِ يَعْقُوبَ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ مِنْ سِبْطِ رُوبِيلَ وَلَاوِي، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ سَائِرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَانْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ أَرْضَ بَابِلَ.
قَالَ إِسْحَاقُ
بْنُ بِشْرٍ: قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قِيلَ
لَهُ: كَانَ لَهُمْ صَاحِبٌ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، وَيَصِفُكَ وَخَبَرَكَ
لَهُمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَتَسْبِي
ذَرَارِيَّهُمْ وَتَهْدِمُ مَسَاجِدَهُمْ وَتَحْرِقُ كَنَائِسَهُمْ، فَكَذَّبُوهُ
وَاتَّهَمُوهُ، وَضَرَبُوهُ، وَقَيَّدُوهُ، وَحَبَسُوهُ. فَأَمَرَ بُخْتَ نَصَّرَ
فَأَخْرَجَ أَرْمِيَا مِنَ السِّجْنِ، فَقَالَ لَهُ: أَكُنْتَ تُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ مَا أَصَابَهُمْ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ.
قَالَ: أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُونِي. قَالَ: كَذَّبُوكَ
وَضَرَبُوكَ وَسَجَنُوكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ كَذَّبُوا
نَبِيَّهُمْ وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَلْحَقَ بِي،
فَأُكْرِمُكَ وَأُوَاسِيكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُقِيمَ فِي بِلَادِكَ فَقَدْ
أَمَّنْتُكَ. قَالَ لَهُ أَرْمِيَا: إِنِّي لَمْ أَزَلْ فِي أَمَانِ اللَّهِ
مُنْذُ كُنْتُ لَمْ أَخْرُجْ مِنْهُ سَاعَةً قَطُّ، وَلَوْ أَنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ، لَمْ يَخَافُوكَ وَلَا غَيْرَكَ، وَلَمْ
يَكُنْ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ. فَلَمَّا سَمِعَ بُخْتَ نَصَّرَ هَذَا
الْقَوْلَ مِنْهُ، تَرَكَهُ، فَأَقَامَ أَرْمِيَا مَكَانَهُ بِأَرْضِ إِيلِيَاءَ.
وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَأَشْيَاءُ مَلِيحَةٌ،
وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ التَّعْرِيبِ غَرَابَةٌ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بُخْتُ
نَصَّرَ أُصْفَهْبَذًا لِمَا بَيْنَ الْأَهْوَازِ إِلَى الرُّومِ ; لِلْمَلِكِ
عَلَى الْفُرْسِ وَهُوَ لِهْرَاسْبُ، وَكَانَ قَدْ بَنَى مَدِينَةَ بَلْخَ الَّتِي
تُلَقَّبُ بِ " الْخَنْسَاءِ، وَقَاتَلَ التُّرْكَ، وَأَلْجَأَهُمْ إِلَى
أَضْيَقِ الْأَمَاكِنِ،
وَبَعَثَ بُخْتُ
نَصَّرَ لِقِتَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ الشَّامَ
صَالَحَهُ أَهْلُ دِمَشْقَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي بَعَثَ بُخْتُ نَصَّرَ
إِنَّمَا هُوَ بَهْمَنُ مَلِكُ الْفُرْسِ بَعْدَ بَشْتَاسِبُ بْنِ لَهْرَاسِبُ ;
وَذَلِكَ لِتَعَدِّي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى رُسُلِهِ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ رَوَى
ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ بُخْتُ نَصَّرَ لَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ، وَجَدَ
بِهَا دَمًا يَغْلِي عَلَى كِبًا - يَعْنِي الْقُمَامَةَ - فَسَأَلَهُمْ: مَا
هَذَا الدَّمُ ؟ فَقَالُوا: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذَا، وَكُلَّمَا ظَهَرَ
عَلَيْهِ الْكِبَا ظَهَرَ. قَالَ: فَقَتَلَ عَلَى ذَلِكَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَسَكَنَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ مَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا دَمُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَهَذَا لَا يَصِحُّ ;
لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بَعْدَ بُخْتُ نَصَّرَ بِمُدَّةٍ، وَالظَّاهِرُ
أَنَّ هَذَا دَمُ نَبِيٍّ مُتَقَدِّمٍ، أَوْ دَمٌ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ، أَوْ
لِمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِمَّنِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ.
قَالَ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ: ثُمَّ قَدِمَ بُخْتُ نَصَّرَ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ، فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا، وَكَانَ مِنْ آلِ دَاوُدَ وَصَانَعَهُ عَنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَخَذَ مِنْهُ بُخْتُ نَصَّرَ رَهَائِنَ وَرَجَعَ، فَلَمَّا
بَلَغَ طَبَرِيَّةَ بَلَغَهُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَارُوا عَلَى مَلِكِهِمْ
فَقَتَلُوهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ صَالَحَهُ، فَضَرَبَ رِقَابَ مَنْ مَعَهُ مِنَ
الرَّهَائِنِ وَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَأَخَذَ الْمَدِينَةَ عَنْوَةً وَقَتَلَ
الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ. قَالَ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ وَجَدَ فِي
السِّجْنِ أَرْمِيَا النَّبِيَّ، فَأَخْرَجَهُ، وَقَصَّ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ
أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ، وَتَحْذِيرِهِ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَكَذَّبُوهُ
وَسَجَنُوهُ، فَقَالَ بُخْتُ نَصَّرَ: بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ عَصَوْا رَسُولَ
اللَّهِ. وَخَلَّى سَبِيلَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ بَقِيَ مِنْ ضُعَفَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَسَأْنَا وَظَلَمْنَا وَنَحْنُ نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا صَنَعْنَا، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَنَا. فَدَعَا رَبَّهُ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ، فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فَلْيُقِيمُوا مَعَكَ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ. فَأَخْبَرَهُمْ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، فَقَالُوا: كَيْفَ نُقِيمُ بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ وَقَدْ خَرِبَتْ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِهَا! فَأَبَوْا أَنْ يُقِيمُوا. قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْبِلَادِ، فَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْحِجَازَ وَطَائِفَةٌ يَثْرِبَ وَطَائِفَةٌ وَادِي الْقُرَى وَذَهَبَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْهُمْ إِلَى مِصْرَ فَكَتَبَ بُخْتُ نَصَّرَ إِلَى مَلِكِهَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَنْ شَرَدَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَرَكِبَ فِي جَيْشِهِ فَقَاتَلَهُ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، حَتَّى بَلَغَ أَقْصَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ. قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفَ بِسَبْيٍ كَثِيرٍ مِنْ أَرْضِ الْمَغْرِبِ، وَمِصْرَ، وَأَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَالْأُرْدُنِّ وَفِي السَّبْيِ دَانْيَالُ. قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَانْيَالُ بْنُ حَزْقِيلَ الْأَصْغَرُ لَا الْأَكْبَرُ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ
خَبَرِ دَانْيَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى
الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُهُ مِنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ
فَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ، عَنِ الْأَجْلَحِ الْكِنْدِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، قَالَ: ضَرَّى بُخْتُ نَصَّرَ أَسَدَيْنِ،
فَأَلْقَاهُمَا فِي جُبٍّ وَجَاءَ بِدَانْيَالَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِمَا، فَلَمْ
يُهَيِّجَاهُ فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اشْتَهَى مَا يَشْتَهِي الْآدَمِيُّونَ
مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَا وَهُوَ
بِالشَّامِ: أَنْ أَعْدِدْ طَعَامًا وَشَرَابًا لِدَانْيَالَ. فَقَالَ: يَا رَبِّ،
أَنَا بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَدَانْيَالُ بِأَرْضِ بَابِلَ مِنْ أَرْضِ
الْعِرَاقِ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَنْ أَعْدِدْ مَا أَمَرْنَاكَ بِهِ
فَإِنَّا سَنُرْسِلُ مَنْ يَحْمِلُكَ وَيَحْمِلُ مَا أَعْدَدْتَ. فَفَعَلَ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ حَمَلَهُ وَحَمَلَ مَا أَعَدَّ حَتَّى وَقَفَ عَلَى
رَأْسِ الْجُبِّ فَقَالَ: دَانْيَالُ، دَانْيَالُ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:
أَنَا أَرْمِيَا. فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ ؟ فَقَالَ: أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ
رَبُّكَ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَنِي رَبِّي ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ دَانْيَالُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَا يُخَيِّبُ مَنْ رَجَاهُ،
وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي مَنْ وَثِقَ بِهِ لَمْ يَكِلْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي يَجْزِي بِالْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
يَجْزِي بِالصَّبْرِ نَجَاةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ يَكْشِفُ ضُرَّنَا
بَعْدَ كَرْبِنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ ثِقَتُنَا حِينَ تَسُوءُ
ظُنُونُنَا بِأَعْمَالِنَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ رَجَاؤُنَا حِينَ
تَنْقَطِعُ الْحِيَلُ عَنَّا.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي
خَلْدَةَ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ: لَمَّا
افْتَتَحْنَا تُسْتَرَ وَجَدْنَا فِي مَالِ بَيْتِ الْهُرْمُزَانِ سَرِيرًا،
عَلَيْهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ، فَأَخَذْنَا الْمُصْحَفَ
فَحَمَلْنَاهُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَعَا لَهُ كَعْبًا فَنَسَخَهُ
بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَرَأَهُ، قَرَأْتُهُ
مِثْلَ مَا أَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَذَا. فَقُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ: مَا كَانَ
فِيهِ ؟ قَالَ: سِيَرُكُمْ وَأُمُورُكُمْ وَلُحُونُ كَلَامِكُمْ وَمَا هُوَ
كَائِنٌ بَعْدُ. قُلْتُ: فَمَا صَنَعْتُمْ بِالرَّجُلِ ؟ قَالَ: حَفَرْنَا
بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا كَانَ بِاللَّيْلِ
دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا الْقُبُورَ كُلَّهَا ; لِنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ
فَلَا يَنْبِشُونَهُ. قُلْتُ: فَمَا يَرْجُونَ مِنْهُ ؟ قَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ
إِذَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ فَيُمْطَرُونَ. قُلْتُ: مَنْ
كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرَّجُلَ ؟ قَالَ: رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ دَانْيَالُ. قُلْتُ:
مُنْذُ كَمْ وَجَدْتُمُوهُ قَدْ مَاتَ ؟ قَالَ: مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ.
قُلْتُ: مَا تَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ قَالَ: لَا إِلَّا شَعَرَاتٌ مِنْ قَفَاهُ
; إِنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُبْلِيهَا الْأَرْضُ وَلَا تَأْكُلُهَا
السِّبَاعُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ وَلَكِنْ إِنْ
كَانَ تَارِيخُ وَفَاتِهِ مَحْفُوظًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، فَلَيْسَ
بِنَبِيٍّ بَلْ هُوَ رَجُلٌ صَالِحٌ ; لِأَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَيْسَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيٌّ، بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ
وَالْفَتْرَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْبَعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ:
سِتُّمِائَةٍ. وَقِيلَ: سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَدْ يَكُونُ تَارِيخُ
وَفَاتِهِ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ وَقْتِ دَانْيَالَ
إِنْ كَانَ كَوْنُهُ دَانْيَالَ هُوَ الْمُطَابِقَ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ;
فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا آخَرَ ; إِمَّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ
الصَّالِحِينَ، وَلَكِنْ قَرُبَتِ الظُّنُونُ أَنَّهُ دَانْيَالُ لِأَنَّ
دَانْيَالَ كَانَ قَدْ أَخَذَهُ مَلِكُ الْفُرْسِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ مَسْجُونًا
كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى أَبِي الْعَالِيَةِ
أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ شِبْرٌ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ،
أَنَّ طُولَ أَنْفِهِ ذِرَاعٌ. فَيَحْتَمِلُ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَقْدَمِينَ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " أَحْكَامِ
الْقُبُورِ ": حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ حَدَّثَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي الْأَشْعَثِ
الْأَحْمَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ دَانْيَالَ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْفِنَهُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ
فَلَمَّا افْتَتَحَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ تُسْتَرَ، وَجَدَهُ فِي تَابُوتٍ،
تَضْرِبُ عُرُوقُهُ وَوَرِيدَهُ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ دَلَّ عَلَى دَانْيَالَ فَبَشِّرُوهُ
بِالْجَنَّةِ. فَكَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: حُرْقُوصٌ
فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بِخَبَرِهِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ
عُمَرُ أَنِ ادْفِنْهُ، وَابْعَثْ إِلَى حُرْقُوصٍ ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ. وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ، وَفِي كَوْنِهِ مَحْفُوظًا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا أَبُو بِلَالٍ، حَدَّثَنَا
قَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ، - وَكَانَ عَالِمًا -
قَالَ: وَجَدَ أَبُو مُوسَى مَعَ دَانْيَالَ مُصْحَفًا، وَجَرَّةً فِيهَا وَدَكٌ
وَدَرَاهِمُ، وَخَاتَمُهُ، فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا الْمُصْحَفُ فَابْعَثْ بِهِ إِلَيْنَا، وَأَمَّا الْوَدَكُ
فَابْعَثْ إِلَيْنَا مِنْهُ، وَمُرْ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يَسْتَشْفُونَ بِهِ، وَاقْسِمِ الدَّرَاهِمَ بَيْنَهُمْ، وَأَمَّا الْخَاتَمُ
فَقَدْ نَفَّلْنَاكَهُ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، أَنَّ
أَبَا مُوسَى لَمَّا وَجَدَهُ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّهُ دَانْيَالُ، الْتَزَمَهُ
وَعَانَقَهُ وَقَبَّلَهُ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَذْكُرُ لَهُ أَمْرَهُ،
وَأَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَهُ مَالًا مَوْضُوعًا، قَرِيبًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ
دِرْهَمٍ، وَكَانَ مَنْ جَاءَ اقْتَرَضَ مِنْهَا، فَإِنْ رَدَّهَا وَإِلَّا
مَرِضَ، وَأَنَّ عِنْدَهُ رَبْعَةً، فَأَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُغْسَلَ بِمَاءٍ
وَسِدْرٍ، وَيُكَفَّنَ وَيُدْفَنَ، وَيُخْفَى قَبْرُهُ، فَلَا يَعْلَمُ بِهِ
أَحَدٌ، وَأَمَرَ بِالْمَالِ أَنْ يُرَدَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَبِالرَّبْعَةِ
فَتُحْمَلُ إِلَيْهِ، وَنَفَلَهُ خَاتَمَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ
أَمَرَ أَرْبَعَةً مِنَ الْأُسَرَاءِ فَسَكَرُوا نَهْرًا، وَحَفَرُوا فِي وَسَطِهِ
قَبْرًا، فَدَفَنَهُ فِيهِ، ثُمَّ قَدَّمَ الْأَرْبَعَةَ الْإُسَرَاءَ فَضَرَبَ
أَعْنَاقَهُمْ، فَلَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَ قَبْرِهِ غَيْرُ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ فِي
يَدِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ خَاتَمًا، نَقْشُ فَصِّهِ
أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِ ذَلِكَ الرَّجُلَ، قَالَ أَبُو
بُرْدَةُ: هَذَا خَاتَمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَيِّتِ الَّذِي زَعَمَ أَهْلُ
هَذِهِ الْبَلْدَةِ أَنَّهُ دَانْيَالُ أَخَذَهُ أَبُو مُوسَى يَوْمَ دَفَنَهُ.
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَسَأَلَ أَبُو مُوسَى عُلَمَاءَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ عَنْ
نَقْشِ ذَلِكَ الْخَاتَمِ، فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلِكَ الَّذِي كَانَ دَانْيَالُ
فِي سُلْطَانِهِ جَاءَهُ الْمُنَجِّمُونَ وَأَصْحَابُ الْعِلْمِ، فَقَالُوا لَهُ:
إِنَّهُ يُولَدُ لَيْلَةَ كَذَا وَكَذَا غُلَامٌ يَعُورُ مُلْكَكَ وَيُفْسِدُهُ.
فَقَالَ الْمَلِكُ: وَاللَّهِ لَا يَبْقَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ إِلَّا
قَتَلْتُهُ. إِلَّا أَنَّهُمْ أَخَذُوا دَانْيَالَ فَأَلْقَوْهُ فِي أَجَمَةِ
الْأَسَدِ، فَبَاتَ الْأَسَدُ وَلَبْوَتُهُ يَلْحَسَانِهِ، وَلَمْ يَضُرَّاهُ،
فَجَاءَتْ أُمُّهُ فَوَجَدَتْهُمَا يَلْحَسَانِهِ، فَنَجَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ
حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ
عُلَمَاءُ تِلْكَ الْقَرْيَةِ: فَنَقَشَ دَانْيَالُ صُورَتَهُ وَصُورَةَ
الْأَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ فِي فَصِّ خَاتَمِهِ ; لِئَلَّا يَنْسَى نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَهَذَا ذِكْرُ
عِمَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ خَرَابِهَا، وَاجْتِمَاعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ:
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ
عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ
وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [
الْبَقَرَةِ: 259 ]. قَالَ هِشَامٌ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ
تَعَالَى إِلَى أَرْمِيَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا بَلَغَنِي - أَنَّى
عَامِرٌ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَاخْرُجْ إِلَيْهَا فَانْزِلْهَا. فَخَرَجَ حَتَّى
قَدِمَهَا وَهِيَ خَرَابٌ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَمَرَنِي
اللَّهُ أَنْ أَنْزِلَ هَذِهِ الْبَلْدَةَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَامِرُهَا،
فَمَتَى يَعْمُرُهَا، وَمَتَى يُحْيِيهَا اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ؟ ثُمَّ وَضَعَ
رَأْسَهُ فَنَامَ وَمَعَهُ حِمَارُهُ وَسَلَّةٌ مِنْ طَعَامٍ، فَمَكَثَ فِي
نَوْمِهِ سَبْعِينَ سَنَةً
حَتَّى هَلَكَ بُخْتُ
نَصَّرَ وَالْمَلِكُ الَّذِي فَوْقَهُ، وَهُوَ لِهْرَاسْبُ وَكَانَ مُلْكُهُ
مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بَشْتَاسِبُ بْنُ
لِهْرَاسْبَ، وَكَانَ مَوْتُ بُخْتُ نَصَّرَ فِي دَوْلَتِهِ، فَبَلَغَهُ عَنْ
بِلَادِ الشَّامِ أَنَّهَا خَرَابٌ، وَأَنَّ السِّبَاعَ قَدْ كَثُرَتْ فِي أَرْضِ
فِلَسْطِينَ، فَلَمْ يَبْقَ بِهَا مِنَ الْإِنْسِ أَحَدٌ، فَنَادَى فِي أَرْضِ
بَابِلَ، فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الشَّامِ،
فَلْيَرْجِعْ. وَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْ آلِ دَاوُدَ، وَأَمَرَهُ أَنْ
يَعْمُرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَيَبْنِيَ مَسْجِدَهَا، فَرَجَعُوا فَعَمَرُوهَا،
وَفَتَحَ اللَّهُ لِأَرْمِيَا عَيْنَيْهِ فَنَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَيْفَ
تُبْنَى وَكَيْفَ تُعَمَّرُ، وَمَكَثَ فِي نَوْمِهِ ذَلِكَ حَتَّى تَمَّتْ لَهُ مِائَةُ
سَنَةٍ، ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّهُ، وَهُوَ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ نَامَ أَكْثَرَ مِنْ
سَاعَةٍ، وَقَدْ عَهِدَ الْمَدِينَةَ خَرَابًا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا
عَامِرَةً آهِلَةً قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قَالَ: فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِهَا وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
أَمْرَهُمْ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ حَتَّى غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الرُّومُ فِي زَمَنِ
مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا سُلْطَانٌ،
يَعْنِي بَعْدَ ظُهُورِ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ. هَكَذَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ
فِي " تَارِيخِهِ " عَنْهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّ لِهْرَاسْبَ كَانَ مَلِكًا عَادِلًا سَائِسًا
لِمَمْلَكَتِهِ، قَدْ دَانَتْ لَهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ، وَالْمُلُوكُ
وَالْقُوَّادُ، وَأَنَّهُ كَانَ ذَا رَأْيٍ جَيِّدٍ فِي عِمَارَةِ الْأَمْصَارِ
وَالْأَنْهَارِ وَالْمَعَاقِلِ، ثُمَّ لَمَّا ضَعُفَ عَنْ تَدْبِيرِ
الْمَمْلَكَةِ، بَعْدَ
مِائَةِ سَنَةٍ
وَنَيِّفٍ، نَزَلَ عَنِ الْمُلْكِ لِوَلَدِهِ بَشْتَاسِبَ فَكَانَ فِي زَمَانِهِ
ظُهُورُ دِينِ الْمَجُوسِيَّةِ ; وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ اسْمُهُ
زَرَادُشْتَ كَانَ قَدْ صَحِبَ أَرْمِيَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَغْضَبَهُ،
فَدَعَا عَلَيْهِ أَرْمِيَا فَبَرَصَ زَرَادُشْتُ فَذَهَبَ فَلَحِقَ بِأَرْضِ
أَذْرَبِيجَانَ وَصَحِبَ بَشْتَاسِبَ فَلَقَّنَهُ دِينَ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِي
اخْتَرَعَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَقَبِلَهُ مِنْهُ
بَشْتَاسِبُ وَحَمَلَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَقَهَرَهُمْ وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلَقَا
كَثِيرًا مِمَّنْ أَبَاهُ مِنْهُمْ. ثُمَّ كَانَ بَعْدَ بَشْتَاسِبَ يَهْمَنُ بْنُ
بَشْتَاسِبَ وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ الْمَشْهُورِينَ وَالْأَبْطَالِ
الْمَذْكُورِينَ، وَقَدْ نَابَ بُخْتُ نَصَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ، وَعَمَّرَ دَهْرًا طَوِيلًا، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ أَنَّ هَذَا
الْمَارَّ عَلَى هَذِهِ الْقَرْيَةِ هُوَ أَرْمِيَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ
وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ
وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ قَوِيٌّ مِنْ حَيْثُ السِّيَاقِ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ،
وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ
وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عُزَيْرٌ. وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ
وَالْخَلَفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ قِصَّةُ الْعُزَيْرِ
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: هُوَ عُزَيْرُ بْنُ حَيْوَةَ
وَيُقَالُ: ابْنُ سُورَيْقَ بْنِ عِرْنَا بْنِ أَيُّوبَ بْنِ دِرِثْنَا بْنِ عَرَى
بْنِ تَقَى بْنِ السُّبُوعِ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَازِرِ بْنِ هَارُونَ بْنِ
عِمْرَانَ. وَيُقَالُ: عُزَيْرُ بْنُ شُرُوخَا. جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ
قَبْرَهُ بِدِمَشْقَ. ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ،
عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ حِبَّانَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: لَا أَدْرِي أَلُعِنَ
تُبَّعٌ أَمْ لَا، وَلَا أَدْرِي أَكَانَ عُزَيْرٌ نَبِيًّا أَمْ لَا ؟ ثُمَّ
رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مُؤَمَّلِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقِ
السِّجْزِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ،
عَنْ سَعِيدِ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. ثُمَّ
رَوَى مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ
بِشْرٍ، وَهُوَ
مَتْرُوكٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ مِمَّنْ سَبَاهُ بُخْتُ نَصَّرَ وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ،
فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، قَالَ: وَلَمْ
يَكُنْ أَحَدٌ أَحْفَظَ وَلَا أَعْلَمَ بِالتَّوْرَاةِ مِنْهُ. قَالَ: وَكَانَ
يُذْكَرُ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى مَحَا اللَّهُ اسْمَهُ مِنْ ذَلِكَ، حِينَ
سَأَلَ رَبَّهُ عَنِ الْقَدَرِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ وَمُنْقَطِعٌ وَمُنْكِرٌ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، أَنَّ عُزَيْرًا
هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنْ كَعْبٍ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ، وَمُقَاتِلٌ، وَجُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِدْرِيسُ، عَنْ جَدِّهِ، وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حَدَّثُونِي عَنْ حَدِيثِ عُزَيْرٍ
وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، قَالُوا بِإِسْنَادِهِمْ: إِنَّ عُزَيْرًا كَانَ
عَبْدًا صَالِحًا حَكِيمًا خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى ضَيْعَةٍ لَهُ
يَتَعَاهَدُهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ انْتَهَى إِلَى خَرِبَةٍ حِينَ قَامَتِ
الظَّهِيرَةُ وَأَصَابَهُ الْحَرُّ، وَدَخَلَ الْخَرِبَةَ وَهُوَ عَلَى حِمَارِهِ،
فَنَزَلَ عَنْ حِمَارِهِ وَمَعَهُ سَلَّةٌ فِيهَا تِينٌ، وَسَلَّةٌ فِيهَا عِنَبٌ،
فَنَزَلَ فِي ظِلِّ تِلْكَ الْخَرِبَةِ وَأَخْرَجَ قَصْعَةً مَعَهُ، فَاعْتَصَرَ
مِنَ الْعِنَبِ الَّذِي
كَانَ مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ، ثُمَّ أَخْرَجَ خُبْزًا يَابِسًا مَعَهُ، فَأَلْقَاهُ فِي تِلْكَ الْقَصْعَةِ فِي الْعَصِيرِ ; لِيَبْتَلَّ لِيَأْكُلَهُ، ثُمَّ اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ وَأَسْنَدَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْحَائِطِ فَنَظَرَ سَقْفَ تِلْكَ الْبُيُوتِ وَرَأَى مَا فِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَقَدْ بَادَ أَهْلُهَا، وَرَأَى عِظَامًا بَالِيَةً فَقَالَ: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِيهَا وَلَكِنْ قَالَهَا تَعَجُّبًا، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكَ الْمَوْتِ، فَقَبَضَ رُوحَهُ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ، فَلَمَّا أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، وَكَانَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أُمُورٌ وَأَحْدَاثٌ. قَالَ: فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَى عُزَيْرٍ مَلَكًا فَخَلَقَ قَلْبَهُ لِيَعْقِلَ بِهِ، وَعَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ بِهِمَا ; فَيَعْقِلَ كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى، ثُمَّ رَكَّبَ خَلْقَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ، ثُمَّ كَسَى عِظَامَهُ اللَّحْمَ، وَالشَّعْرَ، وَالْجِلْدَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، كُلُّ ذَلِكَ وَهُوَ يَرَى وَيَعْقِلُ، فَاسْتَوَى جَالِسًا، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: كَمْ لَبِثْتَ، قَالَ: لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ نَامَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ، وَبُعِثَ فِي آخِرِ النَّهَارِ وَالشَّمْسُ لَمْ تَغِبْ، فَقَالَ: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وَلَمْ يَتِمَّ لِي يَوْمٌ. فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ يَعْنِي الطَّعَامَ ; الْخُبْزَ الْيَابِسَ، وَشَرَابَهُ ; الْعَصِيرَ الَّذِي كَانَ اعْتَصَرَ فِي الْقَصْعَةِ، فَإِذَا هُمَا عَلَى حَالِهِمَا لَمْ يَتَغَيَّرِ الْعَصِيرُ وَالْخُبْزُ يَابِسٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَمْ يَتَسَنَّهْ يَعْنِي لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَكَذَلِكَ التِّينُ وَالْعِنَبُ غَضٌّ لَمْ يَتَغَيَّرْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَالِهِمَا، فَكَأَنَّهُ أَنْكَرَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: أَنْكَرْتَ مَا قُلْتُ لَكَ ؟ انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ. فَنَظَرَ فَإِذَا حِمَارُهُ قَدْ بَلِيَتْ عِظَامُهُ وَصَارَتْ نَخِرَةً، فَنَادَى الْمَلَكُ عِظَامَ الْحِمَارِ، فَأَجَابَتْ وَأَقْبَلَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ حَتَّى رَكَّبَهُ الْمَلَكُ، وَعُزَيْرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَلْبَسَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَ، ثُمَّ كَسَاهَا اللَّحْمَ، ثُمَّ أَنْبَتَ عَلَيْهَا الْجِلْدَ وَالشَّعْرَ، ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الْمَلَكُ، فَقَامَ الْحِمَارُ رَافِعًا رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، نَاهِقًا يَظُنُّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [ الْبَقَرَةِ: 259 ]. يَعْنِي انْظُرْ إِلَى عِظَامِ حِمَارِكَ كَيْفَ نُرَكِّبُ بَعْضَهَا بَعْضًا فِي أَوْصَالِهَا، حَتَّى إِذَا صَارَتْ عِظَامًا مُصَوَّرًا حِمَارًا بِلَا لَحْمٍ، ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ نَكْسُوهَا لَحْمًا، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَغَيْرِهِ. قَالَ: فَرَكِبَ حِمَارَهُ حَتَّى أَتَى مَحِلَّتَهُ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ، وَأَنْكَرَ النَّاسَ، وَأَنْكَرَ مَنَازِلَهُمْ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَهَمٍ مِنْهُ، حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ، فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، كَانَتْ أَمَةً لَهُمْ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ عُزَيْرٌ وَهِيَ بِنْتُ عِشْرِينَ سَنَةً، كَانَتْ عَرَفَتْهُ وَعَقَلَتْهُ، فَلَمَّا أَصَابَهَا الْكِبَرُ أَصَابَهَا الزَّمَانَةُ فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ: يَا هَذِهِ أَهَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ. فَبَكَتْ وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ يَذْكُرُ عُزَيْرًا وَقَدْ نَسِيَهُ
النَّاسُ. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ، كَانَ اللَّهُ أَمَاتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي. قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ! فَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ فَقَدْنَاهُ مُنْذُ مِائَةِ سَنَةٍ، فَلَمْ نَسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ. قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ. قَالَتْ: فَإِنَّ عُزَيْرًا رَجُلٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، يَدْعُو لِلْمَرِيضِ وَلِصَاحِبِ الْبَلَاءِ بِالْعَافِيَةِ وَالشِّفَاءِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي حَتَّى أَرَاكَ، فَإِنْ كُنْتَ عُزَيْرًا عَرَفْتُكَ. قَالَ: فَدَعَا رَبَّهُ وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى عَيْنَيْهَا فَصَحَّتَا وَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ: قُومِي بِإِذْنِ اللَّهِ. فَأَطْلَقَ اللَّهُ رِجْلَيْهَا، فَقَامَتْ صَحِيحَةً كَأَنَّمَا نَشِطَتْ مِنْ عِقَالٍ، فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عُزَيْرٌ وَانْطَلَقَتْ إِلَى مَحِلَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ، وَابْنٌ لِعُزَيْرٍ شَيْخٌ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وَثَمَانِي عَشْرَ سَنَةً وَبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ فِي الْمَجْلِسِ، فَنَادَتْهُمْ فَقَالَتْ: هَذَا عُزَيْرٌ قَدْ جَاءَكُمْ. فَكَذَّبُوهَا، فَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةٌ مَوْلَاتُكُمْ دَعَا لِي رَبَّهُ، فَرَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَأَطْلَقَ رِجْلَيَّ، وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ. قَالَ: فَنَهَضَ النَّاسُ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُهُ: كَانَ لِأَبِي شَامَةٌ سَوْدَاءُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عُزَيْرٌ فَقَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِينَا أَحَدٌ حَفِظَ التَّوْرَاةَ فِيمَا حُدِّثْنَا غَيْرُ عُزَيْرٍ وَقَدْ حَرَّقَ بُخْتُ نَصَّرَ التَّوْرَاةَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا مَا حَفِظَتِ الرِّجَالُ فَاكْتُبْهَا لَنَا. وَكَانَ أَبُوهُ سَرُوخَا قَدْ دَفَنَ التَّوْرَاةَ أَيَّامَ بُخْتُ نَصَّرَ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ غَيْرُ عُزَيْرٍ فَانْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَحَفَرَهُ فَاسْتَخْرَجَ التَّوْرَاةَ، وَكَانَ قَدْ عَفِنَ الْوَرَقُ، وَدَرَسَ الْكِتَابُ. قَالَ: وَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ حَوْلَهُ، فَجَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ،
وَنَزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ شِهَابَانِ، حَتَّى دَخَلَا جَوْفَهُ، فَتَذَكَّرَ التَّوْرَاةَ،
فَجَدَّدَهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. فَمِنْ ثَمَّ قَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ
ابْنُ اللَّهِ - جَلَّ اللَّهُ وَعَزَّ - لِلَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ
الشِّهَابَيْنِ وَتَجْدِيدِهِ التَّوْرَاةَ وَقِيَامِهِ بِأَمْرِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَكَانَ جَدَّدَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ بِأَرْضِ السَّوَادِ بِدَيْرِ
حَزْقِيلَ. وَالْقَرْيَةُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا يُقَالُ لَهَا: سَايْرَابَاذَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ يَعْنِي لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ
مَعَ بَنِيهِ وَهُمْ شُيُوخٌ وَهُوَ شَابٌّ ; لِأَنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَبَعَثَهُ اللَّهُ شَابًّا، كَهَيْئَةِ يَوْمَ مَاتَ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعِثَ بَعْدَ بُخْتُ نَصَّرَ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ.
وَقَدْ أَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ فِي مَعْنَى مَا قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ:
وَأَسْوَدُ رَأْسٍ شَابَ مِنْ قَبْلِهِ ابْنُهُ وَمِنْ قَبْلِهِ ابْنُ ابْنِهِ
فَهْوَ أَكْبَرُ يَرَى ابْنَ ابْنِهِ شَيْخًا يَدِبُّ عَلَى عَصَا
وَلِحْيَتُهُ سَوْدَاءُ وَالرَّأْسُ أَشْقَرُ وَمَا لِابْنِهِ حَيْلٌ وَلَا فَضْلُ
قُوَّةٍ
يَقُومُ كَمَا يَمْشِي الصَّبِيُّ فَيَعْثِرُ يُعَدَّ ابْنُهُ فِي النَّاسِ
تِسْعِينَ حِجَّةً
وَعِشْرِينَ لَا يَجْرِي وَلَا يَتَبَخْتَرُ وَعُمْرُ أَبْيهِ أَرْبَعُونَ
أَمَرَّهَا
وَلِابْنِ ابْنِهِ تِسْعُونَ فِي النَّاسِ غُبَّرُ فَمَا هُوَ فِي الْمَعْقُولِ
إِنْ كُنْتَ دَارِيًا
وَإِنَّ كُنْتَ لَا تَدْرِي فَبِالْجَهْلِ تُعْذَرُ
فَصْلُ
الْمَشْهُورُ أَنَّ عُزَيْرًا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَأَنَّهُ كَانَ فِيمَا بَيْنَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَبَيْنَ زَكَرِيَّا
وَيَحْيَى، وَأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ يَحْفَظُ
التَّوْرَاةَ أَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَهَا، فَسَرَدَهَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ، كَمَا قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَمَرَ اللَّهُ مَلَكًا
فَنَزَلَ بِمِغْرَفَةٍ مِنْ نُورٍ فَقَذَفَهَا فِي فِي عُزَيْرٍ فَنَسَخَ
التَّوْرَاةَ حَرْفًا بِحَرْفٍ، حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
سَلَامٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ
اللَّهِ [ التَّوْبَةِ: 30 ]. لِمَ قَالُوا ذَلِكَ ؟ فَذَكَرُ لَهُ ابْنُ سَلَامٍ
مَا كَانَ مِنْ كَتْبِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ مِنْ حِفْظِهِ،
وَقَوْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: لَمْ يَسْتَطِعْ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَنَا
بِالتَّوْرَاةِ إِلَّا فِي كِتَابٍ، وَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ جَاءَنَا بِهَا مِنْ
غَيْرِ كِتَابٍ. فَرَمَاهُ طَوَائِفُ مِنْهُمْ، وَقَالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ
اللَّهِ.
وَلِهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ تَوَاتُرَ التَّوْرَاةِ
انْقَطَعَ فِي زَمَنِ الْعُزَيْرِ. وَهَذَا مُتَّجِهٌ جِدًّا إِذَا كَانَ
الْعُزَيْزُ غَيْرَ نَبِيٍّ، كَمَا قَالَهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ،
وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، فِيمَا رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُقَاتِلِ
بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْ
عُثْمَانَ بْنِ
عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَمُقَاتِلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ، قَالَ: كَانَ فِي الْفَتْرَةِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ: بُخْتُ نَصَّرَ
وَجَنَّةُ صَنْعَاءَ، وَجَنَّةُ سَبَأٍ، وَأَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَأَمْرُ
حَاصُورَا، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَأَصْحَابُ الْفِيلِ، وَمَدِينَةُ
أَنْطَاكِيَةَ، وَأَمْرُ تُبَّعٍ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ أَمْرُ عُزَيْرٍ وَبُخْتُ نَصَّرَ فِي الْفَتْرَةِ. وَقَدْ
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا،
إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ
فِيمَا بَيْنَ سُلَيْمَانَ وَعِيسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَعَطَاءِ بْنِ
السَّائِبِ أَنَّ عُزَيْرًا كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَأَنَّهُ
اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ - يَعْنِي لِمَا كَانَ مِنْ سُؤَالِهِ
عَنِ الْقَدَرِ - وَأَنَّهُ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ: مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ
مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ. وَفِي مَعْنَى قَوْلِ عُزَيْرٍ: مِائَةُ مَوْتَةٍ أَهْوَنُ
مِنْ ذُلِّ سَاعَةٍ. قَوْلُ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ يَصْبِرُ الْحُرُّ عَلَى السَّيْفِ وَيَأْنَفُ الصَّبْرَ عَلَى الْحَيْفِ
وَيُؤْثِرُ الْمَوْتَ عَلَى حَالَةٍ
يَعْجَزُ فِيهَا عَنْ قِرَى الضَّيْفِ
فَأَمَّا مَا رَوَى
ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَوْفٍ الْبِكَالِيِّ
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ، مِنْ أَنَّهُ سَأَلَ عَنِ الْقَدَرِ،
فَمُحِيَ اسْمُهُ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ - فَهُوَ مُنْكَرٌ، وَفِي صِحَّتِهِ
نَظَرٌ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ
أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ قَالَ: قَالَ عُزَيْرٌ
فِيمَا يُنَاجِي رَبَّهُ: يَا رَبِّ، تَخْلُقُ خَلْقًا، فَتُضِلُّ مَنْ تَشَاءُ
وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. فَقِيلَ لَهُ: أَعْرِضْ عَنْ هَذَا. فَعَادَ فَقِيلَ
لَهُ: لَتُعْرِضَنَّ عَنْ هَذَا أَوْ لَأَمْحُوَنَّ اسْمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ،
إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَهَذَا يَقْتَضِي
وُقُوعَ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ لَوْ عَادَ، فَمَا عَادَ، فَمَا مُحِيَ اسْمُهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ سِوَى التِّرْمِذِيِّ، مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ
يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ شُعَيْبٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
نَزَلَ نَبِيٌّ
مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ، فَأَمَرَ بِجَهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً فَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ عُزَيْرٌ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ عُزَيْرٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ زَكَرِيَّا
وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي
وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ
رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي
عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قَالَ رَبِّ
أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ
الْكِبَرِ عِتِيًّا قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ
خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلٌ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ
آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ
صَبِيًّا وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا
بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [ مَرْيَمَ: 1 - 15 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ
وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ
دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً
طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا
بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي
عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي
آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [ آلِ
عِمْرَانَ: 37 - 41 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْأَنْبِيَاءِ ": وَزَكَرِيَّا إِذْ
نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 89، 90 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ
[ الْأَنْعَامِ: 85 ]. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي
كِتَابِهِ " التَّارِيخُ " الْمَشْهُورِ الْحَافِلِ: زَكَرِيَّا بْنُ
حَنَّا وَيُقَالُ: زَكَرِيَّا بْنُ دَانٍ، وَيُقَالُ: زَكَرِيَّا بْنُ أَدَنِ بْنِ
مُسْلِمِ بْنِ صَدُوقِ
بْنِ مَحْمَانَ
بْنِ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ صَدِيقَةَ بْنِ بِرْحِيَةَ بْنِ
مَلْقَاطْيَةَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ سَلُومَ بْنِ بَهَفَانْيَا بْنِ حَاشَ بْنِ
أَنِي بْنِ خَثْعَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، أَبُو يَحْيَى النَّبِيُّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، دَخَلَ الْبَثَنِيَّةَ مِنْ
أَعْمَالِ دِمَشْقَ فِي طَلَبِ ابْنِهِ يَحْيَى. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ
بِدِمَشْقَ حِينَ قُتِلَ ابْنُهُ يَحْيَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قِيلَ
غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. وَيُقَالُ فِيهِ: زَكَرِيَّاءُ بِالْمَدِّ
وَبِالْقَصْرِ. وَيُقَالُ: زَكَرِيٌّ أَيْضًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ يَقُصَّ عَلَى النَّاسِ خَبَرَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ وَهَبَهُ اللَّهُ وَلَدًا عَلَى الْكِبَرِ،
وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ عَاقِرًا فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا، وَقَدْ أَسَنَّتْ أَيْضًا
; حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَحَدٌ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَلَا يَقْنَطَ
مَنْ فَضْلِهِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ، فَقَالَ تَعَالَى: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ
عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ قَتَادَةُ عِنْدَ
تَفْسِيرِهَا: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْقَلْبَ النَّقِيَّ وَيَسْمَعُ الصَّوْتَ
الْخَفِيَّ وَقَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ: قَامَ
مِنَ اللَّيْلِ فَنَادَى رَبَّهُ مُنَادَاةً أَسَرَّهَا عَمَّنْ كَانَ حَاضِرًا
عِنْدَهُ ; مُخَافَتَةً فَقَالَ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ. فَقَالَ
اللَّهُ: لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي أَيْ: ضَعُفَ وَخَارَ مِنَ الْكِبَرِ. وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا
اسْتِعَارَةٌ مِنَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي الْحَطَبِ، أَيْ غَلَبَ عَلَى سَوَادِ
الشَّعْرِ شَيْبُهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ:
إِمَّا تَرَى رَأْسِي حَاكَى لَوْنُهُ طُرَّةَ صُبْحٍ تَحْتَ أَذْيَالِ الدُّجَى
وَاشْتَعَلَ الْمُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ
مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا وَآضَ رَوْضُ اللَّهْوِ يَبْسًا
ذَاوِيًا
مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ مَجَّاجَ الثَّرَى
يَذْكُرُ أَنَّ الضَّعْفَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا،
وَهَكَذَا قَالَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَقَوْلُهُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ
شَقِيًّا أَيْ: مَا عَوَّدْتَنِي فِيمَا أَسْأَلُكَ فِيهِ إِلَّا الْإِجَابَةَ.
وَكَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّهُ لَمَّا كَفَلَ
مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ بْنِ مَاثَانَ،
وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مِحْرَابَهَا وَجَدَ عِنْدَهَا فَاكِهَةً فِي غَيْرِ أَوَانِهَا، وَلَا فِي أَوَانِهَا، وَهَذِهِ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، فَعَلِمَ أَنَّ الرَّازِقَ لِلشَّيْءِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ طَعَنَ فِي سِنِّهِ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ وَقَوْلُهُ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَوَالِي الْعُصْبَةُ، وَكَأَنَّهُ خَافَ مِنْ تَصَرُّفِهِمْ بَعْدَهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا لَا يُوَافِقُ شَرْعَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ، فَسَأَلَ وُجُودَ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ يَكُونُ بَرًّا تَقِيًّا مَرْضِيًّا، وَلِهَذَا قَالَ: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ وَالْحُكْمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يَعْنِي كَمَا كَانَ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافُهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ أَنْبِيَاءَ، فَاجْعَلْهُ مِثْلَهُمْ فِي الْكَرَامَةِ الَّتِي أَكْرَمْتَهُمْ بِهَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وِرَاثَةَ الْمَالِ، كَمَا زَعَمَ ذَلِكَ مَنْ زَعَمَهُ مِنَ الشِّيعَةِ وَوَافَقَهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَحَكَاهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مِنَ السَّلَفِ ; لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا مَا قَدَّمْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ [ النَّمْلِ: 16 ]. أَيْ: فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، الْمَرْوِيِّ فِي
" الصِّحَاحِ " وَ " الْمَسَانِيدِ " وَ " السُّنَنِ " وَغَيْرِهَا، مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُورَثُ، وَلِهَذَا مَنَعَ الصِّدِّيقُ أَنْ يُصْرَفُ مَا كَانَ يَخْتَصُّ بِهِ فِي حَيَاتِهِ إِلَى أَحَدٍ مِنْ وُرَّاثِهِ الَّذِينَ لَوْلَا هَذَا النَّصُّ لَصُرَفَ إِلَيْهِمْ، وَهُمُ: ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ، وَأَزْوَاجُهُ التِّسْعُ، وَعَمُّهُ الْعَبَّاسُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ فِي مَنْعِهِ إِيَّاهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى رِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَآخَرُونَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ. الثَّانِي أَنَّ التِّرْمِذِيَّ رَوَاهُ بِلَفْظٍ يَعُمُّ سَائِرَ الْأَنْبِيَاءِ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ وَصَحَّحَهُ. الثَّالِثُ أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَنْ يَكْنِزُوا لَهَا أَوْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا أَوْ يُهِمَّهُمْ أَمْرُهَا، حَتَّى يَسْأَلُوا الْأَوْلَادَ لِيَحُوزُوهَا بَعْدَهُمْ ; فَإِنَّ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مَنَازِلِهِمْ فِي الزَّهَادَةِ لَا يَهْتَمُّ بِهَذَا الْمِقْدَارِ أَنْ يَسْأَلَ وَلَدًا يَكُونُ وَارِثًا لَهُ فِيهَا. الرَّابِعُ، أَنَّ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ نَجَّارًا يَعْمَلُ بِيَدِهِ، وَيَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهَا، كَمَا كَانَ دَاوُدُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَالْغَالِبُ - وَلَا سِيَّمَا مَنْ مِثْلُ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ - أَنَّهُ لَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الْعَمَلِ إِجْهَادًا يَسْتَفْضِلُ مِنْهُ مَالًا يَكُونُ ذَخِيرَةً لَهُ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ لِكُلِّ مِنْ تَأَمَّلَهُ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَهُّمٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي ابْنَ هَارُونَ - أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ زَكَرِيَّا نَجَّارًا وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. وَقَوْلُهُ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا وَهَذَا مُفَسَّرٌ بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَلَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَتَحَقَّقَ الْبِشَارَةَ، شَرَعَ يَسْتَعْلِمُ - عَلَى وَجْهِ التَّعَجُّبِ - وُجُودَ الْوَلَدِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَهُ: قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا أَيْ: كَيْفَ يُوجَدُ وَلَدٌ مِنْ شَيْخٍ كَبِيرٍ، قِيلَ: كَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعًا وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَالْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، أَنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا يَعْنِي، وَقَدْ كَانَتِ امْرَأَتِي فِي حَالِ شَبِيبَتِهَا عَاقِرًا لَا تَلِدُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ وَقَالَتْ سَارَّةُ: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [ هُودٍ: 72، 73 ]. وَهَكَذَا أُجِيبَ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ ; قَالَ لَهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي إِلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ: كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ: هَذَا سَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَيْهِ. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا أَيْ: قُدْرَتُهُ أَوْجَدَتْكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، أَفَلَا يُوجِدُ مِنْكَ
وَلَدًا وَإِنْ كُنْتَ شَيْخًا كَبِيرًا ؟! وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 90 ]. وَمَعْنَى إِصْلَاحِ زَوْجَتِهِ، أَنَّهَا كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَحَاضَتْ. وَقِيلَ: كَانَ فِي لِسَانِهَا شَيْءٌ ; أَيْ بَذَاءَةٌ. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أَيْ: عَلَامَةً عَلَى وَقْتَ تَعْلَقُ مِنِّي الْمَرْأَةُ بِهَذَا الْوَلَدِ الْمُبَشَّرِ بِهِ. قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا يَقُولُ: عَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَرِيَكَ سَكْتٌ، لَا تَنْطِقُ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ سَوِيُّ الْخَلْقِ، صَحِيحُ الْمِزَاجِ، مُعْتَدِلُ الْبِنْيَةِ. وَأُمِرَ بِكَثْرَةِ الذِّكْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِالْقَلْبِ، وَاسْتِحْضَارِ ذَلِكَ بِفُؤَادِهِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، فَلَمَّا بُشِّرَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ، خَرَجَ مَسْرُورًا بِهَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ مِحْرَابِهِ. فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَالْوَحْيُ هَاهُنَا هُوَ الْأَمْرُ الْخَفِيُّ ; إِمَّا بِكِتَابَةٍ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ أَوْ إِشَارَةٍ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ - أَيْضًا - وَوَهْبٌ، وَقَتَادَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَوَهُبٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ: اعْتُقِلَ لِسَانُهُ مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانَ يَقْرَأُ وَيُسَبِّحُ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُ كَلَامَ أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُجُودِ الْوَلَدِ وَفْقَ الْبِشَارَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِأَبِيهِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ
اللَّهَ عَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَهُوَ صَغِيرٌ فِي حَالِ صِبَاهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَالَ مَعْمَرٌ: قَالَ الصِّبْيَانُ لِيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا: اذْهَبْ بِنَا نَلْعَبُ. فَقَالَ: مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا. قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْحَنَانُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ: وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا أَيْ: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا رَحِمْنَا بِهَا زَكَرِيَّا، فَوَهَبْنَا لَهُ هَذَا الْوَلَدَ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: ( وَحَنَانًا ) أَيْ: مَحَبَّةً عَلَيْهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِتَحَنُّنِ يَحْيَى عَلَى النَّاسِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَبَوَيْهِ، وَهُوَ مَحَبَّتُهُمَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا، وَبِرُّهُ بِهِمَا. وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهُوَ طَهَارَةُ الْخُلُقِ وَسَلَامَتُهُ مِنَ النَّقَائِصِ وَالرَّذَائِلِ. وَالتَّقْوَى طَاعَةُ اللَّهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ بِرَّهُ بِوَالِدَيْهِ وَطَاعَتَهُ لَهُمَا أَمْرًا وَنَهْيًا، وَتَرْكَ عُقُوقِهِمَا قَوْلًا وَفِعْلًا، فَقَالَ: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ثُمَّ قَالَ: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا هَذِهِ الْأَوْقَاتُ الثَّلَاثَةُ أَشَدُّ مَا تَكُونُ عَلَى الْإِنْسَانِ ; فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ فِي كُلٍّ مِنْهَا، مِنْ عَالَمٍ إِلَى عَالَمٍ آخَرَ فَيَفْقِدُ الْأَوَّلَ بَعْدَ مَا كَانَ أَلِفَهُ وَعَرَفَهُ، وَيَصِيرُ إِلَى الْآخَرِ وَلَا يَدْرِي مَا بَيْنَ يَدَيْهِ ; وَلِهَذَا يَسْتَهِلُّ صَارِخًا إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِ الْأَحْشَاءِ وَفَارَقَ لِينَهَا وَضَمَّهَا، وَيَنْتَقِلُ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ لِيُكَابِدَ هُمُومَهَا وَغُمُومَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا فَارَقَ
هَذِهِ الدَّارَ،
وَانْتَقَلَ إِلَى عَالَمِ الْبَرْزَخِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دَارِ الْقَرَارِ،
وَصَارَ بَعْدَ الدُّورِ وَالْقُصُورِ، إِلَى عَرْصَةِ الْأَمْوَاتِ سُكَّانِ
الْقُبُورِ، وَانْتَظَرَ هُنَاكَ النَّفْخَةَ فِي الصُّوَرِ لِيَوْمِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ،
فَمِنْ مَسْرُورٍ وَمَحْبُورٍ، وَمِنْ مَحْزُونٍ وَمَثْبُورٍ، وَمَا بَيْنَ
جَبِيرٍ وَمَكْسُورٍ، وَفَرِيقٍ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٍ فِي السَّعِيرِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ حَيْثُ قَالَ:
وَلَدَتْكَ أُمُّكَ بَاكِيًا مُسْتَصْرِخًا وَالنَّاسُ حَوْلَكَ يَضْحَكُونَ
سُرَورًا
فَاحْرِصْ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ إِذَا بَكَوْا فِي يَومِ مَوْتِكَ ضَاحِكًا
مَسْرُورًا
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثَةُ أَشَقَّ مَا تَكُونُ عَلَى
ابْنِ آدَمَ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَى يَحْيَى فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مِنْهَا، فَقَالَ:
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ الْحَسَنَ قَالَ:
إِنْ يَحْيَى وَعِيسَى الْتَقَيَا فَقَالَ لَهُ عِيسَى: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ
خَيْرٌ مِنِّي. فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: اسْتَغْفِرْ لِي، أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي.
فَقَالَ لَهُ عِيسَى: أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ; سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي، وَسَلَّمَ
اللَّهُ عَلَيْكَ. فَعَرَفَ وَاللَّهِ فَضْلَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ
الْأُخْرَى: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ فَقِيلَ:
الْمُرَادُ بِالْحَصُورِ، الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَهُوَ أَشْبَهُ ; لِقَوْلِهِ: هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً.
وَقَدْ قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَنْبَأَنَا
عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ
وَلَدِ آدَمَ إِلَّا وَقَدْ أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَيْسَ يَحْيَى بْنُ
زَكَرِيَّا، وَمَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ
بْنِ مَتَّى عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ،
وَالدَّارَقُطْنِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَاصِمٍ الْعَبَّادَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ بِهِ مُطَوَّلًا ثُمَّ قَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ:
وَلَيْسَ عَلَى شَرْطِنَا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
أَصْحَابِهِ يَوْمًا وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ فَضْلَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ
قَائِلٌ: مُوسَى كَلِيمُ اللَّهِ. وَقَالَ قَائِلٌ: عِيسَى رُوحُ اللَّهِ
وَكَلِمَتُهُ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ. فَخَرَجَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ،
فَقَالَ: أَيْنَ الشَّهِيدُ، أَيْنَ الشَّهِيدُ يَلْبَسُ الْوَبَرَ، وَيَأْكُلُ
الشَّجَرَ، مَخَافَةَ
الذَّنْبِ قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ: يُرِيدُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا.
وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، حَدَّثَنِي ابْنُ
الْعَاصِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ، إِلَّا
مَا كَانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ،
وَهُوَ مِنَ الْمُدَلِّسِينَ، وَقَدْ عَنْعَنَ هَاهُنَا. ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، مُرْسَلًا. ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ عَسَاكِرَ سَاقَهُ مِنْ طَرِيقِ
أَبِي أُسَامَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ بِهِ.
ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَعْقُوبَ
الْجُوزْجَانِيِّ خَطِيبِ دِمَشْقَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ،
حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَا أَحَدٌ إِلَّا
يَلْقَى اللَّهَ بِذَنْبٍ، إِلَّا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا. ثُمَّ تَلَا:
وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ثُمَّ رَفَعَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ فَقَالَ: مَا كَانَ
مَعَهُ إِلَّا مِثْلُ هَذَا، ثُمَّ ذُبِحَ ذَبْحًا. وَهَذَا مَوْقُوفٌ مِنْ هَذِهِ
الطَّرِيقِ، وَكَوْنُهُ مَوْقُوفًا أَصَحُّ مِنْ رَفْعِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، مِنْ ذَلِكَ مَا
أَوْرَدَهُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ
بِشْرٍ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ سَاجٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ
مَعْدَانَ، عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِنَحْوِهِ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، وَغَيْرِهِ، عَنِ الْحَكَمِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ،
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْحَسَنُ
وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا ابْنَيِ الْخَالَةِ
يَحْيَى، وَعِيسَى عَلَيْهَا السَّلَامُ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
الْحَوَارِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: خَرَجَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا يَتَمَاشَيَانِ، فَصَدَمَ يَحْيَى امْرَأَةً، فَقَالَ
لَهُ عِيسَى: يَابْنَ خَالَةِ، لَقَدْ أَصَبْتَ الْيَوْمَ خَطِيئَةً، مَا أَظُنُّ
أَنْ يُغْفَرَ لَكَ أَبَدًا. قَالَ: وَمَا هِيَ يَابْنَ خَالَةِ ؟ قَالَ:
امْرَأَةٌ صَدَمْتَهَا. قَالَ: وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ بِهَا. قَالَ: سُبْحَانَ
اللَّهِ! بَدَنُكَ مَعِي، فَأَيْنَ رُوحُكَ ؟ قَالَ: مُعَلَّقٌ بِالْعَرْشِ،
وَلَوْ أَنَّ قَلْبِي اطْمَئَنَّ إِلَى جِبْرِيلَ، لَظَنَنْتُ أَنِّي مَا عَرَفْتُ
اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فِيهِ غَرَابَةٌ، وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: كَانَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا ابْنَيْ خَالَةٍ، وَكَانَ عِيسَى
يَلْبَسُ الصُّوفَ،
وَكَانَ يَحْيَى
يَلْبَسُ الْوَبَرَ، وَلَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ،
وَلَا عَبْدٌ وَلَا أَمَةٌ، وَلَا مَا يَأْوِيَانِ إِلَيْهِ، أَيْنَمَا جَنَّهُمَا
اللَّيْلُ أَوَيَا، فَلَمَّا أَرَادَا أَنْ يَتَفَرَّقَا قَالَ لَهُ يَحْيَى:
أَوْصِنِي. قَالَ: لَا تَغْضَبْ. قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ إِلَّا أَنْ أَغْضَبَ.
قَالَ: فَلَا تَقْتَنِ مَالًا. قَالَ: أَمَّا هَذِهِ فَعَسَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، هَلْ مَاتَ زَكَرِيَّا،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَوْتًا، أَوْ قُتِلَ قَتْلًا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ;
فَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ قَالَ: هَرَبَ مِنْ قَوْمِهِ، فَدَخَلَ شَجَرَةً
فَجَاءُوا فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَ الْمِنْشَارُ إِلَى
أَضْلَاعِهِ أَنَّ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لَئِنْ لَمْ يَسْكُنْ أَنِينُكَ
لَأَقْلِبَنَّ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا. فَسَكَنَ أَنِينُهُ حَتَّى قُطِعَ
بِاثْنَتَيْنِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ، سَنُورِدُهُ بَعْدُ
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ سِنَانٍ،
عَنْ وَهْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: الَّذِي انْصَدَعَتْ لَهُ الشَّجَرَةُ هُوَ
أَشْعِيَا، فَأَمَّا زَكَرِيَّا فَمَاتَ مَوْتًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا أَبُو خَلَفٍ مُوسَى
بْنُ خَلَفٍ، وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْبُدَلَاءِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ جَدِّهِ مَمْطُورٍ، عَنِ الْحَارِثِ
الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ
اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ يَعْمَلَ
بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ،
وَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ; فَإِمَّا أَنْ تُبْلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أَنَّ أُبَلِّغَهُنَّ. فَقَالَ: يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي. قَالَ: فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَقَعَدَ عَلَى الشَّرَفِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ ; أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ؟ وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ قِبَلَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا. وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ، كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَشَدُّوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: هَلْ لَكَمَ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ ؟ فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ. وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، كَثِيرًا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي إِثْرِهِ فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا، فَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ، اللَّهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ: بِالْجَمَاعَةِ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ،
وَالْهِجْرَةِ،
وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْجَمَاعَةِ قِيدَ
شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، إِلَّا أَنْ
يَرْجِعَ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ
جَهَنَّمَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ؟ قَالَ: وَإِنْ
صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، ادْعُوَا الْمُسْلِمِينَ
بِأَسْمَائِهِمْ، بِمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، الْمُسْلِمِينَ
الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبَانِ بْنِ
يَزِيدَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهِ.
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ،
وَمُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبَانِ بْنِ يَزِيدَ الْعَطَّارِ
بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
شُعَيْبِ بْنِ سَابُورَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَخِيهِ زَيْدِ بْنِ
سَلَامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ بِهِ. وَرَوَاهُ
الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَخِيهِ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ
مَرْوَانُ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ. قُلْتُ: وَلَيْسَ كَمَا
قَالَ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَةَ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ الرَّبِيعِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِي سَلَامٍ، عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، فَسَقَطَ ذِكْرُ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ. ثُمَّ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا سَمِعُوا مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا أُرْسِلَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ. وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ يَحْيَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ كَثِيرَ الِانْفِرَادِ مِنَ النَّاسِ، إِنَّمَا كَانَ يَأْنَسُ إِلَى الْبَرَارِي، وَيَأْكُلُ مِنْ وَرَقِ الْأَشْجَارِ، وَيَرِدُ مَاءَ الْأَنْهَارِ، وَيَتَغَذَّى بِالْجَرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَقُولُ: مَنْ أَنْعَمُ مِنْكَ يَا يَحْيَى. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، أَنَّ أَبَوَيْهِ خَرَجَا فِي تَطَلُّبِهِ، فَوَجَدَاهُ عِنْدَ بُحَيْرَةِ الْأُرْدُنِّ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا بِهِ أَبْكَاهُمَا بُكَاءً شَدِيدًا ; لِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانَ طَعَامُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الْعُشْبَ، وَإِنْ كَانَ لَيَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْقَارُ عَلَى عَيْنَيْهِ لَحَرَقَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَلَسْتُ يَوْمًا إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ وَهُوَ يَقُصُّ، فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا ؟ فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِ قَالَ: إِنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، كَانَ أَطْيَبَ النَّاسِ طَعَامًا ; إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الْوَحْشِ ; كَرَاهَةَ أَنْ يُخَالِطَ النَّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ، قَالَ: فَقَدَ زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُهُ فِي الْبَرِّيَّةِ، فَإِذَا هُوَ قَدِ احْتَفَرَ قَبْرًا وَأَقَامَ فِيهِ يَبْكِي عَلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَنَا أَطْلُبُكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَنْتَ فِي قَبْرٍ قَدِ احْتَفَرْتَهُ، قَائِمٌ تَبْكِي فِيهِ ؟! فَقَالَ: يَا أَبَتِ، أَلَسْتَ أَنْتَ أَخْبَرْتَنِي أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَفَازَةً لَا تُقْطَعُ إِلَّا بِدُمُوعِ الْبَكَّائِينَ ؟ فَقَالَ لَهُ: ابْكِ يَا بُنَيَّ. فَبَكَيَا جَمِيعًا. وَهَكَذَا حَكَاهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَمُجَاهِدٌ بِنَحْوِهِ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ لِلَذَّةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، فَكَذَا يَنْبَغِي لِلصِّدِّيقِينَ أَنْ لَا يَنَامُوا ; لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْمَحَبَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ قَالَ: كَمْ بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ وَكَمْ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، حَتَّى أَثَّرَ الْبُكَاءُ فِي خَدَّيْهِ مِنْ كَثْرَةِ دُمُوعِهِ.
بَيَانُ سَبَبِ
قَتْلِ يَحْيَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَذَكَرُوا فِي قَتْلِهِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً ; مِنْ أَشْهَرِهَا أَنَّ بَعْضَ
مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ بِدِمَشْقَ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِبَعْضِ
مَحَارِمِهِ، أَوْ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزْوِيجُهَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ ذَلِكَ، فَبَقِيَ فِي نَفْسِهَا مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَلِكِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا، اسْتَوْهَبَتْ مِنْهُ دَمَ يَحْيَى
فَوَهَبَهُ لَهَا فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ وَجَاءَ بِرَأْسِهِ وَدَمِهِ
فِي طَسْتٍ إِلَى عِنْدِهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهَا هَلَكَتْ مِنْ فَوْرِهَا
وَسَاعَتِهَا. وَقِيلَ: بَلْ أَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ ذَلِكَ الْمَلِكِ
وَرَاسَلَتْهُ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فَلَمَّا يَئِسَتْ مِنْهُ تَحَيَّلَتْ فِي أَنِ
اسْتَوْهَبَتْهُ مِنَ الْمَلِكِ، فَتَمَنَّعَ عَلَيْهَا الْمَلِكُ، ثُمَّ
أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، فَبَعَثَتْ مَنْ قَتَلَهُ وَأَحْضَرَ إِلَيْهَا رَأْسَهُ
وَدَمَهُ فِي طَسْتٍ.
وَقَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِهِ
" الْمُبْتَدَأُ " حَيْثُ قَالَ: أَنْبَأَنَا يَعْقُوبٌ الْكُوفِيُّ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ رَأَى
زَكَرِيَّا فِي السَّمَاءِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا يَحْيَى،
خَبِّرْنِي عَنْ قَتْلِكَ ; كَيْفَ كَانَ ؟ وَلِمَ قَتَلَكَ بَنُو
إِسْرَائِيلَ ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أُخْبِرُكَ أَنَّ يَحْيَى كَانَ خَيْرَ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ أَجْمَلَهُمْ، وَأَصْبَحَهُمْ وَجْهًا، وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَيِّدًا وَحَصُورًا وَكَانَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّسَاءِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةُ مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَانَتْ بَغِيَّةً، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ، وَعَصَمَهُ اللَّهُ، وَامْتَنَعَ يَحْيَى وَأَبَى عَلَيْهَا، وَأَجْمَعَتْ عَلَى قَتْلِ يَحْيَى، وَلَهُمْ عِيدٌ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ عَامٍ، وَكَانَتْ سُنَّةُ الْمَلِكَ أَنْ يُوعِدَ وَلَا يُخْلِفَ وَلَا يَكْذِبَ. قَالَ: فَخَرَجَ الْمَلِكُ إِلَى الْعِيدِ فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ فَشَيَّعَتْهُ، وَكَانَ بِهَا مُعْجَبًا، وَلَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ فِيمَا مَضَى، فَلَمَّا أَنْ شَيَّعَتْهُ قَالَ الْمَلِكُ: سَلِينِي، فَمَا سَأَلْتِنِي شَيْئًا إِلَّا أَعْطَيْتُكِ. قَالَتْ: أُرِيدُ دَمَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. قَالَ لَهَا: سَلِينِي غَيْرَهُ. قَالَتْ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: هُوَ لَكِ. قَالَ: فَبَعَثَتْ جَلَاوِزَتَهَا إِلَى يَحْيَى، وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي، وَأَنَا إِلَى جَانِبِهِ أُصَلِّي. قَالَ: فَذُبِحَ فِي طَسْتٍ وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَدَمُهُ إِلَيْهَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَا بَلَغَ مِنْ صَبْرِكَ ؟ قَالَ: مَا انْفَتَلْتُ مِنْ صَلَاتِي. قَالَ: فَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُهُ إِلَيْهَا، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَلَمَّا أَمْسَوْا خَسَفَ اللَّهُ بِالْمَلِكِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَحَشَمِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: قَدْ غَضِبَ إِلَهُ زَكَرِيَّا لِزَكَرِيَّا، فَتَعَالَوْا حَتَّى نَغْضَبَ لِمَلِكِنَا، فَنَقْتُلَ زَكَرِيَّا. قَالَ: فَخَرَجُوا فِي طَلَبِي لِيَقْتُلُونِي، وَجَاءَنِي النَّذِيرُ فَهَرَبْتُ مِنْهُمْ، وَإِبْلِيسُ أَمَامَهُمْ يَدُلُّهُمْ عَلَيَّ، فَلَمَّا تَخَوَّفْتُ أَنْ لَا أُعْجِزَهُمْ، عَرَضَتْ لِي شَجَرَةٌ فَنَادَتْنِي وَقَالَتْ: إِلَيَّ إِلَيَّ. وَانْصَدَعَتْ لِي فَدَخَلْتُ فِيهَا. قَالَ: وَجَاءَ إِبْلِيسُ حَتَّى أَخَذَ بِطَرَفِ رِدَائِي، وَالْتَأَمَتِ الشَّجَرَةُ، وَبَقِيَ طَرَفُ رِدَائِي
خَارِجًا مِنَ
الشَّجَرَةِ، وَجَاءَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَقَالَ إِبْلِيسُ: أَمَا
رَأَيْتُمُوهُ دَخَلَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ ؟ هَذَا طَرَفُ رِدَائِهِ، دَخَلَهَا
بِسِحْرِهِ. فَقَالُوا: نُحَرِّقُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ. فَقَالَ إِبْلِيسُ:
شُقُّوهُ بِالْمِنْشَارِ شَقًّا. قَالَ: فَشُقِقْتُ مَعَ الشَّجَرَةِ
بِالْمِنْشَارِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ
وَجَدْتَ لَهُ مَسًّا أَوْ وَجَعًا ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا وَجَدَتْ ذَلِكَ
الشَّجَرَةُ جَعَلَ اللَّهُ رُوحِي فِيهَا. هَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَحَدِيثٌ
عَجِيبٌ، وَرَفْعُهُ مُنْكَرٌ، وَفِيهِ مَا يُنْكَرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَمْ
نَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ ذِكْرًا لِزَكَرِيَّا، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ فِي بَعْضِ
أَلْفَاظِ " الصَّحِيحِ " فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: فَمَرَرْتُ
بِابْنَيِ الْخَالَةِ: يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا الْخَالَةِ عَلَى قَوْلِ
الْجُمْهُورِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ ; فَإِنَّ أُمَّ يَحْيَى أَشْيَاعُ
بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ. وَقِيلَ: بَلْ أَشْيَاعُ،
وَهِيَ امْرَأَةُ زَكَرِيَّا أُمُّ يَحْيَى هِيَ أُخْتُ حَنَّةَ امْرَأَةِ
عِمْرَانَ أَمِّ مَرْيَمَ، فَيَكُونُ يَحْيَى ابْنَ خَالَةِ مَرْيَمَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي مَقْتَلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، هَلْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى أَمْ بِغَيْرِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ; فَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: قُتِلَ عَلَى الصَّخْرَةِ
الَّتِي بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعُونَ نَبِيًّا، مِنْهُمْ يَحْيَى بْنُ
زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ
سَلَامٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: قَدِمَ
بُخْتُ نَصَّرَ
دِمَشْقَ فَإِذَا هُوَ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا يَغْلِي، فَسَأَلَ عَنْهُ
فَأَخْبَرُوهُ، فَقَتَلَ عَلَى دَمِهِ سَبْعِينَ أَلْفًا، فَسَكَنَ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ
قُتِلَ بِدِمَشْقَ، وَأَنَّ قِصَّةَ بُخْتُ نَصَّرَ كَانَتْ بَعْدَ الْمَسِيحِ،
كَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
زَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا حِينَ
أَرَادُوا بِنَاءَ مَسْجِدِ دِمَشْقَ، أُخْرِجَ مِنْ تَحْتِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ
الْقِبْلَةِ، الَّذِي يَلِي الْمِحْرَابَ، مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ، فَكَانَتِ
الْبَشَرَةُ وَالشَّعْرُ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ. وَفِي رِوَايَةٍ:
كَأَنَّمَا قُتِلَ السَّاعَةَ. وَذُكِرَ فِي بِنَاءِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ، أَنَّهُ
جُعِلَ تَحْتَ الْعَمُودِ الْمَعْرُوفِ بِعَمُودِ السَّكَاسِكَةِ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " الْمُسْتَقْصَى فِي فَضَائِلِ
الْأَقْصَى " مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ صُبْحٍ، عَنْ مَرْوَانَ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ قُسَيْمٍ مَوْلَى مُعَاوِيَةَ، قَالَ: كَانَ
مَلِكُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ - يَعْنِي دِمَشْقَ - هَدَادَ
ابْنَ هَدَادٍ، وَكَانَ قَدْ زَوَّجَ ابْنَهُ بِابْنَةِ أَخِيهِ أَرِيلَ، مَلِكَةِ صَيْدَا. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْلَاكِهَا سُوقُ الْمُلُوكِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ الصَّاغَةُ الْعَتِيقَةُ. قَالَ: وَكَانَ قَدْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّهُ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهَا، فَاسْتَفْتَى يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، فَقَالَ: لَا تَحِلُّ لَكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ. فَحَقَدَتْ عَلَيْهِ وَسَأَلَتْ مِنَ الْمَلِكِ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أُمِّهَا، فَأَبَى عَلَيْهَا، ثُمَّ أَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي بِمَسْجِدِ جَيْرُونَ مَنْ أَتَاهُ بِرَأْسِهِ فِي صِينِيَّةٍ، فَجَعَلَ الرَّأْسَ يَقُولُ: لَا تَحِلُّ لَهُ، لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. فَأَخَذَتِ الْمَرْأَةُ الطَّبَقَ، فَحَمَلَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا وَأَتَتْ بِهِ أُمَّهَا، وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ، فَلَمَّا تَمَثَّلَتْ بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهَا خُسِفَ بِهَا إِلَى قَدَمَيْهَا ثُمَّ إِلَى حَقْوَيْهَا، وَجَعَلَتْ أُمُّهَا تُوَلْوِلُ وَالْجَوَارِي يَصْرُخْنَ وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ، ثُمَّ خُسِفَ بِهَا إِلَى مَنْكِبَيْهَا، فَأَمَرَتْ أُمُّهَا السَّيَّافَ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهَا لِتَتَسَلَّى بِرَأْسِهَا، فَفَعَلَ، فَلَفَظَتِ الْأَرْضُ جُثَّتَهَا عِنْدَ ذَلِكَ، وَوَقَعُوا فِي الذُّلِّ وَالْفَنَاءِ، وَلَمْ يَزَلْ دَمُ يَحْيَى يَفُورُ حَتَّى قَدِمَ بُخْتُ نَصَّرَ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ أَلْفًا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَهِيَ دَمُ كُلِّ نَبِيٍّ. وَلَمْ يَزَلْ يَفُورُ، حَتَّى وَقَفَ عِنْدَهُ أَرْمِيَا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: أَيُّهَا الدَّمُ أَفْنَيْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَاسْكُنْ بِإِذْنِ اللَّهِ. فَسَكَنَ، فَرُفِعَ السَّيْفُ وَهَرَبَ مَنْ هَرَبَ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَتَبِعَهُمْ إِلَيْهَا، فَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَسَبَا مِنْهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ.
قِصَّةُ عِيسَى
بْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ "، الَّتِي
أُنْزِلَ صَدْرُهَا، وَهُوَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ آيَةً مِنْهَا، فِي الرَّدِّ
عَلَى النَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ
لِلَّهِ وَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَكَانَ
قَدْ قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ،
مِنَ التَّثْلِيثِ فِي الْأَقَانِيمِ، وَيَدَّعُونَ - بِزَعْمِهِمْ - أَنَّ
اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ; وَهُمُ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ، وَعِيسَى،
وَمَرْيَمُ، عَلَى اخْتِلَافِ فِرَقِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ،
صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ بَيَّنَ فِيهَا، أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ
اللَّهِ، خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فِي الرَّحِمِ، كَمَا صَوَّرَ غَيْرَهُ مِنَ
الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ
غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ وَقَالَ لَهُ: كُنْ. فَكَانَ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَصْلَ
مِيلَادِ أُمِّهِ مَرْيَمَ، وَكَيْفَ كَانَ مِنْ أَمْرِهَا، وَكَيْفَ حَمَلَتْ
بِوَلَدِهَا عِيسَى، وَكَذَلِكَ بَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ "
كَمَا سَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ
وَهِدَايَتِهِ، فَقَالَ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ
امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ
رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ
الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ
وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ
حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ
عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ
أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ
يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ آلِ عِمْرَانَ: 33 - 37 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ اصْطَفَى آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْخُلَّصَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الْمُتَّبِعِينَ شَرْعَهُ الْمُلَازِمِينَ طَاعَتَهُ، ثُمَّ خَصَّصَ فَقَالَ: وَآلَ إِبْرَاهِيمَ، فَدَخَلَ فِيهِمْ بَنُو إِسْمَاعِيلَ، وَبَنُو إِسْحَاقَ. ثُمَّ ذَكَرَ فَضْلَ هَذَا الْبَيْتِ الطَّاهِرِ الطَّيِّبِ، وَهُمْ آلُ عِمْرَانَ، وَالْمُرَادُ بِعِمْرَانَ هَذَا وَالِدُ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ عِمْرَانُ بْنُ بَاشِمَ بْنُ أَمُونَ بْنِ مَنْشَا بْنِ حِزْقِيَا بْنِ أَحْزِيقَ بْنِ مَوْثِمَ بْنِ عَزَارْيَا بْنِ أَمْصِيَا بْنِ يَاوِشَ بْنِ أَحْزِيهُو بْنُ يَارِمَ بْنُ يَهْفَاشَاطَ بْنِ أَيْشِ بْنِ أَبَانَ بْنِ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ.
وَقَالَ أَبُو
الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ مَاتَانَ بْنِ
الَيعَازِرَ بْنِ الْيُودِ بْنِ أَجْبَنَ بْنِ صَادُوقَ بْنِ عَيَازُورَ بْنِ
الْيَاقِيمِ بْنِ أَيْبُودَ بْنِ زَرْبَائِيلَ بْنِ شَالْتَانِ بْنِ يُوحِنْيَا
بْنِ بِرِسْتِيَا بْنِ آمُونَ بْنِ مِيشَا بْنِ حَزْقِيلَ بْنِ أَجَازَ بْنِ يُوثَامَ
بْنِ عَزِرْيَا بْنِ بُورَامَ بْنِ بُوسَافَاطَ بْنِ أَسَا بْنِ أَبْيَا بْنِ
رَخِيعَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَفِيهِ
مُخَالَفَةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا
مِنْ سُلَالَةِ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ أَبُوهَا عِمْرَانُ صَاحِبَ
صَلَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهَا، وَهِيَ حَنَّةُ
بِنْتُ فَاقُودَ بْنِ قُبَيْلَ، مِنَ الْعَابِدَاتِ، وَكَانَ زَكَرِيَّا نَبِيُّ
ذَلِكَ الزَّمَانِ زَوْجَ أُخْتِ مَرْيَمَ أَشْيَاعَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ،
وَقِيلَ: زَوْجُ خَالَتِهَا أَشْيَاعَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أُمَّ مَرْيَمَ كَانَتْ
لَا تَحْبَلُ، فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يَزُقُّ فَرْخًا لَهُ،
فَاشْتَهَتِ الْوَلَدَ، فَنَذَرَتْ لِلَّهِ إِنْ حَمَلَتْ لَتَجْعَلَنَّ وَلَدَهَا مُحَرَّرًا ; أَيْ حَبِيسًا فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: فَحَاضَتْ مِنْ فَوْرِهَا، فَلَمَّا طَهُرَتْ وَاقَعَهَا بَعْلُهَا، فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَقُرِئَ بِضَمِّ التَّاءِ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى أَيْ: فِي خِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يَنْذِرُونَ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ خُدَّامًا مِنْ أَوْلَادِهِمْ. وَقَوْلُهَا: وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمَوْلُودِ يَوْمَ يُولَدُ، وَكَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَنَسٍ فِي ذَهَابِهِ بِأَخِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَنَّكَ أَخَاهُ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَجَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: وَ " يُدَمَّى " بَدَلَ: وَ " يُسَمَّى ". وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهَا: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ قَدِ اسْتُجِيبَ لَهَا فِي هَذَا، كَمَا تُقُبِّلَ مِنْهَا نَذْرُهَا ; فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرْجِ، عَنْ بَقِيَّةَ، عَنِ
الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ عَجْلَانَ مَوْلَى الْمُشْمَعِلِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ
بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ بِأُصْبُعِهِ، إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ
عِمْرَانَ، وَابْنَهَا عِيسَى. تَفَرَّدَ بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ
مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَيْثَمٌ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ
الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ يَلْكُزُهُ
الشَّيْطَانُ بِحِضْنَيْهِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ وَابْنِهَا، أَلَمْ
تَرَ إِلَى الصَّبِيِّ حِينَ يَسْقُطُ كَيْفَ يَصْرُخُ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا
رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ بِحِضْنَيْهِ
وَهَذَا عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَاهُ قَيْسٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ
الشَّيْطَانُ عَصْرَةً أَوْ عَصْرَتَيْنِ ; إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ،
وَمَرْيَمَ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَكَذَا
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، بِأَصْلِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا
الْمُغِيرَةُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ،
عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبِهِ
حِينَ يُولَدُ، إِلَّا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ، فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ
وَهَذَا عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحَيْنِ "، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ. وَقَوْلُهُ: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ
وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ أُمَّهَا حِينَ وَضَعَتْهَا، لَفَّتْهَا فِي خُرُوقِهَا
ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَلَّمَتْهَا إِلَى الْعُبَّادِ
الَّذِينَ هُمْ مُقِيمُونَ بِهِ، وَكَانَتِ ابْنَةَ إِمَامِهِمْ وَصَاحِبِ
صَلَاتِهِمْ، فَتَنَازَعُوا فِيهَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا إِنَّمَا سَلَّمَتْهَا
إِلَيْهِمْ بَعْدَ رَضَاعِهَا وَكَفَالَةِ مِثْلِهَا فِي صِغَرِهَا، ثُمَّ لَمَّا
دَفَعَتْهَا إِلَيْهِمْ تَنَازَعُوا فِي أَيِّهِمْ يَكْفُلُهَا، وَكَانَ
زَكَرِيَّا نَبِيَّهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِدَّ
بِهَا دُونَهُمْ ; مِنْ أَجْلِ أَنَّ زَوْجَتَهُ أُخْتُهَا أَوْ خَالَتُهَا، عَلَى
الْقَوْلَيْنِ، فَشَاحُّوهُ فِي ذَلِكَ، وَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعَ مَعَهُمْ،
فَسَاعَدَتْهُ الْمَقَادِيرُ، فَخَرَجَتْ قُرْعَتُهُ غَالِبَةً
لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا أَيْ: بِسَبَبِ غَلَبِهِ
لَهُمْ فِي الْقُرْعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ
نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ آلِ
عِمْرَانَ: 44 ]. قَالُوا: وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ أَلْقَى قَلَمَهُ
مَعْرُوفًا بِهِ، ثُمَّ حَمَلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي مَوْضِعٍ، وَأَمَرُوا
غُلَامًا لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، فَأَخْرَجَ وَاحِدًا مِنْهَا، وَظَهَرَ قَلَمُ
زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَطَلَبُوا أَنْ يَقْتَرِعُوا مَرَّةً
ثَانِيَةً، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِأَنْ يُلْقُوا أَقْلَامَهُمْ فِي النَّهْرِ،
فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ الْمَاءِ فَهُوَ الْغَالِبُ،
فَفَعَلُوا، فَكَانَ قَلَمُ زَكَرِيَّا هُوَ الَّذِي جَرَى عَلَى خِلَافِ جَرْيَةِ
الْمَاءِ، وَسَارَتْ أَقْلَامُهُمْ مَعَ الْمَاءِ، ثُمَّ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ
يَقْتَرِعُوا ثَالِثَةً، فَأَيُّهُمْ جَرَى قَلَمُهُ مَعَ الْمَاءِ، وَتَكُونُ
بَقِيَّةُ الْأَقْلَامِ قَدِ انْعَكَسَ سَيْرُهَا صُعُدًا ; فَهُوَ الْغَالِبُ،
فَفَعَلُوا، فَكَانَ زَكَرِيَّا هُوَ الْغَالِبَ لَهُمْ، فَكَفَلَهَا إِذْ كَانَ
أَحَقَّ بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا ; لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا
قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: اتَّخَذَ
لَهَا زَكَرِيَّا مَكَانًا شَرِيفًا مِنَ الْمَسْجِدِ، لَا يَدْخُلُهُ سِوَاهَا،
فَكَانَتْ تَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، وَتَقُومُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْ
سَدَانَةِ الْبَيْتِ إِذَا جَاءَتْ نَوْبَتُهَا، وَتَقُومُ بِالْعِبَادَةِ
لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا، حَتَّى صَارَتْ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ بِعِبَادَتِهَا
فِي==
ج4. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَاشْتَهَرَتْ بِمَا ظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ
الْكَرِيمَةِ، وَالصِّفَاتِ الشَّرِيفَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ
زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا مَوْضِعَ عِبَادَتِهَا، يَجِدُ عِنْدَهَا
رِزْقًا غَرِيبًا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، فَكَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ
الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ، فَيَسْأَلُهَا:
أَنَّى لَكِ هَذَا فَتَقُولُ: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَيْ: رِزْقٌ رَزَقَنِيهِ
اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ
وَهُنَالِكَ طَمِعَ زَكَرِيَّا فِي وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ صُلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ
قَدْ أَسَنَّ وَكَبِرَ. قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً
إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ قَالَ بَعْضُهُمْ: قَالَ: يَا مَنْ يَرْزُقُ مَرْيَمَ
الثَّمَرَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ، هَبْ لِي وَلَدًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ
أَوَانِهِ. فَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ وَقَضِيَّتِهِ، مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي
قِصَّتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَامَرْيَمُ
اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ذَلِكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ
أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي
الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي
وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ
جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ
وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ [ آلِ عِمْرَانَ: 42 -
51 ].
يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَشَّرَتْ مَرْيَمَ بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ
لَهَا، مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نِسَاءِ عَالَمِي زَمَانِهَا، بِأَنِ اخْتَارَهَا
لِإِيجَادِ وَلَدٍ مِنْهَا، مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَبُشِّرَتْ بِأَنْ يَكُونَ
نَبِيًّا شَرِيفًا وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أَيْ: فِي صِغَرِهِ،
يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَكَذَلِكَ فِي
حَالِ كُهُولَتِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَبْلُغُ الْكُهُولَةَ، وَيَدْعُو إِلَى
اللَّهِ فِيهَا، وَأُمِرَتْ بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالْقُنُوتِ وَالسُّجُودِ
وَالرُّكُوعِ ; لِتَكُونَ أَهْلًا لِهَذِهِ الْكَرَامَةِ، وَلِتَقُومَ بِشُكْرِ
هَذِهِ النِّعْمَةِ. فَيُقَالُ: إِنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى
تَفَطَّرَتْ قَدَمَاهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَرَحِمَهَا، وَرَحِمَ أُمَّهَا
وَأَبَاهَا. فَقَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ أَيِ
اخْتَارَكِ وَاجْتَبَاكِ. ( وَطَهَّرَكِ ) أَيْ: مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ،
وَأَعْطَاكِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ.
وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
عَالَمِي زَمَانِهَا، كَقَوْلِهِ لِمُوسَى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
وَكَقَوْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى
الْعَالَمِينَ [ الدُّخَانِ: 32 ]. وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَفْضَلُ
مِنْهُمَا،
وَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا،
وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَفْضَلُ عِلْمًا، وَأَزْكَى عَمَلًا، مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَاصْطَفَاكِ
عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ مَحْفُوظَ الْعُمُومِ ; فَتَكُونَ أَفْضَلَ نِسَاءِ
الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَوُجِدَ بَعْدَهَا ; لِأَنَّهَا إِنْ
كَانَتْ نَبِيَّةً، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِنُبُوَّتِهَا وَنُبُوَّةِ
سَارَّةَ أُمِّ إِسْحَاقَ، وَنُبُوَّةِ أُمِّ مُوسَى، مُحْتَجًّا بِكَلَامِ
الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ إِلَى أُمِّ مُوسَى، كَمَا يَزْعُمُ ذَلِكَ ابْنُ
حَزْمٍ وَغَيْرُهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ أَفْضَلَ
مِنْ سَارَّةَ وَأُمِّ مُوسَى ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ إِذْ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا
عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، كَمَا قَدْ حَكَاهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، مِنْ أَنَّ النُّبُوَّةَ
مُخْتَصَّةٌ بِالرِّجَالِ، وَلَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، فَيَكُونُ أَعْلَى
مَقَامَاتِ مَرْيَمَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ [ الْمَائِدَةِ: 75 ]. فَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ
أَفْضَلَ الصِّدِّيقَاتِ الْمَشْهُورَاتِ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهَا، وَمِمَّنْ يَكُونُ
بَعْدَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهَا مَقْرُونًا مَعَ آسِيَةَ
بِنْتِ مُزَاحِمٍ، وَخَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَأَرْضَاهُنَّ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ،
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ،
مِنْ طُرُقٍ
عَدِيدَةٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ
بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا
مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ بِأَرْبَعٍ ;
مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ، وَصَحَّحَهُ.
وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ
الرَّازِيِّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ تَمِيمِ بْنِ زِيَادٍ، كِلَاهُمَا
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
أَرْبَعٌ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ،
وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: كَانَ أَبُو
هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
خَيْرُ نِسَاءٍ
رَكِبْنَ
الْإِبِلَ، صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ،
وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَمْ تَرْكَبْ
مَرْيَمُ بَعِيرًا قَطُّ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ "،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ
عَلِيٍّ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ
الْإِبِلَ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْأَفُهُ
بِزَوْجٍ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَدْ عَلِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ابْنَةَ عِمْرَانَ لَمْ
تَرْكَبِ الْإِبِلَ. تَفَرَّدَ بِهِ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ " الصَّحِيحِ
". وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا يُونُسُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْبَاءَ بْنِ
أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
خَطَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَ خُطُوطٍ
فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَا ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ،
وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي دَاوُدَ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَاتِمٍ
الْعَسْكَرِيُّ، نَبَّأَنَا بِشْرُ بْنُ مِهْرَانَ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ، سَيِّدَاتُ نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ: فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ،
وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ،
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِفَاطِمَةَ:
أَرَأَيْتِ حِينَ أَكْبَبْتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَبَكَيْتِ، ثُمَّ ضَحِكْتِ ؟
قَالَتْ:
أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَيِّتٌ مِنْ وَجَعِهِ هَذَا فَبَكَيْتُ، ثُمَّ أَكْبَبْتُ
عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَسْرَعُ أَهْلِهِ لُحُوقًا بِهِ، وَأَنِّي
سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، إِلَّا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ،
فَضَحِكْتُ. وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي " الصَّحِيحِ ". وَهَذَا
إِسْنَادٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ أَنَّهُمَا أَفْضَلُ الْأَرْبَعِ
الْمَذْكُورَاتِ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ،
وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ
حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْيَمَ وَفَاطِمَةَ أَفْضَلُ
هَذِهِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ
أَفْضَلَ مِنْ فَاطِمَةَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا عَلَى
السَّوَاءِ فِي
الْفَضِيلَةِ ; لَكِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ، إِنْ صَحَّ عَيَّنَ الِاحْتِمَالَ
الْأَوَّلَ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَخْبَرَنَا
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو غَالِبٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ،
ابْنَا الْبَنَّا، قَالُوا: أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ،
أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ،
حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ، هُوَ ابْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَرْيَمُ بِنْتُ
عِمْرَانَ، ثُمَّ فَاطِمَةُ، ثُمَّ خَدِيجَةُ، ثُمَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ
فَإِنْ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ مَحْفُوظًا بِ " ثُمَّ " الَّتِي
لِلتَّرْتِيبِ، فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ اللَّذَيْنِ دَلَّ
عَلَيْهِمَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَيُقَدَّمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَلْفَاظِ
الَّتِي وَرَدَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، الَّتِي لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا
تَنْفِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، عَنْ دَاوُدَ
الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ
الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، فَذَكَرَهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ لَا بِ " ثُمَّ "
التَّرْتِيبِيَّةِ، فَخَالَفَهُ إِسْنَادًا وَمَتْنًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ،
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ
يَكْمُلْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا ثَلَاثٌ ; مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ،
كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ.
وَهَكَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، إِلَّا أَبَا دَاوُدَ، مِنْ
طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ،
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ،
وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ
الطَّعَامِ فَإِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى، اتَّفَقَ الشَّيْخَانِ عَلَى
إِخْرَاجِهِ، وَلَفْظُهُ يَقْتَضِي حَصْرَ الْكَمَالِ فِي النِّسَاءِ فِي مَرْيَمَ
وَآسِيَةَ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا، فَإِنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا كَفَلَتْ نَبِيًّا فِي حَالِ صِغَرِهِ، فَآسِيَةُ كَفَلَتْ مُوسَى
الْكَلِيمَ، وَمَرْيَمُ كَفَلَتْ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا
يَنْفِي كَمَالَ غَيْرِهِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَخَدِيجَةَ وَفَاطِمَةَ ;
فَخَدِيجَةُ خَدَمَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ
الْبَعْثَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَبَعْدَهَا أَزْيَدَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ،
وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
وَأَرْضَاهَا، وَأَمَّا فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَإِنَّهَا خُصَّتْ بِمَزِيدِ فَضِيلَةٍ عَلَى أَخَوَاتِهَا ;
لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَبَقِيَّةُ أَخَوَاتِهَا مِتْنَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَمَّا عَائِشَةُ ; فَإِنَّهَا كَانَتْ أَحَبَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِكْرًا
غَيْرَهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي سَائِرِ النِّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ
وَلَا فِي غَيْرِهَا، أَعْلَمُ مِنْهَا وَلَا أَفْهَمُ، وَقَدْ غَارَ اللَّهُ
لَهَا حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَأَنْزَلَ بَرَاءَتَهَا
مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَدْ
عُمِّرَتْ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ
سَنَةً، تُبَلِّغُ عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، وَتُفْتِي الْمُسْلِمِينَ
وَتُصْلِحُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، وَهِيَ أَشْرَفُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ،
حَتَّى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ أُمِّ الْبَنَاتِ وَالْبَنِينَ، فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ
مِنَ الْعُلَمَاءِ السَّابِقِينَ وَاللَّاحِقِينَ، وَالْأَحْسَنُ الْوَقْفُ
فِيهِمَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ، كَفَضْلِ
الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهِنَّ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَدَا الْمَذْكُورَاتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا ذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ،
عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ طَهَّرَهَا وَاصْطَفَاهَا عَلَى نِسَاءِ
عَالَمِي زَمَانِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلُهَا عَلَى النِّسَاءِ
مُطْلَقًا، كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهَا تَكُونُ مِنْ
أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ، هِيَ
وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ "
عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَاسْتَأْنَسَ بِقَوْلِهِ:
ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا [ التَّحْرِيمِ: 5 ]. قَالَ: فَالثَّيِّبُ آسِيَةُ،
وَمِنَ الْأَبْكَارِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ
سُورَةِ " التَّحْرِيمِ ". فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاجِيَةَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمِّيَ
الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ نُفَيْعٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ
جُنَادَةَ هُوَ
الْعَوْفِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَامْرَأَةَ
فِرْعَوْنَ، وَأُخْتَ مُوسَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ النُّورِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَشْعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ
عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى رَوَاهُ ابْنُ
جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ النُّورِ بِهِ، وَزَادَ: فَقُلْتُ:
هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَلَيْسَ
بِمَحْفُوظٍ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ
يَعْلَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي مَرَضِهَا
الَّذِي تُوُفِّيَتْ فِيهِ، فَقَالَ لَهَا: بِالْكُرْهِ مِنِّي مَا أَرَى مِنْكِ
يَا خَدِيجَةُ، وَقَدْ يَجْعَلُ اللَّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا كَثِيرًا، أَمَا
عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِي مَعَكِ فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ
عِمْرَانَ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى، وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ؟ قَالَتْ:
وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ:
بِالرِّفَاءِ
وَالْبَنِينَ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا
الْغَلَّابِيِّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ
الْهُذَلِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي الْمَوْتِ،
فَقَالَ: يَا خَدِيجَةُ، إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي
السَّلَامَ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي ؟ قَالَ:
لَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ بِنْتَ
مُزَاحِمٍ، وَكَلْثَمَ أُخْتَ مُوسَى.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ سُوِيدِ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ، وَجَلَسَ يُحَدِّثُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ مَرَّتْ خَدِيجَةُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَنْ
هَذِهِ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ: هَذِهِ صِدِّيقَةُ أُمَّتِي قَالَ جِبْرِيلُ: مَعِي
إِلَيْهَا رِسَالَةٌ مِنَ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، يُقْرِئُهَا السَّلَامَ،
وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ، لَا
نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ. قَالَتِ: اللَّهُ السَّلَامُ، وَمِنْهُ السَّلَامُ،
وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمَا، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ، مَا ذَلِكَ الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ قَصَبٍ ؟ قَالَ: لُؤْلُؤَةٌ جَوْفَاءُ
بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَبَيْتِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ،
وَهُمَا مِنْ أَزْوَاجِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَصْلُ السَّلَامِ عَلَى خَدِيجَةَ
مِنَ اللَّهِ وَبِشَارَتِهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ، مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبَ
فِيهِ وَلَا نَصَبَ، فِي
" الصَّحِيحِ
". وَلَكِنَّ هَذَا السِّيَاقَ بِهَذِهِ الزِّيَادَاتِ غَرِيبٌ جِدًّا.
وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ
عَمْرٍو، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَنَّ
مُعَاوِيَةَ سَأَلَهُ عَنِ الصَّخْرَةِ ; يَعْنِي صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَقَالَ: الصَّخْرَةُ عَلَى نَخْلَةٍ، وَالنَّخْلَةُ عَلَى نَهْرٍ مِنْ أَنْهَارِ
الْجَنَّةِ، وَتَحْتَ النَّخْلَةِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ
مُزَاحِمٍ، يَنْظِمَانِ سُمُوطَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ
مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعُودٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ،
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ. وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ هُوَ
مَوْضُوعٌ.
ثُمَّ قَدْ رَوَاهُ أَبُو زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، أَنَّ
مُعَاوِيَةَ سَأَلَ كَعْبًا عَنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَذَكَرَهُ. قَالَ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَوْنُهُ مِنْ كَلَامِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ،
أَشْبَهُ. قُلْتُ: وَكَلَامُ كَعْبِ الْأَحْبَارِ هَذَا، إِنَّمَا تَلْقَاهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، الَّتِي مِنْهَا مَا هُوَ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ، وَضَعَهُ بَعْضُ زَنَادِقَتِهِمْ أَوْ جُهَّالِهِمْ، وَهَذَا مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مِيلَادِ
الْعَبْدِ الرَّسُولِ عِيسَى بْنِ مَرْيَمِ الْبَتُولِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ
أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا
فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ
إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ
رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا
وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا
تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي
عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ
لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا
أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا
كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
[ مَرْيَمَ: 16 -
37 ].
ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْقِصَّةَ بَعْدَ قِصَّةِ زَكَرِيَّا، الَّتِي هِيَ
كَالْمُقَدِّمَةِ لَهَا وَالتَّوْطِئَةِ قَبْلَهَا، كَمَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ
" آلِ عِمْرَانَ " قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَكَمَا
قَالَ فِي سُورَةِ " الْأَنْبِيَاءِ ": وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى
رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا
فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَرْيَمَ، لَمَّا جَعَلَتْهَا أُمُّهَا مُحَرَّرَةً،
تَخْدِمُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَنَّهُ كَفَلَهَا زَوْجُ أُخْتِهَا - أَوْ
خَالَتِهَا - نَبِيُّ ذَلِكَ الزَّمَانِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَأَنَّهُ اتَّخَذَ لَهَا مِحْرَابًا، وَهُوَ الْمَكَانُ الشَّرِيفُ مِنَ
الْمَسْجِدِ، لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا سِوَاهُ، وَأَنَّهَا لَمَّا
بَلَغَتِ اجْتَهَدَتْ فِي الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
نَظِيرُهَا
فِي فُنُونِ الْعِبَادَاتِ، وَظَهَرَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَحْوَالِ مَا غَبَطَهَا بِهِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهَا خَاطَبَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ لَهَا بِاصْطِفَاءِ اللَّهِ لَهَا، وَبِأَنَّهُ سَيَهَبُ لَهَا وَلَدًا زَكِيًّا، يَكُونُ نَبِيًّا كَرِيمًا طَاهِرًا مُكَرَّمًا، مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ وَالِدٍ ; لِأَنَّهَا لَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا هِيَ مِمَّنْ تَتَزَوَّجُ، فَأَخْبَرَتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ، إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ: كُنْ. فَيَكُونُ ; فَاسْتَكَانَتْ لِذَلِكَ وَأَنَابَتْ وَسَلَّمَتْ لِأَمْرِ اللَّهِ وَعَلِمَتْ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لَهَا ; فَإِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِسَبَبِهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُونَ إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَعَقُّلٍ، وَكَانَتْ إِنَّمَا تَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا، أَوْ لِحَاجَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا ; مِنَ اسْتِقَاءِ مَاءٍ أَوْ تَحْصِيلِ غِذَاءٍ، فَبَيْنَمَا هِيَ يَوْمًا قَدْ خَرَجَتْ لِبَعْضٍ شُئُونِهَا وَانْتَبَذَتْ أَيِ انْفَرَدَتْ وَحْدَهَا شَرْقِيَّ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا الرُّوحَ الْأَمِينَ، جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَلِمَتْ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ فَاسِقٌ مَشْهُورٌ بِالْفِسْقِ، اسْمُهُ تَقِيٌّ، فَإِنَّ هَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَهُوَ مِنْ أَسْخَفِ الْأَقْوَالِ. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ أَيْ خَاطَبَهَا الْمَلَكُ قَائِلًا: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ، أَيْ: لَسْتُ بِبَشَرٍ وَلَكِنِّي مَلَكٌ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَيْكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا أَيْ وَلَدًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ أَيْ: كَيْفَ يَكُونُ لِي غُلَامٌ، أَوْ يُوجَدُ لِي وَلَدٌ،
وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أَيْ: وَلَسْتُ ذَاتَ زَوْجٍ، وَمَا أَنَا مِمَّنْ
يَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ:
فَأَجَابَهَا الْمَلَكُ عَنْ تَعَجُّبِهَا مِنْ وُجُودِ وَلَدٍ مِنْهَا،
وَالْحَالَةُ هَذِهِ، قَائِلًا: كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ أَيْ: وَعَدَ أَنَّهُ
سَيَخْلُقُ مِنْكِ غُلَامًا وَلَسْتِ بِذَاتِ بَعْلٍ، وَلَا تَكُونِينَ مِمَّنْ
يَبْغِينَ. هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أَيْ: وَهَذَا سَهْلٌ عَلَيْهِ، وَيَسِيرٌ
لَدَيْهِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ. وَقَوْلُهُ: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ أَيْ: وَلِنَجْعَلَ خَلْقَهُ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، دَلِيلًا عَلَى
كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى أَنْوَاعِ الْخَلْقِ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ
مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَخَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى،
وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، وَخَلَقَ بَقِيَّةَ الْخَلْقِ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثَى. وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَةً مِنَّا أَيْ: نَرْحَمُ بِهِ الْعِبَادَ،
بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ فِي صِغَرِهِ وَكِبَرِهِ، فِي طُفُولَتِهِ
وَكُهُولَتِهِ، بِأَنْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ
لَهُ، وَيُنَزِّهُوهُ عَنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ
وَالنُّظَرَاءِ، وَالْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. وَقَوْلُهُ: وَكَانَ أَمْرًا
مَقْضِيًّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ جِبْرِيلَ
مَعَهَا، يَعْنِي أَنَّ هَذَا أَمْرٌ قَدْ قَضَاهُ اللَّهُ وَحَتَّمَهُ
وَقَدَّرَهُ وَقَرَّرَهُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ،
وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَلَمْ يَحْكِ سِوَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا كِنَايَةً عَنْ
نَفْخِ جِبْرِيلَ فِيهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا [ التَّحْرِيمِ: 12
]. فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ
دِرْعِهَا، فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى
فَرْجِهَا، فَحَمَلَتْ مِنْ فَوْرِهَا، كَمَا تَحْمِلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ جِمَاعِ بَعْلِهَا. وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ نَفَخَ فِي فَمِهَا، أَوْ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخَاطِبُهَا هُوَ الرُّوحُ الَّذِي وَلَجَ فِيهَا مِنْ فَمِهَا، فَقَوْلُهُ خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي مَحَالِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ ; فَإِنَّ هَذَا السِّيَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهَا مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَخَ فِيهَا، وَلَمْ يُوَاجِهِ الْمَلَكُ الْفَرْجَ، بَلْ نَفَخَ فِي جَيْبِهَا فَنَزَلَتِ النَّفْخَةُ إِلَى فَرْجِهَا، فَانْسَلَكَتْ فِيهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّفْخَةَ وَلَجَتْ فِيهِ، لَا فِي فَمِهَا، كَمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَلَا فِي صَدْرِهَا، كَمَا رَوَاهُ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَحَمَلَتْهُ. أَيْ: فَحَمَلَتْ وَلَدَهَا فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا وَذَلِكَ لِأَنَّ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ، لَمَّا حَمَلَتْ ضَاقَتْ بِهِ ذَرْعًا، وَعَلِمَتْ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ سَيَكُونُ مِنْهُمْ كَلَامٌ فِي حَقِّهَا، فَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّهَا لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْحَمْلِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ فَطِنَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يُقَالُ لَهُ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ. وَكَانَ ابْنَ خَالِهَا، فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا، وَذَلِكَ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ دِيَانَتِهَا، وَنَزَاهَتِهَا، وَعِبَادَتِهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرَاهَا حُبْلَى وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، فَعَرَّضَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْكَلَامِ، فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ هَلْ يَكُونُ زَرْعٌ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَنْ خَلَقَ الزَّرْعَ الْأَوَّلَ ؟! ثُمَّ قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ شَجَرٌ
مِنْ غَيْرِ مَاءٍ
وَلَا مَطَرٍ ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، فَمَنْ خَلَقَ الشَّجَرَ الْأَوَّلَ ؟! ثُمَّ
قَالَ: فَهَلْ يَكُونُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ ؟! قَالَتْ: نَعَمْ، إِنَّ
اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى. قَالَ لَهَا:
فَأَخْبِرِينِي خَبَرَكِ. فَقَالَتْ: إِنَّ اللَّهَ بَشَّرَنِي بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ
الصَّالِحِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 45، 46 ]. وَيُرْوَى مِثْلُ هَذَا عَنْ
زَكَرِيَّا، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ سَأَلَهَا فَأَجَابَتْهُ بِمِثْلِ
هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، أَنَّ مَرْيَمَ دَخَلَتْ
يَوْمًا عَلَى أُخْتِهَا، فَقَالَتْ لَهَا أُخْتُهَا: أَشَعَرْتِ أَنِّي حُبْلَى ؟
فَقَالَتْ مَرْيَمُ: وَشَعَرْتِ أَيْضًا أَنِّي حُبْلَى ؟ فَاعْتَنَقَتْهَا،
وَقَالَتْ لَهَا أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي أَرَى مَا فِي بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي
بَطْنِكِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ [ آلِ
عِمْرَانَ: 39 ]. وَمَعْنَى السُّجُودِ هَاهُنَا، الْخُضُوعُ وَالتَّعْظِيمُ،
كَالسُّجُودِ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ لِلسَّلَامِ، كَمَا كَانَ فِي شَرْعِ مَنْ
قَبْلَنَا، وَكَمَا أَمَرَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ. وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ وَيَحْيَى
بْنَ زَكَرِيَّا، ابْنَا خَالَةٍ، وَكَانَ حَمْلُهُمَا جَمِيعًا مَعًا،
فَبَلَغَنِي أَنَّ أُمَّ يَحْيَى قَالَتْ لِمَرْيَمَ: إِنِّي أَرَى مَا فِي
بَطْنِي يَسْجُدُ لِمَا فِي بَطْنِكِ. قَالَ مَالِكٌ: أَرَى ذَلِكَ لِتَفْضِيلِ
عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعْلَهُ يُحْيِي
الْمَوْتَى وَيُبَرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَتْ مَرْيَمُ: كُنْتُ إِذَا خَلَوْتُ
حَدَّثَنِي وَكَلَّمَنِي، وَإِذَا كُنْتُ
بَيْنَ النَّاسِ
سَبَّحَ فِي بَطْنِي. ثُمَّ الظَّاهِرُ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
كَمَا تَحْمِلُ النِّسَاءُ وَيَضَعْنَ لِمِيقَاتِ حَمْلِهِنَّ وَوَضْعِهِنَّ، إِذْ
لَوْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ لَذُكِرَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ،
أَنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا هُوَ
إِلَّا أَنْ حَمَلَتْ بِهِ فَوَضَعَتْهُ. قَالَ بَعْضُهُمْ: حَمَلَتْ بِهِ تِسْعَ
سَاعَاتٍ. وَاسْتَأْنَسُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ
مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ وَالصَّحِيحُ
أَنَّ تَعْقِيبَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ ; لِقَوْلِهِ: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ
مُخْضَرَّةً [ الْحَجِّ: 63 ]. وَكَقَوْلِهِ: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ
عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا
فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَمَعْلُومٌ أَنْ بَيْنَ كُلِّ حَالَيْنِ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
[ الْمُؤْمِنُونَ: 14 ]. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ شَاعَ أَمْرُهَا
وَاشْتَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَمَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِ
بَيْتٍ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ زَكَرِيَّا. قَالَ: وَاتَّهَمَهَا بَعْضُ
الزَّنَادِقَةِ بِيُوسُفَ الَّذِي كَانَ يَتَعَبَّدُ مَعَهَا فِي الْمَسْجِدِ،
وَتَوَارَتْ عَنْهُمْ مَرْيَمُ، وَاعْتَزَلَتْهُمْ وَانْتَبَذَتْ مَكَانًا قَصِيًّا.
وَقَوْلُهُ: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ أَيْ:
فَأَلْجَأَهَا وَاضْطَرَّهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، وَهُوَ -
بِنَصِّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ،
عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا، وَالْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ صَحَّحَهُ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ مَرْفُوعًا أَيْضًا - بِبَيْتِ لَحْمٍ، الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ بَعْضُ مُلُوكِ الرُّومِ فِيمَا بَعْدُ - عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ - هَذَا الْبِنَاءَ الْمُشَاهَدَ الْهَائِلَ. قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَمَنِّي الْمَوْتِ عِنْدَ الْفِتَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا عَلِمَتْ أَنَّ النَّاسَ يَتَّهِمُونَهَا وَلَا يُصَدِّقُونَهَا، بَلْ يُكَذِّبُونَهَا حِينَ تَأْتِيهِمْ بِغُلَامٍ عَلَى يَدِهَا، مَعَ أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ، الْمُجَاوِرَاتِ فِي الْمَسْجِدِ، الْمُنْقَطِعَاتِ إِلَيْهِ، الْمُعْتَكِفَاتِ فِيهِ، وَمِنْ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالدِّيَانَةِ، فَحَمَلَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْهَمِّ مَا تَمَنَّتْ أَنْ لَوْ كَانَتْ مَاتَتْ قَبْلَ هَذَا الْحَالِ أَوْ كَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا أَيْ: لَمْ تُخْلَقْ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَوْلُهُ: ( فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا )، وَقُرِئَ: مِنْ تَحْتِهَا عَلَى الْخَفْضِ، وَفِي الْمُضْمَرِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ جِبْرِيلُ. قَالَهُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى إِلَّا بِحَضْرَةِ الْقَوْمِ. وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فِي رِوَايَةٍ: هُوَ ابْنُهَا عِيسَى. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَوْلُهُ: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا قِيلَ: النَّهْرُ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَهُوَ
الصَّحِيحُ. وَعَنِ
الْحَسَنِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَابْنِ أَسْلَمَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّهُ
ابْنُهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ; لِقَوْلِهِ: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَذَكَرَ الطَّعَامَ
وَالشَّرَابَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ثُمَّ قِيلَ:
كَانَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يَابِسًا. وَقِيلَ: كَانَتْ نَخْلَةً مُثْمِرَةً.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَخْلَةً، لَكِنَّهَا لَمْ
تَكُنْ مُثْمِرَةً إِذْ ذَاكَ ; لِأَنَّ مِيلَادَهُ كَانَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ،
وَلَيْسَ ذَاكَ وَقْتَ ثَمَرٍ، وَقَدْ يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى،
عَلَى سَبِيلِ الِامْتِنَانِ: تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا قَالَ عَمْرُو
بْنُ مَيْمُونٍ: لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ.
ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا
شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ
مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الشَّجَرِ
يُلَقَّحُ غَيْرَهَا وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الْوُلَّدَ الرُّطَبَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ،
فَتَمْرٌ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ
نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي
" مُسْنَدِهِ "، عَنْ
شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ سَعِيدٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَسْرُورِ بْنِ سَعْدٍ. وَالصَّحِيحُ: مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ، أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَدِيٍّ هَذَا الْحَدِيثَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ أَسْمَعَ بِذِكْرِهِ إِلَّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَرْوِي عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ الْمَنَاكِيرَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمَنْ يَرْوِيهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا وَهَذَا مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الَّذِي نَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا. قَالَ: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا أَيْ: فَإِنْ رَأَيْتِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَقَوْلِي لَهُ، أَيْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْإِشَارَةِ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا أَيْ: صَمْتًا. وَكَانَ مِنْ صَوْمِهِمْ فِي شَرِيعَتِهِمْ تَرْكُ الْكَلَامِ وَالطَّعَامِ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ أَسْلَمَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَأَمَّا فِي شَرِيعَتِنَا فَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ صَمْتُ يَوْمٍ إِلَى اللَّيْلِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يَنْقُلُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَنَّهُمْ لَمَّا افْتَقَدُوهَا مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ذَهَبُوا فِي طَلَبِهَا، فَمَرُّوا عَلَى مَحِلَّتِهَا وَالْأَنْوَارُ حَوْلَهَا، فَلَمَّا وَاجَهُوهَا وَجَدُوا مَعَهَا وَلَدَهَا، فَقَالُوا لَهَا: يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا أَيْ أَمْرًا عَظِيمًا مُنْكَرًا. وَفِي هَذَا الَّذِي قَالُوهُ نَظَرٌ، مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ يَنْقُضُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَاهِرَ سِيَاقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا حَمَلَتْهُ
بِنَفْسِهَا،
وَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا وَهِيَ تَحْمِلُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ
بَعْدَ مَا تَعَالَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهَا تَحْمِلُ مَعَهَا وَلَدَهَا قَالُوا
يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا وَالْفِرْيَةُ هِيَ الْفِعْلَةُ
الْمُنْكَرَةُ الْعَظِيمَةُ مِنَ الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ. ثُمَّ قَالُوا لَهَا:
يَا أُخْتَ هَارُونَ قِيلَ: شَبَّهُوهَا بِعَابِدٍ مِنْ عُبَّادِ زَمَانِهِمْ
كَانَتْ تُسَامِيهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَانَ اسْمُهُ هَارُونَ. وَقِيلَ:
شَبَّهُوهَا بِرَجُلٍ فَاجِرٍ فِي زَمَانِهِمُ، اسْمُهُ هَارُونُ. قَالَهُ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ. وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَارُونَ أَخَا مُوسَى شَبَّهُوهَا بِهِ فِي
الْعِبَادَةِ. وَأَخْطَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ فِي زَعْمِهِ
أَنَّهَا أُخْتُ مُوسَى وَهَارُونَ نَسَبًا ; فَإِنَّ بَيْنَهُمَا مِنَ الدُّهُورِ
الطَّوِيلَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا
يَرُدُّهُ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ الْفَظِيعِ، وَكَأَنَّهُ غَرَّهُ أَنَّ فِي
التَّوْرَاةِ أَنَّ مَرْيَمَ أُخْتَ مُوسَى وَهَارُونَ ضَرَبَتْ بِالدُّفِّ يَوْمَ
نَجَّى اللَّهُ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَأَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ، فَاعْتَقَدَ
أَنَّ هَذِهِ هِيَ هَذِهِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ وَالْمُخَالَفَةِ
لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ نَصِّ الْقُرْآنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي "
التَّفْسِيرِ " مُطَوَّلًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ وَرَدَ
الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الدَّالُّ
عَلَى أَنَّهُ قَدْ
كَانَ لَهَا أَخٌ اسْمُهُ هَارُونُ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا
وَتَحْرِيرِ أُمِّهَا لَهَا، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخٌ
سِوَاهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ
أَبِي يَذْكُرُهُ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، إِلَى نَجْرَانَ فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تَقْرَءُونَ: يَا أُخْتَ
هَارُونَ وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَا
أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
قَبْلَهُمْ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَلَا
أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِأَسْمَاءِ صَالِحِيهِمْ
وَأَنْبِيَائِهِمْ وَذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْثِرُونَ
مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَارُونَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ حَضَرَ بَعْضَ
جَنَائِزِهِمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، مِمَّنْ يُسَمَّى بِهَارُونَ، أَرْبَعُونَ
أَلْفًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ وَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى
أَنَّهَا قَدْ كَانَ لَهَا أَخٌ نَسَبِيٌّ اسْمُهُ هَارُونُ، وَكَانَ مَشْهُورًا
بِالدِّينِ وَالصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ ; وَلِهَذَا قَالُوا: مَا كَانَ أَبُوكِ
امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أَيْ: لَسْتِ مِنْ بَيْتٍ هَذَا
شِيمَتُهُمْ وَلَا سَجِيَّتُهُمْ ; لَا أَخُوكِ وَلَا أُمُّكِ وَلَا أَبُوكِ،
فَاتَّهَمُوهَا
بِالْفَاحِشَةِ
الْعُظْمَى، وَرَمَوْهَا بِالدَّاهِيَةِ الدَّهْيَاءِ، فَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي
" تَارِيخِهِ " أَنَّهُمُ اتَّهَمُوا بِهَا زَكَرِيَّا، وَأَرَادُوا
قَتْلَهُ، فَفَرَّ مِنْهُمْ فَلَحِقُوهُ وَقَدِ انْشَقَّتْ لَهُ الشَّجَرَةُ
فَدَخَلَهَا، وَأَمْسَكَ إِبْلِيسُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَنَشَرُوهُ فِيهَا، كَمَا
قَدَّمْنَا.
وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنِ اتَّهَمَهَا بِابْنِ خَالِهَا يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ
النَّجَّارِ، فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ، وَانْحَصَرَ الْمَجَالُ وَامْتَنَعَ
الْمَقَالُ، عَظُمَ التَّوَكُّلُ عَلَى ذِي الْجَلَالِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْإِخْلَاصُ
وَالِاتِّكَالُ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ أَيْ: خَاطِبُوهُ وَكَلِّمُوهُ ; فَإِنَّ
جَوَابَكُمْ عَلَيْهِ، وَمَا تَبْغُونَ مِنَ الْكَلَامِ لَدَيْهِ. فَعِنْدَهَا
قَالَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ جَبَّارًا شَقِيًّا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا أَيْ: كَيْفَ تُحِيلِينَنَا فِي الْجَوَابِ عَلَى صَبِيٍّ
صَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ رَضِيعٌ فِي مَهْدِهِ، وَلَا
يُمَيِّزُ بَيْنَ مَحْضٍ وَزَبَدِهِ، وَمَا هَذَا مِنْكِ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ
التَّهَكُّمِ بِنَا وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالتَّنَقُّصِ لَنَا وَالِازْدِرَاءِ ;
إِذْ لَا تَرُدِّينَ عَلَيْنَا قَوْلًا نُطْقِيًّا، بَلْ تُحِيلِينَ فِي
الْجَوَابِ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، فَعِنْدَهَا قَالَ إِنِّي
عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا
أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا
هَذَا أَوَّلُ كَلَامٍ تَفَوَّهَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ اعْتَرَفَ لِرَبِّهِ تَعَالَى
بِالْعُبُودِيَّةِ، وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ، فَنَزَّهَ جَنَابَ اللَّهِ عَنْ
قَوْلِ الظَّالِمِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، بَلْ هُوَ عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ، ثُمَّ بَرَّأَ أُمَّهُ مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ
الْجَاهِلُونَ، وَقَذَفُوهَا بِهِ وَرَمَوْهَا
بِسَبَبِهِ بِقَوْلِهِ: آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي النُّبُوَّةَ مَنْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [ النِّسَاءِ: 156 ]. وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قَالُوا: إِنَّهَا حَمَلَتْ بِهِ مِنْ زِنًا فِي زَمَنِ الْحَيْضِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ عَنْهَا أَنَّهَا صِدِّيقَةٌ، وَاتَّخَذَ وَلَدَهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا، أَحَدَ أُولِي الْعَزْمِ الْخَمْسَةِ الْكِبَارِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَذَلِكَ أَنَّهُ حَيْثُ كَانَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَزَّهَ جَنَابَهُ عَنِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ ; مِنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَبِيدِ فِي الْقِيَامِ بِحَقِّ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ; بِالصَّلَاةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلِيقَةِ بِالزَّكَاةِ، وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى طَهَارَةِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ، وَتَطْهِيرِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِالْعَطِيَّةِ لِلْمَحَاوِيجِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْنَافِ، وَقِرَى الْأَضْيَافِ، وَالنَّفَقَاتِ عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَالْأَرِقَّاءِ، وَالْقَرَابَاتِ، وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا أَيْ: وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَأَكَّدَ حَقُّهَا عَلَيْهِ، لِتَمَحُّضِ جِهَتِهَا، إِذْ لَا وَالِدَ لَهُ سِوَاهَا، فَسُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلِيقَةَ وَبَرَأَهَا، وَأَعْطَى كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا أَيْ: لَسْتُ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا يَصْدُرُ مِنِّي قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ يُنَافِي أَمْرَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا وَهَذِهِ الْمَوَاطِنُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى قِصَّتَهُ عَلَى الْجَلِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَمْرَهُ وَوَضَّحَهُ وَشَرَحَهُ، قَالَ:
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّتِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي آلِ عِمْرَانَ: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 58 - 63 ]. وَلِهَذَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ وَكَانُوا سِتِّينَ رَاكِبًا، يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ، وَيَؤُولُ أَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَى ثَلَاثَةٍ، هُمْ أَشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ، وَهُمْ: الْعَاقِبُ، وَالسَّيِّدُ، وَأَبُو حَارِثَةَ بْنُ عَلْقَمَةَ، فَجَعَلُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ صَدْرَ سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ وَابْتِدَاءَ خَلْقِهِ وَخَلْقِ أُمِّهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُبَاهِلَهُمْ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ، فَلَمَّا رَأَوْا عَيْنَيْهَا وَأُذُنَيْهَا نَكَصُوا، وَامْتَنَعُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ، وَعَدَلُوا إِلَى الْمُسَالَمَةِ وَالْمُوَادَعَةِ، وَقَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ الْعَاقِبُ عَبْدُ الْمَسِيحِ: يَا مَعْشَرَ النَّصَارَى، لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لَاعَنَ قَوْمٌ نَبِيًّا قَطُّ، فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرُهُمْ، وَإِنَّهَا لَلِاسْتِئْصَالُ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ، فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينِكُمْ وَالْإِقَامَةَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ
فِي صَاحِبِكُمْ،
فَوَادِعُوا الرَّجُلَ وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادِكُمْ. فَطَلَبُوا ذَلِكَ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَضْرِبَ
عَلَيْهِمْ جِزْيَةً، وَأَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا أَمِينًا، فَبَعَثَ
مَعَهُمْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي
تَفْسِيرِ " آلِ عِمْرَانَ " وَسَيَأْتِي بَسْطُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ
فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَمْرَ الْمَسِيحِ، قَالَ
لِرَسُولِهِ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ
يَمْتَرُونَ يَعْنِي مِنْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَخْلُوقٌ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ عِبَادِ
اللَّهِ، وَلِهَذَا قَالَ: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ
سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَيْ لَا
يُعْجِزُهُ شَيْءٌ وَلَا يَكْرُثُهُ وَلَا يَؤُودُهُ، بَلْ هُوَ الْقَدِيرُ
الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس: 82 ]. وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى
إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا هُوَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ
عِيسَى لَهُمْ فِي الْمَهْدِ، أَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَرَبُّهُمْ
وَإِلَهُهُ وَإِلَهُهُمْ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَيْ: فَاخْتَلَفَ أَهْلُ ذَلِكَ
الزَّمَانِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِ، فَمِنْ قَائِلٍ مِنَ الْيَهُودِ: إِنَّهُ
وَلَدُ زَنْيَةٍ. وَاسْتَمَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، وَقَابَلَهُمْ
آخَرُونَ فِي الْكُفْرِ فَقَالُوا: هُوَ اللَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ ابْنُ
اللَّهِ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ:
هُوَ عَبْدُ
اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ،
وَرُوحٌ مِنْهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ النَّاجُونَ الْمُثَابُونَ، الْمُؤَيَّدُونَ
الْمَنْصُورُونَ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُيُودِ، فَهُمُ
الْكَافِرُونَ الظَّالِمُونَ، الضَّالُّونَ الْجَاهِلُونَ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُمُ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، بِقَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، أَنْبَأَنَا
الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ،
حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا
إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ -
أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ قَالَ الْوَلِيدُ:
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُمَيْرٍ، عَنْ
جُنَادَةَ، وَزَادَ: مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيَّهَا شَاءَ
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ
جَابِرٍ بِهِ، وَمِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ.
بَابُ بَيَانِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ
قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ
وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا أَيْ شَيْئًا عَظِيمًا، وَمُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورًا. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ
الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي
لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ
عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا فَبَيِّنَ أَنَّهُ
تَعَالَى لَا يَنْبَغِي لَهُ الْوَلَدُ ; لِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَمَالِكُهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَدَيْهِ،
وَجَمِيعُ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَبِيدُهُ، وَهُوَ رَبُّهُمْ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ
بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ
كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [ الْأَنْعَامِ: 100 - 103 ]. فَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ
كُلِّ
شَيْءٍ، فَكَيْفَ
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَالْوَلَدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ
مُتَنَاسِبَيْنِ! وَاللَّهُ تَعَالَى لَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَلَا
عَدِيلَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ الْإِخْلَاصِ: 1 - 4 ]. فَتَقَرَّرَ أَنَّهُ
" الْأَحَدُ " الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي ذَاتِهِ، وَلَا فِي صِفَاتِهِ،
وَلَا فِي أَفْعَالِهِ الصَّمَدُ وَهُوَ السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي عِلْمِهِ
وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ. لَمْ يَلِدْ أَيْ: لَمْ يُوجَدْ
مِنْهُ وَلَدٌ. وَلَمْ يُولَدْ أَيْ: وَلَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْ شَيْءٍ قَبْلَهُ.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَيْ: وَلَيْسَ لَهُ عِدْلٌ وَلَا مُكَافِئٌ
وَلَا مُسَاوٍ، فَقَطَعَ النَّظِيرَ الْمُدَانِيَ وَالْأَعْلَى وَالْمُسَاوِيَ ;
فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، إِذْ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ إِلَّا
مُتَوَلِّدًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُتَعَادِلَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبَيْنِ، وَتَعَالَى
اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا
فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ
انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ
يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلًا لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ
وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [
النِّسَاءِ: 171 - 173 ].
يَنْهَى تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ، عَنِ الْغُلُوِّ وَالْإِطْرَاءِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ; فَالنَّصَارَى - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - غَلَوْا وَأَطْرَوُا الْمَسِيحَ حَتَّى جَاوَزُوا الْحَدَّ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَابْنُ أَمَتِهِ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ الْمَلَكَ جِبْرِيلَ إِلَيْهَا، فَنَفَخَ فِيهَا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ نَفْخَةً حَمَلَتْ مِنْهَا بِوَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالَّذِي اتَّصَلَ بِهَا مِنَ الْمَلَكِ هِيَ الرُّوحُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يُقَالُ: بَيْتُ اللَّهِ، وَنَاقَةُ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَكَذَا: رُوحُ اللَّهِ، أُضِيفَتْ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، وَسُمِّيَ عِيسَى بِهَا ; لِأَنَّهُ كَانَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ أَيْضًا الَّتِي عَنْهَا خُلِقَ، وَبِسَبَبِهَا وُجِدَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ آلِ عِمْرَانَ: 59 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ الْبَقَرَةِ: 116، 117 ]. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [ التَّوْبَةِ: 30 ]. فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، كُلٌّ مِنْ
الْفَرِيقَيْنِ ادَّعَوْا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا، وَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ مُسْتَنَدٌ فِيمَا زَعَمُوهُ، وَلَا فِيمَا ائْتَفَكُوهُ، إِلَّا مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَمُشَابَهَةُ مَنْ سَبَقَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الضَّالَّةِ، تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ - عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ - زَعَمُوا أَنَّ الْعَقْلَ الْأَوَّلَ صَدَرَ عَنْ وَاجِبِ الْوُجُودِ، الَّذِي يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِعِلَّةِ الْعِلَلِ، وَالْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ صَدَرَ عَنِ الْعَقْلِ الْأَوَّلِ عَقْلٌ ثَانٍ، وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ، ثُمَّ صَدَرَ عَنِ الثَّانِي كَذَلِكَ، حَتَّى تَنَاهَتِ الْعُقُولُ إِلَى عَشَرَةٍ، وَالنُّفُوسُ إِلَى تِسْعَةٍ، وَالْأَفْلَاكُ إِلَى تِسْعَةٍ، بِاعْتِبَارَاتٍ فَاسِدَةٍ ذَكَرُوهَا، وَاخْتِيَارَاتٍ بَارِدَةٍ أَوْرَدُوهَا، وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ، وَبَيَانِ جَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ، مَوْضِعٌ آخَرُ. وَهَكَذَا طَوَائِفُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ; زَعَمُوا لِجَهْلِهِمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ صَاهَرَ سَرَوَاتِ الْجِنِّ فَتَوَلَّدَ مِنْهُمَا الْمَلَائِكَةُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ، وَتَنَزَّهَ عَمَّا يُشْرِكُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [ الزُّخْرُفِ: 19 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [ الصَّافَّاتِ: 149 - 160 ].
وَقَالَ تَعَالَى:
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا
يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ
مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ
فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ:
26 - 29 ]. وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ "، وَهِيَ
مَكِّيَّةٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ
اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [
الْكَهْفِ: 1 - 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا
سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ
عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا
يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يُونُسَ: 68 - 70
]. فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَكِّيَاتُ الْكَرِيمَاتُ تَشْمَلُ الرَّدَّ عَلَى
سَائِرِ فِرَقِ الْكَفَرَةِ ; مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، الَّذِينَ ادَّعَوْا وَزَعَمُوا بِلَا عِلْمٍ، أَنَّ
لِلَّهِ وَلَدًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ
الْمُعْتَدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَلَمَّا كَانَتِ النَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، مِنْ أَشْهَرِ
مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ، ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا ; لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ، وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ، وَكَثْرَةِ جَهْلِهِمْ، وَقَدْ تَنَوَّعَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي كُفْرِهِمْ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْبَاطِلَ كَثِيرُ التَّشَعُّبِ وَالِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَلَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَضْطَرِبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [ النِّسَاءِ: 82 ]. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يَتَّحِدُ وَيَتَّفِقُ، وَالْبَاطِلَ يَخْتَلِفُ وَيَضْطَرِبُ. فَطَائِفَةٌ مِنْ ضُلَّالِهِمْ وَجُهَّالِهِمْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ. تَعَالَى اللَّهُ، وَطَائِفَةٌ قَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ، عَزَّ اللَّهُ. وَطَائِفَةٌ قَالُوا: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. جَلَّ اللَّهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْمَائِدَةِ ": لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الْمَائِدَةِ: 17 ]. فَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْخَالِقُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْمُتَصَرِّفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَإِلَهُهُ. وَقَالَ فِي أَوَاخِرِهَا: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [ الْمَائِدَةِ: 72 - 75 ].
حَكَمَ تَعَالَى بِكُفْرِهِمْ شَرْعًا وَقَدَرًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا صَدَرَ مِنْهُمْ، مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ مَخْلُوقٌ، مُصَوَّرٌ فِي الرَّحِمِ، دَاعٍ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّارِ، وَعَدَمِ الْفَوْزِ بِدَارِ الْقَرَارِ، وَالْخِزْيِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْهَوَانِ وَالْعَارِ، وَلِهَذَا قَالَ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ: أُقْنُومُ الْأَبِ، وَأُقْنُومُ الِابْنِ، وَأُقْنُومُ الْكَلِمَةِ الْمُنْبَثِقَةِ مِنَ الْأَبِ إِلَى الِابْنِ، عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ الْمَلَكِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، كَمَا سَنُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَمَجَامِعَهُمُ الثَّلَاثَةَ فِي زَمَنِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قَسْطَسَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ أَيْ: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ، وَلَا
صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، ثُمَّ تَوَعَدَهُمْ وَتَهَدَّدَهُمْ فَقَالَ: وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ثُمَّ دَعَاهُمْ بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْكِبَارِ، وَالْعَظَائِمِ الَّتِي تُوجِبُ النَّارَ، فَقَالَ: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَأَنَّهُ عَبْدٌ رَسُولٌ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، أَيْ لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ، كَمَا يَقُولُهُ الْيَهُودُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَبِيَّةٍ، كَمَا زَعَمَهُ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. وَقَوْلُهُ: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ كِنَايَةٌ عَنْ خُرُوجِهِ مِنْهُمَا، كَمَا يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِهِمَا، أَيْ: وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا ؟! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ وَجَهْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ زَعْمُهُمْ فِي عِيسَى وَأُمِّهِ أَنَّهُمَا إِلَهَانِ مَعَ اللَّهِ ; يَعْنِي كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى كُفْرَهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ الْمَائِدَةِ: 116 - 118 ].
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْأَلُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ لَهُ وَالتَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِعَابِدِيهِ، مِمَّنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَافْتَرَى وَزَعَمَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهُ اللَّهُ، أَوْ أَنَّهُ شَرِيكُهُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ، فَيَسْأَلُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ مَا يَسْأَلُهُ عَنْهُ، وَلَكِنْ لِتَوْبِيخِ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ لَهُ: ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ أَيْ: تَعَالَيْتَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ شَرِيكٌ. مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أَيْ: لَيْسَ هَذَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ سِوَاكَ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ وَهَذَا تَأَدُّبٌ عَظِيمٌ فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ حِينَ أَرْسَلْتَنِي إِلَيْهِمْ، وَأَنْزَلْتَ عَلَيَّ الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ فَسَّرَ مَا قَالَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أَيْ خَالِقِي وَخَالِقُكُمْ، وَرَازِقِي وَرَازِقُكُمْ. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أَيْ: رَفَعْتَنِي إِلَيْكَ حِينَ أَرَادُوا قَتْلِي وَصَلْبِي، فَرَحِمْتَنِي وَخَلَّصْتَنِي مِنْهُمْ، وَأَلْقَيْتَ شَبَهِي عَلَى أَحَدِهِمْ، حَتَّى انْتَقَمُوا مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ. كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ثُمَّ قَالَ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ إِلَى الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَالتَّبَرِّي مِنْ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ أَيْ: وَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا التَّفْوِيضُ وَالْإِسْنَادُ إِلَى الْمَشِيئَةِ بِالشَّرْطِ، لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
وَلَمْ يَقُلْ:
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَامَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ: إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ
الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا
السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ
نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ
الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ
عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 16 - 20
]. وَقَالَ تَعَالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى
مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى
النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [
الزُّمَرِ: 4، 5 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ
فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ
الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [ الزُّخْرُفِ: 81، 82 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [ الْإِسْرَاءِ: 111 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ; يَزْعُمُ أَنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمَّ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ وَفِي " الصَّحِيحِ " أَيْضًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ; إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ " أَيْضًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ، حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٍ: 102 ]. وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [ الْحَجِّ: 48 ]. وَقَالَ تَعَالَى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لُقْمَانٍ: 24 ]. وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يُونُسَ: 69، 70 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا [ الطَّارِقِ: 17 ].
ذِكْرُ مَنْشَأِ
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَبَيَانُ بَدْءِ الْوَحْيِ
إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، قَرِيبًا مِنْ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَزَعَمَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ وُلِدَ بِمِصْرَ، وَأَنَّ
مَرْيَمَ سَافَرَتْ هِيَ وَيُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ النَّجَّارُ، وَهِيَ رَاكِبَةٌ
عَلَى حِمَارٍ. لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْإِكَافِ شَيْءٌ. وَهَذَا لَا
يَصِحُّ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَوْلِدَهُ
كَانَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَهْمَا عَارَضَهُ فَبَاطِلٌ.
وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ خَرَّتِ الْأَصْنَامُ
يَوْمَئِذٍ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَأَنَّ الشَّيَاطِينَ
حَارَتْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى كَشَفَ لَهُمْ إِبْلِيسُ الْكَبِيرُ أَمْرَ
عِيسَى، فَوَجَدُوهُ فِي حِجْرِ أُمِّهِ، وَالْمَلَائِكَةُ مُحْدِقَةٌ بِهِ،
وَأَنَّهُ ظَهَرَ نَجْمٌ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ مَلِكَ الْفُرْسِ
أَشْفَقَ مِنْ ظُهُورِهِ، فَسَأَلَ الْكَهَنَةَ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالُوا:
هَذَا لِمَوْلِدِ عَظِيمٍ فِي الْأَرْضِ. فَبَعَثَ رُسُلَهُ وَمَعَهُمْ ذَهَبٌ
وَمُرٌّ وَلِبَانٌ، هَدِيَّةً إِلَى عِيسَى، فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ
سَأَلَهُمْ مَلِكُهَا عَمَّا أَقْدَمَهُمْ، فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْ
ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِذَا قَدْ وُلِدَ فِيهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ،
فَأَرْسَلَهُمْ إِلَيْهِ بِمَا مَعَهُمْ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَعْرِفُهُ لَهُ
; لِيَتَوَصَّلَ إِلَى قَتْلِهِ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَلَمَّا وَصَلُوا
إِلَى مَرْيَمَ بِالْهَدَايَا وَرَجَعُوا، قِيلَ لَهَا: إِنَّ رُسُلَ مَلِكِ
الشَّامِ إِنَّمَا جَاءُوا لِيَقْتُلُوا وَلَدَكِ. فَاحْتَمَلَتْهُ، فَذَهَبَتْ
بِهِ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَتْ بِهَا حَتَّى بَلَغَ عُمْرُهُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ كَرَامَاتٌ وَمُعْجِزَاتٌ فِي حَالِ صِغَرِهِ،
فَذَكَرَ مِنْهَا، أَنَّ الدِّهْقَانَ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ افْتَقَدَ مَالًا
مِنْ دَارِهِ، وَكَانَتْ دَارُهُ لَا يَسْكُنُهَا إِلَّا الْفُقَرَاءُ
وَالضُّعَفَاءُ وَالْمَحَاوِيجُ، فَلَمْ يَدْرِ مَنْ أَخَذَهُ، وَعَزَّ ذَلِكَ
عَلَى مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَشَقَّ عَلَى النَّاسِ وَعَلَى رَبِّ
الْمَنْزِلِ، وَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهَا، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، ذَلِكَ، عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ أَعْمَى، وَآخَرَ مُقْعَدٍ مِنْ جُمْلَةِ
مَنْ هُوَ مُنْقَطِعٌ إِلَيْهِ، فَقَالَ لِلْأَعْمَى: احْمِلْ هَذَا الْمُقْعَدَ
وَانْهَضْ بِهِ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ ذَلِكَ. فَقَالَ: بَلَى، كَمَا
فَعَلْتَ أَنْتَ وَهُوَ حِينَ أَخَذْتُمَا هَذَا الْمَالَ مِنْ تِلْكَ الْكُوَّةِ
مِنَ الدَّارِ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ صَدَّقَاهُ فِيمَا قَالَ، وَأَتَيَا
بِالْمَالِ، فَعَظُمَ عِيسَى فِي أَعْيُنِ النَّاسِ وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا.
وَمِنْ ذَلِكَ، أَنَّ ابْنَ الدِّهْقَانِ عَمِلَ ضِيَافَةً لِلنَّاسِ بِسَبَبِ
طُهُورِ أَوْلَادِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَطْعَمَهُمْ، ثُمَّ أَرَادَ
أَنْ يَسْقِيَهُمْ شَرَابًا، يَعْنِي خَمْرًا، كَمَا
كَانُوا
يَصْنَعُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لَمْ يَجِدْ فِي جِرَارِهِ شَيْئًا، فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى عِيسَى ذَلِكَ مِنْهُ قَامَ فَجَعَلَ يَمُرُّ
عَلَى تِلْكَ الْجِرَارِ وَيَمُرُّ يَدَهُ عَلَى أَفْوَاهِهَا، فَلَا يَفْعَلُ
بِجَرَّةٍ مِنْهَا ذَلِكَ إِلَّا امْتَلَأَتْ شَرَابًا مِنْ خِيَارِ الشَّرَابِ،
فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا، وَعَظَّمُوهُ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ
وَعَلَى أُمِّهِ مَالًا جَزِيلًا، فَلَمْ يَقْبَلَاهُ وَارْتَحَلَا قَاصِدِينَ
بَيْتَ الْمَقْدِسِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ السَّاجِ وَغَيْرُهُ،
عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَعَنْ
مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَوَّلَ مَا
أَطْلَقَ اللَّهُ لِسَانَهُ، بَعْدَ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَهُوَ
طِفْلٌ، فَمَجَّدَ اللَّهَ تَمْجِيدًا لَمْ تَسْمَعِ الْآذَانُ بِمِثْلِهِ، لَمْ
يَدَعْ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا جَبَلًا وَلَا نَهْرًا وَلَا عَيْنًا إِلَّا
ذَكَرَهُ فِي تَمْجِيدِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ الْقَرِيبُ فِي عُلُوِّكَ،
الْمُتَعَالِي فِي دُنُوِّكَ، الرَّفِيعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِكَ،
أَنْتَ الَّذِي خَلَقْتَ سَبْعًا فِي الْهَوَاءِ بِكَلِمَاتِكَ، مُسْتَوِيَاتٍ
طِبَاقًا، أَجَبْنَ وَهُنَّ دُخَانٌ مِنْ فَرَقِكَ، فَأَتَيْنَ طَائِعَاتٍ
لِأَمْرِكَ، فِيهِنَّ مَلَائِكَتُكَ يُسَبِّحُونَ قُدْسَكَ لِتَقْدِيسِكَ،
وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ نُورًا عَلَى سَوَادِ الظَّلَامِ، وَضِيَاءً مِنْ ضَوْءِ
الشَّمْسِ بِالنَّهَارِ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ الرَّعْدَ الْمُسَبِّحَ بِالْحَمْدِ،
فَبِعِزَّتِكَ تَجْلُو ضَوْءَ ظُلْمَتِكَ، وَجَعَلْتَ فِيهِنَّ مَصَابِيحَ
يَهْتَدِي بِهِنَّ فِي الظُّلُمَاتِ الْحَيْرَانُ، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ فِي
مَفْطُورَ سَمَاوَاتِكَ، وَفِيمَا دَحَوْتَ مِنْ أَرْضِكَ، دَحَوْتَهَا عَلَى
الْمَاءِ، فَسَمَكْتَهَا
عَلَى تَيَّارِ
الْمَوْجِ الْمُتَغَامِرِ، فَأَذْلَلْتَهَا إِذْلَالَ الْمَاءِ الْمُتَطَاهِرِ،
فَذَلَّ لِطَاعَتِكَ صَعْبُهَا، وَاسْتَحْيَى لِأَمْرِكَ أَمْرُهَا، وَخَضَعَتْ
لِعِزَّتِكَ أَمْوَاجُهَا، فَفَجَّرْتَ فِيهَا بَعْدَ الْبُحُورِ الْأَنْهَارَ،
وَمِنْ بَعْدِ الْأَنْهَارِ الْجَدَاوِلَ الصِّغَارَ، وَمِنْ بَعْدِ الْجَدَاوِلِ
يَنَابِيعَ الْعُيُونِ الْغِزَارَ ثُمَّ أَخْرَجْتَ مِنْهَا الْأَنْهَارَ
وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ، ثُمَّ جَعَلْتَ عَلَى ظَهْرِهَا الْجِبَالَ
فَوَتَّدْتَهَا أَوْتَادًا عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ، فَأَطَاعَتْ أَطْوَادُهَا
وَجُلْمُودُهَا، فَتَبَارَكْتَ اللَّهُمَّ، فَمَنْ يَبْلُغُ بِنَعْتِهِ نَعْتَكَ ؟
أَمَّنْ يَبْلُغُ بِصِفَتِهِ صِفَتَكَ ؟ تَنْشُرُ السَّحَابَ، وَتَفُكُّ
الرِّقَابَ وَتَقْضِي الْحَقَّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ، أَمَرْتَ أَنْ نَسْتَغْفِرَكَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، سَتَرْتَ السَّمَاوَاتِ عَنِ النَّاسِ، لَا إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ، إِنَّمَا يَخْشَاكَ مِنْ عِبَادِكَ الْأَكْيَاسُ،
نَشْهَدُ أَنَّكَ لَسْتَ بِإِلَهٍ اسْتَحْدَثْنَاكَ، وَلَا رَبٍّ يَبِيدُ
ذِكْرُهُ، وَلَا كَانَ مَعَكَ شُرَكَاءُ يَقْضُونَ مَعَكَ فَنَدْعُوَهُمْ
وَنَذَرَكُ، وَلَا أَعَانَكَ عَلَى خَلْقِنَا أَحَدٌ فَنَشُكَّ فِيكَ، نَشْهَدُ
أَنَّكَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ كُفُوًا
أَحَدٌ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ
بَعْدَ إِذْ كَلَّمَهُمْ طِفْلًا، حَتَّى بَلَغَ
مَا يَبْلُغُ
الْغِلْمَانُ، ثُمَّ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْبَيَانِ، فَأَكْثَرَ الْيَهُودُ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ مِنَ الْقَوْلِ، كَانُوا
يُسَمُّونَهُ ابْنَ الْبَغِيَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [ النِّسَاءِ: 156 ]. قَالَ:
فَلَمَّا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ أَسْلَمَتْهُ أُمُّهُ فِي الْكُتَّابِ، فَجَعَلَ
لَا يُعَلِّمُهُ الْمُعَلِّمُ شَيْئًا إِلَّا بَدَرَهُ إِلَيْهِ، فَعَلَّمَهُ
أَبَا جَادٍ، فَقَالَ عِيسَى: مَا أَبُو جَادٍ ؟ فَقَالَ الْمُعَلِّمُ: لَا
أَدْرِي. فَقَالَ عِيسَى: كَيْفَ تُعَلِّمُنِي مَا لَا تَدْرِي ؟ فَقَالَ
الْمُعَلِّمُ: إِذًا فَعَلِّمْنِي. فَقَالَ لَهُ عِيسَى: فَقُمْ مِنْ مَجْلِسِكَ.
فَقَامَ فَجَلَسَ عِيسَى مَجْلِسَهُ فَقَالَ: سَلْنِي. فَقَالَ الْمُعَلِّمُ:
فَمَا أَبُو جَادٍ ؟ فَقَالَ عِيسَى: الْأَلِفُ آلَاءُ اللَّهِ، الْبَاءُ بَهَاءُ
اللَّهِ، الْجِيمُ بَهْجَةُ اللَّهِ وَجَمَالُهُ. فَعَجِبَ الْمُعَلِّمُ مِنْ
ذَلِكَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ فَسَّرَ أَبَا جَادٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عُثْمَانَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ كَلَّمَهُ، بِحَدِيثٍ
طَوِيلٍ مَوْضُوعٍ، لَا يُشَكُّ فِيهِ وَلَا يُتَمَارَى.
وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ مُلَيْكَةَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَعَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ،
رَفَعَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِ عِيسَى إِلَى الْكُتَّابِ وَتَعْلِيمِهِ
الْمُعَلِّمَ مَعْنَى حُرُوفِ أَبِي جَادٍ، وَهُوَ مُطَوَّلٌ لَا يُفْرَحُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ وَهَذَا الْحَدِيثُ بَاطِلٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، لَا
يَرْوِيهِ غَيْرُ إِسْمَاعِيلَ.
وَرَوَى ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو يَقُولُ:
كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَهُوَ غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَكَانَ
يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ: تُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكَ مَا خَبَّأَتْ لَكَ أُمُّكَ ؟
فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: خَبَّأَتْ لَكَ كَذَا وَكَذَا. فَيَذْهَبُ
الْغُلَامُ مِنْهُمْ إِلَى أُمِّهِ فَيَقُولُ لَهَا: أَطْعِمِينِي مَا خَبَّأْتِ
لِي. فَتَقُولُ: وَأَيُّ شَيْءٍ خَبَّأْتُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ: كَذَا وَكَذَا.
فَتَقُولُ لَهُ: مَنْ أَخْبَرَكَ ؟ فَيَقُولُ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. فَقَالُوا:
وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمْ هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ مَعَ ابْنِ مَرْيَمَ
لَيُفْسِدَنَّهُمْ. فَجَمَعُوهُمْ فِي بَيْتٍ وَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَخَرَجَ
عِيسَى يَلْتَمِسُهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَسَمِعَ ضَوْضَاءَهُمْ فِي بَيْتٍ،
فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: إِنَّمَا هَؤُلَاءِ قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ.
فَقَالَ: اللَّهُمَّ كَذَلِكَ. فَكَانُوا كَذَلِكَ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ وَمُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَكَانَ عِيسَى يَرَى الْعَجَائِبَ فِي صِبَاهُ
إِلْهَامًا مِنَ اللَّهِ، فَفَشَا ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ، وَتَرَعْرَعَ عِيسَى
فَهَمَّتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، فَخَافَتْ أُمُّهُ عَلَيْهِ، فَأَوْحَى
اللَّهُ إِلَى أُمِّهِ أَنْ تَنْطَلِقَ بِهِ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ ; فَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا
إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [ الْمُؤْمِنُونَ: 50 ].
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ
الرَّبْوَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ صِفَتِهَا أَنَّهَا ذَاتُ قَرَارٍ
وَمَعِينٍ، وَهَذِهِ صِفَةٌ غَرِيبَةُ الشَّكْلِ ; وَهِيَ أَنَّهَا رَبْوَةٌ،
وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، الَّذِي أَعْلَاهُ مُسْتَوٍ
يُقَرُّ عَلَيْهِ، فَمَعَ ارْتِفَاعِهِ، مُتَّسِعٌ،
وَمَعَ عُلُوِّهِ،
فِيهِ عَيْنٌ مِنَ الْمَاءِ مَعِينٌ ; وَهُوَ الْجَارِي السَّارِحُ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ الْمَكَانُ الَّذِي وَلَدَتْ فِيهِ الْمَسِيحَ.
وَهُوَ مَحِلَّةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلِهَذَا فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا
تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ،
فِي قَوْلِ جُمْهُورِ السَّلَفِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، أَنَّهَا أَنْهَارُ دِمَشْقَ.
فَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِأَنْهَارِ دِمَشْقَ. وَقِيلَ:
ذَلِكَ بِمِصْرَ. كَمَا زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ
تَلَقَّاهُ عَنْهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: هِيَ الرَّمْلَةُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: قَالَ لَنَا إِدْرِيسُ، عَنْ جَدِّهِ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ، قَالَ: إِنَّ عِيسَى لَمَّا بَلَغَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَرَهُ
اللَّهُ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ إِلَى بَيْتِ إِيلِيَا. قَالَ:
فَقَدِمَ عَلَيْهِ يُوسُفُ ابْنُ خَالِ أُمِّهِ، فَحَمَلَهُمَا عَلَى حِمَارٍ،
حَتَّى جَاءَ بِهِمَا إِلَى إِيلِيَا وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى أَحْدَثَ اللَّهُ
لَهُ الْإِنْجِيلَ، وَعَلَّمَهُ التَّوْرَاةَ، وَأَعْطَاهُ إِحْيَاءَ الْمَوْتَى،
وَإِبْرَاءَ الْأَسْقَامِ، وَالْعِلْمَ بِالْغُيُوبِ مِمَّا يَدَّخِرُونَ فِي
بُيُوتِهِمْ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ، وَفَزِعُوا لِمَا كَانَ يَأْتِي
مِنَ الْعَجَائِبِ، فَجَعَلُوا يَعْجَبُونَ مِنْهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ
فَفَشَا فِيهِمْ أَمْرُهُ.
بَيَانُ نُزُولِ
الْكُتُبِ الْأَرْبَعَةِ وَمَوَاقِيتِهَا
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ،
حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: أُنْزِلَتِ
التَّوْرَاةُ عَلَى مُوسَى فِي سِتِّ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ،
وَنَزَلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْرَاةِ بِأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ
وَاثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ عَلَى عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، بَعْدَ
الزَّبُورِ بِأَلْفِ عَامٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، وَأُنْزِلَ الْفَرْقَانُ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " عِنْدَ
قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ الْأَحَادِيثَ
الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَفِيهَا أَنَّ الْإِنْجِيلَ أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ
وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمَكَثَ حَتَّى رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهُوَ
ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ: وَأَنْبَأْنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ، وَمُقَاتِلٌ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: يَا عِيسَى جِدَّ فِي أَمْرِي وَلَا تَهِنْ، وَاسْمَعْ وَأَطِعْ يَا ابْنَ الطَّاهِرَةِ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، إِنَّكَ مِنْ غَيْرِ فَحْلٍ وَأَنَا خَلَقْتُكَ آيَةً لِلْعَالَمِينَ، إِيَّايَ فَاعْبُدْ وَعَلَيَّ فَتَوَكَّلْ، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ، فَسِّرْ لِأَهْلِ السُّرْيَانِيَّةِ، بَلِّغْ مَنْ بَيْنَ يَدَيْكَ أَنِّي أَنَا الْحَيُّ الْقَائِمُ الَّذِي لَا أَزُولُ، صَدِّقُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الْعَرَبِيَّ، صَاحِبَ الْجَمَلِ وَالتَّاجِ - وَهِيَ الْعِمَامَةُ - وَالْمِدْرَعَةِ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْهِرَاوَةِ - وَهِيَ الْقَضِيبُ - الْأَنْجَلَ الْعَيْنَيْنِ، الصَّلْتَ الْجَبِينِ، الْوَاضِحَ الْخَدَّيْنِ، الْجَعْدَ الرَّأْسِ، الْكَثَّ اللِّحْيَةِ، الْمَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، الْأَقْنَى الْأَنْفِ، الْمُفَلَّجَ الثَّنَايَا، الْبَادِيَ الْعَنْفَقَةِ، الَّذِي كَأَنَّ عُنُقَهُ إِبْرِيقُ فِضَّةٍ، وَكَأَنَّ الذَّهَبَ يَجْرِي فِي تَرَاقِيهِ، لَهُ شَعَرَاتٌ مِنْ لَبَّتِهِ إِلَى سُرَّتِهِ تَجْرِي كَالْقَضِيبِ، لَيْسَ عَلَى بَطْنِهِ وَلَا عَلَى صَدْرِهِ شَعْرٌ غَيْرُهُ، شَثْنَ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ، إِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جَمِيعًا، وَإِذَا مَشَى كَأَنَّمَا يَتَقَلَّعُ مِنْ صَخْرٍ وَيَنْحَدِرُ مِنْ صَبَبٍ، عَرَقُهُ فِي وَجْهِهِ كَاللُّؤْلُؤِ، وَرِيحُ الْمِسْكِ يَنْفَحُ مِنْهُ، لَمْ يُرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ مِثْلُهُ، الْحَسَنَ الْقَامَةِ، الطَّيِّبَ الرِّيحِ، نَكَّاحَ النِّسَاءِ، ذَا النَّسْلِ الْقَلِيلِ، إِنَّمَا نَسْلُهُ مِنْ مُبَارَكَةٍ لَهَا بَيْتٌ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ - مِنْ قَصَبٍ، لَا نَصَبَ فِيهِ وَلَا صَخَبَ، تُكَفِّلُهُ - يَا عِيسَى - فِي آخِرِ الزَّمَانِ كَمَا كَفَّلَ زَكَرِيَّا أُمَّكَ، لَهُ مِنْهَا فَرْخَانِ مُسْتَشْهَدَانِ، وَلَهُ عِنْدِي مَنْزِلَةٌ لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، كَلَامُهُ الْقُرْآنُ، وَدِينُهُ الْإِسْلَامُ، وَأَنَا السَّلَامُ، طُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَ زَمَانَهُ، وَشَهِدَ أَيَّامَهُ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ.
بَيَانُ شَجَرَةِ
طُوبَى مَا هِيَ
قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ، وَمَا طُوبَى ؟ قَالَ: غَرْسُ شَجَرَةٍ أَنَا
غَرَسْتُهَا بِيَدِي فَهِيَ لِلْجِنَانِ كُلِّهَا، أَصْلُهَا مِنْ رِضْوَانٍ،
وَمَاؤُهَا مِنْ تَسْنِيمٍ، وَبَرْدُهَا بَرْدُ الْكَافُورِ، وَطَعْمُهَا طَعْمُ
الزَّنْجَبِيلِ، وَرِيحُهَا رِيحُ الْمِسْكِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ
يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا. قَالَ عِيسَى: يَا رَبِّ، اسْقِنِي مِنْهَا. قَالَ:
حَرَامٌ عَلَى النَّبِيِّينَ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا، حَتَّى يَشْرَبَ ذَلِكَ النَّبِيُّ،
وَحَرَامٌ عَلَى الْأُمَمِ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْهَا، حَتَّى تَشْرَبَ مِنْهَا
أُمَّةُ ذَلِكَ النَّبِيِّ. قَالَ: يَا عِيسَى، أَرْفَعُكَ إِلَيَّ. قَالَ: يَا
رَبِّ، وَلِمَ تَرْفَعُنِي ؟ قَالَ: أَرْفَعُكَ ثُمَّ أُهْبِطُكَ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ ; لِتَرَى مِنْ أُمَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْعَجَائِبَ،
وَلِتُعِينَهُمْ عَلَى قِتَالِ اللَّعِينِ الدَّجَّالِ، أُهْبِطُكَ فِي وَقْتِ
صَلَاةٍ، ثُمَّ لَا تُصَلِّي بِهِمْ ; لِأَنَّهَا أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، وَلَا
نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عِيسَى قَالَ: يَا رَبِّ،
أَنْبِئْنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ. قَالَ: أُمَّةُ أَحْمَدَ،
هَمْ عُلَمَاءُ حُكَمَاءُ كَأَنَّهُمْ أَنْبِيَاءُ، يَرْضَوْنَ مِنِّي بِالْقَلِيلِ
مِنَ الْعَطَاءِ، وَأَرْضَى مِنْهُمْ بِالْيَسِيرِ مِنَ الْعَمَلِ، وَأُدْخِلُهُمُ
الْجَنَّةَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يَا عِيسَى، هُمْ أَكْثَرُ سُكَّانِ
الْجَنَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَذِلَّ أَلْسُنُ قَوْمٍ قَطُّ بِلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ كَمَا ذَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمْ، وَلَمْ تَذِلَّ رِقَابُ قَوْمٍ قَطُّ
بِالسُّجُودِ كَمَا ذَلَّتْ بِهِ رِقَابُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ بَدِيلٍ الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْسَجَةَ، قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: أَنْزِلْنِي مِنْ نَفْسِكَ كَهَمِّكَ، وَاجْعَلْنِي ذُخْرًا لَكَ فِي مَعَادِكَ، وَتَقَرَّبْ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ أُحِبَّكَ، وَلَا تَوَلَّ غَيْرِي فَأَخْذُلَكَ، اصْبِرْ عَلَى الْبَلَاءِ، وَارْضَ بِالْقَضَاءِ، وَكُنْ لِمَسَرَّتِي فِيكَ، فَإِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أُطَاعَ فَلَا أُعْصَى، وَكُنْ مِنِّي قَرِيبًا، وَأَحْيِ ذِكْرِي بِلِسَانِكَ، وَلْتَكُنْ مَوَدَّتِي فِي صَدْرِكَ، تَيَقَّظْ مِنْ سَاعَاتِ الْغَفْلَةِ، وَاحْكُمْ لِي لَطِيفَ الْفِطْنَةِ، وَكُنْ لِي رَاغِبًا رَاهِبًا، وَأَمِتْ قَلْبَكَ مِنَ الْخَشْيَةِ لِي، وَرَاعِ اللَّيْلَ لِحَقِّ مَسَرَّتِي، وَأَظْمِ نَهَارَكَ لِيَوْمِ الرَّيِّ عِنْدِي، نَافِسْ فِي الْخَيْرَاتِ جَهْدَكَ وَأَعْرِفْ بِالْخَيْرِ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ وَقُمْ فِي الْخَلَائِقِ بِنَصِيحَتِي، وَاحْكُمْ فِي عِبَادِي بِعَدْلِي، فَقَدْ أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ شِفَاءَ وَسَاوِسِ الصُّدُورِ مِنْ مَرَضِ النِّسْيَانِ، وَجِلَاءَ الْأَبْصَارِ مِنْ غِشَاءِ الْكَلَالِ، وَلَا تَكُنْ حَلِسًا كَأَنَّكَ مَقْبُوضٌ وَأَنْتَ حَيٌّ تَنَفَّسُ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، مَا آمَنَتْ بِي خَلِيقَةٌ إِلَّا خَشَعَتْ، وَلَا خَشَعَتْ لِي إِلَّا رَجَتْ ثَوَابِي، فَأُشْهِدُكَ أَنَّهَا آمِنَةٌ مِنْ عِقَابِي، مَا لَمْ تُغَيِّرْ أَوْ تُبَدِّلْ سُنَّتِي، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبِكْرِ الْبَتُولِ، ابْكِ عَلَى نَفْسِكَ أَيَّامَ الْحَيَاةِ بُكَاءَ مَنْ وَدَّعَ الْأَهْلَ وَقَلَا الدُّنْيَا، وَتَرَكَ اللَّذَّاتِ لِأَهْلِهَا، وَارْتَفَعَتْ رَغْبَتُهُ فِيمَا عِنْدَ إِلَهِهِ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ تُلِينُ الْكَلَامَ، وَتُفْشِي السَّلَامَ، وَكُنْ يَقِظَانَ إِذَا نَامَتْ عُيُونُ الْأَبْرَارِ، حَذَارِ مَا هُوَ آتٍ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ، وَزَلَازِلِ شَدَائِدِ الْأَهْوَالِ، قَبْلَ أَنْ لَا يَنْفَعَ أَهْلٌ وَلَا مَالٌ، وَاكْحَلْ عَيْنَكَ بِمُلْمُولِ الْحُزْنِ
إِذَا ضَحِكَ
الْبَطَّالُونَ، وَكُنْ فِي ذَلِكَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، فَطُوبَى لَكَ إِنْ
نَالَكَ مَا وَعَدْتُ الصَّابِرِينَ، رَجِّ مِنَ الدُّنْيَا بِاللَّهِ: يَوْمٌ
بِيَوْمٍ، وَذُقْ مَذَاقَةَ مَا قَدْ هَرَبَ مِنْكَ أَيْنَ طَعْمُهُ، وَمَا لَمْ
يَأْتِكَ كَيْفَ لَذَّتُهُ، فَرَجِّ مِنَ الدُّنْيَا بِالْبُلْغَةِ، وَلْيَكْفِكَ
مِنْهَا الْخَشِنُ الْجَشِيبُ، قَدْ رَأَيْتَ إِلَى مَا تَصِيرُ، اعْمَلْ عَلَى
حِسَابٍ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ، لَوْ رَأَتْ عَيْنُكَ مَا أَعْدَدْتُ لِأَوْلِيَائِي
الصَّالِحِينَ، ذَابَ قَلْبُكَ وَزَهَقَتْ نَفْسُكَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْقَدَرِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَقِيَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ إِبْلِيسَ، فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكَ إِلَّا
مَا كُتِبَ لَكَ ؟ قَالَ إِبْلِيسُ: فَارْقَ بِذِرْوَةِ هَذَا الْجَبَلِ،
فَتَرَدَّ مِنْهُ فَانْظُرْ تَعِيشُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ ابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ
أَبِيهِ: فَقَالَ عِيسَى: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: لَا يُجَرِّبُنِي
عَبْدِي، فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا شِئْتُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّ الْعَبْدَ
لَا يَبْتَلِي رَبَّهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: أَتَى الشَّيْطَانُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ،
فَقَالَ: أَلَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ صَادِقٌ ؟ فَأْتِ هَذِهِ فَأَلْقِ نَفْسَكَ.
قَالَ: وَيْلَكَ! أَلَيْسَ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، لَا تَسْأَلْنِي هَلَاكَ
نَفْسِكَ، فَإِنِّي أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو
تَوْبَةَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ طَلْحَةَ، سَمِعْتُ
خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، قَالَ: تَعَبَّدَ الشَّيْطَانُ مَعَ عِيسَى عَشْرَ سِنِينَ
أَوْ سَنَتَيْنِ، أَقَامَ يَوْمًا عَلَى شَفِيرِ جَبَلٍ، فَقَالَ الشَّيْطَانُ:
أَرَأَيْتَ إِنْ أَلْقَيْتُ نَفْسِي، هَلْ يُصِيبُنِي إِلَّا مَا كُتِبَ لِي ؟
قَالَ: إِنِّي لَسْتُ بِالَّذِي أَبْتَلِي رَبِّي وَلَكِنَّ رَبِّي إِذَا شَاءَ
ابْتَلَانِي. وَعَرَفَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ، فَفَارَقَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ،
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ الْخَطَّابِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ، قَالَ: كَانَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُصَلِّي عَلَى رَأْسِ
جَبَلٍ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ
بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلْقِ نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْجَبَلِ
وَقُلْ: قَدَرٌ عَلَيَّ. فَقَالَ: يَا لِعَيْنُ، اللَّهُ يَخْتَبِرُ الْعِبَادَ،
وَلَيْسَ الْعِبَادُ يَخْتَبِرُونَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَيْضًا:
حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ
بَشَّارٍ، سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: لَقِيَ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ إِبْلِيسُ، فَقَالَ لَهُ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَنْتَ
الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تَكَلَّمْتَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيًّا، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ. قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ
لِلْإِلَهِ الَّذِي أَنْطَقَنِي، ثُمَّ يُمِيتُنِي، ثُمَّ يُحْيِينِي. قَالَ:
فَأَنْتَ الَّذِي بَلَغَ مِنْ عِظَمِ رُبُوبِيَّتِكَ أَنَّكَ تُحْيِي الْمَوْتَى.
قَالَ: بَلِ الرُّبُوبِيَّةُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ مَنْ أَحْيَيْتُ
ثُمَّ يُحْيِيهِ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ
لَإِلَهٌ فِي
السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: فَصَكَّهُ جِبْرِيلُ صَكَّةً
بِجَنَاحِهِ فَمَا تَنَاهَى دُونَ قُرُونِ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى
بِجَنَاحِهِ فَمَا تَنَاهَى دُونَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ، ثُمَّ صَكَّهُ أُخْرَى
فَأَدْخَلَهُ بِحَارَ السَّابِعَةِ فَأَسَاخَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَسْلَكَهُ -
فِيهَا حَتَّى وَجَدَ طَعْمَ الْحَمْأَةِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَهُوَ يَقُولُ: مَا
لَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَحَدٍ مَا لَقِيتُ مِنْكَ يَا ابْنَ مَرْيَمَ.
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا بِأَبْسَطَ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ; فَقَالَ
الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
رَزْقَوَيْهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سِنْدِيٍّ، حَدَّثَنَا
أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عِيسَى الْعَطَّارُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ
سُوَيْدٌ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: صَلَّى عِيسَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ
فَانْصَرَفَ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الْعَقَبَةِ، عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ
فَاحْتَبَسَهُ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَيُكَلِّمُهُ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ
لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا. فَأَكْثَرَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ عِيسَى
يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهُ، فَجَعَلَ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ،
فَقَالَ لَهُ فِيمَا يَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لَكَ يَا عِيسَى أَنْ تَكُونَ
عَبْدًا. قَالَ: فَاسْتَغَاثَ عِيسَى بِرَبِّهِ، فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ
وَمِيكَائِيلُ، فَلَمَّا رَآهُمَا إِبْلِيسُ كَفَّ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّا مَعَهُ
عَلَى الْعَقَبَةِ، اكْتَنَفَا عِيسَى، وَضَرَبَ جِبْرِيلُ إِبْلِيسَ بِجَنَاحِهِ،
فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي. قَالَ: فَعَادَ إِبْلِيسُ مَعَهُ، وَعَلِمَ
أَنَّهُمَا لَمْ يُؤْمَرَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ لِعِيسَى: قَدْ أَخْبَرْتُكَ
أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَبْدًا، إِنَّ غَضَبَكَ لَيْسَ
بِغَضَبِ عَبْدٍ،
وَقَدْ رَأَيْتَ مَا لَقِيتُ مِنْكَ حِينَ غَضِبْتَ، وَلَكِنْ أَدْعُوكَ إِلَى
أَمْرٍ هُوَ لَكَ ; آمُرُ الشَّيَاطِينَ فَلْيُطِيعُوكَ، فَإِذَا رَأَى الْبَشَرُ
أَنَّ الشَّيَاطِينَ أَطَاعُوكَ، عَبَدُوكَ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ أَنْ
تَكُونَ إِلَهًا لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَكُونُ إِلَهًا فِي
السَّمَاءِ، وَتَكُونُ أَنْتَ إِلَهًا فِي الْأَرْضِ. فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى
ذَلِكَ مِنْهُ، اسْتَغَاثَ بِرَبِّهِ وَصَرَخَ صَرْخَةً شَدِيدَةً، فَإِذَا
إِسْرَافِيلُ قَدْ هَبَطَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، فَكَفَّ
إِبْلِيسُ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ مَعَهُمْ ضَرَبَ إِسْرَافِيلُ إِبْلِيسَ
بِجَنَاحِهِ، فَصَكَّ بِهِ عَيْنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ ضَرْبَةً أُخْرَى،
فَأَقْبَلَ إِبْلِيسُ يَهْوِي، وَمَرَّ بِعِيسَى وَهُوَ بِمَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا
عِيسَى، لَقَدْ لَقِيتُ فِيكَ الْيَوْمَ تَعَبًا شَدِيدًا. فَرَمَى بِهِ فِي
عَيْنِ الشَّمْسِ، فَوَجَدَ سَبْعَةَ أَمْلَاكٍ عِنْدَ الْعَيْنِ الْحَامِيَةِ.
قَالَ: فَغَطُّوهُ، فَجَعَلَ كُلَّمَا خَرَجَ غَطُّوهُ فِي تِلْكَ الْحَمْأَةِ.
قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَادَ إِلَيْهِ بَعْدُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ،
قَالَ: وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ شَيَاطِينُهُ، فَقَالُوا: سَيِّدُنَا، قَدْ لَقِيتَ
تَعَبًا. قَالَ: إِنَّ هَذَا عَبْدٌ مَعْصُومٌ، لَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ،
وَسَأُضِلُّ بِهِ بَشَرًا كَثِيرًا، وَأَبُثُّ فِيهِمْ أَهْوَاءً مُخْتَلِفَةً،
وَأَجْعَلُهُمْ شِيَعًا، وَيَجْعَلُونَهُ وَأُمَّهُ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ
اللَّهِ. قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا أَيَّدَ بِهِ عِيسَى وَعَصَمَهُ مِنْ
إِبْلِيسَ قُرْآنًا نَاطِقًا بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ عَلَى عِيسَى، فَقَالَ: يَاعِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ
بِرُوحِ الْقُدُسِ يَعْنِي: إِذْ قَوَّيْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ 72، يَعْنِي
جِبْرِيلَ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ
الْكِتَابَ
يَعْنِي الْإِنْجِيلَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ [ الْمَائِدَةِ: 110 ]. وَإِذْ جَعَلْتُ الْمَسَاكِينَ لَكَ بِطَانَةً وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا تَرْضَى بِهِمْ، وَصَحَابَةً وَأَعْوَانًا يَرْضَوْنَ بِكَ هَادِيًا وَقَائِدًا إِلَى الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ - فَاعْلَمْ - خُلُقَانِ عَظِيمَانِ، مَنْ لَقِيَنِي بِهِمَا فَقَدْ لَقِيَنِي بِأَزْكَى الْخَلَائِقِ وَأَرْضَاهَا عِنْدِي، وَسَيَقُولُ لَكَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: صُمْنَا فَلَمْ يَتَقَبَّلْ صِيَامَنَا، وَصَلَّيْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَلَاتَنَا، وَتَصَدَّقْنَا فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَاتِنَا، وَبَكَيْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الْجِمَالِ فَلَمْ يَرْحَمْ بُكَاءَنَا. فَقُلْ لَهُمْ: وَلَمَّ ذَلِكَ ؟ وَمَا الَّذِي يَمْنَعُنِي، أَنَّ ذَاتَ يَدِي قَلَّتْ ؟! أَوَلَيِسَ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِي أُنْفِقَ مِنْهَا كَيْفَ أَشَاءُ، أَوْ أَنَّ الْبُخْلَ يَعْتَرِينِي ؟ أَوَلَسْتُ أَجْوَدَ مَنْ سُئِلَ وَأَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى ؟ أَوْ أَنَّ رَحْمَتِي ضَاقَتْ ؟ وَإِنَّمَا يَتَرَاحَمُ الْمُتَرَاحِمُونَ بِفَضْلِ رَحْمَتِي، وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ، يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، عَدُّوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحِكْمَةِ الَّتِي تُورِثُ فِي قُلُوبِهِمْ مَا اسْتَأْثَرُوا بِهِ الدُّنْيَا أَثَرَةً عَلَى الْآخِرَةِ، لَعَرَفُوا مِنْ أَيْنَ أُتُوا، وَإِذًا لَأَيْقَنُوا أَنَّ أَنْفُسَهُمْ هِيَ أَعْدَى الْأَعْدَاءِ لَهُمْ، وَكَيْفَ أَقْبَلُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ الْحَرَامِ ؟! وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ تَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ يُحَارِبُونِي وَيَسْتَحِلُّونَ مَحَارِمِي ؟! وَكَيْفَ أَقْبَلُ صَدَقَاتِهِمْ وَهُمْ يَغْصِبُونَ النَّاسَ عَلَيْهَا، فَيَأْخُذُونَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا ؟! يَا عِيسَى، إِنَّمَا أَجْزِي عَلَيْهَا أَهْلَهَا، وَكَيْفَ أَرْحَمُ بُكَاءَهُمْ وَأَيْدِيهِمْ تَقْطُرُ مِنْ دِمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ، ازْدَدْتُ عَلَيْهِمْ غَضَبًا، يَا عِيسَى، وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَنِي وَقَالَ فِيكُمَا بِقَوْلِي، أَنْ أَجْعَلَهُمْ جِيرَانَكَ فِي الدَّارِ، وَرُفَقَاءَكَ فِي الْمَنَازِلِ، وَشُرَكَاءَكَ فِي الْكَرَامَةِ،
وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنَّهُ مَنِ اتَّخَذَكَ وَأُمَّكَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْ أَجْعَلَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَقَضَيْتُ يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، أَنِّي مُثَبِّتٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِي مُحَمَّدٍ وَأَخْتِمُ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ، وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ، وَمُهَاجَرُهُ بِطَيْبَةَ، وَمُلْكُهُ بِالشَّامِ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٌ بِالْفُحْشِ، وَلَا قَوَّالٍ بِالْخَنَا، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ أَمْرٍ جَمِيلٍ، وَأَهَبُّ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، أَجْعَلُ التَّقْوَى ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ، وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ، وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَائِلَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الضَّعَةِ، أَهْدِي بِهِ، وَأَفْتَحُ بِهِ بَيْنَ آذَانٍ صُمٍّ، وَقُلُوبٍ غُلْفٍ، وَأَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، أَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ; إِخْلَاصًا لِاسْمِي وَتَصْدِيقًا لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، أُلْهِمُهُمُ التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّقْدِيسَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ وَمُنْقَلَبِهِمْ وَمَثْوَاهُمْ، يُصَلُّونَ لِي قِيَامًا وَقُعُودًا وَرُكَّعًا وَسُجَّدًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا، قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، وَقُرْبَانُهُمْ فِي بُطُونِهِمْ، رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ، لُيُوثٌ بِالنَّهَارِ، ذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ، وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
وَسَنَذْكُرُ مَا يُصَدِّقُ كَثِيرًا مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، بِمَا سَنُورِدُهُ مِنْ سُورَتَيْ " الْمَائِدَةِ " وَ " الصَّفِّ "، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ بِأَسَانِيدِهِ، عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - قَالُوا: لَمَّا بُعِثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، جَعَلَ الْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ فَيَقُولُونَ: مَا أَكَلَ فُلَانٌ الْبَارِحَةَ، وَمَا ادَّخَرَ فِي بَيْتِهِ ؟ فَيُخْبِرُهُمْ، فَيَزْدَادُ الْمُؤْمِنُونَ إِيمَانًا، وَالْكَافِرُونَ وَالْمُنَافِقُونَ شَكًّا وَكُفْرَانًا، وَكَانَ عِيسَى، مَعَ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ مَنْزِلٌ يَأْوِي إِلَيْهِ، إِنَّمَا يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ قَرَارٌ وَلَا مَوْضِعٌ يُعْرَفُ بِهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا أَحْيَا مِنَ الْمَوْتَى، أَنَّهُ مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى امْرَأَةٍ قَاعِدَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَتْ: مَاتَتِ ابْنَةٌ لِي لَمْ يَكُنْ لِي وَلَدٌ غَيْرُهَا، وَإِنِّي عَاهَدْتُ رَبِّي أَنْ لَا أَبْرَحُ مِنْ مَوْضِعِي هَذَا حَتَّى أَذُوقَ مَا ذَاقَتْ مِنَ الْمَوْتِ، أَوْ يُحْيِيَهَا اللَّهُ لِي فَأَنْظُرُ إِلَيْهَا. فَقَالَ لَهَا عِيسَى: أَرَأَيْتِ إِنْ نَظَرْتِ إِلَيْهَا أَرَاجِعَةٌ أَنْتِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالُوا: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ عِنْدَ الْقَبْرِ، فَنَادَى: يَا فُلَانَةُ قُومِي بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ فَاخْرُجِي. قَالَ: فَتَحَرَّكَ الْقَبْرُ، ثُمَّ نَادَى الثَّانِيَةَ، فَانْصَدَعَ الْقَبْرُ بِإِذْنِ اللَّهِ، ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ، فَخَرَجَتْ وَهِيَ تَنْفُضُ رَأْسَهَا مِنَ التُّرَابِ، فَقَالَ لَهَا عِيسَى: مَا بَطَّأَ بِكِ عَنِّي ؟ فَقَالَتْ: لَمَّا جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الْأُولَى بَعَثَ اللَّهُ لِي مَلَكًا فَرَكَّبَ خَلْقِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي الصَّيْحَةُ الثَّانِيَةُ، فَرَجَعَ إِلَيَّ رُوحِي، ثُمَّ جَاءَتْنِي
الصَّيْحَةُ
الثَّالِثَةُ، فَخِفْتُ أَنَّهَا صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ، فَشَابَ رَأْسِي
وَحَاجِبَايَ وَأَشْفَارُ عَيْنِي ; مِنْ مَخَافَةِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ
أَقْبَلَتْ عَلَى أُمِّهَا فَقَالَتْ: يَا أُمَّتَاهُ، مَا حَمَلَكِ عَلَى أَنْ
أَذُوقَ كَرْبَ الْمَوْتِ مَرَّتَيْنِ ؟ يَا أُمَّتَاهُ، اصْبِرِي وَاحْتَسِبِي،
فَلَا حَاجَةَ لِي فِي الدُّنْيَا، يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، سَلْ رَبِّي
أَنْ يَرُدَّنِي إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنْ يُهَوِّنَ عَلَيَّ كَرْبَ الْمَوْتِ.
فَدَعَا رَبَّهُ فَقَبَضَهَا إِلَيْهِ، وَاسْتَوَتْ عَلَيْهَا الْأَرْضُ، فَبَلَغَ
ذَلِكَ الْيَهُودَ، فَازْدَادُوا عَلَيْهِ غَضَبًا.
وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ، أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلُوهُ أَنْ
يُحْيِيَ لَهُمْ سَامَ بْنَ نُوحٍ، فَدَعَا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَصَلَّى
لَهُ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَحَدَّثَهُمْ عَنِ السَّفِينَةِ وَأَمْرِهَا،
ثُمَّ دَعَا فَعَادَ تُرَابًا.
وَقَدْ رَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، وَفِيهِ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مَاتَ وَحُمِلَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَجَاءَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَدَعَا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَرَأَى
النَّاسُ أَمْرًا هَائِلًا وَمَنْظَرًا عَجِيبًا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ
أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ
عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ
تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ
طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ
تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ
جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي
وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [ الْمَائِدَةِ:
110، 111 ].
يُذَكِّرُهُ تَعَالَى بِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ فِي خَلْقِهِ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، بَلْ مِنْ أُمٍّ بِلَا ذَكَرٍ، وَجَعْلِهِ لَهُ آيَةً لِلنَّاسِ، وَدَلَالَةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، ثُمَّ إِرْسَالِهِ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ وَعَلَى وَالِدَتِكَ فِي اصْطِفَائِهَا وَاخْتِيَارِهَا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَإِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى بَرَاءَتِهَا مِمَّا نَسَبَهَا إِلَيْهِ الْجَاهِلُونَ ; وَلِهَذَا قَالَ: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ، بِإِلْقَاءِ رُوحِهِ إِلَى أُمِّهِ، وَقَرْنِهِ مَعَهُ فِي حَالِ رِسَالَتِهِ، وَمُدَافَعَتِهِ عَنْهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أَيْ: تَدْعُو النَّاسَ إِلَى اللَّهِ فِي حَالِ صِغَرِكَ فِي مَهْدِكَ، وَفِي كُهُولَتِكَ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ أَيِ الْخَطَّ وَالْفَهْمَ. نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَقَوْلُهُ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي أَيْ: تُصَوِّرُهُ وَتُشَكِّلُهُ مِنَ الطِّينِ عَلَى هَيْئَتِهِ، عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي أَيْ: بِأَمْرِي. يُؤَكِّدُ تَعَالَى بِذِكْرِ الْإِذْنِ لَهُ فِي ذَلِكَ ; لِرَفْعِ التَّوَهُّمِ. وَقَوْلُهُ: وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَهُوَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَمَاءِ إِلَى مُدَاوَاتِهِ وَالْأَبْرَصَ وَهُوَ الَّذِي لَا طِبَّ فِيهِ، بَلْ قَدْ مَرِضَ بِالْبَرَصِ وَصَارَ دَاؤُهُ عُضَالًا وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَحْيَاءً بِإِذْنِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً
مِمَّا فِيهِ
كِفَايَةٌ. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ
جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وَذَلِكَ حِينَ أَرَادُوا صَلْبَهُ فَرَفَعَهُ اللَّهُ
إِلَيْهِ، وَأَنْقَذَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ ; صِيَانَةً لِجَنَابِهِ الْكَرِيمِ
عَنِ الْأَذَى، وَسَلَامَةً لَهُ مِنَ الرَّدَى. وَقَوْلُهُ: وَإِذْ أَوْحَيْتُ
إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ
بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْوَحْيِ وَحْيُ إِلْهَامٍ.
أَيْ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ:
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ النَّحْلِ: 68 ]. وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ
مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [
الْقَصَصِ: 7 ]. وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ، وَتَوْفِيقٌ
فِي قُلُوبِهِمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ ; وَلِهَذَا اسْتَجَابُوا قَائِلِينَ: آمَنَّا
وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ.
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ ; أَنْ جَعْلَ لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَنْصُرُونَهُ وَيَدْعُونَ
مَعَهُ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
لِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ الْأَنْفَالِ: 62، 63 ]. وَقَالَ
تَعَالَى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ
فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ
وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا
تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ
أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا
بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 48 - 54 ].
كَانَتْ مُعْجِزَةُ كُلِّ نَبِيٍّ فِي زَمَانِهِ بِمَا يُنَاسِبُ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ ; فَذَكَرُوا أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَتْ مُعْجِزَتُهُ مِمَّا يُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانِهِ، فَكَانُوا سَحَرَةً أَذْكِيَاءَ، فَبُعِثَ بِآيَاتٍ بَهَرَتِ الْأَبْصَارَ، وَخَضَعَتْ لَهَا الرِّقَابُ، وَلَمَّا كَانَ السَّحَرَةُ خَبِيرِينَ بِفُنُونِ السِّحْرِ وَمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ، وَعَايَنُوا مَا عَايَنُوا مِنَ الْأَمْرِ الْبَاهِرِ الْهَائِلِ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ إِلَّا مِمَّنْ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَأَجْرَى الْخَارِقَ عَلَى يَدَيْهِ تَصْدِيقًا لَهُ، أَسْلَمُوا سِرَاعًا، وَلَمْ يَتَلَعْثَمُوا، وَهَكَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، بُعِثَ فِي زَمَنِ الطَّبَائِعِيَّةِ الْحُكَمَاءِ، فَأُرْسِلَ بِمُعْجِزَاتٍ لَا يَسْتَطِيعُونَهَا وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، وَأَنَّى لِحَكِيمٍ إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ، الَّذِي هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ، وَمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، وَكَيْفَ يَتَوَصَّلُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَ الْمَيِّتَ مِنْ قَبْرِهِ، هَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ قَامَتْ بِهِ، وَعَلَى قُدْرَةِ مَنْ أَرْسَلَهُ، وَهَكَذَا مُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، بُعِثَ فِي زَمَنِ
الْفُصَحَاءِ
الْبُلَغَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، الَّذِي لَا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَلَفْظُهُ مُعْجِزٌ تَحَدَّى بِهِ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مَثَلِهِ، أَوْ بِسُورَةٍ،
وَقَطَعَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ، لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي
الِاسْتِقْبَالِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَلَنْ يَفْعَلُوا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا
لِأَنَّهُ كَلَامُ الْخَالِقِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ
شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا أَقَامَ عَلَيْهِمُ
الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ، اسْتَمَرَّ أَكْثَرُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ
وَضَلَالِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَانْتَدَبَ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ
طَائِفَةً صَالِحَةً، فَكَانُوا لَهُ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا، قَامُوا
بِمُتَابَعَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، وَذَلِكَ حِينَ هَمَّ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ، وَوَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ مُلُوكِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَعَزَمُوا
عَلَى قَتْلِهِ وَصَلْبِهِ، فَأَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَرَفَعَهُ إِلَيْهِ
مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَأَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى أَحَدِ أَصْحَابِهِ،
فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَهُمْ يَعْتَقِدُونَهُ عِيسَى، وَهْمُ فِي
ذَلِكَ غَالِطُونَ، وَلِلْحَقِّ مُكَابِرُونَ، وَسَلَّمَ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ
النَّصَارَى مَا ادَّعَوْهُ، وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ مُخْطِئُونَ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ
مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ الصَّفِّ: 6 - 9 ].
إِلَى أَنْ قَالَ
بَعْدَ ذَلِكَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى
عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [ الصَّفِّ: 14 ]. فَعِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، هُوَ خَاتَمُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَدْ قَامَ فِيهِمْ
خَطِيبًا فَبَشَّرَهُمْ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الْآتِي بَعْدَهُ، وَنَوَّهَ
بِاسْمِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ صِفَتَهُ لِيَعْرِفُوهُ وَيُتَابِعُوهُ إِذَا
شَاهَدُوهُ ; إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانًا مِنَ اللَّهِ
إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ
آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ
مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ الْأَعْرَافِ: 157 ].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ
بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نَفْسِكَ.
قَالَ:
دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَأَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا، وَفِيهِ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا بَنَى الْكَعْبَةَ قَالَ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [ الْبَقَرَةِ: 129 ]. الْآيَةَ. وَلَمَّا انْتَهَتِ النُّبُوَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى عِيسَى، قَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ النُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ، وَأَنَّهَا بَعْدَهُ فِي النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ، خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، أَحْمَدَ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، الَّذِي هُوَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُحْتَمَلُ عُودُهُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حَرَّضَ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى نُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَنُصْرَةِ نَبِيِّهِ وَمُؤَازَرَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ وَنَشْرِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أَيْ: مَنْ يُسَاعِدُنِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: النَّاصِرَةُ. فَسُمُّوا النَّصَارَى بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ يَعْنِي، لَمَّا دَعَا عِيسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ،
فَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ أَهْلُ أَنْطَاكِيَةَ بِكَمَالِهِمْ، فِيمَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَالتَّفْسِيرِ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ رُسُلًا ثَلَاثَةً، أَحَدُهُمْ شَمْعُونُ الصَّفَا، فَآمَنُوا وَاسْتَجَابُوا، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ " يس " لِمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ، وَكَفَرَ آخَرُونَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهْمُ جُمْهُورُ الْيَهُودِ، فَأَيَّدَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ بِهِ عَلَى مَنْ كَفَرَ فِيمَا بَعْدُ، وَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ عَلَيْهِمْ قَاهِرِينَ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ آلِ عِمْرَانَ: 55 ]. الْآيَةَ. فَكُلُّ مَنْ كَانَ إِلَيْهِ أَقْرَبَ، كَانَ غَالِبًا لِمَنْ دُونَهُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، مِنْ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، كَانُوا ظَاهِرِينَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ غَلَوْا فِيهِ وَأَطْرَوْهُ، وَأَنْزَلُوهُ فَوْقَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلَمَّا كَانَ النَّصَارَى أَقْرَبَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْيَهُودُ فِيهِ، عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، كَانَ النَّصَارَى قَاهِرِينَ لِلْيَهُودِ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَةِ إِلَى زَمَنِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ خَبَرِ
الْمَائِدَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ
قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ
مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ
عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا
أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا
وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قَالَ
اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي
أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ الْمَائِدَةِ:
112 - 115 ]. قَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ الْآثَارَ الْوَارِدَةَ فِي نُزُولِ
الْمَائِدَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَعَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ، وَمَضْمُونُ ذَلِكَ، أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، أَمَرَ الْحَوَارِيِّينَ بِصِيَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، فَلَمَّا
أَتَمُّوهَا سَأَلُوا مِنْ عِيسَى إِنْزَالَ مَائِدَةٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ
لِيَأْكُلُوا مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ، أَنَّ اللَّهَ قَدْ
تَقَبَّلَ صِيَامَهُمْ وَأَجَابَهُمْ إِلَى طَلِبَتِهِمْ، وَتَكُونَ لَهُمْ عِيدًا
يُفْطِرُونَ عَلَيْهَا يَوْمَ فِطْرِهِمْ، وَتَكُونَ كَافِيَةً لِأَوَّلِهِمْ
وَآخِرِهِمْ، لِغَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ، فَوَعَظَهُمْ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، فِي ذَلِكَ وَخَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَقُومُوا بِشُكْرِهَا، وَلَا
يُؤَدُّوا حَقَّ شُرُوطِهَا، فَأَبَوْا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ لَهُمْ
ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ، قَامَ
إِلَى مُصَلَّاهُ وَلَبِسَ مِسْحًا مِنْ شَعْرٍ، وَصَفَّ بَيْنَ قَدَمَيْهِ
وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ، وَأَسْبَلَ عَيْنَيْهِ بِالْبُكَاءِ، وَتَضَرَّعَ
إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ، أَنْ يُجَابُوا إِلَى مَا طَلَبُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَائِدَةَ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا تَنْحَدِرُ بَيْنَ غَمَامَتَيْنِ، وَجَعَلَتْ تَدْنُو قَلِيلًا قَلِيلًا، وَكُلَّمَا دَنَتْ سَأَلَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَبَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَجْعَلَهَا رَحْمَةً لَا نِقْمَةً وَأَنْ يَجْعَلَهَا بَرَكَةً وَسَلَامَةً، فَلَمْ تَزَلْ تَدْنُو حَتَّى اسْتَقَرَّتْ بَيْنَ يَدَيْ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهِيَ مُغَطَّاةٌ بِمَنْدِيلٍ، فَقَامَ عِيسَى يَكْشِفُ عَنْهَا، وَهُوَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. فَإِذَا عَلَيْهَا سَبْعَةٌ مِنَ الْحِيتَانِ، وَسَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ، وَيُقَالُ: وَخَلٌّ. وَيُقَالُ: وَرُمَّانٌ وَثِمَارٌ. وَلَهَا رَائِحَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا. قَالَ اللَّهُ لَهَا: كُونِي. فَكَانَتْ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهَا، فَقَالُوا: لَا نَأْكُلُ حَتَّى تَأْكُلَ. فَقَالَ: إِنَّكُمُ الَّذِينَ ابْتَدَأْتُمُ السُّؤَالَ لَهَا. فَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهَا ابْتِدَاءً، فَأَمَرَ الْفُقَرَاءَ وَالْمَحَاوِيجَ وَالْمَرْضَى وَالزَّمْنَى، وَكَانُوا قَرِبَيًا مِنْ أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَكَلُوا مِنْهَا فَبَرَأَ كُلُّ مَنْ بِهِ عَاهَةٌ، أَوْ آفَةٌ، أَوْ مَرَضٌ مُزْمِنٌ، فَنَدِمَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الْأَكْلِ مِنْهَا ; لِمَا رَأَوْا مِنْ إِصْلَاحِ حَالِ أُولَئِكَ، ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً، فَيَأْكُلُ النَّاسُ مِنْهَا، يَأْكُلُ آخِرُهُمْ كَمَا يَأْكُلُ أَوَّلُهُمْ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا كَانَ يَأْكُلُ مِنْهَا نَحْوُ سَبْعَةِ آلَافٍ. ثُمَّ كَانَتْ تَنْزِلُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، كَمَا كَانَتْ نَاقَةُ صَالِحٍ يَشْرَبُونَ لَبَنَهَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ عِيسَى أَنْ يَقْصُرَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوِ الْمَحَاوِيجِ، دُونَ الْأَغْنِيَاءِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَتَكَلَّمَ مُنَافِقُوهُمْ فِي ذَلِكَ، فَرُفِعَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمُسِخَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ خَنَازِيرَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَ ابْنُ جَرِيرٍ جَمِيعًا، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ الْبَاهِلِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ، خِلَاسٍ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَزَلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزٌ وَلَحْمٌ، وَأُمِرُوا أَنْ لَا يَخُونُوا، وَلَا يَدَّخِرُوا، وَلَا يَرْفَعُوا لِغَدٍ، فَخَانُوا وَادَّخَرُوا وَرَفَعُوا، فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بُنْدَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلَاسٍ، عَنْ عَمَّارٍ، مَوْقُوفًا، وَهَذَا أَصَحُّ، وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عِجْلٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْقُوفًا، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَخِلَاسٌ عَنْ عَمَّارٍ مُنْقَطِعٌ، فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَرْفُوعًا لَكَانَ فَيْصَلًا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ ; فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَائِدَةِ، هَلْ نَزَلَتْ أَمْ لَا ؟ فَالْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآثَارُ، وَكَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ ظَاهِرِ سِيَاقِ الْقُرْآنِ، وَلَا سِيَّمَا قَوْلُهُ: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ كَمَا قَرَّرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى مُجَاهِدٍ، وَإِلَى الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَمْ تَنْزِلْ. وَإِنَّهُمْ أَبَوْا نُزُولَهَا، حِينَ قَالَ: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ
وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ النَّصَارَى لَا يَعْرِفُونَ خَبَرَ الْمَائِدَةِ، وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي كِتَابِهِمْ مَعَ أَنَّ خَبَرَهَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي " التَّفْسِيرِ "، فَلْيُكْتَبْ مِنْ هُنَاكَ، وَمَنْ أَرَادَ مُرَاجَعَتَهُ فَلْيَنْظُرْهُ مِنْ ثَمَّ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَصْلٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا رَجُلٌ سَقَطَ اسْمُهُ،
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ مُحَمَّدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: فَقَدَ
الْحَوَارِيُّونَ نَبِيَّهُمْ عِيسَى، فَقِيلَ لَهُمْ: تَوَجَّهَ نَحْوَ
الْبَحْرِ. فَانْطَلَقُوا يَطْلُبُونَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَحْرِ،
إِذَا هُوَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، يَرْفَعُهُ الْمَوْجُ مَرَّةً وَيَضَعُهُ
أُخْرَى، وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ، مُرْتَدٍ بِنِصْفِهِ، وَمُؤْتَزِرٌ بِنِصْفِهِ
حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ - قَالَ أَبُو هِلَالٍ:
ظَنَنْتُ أَنَّهُ مَنْ أَفَاضِلِهِمْ -: أَلَا أَجِيءُ إِلَيْكَ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَوَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْمَاءِ،
ثُمَّ ذَهَبَ لِيَضَعَ الْأُخْرَى فَقَالَ: أَوَّهْ، غَرِقْتُ يَا نَبِيَّ
اللَّهِ. فَقَالَ: أَرِنِي يَدَكَ يَا قَصِيرَ الْإِيمَانِ، لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ
مِنَ الْيَقِينِ قَدْرَ شَعِيرَةٍ، مَشَى عَلَى الْمَاءِ. وَرَوَاهُ أَبُو سَعِيدِ
بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ أَبِي الْجَحِيمِ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ بَكْرٍ، بِنَحْوِهِ. ثُمَّ
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْعَثِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ
عِيَاضٍ قَالَ: قِيلَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ: يَا عِيسَى، بِأَيِّ شَيْءٍ
تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ؟ قَالَ:
بِالْإِيمَانِ
وَالْيَقِينِ. قَالُوا: فَإِنَّا آمَنَّا كَمَا آمَنْتَ وَأَيْقَنَّا كَمَا
أَيْقَنْتَ. قَالَ: فَامْشُوا إِذًا. قَالَ: فَمَشَوْا مَعَهُ فِي الْمَوْجِ
فَغَرِقُوا. فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى: مَا لَكُمْ ؟ فَقَالُوا: خِفْنَا الْمَوْجَ.
قَالَ: أَلَا خِفْتُمْ رَبَّ الْمَوْجِ. قَالَ: فَأَخْرَجَهُمْ ثُمَّ ضَرَبَ
بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَبَضَ بِهَا ثُمَّ بَسَطَهَا، فَإِذَا فِي إِحْدَى
يَدَيْهِ ذَهَبٌ، وَفِي الْأُخْرَى مَدَرٌ أَوْ حَصًى، فَقَالَ: أَيُّهُمَا
أَحْلَى فِي قُلُوبِكُمْ ؟ قَالُوا: هَذَا الذَّهَبُ. قَالَ: فَإِنَّهُمَا عِنْدِي
سَوَاءٌ. وَقَدَّمْنَا فِي قِصَّةِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ
أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَلْبَسُ الشَّعْرَ وَيَأْكُلُ مِنْ
وَرَقِ الشَّجَرِ، وَلَا يَأْوِي إِلَى مَنْزِلٍ وَلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا
يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ
أُمِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، إِذَا ذُكِرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ صَاحَ، وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي
لِابْنِ مَرْيَمَ أَنْ تُذْكَرَ عِنْدَهُ السَّاعَةُ وَيَسْكُتَ. وَعَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبْجَرَ، أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا سَمِعَ
الْمَوْعِظَةَ صَرَخَ صُرَاخَ الثَّكْلَى.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
بُرْقَانَ: أَنَّ عِيسَى كَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ لَا
أَسْتَطِيعُ دَفْعَ مَا أَكْرَهُ، وَلَا أَمْلِكُ نَفْعَ مَا أَرْجُو، وَأَصْبَحَ
الْأَمْرُ بِيَدِ غَيْرِي، وَأَصْبَحْتُ مُرْتَهِنًا بِعَمَلِي، فَلَا فَقِيرَ
أَفْقَرُ مِنِّي،
اللَّهُمَّ لَا
تُشْمِتْ بِيَ عَدُوِّي، وَلَا تَسُؤْ بِي صَدِيقِي، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتِي
فِي دِينِي، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيَّ مَنْ لَا يَرْحَمُنِي. وَقَالَ الْفُضَيْلُ
بْنُ عِيَاضٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ كَانَ عِيسَى يَقُولُ: لَا يُصِيبُ أَحَدٌ
حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا يُبَالِيَ مِنْ أَكْلِ الدُّنْيَا. قَالَ
الْفُضَيْلُ: وَكَانَ عِيسَى يَقُولُ: فَكَّرْتُ فِي الْخَلْقِ، فَوَجَدْتُ مَنْ
لَمْ يُخْلَقْ أَغْبَطَ عِنْدِي مِمَّنْ خُلِقَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ،
قَالَ: إِنَّ عِيسَى رَأْسُ الزَّاهِدِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَإِنَّ
الْفَرَّارِينَ بِذُنُوبِهِمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى.
قَالَ: وَبَيْنَمَا عِيسَى يَوْمًا نَائِمٌ عَلَى حَجَرٍ قَدْ تَوَسَّدَهُ، وَقَدْ
وَجَدَ لَذَّةَ النَّوْمِ، إِذْ مَرَّ بِهِ إِبْلِيسُ، فَقَالَ: يَا عِيسَى،
أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ لَا تُرِيدُ شَيْئًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ؟ فَهَذَا
الْحَجَرُ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. فَقَامَ عِيسَى فَأَخَذَ الْحَجَرَ فَرَمَى
بِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا لَكَ مَعَ الدُّنْيَا. وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ: خَرَجَ عِيسَى عَلَى أَصْحَابِهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ
وَكِسَاءٌ وَتُبَّانٌ، حَافِيًا بَاكِيًا شَعِثًا، مُصْفَرَّ اللَّوْنِ مِنَ
الْجُوعِ، يَابِسَ الشَّفَتَيْنِ مِنَ الْعَطَشِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنَا الَّذِي أَنْزَلْتُ الدُّنْيَا مَنْزِلَتَهَا
بِإِذْنِ اللَّهِ، وَلَا عَجَبَ وَلَا فَخْرَ، أَتَدْرُونَ أَيْنَ بَيْتِي ؟
قَالُوا: أَيْنَ بَيْتُكَ يَا رُوحَ اللَّهِ ؟ قَالَ: بِيتِي الْمَسَاجِدُ،
وَطِيبِي الْمَاءُ، وَإِدَامِي الْجُوعُ، وَسِرَاجِي الْقَمَرُ بِاللَّيْلِ،
وَصَلَاتِي فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقُ
الشَّمْسِ،
وَرَيْحَانِي بُقُولُ الْأَرْضِ، وَلِبَاسِي الصُّوفُ، وَشِعَارِي خَوْفُ رَبِّ
الْعِزَّةِ، وَجُلَسَائِي الزَّمْنَى وَالْمَسَاكِينُ، أُصْبِحُ وَلَيْسَ لِي
شَيْءٌ، وَأُمْسِي وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ، وَأَنَا طَيِّبُ النَّفْسِ غَنِيٌّ
مُكْثِرٌ، فَمَنْ أَغْنَى مِنِّي وَأَرْبَحُ ؟ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرَوَى فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبَانِ بْنِ حِبَّانَ
أَبِي الْحَسَنِ الْعُقَيْلِيِّ الْمِصْرِيِّ، حَدَّثَنَا هَانِئُ بْنُ
الْمُتَوَكِّلِ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي
الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَوْحَى اللَّهُ
تَعَالَى إِلَى عِيسَى، أَنْ يَا عِيسَى انْتَقِلَ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ،
لِئَلَّا تُعْرَفَ فَتُؤْذَى، فَوَعِزَّتِي وَجَلَالِي، لَأُزَوِّجَنَّكَ أَلْفَ
حَوْرَاءَ، وَلَأُولِمَنَّ عَلَيْكَ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ. وَهَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ رَفْعُهُ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ رِوَايَةِ شُفَيِّ بْنِ مَاتِعٍ
عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ
خَلَفِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ عِيسَى لِلْحَوَارِيِّينَ: كَمَا تَرَكَ لَكُمُ
الْمُلُوكَ الْحِكْمَةَ، فَكَذَلِكَ فَاتْرُكُوا لَهُمُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ:
قَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: سَلُونِي فَإِنِّي لَيِّنُ الْقَلْبِ،
وَإِنِّي صَغِيرٌ عِنْدَ نَفْسِي. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، لِلْحِوَارِيَّيْنِ: كُلُوا خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَاشْرَبُوا الْمَاءَ
الْقَرَاحَ، وَاخْرُجُوا مِنَ الدُّنْيَا سَالِمِينَ آمِنِينَ، لَحَقٌّ مَا أَقُولُ
لَكُمْ: إِنَّ حَلَاوَةَ الدُّنْيَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ مَرَارَةَ
الدُّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ، وَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا
بِالْمُتَنَعِّمِينَ، لَحَقٌّ مَا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ شَرَّكُمْ عَالِمٌ
يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى عِلْمِهِ، يَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِثْلُهُ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ: إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى كَانَ
يَقُولُ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَيْكُمْ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، وَالْبَقْلِ
الْبَرِّيِّ، وَالْخُبْزِ الشَّعِيرِ، وَإِيَّاكُمْ وَخُبْزَ الْبُرِّ،
فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقُومُوا بِشُكْرِهِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ،
قَالَ: كَانَ عِيسَى يَقُولُ: اعْبُرُوا الدُّنْيَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا. وَكَانَ
يَقُولُ: حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالنَّظَرُ يَزْرَعُ فِي
الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ. وَحَكَى وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ مِثْلَهُ، وَزَادَ:
وَرُبَّ شَهْوَةٍ أَوْرَثَتْ أَهْلَهَا حُزْنًا طَوِيلًا. وَعَنْ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ: يَا ابْنَ آدَمَ الضَّعِيفَ، اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَكُنْ
فِي الدُّنْيَا ضَيْفًا، وَاتَّخَذِ الْمَسَاجِدَ بَيْتًا، وَعَلِّمْ عَيْنَكَ
الْبُكَاءَ، وَجَسَدَكَ الصَّبْرَ، وَقَلْبَكَ التَّفَكُّرَ، وَلَا تَهْتَمَّ
بِرِزْقِ غَدٍ،
فَإِنَّهَا خَطِيئَةٌ. وَعَنْهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: كَمَا
أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ
دَارًا، فَلَا يَتَّخِذِ الدُّنْيَا قَرَارًا. وَفِي هَذَا يَقُولُ سَابِقٌ
الْبَرْبَرِيُّ:
لَكُمْ بُيُوتٌ بِمُسْتَنِّ السُّيُولِ وَهَلْ يَبْقَى عَلَى الْمَاءِ بَيْتٌ
أُسُّهُ مَدَرُ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: لَا يَسْتَقِيمُ
حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ، كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ
الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إِنَاءٍ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، عَنْ
دَاوُدَ بْنِ رَشِيدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيِّ، قَالَ: قَالَ
عِيسَى: طَالِبُ الدُّنْيَا مِثْلُ شَارِبِ مَاءِ الْبَحْرِ، كُلَّمَا ازْدَادَ
شُرْبًا ازْدَادَ عَطَشًا، حَتَّى يَقْتُلَهُ. وَعَنْ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، أَنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الدُّنْيَا، وَمَكْرَهُ مَعَ الْمَالِ،
وَتَزْيِينَهُ مَعَ الْهَوَى، وَاسْتِمْكَانَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ. وَقَالَ
الْأَعْمَشُ، عَنْ خَيْثَمَةَ: كَانَ عِيسَى يَصْنَعُ الطَّعَامَ لِأَصْحَابِهِ
وَيَقُومُ عَلَيْهِمْ، وَيَقُولُ: هَكَذَا فَاصْنَعُوا بِالْقِرَى. وَبِهِ: قَالَتِ
امْرَأَةٌ لِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: طُوبَى لِحِجْرٍ حَمَلَكَ، وَلِثَدْيٍ
أَرْضَعَكَ.
فَقَالَ: طُوبَى لِمَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ وَاتَّبَعَهُ. وَعَنْهُ: طُوبَى
لِمَنْ بَكَى مِنْ ذِكْرِ خَطِيئَتِهِ، وَحَفِظَ لِسَانَهُ، وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ.
وَعَنْهُ: طُوبَى لِعَيْنٍ نَامَتْ، وَلَمْ تُحَدِّثْ نَفْسَهَا بِالْمَعْصِيَةِ،
وَانْتَبَهَتْ إِلَى غَيْرِ إِثْمٍ. وَعَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: مَرَّ
عِيسَى وَأَصْحَابُهُ بِجِيفَةٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتَنَ رِيحَهَا. فَقَالَ: مَا
أَبْيَضَ أَسْنَانَهَا. لِيَنْهَاهُمْ عَنِ الْغِيِبَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ
زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: يَا مَعْشَرَ
الْحَوَارِيِّينَ، ارْضَوْا بِدَنِيِّ الدُّنْيَا مَعَ سَلَامَةِ الدِّينِ، كَمَا
رَضِيَ أَهْلُ الدُّنْيَا بَدَنِيِّ الدِّينِ مَعَ سَلَامَةِ الدُّنْيَا. قَالَ
زَكَرِيَّا: وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ:
أَرَى رِجَالًا بِأَدْنَى الدِّينِ قَدْ قَنَعُوا وَلَا أَرَاهُمْ رَضُوا فِي
الْعَيْشِ بِالدُّونِ
فَاسْتَغْنِ بِالدِّينِ عَنْ دُنْيَا الْمُلُوكِ كَمَا اسْتَغْنَى الْمُلُوكُ
بِدُنْيَاهُمْ عَنِ الدِّينِ
وَقَالَ أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ
السَّلَامُ: لَا تُكْثِرُوا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَتَقْسُوَ
قُلُوبُكُمْ، فَإِنَّ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَلَكِنْ لَا
تَعْلَمُونَ، وَلَا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ الْعِبَادِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ،
وَانْظُرُوا فِيهَا
كَأَنَّكُمْ
عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ: مُعَافًى وَمُبْتَلًى، فَارْحَمُوا
أَهْلَ الْبَلَاءِ، وَاحْمَدُوا اللَّهَ عَلَى الْعَافِيَةِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ،
قَالَ: قَالَ عِيسَى لِأَصْحَابِهِ: بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ طَلَبَ
الْفِرْدَوْسَ، فَخُبْزُ الشَّعِيرِ لَهُ، وَالنَّوْمُ فِي الْمَزَابِلِ مَعَ
الْكِلَابِ كَثِيرٌ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: قَالَ عِيسَى: إِنَّ أَكْلَ الشَّعِيرِ مَعَ
الرَّمَادِ، وَالنَّوْمَ عَلَى الْمَزَابِلِ مَعَ الْكِلَابِ لَقَلِيلٌ فِي طَلَبِ
الْفِرْدَوْسِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ عِيسَى: اعْمَلُوا
لِلَّهِ وَلَا تَعْمَلُوا لِبُطُونِكُمُ، انْظُرُوا إِلَى هَذِهِ الطَّيْرِ
تَغْدُو وَتَرُوحُ، لَا تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ، وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا، فَإِنْ
قُلْتُمْ: نَحْنُ أَعْظَمُ بُطُونًا مِنَ الطَّيْرِ. فَانْظُرُوا إِلَى هَذِهِ
الْأَبَاقِرِ مِنَ الْوُحُوشِ وَالْحُمُرِ، فَإِنَّهَا تَغْدُو وَتَرُوحُ لَا
تَحْرُثُ وَلَا تَحْصُدُ، وَاللَّهُ يَرْزُقُهَا.
وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ
مَيْسَرَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ لِلْمَسِيحِ: يَا مَسِيحَ اللَّهِ،
انْظُرْ إِلَى مَسْجِدِ اللَّهِ مَا أَحْسَنَهُ. قَالَ: آمِينَ آمِينَ، بِحَقٍّ
أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْمَسْجِدِ حَجَرًا قَائِمًا
إِلَّا أَهْلَكَهُ
بِذُنُوبِ أَهْلِهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِالذَّهَبِ وَلَا بِالْفِضَّةِ،
وَلَا بِهَذِهِ الْأَحْجَارِ الَّتِي تُعْجِبُكُمْ شَيْئًا، إِنَّ أَحَبَّ إِلَى
اللَّهِ مِنْهَا الْقُلُوبُ الصَّالِحَةُ، وَبِهَا يُعَمِّرُ اللَّهُ الْأَرْضَ،
وَبِهَا يُخَرِّبُ اللَّهُ الْأَرْضَ إِذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ
": أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ،
أَخْبَرَتْنَا عَائِشَةُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْوَرْكَانِيَّةُ،
قَالَتْ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْهَيْثَمِ إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانٍ
إِمْلَاءً، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا سُهَيْلُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَرَّ
عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى مَدِينَةٍ خَرِبَةٍ فَأَعْجَبَهُ
الْبُنْيَانُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مُرْ هَذِهِ الْمَدِينَةَ أَنْ تُجِيبَنِي.
فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ الْخَرِبَةُ
جَاوِبِي عِيسَى. قَالَ: فَنَادَتِ الْمَدِينَةُ عِيسَى: حَبِيبِي، وَمَا تُرِيدُ
مِنِّي ؟ قَالَ: مَا فَعَلَ أَشْجَارُكِ، وَمَا فَعَلَ أَنْهَارُكِ، وَمَا فَعَلَ
قُصُورُكِ، وَأَيْنَ سُكَّانُكِ ؟ قَالَتْ: حَبِيبِي، جَاءَ وَعْدُ رَبِّكَ
الْحَقُّ، فَيَبِسَتْ أَشْجَارِي، وَنَشَفَتْ أَنْهَارِي، وَخَرِبَتْ قُصُورِي،
وَمَاتَ سُكَّانِي. قَالَ: فَأَيْنَ أَمْوَالُهُمْ ؟ قَالَتْ: جَمَعُوهَا مِنَ
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مَوْضُوعَةٌ فِي بَطْنِي، لِلَّهِ مِيرَاثُ
السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ. قَالَ: فَنَادَى عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَعَجِبْتُ مِنْ
ثَلَاثِ أُنَاسٍ: طَالِبِ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَبَانِي الْقُصُورِ
وَالْقَبْرُ مَنْزِلُهُ، وَمَنْ يَضْحَكُ مِلْءَ فِيهِ وَالنَّارُ أَمَامَهُ،
ابْنَ آدَمَ، لَا بِالْكَثِيرِ تَشْبَعُ، وَلَا بِالْقَلِيلِ تَقْنَعُ، تَجْمَعُ
مَالَكَ لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ، وَتُقْدِمُ عَلَى رَبٍّ لَا يَعْذُرُكَ، إِنَّمَا
أَنْتَ عَبْدُ بَطْنِكَ وَشَهْوَتِكَ، وَإِنَّمَا تَمْلَأُ بَطْنَكَ إِذَا
دَخَلْتَ قَبْرَكَ، وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ تَرَى حَشْدَ مَالِكَ فِي مِيزَانِ
غَيْرِكَ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَفِيهِ مَوْعِظَةٌ حَسَنَةٌ،
فَكَتَبْنَاهُ لِذَلِكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ،
قَالَ: قَالَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ،
اجْعَلُوا كُنُوزَكُمْ فِي السَّمَاءِ، فَإِنَّ قَلْبَ الرَّجُلِ حَيْثُ كَنْزُهُ.
وَقَالَ ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ ظَبْيَانَ، قَالَ:
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ
وَعَمِلَ، دُعِيَ عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ. وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ:
رُوِيَ أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَعْبُرُ
مَعَكَ الْوَادِيَ، وَلَا يَعْمُرُ بِكَ النَّادِيَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا،
أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: يَا
مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ، لَا تُحَدِّثُوا بِالْحِكْمَةِ غَيْرَ أَهْلِهَا
فَتَظْلِمُوهَا، وَلَا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا، فَتَظْلِمُوهُمْ، وَالْأُمُورُ
ثَلَاثَةٌ: أَمْرٌ تَبَيَّنَ رُشْدُهُ فَاتَّبِعُوهُ، وَأَمْرٌ تَبَيَّنَ غَيُّهُ
فَاجْتَنِبُوهُ، وَأَمْرٌ اخْتُلِفَ عَلَيْكُمْ.
فِيهِ فَرُدُّوا عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ عِيسَى: لَا تَطْرَحُوا اللُّؤْلُؤَ إِلَى الْخِنْزِيرِ ; فَإِنَّ الْخِنْزِيرَ لَا يَصْنَعُ بِاللُّؤْلُؤِ شَيْئًا، وَلَا تُعْطُوا الْحِكْمَةَ مَنْ لَا يُرِيدُهَا ; فَإِنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ اللُّؤْلُؤِ، وَمَنْ لَا يُرِيدُهَا شَرٌّ مِنَ الْخِنْزِيرِ. وَكَذَا حَكَى وَهْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَنْتُمْ مِلْحُ الْأَرْضِ، فَإِذَا فَسَدْتُمْ فَلَا دَوَاءَ لَكُمْ، وَإِنَّ فِيكُمْ خَصْلَتَيْنِ مِنَ الْجَهْلِ: الضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ، وَالصُّبْحَةُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ فِتْنَةً ؟ قَالَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، فَإِنَّ الْعَالِمَ إِذَا زَلَّ يَزِلُّ بِزَلَّتِهِ عَالَمٌ كَثِيرٌ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ جَعَلْتُمُ الدُّنْيَا عَلَى رُءُوسِكُمْ، وَالْآخِرَةَ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ، قَوْلُكُمْ شِفَاءٌ وَعَمَلُكُمْ دَاءٌ، مَثَلُكُمْ مَثَلُ شَجَرَةِ الدِّفْلَى، تُعْجِبُ مَنْ رَآهَا، وَتَقْتُلُ مَنْ أَكَلَهَا. وَقَالَ وَهْبٌ: قَالَ عِيسَى: يَا عُلَمَاءَ السُّوءِ، جَلَسْتُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَلَا أَنْتُمْ تَدْخُلُونَهَا، وَلَا تَدَعُونَ الْمَسَاكِينَ يَدْخُلُونَهَا، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ عَالِمٌ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِعِلْمِهِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: التَقَى يَحْيَى وَعِيسَى، فَصَافَحَهُ عِيسَى، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ لَهُ
يَحْيَى: يَا ابْنَ
خَالَةٍ، مَا لِي أَرَاكَ ضَاحِكًا كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ. فَقَالَ لَهُ عِيسَى:
مَا لِي أَرَاكَ عَابِسًا كَأَنَّكَ قَدْ يَئِسْتَ. فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِمَا: إِنَّ أَحَبَّكُمَا إِلَيَّ أَبَشُّكُمَا بِصَاحِبِهِ. وَقَالَ
وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَفَ عِيسَى هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى قَبْرٍ،
وَصَاحِبُهُ يُدْلَى فِيهِ، فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ الْقَبْرَ وَضِيقَهُ، فَقَالَ:
قَدْ كُنْتُمْ فِيمَا هُوَ أَضْيَقُ مِنْهُ فِي أَرْحَامِ أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِذَا
أَحَبَّ اللَّهُ أَنْ يُوَسِّعَ وَسَّعَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ:
بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ يَقْطُرُ جِلْدُهُ دَمًا.
وَالْآثَارُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ أَوْرَدَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْهَا طَرَفًا صَالِحًا، اقْتَصَرْنَا مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ،
وَاللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفَّقُ لِلصَّوَابِ.
ذِكْرُ رَفْعِ
عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى السَّمَاءِ فِي حِفْظِ الرَّبِّ، وَبَيَانُ
كَذِبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، فِي دَعْوَى
الصَّلْبِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ
إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ
فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 54،
55 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا
قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ
وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيدًا [ النِّسَاءِ: 155 - 159 ].
فَأَخْبَرَ
تَعَالَى أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ بَعْدَ مَا تَوَفَّاهُ بِالنَّوْمِ
عَلَى الصَّحِيحِ الْمَقْطُوعِ بِهِ، وَخَلَّصَهُ مِمَّنْ كَانَ أَرَادَ
أَذِيَّتَهُ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ وَشَوْا بِهِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ
الْكَفَرَةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُهُ دَاوُدَ
بْنَ يُورَا فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ فَحَصَرُوهُ فِي دَارٍ بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلَمَّا حَانَ
وَقْتُ دُخُولِهِمْ أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَاضِرِينَ
عِنْدَهُ، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ إِلَى
السَّمَاءِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ يَنْظُرُونَ، وَدَخَلَ الشُّرَطُ فَوَجَدُوا
ذَلِكَ الشَّابَّ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُهُ، فَأَخَذُوهُ ظَانِّينَ
أَنَّهُ عِيسَى، فَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ إِهَانَةً لَهُ،
وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ عَامَّةُ النَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يُشَاهِدُوا مَا كَانَ
مِنْ أَمْرِ عِيسَى أَنَّهُ صُلِبَ، وَضَلُّوا بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَلَالًا مُبِينًا
كَثِيرًا فَاحِشًا بَعِيدًا، وَأَخْبَرَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ: بَعْدَ نُزُولِهِ
إِلَى الْأَرْضِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، فَإِنَّهُ
يَنْزِلُ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ،
وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِيهِ
مِنَ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ سُورَةِ
" النِّسَاءِ " وَكَمَا سَنُورِدُ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى
فِي كِتَابِ "
الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ " عِنْدَ أَخْبَارِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ،
فَنَذْكُرُ مَا وَرَدَ فِي نُزُولِ الْمَسِيحِ الْمَهْدِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ
مِنْ ذِي الْجَلَالِ ; لِقَتْلِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ الْكَذَّابِ الدَّاعِي
إِلَى الضَّلَالِ. وَهَذَا ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ فِي صِفَةِ رَفْعِهِ
إِلَى السَّمَاءِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ
عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ، خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَفِي الْبَيْتِ اثْنَا
عَشَرَ رَجُلًا مِنْهُمْ - مِنَ الْحَوَارِيِّينَ يَعْنِي - فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ
مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ
مَنْ يَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي. ثُمَّ
قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي، وَيَكُونَ مَعِي
فِي دَرَجَتِي ؟ فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنًّا، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ.
ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ
عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ ذَاكَ.
فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي
الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ فَأَخَذُوا
الشَّبَهَ فَقَتَلُوهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ، فَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ، وَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ،
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى
السَّمَاءِ. وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيِّةُ، وَقَالَتْ
فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [ الصَّفِّ: 14 ]. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ - إِلَى ابْنُ عَبَّاسٍ - عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهِ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَلْمِ بْنِ جُنَادَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُطَوَّلًا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: وَجَعَلَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَدْعُو اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلَهُ، يَعْنِي لِيُبَلِّغَ الرِّسَالَةَ، وَيُكْمِلَ الدَّعْوَةَ، وَيُكْثِرَ النَّاسُ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. قِيلَ: وَكَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ; بُطْرُسُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي، وَيَحْنَسُ أَخُو يَعْقُوبَ، وَأَنْدَرَاوِسُ، وَفِلِيبُّسُ، وَأَبْرَثَلْمَا، وَمَتَّى، وَتُومَاسُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ حَلْقِيَا، وَتُدَّاوُسُ، وَفَتَاتْيَا، يُودُسُ زَكَرِيَّا يَوُطَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ الْيَهُودَ عَلَى عِيسَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ سَرْجَسُ، كَتَمَتْهُ
النَّصَارَى،
وَهُوَ الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ، فَصُلِبَ عَنْهُ. قَالَ:
وَبَعْضُ النَّصَارَى يَزْعُمُ أَنَّ الَّذِي صُلِبَ عَنِ الْمَسِيحِ وَأُلْقِيَ
عَلَيْهِ شَبَهُهُ، يُودُسُ زَكَرِيَّا يَوُطَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: اسْتَخْلَفَ عِيسَى شَمْعُونَ،
وَقَتَلَتِ الْيَهُودُ يُودُسُ زَكَرِيَّا يَوُطَا الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ
الشَّبَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْجَهْمِ. قَالَ: سَمِعْتُ الْفَرَّاءَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ قَالَ: إِنَّ عِيسَى غَابَ عَنْ
خَالَتِهِ زَمَانًا، فَأَتَاهَا فَقَامَ رَأْسُ الْجَالُوتِ الْيَهُودِيُّ،
فَضَرَبَ عَلَى عِيسَى، حَتَّى اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِ دَارِهِ، فَكَسَرُوا
الْبَابَ، وَدَخَلَ رَأْسُ الْجَالُوتِ لِيَأْخُذَ عِيسَى، فَطَمَسَ اللَّهُ
عَيْنَيْهِ عَنْ عِيسَى ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَمْ أَرَهُ.
وَمَعَهُ سَيْفٌ مَسْلُولٌ، فَقَالُوا: أَنْتَ عِيسَى. وَأَلْقَى اللَّهُ شَبَهَ
عِيسَى عَلَيْهِ، فَأَخَذُوهُ، فَقَتَلُوهُ، وَصَلَبُوهُ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ
عَنْتَرَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: أَتَى عِيسَى وَمَعَهُ سَبْعَةَ
عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِي بَيْتٍ، فَأَحَاطُوا بِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا
عَلَيْهِمْ صَوَّرَهُمُ اللَّهُ كُلَّهُمْ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَقَالُوا
لَهُمْ: سَحَرْتُمُونَا، لَتُبْرِزُنَّ لَنَا عِيسَى أَوْ لَنَقْتُلَنَّكُمْ
جَمِيعًا، فَقَالَ
عِيسَى
لِأَصْحَابِهِ: مَنْ يَشْتَرِي مِنْكُمْ نَفْسَهُ الْيَوْمَ بِالْجَنَّةِ. فَقَالَ
رَجُلٌ: أَنَا. فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنَا عِيسَى. وَقَدْ صَوَّرَهُ
اللَّهُ عَلَى صُورَةِ عِيسَى، فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَمِنْ ثَمَّ
شُبِّهَ لَهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا عِيسَى، وَظَنَّتِ النَّصَارَى
مِثْلَ ذَلِكَ، أَنَّهُ عِيسَى، وَرَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، حَدَّثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ
أَنَّهُ سَمِعَ وَهْبًا يَقُولُ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَمَّا أَعْلَمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ خَارِجٌ مِنَ الدُّنْيَا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ، وَشَقَّ
عَلَيْهِ، فَدَعَا الْحَوَارِيِّينَ وَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا فَقَالَ:
احْضُرُونِي اللَّيْلَةَ ; فَإِنَّ لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةً. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا
إِلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ عَشَّاهُمْ، وَقَامَ يَخْدِمُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا
مِنَ الطَّعَامِ، أَخَذَ يَغْسِلُ أَيْدِيَهُمْ وَيُوَضِّئُهُمْ بِيَدِهِ،
وَيَمْسَحُ أَيْدِيَهُمْ بِثِيَابِهِ، فَتَعَاظَمُوا ذَلِكَ وَتَكَارَهُوهُ،
فَقَالَ: أَلَا مَنْ رَدَّ عَلَيَّ شَيْئًا اللَّيْلَةَ مِمَّا أَصْنَعُ فَلَيْسَ
مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ. فَأَقَرُّوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ:
أَمَّا مَا صَنَعْتُ بِكُمُ اللَّيْلَةَ مِمَّا خَدَمْتُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ،
وَغَسَلْتُ أَيْدِيَكُمْ بِيَدِي، فَلْيَكُنْ لَكُمْ بِي أُسْوَةٌ، فَإِنَّكُمْ
تَرَوْنَ أَنِّي خَيْرُكُمْ فَلَا يَتَعَظَّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلْيَبْذُلْ
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْسَهُ كَمَا بَذَلْتُ نَفْسِي لَكُمْ، وَأَمَّا حَاجَتِي
الَّتِي اسْتَعَنْتُكُمْ عَلَيْهَا، فَتَدْعُونَ لِيَ اللَّهَ وَتَجْتَهِدُونَ فِي
الدُّعَاءِ أَنْ يُؤَخِّرَ أَجَلِي. فَلَمَّا نَصَبُوا أَنْفُسَهُمْ لِلدُّعَاءِ
وَأَرَادُوا أَنْ يَجْتَهِدُوا، أَخَذَهُمُ النَّوْمُ حَتَّى لَمَّ يَسْتَطِيعُوا
دُعَاءً، فَجَعَلَ يُوقِظُهُمْ وَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ،
أَمَا تَصْبِرُونَ لِي لَيْلَةً وَاحِدَةً، تُعِينُونِي فِيهَا ؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي مَا لَنَا، وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَسْمُرُ فَنُكْثِرُ السَّمَرَ، وَمَا نُطِيقُ اللَّيْلَةَ سَمَرًا، وَمَا نُرِيدُ دُعَاءً إِلَّا حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَقَالَ: يُذْهَبُ بِالرَّاعِي وَتَتَفَرَّقُ الْغَنَمُ. وَجَعَلَ يَأْتِي بِكَلَامٍ نَحْوَ هَذَا يَنْعَى بِهِ نَفْسَهُ. ثُمَّ قَالَ: الْحَقُّ لَيَكْفُرَنَّ بِي أَحَدُكُمْ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلَيَبِيعَنِّي أَحَدُكُمْ بِدَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ، وَلَيَأْكُلَنَّ ثَمْنِي. فَخَرَجُوا وَتَفَرَّقُوا، وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَطْلُبُهُ فَأَخَذُوا شَمْعُونَ - أَحَدَ الْحَوَارِيِّينَ - فَقَالُوا: هَذَا مِنْ أَصْحَابِهِ. فَجَحَدَ وَقَالَ: مَا أَنَا بِصَاحِبِهِ. فَتَرَكُوهُ ثُمَّ أَخَذَهُ آخَرُونَ فَجَحَدَ كَذَلِكَ، ثُمَّ سَمِعَ صَوْتَ دِيكٍ فَبَكَى وَأَحْزَنَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى أَحَدُ الْحَوَارِيِّينَ إِلَى الْيَهُودِ، فَقَالَ: مَا تَجْعَلُونَ لِي إِنْ دَلَلْتُكُمْ عَلَى الْمَسِيحِ. فَجَعَلُوا لَهُ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَأَخَذَهَا وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ شُبِّهَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَخَذُوهُ وَاسْتَوْثَقُوا مِنْهُ، وَرَبَطُوهُ بِالْحَبْلِ وَجَعَلُوا يَقُودُونَهُ، وَيَقُولُونَ: أَنْتَ كُنْتَ تُحْيِي الْمَوْتَى وَتَنْتَهِرُ الشَّيْطَانَ، وَتُبْرِئُ الْمَجْنُونَ، أَفَلَا تُنَجِّي نَفْسَكَ مِنْ هَذَا الْحَبْلِ ؟ وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ الشَّوْكَ، حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي أَرَادُوا أَنْ يَصْلُبُوهُ عَلَيْهَا، فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَصَلَبُوا مَا شُبِّهَ لَهُمْ، فَمَكَثَ سَبْعًا. ثُمَّ إِنْ أُمَّهُ وَالْمَرْأَةَ الَّتِي كَانَ يُدَاوِيهَا عِيسَى، فَأَبْرَأَهَا اللَّهُ مِنَ الْجُنُونِ، جَاءَتَا تَبْكِيَانِ حَيْثُ كَانَ الْمَصْلُوبُ، فَجَاءَهُمَا عِيسَى، فَقَالَ: عَلَامَ تَبْكِيَانِ. قَالَتَا: عَلَيْكَ. فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَفَعَنِي اللَّهُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُصِبْنِي إِلَّا خَيْرٌ، وَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ شُبِّهَ لَهُمْ، فَأْمُرَا الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يَلْقَوْنِي إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَلَقَوْهُ إِلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ أَحَدَ عَشَرَ، وَفَقَدَ الَّذِي كَانَ بَاعَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْيَهُودَ، فَسَأَلَ عَنْهُ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا: إِنَّهُ
نَدِمَ عَلَى مَا
صَنَعَ، فَاخْتَنَقَ وَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ: لَوْ تَابَ لَتَابَ اللَّهُ
عَلَيْهِ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ غُلَامٍ يَتْبَعُهُمْ يُقَالُ لَهُ: يُحَنَّا.
فَقَالَ: هُوَ مَعَكُمْ فَانْطَلِقُوا فَإِنَّهُ سَيُصْبِحُ كُلُّ إِنْسَانٍ
مِنْكُمْ يُحَدِّثُ بِلُغَةِ قَوْمٍ فَلْيُنْذِرْهُمْ وَلْيَدْعُهُمْ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وَهُوَ أَصَحُّ مِمَّا ذَكَرَهُ النَّصَارَى،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ، مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ جَاءَ إِلَى مَرْيَمَ، وَهِيَ
جَالِسَةٌ تَبْكِي عِنْدَ جِذْعِهِ، فَأَرَاهَا مَكَانَ الْمَسَامِيرِ مِنْ
جَسَدِهِ، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ رُوحَهُ رُفِعَتْ، وَأَنَّ جَسَدَهُ صُلِبَ،
وَهَذَا بُهْتٌ وَكَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَزِيَادَةٌ
بَاطِلَةٌ فِي الْإِنْجِيلِ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ وَمُقْتَضَى النَّقْلِ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ حَبِيبٍ، فِيمَا
بَلَغَهُ أَنَّ مَرْيَمَ سَأَلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ - بَعْدَ مَا صُلِبَ
الْمَصْلُوبُ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَهِيَ تَحْسَبُ أَنَّهُ ابْنُهَا - أَنْ
يُنْزِلَ جَسَدَهُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَدُفِنَ هُنَالِكَ، فَقَالَتْ
مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى: أَلَا تَذْهَبِينَ بِنَا نَزُورُ قَبْرَ الْمَسِيحِ.
فَذَهَبَتَا فَلَمَّا دَنَتَا مِنَ الْقَبْرِ، قَالَتْ مَرْيَمُ لِأُمِّ يَحْيَى:
أَلَا تَسْتَتِرِينَ. فَقَالَتْ: وَمِمَّنْ أَسْتَتِرُ. فَقَالَتْ: مِنْ هَذَا
الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ الْقَبْرِ. فَقَالَتْ أُمُّ يَحْيَى: إِنِّي لَا
أَرَى أَحَدًا. فَرَجَتْ مَرْيَمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلَ، وَكَانَتْ قَدْ بَعُدَ
عَهْدُهَا بِهِ فَاسْتَوْقَفَتْ أُمَّ يَحْيَى وَذَهَبَتْ نَحْوَ الْقَبْرِ،
فَلَمَّا دَنَتْ مِنَ الْقَبْرِ قَالَ لَهَا جِبْرِيلُ، وَعَرَفَتْهُ: يَا
مَرْيَمُ، أَيْنَ تُرِيدِينَ ؟ فَقَالَتْ: أَزُورُ قَبْرَ الْمَسِيحِ وَأُسَلِّمُ
عَلَيْهِ وَأَحْدِثُ عَهْدًا بِهِ. فَقَالَ: يَا مَرْيَمُ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ
الْمَسِيحَ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَ الْمَسِيحَ وَطَهَّرَهُ مِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا، وَلَكِنْ هَذَا الْفَتَى الَّذِي أُلْقِيَ شَبَهُهُ عَلَيْهِ وَصُلِبَ
وَقُتِلَ مَكَانَهُ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَهُ قَدْ
فَقَدُوهُ فَلَا
يَدْرُونَ مَا فُعِلَ بِهِ، فَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ
كَذَا وَكَذَا، فَأْتِي غَيْضَةَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّكِ تَلْقَيْنَالْمَسِيحَ.
قَالَ: فَرَجَعَتْ إِلَى أُخْتِهَا، وَصَعِدَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَتْهَا عَنْ
جِبْرِيلَ، وَمَا قَالَ لَهَا مِنْ أَمْرِ الْغَيْضَةِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ
الْيَوْمُ، ذَهَبَتْ فَوَجَدَتْ عِيسَى فِي الْغَيْضَةِ، فَلَمَّا رَآهَا أَسْرَعَ
إِلَيْهَا فَأَكَبَّ عَلَيْهَا، فَقَبَّلَ رَأْسَهَا وَجَعَلَ يَدْعُو لَهَا كَمَا
كَانَ يَفْعَلُ، وَقَالَ: يَا أُمَّهْ، إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقْتُلُونِي،
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَفَعَنِي إِلَيْهِ، وَأَذِنَ لِي فِي لِقَائِكَ، وَالْمَوْتُ
يَأْتِيكِ قَرِيبًا، فَاصْبِرِي وَاذْكُرِي اللَّهَ. ثُمَّ صَعِدَ عِيسَى فَلَمْ
تَلْقَهُ إِلَّا تِلْكَ الْمَرَّةَ حَتَّى مَاتَتْ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّ
مَرْيَمَ بَقِيَتْ بَعْدَ عِيسَى خَمْسَ سِنِينَ، وَمَاتَتْ وَلَهَا ثَلَاثٌ
وَخَمْسُونَ سَنَةً، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ عُمَرُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
يَوْمَ رُفِعَ، أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّ أَهْلَ
الْجَنَّةِ يَدْخُلُونَهَا جُرْدًا مُرْدًّا مُكَحَّلِينَ، أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: عَلَى مِيلَادِ عِيسَى، وَحُسْنِ
يُوسُفَ وَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: رُفِعَ عِيسَى، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ
"، وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي " تَارِيخِهِ "،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
عُمَارَةَ بْنِ
غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ،
أَنَّ أُمَّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ
تَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ كَانَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ إِلَّا
عَاشَ الَّذِي بَعْدَهُ نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّهُ
أَخْبَرَنِي: أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَاشَ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ،
فَلَا أَرَانِي إِلَّا ذَاهِبٌ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ هَذَا لَفْظُ الْفَسَوِيِّ ;
فَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
قَالَ الْحَافِظُ بْنُ عَسَاكِرَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ عِيسَى لَمْ يَبْلُغْ هَذَا
الْعُمْرَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مُدَّةَ مَقَامِهِ فِي أُمَّتِهِ، كَمَا رَوَى
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
جَعْدَةَ، قَالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَكَثَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَذَا مُنْقَطِعٌ. وَقَالَ جَرِيرٌ، وَالثَّوْرِيُّ، عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: مَكَثَ عِيسَى فِي قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ عَامًا.
وَيُرْوَى عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ، أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ
السَّلَامُ، رُفِعَ لَيْلَةَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَتِلْكَ
اللَّيْلَةُ فِي مِثْلِهَا تُوُفِّيَ عَلِيٌّ بَعْدَ طَعْنِهِ بِخَمْسَةِ
أَيَّامٍ. وَقَدْ رَوَى الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عِيسَى لَمَّا
رَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ جَاءَتْهُ سَحَابَةٌ فَدَنَتْ مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ
عَلَيْهَا، وَجَاءَتْهُ مَرْيَمُ فَوَدَّعَتْهُ وَبَكَتْ، ثُمَّ رُفِعَ وَهِيَ
تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَلْقَى إِلَيْهَا عِيسَى بُرْدًا لَهُ وَقَالَ: هَذَا
عَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَلْقَى عِمَامَتَهُ
إِلَى شَمْعُونَ، وَجَعَلَتْ أُمُّهُ تُوَدِّعُهُ بِأُصْبُعِهَا، تُشِيرُ بِهَا
إِلَيْهِ حَتَّى غَابَ عَنْهَا. وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا ; لِأَنَّهُ
تَوَفَّرَ
عَلَيْهَا حُبُّهُ
مِنْ جِهَتَيِ الْوَالِدَيْنِ، إِذْ لَا أَبَ لَهُ، وَكَانَتْ لَا تُفَارِقُهُ
سَفَرًا وَلَا حَضَرًا. قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَكُنْتُ أَرَى كَالْمَوْتِ مِنْ بَيْنِ سَاعَةٍ فَكَيفَ بِبَيْنٍ كَانَ
مَوْعِدَهُ الْحَشْرُ
وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ، أَنَّ الْيَهُودَ
لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي شُبِّهَ لَهُمْ، وَهُمْ يَحْسَبُونَهُ
الْمَسِيحَ، وَسَلَّمَ لَهُمْ أَكْثَرُ النَّصَارَى ; بِجَهْلِهِمْ ذَلِكَ،
تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِهِ بِالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ فَبَلَغَ
أَمْرُهُمْ إِلَى صَاحِبِ الرُّومِ، وَهُوَ مَلِكُ دِمَشْقَ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ الْيَهُودَ قَدْ تَسَلَّطُوا عَلَى أَصْحَابِ
رَجُلٍ كَانَ يَذْكُرُ لَهُمْ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَانَ يُحْيِي
الْمَوْتَى، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيَفْعَلُ الْعَجَائِبَ،
فَعَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَهَانُوا أَصْحَابَهُ وَحَبَسُوهُمْ. فَبَعَثَ
فَجِيءَ بِهِمْ وَفِيهِمْ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، وَشَمْعُونُ، وَجَمَاعَةٌ،
فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِ الْمَسِيحِ، فَأَخْبَرُوهُ عَنْهُ فتَابَعَهُمْ فِي
دِينِهِمْ وَأَعْلَى كَلِمَتَهُمْ، وَظَهَرَ الْحَقُّ عَلَى الْيَهُودِ، وَعَلَتْ
كَلِمَةُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ إِلَى الْمَصْلُوبِ فَوُضِعَ عَنْ
جِذْعِهِ، وَجِيءَ بِالْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ
فَعَظَّمَهُ، فَمِنْ ثَمَّ عَظَّمَتِ النَّصَارَى الصَّلِيبَ، وَمِنْ هَاهُنَا
دَخَلَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فِي الرُّومِ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ ;
أَحَدُهَا، أَنَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا نَبِيٌّ، لَا يُقِرُّ عَلَى أَنَّ
الْمَصْلُوبَ عِيسَى ; فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ يَعْلَمُ مَا وَقَعَ عَلَى جِهَةِ
الْحَقِّ. الثَّانِي، أَنَّ الرُّومَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ الْمَسِيحِ إِلَّا
بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ،
وَذَلِكَ فِي زَمَانِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ قَسْطَسَ بَانِي الْمَدِينَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا صَلَبُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ ثُمَّ أَلْقَوْهُ بِخَشَبَتِهِ جَعَلُوا مَكَانَهُ مَطْرَحًا لِلْقُمَامَةِ وَالنَّجَاسَةَ وَجِيَفَ الْمَيْتَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى كَانَ فِي زَمَانِ قُسْطَنْطِينَ الْمَذْكُورِ، فَعَمَدَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ الْفِنْدِقَانِيَّةُ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ هُنَالِكَ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَوَجَدُوا الْخَشَبَةَ الَّتِي صُلِبَ عَلَيْهَا الْمَصْلُوبُ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ مَا مَسَّهَا ذُو عَاهَةٍ إِلَّا عُوفِيَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ هَذَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ كَانَ هَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، أَوْ كَانَ هَذَا مِحْنَةً وَفِتْنَةً لِأُمَّةِ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ؟ حَتَّى عَظَّمُوا تِلْكَ الْخَشَبَةَ وَغَشَّوْهَا بِالذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ، وَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذُوا الصُّلْبَانَاتِ وَتَبَرَّكُوا بِشَكْلِهَا وَقَبَّلُوهَا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَأَمَرَتْ أُمُّ الْمَلِكِ هِيلَانَةُ فَأُزِيلَتْ تِلْكَ الْقُمَامَةُ، وَبُنِيَ مَكَانَهَا كَنِيسَةٌ هَائِلَةٌ مُزَخْرَفَةٌ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ. فَهِيَ هَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْيَوْمَ بِبَلَدِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، الَّتِي يُقَالُ لَهَا: الْقُمَامَةُ. بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ عِنْدَهَا، وَيُسَمُّونَهَا الْقِيَامَةَ، يَعْنُونَ الَّتِي يَقُومُ جَسَدُ الْمَسِيحِ مِنْهَا. ثُمَّ أَمَرَتْ هِيلَانَةُ بِأَنْ تُوضَعَ قُمَامَةُ الْبَلَدِ، وَكُنَاسَتُهُ وَقَاذُورَاتُهُ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي هِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ، فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى فَتَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَكَنَسَ عَنْهَا الْقُمَامَةَ بِرِدَائِهِ، وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَخْبَاثِ وَالْأَنْجَاسِ، وَلَمْ يَضَعِ الْمَسْجِدَ وَرَاءَهَا، وَلَكِنْ أَمَامَهَا، حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ الْأَقْصَى.
صِفَةُ عِيسَى،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَشَمَائِلُهُ وَفَضَائِلُهُ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ قِيلَ: سُمِّيَ الْمَسِيحَ
لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ، وَهُوَ سِيَاحَتُهُ فِيهَا، وَفِرَارُهُ بِدِينِهِ مِنَ
الْفِتَنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ; لِشِدَّةِ تَكْذِيبِ الْيَهُودِ لَهُ،
وَافْتِرَائِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَقِيلَ:
لِأَنَّهُ كَانَ مَمْسُوحَ الْقَدَمَيْنِ. وَقَالَ تَعَالَى: وَقَفَّيْنَا عَلَى
آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَقَالَ تَعَالَى:
وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ
[ الْبَقَرَةِ: 87 ]. وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا
وَالشَّيْطَانُ يَطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا
إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا، ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعْنَ فِي الْحِجَابِ وَتَقَدَّمَ
حَدِيثُ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ عَنْ عُبَادَةَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا
إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى
مَا كَانَ مِنَ
الْعَمَلِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَمُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ
بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا،
وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، فَتَزَوَّجَهَا كَانَ
لَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا آمَنَ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ثُمَّ آمَنَ بِي، فَلَهُ
أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهِ، فَلَهُ
أَجْرَانِ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَنْبَأَنَا
هِشَامٌ، عَنْ مَعْمَرٍ ( ح ) وَحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ: لَقِيتُ مُوسَى قَالَ: فَنَعَتَهُ
فَإِذَا رَجُلٌ حِسْبْتُهُ قَالَ: مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الرَّأْسِ، كَأَنَّهُ مِنْ
رِجَالِ شَنُوءَةَ. قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ،
يَعْنِي الْحَمَّامَ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشَبَهُ وَلَدِهِ بِهِ
الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّتَيْ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى. ثُمَّ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ عِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ،
فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ، وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ
جَسِيمٌ سِبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ الزُّطِّ
تَفَرَّدَ بِهِ
الْبُخَارِيُّ.
وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ،
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا بَيْنَ
ظَهَرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِأَعْوَرَ، إِلَّا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى،
كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ
فِي الْمَنَامِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى مَنْ أُدْمِ
الرِّجَالِ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعْرِ، يَقْطُرُ
رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ، وَهُوَ يَطُوفُ
بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. ثُمَّ
رَأَيْتُ رَجُلًا وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطَطًا أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى
كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَنْكِبَيْ
رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ
الدَّجَّالُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ثُمَّ قَالَ
الْبُخَارِيُّ: تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ. ثُمَّ سَاقَهُ مِنْ
طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ الزُّهْرِيُّ:
وَابْنُ قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَبَيَّنَ،
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، صِفَةَ الْمَسِيحَيْنِ ; مَسِيحِ
الْهُدَى وَمَسِيحِ الضَّلَالَةِ; لِيُعْرَفَ
هَذَا إِذَا
نَزَلَ، فَيُؤْمِنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُعْرَفَ الْآخَرُ فَيَحَذَرَهُ
الْمُوَحِّدُونَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رَأَى
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ ؟ قَالَ:
كَلَّا، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ
وَكَذَّبْتُ عَيْنَيَّ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ،
عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ
حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: رَأَى عِيسَى رَجُلًا يَسْرِقُ فَقَالَ: يَا فُلَانُ، أَسَرَقْتَ ؟
فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ مَا سَرَقْتُ. فَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَذَّبْتُ
بَصَرِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سَجِيَّةٍ طَاهِرَةٍ ; حَيْثُ قَدَّمَ حَلِفَ
ذَلِكَ الرَّجُلِ - وَظَنَّ أَنَّ أَحَدًا لَا يَحْلِفُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ
كَاذِبًا - عَلَى مَا شَاهَدَهُ مِنْهُ عِيَانًا، فَقَبِلَ عُذْرَهُ، وَرَجَعَ
عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. أَيْ: صَدَّقْتُكُ. وَكَذَّبْتُ
بَصَرِي ; لِأَجْلِ حَلِفِكَ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تُحْشَرُونَ حُفَاةً
عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا
عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ فَأَوَّلُ الْخَلْقِ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ،
ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ،
فَأَقُولُ: أَصْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعَ عُمَرَ يَقُولُ عَلَى
الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطَرْتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا
أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي
الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ. يُصَلِّي إِذْ جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ: أُجِيبُهَا
أَوْ أُصَلِّي ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَاتُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهِ وُجُوهَ
الْمُومِسَاتِ. وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَعَرَضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ
وَكَلَّمَتْهُ، فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا،
فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا:
مِمَّنْ ؟
فَقَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ. فَأَتَوْهُ وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ، فَأَنْزَلُوهُ
وَسَبُّوهُ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ أَتَى الْغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ
يَا غُلَامُ ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي. قَالُوا: أَنَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ
؟ قَالَ: لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتِ:
اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ. فَتَرَكَ ثَدْيَهَا وَأَقْبَلَ عَلَى
الرَّاكِبِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
ثَدْيِهَا يَمُصُّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُصُّ أُصْبُعَهُ: ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ
فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ. فَتَرَكَ ثَدْيَهَا،
فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَتْ: لِمَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ:
الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الْأَمَةُ يَقُولُونَ:
سَرَقْتِ وَزَنَيْتِ. وَلَمْ تَفْعَلْ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: أَنَا
أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ وَالْأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، لَيْسَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ
الْحَفَرِيِّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ
بِعِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ،
وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَى
نَبِيٌّ وَهَذَا
إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا، وَلَمْ يُخْرِجُوهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
بِنَحْوِهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِهِ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، حَدَّثَنَا
قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ آدَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ
لَعَلَّاتٍ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَأَنَا أَوْلَى
النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ
نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، فَإِنَّهُ
رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطٌ كَأَنَّ رَأْسَهُ
يَقْطُرُ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، بَيْنَ مُمَصَّرَتَيْنِ، فَيَكْسِرُ
الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيُعَطِّلُ
الْمِلَلَ، حَتَّى تَهْلِكَ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا غَيْرَ
الْإِسْلَامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ
الْكَذَّابَ، وَتَقَعُ الْأَمَنَةُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الْإِبِلُ مَعَ
الْأُسْدِ جَمِيعًا، وَالنُّمُورُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ،
وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ وَالْغِلْمَانُ بِالْحَيَّاتِ، لَا يَضُرُّ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا، فَيَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمَّ يَتَوَفَّى،
فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُونَهُ ثُمَّ رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ
عَفَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ: فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَتَوَفَّى وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَسَيَأْتِي بَيَانُ نُزُولِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي آخِرِ الزَّمَانِ فِي كِتَابِ " الْمَلَاحِمِ " كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ أَيْضًا فِي " التَّفْسِيرِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ ": وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا وَقَوْلِهِ: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ الْآيَةَ. وَإِنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ الْمُسْلِمِينَ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ. فَيَقُولُ: لَا، بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ، تَكْرِمَةُ اللَّهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَقُولُ لَهُ عِيسَى: إِنَّمَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ لَكَ. فَيُصَلِّي خَلْفَهُ، ثُمَّ يَرْكَبُ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي طَلَبِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، فَيَلْحَقُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ. وَذَكَرْنَا أَنَّهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ حِينَ بُنِيَتْ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ بِدِمَشْقَ الَّتِي هِيَ مِنْ حِجَارَةٍ بِيضٍ، وَقَدْ بُنِيَتْ أَيْضًا مِنْ أَمْوَالِ النَّصَارَى حِينَ حَرَقُوا الَّتِي هُدِمَتْ وَمَا حَوْلَهَا، فَيَنْزِلُ عَلَيْهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَلَا يَقْبَلُ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا
الْإِسْلَامَ، وَأَنَّهُ يَحُجُّ مِنْ فَجِّ الرَّوْحَاءِ، حَاجًّا أَوْ
مُعْتَمِرًا، أَوْ لِثِنْتَيْهِمَا، وَيُقِيمُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ
فَيُدْفَنُ - فِيمَا قِيلَ - فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي
ذَلِكَ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي آخِرِ تَرْجَمَةِ الْمَسِيحِ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي كِتَابِهِ، عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، أَنَّهُ يُدْفَنُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ
فِي الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ
الطَّائِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنِي
أَبُو مَوْدُودٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الضَّحَّاكِ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ، وَعِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، يُدْفَنُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو مَوْدُودٍ:
وَقَدْ بَقِيَ فِي الْبَيْتِ مَوْضِعُ قَبْرٍ. ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ. كَذَا قَالَ. وَالصَّوَابُ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ
الْمَدَنِيُّ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ عِنْدِي،
وَلَا يُتَابَعُ عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ
عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدَيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ:
الْفَتْرَةُ مَا بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ. وَعَنْ قَتَادَةَ: خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً.
وَقِيلَ:
خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَعَنِ الضَّحَّاكِ: أَرْبَعُمِائَةٍ
وَبِضْعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَالْمَشْهُورُ سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ. وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: سِتُّمِائَةٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً بِالْقَمَرِيَّةِ فَتَكُونُ
سِتَّمِائَةٍ بِالشَّمْسِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ ": ذِكْرُ الْمُدَّةِ الَّتِي
بَقِيَتْ فِيهَا أُمَّةُ عِيسَى عَلَى هَدْيِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى،
حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ
الْهَيْثَمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ نَصْرِ بْنِ
عَلْقَمَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ قَبَضَ اللَّهُ
دَاوُدَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَمَا فُتِنُوا وَلَا بَدَّلُوا، وَلَقَدْ مَكَثَ
أَصْحَابُ الْمَسِيحِ عَلَى سُنَّتِهِ وَهَدْيِهِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَهَذَا
حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِنْ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَذَكَرَ ابْنُ
جَرِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ وَصَّى الْحَوَارِيِّينَ بِأَنْ يَدْعُوَا النَّاسَ إِلَى
عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَعَيَّنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنَ الشَّامِ
وَالْمَشْرِقِ، وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ أَصْبَحَ كُلُّ
إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ الْمَسِيحُ
إِلَيْهِمْ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْإِنْجِيلَ نَقَلَهُ عَنْهُ
أَرْبَعَةٌ: لُوقَا، وَمَتَّى وَمُرْقُسُ، وَيُوحَنَّا. وَبَيْنَ هَذِهِ
الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ
نُسْخَةٍ وَنُسْخَةٍ، وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ وَنَقْصٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْأُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ
مِنْهُمُ اثْنَانِ مِمَّنْ أَدْرَكَ الْمَسِيحَ وَرَآهُ، وَهُمَا مَتَّى وَيُوحَنَّا وَمِنْهُمُ اثْنَانِ مِنْ أَصْحَابِ أَصْحَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهُمَا مُرْقُسُ وَلُوقَا. وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِالْمَسِيحِ وَصَدَّقَهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ضِينَا، وَكَانَ مُخْتَفِيًا فِي مَغَارَةٍ دَاخِلَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ قَرِيبًا مِنَ الْكَنِيسَةِ الْمُصَلَّبَةِ ; خَوْفًا مِنْ بُولِصَ الْيَهُودِيِّ، وَكَانَ ظَالِمًا غَاشِمًا مُبْغِضًا لِلْمَسِيحِ، وَلَمَّا جَاءَ بِهِ. وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَ ابْنِ أَخِيهِ حِينَ آمَنَ بِالْمَسِيحِ، وَطَافَ بِهِ فِي الْبَلَدِ ثُمَّ رَجَمَهُ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَلَمَّا سَمِعَ بُولِصُ أَنَّ الْمَسِيحَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدْ تَوَجَّهَ نَحْوَ دِمَشْقَ جَهَّزَ بِغَالَهُ وَخَرَجَ لِيَقْتُلَهُ فَتَلَقَّاهُ عِنْدَ كَوْكَبَا، فَلَمَّا وَاجَهَ أَصْحَابَ الْمَسِيحِ، جَاءَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَضَرَبَ وَجْهَهُ بِطَرَفِ جَنَاحِهِ فَأَعْمَاهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ تَصْدِيقُ الْمَسِيحِ، فَجَاءَ إِلَيْهِ وَاعْتَذَرَ مِمَّا صَنَعَ، وَآمَنَ بِهِ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَيْنَيْهِ ; لِيَرُدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى ضِينَا عِنْدَكَ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ السُّوقِ الْمُسْتَطِيلِ مِنَ
الْمَشْرِقِ، فَهُوَ يَدْعُو لَكَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ فَدَعَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ، وَحَسُنَ إِيمَانُ بُولِصَ بِالْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَبُنِيَتْ لَهُ كَنِيسَةٌ بِاسْمِهِ، فَهِيَ كَنِيسَةُ بُولِصَ الْمَشْهُورَةُ بِدِمَشْقَ، مِنْ زَمَنِ فَتَحَهَا الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَتَّى خَرِبَتْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي سَنُورِدُهُ. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَصْلُ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى
السَّمَاءِ - فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ
مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، كَمَا أَوْرَدْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَأَيَّدْنَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: قَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ
وَرَسُولُهُ، فَرُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اللَّهُ. وَقَالَ
آخَرُونَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الْحَقُّ، وَالْقَوْلَانِ
الْآخَرَانِ كُفْرٌ عَظِيمٌ، كَمَا قَالَ: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [
مَرْيَمَ: 37 ]. وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ الْأَنَاجِيلِ عَلَى أَرْبَعَةِ
أَقَاوِيلَ، مَا بَيْنَ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَتَحْرِيفٍ وَتَبْدِيلٍ، ثُمَّ
بَعْدَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ حَدَثَتْ فِيهِ الطَّامَّةُ الْعُظْمَى،
وَالْبَلِيَّةُ الْكُبْرَى اخْتَلَفَ الْبَطَارِكَةُ الْأَرْبَعَةُ وَجَمِيعُ
الْأَسَاقِفَةِ وَالْقَسَاوِسَةُ وَالشَّمَامِسَةُ وَالرَّهَابِينُ فِي الْمَسِيحِ
عَلَى أَقْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ، وَاجْتَمَعُوا
وَتَحَاكَمُوا إِلَى الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ، بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَهُمُ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ، فَصَارَ الْمَلِكُ إِلَى قَوْلِ أَكْثَرِ فِرْقَةٍ
اتَّفَقَتْ عَلَى قَوْلٍ مِنْ تِلْكَ الْمَقَالَاتِ، فَسُمُّوا الْمَلَائِكَةَ،
وَدَحَضَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَأَبْعَدَهُمْ، وَتَفَرَّدَتِ الْفِرْقَةُ التَّابِعَةُ
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَدْيُوسَ، الَّذِي ثَبَتَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ مِنْ
عِبَادِ اللَّهِ، وَرَسُولٌ مِنْ رُسُلِهِ، فَسَكَنُوا الْبَرَارِيَ
وَالْبَوَادِيَ، وَبَنَوُا الصَّوَامِعَ
وَالدِّيَارَاتِ وَالْقَلَّايَاتِ، وَقَنِعُوا بِالْعَيْشِ الزَّهِيدِ، وَلَمْ يُخَالِطُوا أُولَئِكَ الْمِلَلَ وَالنِّحَلَ، وَبَنَتِ الْمَلَائِكَةُ الْكَنَائِسَ الْهَائِلَةَ، عَمَدُوا إِلَى مَا كَانَ مِنْ بِنَاءِ الْيُونَانِ، فَحَوَّلُوا مَحَارِيبَهَا إِلَى الشَّرْقِ، وَقَدْ كَانَتْ إِلَى الشَّمَالِ إِلَى الْجَدْيِ.
بَيَانُ بِنَاءِ
بَيْتِ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةِ
وَبَنَى الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ بَيْتَ لَحْمٍ عَلَى مَحَلِّ مَوْلِدِ
الْمَسِيحِ، وَبِنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ الْقُمَامَةَ، يَعْنِي عَلَى قَبْرِ
الْمَصْلُوبِ، وَهُمْ يُسَلِّمُونَ لِلْيَهُودِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَقَدْ
كَفَرَتْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ، وَوَضَعُوا الْقَوَانِينَ وَالْأَحْكَامَ،
وَمِنْهَا مُخَالِفٌ لِلْعَتِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّوْرَاةُ، وَأَحَلُّوا
أَشْيَاءَ هِيَ حَرَامٌ بِنَصِّ التَّوْرَاةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرُ،
وَصَلَّوْا إِلَى الشَّرْقِ وَلَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ صَلَّى إِلَّا إِلَى
صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى
وَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى إِلَيْهَا بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ، سِتَّةَ عَشَرَ - أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ - شَهْرًا، ثُمَّ حُوِّلَ
إِلَى الْكَعْبَةِ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، وَصَوَّرُوا
الْكَنَائِسَ وَلَمْ تَكُنْ مُصَوَّرَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَضَعُوا الْعَقِيدَةَ
الَّتِي يَحْفَظُهَا أَطْفَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَرِجَالُهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا
بِالْأَمَانَةِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَكْبَرُ الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ.
وَجَمِيعُ الْمَلَكِيَّةِ وَالنَّسْطُورِيَّةِ أَصْحَابُ نَسْطُورَسَ أَهْلِ
الْمَجْمَعِ الثَّانِي، وَالْيَعْقُوبِيَّةِ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ الْبَرَادِعِيِّ،
أَصْحَابِ الْمَجْمَعِ الثَّالِثِ، يَعْتَقِدُونَ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ،
وَيَخْتَلِفُونَ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهَا أَنَا أَحْكِيهَا، وَحَاكِي الْكُفْرِ
لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَبُثَّ، عَلَى مَا فِيهَا، رَكَّةَ الْأَلْفَاظِ وَكَثْرَةَ
الْكُفْرِ وَالْخَبَالِ الْمُفْضِي بِصَاحِبِهِ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الشُّوَاظِ ;
فَيَقُولُونَ، عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ: نُؤْمِنُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ ضَابِطِ الْكُلِّ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ; كُلِّ مَا يُرَى، وَكُلِّ مَا لَا يُرَى، وَبِرَبٍّ وَاحِدٍ يَسُوعَ
الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ، الْوَحِيدِ الْمَوْلُودِ مِنَ الْأَبِ قَبْلَ
الدُّهُورِ، نُورٍ مِنْ نُورٍ إِلَهٍ حَقٍّ، مِنْ إِلَهٍ حَقٍّ، مَوْلُودٍ غَيْرِ مَخْلُوقٍ، مُسَاوٍ لِلْأَبِ فِي الْجَوْهَرِ الَّذِي كَانَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَجْلِنَا، نَحْنُ الْبَشَرَ، وَمِنْ أَجْلِ خَلَاصِنَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَتَجَسَّدَ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ، وَمِنْ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ وَتَأَنَّسَ، وَصُلِبِ عَلَى عَهْدِ مَلَاطِسَ النَّبَطِيِّ، وَتَأَلَّمَ وَقُبِرَ، وَقَامَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، كَمَا فِي الْكُتُبِ، وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الْأَبِ. وَأَيْضًا فَسَيَأْتِي بِجَسَدِهِ ; لِيُدَبِّرَ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، الَّذِي لَا فَنَاءَ لِمُلْكِهِ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الرَّبُّ الْمُحْيِي الْمُنْبَثِقُ مِنَ الْأَبِ مَعَ الْأَبِ، وَالِابْنُ مَسْجُودٌ لَهُ، وَبِمَجْدِ النَّاطِقِ فِي الْأَنْبِيَاءِ، كَنِسْبَةٍ وَاحِدَةٍ جَامِعَةٍ مُقَدَّسَةٍ يَهُولِيَّةٍ، وَاعْتَرَفَ بِمَعْمُودِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا، وَأَنَّهُ حَيُّ قِيَامَةَ الْمَوْتَى وَحَيَاةَ الدَّهْرِ الْعَتِيدِ كَوْنُهُ. آمِينَ.
كِتَابُ أَخْبَارِ
الْمَاضِينَ
مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى آخَرِ زَمَنِ الْفَتْرَةِ سِوَى
أَيَّامِ الْعَرَبِ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ، فَإِنَّا سَنُورِدُ ذَلِكَ بَعْدَ
فَرَاغِنَا مِنْ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ
آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [ طه: 99 ]. وَقَالَ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ
مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [ يُوسُفَ: 3 ].
خَبَرُ ذِي
الْقَرْنَيْنِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو
عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ
وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا
يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ
حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى
رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ
عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ وَقَدْ
أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ
بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
قَوْلًا قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ
نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا [
الْكَهْفِ: 83 - 98 ].
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَا الْقَرْنَيْنِ هَذَا، وَأَثْنَى عَلَيْهِ
بِالْعَدْلِ، وَأَنَّهُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ، وَمَلَكَ
الْأَقَالِيمَ وَقَهَرَ أَهْلَهَا، وَسَارَ فِيهِمْ بِالْمَعْدَلَةِ التَّامَّةِ،
وَالسُّلْطَانِ
الْمُؤَيَّدِ
الْمُظَفَّرِ الْمَنْصُورِ الْقَاهِرِ الْمُقْسِطِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ
مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ، وَقِيلَ: كَانَ نَبِيًّا. وَقِيلَ: كَانَ
رَسُولًا. وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَدْ حُكِيَ
هَذَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَإِنَّهُ سَمِعَ
رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: مَهْ، مَا كَفَاكُمْ
أَنْ تَتَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَسَمَّيْتُمْ بِأَسْمَاءِ
الْمَلَائِكَةِ. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ نَبِيًّا. وَرَوَى
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
ثَابِتٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا
أَدْرِي أَتُبَّعٌ كَانَ لَعِينًا أَمْ لَا، وَلَا أَدْرِي الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ
لِأَهْلِهَا أَمْ لَا، وَلَا أَدْرِي ذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ نَبِيًّا أَمْ لَا
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ
عُثْمَانَ بْنِ السَّاجِ، عَنْ خُصَيْفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كَانَ
ذُو الْقَرْنَيْنِ
مَلِكًا صَالِحًا، رَضِيَ اللَّهُ عَمَلَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ،
وَكَانَ مَنْصُورًا، وَكَانَ الْخَضِرُ وَزِيرَهُ. وَذَكَرَ أَنَّ الْخَضِرَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ عَلَى مُقَدَّمَةِ جَيْشِهِ وَكَانَ عِنْدَهُ
بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاوِرِ، الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ
فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَقَدْ ذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ،
أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، وَطَافَ
مَعَهُ بِالْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمَا،
أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا، وَأَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا سَمِعَ
بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ وَدَعَا لَهُ وَرَضَّاهُ، وَأَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لِذِي
الْقَرْنَيْنِ السَّحَابَ يَحْمِلُهُ حَيْثُ أَرَادَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ ذَا الْقَرْنَيْنِ ; فَقِيلَ:
لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي رَأْسِهِ شِبْهُ الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ وَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ: كَانَ لَهُ قَرْنَانِ مِنْ نُحَاسٍ فِي رَأْسِهِ. وَهَذَا ضَعِيفٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ: لِأَنَّهُ مَلَكَ فَارِسَ وَالرُّومَ. وَقِيلَ:
لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَيِ الشَّمْسِ غَرْبًا وَشَرْقًا، وَمَلَكَ مَا بَيْنَهُمَا
مِنَ الْأَرْضِ. وَهَذَا أَشْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ مِنْ شَعْرٍ يَطَأُ
فِيهِمَا ; فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ،
عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، أَنَّهُ قَالَ: دَعَا مَلِكًا جَبَّارًا إِلَى اللَّهِ فَضَرَبَهُ
عَلَى قَرْنِهِ فَكَسَرَهُ وَرَضَّهُ، ثُمَّ دَعَاهُ فَدَقَّ قَرْنَهُ الثَّانِيَ،
فَكَسَرَهُ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ
أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا نَاصَحَ اللَّهَ
فَنَاصَحَهُ، دَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ فَمَاتَ،
فَأَحْيَاهُ اللَّهُ فَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ
الْآخَرِ فَمَاتَ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ عَلِيٍّ بِهِ. وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ
نَبِيًّا وَلَا رَسُولًا وَلَا مَلَكًا، وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ ; فَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الضَّحَّاكِ بْنِ مَعْدٍ. وَقِيلَ:
مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِنانَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْأَزْدِ بْنِ غَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ
بْنِ سَبَأِ بْنِ قَحْطَانَ.
وَقَدْ جَاءَ فِي
حَدِيثٍ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حِمْيَرٍ، وَأُمُّهُ رُومِيَّةٌ، وَأَنَّهُ كَانَ
يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْفَيْلَسُوفِ ; لِعَقْلِهِ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ
الْحِمْيَرِيِّينَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا يَفْخَرُ بِكَوْنِهِ أَحَدَ أَجْدَادِهِ
فَقَالَ:
قَدْ كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ جَدِّيَ مُسْلِمًا مَلِكًا تَدِينُ لَهُ الْمُلُوكُ
وَتَحْشُدُ بَلَغَ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ يَبْتَغِي
أَسْبَابَ أَمْرٍ مِنْ حَكِيمٍ مُرْشِدِ فَرَأَى مَغِيبَ الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا
فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطٍ حَرْمَدِ مِنْ بَعْدِهِ بَلْقِيسُ كَانَتْ
عَمَّتِي
مَلَكَتْهُمُ حَتَّى أَتَاهَا الْهُدْهُدُ
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ مَرْزَبَى بْنَ مَرْذَبَةَ،
ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اسْمَهُ الصَّعْبُ
بْنُ ذِي مَرَاثِدَ. وَهُوَ أَوَّلُ التَّبَابِعَةِ، وَهُوَ الَّذِي حَكَمَ
لِإِبْرَاهِيمَ فِي بِئْرِ السَّبْعِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَفْرِيدُونُ
بْنُ أَسْفِيَانَ،
الَّذِي قَتَلَ الضَّحَّاكَ. وَفِي خُطْبَةِ قَسٍّ: يَا مَعْشَرَ إِيَادٍ، أَيْنَ
الصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، مَلَكَ الْخَافِقَيْنِ، وَأَذَلَّ الثَّقَلَيْنِ،
وَعَمَّرَ أَلْفَيْنِ، ثُمَّ كَانَ كَلَحْظَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ ابْنُ
هِشَامٍ لِلْأَعْشَى:
وَالصَّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا بِالْحِنْوِ فِي جَدَثٍ أُمَيْمَ
مقُيِمِ
وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ مَاكُولَا أَنَّ اسْمَهُ هَرْمَسُ. وَيُقَالُ:
هَرْدِيسُ بْنُ فَيَطْوُنَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ لَنْطِيِّ بْنِ كَسْلُوجِينَ بْنِ
يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ
بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: إِسْكَنْدَرُ هُوَ ذُو
الْقَرْنَيْنِ وَأَبُوهُ أَوَّلُ الْقَيَاصِرَةِ، وَكَانَ مِنْ وَلَدِ سَامِ بْنِ
نُوحٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَأَمَّا ذُو الْقَرْنَيْنِ الثَّانِي فَهُوَ
إِسْكَنْدَرُ بْنُ فِيلَيبْسَ بْنِ مَضْرِيمَ بْنِ هَرْمَسَ بْنِ هَرْدَسَ بْنِ
مَيْطُونَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ لَنْطِيِّ بْنِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُونَةَ
بْنِ سَرْحُونَ بْنِ رُومَةَ بْنِ ثَرْنَطَ بْنِ تَوْفِيلَ بْنِ رُومِيِّ بْنِ
الْأَصْفَرِ بْنِ الْيَفَزَ بْنِ
الْعِيصَ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ. كَذَا نَسَبَهُ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " الْمَقْدُونِيُّ الْيُونَانِيُّ
الْمِصْرِيُّ، بَانِي إِسْكَنْدَرِيَّةَ، الَّذِي يُؤَرِّخُ بِأَيَّامِهِ
الرُّومُ، وَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْأَوَّلِ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ، كَانَ هَذَا
قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَانَ
أَرِسْطَاطَالِيسُ الْفَيْلَسُوفُ وَزِيرَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ دَارَا بْنَ
دَارَا، وَأَذَلَّ مُلُوكَ الْفُرْسِ وَأَوْطَأَ أَرْضَهُمْ. وَإِنَّمَا
نَبَّهْنَا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُمَا
وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الَّذِي كَانَ
أَرِسْطَاطَالِيسُ وَزِيرَهُ، فَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَطَأٌ كَبِيرٌ وَفَسَادٌ
عَرِيضٌ طَوِيلٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ كَانَ عَبْدًا مُؤْمِنًا صَالِحًا
وَمَلِكًا عَادِلًا، وَكَانَ وَزِيرُهُ الْخَضِرَ، وَقَدْ كَانَ نَبِيًّا عَلَى
مَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا. وَأَمَّا الثَّانِي، فَكَانَ مُشْرِكًا، وَكَانَ
وَزِيرُهُ فَيْلَسُوفًا، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ زَمَانَيْهِمَا أَزْيَدُ مِنْ
أَلْفَيْ سَنَةٍ. فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا، لَا يَسْتَوِيَانِ وَلَا
يَشْتَبِهَانِ، إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ [ الْكَهْفِ: 83 ].
كَانَ سَبَبُهُ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا الْيَهُودَ عَنْ شَيْءٍ يَمْتَحِنُونَ
بِهِ عِلْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا
لَهُمْ: سَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ فِتْيَةٍ خَرَجُوا
لَا يُدْرَى مَا فَعَلُوا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قِصَّةَ أَصْحَابِ
الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ سَأَتْلُو
عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا أَيْ مِنْ خَبَرِهِ وَشَأْنِهِ
ذِكْرًا أَيْ
خَبَرًا نَافِعًا كَافِيًا فِي تَعْرِيفِ أَمَرِهِ وَشَرْحِ حَالِهِ. فَقَالَ:
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا
أَيْ: وَسَّعْنَا مَمْلَكَتَهُ فِي الْبِلَادِ وَأَعْطَيْنَاهُ مِنْ آلَاتِ
الْمَمْلَكَةِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنَ
الْمُهِمَّاتِ الْعَظِيمَةِ وَالْمَقَاصِدِ الْجَسِيمَةِ.
قَالَ قُتَيْبَةُ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ
حِمَازٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ
عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كَيْفَ بَلَغَ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ ؟ فَقَالَ:
سُخِّرَ لَهُ السَّحَابُ، وَمُدَّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ، وَبُسِطَ لَهُ فِي النُّورِ.
وَقَالَ: أَزِيدُكَ ؟ فَسَكَتَ الرَّجُلُ، وَسَكَتَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ.
وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْوَادِعِيِّ، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: مَلَكَ الْأَرْضَ أَرْبَعَةٌ:
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ النَّبِيُّ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَذُو
الْقَرْنَيْنِ، وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ حُلْوَانَ وَرَجُلٌ آخَرُ. فَقِيلَ لَهُ:
الْخَضِرُ ؟ قَالَ: لَا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الضَّحَّاكِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ مَلَكَ الْأَرْضَ كُلَّهَا أَرْبَعَةٌ: مُؤْمِنَانِ
وَكَافِرَانِ ; سُلَيْمَانُ النَّبِيُّ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ، وَنُمْرُودُ،
وَبُخْتُ نَصَّرَ. وَهَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، سَوَاءً.
وَقَالَ إِسْحَاقُ
بْنُ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ،
قَالَ: كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ، مَلَكَ بَعْدَ النَّمْرُودِ وَكَانَ مِنْ
قِصَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُسْلِمًا صَالِحًا أَتَى الْمَشْرِقَ
وَالْمَغْرِبَ، مَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَجَلِ وَنَصَرَهُ، حَتَّى قَهَرَ
الْبِلَادَ وَاحْتَوَى عَلَى الْأَمْوَالِ، وَفَتَحَ الْمَدَائِنَ وَقَتَلَ
الرِّجَالَ وَجَالَ فِي الْبِلَادِ وَالْقِلَاعِ، فَسَارَ حَتَّى أَتَى
الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي
الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا أَيْ: خَبَرًا إِنَّا
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا أَيْ:
عِلْمًا بِطَلَبِ أَسْبَابِ الْمَنَازِلِ.
قَالَ إِسْحَاقُ: وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُ كَانَ يَفْتَحُ الْمَدَائِنَ
وَيَجْمَعُ الْكُنُوزَ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ،
وَإِلَّا قَتَلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَعُبَيْدُ بْنُ يَعْلَى، وَالسُّدِّيُّ، وَقَتَادَةُ،
وَالضَّحَّاكُ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يَعْنِي عِلْمًا. وَقَالَ
قَتَادَةُ، وَمَطَرٌ الْوَرَّاقُ: مَعَالِمُ الْأَرْضِ وَمَنَازِلُهَا
وَأَعْلَامُهَا وَآثَارُهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ
أَسْلَمَ: يَعْنِي تَعْلِيمَ الْأَلْسِنَةِ، كَانَ لَا يَغْزُو قَوْمًا إِلَّا
حَدَّثَهُمْ بِلُغَتِهِمْ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ كُلَّ سَبَبٍ يَتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى نَيْلِ
مَقْصُودِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ وَغَيْرِهَا; فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ
إِقْلِيمٍ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَطَاعِمِ وَالزَّادِ مَا يَكْفِيهِ
وَيُعِينُهُ عَلَى أَهْلِ الْإِقْلِيمِ الْآخَرِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَكَثَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ
يَجُوبُ الْأَرْضَ،
وَيَدْعُو
أَهْلَهَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفِي كُلِّ هَذِهِ
الْمُدَّةِ نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ
عَسَاكِرَ حَدِيثًا مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَبًا مُطَوَّلًا جِدًّا، وَهُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا. وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ
بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ وَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَلِهَذَا لَمْ نَكْتُبْهُ
لِسُقُوطِهِ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَتْبَعَ سَبَبًا أَيْ: طَرِيقًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ، انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا
أَنْ يُجَاوِزَهُ، وَوَقَفَ عَلَى حَافَّةِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ
الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أُوقْيَانُوسُ الَّذِي فِيهِ الْجَزَائِرُ الْمُسَمَّاةُ
بِالْخَالِدَاتِ، الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ الْأَطْوَالِ، عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ
أَرْبَابِ الْهَيْئَةِ، وَالثَّانِي مِنْ سَاحِلِ هَذَا الْبَحْرِ كَمَا
قَدَّمْنَا. وَعِنْدَهُ شَاهَدَ مَغِيبَ الشَّمْسِ - فِيمَا رَآهُ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى مُشَاهَدَتِهِ - تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَالْمُرَادُ بِهَا الْبَحْرُ
فِي نَظَرِهِ، فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي الْبَحْرِ أَوْ عَلَى سَاحِلِهِ يَرَى
الشَّمْسَ كَأَنَّهَا تَطْلُعُ مِنَ الْبَحْرِ وَتَغْرُبُ فِيهِ، وَلِهَذَا قَالَ
وَجَدَهَا، أَيْ: فِي نَظَرِهِ، وَلَمْ يَقُلْ: فَإِذَا هِيَ تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ
حَمِئَةٍ. أَيْ: ذَاتِ حَمْأَةٍ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ وَهُوَ الطِّينُ
الْأَسْوَدُ. وَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ ( حَامِيَةٍ ). فَقِيلَ: يَرْجِعُ إِلَى
الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: مِنَ الْحَرَارَةِ. وَذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الْمُقَابَلَةِ
لِوَهَجِ ضَوْءِ الشَّمْسِ وَشُعَاعِهَا.
وَقَدْ رَوَى
الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ،
حَدَّثَنِي مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الشَّمْسِ حِينَ
غَابَتْ فَقَالَ: فِي نَارِ اللَّهِ الْحَامِيَةِ، لَوْلَا مَا يَزَعُهَا مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ لَأَحْرَقَتْ مَا عَلَى الْأَرْضِ فِيهِ غَرَابَةٌ، وَفِيهِ رَجُلٌ
مُبْهَمٌ لَمْ يُسَمَّ، وَرَفْعُهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ
كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ
زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمَنْ زَعَمَ مِنَ الْقُصَّاصِ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ جَاوَزَ مَغْرِبَ
الشَّمْسِ، وَصَارَ يَمْشِي بِجُيُوشِهِ فِي ظُلُمَاتٍ مُدَدًا طَوِيلَةً، فَقَدْ
أَخْطَأَ، وَأَبْعَدَ النُّجْعَةَ، وَقَالَ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ.
بَيَانُ طَلَبِ ذِي
الْقَرْنَيْنِ عَيْنَ الْحَيَاةِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، عَنْ أَبِيهِ
زَيْنِ الْعَابِدِينَ خَبَرًا مُطَوَّلًا جِدًّا فِيهِ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ
كَانَ لَهُ صَاحِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُ: رَنَاقِيلُ. فَسَأَلَهُ ذُو
الْقَرْنَيْنِ: هَلْ تَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ عَيْنًا يُقَالُ لَهَا: عَيْنُ
الْحَيَاةِ ؟ فَذَكَرَ لَهُ صِفَةَ مَكَانِهَا، فَذَهَبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي
طَلَبِهَا وَجَعَلَ الْخَضِرَ عَلَى مُقَدَّمَتِهِ، فَانْتَهَى الْخَضِرُ
إِلَيْهَا فِي وَادٍ فِي أَرْضِ الظُّلُمَاتِ، فَشَرِبَ مِنْهَا وَلَمْ يَهْتَدِ
ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَيْهَا. وَذَكَرَ اجْتِمَاعَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِبَعْضِ
الْمَلَائِكَةِ فِي قَصْرٍ هُنَاكَ، وَأَنَّهُ أَعْطَاهُ حَجَرًا، فَلَمَّا رَجَعَ
إِلَى جَيْشِهِ سَأَلَ الْعُلَمَاءَ عَنْهُ، فَوَضَعُوهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانٍ،
وَجَعَلُوا فِي مُقَابَلَتِهِ أَلْفَ حَجَرٍ مِثْلَهُ فَوَزَنَهَا، حَتَّى سَأَلَ
الْخَضِرَ فَوَضَعَ قُبَالَهُ حَجَرًا، وَجَعْلَ عَلَيْهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ
فَرَجَحَ بِهِ، وَقَالَ: هَذَا مَثَلُ ابْنِ آدَمَ لَا يَشْبَعُ حَتَّى يُوَارَى
بِالتُّرَابِ. فَسَجَدَ لَهُ الْعُلَمَاءُ تَكْرِيمًا لَهُ وَإِعْظَامًا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ حَكَّمَهُ فِي أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ قُلْنَا
يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ
حُسْنًا قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى
رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا أَيْ: فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عَذَابُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَدَأَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ أَزْجَرُ
عِنْدَ الْكَافِرِ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً
الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا
فَبَدَأَ
بِالْأَهَمِّ وَهُوَ ثَوَابُ الْآخِرَةِ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْإِحْسَانَ مِنْهُ
إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا أَيْ: سَلَكَ طَرِيقًا رَاجِعًا مِنَ الْمَغْرِبِ
إِلَى الْمَشْرِقِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ فِي ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ
نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا أَيْ: لَيْسَ لَهُمْ بُيُوتٌ وَلَا
أَكْنَانٌ يَسْتَتِرُونَ بِهَا مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ: وَلَكِنْ كَانُوا يَأْوُونَ، إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ،
إِلَى أَسْرَابٍ قَدِ اتَّخَذُوهَا فِي الْأَرْضِ، شِبْهِ الْقُبُورِ. قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا أَيْ:
وَنَحْنُ نَعْلَمُ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَنَحْفَظُهُ وَنَكْلَؤُهُ بِحِرَاسَتِنَا
فِي مَسِيرِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ مَغَارِبِ الْأَرْضِ إِلَى مَشَارِقِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ، أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا، فَلَمَّا
سَمِعَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِقُدُومِهِ تَلَقَّاهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا
دَعَا لَهُ الْخَلِيلُ وَوَصَّاهُ بِوَصَايَا. وَيُقَالُ: إِنَّهُ جِيءَ بِفَرَسٍ
لِيَرْكَبَهَا فَقَالَ: لَا أَرْكَبُ فِي بَلَدٍ فِيهِ الْخَلِيلُ. فَسَخَّرَ
اللَّهُ لَهُ السَّحَابَ، وَبَشَّرَهُ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ، فَكَانَتْ
تَحْمِلُهُ إِذَا أَرَادَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ
السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا
يَعْنِي غُتْمًا. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ هُمُ التُّرْكُ، أَبْنَاءُ عَمِّ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ هَاتَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ قَدْ تَعَدَّوْا
عَلَيْهِمْ وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِهِمْ، وَقَطَعُوا السُّبُلَ عَلَيْهِمْ،
وَبَذَلُوا لَهُ حِمْلًا وَهُوَ الْخَرَاجُ عَلَى
أَنْ يُقِيمَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ حَاجِزًا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَخْذِ الْخَرَاجِ ; اكْتِفَاءً بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ثُمَّ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا لَهُ رِجَالًا وَآلَاتٍ لِيَبْنِيَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، وَهُوَ الرَّدْمُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ بَيْنِهِمَا، وَبَقِيَّةُ ذَلِكَ بِحَارٌ مُغْرِقَةٌ، وَجِبَالٌ شَاهِقَةٌ، فَبَنَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، مِنَ الْحَدِيدِ وَالْقِطْرِ، وَهُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، وَقِيلَ: الرَّصَاصُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، فَجَعَلَ بَدَلَ اللَّبِنِ حَدِيدًا، وَبَدَلَ الطِّينِ نُحَاسًا، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أَيْ: يَعْلُوَا عَلَيْهِ بِسَلَالِمَ وَلَا غَيْرِهَا وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أَيْ: بِمَعَاوِلَ وَلَا فُؤُوسٍ وَلَا غَيْرِهَا، فَقَابَلَ الْأَسْهَلَ بِالْأَسْهَلِ وَالْأَشَدَّ بِالْأَشَدِّ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أَيْ: قَدَّرَ اللَّهُ وُجُودَهُ لِيَكُونَ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ أَنْ يَمْنَعَ بِسَبَبِهِ عُدْوَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى مَنْ جَاوَرَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَحِلَّةِ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي أَيِ الْوَقْتُ الَّذِي قَدَّرَ خُرُوجَهُمْ عَلَى النَّاسِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ جَعَلَهُ دَكَّاءَ أَيْ مُسَاوِيًا لِلْأَرْضِ. وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ: وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ الْآيَةَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 96، 97 ]. وَلِذَا قَالَ هَاهُنَا: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يَعْنِي يَوْمَ فَتْحِ السَّدِّ، عَلَى الصَّحِيحِ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْأَحَادِيثَ الْمَرْوِيَّةَ، فِي خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فِي " التَّفْسِيرِ " وَسَنُورِدُهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي كِتَابِ " الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ " مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، إِذَا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ، بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ،
وَحُسْنِ
تَوْفِيقِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهِدَايَتِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنِ الثَّوْرِيِّ: بَلَغَنَا أَنَّ أَوَّلَ
مَنْ صَافَحَ، ذُو الْقَرْنَيْنِ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ
قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
أَوْصَى أُمَّهُ ; إِذَا هُوَ مَاتَ أَنْ تَصْنَعَ طَعَامًا، وَتَجْمَعَ نِسَاءَ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ، وَتَأْذَنَ لَهُنَّ فِيهِ،
إِلَّا مَنْ كَانَتْ ثَكْلَى، فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا، فَلَمَّا فَعَلَتْ
ذَلِكَ لَمْ تَضَعْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ يَدَهَا فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُنَّ: سُبْحَانَ
اللَّهِ! كُلُّكُنَّ ثَكْلَى! فَقُلْنَ: أَيْ وَاللَّهِ مَا مِنَّا إِلَّا مَنْ
أُثْكِلَتْ. فَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيَةً لِأُمِّهِ. وَذَكَرَ إِسْحَاقُ بْنُ
بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ،
وَصِيَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَوْعِظَتَهُ أُمَّهُ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً
طَوِيلَةً، فِيهَا حِكَمٌ وَأُمُورٌ نَافِعَةٌ، وَأَنَّهُ مَاتَ وَعُمْرُهُ
ثَلَاثَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَهَذَا غَرِيبٌ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَبَلَغَنِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ عَاشَ سِتًّا
وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: كَانَ عُمْرُهُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً،
وَكَانَ بَعْدَ دَاوُدَ بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ
بَعْدَ آدَمَ بِخَمْسَةِ آلَافٍ وَمِائَةٍ وَإِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَكَانَ
مُلْكُهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إِنَّمَا يَنْطَبِقُ
عَلَى إِسْكَنْدَرَ الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ، وَقَدْ خَلَطَ فِي أَوَّلِ
التَّرْجَمَةِ وَآخِرِهَا بَيْنَهُمَا، وَالصَّوَابُ التَّفْرِقَةُ كَمَا
ذَكَرْنَا، اقْتِدَاءً بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ جَعَلَهُمَا وَاحِدًا الْإِمَامُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ، رَاوِي السِّيرَةِ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، إِنْكَارًا بَلِيغًا، وَرَدَّ قَوْلَهُ رَدًّا شَنِيعًا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا جَيِّدًا، كَمَا قَدَّمْنَا. قَالَ: وَلَعَلَّ جَمَاعَةً مِنَ الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ، تَسَمَّوْا بِذِي الْقَرْنَيْنِ تَشَبُّهًا بِالْأَوَّلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أُمَّتَيْ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَصِفَاتِهِمْ وَمَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَصِفَةِ
السَّدِّ
هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى
ذَلِكَ، مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ،
عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا
آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ،
وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ
وَتِسْعُونَ إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ. فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ
الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى
وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرُوا ; فَإِنَّ مِنْكُمْ وَاحِدًا، وَمِنْ يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ أَلْفًا وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَالَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ فِيكُمْ
أُمَّتَيْنِ ; مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ - أَيْ غَلَبَتَاهُ -
كَثْرَةً وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَضْعَافُ النَّاسِ
مِرَارًا عَدِيدَةً. ثُمَّ هُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
أَخْبَرَ أَنَّهُ اسْتَجَابَ لِعَبْدِهِ نُوحٍ فِي دُعَائِهِ عَلَى أَهْلِ
الْأَرْضِ بِقَوْلِهِ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ
دَيَّارًا [ نُوحٍ:
26 ]. وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [
الْعَنْكَبُوتِ: 15 ]. وَقَالَ: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [
الصَّافَّاتِ: 77 ]. وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي "
الْمُسْنَدِ " و " السُّنَنِ ": أَنَّ نُوحًا وُلِدَ لَهُ
ثَلَاثَةٌ ; وَهُمْ سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ، وَحَامٌ
أَبُو السُّودَانِ وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ، فَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ طَائِفَةٌ
مِنَ التُّرْكِ، وَهُمْ مَغْلُ الْمَغُولِ، وَهُمْ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَكْثَرُ
فَسَادًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَنِسْبَتُهُمْ إِلَيْهِمْ كَنِسْبَةِ هَؤُلَاءِ إِلَى
غَيْرِهِمْ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ التُّرْكَ إِنَّمَا سُمُّوا بِذَلِكَ حِينَ بَنَى
ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ وَأَلْجَأَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ إِلَى مَا
وَرَاءَهُ، فَبَقِيَتْ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ كَفَسَادِهِمْ
فَتُرِكُوا مِنْ وَرَائِهِ. فَلِهَذَا قِيلَ لَهُمُ: التُّرْكُ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ خُلِقُوا مِنْ نُطْفَةِ آدَمَ حِينَ
احْتَلَمَ، فَاخْتَلَطَتْ بِتُرَابٍ فَخُلِقُوا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا
مِنْ حَوَّاءَ، فَهُوَ قَوْلٌ حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو زَكَرِيَّا النَّوَاوِيُّ،
فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ، وَضَعَّفُوهُ، وَهُوَ جَدِيرٌ
بِذَلِكَ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَهَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ عَلَى أَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَطْوَالٍ
مُتَبَايِنَةٍ جِدًّا ; فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَالنَّخْلَةِ السَّحُوقِ،
وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ غَايَةٌ فِي الْقِصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْتَرِشُ أُذُنًا
مِنْ أُذُنَيْهِ وَيَتَغَطَّى بِالْأُخْرَى، فَكُلُّ هَذِهِ أَقْوَالٌ بِلَا
دَلِيلٍ، وَرَجْمٌ بِالْغَيْبِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ مِنْ بَنِي آدَمَ وَعَلَى أَشْكَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ وَهَذَا فَيْصَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَرَى مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا، فَإِنْ صَحَّ فِي خَبَرٍ قُلْنَا بِهِ، وَإِلَّا فَلَا نَرُدُّهُ، إِذْ يَحْتَمِلُهُ الْعَقْلُ، وَالنَّقْلُ أَيْضًا قَدْ يُرْشِدُ إِلَيْهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. بَلْ قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ، إِنْ صَحَّ ; قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَلَوْ أُرْسِلُوا لَأَفْسَدُوا عَلَى النَّاسِ مَعَائِشَهُمْ، وَلَنْ يَمُوتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا تَرَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أَلْفًا فَصَاعِدًا. وَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِمْ ثَلَاثَ أُمَمٍ: تَاوِيلَ، وَتَارِيسَ، وَمَنْسَكَ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَفِيهِ نَكَارَةٌ شَدِيدَةٌ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ "، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَامْتَنَعُوا مِنْ إِجَابَتِهِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَأَنَّهُ دَعَا تِلْكَ الْأُمَمَ الَّتِي هُنَاكَ ; تَارِيسَ، وَتَاوِيلَ، وَمَنْسَكَ، فَأَجَابُوهُ، فَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ اخْتَلَقَهُ أَبُو نُعَيْمٍ عُمَرُ بْنُ
الصُّبْحِ أَحَدُ
الْكَذَّابِينَ الْكِبَارِ الَّذِينَ اعْتَرَفُوا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ دَلَّ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ فِدَاءُ
الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُمْ فِي النَّارِ، وَلَمْ يُبْعَثْ
إِلَيْهِمْ رُسُلٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ إِلَّا
بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فَإِنْ كَانُوا فِي
الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ أَتَتْهُمْ رُسُلٌ مِنْهُمْ، فَقَدْ قَامَتْ عَلَى أُولَئِكَ الْحُجَّةُ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلًا، فَهُمْ فِي حُكْمِ
أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ. وَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ
الْمَرْوِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يُمْتَحَنُ فِي
عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ
أَبَى دَخَلَ النَّارَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْحَدِيثَ بِطُرُقِهِ وَأَلْفَاظِهِ،
وَكَلَامَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وَقَدْ حَكَاهُ الشَّيْخُ
أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إِجْمَاعًا عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ،
وَامْتِحَانُهُمْ لَا يَقْتَضِي نَجَاتَهُمْ وَلَا يُنَافِي الْإِخْبَارَ عَنْهُمْ
بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُ رَسُولَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ، وَقَدْ
أَطْلَعَهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَأَنْ سَجَايَاهُمْ
تَأْبَى قَبُولَ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، فَهُمْ لَا يُجِيبُونَ الدَّاعِيَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ تَكْذِيبًا
لِلْحَقِّ فِي الدُّنْيَا لَوْ بَلَغَهُمْ
فِيهَا ; لِأَنَّ
فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةَ يَنْقَادُ خَلْقٌ مِمَّنْ كَانَ مُكَذِّبًا فِي
الدُّنْيَا، فَإِيقَاعُ الْإِيمَانِ هُنَاكَ لِمَا يُشَاهَدُ مِنَ الْأَهْوَالِ
أَوْلَى وَأَحْرَى مِنْهُ فِي الدُّنْيَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا قَالَ
تَعَالَى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا
إِنَّا مُوقِنُونَ [ السَّجْدَةِ: 12 ]. وَقَالَ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [ مَرْيَمَ: 38 ]. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي
فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُمْ
لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَلَمْ يُجِيبُوا، فَإِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، بَلْ
مَوْضُوعٌ، وَضَعَهُ عُمَرُ بْنُ الصُّبْحِ.
وَأَمَّا السَّدُّ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ بَنَاهُ مِنَ
الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، وَسَاوَى بِهِ الْجِبَالَ الصُّمَّ الشَّامِخَاتِ
الطِّوَالَ، فَلَا يُعْرَفُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَجَلُّ مِنْهُ، وَلَا
أَنْفَعُ لِلْخَلْقِ مِنْهُ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ
رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ السَّدَّ. قَالَ:
وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ ؟ قَالَ: مِثْلَ الْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ. فَقَالَ: رَأَيْتَهُ
هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، وَلَمْ أَرَهُ
مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ مُتَّصِلٍ أَرْتَضِيهِ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ رَوَاهُ
فِي " تَفْسِيرِهِ " مُرْسَلًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، حَدَّثَنَا
يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا
قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَدْ
رَأَيْتُ سَدَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. قَالَ: انْعَتْهُ لِي قَالَ: كَالْبُرْدِ
الْمُحَبَّرِ، طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ. قَالَ: قَدْ
رَأَيْتَهُ.
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْوَاثِقَ بَعَثَ رُسُلًا مِنْ جِهَتِهِ،
وَكَتَبَ لَهُمْ كُتُبًا إِلَى الْمُلُوكِ يُوصِلُونَهُمْ مِنْ بِلَادٍ إِلَى
بِلَادٍ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى السَّدِّ، فَيَكْشِفُوا عَنْ خَبَرِهِ
وَيَنْظُرُوا كَيْفَ بَنَاهُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَعَلَى أَيِّ صِفَةٍ، فَلَمَّا
رَجَعُوا أَخْبَرُوا عَنْ صِفَتِهِ وَأَنَّ فِيهِ بَابًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ
أَقْفَالٌ، وَأَنَّهُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ شَاهِقٌ مُنِيفٌ جِدًّا، وَأَنَّ بَقِيَّةَ
اللَّبِنِ الْحَدِيدِ وَالْآلَاتِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَا
يَزَالُ هُنَاكَ حَرَسٌ لِتِلْكَ الْمُلُوكِ الْمُتَاخِمَةِ لِتِلْكَ الْبِلَادِ،
وَمَحَلَّتُهُ فِي شَرْقِيِّ الْأَرْضِ فِي جِهَةِ الشَّمَالِ، فِي زَاوِيَةِ
الْأَرْضِ الشَّرْقِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ. وَيُقَالُ: إِنَّ بِلَادَهُمْ
مُتَّسِعَةٌ جِدًّا، وَإِنَّهُمْ يَقْتَاتُونَ بِأَصْنَافٍ مِنَ الْمَعَايِشِ،
مِنْ حِرَاثَةٍ وَزِرَاعَةٍ وَاصْطِيَادٍ مِنَ الْبَرِّ وَمِنَ الْبَحْرِ، وَهُمْ
أُمَمٌ وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ. فَإِنْ
قِيلَ: فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [ الْكَهْفِ: 97 ]. وَبَيْنَ
الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْمٍ، مُحْمَرًّا وَجْهُهُ
وَهُوَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ
اقْتَرَبَ! فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ
وَحَلَّقَ تِسْعِينَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا
الصَّالِحُونَ ؟! قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ وَأَخْرَجَاهُ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ "، مِنْ حَدِيثِ وُهَيْبٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، مِثْلُ هَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ فَالْجَوَابُ: أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى فَتْحِ أَبْوَابِ الشَّرِّ وَالْفِتَنِ، وَأَنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ مَحْضَةٌ وَضَرْبُ مَثَلٍ، فَلَا إِشْكَالَ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ، فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أَيْ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، لِأَنَّ هَذِهِ صِيغَةُ خَبَرٍ مَاضٍ، فَلَا يَنْفِي وُقُوعَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَدَرًا، وَتَسْلِيطَهُمْ عَلَيْهِ بِالتَّدْرِيجِ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى يَتِمَّ الْأَجَلُ وَيَنْقَضِيَ الْأَمَدُ الْمَقْدُورُ، فَيَخْرُجُونَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 96 ]. وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ الْآخَرَ أَشْكَلُ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " قَائِلًا: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا. فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ، وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَيَسْتَثْنِي، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ
عَلَى النَّاسِ فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ، وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ. فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ، فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ حَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَ أَبُو رَافِعٍ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ، قَتَادَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كُلَّ يَوْمٍ يَلْحَسُونَهُ، حَتَّى كَادُوا يَنْظُرُونَ شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ وَرَائِهِ ; لِرِقَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفْعُ هَذَا الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، فَقَدِ اسْتَرَحْنَا مِنَ الْمَئُونَةِ، وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّ صَنِيعَهُمْ هَذَا يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ
عِنْدَ اقْتِرَابِ خُرُوجِهِمْ، كَمَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أَيْ: نَافِذًا مِنْهُ، فَلَا يَنْفِي أَنْ يَلْحَسُوهُ وَلَا يَنْفُذُوهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا فَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ وَعَقَدَ تِسْعِينَ. أَيْ: فُتِحَ فَتْحًا نَافِذًا فِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ
الْكَهْفِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ
كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا
رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا
لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا
يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ
مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا وَتَرَى الشَّمْسَ
إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ
وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ
ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ
فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا
بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى
طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ
بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ
يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا وَكَذَلِكَ
أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ
السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ
فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ
غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا سَيَقُولُونَ
ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ
إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَلَا
تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ
مِنْ هَذَا رَشَدًا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ
وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ
وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ الْكَهْفِ: 9 - 26 ].
كَانَ سَبَبُ نُزُولِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فِي " السِّيرَةِ " وَغَيْرُهُ، أَنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا إِلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أَشْيَاءَ يَمْتَحِنُونَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْأَلُونَهُ عَنْهَا ; لِيَخْتَبِرُوا مَا يُجِيبُ بِهِ فِيهَا، فَقَالُوا: سَلُوهُ عَنْ أَقْوَامٍ ذَهَبُوا فِي الدَّهْرِ فَلَا يُدْرَىَ مَا صَنَعُوا، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ وَعَنِ الرُّوحِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [ الْإِسْرَاءِ: 58 ]. وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقَالَ هَاهُنَا:
أَمْ حَسِبْتَ
أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا أَيْ:
لَيْسُوا بِعَجَبٍ عَظِيمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا أَطْلَعْنَاكَ عَلَيْهِ مِنَ
الْأَخْبَارِ الْعَظِيمَةِ، وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالْعَجَائِبِ
الْغَرِيبَةِ. وَالْكَهْفُ هُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ. قَالَ شُعَيْبٌ
الْجَبَائِيُّ: وَاسْمُ كَهْفِهِمْ حَيْزَمُ. وَأَمَّا الرَّقِيمُ فَعَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْمُرَادُ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ
الْكِتَابُ الْمَرْقُومُ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَمَا جَرَى لَهُمْ، كُتِبَ مِنْ
بَعْدِهِمُ. اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ الْجَبَلِ
الَّذِي فِيهِ كَهْفُهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُعَيْبٌ الْجَبَائِيُّ:
وَاسْمُهُ بَنَاجْلُوسُ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ وَادٍ عِنْدَ كَهْفِهِمْ. وَقِيلَ:
اسْمُ قَرْيَةٍ هُنَالِكَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شُعَيْبٌ الْجِبَائِيُّ: وَاسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ. وَاعْتِنَاءُ
الْيَهُودِ بِأَمْرِهِمْ وَمَعْرِفَةِ خَبَرِهِمْ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
زَمَانَهُمْ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمْ
كَانُوا بَعْدَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا نَصَارَى. وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ
أَنَّ قَوْمَهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ. قَالَ كَثِيرٌ
مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرِّخِينَ وَغَيْرِهِمْ: كَانُوا فِي زَمَنِ مَلِكٍ
يُقَالُ لَهُ: دِقْيَانُوسُ. وَكَانُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَكَابِرِ. وَقِيلَ:
مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ. وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُهُمْ فِي يَوْمِ عِيدٍ
لِقَوْمِهِمْ فَرَأَوْا مَا يَتَعَاطَاهُ قَوْمُهُمْ، مِنَ السُّجُودِ
لِلْأَصْنَامِ وَالتَّعْظِيمِ لِلْأَوْثَانِ، فَنَظَرُوا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ،
وَكَشَفَ اللَّهُ عَنْ قُلُوبِهِمْ حِجَابَ الْغَفْلَةِ، وَأَلْهَمَهُمْ
رُشْدَهُمْ، فَعَلِمُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ، فَخَرَجُوا عَنْ
دِينِهِمْ، وَانْتَمَوْا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمَّا أَوْقَعَ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ
مَا هَدَاهُ إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، انْحَازَ عَنِ
النَّاسِ، وَاتَّفَقَ اجْتِمَاعُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ فَكُلٌّ مِنْهُمْ سَأَلَ الْآخَرَ عَنْ أَمْرِهِ وَعَنْ شَأْنِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الِانْحِيَازِ عَنْ قَوْمِهِمْ، وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ، وَالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمَشْرُوعُ حَالَ الْفِتَنِ وَظُهُورِ الشُّرُورِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ أَيْ: بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَصَارُوا مِنَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أَيْ: وَإِذْ قَدْ فَارَقْتُمُوهُمْ فِي دِينِهِمْ وَتَبَرَّأْتُمْ مِمَّا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [ الزُّخْرُفِ: 26، 27 ]. وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِذْ قَدْ فَارَقْتُمْ قَوْمَكُمْ فِي دِينِهِمْ، فَاعْتَزَلُوهُمْ بِأَبْدَانِكُمْ لِتَسْلَمُوا مِنْهُمْ أَنْ يُوصِلُوا إِلَيْكُمْ شَرًّا فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا أَيْ: يُسْبِلْ عَلَيْكُمْ سِتْرَهُ، وَتَكُونُوا تَحْتَ حِفْظِهِ وَكَنَفِهِ، وَيَجْعَلْ عَاقِبَةَ
أَمْرِكُمْ إِلَى خَيْرٍ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى صِفَةَ الْغَارِ الَّذِي آوَوْا إِلَيْهِ، وَأَنَّ بَابَهُ مُوَجَّهٌ إِلَى نَحْوِ الشَّمَالِ، وَأَعْمَاقَهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ الْأَمَاكِنِ ; أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ قِبْلِيًّا، وَبَابُهُ نَحْوَ الشَّمَالِ، فَقَالَ: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ وَقُرِئَ: ( تَزْوَرُّ ) عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ، يَعْنِي فِي زَمَنِ الصَّيْفِ وَأَشْبَاهِهِ، تُشْرِقُ أَوَّلَ طُلُوعِهَا فِي الْغَارِ فِي جَانِبِهِ الْغَرْبِيِّ، ثُمَّ تَشْرَعُ فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَهُوَ ازْوِرَارُهَا ذَاتَ الْيَمِينِ فَتَرْتَفِعُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ وَتَتَقَلَّصُ عَنْ بَابِ الْغَارِ، ثُمَّ إِذَا تَضَيَّفَتْ لِلْغُرُوبِ تَشْرَعُ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مِنْ جِهَتِهِ الشَّرْقِيَّةِ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى حِينِ الْغُرُوبِ، كَمَا هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ، وَالْحِكْمَةُ فِي دُخُولِ الشَّمْسِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنْ لَا يَفْسُدَ هَوَاؤُهُ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أَيْ: بَقَاؤُهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ دَهْرًا طَوِيلًا مِنَ السِّنِينَ، لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ، وَلَا تَتَغَذَّى أَجْسَادُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَبُرْهَانِ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَنَّ أَعْيُنَهُمْ مَفْتُوحَةٌ ; لِئَلَّا تَفْسُدَ بِطُولِ الْغَمْضِ
وَنُقَلِّبُهُمْ
ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ قِيلَ: فِي كُلِّ عَامٍ يَتَحَوَّلُونَ
مَرَّةً مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ، وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قَالَ شُعَيْبٌ
الْجَبَائِيُّ: اسْمُ كَلْبِهِمْ حُمْرَانُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْوَصِيدُ أُسْكُفَّةُ
الْبَابِ. وَالْمُرَادُ أَنَّ كَلْبَهُمُ الَّذِي كَانَ مَعَهُمْ، وَصَحِبَهُمْ
حَالَ انْفِرَادِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، لَزِمَهُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي
الْكَهْفِ، بَلْ رَبَضَ عَلَى بَابِهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْوَصِيدِ،
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَدَبِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أُكْرِمُوا بِهِ ; فَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلَمَّا كَانَتِ
التَّبَعِيَّةُ مُؤَثِّرَةً، حَتَّى فِي كَلْبِ هَؤُلَاءِ، صَارَ بَاقِيًا
مَعَهُمْ بِبَقَائِهِمْ ; لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا سَعِدَ بِهِمْ، فَإِذَا
كَانَ هَذَا فِي حَقِّ كَلْبٍ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ تَبِعَ أَهْلَ الْخَيْرِ
وَهُوَ أَهْلٌ لِلْإِكْرَامِ. وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُصَّاصِ
وَالْمُفَسِّرِينَ لِهَذَا الْكَلْبِ نَبَأً وَخَبَرًا طَوِيلًا، أَكْثَرُهُ
مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا كَذِبٌ، وَمِمَّا لَا
فَائِدَةَ فِيهِ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي اسْمِهِ وَلَوْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي مَحَلَّةِ هَذَا الْكَهْفِ، فَقَالَ
كَثِيرُونَ: هُوَ بِأَرْضِ أَيْلَةَ. وَقِيلَ: بِأَرْضِ نِينَوَى. وَقِيلَ: بِالْبَلْقَاءِ.
وَقِيلَ: بِبِلَادِ الرُّومِ. وَهُوَ أَشْبَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا
ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ الْأَنْفَعُ مِنْ خَبَرِهِمْ وَالْأَهَمُّ مِنْ
أَمْرِهِمْ، وَوَصَفَ حَالَهُمْ، حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ رَاءٍ، وَالْمُخْبَرَ
مُشَاهِدٌ لِصِفَةِ كَهْفِهِمْ، وَكَيْفِيَّتِهِمْ فِي ذَلِكَ الْكَهْفِ
وَتَقَلُّبِهِمْ مِنْ جَنْبٍ إِلَى جَنْبٍ، وَأَنَّ كَلْبَهُمْ بَاسِطٌ
ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ. قَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا أَيْ: لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ، وَلَعَلَّ الْخِطَابَ هَاهُنَا لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ الْمُخَاطَبِ، لَا لِخُصُوصِيَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [ التِّينِ: 7 ]. أَيْ: أَيُّهَا الْإِنْسَانُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ طَبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةِ تَفِرُّ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَشْيَاءِ الْمَهِيبَةِ غَالِبًا، وَلِهَذَا قَالَ: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ لَيْسَ كَالْمُعَايَنَةِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ; لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ حَصَلَ وَلَمْ يَحْصُلِ الْفِرَارُ وَلَا الرُّعْبُ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَهُمْ مِنْ رَقْدَتِهِمْ بَعْدَ نَوْمِهِمْ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَيْ: بِدَرَاهِمِكُمْ هَذِهِ، يَعْنِي الَّتِي مَعَهُمْ، إِلَى الْمَدِينَةِ. وَيُقَالُ، كَانَ اسْمُهَا دَفْسُوسَ. فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أَيْ: أَطْيَبَ مَالًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أَيْ: بِطَعَامٍ تَأْكُلُونَهُ، وَهَذَا مِنْ زُهْدِهِمْ وَوَرَعِهِمْ وَلْيَتَلَطَّفْ أَيْ: فِي دُخُولِهِ إِلَيْهَا وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا أَيْ: إِنْ عُدْتُمْ فِي مِلَّتِهِمْ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَكُمُ اللَّهُ مِنْهَا ; وَهَذَا كُلُّهُ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ رَقَدُوا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْسَبُوا أَنَّهُمْ قَدْ رَقَدُوا أَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَقَدْ تَبَدَّلَتِ الدُّوَلُ أَطْوَارًا عَدِيدَةً، وَتَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَذَهَبَ أُولَئِكَ الْقَرْنُ
الَّذِينَ كَانُوا
فِيهِمْ، وَجَاءَ غَيْرُهُمْ وَذَهَبُوا، وَجَاءَ غَيْرُهُمْ ; وَلِهَذَا لَمَّا
خَرَجَ أَحَدُهُمْ، وَهُوَ تِيذُوسِيسُ فِيمَا قِيلَ، وَجَاءَ إِلَى الْمَدِينَةِ
مُتَنَكِّرًا ; لِئَلَّا يَعْرِفَهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيمَا يَحْسَبُهُ،
تَنَكَّرَتْ لَهُ الْبِلَادُ وَاسْتَنْكَرَهُ مَنْ رَآهُ مِنْ أَهْلِهَا،
وَاسْتَغْرَبُوا شَكْلَهُ وَصِفَتَهُ وَدَرَاهِمَهُ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ
حَمَلُوهُ إِلَى مُتَوَلِّيهِمْ، وَخَافُوا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ جَاسُوسًا،
أَوْ تَكُونَ لَهُ صَوْلَةٌ يَخْشَوْنَ مِنْ مَضَرَّتِهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ
هَرَبَ مِنْهُمْ. وَيُقَالُ: بَلْ أَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَمَا
كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، فَانْطَلَقُوا مَعَهُ لِيُرِيَهُمْ مَكَانَهُمْ، فَلَمَّا
قَرُبُوا مِنَ الْكَهْفِ، دَخَلَ إِلَى إِخْوَانِهِ، فَأَخْبَرَهُمْ حَقِيقَةَ
أَمْرِهِمْ، وَمِقْدَارَ مَا رَقَدُوا، فَعَلِمُوا أَنَّ هَذَا مِنْ قُدْرَةِ
اللَّهِ. فَيُقَالُ: إِنَّهُمُ اسْتَمَرُّوا رَاقِدِينَ. وَيُقَالُ: بَلْ مَاتُوا
بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَلْدَةِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى
مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْغَارِ، وَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَمْرَهُمْ. وَيُقَالُ:
لَمْ يَسْتَطِيعُوا دُخُولَهُ حِسًّا. وَيُقَالُ: مَهَابَةً لَهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَمْرِهِمْ ; فَقَائِلُونَ يَقُولُونَ: ابْنُوا عَلَيْهِمْ
بُنْيَانًا أَيْ: سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ ; لِئَلَّا يَخْرُجُوا أَوْ
لِئَلَّا يَصِلَ إِلَيْهِمْ مَا يُؤْذِيهِمْ، وَآخَرُونَ، وَهُمُ الْغَالِبُونَ
عَلَى أَمْرِهِمْ قَالُوا: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا أَيْ: مَعْبَدًا
يَكُونُ مُبَارَكًا لِمُجَاوَرَتِهِ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا كَانَ
شَائِعًا
فِيمَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَأَمَّا فِي شَرْعِنَا فَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا فَمَعْنَى ( أَعْثَرْنَا ) أَطْلَعَنَا عَلَى أَمْرِهِمُ النَّاسَ. قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الْمَعَادَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، إِذَا عَلِمُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ رَقَدُوا أَزْيَدَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ قَامُوا، كَمَا كَانُوا مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ مَنْ أَبْقَاهُمْ كَمَا هُمْ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْأَبْدَانِ وَإِنْ أَكَلَتْهَا الدِّيدَانُ، وَعَلَى إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ وَإِنْ صَارَتْ أَجْسَامُهُمْ وَعِظَامُهُمْ رُفَاتًا، وَهَذَا مِمَّا لَا يَشُكُّ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ النَّحْلِ: 40 ]. هَذَا وَيَحْتَمِلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِيَعْلَمُوا إِلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ، إِذْ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَبْلَغُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْجَمِيعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْفَذَكَرَ اخْتِلَافَ النَّاسِ فِي كَمِّيَّتِهِمْ، فَحَكَى ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَيْنِ، وَقَرَّرَ الثَّالِثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ ; إِذْ لَوْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لَحَكَاهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الثَّالِثُ هُوَ الصَّحِيحَ لَوَهَّاهُ، فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ، وَلَمَّا كَانَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا جَدْوَى عِنْدَهُ، أَرْشَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى الْأَدَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، إِذَا
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ. وَلِهَذَا قَالَ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وَقَوْلُهُ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أَيْ: مِنَ النَّاسِ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا أَيْ سَهْلًا، وَلَا تَتَكَلَّفْ إِعْمَالَ الْجِدَالِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، وَلَا تَسْتَفْتِ فِي أَمْرِهِمْ أَحَدًا مِنَ الرِّجَالِ; وَلِهَذَا أَبْهَمَ تَعَالَى عِدَّتَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِصَّةِ فَقَالَ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَلَوْ كَانَ فِي تَعْيِينِ عِدَّتِهِمْ كَبِيرُ فَائِدَةٍ لَذَكَرَهَا عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا أَدَبٌ عَظِيمٌ أَرْشَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَحَثَّ خَلْقَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ أَحَدُهُمْ: إِنِّي سَأَفْعَلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَذَا. فَيُشْرَعُ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لِيَكُونَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِعَزْمِهِ; لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ وَلَا يَدْرِي أَهَذَا الَّذِي عَزَمَ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ أَمْ لَا، وَلَيْسَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ تَعْلِيقًا، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ يَصِحُّ إِلَى سَنَةٍ. وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ لِهَذَا وَلِهَذَا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ، فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ. لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ
وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَانَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَطْرُدُهُ عَنِ الْقَلْبِ، فَيَذْكُرُ مَا كَانَ قَدْ نَسِيَهُ. وَقَوْلُهُ: وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا أَيْ: إِذَا اشْتَبَهَ أَمْرٌ وَأَشْكَلَ حَالٌ وَالْتَبَسَ أَقْوَالُ النَّاسِ فِي شَيْءٍ، فَارْغَبْ إِلَى اللَّهِ يُيَسِّرْهُ لَكَ، وَيُسَهِّلْهُ عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا لَمَّا كَانَ فِي الْإِخْبَارِ بِطُولِ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، ذَكَرَهَا تَعَالَى، وَهَذِهِ التِّسْعُ الْمَزِيدَةُ بِالْقَمَرِيَّةِ، وَهِيَ لِتَكْمِيلِ ثَلَاثِمِائَةٍ شَمْسِيَّةٍ، فَإِنَّ كُلَّ مِائَةٍ قَمَرِيَّةٍ تَنْقُصُ عَنِ الشَّمْسِيَّةِ ثَلَاثَ سِنِينَ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا أَيْ إِذَا سُئِلْتَ عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَلَيْسَ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ، فَرُدَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَيْ: هُوَ الْعَالِمُ بِالْغَيْبِ، فَلَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ يَعْنِي أَنَّهُ يَضَعُ الْأَشْيَاءَ فِي مَحَالِّهَا لِعِلْمِهِ التَّامِّ بِخَلْقِهِ، وَبِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا أَيْ: بَلْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالْمُلْكِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
قِصَّةُ
الرَّجُلَيْنِ ; الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْكَهْفِ " بَعْدَ قِصَّةِ
أَصْحَابِ الْكَهْفِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا
لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا
بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ
مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ
لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى
رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ
يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ
ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ
يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ
السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ
تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ
عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا
لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ
لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [ الْكَهْفِ: 32 - 44 ].
قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا.
وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ وَقَعَ، وَقَوْلُهُ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا
يَعْنِي لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ،
فِي عَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ بِالضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَازْدِرَائِهِمْ بِهِمْ، وَافْتِخَارِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ [ يس: 13 ]. كَمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِمْ قَبْلَ قِصَّةِ، مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَيْنِ كَانَا رَجُلَيْنِ مُصْطَحِبَيْنِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنًا وَالْآخِرُ كَافِرًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَالٌ، فَأَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ اتَّخَذَ لَهُ بُسْتَانَيْنِ، وَهُمَا الْجَنَّتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي الْآيَةِ، عَلَى الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ الْمَذْكُورِ ; فِيهِمَا أَعْنَابٌ، وَنَخْلٌ تَحُفُّ تِلْكَ الْأَعْنَابَ وَالزُّرُوعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ، وَالْأَنْهَارُ سَارِحَةٌ هَاهُنَا وَهَاهُنَا لِلسَّقْيِ وَالتَّنَزُّهِ، وَقَدِ اسْتَوْسَقَتْ فِيهِمَا الثِّمَارُ، وَاضْطَرَبَتْ فِيهِمَا الْأَنْهَارُ، وَابْتَهَجَتِ الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، وَافْتَخَرَ مَالِكُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُؤْمِنِ الْفَقِيرِ قَائِلًا لَهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا أَيْ: وَأَمْنَعُ جَنَابًا. وَمُرَادُهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَعْنَاهُ، مَاذَا أَغْنَى عَنْكَ إِنْفَاقُكَ مَا كُنْتَ تَمْلِكُهُ فِي الْوَجْهِ الَّذِي صَرَفْتَهُ فِيهِ ؟ كَانَ الْأَوْلَى بِكَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلْتُ لِتَكَوْنَ مِثْلِي. فَافْتَخَرَ عَلَى صَاحِبِهِ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ أَيْ: وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَرِيقَةٍ مَرْضِيَّةٍ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنِ اتِّسَاعِ أَرْضِهَا، وَكَثْرَةِ مَائِهَا وَحُسْنِ نَبَاتِ أَشْجَارِهَا ; وَلَوْ قَدْ بَادَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ
الْأَشْجَارِ لَاسْتَخْلَفَ مَكَانَهَا أَحْسَنَ مِنْهَا، وَزُرُوعُهَا دَارَّةٌ لِكَثْرَةِ مِيَاهِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً فَوَثِقَ بِزَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَكَذَّبَ بِوُجُودِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ الدَّائِمَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا أَيْ: وَلَئِنْ كَانَ ثَمَّ آخِرَةٌ وَمَعَادٌ فَلَأَجِدَنَّ هُنَاكَ خَيْرًا مِنْ هَذَا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اغْتَرَّ بِدُنْيَاهُ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعْطِهِ ذَلِكَ فِيهَا إِلَّا لِحُبِّهِ لَهُ وَحَظْوَتِهِ عِنْدَهُ، كَمَا قَالَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ مِنْ خَبَرِهِ وَخَبَرِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ فِي قَوْلِهِ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [ مَرْيَمَ: 77، 78 ]. وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْإِنْسَانِ إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [ فُصِّلَتْ: 50 ]. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [ فُصِّلَتْ: 50 ]. وَقَالَ قَارُونُ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [ الْقَصَصِ: 78 ]. أَيْ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيَّ أَنِّي أَسْتَحِقُّهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [ الْقَصَصِ: 78 ]. وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّتِهِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى. وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [ سَبَأٍ: 37 ]. وَقَالَ تَعَالَى:
أَيَحْسَبُونَ
أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ: 55، 56 ]. وَلَمَّا اغْتَرَّ
هَذَا الْجَاهِلُ بِمَا خَوَّلَهُ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَجَحَدَ
الْآخِرَةَ، وَادَّعَى أَنَّهَا إِنْ وُجِدَتْ لَيَجِدَنَّ عِنْدَ رَبِّهِ خَيْرًا
مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَسَمِعَهُ صَاحِبُهُ يَقُولُ ذَلِكَ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ
وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَيْ: يُجَادِلُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أَيْ: أَجَحَدْتَ الْمَعَادَ وَأَنْتَ
تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ
صَوَّرَكَ أَطْوَارًا حَتَّى صِرْتَ رَجُلًا سَوِيًّا سَمِيعًا بَصِيرًا، تَعْلَمُ
وَتَبْطِشُ وَتَفْهَمُ، فَكَيْفَ أَنْكَرْتَ الْمَعَادَ وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى
الْبَدَاءَةِ لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أَيْ: لَكِنْ أَنَا أَقُولُ بِخِلَافِ
مَا قُلْتَ وَأَعْتَقِدُ خِلَافَ مُعْتَقَدِكَ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ
بِرَبِّي أَحَدًا أَيْ: لَا أَعْبُدُ سِوَاهُ، وَأَعْتَقِدَ أَنَّهُ يَبْعَثُ
الْأَجْسَادَ بَعْدَ فَنَائِهَا، وَيُعِيدُ الْأَمْوَاتَ، وَيَجْمَعُ الْعِظَامَ
الرُّفَاتَ، وَأَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي خَلْقِهِ، وَلَا فِي
مُلْكِهِ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ. ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى مَا كَانَ الْأَوْلَى
بِهِ أَنْ يَسْلُكَهُ عِنْدَ دُخُولِ جَنَّتِهِ فَقَالَ: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ
جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلِهَذَا
يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ أَوْ أَهْلِهِ أَوْ
حَالِهِ أَنْ يَقُولَ كَذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ ; قَالَ أَبُو
يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا جَرَّاحُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ
بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
زُرَارَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
مَا أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ فَيَقُولُ: مَا
شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ الْمَوْتِ
وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ
مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَتْحِ
الْأَزْدِيُّ: عِيسَى بْنُ عَوْنٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ
أَنَسٍ، لَا يَصِحُّ.
ثُمَّ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا
مِنْ جَنَّتِكَ أَيْ: فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا
مِنَ السَّمَاءِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: أَيْ:
عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمَطَرُ الْمُزْعِجُ
الْبَاهِرُ، الَّذِي يَقْتَلِعُ زُرُوعَهَا وَأَشْجَارَهَا فَتُصْبِحَ صَعِيدًا
زَلَقًا وَهُوَ التُّرَابُ الْأَمْلَسُ الَّذِي لَا نَبَاتَ فِيهِ أَوْ يُصْبِحَ
مَاؤُهَا غَوْرًا وَهُوَ ضِدُّ الْمَعِينِ السَّارِحِ فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ
طَلَبًا يَعْنِي، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِرْجَاعِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أَيْ: جَاءَهُ أَمْرٌ أَحَاطَ بِجَمِيعِ حَوَاصِلِهِ،
وَخَرَّبَ جَنَّتَهُ، وَدَمَّرَهَا فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا
أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا أَيْ: خَرِبَتْ
بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا عَوْدَةَ لَهَا، وَذَلِكَ ضِدُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ
أَمَّلَ حَيْثُ قَالَ: وَمَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَنَدِمَ عَلَى
مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي كَفَرَ بِسَبَبِهِ بِاللَّهِ
الْعَظِيمِ، فَهُوَ يَقُولُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ يَتَدَارَكُ مَا
فَرَطَ مِنْ أَمْرِهِ، وَمَا كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [
الطَّارِقِ: 10 ].
وَقَوْلُهُ:
الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: هُنَالِكَ
الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ وَهُوَ حَسَنٌ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [
الْفُرْقَانِ: 26 ]. فَالْحُكْمُ الَّذِي لَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا
يُغَالَبُ - فِي تِلْكَ الْحَالِ وَفِي كُلِّ حَالٍ - لِلَّهِ الْحَقِّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ رَفَعَ ( الْحَقِّ ) جَعَلَهُ صِفَةً لِ ( الْوِلَايَةَ ) وَهُمَا
مُتَلَازِمَتَانِ. وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا أَيْ:
مُعَامَلَتُهُ خَيْرٌ لِصَاحِبِهَا ثَوَابًا، وَهُوَ الْجَزَاءُ، وَخَيْرٌ عُقْبًا
; وَهُوَ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَرْكَنَ
إِلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَا يَغْتَرَّ بِهَا، وَلَا يَثِقَ بِهَا، بَلْ
يَجْعَلَ طَاعَةَ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ نُصْبَ
عَيْنَيْهِ، وَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدِهِ.
وَفِيهَا أَنَّ مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَالْإِنْفَاقِ فِي
سَبِيلِهِ، عُذِّبَ بِهِ، وَرُبَّمَا سُلِبَ مِنْهُ ; مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ
قَصْدِهِ. وَفِيهَا أَنَّ الْوَاجِبَ قَبُولُ نَصِيحَةِ الْأَخِ الْمُشْفِقِ،
وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ وَبَالٌ وَدَمَارٌ عَلَى مَنْ رَدَّ النَّصِيحَةَ
الصَّحِيحَةَ. وَفِيهَا، أَنَّ النَّدَامَةَ لَا تَنْفَعُ إِذَا حَانَ الْقَدَرُ،
وَنَفَذَ الْأَمْرُ الْحَتْمُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ
الْجَنَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ
كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا
الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا
رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ
أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ
يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ
الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [
الْقَلَمِ: 17 - 33 ]. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ،
فِيمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ إِرْسَالِ الرَّسُولِ الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ
إِلَيْهِمْ، فَقَابَلُوهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُخَالَفَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [
إِبْرَاهِيمَ: 28، 29 ]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. فَضَرَبَ
تَعَالَى لَهُمْ مَثَلًا بِأَصْحَابِ الْجَنَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ
الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي قَدِ انْتَهَتْ وَاسْتَحَقَّتْ أَنْ تُجَدَّ ;
وَهُوَ الصِّرَامُ، وَلِهَذَا قَالَ: إِذْ أَقْسَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ
لَيَصْرِمُنَّهَا أَيْ: لَيَجُدُّنَّهَا، وَهُوَ الِاسْتِغْلَالُ ( مُصْبِحِينَ )
أَيْ: وَقْتَ الصُّبْحِ، حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ فَقِيرٌ وَلَا مُحْتَاجٌ
فَيُعْطُوهُ شَيْئًا، فَحَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ
يَسْتَثْنُوا فِي يَمِينِهِمْ، فَعَجَّزَهُمُ اللَّهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا الْآفَةَ الَّتِي أَحْرَقَتْهَا ; وَهِيَ السَّفْعَةُ الَّتِي اجْتَاحَتْهَا وَلَمْ تُبْقِ بِهَا شَيْئًا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ أَيْ: كَاللَّيْلِ الْأَسْوَدِ الْمُنْصَرِمِ مِنَ الضِّيَاءِ وَهَذِهِ مُعَامَلَةٌ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَيْ: فَاسْتَيْقَظُوا مِنْ نَوْمِهِمْ فَنَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ: اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ أَيْ: بَاكِرُوا إِلَى بُسْتَانِكُمْ فَاصْرِمُوهُ. قَبْلَ أَنْ يَرْتَفِعَ النَّهَارُ وَيَكْثُرَ السُّؤَالُ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَيْ: يَتَحَدَّثُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ خُفْيَةً قَائِلِينَ: لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أَيْ: اتَّفِقُوا عَلَى هَذَا وَاشْتَوِرُوا عَلَيْهِ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ أَيْ: انْطَلَقُوا مُجِدِّينَ فِي ذَلِكَ قَادِرِينَ عَلَيْهِ مُصَمِّمِينَ مُصِرِّينَ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ أَيْ: غَضَبٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ. وَأَبْعَدَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ ; أَنَّ اسْمَ حَرْثِهِمْ حَرْدٌ. فَلَمَّا رَأَوْهَا أَيْ: وَصَلُوا إِلَيْهَا، وَنَظَرُوا مَا حَلَّ بِهَا، وَمَا قَدْ صَارَتْ إِلَيْهِ مِنَ الصِّفَةِ الْمُنْكَرَةِ بَعْدَ تِلْكَ النَّضْرَةِ وَالْحُسْنِ وَالْبَهْجَةِ، فَانْقَلَبَتْ بِسَبَبِ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ أَيْ: قَدْ تُهْنَا عَنْهَا وَسَلَكْنَا غَيْرَ طَرِيقِهَا. ثُمَّ قَالُوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَيْ: بَلْ عُوقِبْنَا بِسَبَبِ سُوءِ قَصْدِنَا، وَحُرِمْنَا بَرَكَةَ حَرْثِنَا قَالَ أَوْسَطُهُمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ
وَاحِدٍ: هُوَ
أَعْدَلُهُمْ وَخَيْرُهُمْ. أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قِيلَ:
تَسْتَثْنُونَ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ. وَقِيلَ:
تَقُولُونَ خَيْرًا بَدَلَ مَا قُلْتُمْ مِنَ الشَّرِّ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا
إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ فَنَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُ
النَّدَمُ، وَاعْتَرَفُوا بِالذَّنْبِ بَعْدَ الْعُقُوبَةِ، وَذَلِكَ حَيْثُ لَا
يَنْجَعُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا إِخْوَةً وَقَدْ وَرِثُوا هَذِهِ
الْجَنَّةَ عَنْ أَبِيهِمْ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ مِنْهَا كَثِيرًا، فَلَمَّا صَارَ
أَمْرُهَا إِلَيْهِمُ اسْتَهْجَنُوا أَمْرَ أَبِيهِمْ، وَأَرَادُوا
اسْتِغْلَالَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطُوا الْفُقَرَاءَ شَيْئًا، فَعَاقَبَهُمُ
اللَّهُ أَشَدَّ الْعُقُوبَةِ ; وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّدَقَةِ
مِنَ الثِّمَارِ وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ الْجَدَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [
الْأَنْعَامِ: 141 ]. ثُمَّ قِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ قَرْيَةٍ
يُقَالُ لَهَا: ضِرْوَانُ. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ الْعَذَابُ أَيْ: هَكَذَا نُعَذِّبُ مَنْ
خَالَفَ أَمْرَنَا، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَى الْمَحَاوِيجِ مِنْ خَلْقِنَا
وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أَيْ: أَعْظَمُ وَأَطَمُّ مِنْ عَذَابِ
الدُّنْيَا لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
وَقِصَّةُ هَؤُلَاءِ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا
قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ النَّحْلِ: 112، 113 ].
قِيلَ: هَذَا مَثَلٌ مَضْرُوبٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ أَنْفُسُهُمْ، ضَرَبَهُمْ مَثَلًا لِأَنْفُسِهِمْ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ
أَيْلَةَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي سَبْتِهِمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ ": وَاسْأَلْهُمْ
عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا
يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ
أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا
الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ
بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ
قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ الْأَعْرَافِ: 163 - 166 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ ": وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ
الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [ الْبَقَرَةِ: 65، 66 ].
وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ ": أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا
لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا [ النِّسَاءِ: 47
].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: هُمْ أَهْلُ أَيْلَةَ. زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنَ مَدْيَنَ وَالطُّورِ. قَالُوا: وَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ التَّوْرَاةِ فِي تَحْرِيمِ السَّبْتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ قَدْ أَلِفَتْ مِنْهُمُ السَّكِينَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الصَّنَائِعِ وَالتِّجَارَاتِ وَالْمَكَاسِبِ، فَكَانَتِ الْحِيتَانُ فِي مِثْلِ يَوْمِ السَّبْتِ يَكْثُرُ غَشَيَانُهَا لِمَحِلَّتِهِمْ مِنَ الْبَحْرِ ; فَتَأْتِي مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا ظَاهِرَةً آمِنَةً مُسْتَرْسِلَةً فَلَا يُهَيِّجُونَهَا وَلَا يَذْعَرُونَهَا. وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَادُونَهَا فِيمَا عَدَا السَّبْتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ أَيْ: نَخْتَبِرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْحِيتَانِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ. بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ أَيْ: بِسَبَبِ فِسْقِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ احْتَالُوا عَلَى اصْطِيَادِهَا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، بِأَنْ نَصَبُوا الْحِبَالَ وَالشِّبَاكَ وَالشُّصُوصَ، وَحَفَرُوا الْحُفَرَ الَّتِي يَجْرِي مَعَهَا الْمَاءُ إِلَى مَصَانِعَ قَدْ أَعَدُّوهَا، إِذَا دَخَلَهَا السَّمَكُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا جَاءَتِ الْحِيتَانُ مُسْتَرْسِلَةً يَوْمَ السَّبْتِ، عَلِقَتْ بِهَذِهِ الْمَصَايِدِ، فَإِذَا خَرَجَ سَبْتُهُمْ أَخَذُوهَا، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ; لَمَّا احْتَالُوا عَلَى خِلَافِ أَمْرِهِ، وَانْتَهَكُوا مَحَارِمَهُ بِالْحِيَلِ الَّتِي هِيَ ظَاهِرَةٌ لِلنَّاظِرِ، وَهِيَ فِي الْبَاطِنِ مُخَالَفَةٌ مَحْضَةٌ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ افْتَرَقَ الَّذِينَ لَمْ يَفْعَلُوا فِرْقَتَيْنِ ; فِرْقَةٌ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ صَنِيعَهُمْ
هَذَا
وَاحْتِيَالَهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ،
وَفِرْقَةٌ أُخْرَى لَمْ يَفْعَلُوا وَلَمْ يَنْهَوْا، بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى
الَّذِينَ نَهَوْا وَقَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ
مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا يَقُولُونَ لَهُمْ: مَا الْفَائِدَةُ فِي
نَهْيِكُمْ هَؤُلَاءِ وَقَدِ اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ لَا مَحَالَةَ ؟ فَأَجَابَتْهُمُ
الطَّائِفَةُ الْمُنْكِرَةُ بِأَنْ قَالُوا: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أَيْ:
فِيمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، فَنَقُومُ بِهِ خَوْفًا مِنْ عَذَابِهِ. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
أَيْ: وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ يَتْرُكُونَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ،
فَيَقِيهِمُ اللَّهُ عَذَابَهُ وَيَعْفُو عَنْهُمْ إِذَا هُمْ رَجَعُوا
وَاسْتَمَعُوا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَيْ:
لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى مَنْ نَهَاهُمْ عَنْ هَذَا الصَّنِيعِ الشَّنِيعِ
الْفَظِيعِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَهُمُ الْفِرْقَةُ
الْآمِرَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَةُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا وَهُمُ الْمُرْتَكِبُونَ الْفَاحِشَةَ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ وَهُوَ الشَّدِيدُ
الْمُؤْلِمُ الْمُوجِعُ. بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ثُمَّ فَسَّرَ الْعَذَابَ
الَّذِي أَصَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا
لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَسَنَذْكُرُ مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ فِي
ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ الظَّالِمِينَ،
وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْكِرِينَ، وَسَكَتَ عَنِ السَّاكِتِينَ، وَقَدِ
اخْتَلَفَ فِيهِمُ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ ; فَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنَ
النَّاجِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ مِنَ الْهَالِكِينَ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ
عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، إِمَامُ
الْمُفَسِّرِينَ، وَذَلِكَ عِنْدَ مُنَاظَرَةِ
مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ، فَكَسَاهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حُلَّةً سَنِيَّةً ; تَكْرِمَةً. قُلْتُ: وَإِنِمَّا لَمْ يُذْكَرُوا مَعَ النَّاجِينَ ; لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَرِهُوا بِبَوَاطِنِهِمْ تِلْكَ الْفَاحِشَةَ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا ظَوَاهِرَهُمْ بِالْعَمَلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْإِنْكَارِ الْقَوْلِيِّ، الَّذِي هُوَ أَوْسَطُ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ، الَّتِي أَعْلَاهَا الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ ذَاتِ الْبَنَانِ، وَبَعْدَهَا الْإِنْكَارُ الْقَوْلِيِّ بِاللِّسَانِ، وَثَالِثُهَا الْإِنْكَارُ بِالْجَنَانِ. فَلَمَّا لَمْ يُذَكِّرُوا، لَمْ يُذْكَرُوا مَعَ النَّاجِينَ، إِذْ لَمْ يَفْعَلُوا الْفَاحِشَةَ، بَلْ أَنْكَرُوا. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحَكَى مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ رُومَانَ، وَشَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، مَا مَضْمُونُهُ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَكَبُوا هَذَا الصُّنْعَ، اعْتَزَلَهُمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَنَهَاهُمْ مَنْ نَهَاهُمْ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، فَكَانُوا يَبِيتُونَ وَحْدَهُمْ وَيُغْلِقُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ أَبْوَابًا، حَاجِزًا لِمَا كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ مِنْ هَلَاكِهِمْ فَأَصْبَحُوا ذَاتَ يَوْمٍ وَأَبْوَابُ نَاحِيَتِهِمْ مُغْلَقَةٌ لَمْ يَفْتَحُوهَا، وَارْتَفَعَ النَّهَارُ وَاشْتَدَّ الضُحَاءُ فَأَمَرَ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ عَلَى سَلَالِمَ وَيُشْرِفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، إِذَا هُمْ قِرَدَةٌ لَهَا أَذْنَابٌ يَتَعَاوَوْنَ وَيَتَعَادَوْنَ، فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الْأَبْوَابَ فَجَعَلَتِ الْقِرَدَةُ تَعْرِفُ قَرَابَاتِهِمْ، وَلَا تَعْرِفُهُمْ قَرَابَاتُهُمْ، فَجَعَلُوا يَلُوذُونَ بِهِمْ، وَيَقُولُ لَهُمُ النَّاهُونَ: أَلَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ صَنِيعِكُمْ ؟ فَتُشِيرُ الْقِرَدَةُ بِرُءُوسِهَا أَنْ نَعَمْ. ثُمَّ بَكَى عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ: إِنَّا لَنَرَى مُنْكَرَاتٍ كَثِيرَةً، وَلَا نُنْكِرُهَا، وَلَا نَقُولُ فِيهَا شَيْئًا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَ شَبَابُ الْقَرْيَةِ قِرَدَةً، وَشُيُوخُهَا خَنَازِيرَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُمْ لَمْ يَعِيشُوا إِلَّا فُوَاقًا، ثُمَّ هَلَكُوا، مَا كَانَ لَهُمْ نَسْلٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَعِشْ مَسْخٌ قَطُّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَأْكُلْ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَشْرَبُوا وَلَمْ يَنْسِلُوا. وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْآثَارَ فِي ذَلِكَ، فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ " الْبَقَرَةِ "، وَ " الْأَعْرَافِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَمْ يُمْسَخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. وَهَذَا صَحِيحٌ إِلَيْهِ، وَغَرِيبٌ مِنْهُ جِدًّا، وَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ لُقْمَانَ
قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ
وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ حَمِيدٌ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ
لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا
الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ
فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ
أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا
اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ
بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ
فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ
مِنْ صَوْتِكَ
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [ لُقْمَانَ 12 - 19 ]
هُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَاءَ بْنِ سَدُونَ، وَيُقَالَ لُقْمَانُ بْنُ ثَارَانَ
حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَالْقُتَيْبِيِّ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ نُوبِيًّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ قُلْتُ: وَكَانَ
رَجُلًا صَالِحًا، ذَا عِبَادَةٍ، وَعِبَارَةٍ، وَحِكْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَيُقَالُ:
كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: عَنِ الْأَشْعَثِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا
انْتَهَى الَيْكُمْ فِي شَأْنِ لُقْمَانَ ؟ قَالَ: كَانَ قَصِيرًا، أَفْطَسَ مِنَ
النُّوبَةِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،
قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ، ذَا مَشَافِرَ أَعْطَاهُ اللَّهُ
الْحِكْمَةَ، وَمَنَعَهُ النُّبُوَّةَ.
وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَالَ: جَاءَ
أَسْوَدُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: لَا
تَحْزَنَ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ أَسْوَدُ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْيَرِ النَّاسِ
ثَلَاثَةٌ مِنَ السُّودَانِ ; بِلَالٌ، وَمِهْجَعٌ مَوْلَى عُمَرَ، وَلُقْمَانُ
الْحَكِيمُ، كَانَ أَسْوَدَ نُوبِيًّا ذَا مَشَافِرَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ، كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا أَسْوَدَ عَظِيمَ
الشَّفَتَيْنِ، مُشَقَّقَ الْقَدَمَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مُصَفَّحَ
الْقَدَمَيْنِ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ: كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ غَلِيظَ
الشَّفَتَيْنِ، مُصَفَّحَ الْقَدَمَيْنِ فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ
أُنَاسٍ يُحَدِّثُهُمْ فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعِيَ
الْغَنَمَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ
مَا أَرَى ؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ وَالصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي. رَوَاهُ
ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْهُ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ
حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لُقْمَانَ
الْحَكِيمَ بِحِكْمَتِهِ فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ:
أَلَسْتَ عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى بِالْأَمْسِ قَالَ: بَلَى
قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى ؟ قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ، وَأَدَاءُ
الْأَمَانَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ الْقِتْبَانِيُّ
عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غَفْرَةَ قَالَ: وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى لُقْمَانَ الْحَكِيمِ
فَقَالَ: أَنْتَ لُقْمَانُ أَنْتَ عَبْدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَالَ: نَعَمْ قَالَ:
فَأَنْتَ رَاعِي الْغَنَمِ الْأَسْوَدُ قَالَ: أَمَّا سَوَادِي فَظَاهِرٌ فَمَا
الَّذِي يُعْجِبُكَ مِنْ أَمْرِي قَالَ: وَطْءُ النَّاسِ بِسَاطَكَ، وَغَشْيُهُمْ
بَابَكَ، وَرِضَاهُمْ بِقَوْلِكَ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنْ صَنَعْتَ مَا
أَقُولُ لَكَ كُنْتَ كَذَلِكَ قَالَ: مَا هُوَ ؟ قَالَ لُقْمَانُ: غَضِّي بَصَرِي،
وَكَفِّي لِسَانِي، وَعِفَّةُ مَطْعَمِي، وَحِفْظِي فَرْجِي، وَقِيَامِي
بِعُدَّتِي، وَوَفَائِي بِعَهْدِي، وَتَكْرُمَتِي ضَيْفِي، وَحِفْظِي جَارِي،
وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي; فَذَاكَ الَّذِي صَيَّرَنِي كَمَا تَرَى.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدَةَ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا، وَذَكَرَ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ فَقَالَ: مَا أُوتِيَ مَا أُوتِيَ عَنْ أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا حَسَبٍ وَلَا خِصَالٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَمْصَامَةً سِكِّيتًا طَوِيلَ التَّفَكُّرِ، عَمِيقَ النَّظَرِ، لَمْ يَنَمْ نَهَارًا قَطُّ، وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يَبْزُقُ وَلَا يَتَنَخَّعُ وَلَا يَبُولُ وَلَا يَتَغَوَّطُ وَلَا يَغْتَسِلُ وَلَا يَعْبَثُ وَلَا يَضْحَكُ وَكَانَ لَا يُعِيدُ مَنْطِقًا نَطَقَهُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ حِكْمَةً يَسْتَعِيدُهَا إِيَّاهُ أَحَدٌ وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ، وَوُلِدَ لَهُ أَوْلَادٌ فَمَاتُوا فَلَمْ يَبْكِ عَلَيْهِمْ وَكَانَ يَغْشَى السُّلْطَانَ، وَيَأْتِي الْحُكَّامَ لِيَنْظُرَ وَيَتَفَكَّرَ وَيَعْتَبِرَ فَبِذَلِكَ أُوتِيَ مَا أُوتِيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةَ فَخَافَ أَنْ لَا يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا; فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ لِأَنَّهَا أَسْهَلُ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا. وَهَذَا ضَعِيفٌ لِحَالِ الْجُعْفِيِّ.
وَالْمَشْهُورُ
عَنِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا وَلِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا
وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَحَكَى
مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا وَعَظَ بِهِ وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْخَلْقِ
إِلَيْهِ وَهُوَ أَشْفَقُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا وَعَظَ بِهِ
أَنْ قَالَ: يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[ لُقْمَانَ: 13 ] فَنَهَاهُ عَنْهُ، وَحَذَّرَهُ مِنْهُ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَمَّا
نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [
الْأَنْعَامِ: 82 ] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لَيْسَ
بِذَاكَ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ ؟ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ لُقْمَانَ: 13 ] وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ
مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ بِهِ، ثُمَّ اعْتَرَضَ
تَعَالَى بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ، وَبَيَانِ حَقِّهِمَا عَلَى الْوَلَدِ،
وَتَأَكُّدِهِ، وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا حَتَّى وَلَوْ كَانَا
مُشْرِكَيْنِ، وَلَكِنْ لَا يُطَاعَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِهِمَا، إِلَى
أَنْ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ لُقْمَانَ فِيمَا وَعَظَ بِهِ وَلَدَهُ يَابُنَيَّ
إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ
فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ
خَبِيرٌ يَنْهَاهُ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ وَلَوْ بِحَبَّةِ خَرْدَلٍ فَإِنَّ
اللَّهَ يَسْأَلُ عَنْهَا وَيُحْضِرُهَا حَوْزَةَ الْحِسَابِ، وَيَضَعُهَا فِي
الْمِيزَانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
[ النِّسَاءِ: 40 ] وَقَالَ تَعَالَى
وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 47 ].
وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا الظُّلْمَ لَوْ كَانَ فِي الْحَقَارَةِ كَالْخَرْدَلَةِ
وَلَوْ كَانَ فِي جَوْفِ صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَا بَابَ لَهَا وَلَا كُوَّةَ، أَوْ
لَوْ كَانَتْ سَاقِطَةً فِي شَيْءٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ أَوِ السَّمَاوَاتِ
فِي اتِّسَاعِهِمَا، وَامْتِدَادِ أَرْجَائِهِمَا لَعَلِمَ اللَّهُ مَكَانَهَا
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أَيْ عِلْمُهُ دَقِيقٌ فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ
الذَّرُّ مِمَّا تَرَاءَى لِلنَّوَاظِرِ أَوْ تَوَارَى كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ
وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ الْأَنْعَامِ: 59 ]
وَقَالَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ [ النَّمْلِ: 75 ] وَقَالَ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ
ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ سَبَأٍ: 3 ] وَقَدْ زَعَمَ
السُّدِّيُّ فِي خَبَرِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ
الصَّخْرَةِ; الصَّخْرَةُ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَهَكَذَا
حُكِيَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ
وَالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ، وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ
أَصْلِهِ نَظَرٌ، ثُمَّ فِي أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ نَظَرٌ آخَرُ فَإِنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ نَكِرَةٌ غَيْرُ مُعَرَّفَةٍ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَا
قَالُوهُ لَقَالَ: فَتَكُنْ فِي الصَّخْرَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ فَتَكُنْ فِي
صَخْرَةٍ أَيِّ صَخْرَةٍ كَانَتْ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا
حَسَنُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ حَدَّثَنَا
دَرَّاجٌ عَنْ
أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ
صَمَّاءَ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا
مَا كَانَ ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَيْ أَدِّهَا بِجَمِيعِ
وَاجِبَاتِهَا مِنْ حُدُودِهَا، وَأَوْقَاتِهَا، وَرُكُوعِهَا، وَسُجُودِهَا،
وَطُمَأْنِينَتِهَا، وَخُشُوعِهَا وَمَا شُرِعَ فِيهَا، وَاجْتَنِبْ مَا نُهِيَ
عَنْهُ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
أَيْ بِجُهْدِكَ، وَطَاقَتِكَ أَيْ إِنِ اسْتَطَعْتَ بِالْيَدِ فَبِالْيَدِ،
وَإِلَّا فَبِلِسَانِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِكَ، ثُمَّ أَمَرَهُ
بِالصَّبْرِ فَقَالَ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْآمِرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي مَظِنَّةِ أَنْ يُعَادَى،
وَيُنَالَ مِنْهُ، وَلَكِنَّ لَهُ الْعَاقِبَةُ، وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ
عَلَى ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَاقِبَةَ الصَّبْرِ الْفَرَجُ، وَقَوْلُهُ إِنَّ
ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أَيْ أَنَّ أَمْرَكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيَكَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَصَبْرَكَ عَلَى الْأَذَى مِنْ عَزَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي
لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا مَحِيدَ عَنْهَا، وَقَوْلُهُ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ
لِلنَّاسِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ، وَيَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَعْنَاهُ لَا تَتَكَبَّرْ عَلَى النَّاسِ، وَتُمِيلُ خَدَّكَ
حَالَ كَلَامِكَ لَهُمْ، وَكَلَامِهِمْ لَكَ عَلَى وَجْهِ التَّكَبُّرِ عَلَيْهِمْ
وَالِازْدِرَاءِ لَهُمْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: وَأَصْلُ الصَّعَرِ دَاءٌ
يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا فَتَلْتَوِي رُءُوسُهَا فَشَبَّهَ بِهِ
الرَّجُلَ الْمُتَكَبِّرَ الَّذِي يَمِيلُ وَجْهُهُ إِذَا كَلَّمَ النَّاسَ أَوْ
كَلَّمُوهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَاظُمِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي شِعْرِهِ
وَكُنَّا قَدِيمًا
لَا نُقِرُّ ظُلَامَةً إِذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيُّ
وَكُنَّا إِذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ
فَتَقَوَّمَا
وَقَوْلُهُ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ يَنْهَاهُ عَنِ التَّبَخْتُرِ فِي الْمِشْيَةِ عَلَى وَجْهِ
الْعَظَمَةِ وَالْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ
طُولًا [ الْإِسْرَاءِ: 37 ] يَعْنِي: لَسْتَ بِسُرْعَةِ مَشْيِكَ تَقْطَعُ
الْبِلَادَ فِي مِشْيَتِكَ هَذِهِ، وَلَسْتَ بِدَقِّكَ الْأَرْضَ بِرِجْلِكَ
تَخْسِفَ الْأَرْضَ بِوَطْئِكَ عَلَيْهَا، وَلَسْتَ بِتَشَامُخِكَ، وَتَعَاظُمِكَ،
وَتَرَفُّعِكَ تَبْلُغُ الْجِبَالَ طُولًا فَاتَّئِدْ عَلَى نَفْسِكَ فَلَسْتَ
تَعْدُوَ قَدْرَكَ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ يَتَبَخْتَرُ
فِيهِمَا إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إِيَّاكَ، وَإِسْبَالُ الْإِزَارِ
فَإِنَّهَا مِنَ الْمَخِيلَةِ وَالْمَخِيلَةُ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ.
كَمَا قَالَ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَلَمَّا
نَهَاهُ عَنِ الِاخْتِيَالِ فِي الْمَشْيِ أَمَرَهُ بِالْقَصْدِ فِيهِ فَإِنَّهُ
لَابُدَّ لَهُ أَنْ يَمْشِيَ فَنَهَاهُ عَنِ الشَّرِّ، وَأَمَرَهُ بِالْخَيْرِ
فَقَالَ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أَيْ لَا تَتَبَاطَأْ مُفْرِطًا وَلَا تُسْرِعْ
إِسْرَاعًا مُفْرِطًا، وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا كَمَا قَالَ تَعَالَى
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [ الْفُرْقَانِ: 63 ] ثُمَّ قَالَ
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ يَعْنِي: إِذَا تَكَلَّمْتَ فَلَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ
صَوْتِكَ فَإِنَّ أَرْفَعَ الْأَصْوَاتِ، وَأَنْكَرَهَا صَوْتُ الْحَمِيرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ عِنْدَ سَمَاعِ
صَوْتِ الْحَمِيرِ بِاللَّيْلِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا، وَلِهَذَا نُهِيَ
عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ حَيْثُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ
الْعُطَاسِ فَيُسْتَحَبُّ خَفْضُ الصَّوْتِ، وَتَخْمِيرُ الْوَجْهِ; كَمَا ثَبَتَ
بِهِ الْحَدِيثُ مِنْ صَنِيعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ إِلَى الْفِئَةِ
لِلْقِتَالِ، وَعِنْدَ الْإِهْلَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَذَلِكَ مَشْرُوعٌ فَهَذَا
مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ
مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْوَصَايَا النَّافِعَةِ الْجَامِعَةِ
لِلْخَيْرِ الْمَانِعَةِ مِنَ الشَّرِّ، وَقَدْ وَرَدَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي
أَخْبَارِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَقَدْ كَانَ لَهُ كِتَابٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ يُسَمَّى
بِحِكْمَةِ لُقْمَانَ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا تَيَسَّرَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ
أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ أَخْبَرَنِي نَهْشَلُ بْنُ مُجَمِّعٍ الضَّبِّيُّ عَنْ
قَزَعَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ إِنَّ
اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ حَدَّثَنَا
عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ
الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ
إِيَّاكَ وَالتَّقَنُّعَ; فَإِنَّهُ مَخْوَفَةٌ بِاللَّيْلِ مَذَلَّةٌ
بِالنَّهَارِ..
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا
ضَمْرَةُ حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا
بُنَيَّ إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ،
وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنْبَأَنَا ابْنُ
الْمُبَارَكِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيُّ عَنْ عَوْنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِذَا أَتَيْتَ
نَادِي قَوْمٍ فَارْمِهِمْ بِسَهْمِ الْإِسْلَامِ -
يَعْنِي السَّلَامَ
- ثُمَّ اجْلِسْ فِي نَاحِيَتِهِمْ فَلَا تَنْطِقُ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا
فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَأَجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ، وَإِنْ
أَفَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَحَدَّثَنَا
أَبِي حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ عَنْ حَفْصِ بْنِ
عُمَرَ، قَالَ: وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ،
وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيُخْرِجُ خَرْدَلَةً حَتَّى نَفِدَ الْخَرْدَلُ
فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَقَدْ وَعَظْتُكَ مَوْعِظَةً لَوْ وُعِظَهَا جَبَلٌ
لَتَفَطَّرَ. قَالَ: فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْبَاقِي الْمِصِّيصِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْحَرَّانِيُّ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ
حَدَّثَنَا أَبْيَنُ بْنُ سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَّامٍ
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّخِذُوا السُّودَانَ فَإِنَّ
ثَلَاثَةً مِنْهُمْ مَنْ سَادَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ; لُقْمَانُ الْحَكِيمُ
وَالنَّجَّاشِيُّ، وَبِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ. قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: يَعْنِي
الْحَبَشَةَ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ بَلْ مُنْكَرٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ تَرْجَمَةً فِي كِتَابِ الزُّهْدِ ذَكَرَ
فِيهَا فَوَائِدَ مُهِمَّةً وَفَرَائِدَ جَمَّةً فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ
الْحِكْمَةَ قَالَ: الْفِقْهَ وَالْإِصَابَةَ فِي غَيْرِ
نُبُوَّةٍ، وَكَذَا
رُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ
وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا.
وَحَدَّثَنَا أَسْوَدُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ خَيَّاطًا.
وَحَدَّثَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ - يَعْنِي - ابْنَ
دِينَارٍ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اتَّخِذْ طَاعَةَ اللَّهِ
تِجَارَةً ; تَأْتِكَ الْأَرْبَاحُ مِنْ غَيْرِ بِضَاعَةٍ.
وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ
قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ يَقُولُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُرِ
النَّاسَ أَنَّكَ تَخْشَى اللَّهَ لِيُكْرِمُوكَ بِذَلِكَ وَقَلْبُكَ فَاجِرٌ.
وَحَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَوَكِيعٌ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو
الْأَشْهَبِ عَنْ خَالِدٍ الرِّبْعِيِّ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا
نَجَّارًا فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: اذْبَحْ لِي شَاةً فَذَبَحَ لَهُ شَاةً فَقَالَ
لَهُ: ائْتِنِي بِأَطْيَبِ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا فَأَتَاهُ بِاللِّسَانِ
وَالْقَلْبِ فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيهَا شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْ هَذَيْنَ ؟ قَالَ:
لَا. قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ مَا
سَكَتَ، ثُمَّ
قَالَ لَهُ: اذْبَحْ لِي شَاةً فَذَبَحَ لَهُ شَاةً فَقَالَ لَهُ: أَلْقِ
أَخْبَثَهَا مُضْغَتَيْنِ فَرَمَى بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ فَقَالَ: أَمَرْتُكَ
أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا مُضْغَتَيْنِ; فَأَتَيْتَنِي بِاللِّسَانِ
وَالْقَلْبِ، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تُلْقِيَ أَخْبَثَهَا مُضْغَتَيْنِ; فَأَلْقَيْتَ
اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إِذَا
طَابَا وَلَا أَخْبَثَ مِنْهُمَا إِذَا خَبُثَا.
وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ:
الْجَعْدُ أَبُو عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: لَا تَرْغَبْ فِي
وُدِّ الْجَاهِلِ فَيَرَى أَنَّكَ تَرْضَى عَمَلَهُ وَلَا تَهَاوَنْ بِمَقْتِ
الْحَكِيمِ فَيَزْهَدَ فِيكَ.
وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رَشِيدٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ
ضَمْضَمِ بْنِ زُرْعَةَ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ: أَلَا إِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى
أَفْوَاهِ الْحُكَمَاءِ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدُهُمْ إِلَّا مَا هَيَّأَ اللَّهُ
لَهُ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ سَمِعْتُ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ: كُنْتُ أُقَنِّعُ
رَأْسِي بِاللَّيْلِ فَقَالَ لِي عَمْرٌو: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ:
الْقِنَاعُ بِالنَّهَارِ مَذَلَّةٌ، مَعْذِرَةٌ أَوْ قَالَ مَعْجَزَةٌ بِاللَّيْلِ
فَلِمَ تُقَنِّعُ رَأْسَكَ بِاللَّيْلِ ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: إِنَّ لُقْمَانَ
لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَحَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ الْجُنَيْدِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ
لِابْنِهِ: يَا
بُنَيَّ مَا نَدِمْتُ عَلَى الصَّمْتِ قَطُّ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ
فِضَّةٍ فَالسُّكُوتُ مِنْ ذَهَبٍ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ وَوَكِيعٌ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ
عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اعْتَزِلِ الشَّرَّ
يَعْتَزِلْكَ فَإِنَّ الشَّرَّ لِلشَّرِّ خُلِقَ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالرَّغَبَ فَإِنَّ
الرَّغَبَ كُلَّ الرَّغَبِ يُبْعِدُ الْقَرِيبُ مِنَ الْقَرِيبِ، وَيُزِيلُ
الْحِلْمَ كَمَا يُزِيلُ الطَّرَبَ يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَشِدَّةَ الْغَضَبِ
فَإِنَّ شِدَّةَ الْغَضَبِ مَمْحَقَةٌ لِفُؤَادِ الْحَكِيمِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ
حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ اخْتَرِ
الْمَجَالِسَ عَلَى عَيْنِكَ فَإِذَا رَأَيْتَ الْمَجْلِسَ يُذْكَرُ فِيهِ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ تَكُ عَالِمًا يَنْفَعْكَ
عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُ غَبِيًّا يُعَلِّمُوكَ، وَإِنْ يَطَّلِعِ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ تُصِبْكَ مَعَهُمْ يَا بُنَيَّ لَا تَجْلِسْ فِي
الْمَجْلِسِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللَّهُ فِيهِ فَإِنَّكَ إِنْ تَكُ عَالِمًا لَا
يَنْفَعُكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُ غَبِيًّا يُزِيدُوكَ
غَبَاءً، وَإِنْ
يَطَّلِعِ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسُخْطٍ يُصِبْكَ مَعَهُمْ يَا
بُنَيَّ لَا تَغْبِطَنَّ امْرَأً رَحْبَ الذِّرَاعَيْنِ يَسْفِكُ دِمَاءَ
الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: بُنِيَّ لِتَكُنْ كَلِمَتُكَ طَيِّبَةً،
وَلْيَكُنْ وَجْهُكَ بَسْطًا، تَكُنْ أَحَبَّ إِلَى النَّاسِ مِمَّنْ يُعْطِيهِمُ
الْعَطَاءَ، وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ أَوِ فِي التَّوْرَاةِ: الرِّفْقُ
رَأْسُ الْحِكْمَةِ. وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: كَمَا تَرْحَمُونَ
تُرْحَمُونَ، وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: كَمَا تَزْرَعُونَ تَحْصُدُونَ،
وَقَالَ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَحِبَّ خَلِيلَكَ، وَخَلِيلَ أَبِيكَ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ قَالَ: قِيلَ لِلُقْمَانَ: أَيُّ النَّاسِ أَصْبَرُ ؟ قَالَ: صَبْرٌ لَا
يَتْبَعُهُ أَذًى قِيلَ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ قَالَ: مَنِ ازْدَادَ مِنْ
عِلْمِ النَّاسِ إِلَى عِلْمِهِ قِيلَ: فَأَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ ؟ قَالَ:
الْغَنِيُّ قِيلَ: الْغَنِيُّ مِنَ الْمَالِ ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْغَنِيَّ
الَّذِي إِذَا الْتُمِسَ عِنْدَهُ خَيْرٌ وُجِدَ، وَإِلَّا أَغْنَى نَفْسَهُ عَنِ
النَّاسِ.
وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ - هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - قَالَ قِيلَ لِلُقْمَانَ: أَيُّ
النَّاسِ شَرٌّ ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يُبَالِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مُسِيئًا،
وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ
قَالَ وَجَدْتُ فِي
بَعْضِ الْحِكْمَةِ يُبَدِّدُ اللَّهُ عِظَامَ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ
بِأَهْوَاءِ النَّاسِ، وَوَجَدْتُ فِيهَا لَا خَيْرَ لَكَ فِي أَنْ تَعْلَمَ مَا
لَمْ تَعْلَمْ، وَلَمَّا تَعْمَلْ بِمَا قَدْ عَلِمْتَ ; فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ
مَثَلُ رَجُلٍ احْتَطَبَ حَطَبًا فَحَزَمَ حُزْمَةً، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْمِلَهَا
فَعَجَزَ عَنْهَا فَضَمَّ إِلَيْهَا أُخْرَى.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي زُهَيْرٍ -
وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى - حَدَّثَنَا الْفَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ
إِلَّا الْأَتْقِيَاءُ، وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الْعُلَمَاءَ.
وَهَذَا مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنَ الْآثَارِ كَثِيرًا لَمْ يَرْوِهَا كَمَا أَنَّهُ ذَكَرَ
أَشْيَاءَ لَيْسَتْ عِنْدَنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ
الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: خَيَّرَ اللَّهُ لُقْمَانَ
الْحَكِيمَ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ
قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ فَذَرَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ. قَالَ:
فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا. قَالَ سَعِيدٌ: فَسَمِعْتُ قَتَادَةَ يَقُولُ: قِيلَ
لِلُقْمَانَ: كَيْفَ اخْتَرْتَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَقَدْ خَيَّرَكَ
رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ أُرْسِلَ إِلَيَّ بِالنُّبُوَّةِ عَزْمَةً،
لَرَجَوْتُ فِيهِ الْفَوْزَ مِنْهُ، وَلَكُنْتُ
أَرْجُو أَنْ أَقُومَ بِهَا، وَلَكِنْ خَيَّرَنِي فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنِ النُّبُوَّةِ فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَحَبَّ إِلَيَّ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ; قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَالَّذِي رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ قَالَ: يَعْنِي الْفِقْهَ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ، وَهَكَذَا نَصَّ عَلَى هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ أَصْحَابِ
الْأُخْدُودِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهِ عَلَى كُلِ
شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [
الْبُرُوجِ: 10 ] قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي تَفْسِيرِ
هَذِهِ السُّورَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَقَدْ زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فَزَعَمُوا
أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ
مُكَرَّرٌ فِي الْعَالَمِ مِرَارًا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْجَبَّارِينَ
الْكَافِرِينَ، وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْقُرْآنِ قَدْ وَرَدَ
فِيهِمْ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَأَثَرٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَهُمَا
مُتَعَارِضَانِ، وَهَا نَحْنُ نُورِدُهُمَا لِتَقِفَ عَلَيْهِمَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ مَلِكٌ
فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبُرَ السَّاحِرُ، قَالَ
لِلْمَلِكِ
إِنِّي قَدْ
كَبِرَتْ سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي فَادْفَعْ إِلَيَّ غُلَامًا فَلْأُعَلِّمْهُ
السِّحْرَ. فَدَفَعَ إِلَيْهِ غُلَامًا فَكَانَ يُعَلِّمُهُ السِّحْرَ وَكَانَ
بَيْنَ الْمَلِكِ وَبَيْنَ السَّاحِرِ رَاهِبٌ فَأَتَى الْغُلَامُ عَلَى
الرَّاهِبِ فَسَمِعَ مِنْ كَلَامِهِ فَأَعْجَبَهُ نَحْوُهُ وَكَلَامُهُ، وَكَانَ
إِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ وَقَالَ: مَا حَبَسَكَ، وَإِذَا أَتَى أَهْلَهُ
ضَرَبُوهُ وَقَالُوا: مَا حَبَسَكَ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ:
إِذَا أَرَادَ السَّاحِرُ أَنْ يَضْرِبَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا
أَرَادَ أَهْلُكَ أَنْ يَضْرِبُوكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ فَظِيعَةٍ
عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَجُوزُوا فَقَالَ:
الْيَوْمَ أَعْلَمُ أَمْرَ السَّاحِرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ أَمْ أَمْرَ
الرَّاهِبِ قَالَ: فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ
الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ وَأَرْضَى مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ
الدَّابَّةَ حَتَّى يَجُوزَ النَّاسُ، وَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى فَأَخْبَرَ
الرَّاهِبَ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَإِنَّكَ
سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ. فَكَانَ الْغُلَامُ
يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَسَائِرَ الْأَدْوَاءِ وَيَشْفِيهِمْ.
وَكَانَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ فَعَمِيَ فَسَمِعَ بِهِ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا
كَثِيرَةٍ فَقَالَ: اشْفِنِي وَلَكَ مَا هَاهُنَا أَجْمَعُ. فَقَالَ: مَا أَنَا
أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ آمَنْتَ بِهِ،
وَدَعَوْتُ اللَّهَ شَفَاكَ، فَآمَنَ فَدَعَا اللَّهَ فَشَفَاهُ، ثُمَّ أَتَى
الْمَلِكَ فَجَلَسَ مِنْهُ نَحْوَ مَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: يَا
فُلَانُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ؟ فَقَالَ: رَبِّي قَالَ: أَنَا قَالَ: لَا.
رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ. قَالَ: وَلَكَ رَبُّ غَيْرِي ؟ قَالَ: نَعَمْ رَبِّي
وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبْهُ،
حَتَّى دَلَّ عَلَى
الْغُلَامِ فَأُتِيَ بِهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ أَنْ
تُبْرِئَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَهَذِهِ الْأَدْوَاءَ، قَالَ: مَا أَشْفِي
أَنَا أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: أَنَا ؟ قَالَ:
لَا، قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي ؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ قَالَ:
فَأَخَذَهُ أَيْضًا بِالْعَذَابِ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَى
الرَّاهِبِ فَأُتِيَ بِالرَّاهِبِ فَقَالَ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى،
فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، وَقَالَ
لِلْأَعْمَى: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ
رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ.
وَقَالَ لِلْغُلَامِ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى، فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ
إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ: إِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ
عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَدَهْدِهُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ فَلَمَّا عَلَوُا الْجَبَلَ
قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ
فَدُهْدِهُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ يَتَلَمَّسُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى
الْمَلِكِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ
فَبَعَثَ بِهِ مَعَ نَفَرٍ فِي قُرْقُورٍ فَقَالَ: إِذَا لَجَجْتُمُ الْبَحْرَ
فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَأَغْرِقُوهُ فِي الْبَحْرِ، فَلَجَّجُوا
بِهِ الْبَحْرَ فَقَالَ الْغُلَامُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ
فَغَرِقُوا أَجْمَعُونَ، وَجَاءَ الْغُلَامُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ
فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ فَقَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.
ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرَكَ
بِهِ فَإِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ مَا آمُرُكَ بِهِ قَتَلْتَنِي، وَإِلَّا فَإِنَّكَ
لَا تَسْتَطِيعُ قَتْلِي. قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي
صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ تَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، وَتَأْخُذُ سَهْمًا مِنْ
كِنَانَتِي، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ فَإِنَّكَ إِذَا
فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَفَعَلَ
وَوَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ رَمَاهُ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ السَّهْمِ وَمَاتَ فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ فَقَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَأَمَرَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَحَفَرَ فِيهَا الْأَخَادِيدَ، وَأُضْرِمَتْ فِيهَا النِّيرَانُ، وَقَالَ: مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَدَعُوهُ، وَإِلَّا فَأَقْحِمُوهُ فِيهَا. وَقَالَ: فَكَانُوا يَتَعَادَوْنَ فِيهَا، وَيَتَدَافَعُونَ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ بِابْنٍ لَهَا تُرْضِعُهُ فَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِي النَّارِ فَقَالَ الصَّبِيُّ: اصْبِرِي يَا أُمَّاهُ فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ كَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ زَادَ النَّسَائِيُّ: وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ بِهِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثَابِتٍ بِإِسْنَادِهِ، نَحْوَهُ، وَحَرَّرَ إِيرَادَهُ، كَمَا بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ
وَقَدْ أَوْرَدَ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ:
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَحَدَّثَنِي
أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا أَنَّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا
أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا
قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ - وَنَجْرَانُ هِيَ الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الَّتِي
إِلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ - سَاحِرٌ يُعَلِّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ
نَجْرَانَ السِّحْرَ فَلَمَّا نَزَلَهَا فَيْمَيُونُ - وَلَمْ يُسَمُّوهُ لِي
بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ ابْنُ مُنَبِّهٍ قَالُوا: رَجُلُ نَزَلَهَا -
فَابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا
السَّاحِرُ، وَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إِلَى ذَلِكَ
السَّاحِرِ يُعَلِّمُهُمُ السِّحْرَ فَبَعَثَ الثَّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الثَّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ فَكَانَ إِذَا مَرَّ بِصَاحِبِ
الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ فَجَعَلَ يَجْلِسُ
إِلَيْهِ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى أَسْلَمَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَعَبَدَهُ،
وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حَتَّى إِذَا فَقُهَ فِيهِ،
جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَكَانَ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ
إِيَّاهُ. وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ لَنْ تَحْمِلَهُ أَخْشَى
ضَعْفَكَ عَنْهُ.
وَالثَّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ إِلَّا أَنَّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ
إِلَى السَّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ، فَلَمَّا رَأَى عَبْدُ اللَّهِ
أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنَّ بِهِ عَنْهُ، وَتَخَوَّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ، عَمَدَ
إِلَى قِدَاحٍ فَجَمَعَهَا، ثُمَّ لَمْ يَبْقَ لِلَّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إِلَّا
كَتَبَهُ فِي قَدَحٍ، لِكُلِّ اسْمٍ قَدَحٌ حَتَّى إِذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ
نَارًا، ثُمَّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا قَدَحًا قَدَحًا حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالِاسْمِ
الْأَعْظَمِ، قَذَفَ فِيهَا بِقَدَحِهِ فَوَثَبَ الْقَدَحُ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا
لَمْ تَضُرَّهُ
شَيْئًا
فَأَخَذَهُ، ثُمَّ أَتَى بِهِ صَاحِبَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ
الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي قَدْ كَتَمَهُ فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: كَذَا
وَكَذَا قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَهُ ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ قَالَ: أَيِ
ابْنَ أَخِي قَدْ أَصَبْتَهُ فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِكَ وَمَا أَظُنُّ أَنْ
تَفْعَلَ.
فَجَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ إِذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ
أَحَدًا بِهِ ضُرٌّ إِلَّا قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتُوَحِّدَ اللَّهَ،
وَتَدْخُلَ فِي دِينِي، وَأَدْعُو اللَّهَ لَكَ فَيُعَافِيَكَ عَمًّا أَنْتَ فِيهِ
مِنَ الْبَلَاءِ ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُوَحِّدُ اللَّهَ وَيُسْلِمُ وَيَدْعُو
لَهُ فَيُشْفَى. حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرٌّ إِلَّا أَتَاهُ
فَاتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ حَتَّى رُفِعَ شَأْنُهُ
إِلَى مَلِكِ نَجْرَانَ فَدَعَاهُ فَقَالَ: أَفْسَدْتَ عَلَيَّ أَهْلَ قَرْيَتِي،
وَخَالَفْتَ دِينِي وَدِينَ آبَائِي لَأُمَثِّلَنَّ بِكَ قَالَ: لَا تَقْدِرُ
عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إِلَى الْجَبَلِ الطَّوِيلِ فَيُطْرَحُ
عَلَى رَأْسِهِ فَيَقَعُ إِلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ بَأْسٌ، وَجَعَلَ يُبْعَثُ بِهِ
إِلَى مِيَاهٍ بِنَجْرَانَ بُحُورٍ لَا يُلْقَى فِيهَا شَيْءٌ إِلَّا هَلَكَ،
فَيُلْقَى بِهِ فِيهَا فَيَخْرُجُ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، فَلَمَّا غَلَبَهُ قَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ: إِنَّكَ وَاللَّهِ لَا تَقْدِرُ عَلَى
قَتْلِي حَتَّى تُوَحِّدَ اللَّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْتَ بِهِ فَإِنَّكَ إِنْ
فَعَلْتَ سُلِّطْتَ عَلَيَّ فَقَتَلْتَنِي، قَالَ: فَوَحَّدَ اللَّهَ ذَلِكَ
الْمَلِكُ، وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ
بِعَصًا فِي يَدِهِ فَشَجَّهُ شَجَّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ، وَهَلَكَ
الْمَلِكُ مَكَانَهُ، وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الثَّامِرِ وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِنَ
الْإِنْجِيلِ وَحِكَمِهِ، ثُمَّ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ أَهْلُ دِينِهِمْ مِنَ
الْأَحْدَاثِ فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَجْرَانَ.
قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ: فَسَارَ إِلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنْدِهِ فَدَعَاهُمْ إِلَى
الْيَهُودِيَّةِ، وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ أَوِ الْقَتْلِ فَاخْتَارُوا
الْقَتْلَ فَخَدُّوا الْأُخْدُودَ، وَحَرَّقَ بِالنَّارِ، وَقَتَّلَ بِالسَّيْفِ،
وَمَثَّلَ بِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا فَفِي ذِي
نُوَاسٍ، وَجُنْدِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ قُتِلَ أَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ الْآيَاتِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ
هَذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ مَا وَقَعَ فِي سِيَاقِ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأُخْدُودَ وَقَعَ فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا
كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ
أَنْبَأَنَا صَفْوَانُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَتِ
الْأُخْدُودُ فِي الْيَمَنِ زَمَانَ تُبَّعٍ، وَفِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ زَمَانَ
قُسْطَنْطِينَ حِينَ صَرَفَ النَّصَارَى قِبْلَتَهُمْ عَنْ دِينِ الْمَسِيحِ
وَالتَّوْحِيدِ، وَاتَّخَذَ أَتُّونًا، وَأَلْقَى فِيهِ النَّصَارَى الَّذِينَ
كَانُوا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ وَالتَّوْحِيدِ، وَفِي الْعِرَاقِ فِي أَرْضِ
بَابِلَ فِي زَمَانِ بُخْتُنَصَّرَ حِينَ صَنَعَ الصَّنَمَ، وَأَمَرَ النَّاسَ
فَسَجَدُوا لَهُ فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ، وَصَاحِبَاهُ عَزْرِيَا وَمَشَايِلُ
فَأَوْقَدَ لَهُمْ أَتُّونًا وَأَلْقَى فِيهَا الْحَطَبَ وَالنَّارَ، ثُمَّ
أَلْقَاهُمْ فِيهِ فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا،
وَأَنْقَذَهُمْ مِنْهَا، وَأَلْقَى فِيهَا الَّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِ، وَهُمْ
تِسْعَةُ رَهْطٍ فَأَكَلَتْهُمُ النَّارُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ
قَالَ: كَانَ الْأُخْدُودُ ثَلَاثَةً، خَدٌّ بِالشَّامِ، وَخَدٌّ بِالْعِرَاقِ، وَخَدٌّ بِالْيَمَنِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ ذِكْرَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَالْكَلَامَ عَلَى تَفْسِيرِهَا فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ مِنْ كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
بَيَانُ الْإِذْنِ
فِي الرِّوَايَةِ عَنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا هُمَامٌ
حَدَّثَنَا زَيْدٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ: حَدِّثُوا عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ
مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا هُمَامٌ أَنْبَأَنَا زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَكْتُبُوا عَنِّي
شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ
فَلْيَمْحُهُ وَقَالَ حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ حَدِّثُوا
عَنِّي وَلَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ قَالَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ - قَالَ هَمَّامٌ:
أَحْسَبُهُ قَالَ مُتَعَمِّدًا - فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ
وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ هَمَّامٍ، وَرَوَاهُ
أَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ عَنْ
هُدْبَةَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ
ثُمَّ قَالَ: قَالَ
أَبُو دَاوُدَ: أَخْطَأَ فِيهِ هَمَّامٌ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ كَذَا
قَالَ وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِبَعْضِهِ مَرْفُوعًا فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَنْبَأَنَا
الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ
السَّلُولِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، حَدَّثَهُ
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي
يَقُولُ: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ
مِنَ النَّارِ وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ،
وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ بِهِ، وَكَذَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ ثَوْبَانَ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ
بِهِ. وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى أَبُو
مُوسَى حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ عَنْ
أَبِي حَسَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ:
كَانَ نَبِيُّ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يُصْبِحَ مَا يَقُومُ فِيهَا إِلَّا لِعُظْم ِ صَلَاةٍ
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، ثُمَّ قَالَ
الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَفَّانُ
حَدَّثَنَا أَبُو هِلَالٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا
عَامَّةَ لَيْلِهِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَقُومُ إِلَّا لِعُظْمِ صَلَاةٍ.
قَالَ الْبَزَّارُ: وَهُشَامٌ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي هِلَالٍ. يَعْنِي أَنَّ
الصَّوَابَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، لَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى هُوَ الْقَطَّانُ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلَا حَرَجَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ حَدَّثَنَا رَبِيعُ
بْنُ سَعْدٍ
الْجُعْفِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدِّثُوا عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمُ الْأَعَاجِيبُ ثُمَّ أَنْشَأَ
يُحَدِّثُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَتَوْا مَقْبَرَةً مِنْ مَقَابِرِهِمْ فَقَالُوا: لَوْ
صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ، وَدَعَوْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيُخْرِجُ لَنَا
رَجُلًا قَدْ مَاتَ نُسَائِلُهُ يُحَدِّثُنَا عَنِ الْمَوْتِ فَفَعَلُوا
فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَطْلَعَ رَجُلٌ رَأَسَهُ مِنْ قَبْرٍ مِنْ تِلْكَ
الْقُبُورِ، بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ مَا
أَرَدْتُمْ إِلَيَّ فَقَدْ مُتُّ مُنْذُ مِائَةِ عَامٍ فَمَا سَكَنَتْ عَنِّي
حَرَارَةُ الْمَوْتِ حَتَّى الْآنَ، فَادْعُوَا اللَّهَ أَنْ يُعِيدَنِي كَمَا
كُنْتَ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
إِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا
يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ أَوْ يُظَنُّ بُطْلَانُهُ،
لِمُخَالَفَتِهِ الْحَقَّ الَّذِي بِأَيْدِينَا عَنِ الْمَعْصُومِ فَذَاكَ
مَتْرُوكٌ مَرْدُودٌ لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ، لَا
يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ رِوَايَتِهِ أَنْ تَعْتَقِدَ صِحَّتَهُ لِمَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ قَائِلًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ
الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعَبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا
بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ،
وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا [ الْبَقَرَةِ: 136 ]
تَفَرَّدَ بِهِ
الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي نَمْلَةَ
الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ:
يَا مُحَمَّدُ هَلْ تَتَكَلَّمُ هَذِهِ الْجِنَازَةُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ:
أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فُلَا تُصَدِّقُوهُمْ
وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنْ
كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُمْ
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا
هَشِيمٌ أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ:
أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ
جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ
فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا
أَنْ يَتَّبِعَنِي تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
فَهَذِهِ
الْأَحَادِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ
الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ، وَحَرَّفُوهَا وَأَوَّلُوهَا، وَوَضَعُوهَا عَلَى غَيْرِ
مَوَاضِعِهَا وَلَا سِيَّمَا مَا يُبْدُونَهُ مِنَ الْمُعَرَّبَاتِ الَّتِي لَمْ
يُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا، وَهِيَ بِلُغَتِهِمْ فَكَيْفَ يُعَبِّرُونَ عَنْهَا
بِغَيْرِهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا وَقَعَ فِي تَعْرِيبِهِمْ خَطَأٌ كَبِيرٌ، وَوَهْمٌ
كَثِيرٌ مَعَ مَا لَهُمْ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْآرَاءِ
الْبَارِدَةِ. وَهَذَا يَتَحَقَّقُهُ مَنْ نَظَرَ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي
بِأَيْدِيهِمْ، وَتَأَمَّلَ مَا فِيهَا مِنْ سُوءِ التَّعْبِيرِ، وَقَبِيحِ
التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ نِعْمَ الْمَوْلَى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
وَهَذِهِ التَّوْرَاةُ الَّتِي يُبْدُونَهَا، وَيُخْفُونَ مِنْهَا كَثِيرًا فِيمَا
ذَكَرُوهُ فِيهَا تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ وَسُوءُ تَعْبِيرٍ،
يَعْلَمُهُ مَنْ نَظَرَ فِيهَا، وَتَأَمَّلَ مَا قَالُوهُ وَمَا أَبْدَوْهُ وَمَا
أَخْفَوْهُ، وَكَيْفَ يَصُوغُونَ عِبَارَةً فَاسِدَةَ الْبِنَاءِ وَالتَّرْكِيبِ،
بَاطِلَةً مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهَا وَأَلْفَاظُهَا. وَهَذَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ
مِنْ أَجْوَدِ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُمْ، وَقَدْ أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَكَانَ
يَنْقُلُ شَيْئًا عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَسْتَحْسِنُ بَعْضَ مَا يَنْقُلُهُ ; لِمَا يُصَدِّقُهُ مِنَ الْحَقِّ،
وَتَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ فَتَوَسَّعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَخْذِ مَا
عِنْدَهُ، وَبَالَغَ أَيْضًا هُوَ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَثِيرٌ
مِنْهَا مَا يُسَاوِي مِدَادَهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا مَحَالَةَ،
وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بِأَيْدِينَا.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ: حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي
حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا
مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ
مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلَاءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا - مَعَ ذَلِكَ - لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ يَعْنِي
مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ
الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
أَحْدَثُ الْكُتُبِ بِاللَّهِ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يَشِبْ ؟ وَقَدْ
حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ،
وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الْكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ
الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، لَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا
يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا
تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ
ضَلُّوا، إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ، أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قِصَّةُ جُرَيْجٍ
أَحَدِ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي أَبِي
سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي
الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ ; عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالَ: وَكَانَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَابِدٌ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ فَابْتَنَى صَوْمَعَةً
وَتَعَبَّدَ فِيهَا قَالَ: فَذَكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِبَادَةَ جُرَيْجٍ
فَقَالَتْ بَغِيٌّ مِنْهُمْ: لَئِنْ شِئْتُمْ لِأَفْتِنَنَّهُ ! فَقَالُوا: قَدْ
شِئْنَا ذَاكَ. قَالَ: فَأَتَتْهُ فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا
فَأَمْكَنَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَاعٍ كَانَ يَأْوِي غَنَمَهُ إِلَى أَصْلِ
صَوْمَعَةِ جُرَيْجٍ فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالُوا: مِمَّنْ ؟
قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ فَشَتَمُوهُ وَضَرَبُوهُ
وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا: إِنَّكَ زَنَيْتَ
بِهَذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ ؟ قَالُوا: هُوَ
هَذَا قَالَ: فَقَامَ فَصَلَّى وَدَعَا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْغُلَامِ
فَطَعَنَهُ بِإِصْبَعِهِ فَقَالَ: بِاللَّهِ يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ ؟ فَقَالَ:
أَنَا ابْنُ الرَّاعِي فَوَثَبُوا إِلَى جُرَيْجٍ فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَهُ،
وَقَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ
ابْنُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ قَالَ: وَبَيْنَمَا امْرَأَةٌ فِي حِجْرِهَا
ابْنٌ لَهَا تُرْضِعُهُ إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ فَقَالَتِ:
اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، قَالَ: فَتَرَكَ ثَدْيَهَا
وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ قَالَ: ثُمَّ عَادَ إِلَى ثَدْيِهَا فَمَصَّهُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي صَنِيعَ الصَّبِيِّ، وَوَضَعَ أُصْبَعَهُ فِي فَمِهِ يَمَصُّهَا، ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ تُضْرَبُ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا قَالَ: فَتَرَكَ ثَدْيَهَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الْأَمَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا قَالَ: فَذَاكَ حِينَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ فَقَالَتْ: حَلْقَى ! مَرَّ الرَّاكِبُ ذُو الشَّارَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمُرَّ بِهَذِهِ الْأَمَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ: يَا أُمَّتَاهُ إِنَّ الرَّاكِبَ ذُو الشَّارَةِ جَبَّارٌ مِنَ الْجَبَابِرَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ يَقُولُونَ: زَنَتْ وَلَمْ تَزْنِ، وَسَرَقَتْ وَلَمْ تَسْرِقْ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي الْمَظَالِمِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ ابْرَاهِيمَ، وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ بِهِ.
طَرِيقٌ أُخْرَى وَسِيَاقٌ آخَرُ، قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ قَالَ: فَأَتَتْهُ أُمُّهُ فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي قَالَ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَصِفُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصِفُهَا، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى حَاجِبِهِ الْأَيْمَنِ قَالَ: فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي قَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَرَجَعَتْ ثُمَّ أَتَتْهُ فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَإِنَّهُ ابْنِي، وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللَّهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ. وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَتَنَ لَافْتَتَنَ قَالَ: وَكَانَ رَاعٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَقِيلَ: مِمَّنْ هَذَا ؟ فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْرِ، فَأَقْبَلُوا بِفُئُوسِهِمْ وَمِسَاحِيهِمْ وَأَقْبَلُوا إِلَى الدَّيْرِ فَنَادَوْهُ فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فَأَقْبَلُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: سَلْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ قَالَ أُرَاهُ تَبَسَّمَ قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيَّ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ ؟ قَالَ: رَاعِي الضَّأْنِ قَالُوا: يَا جُرَيْجُ نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ كَمَا كَانَ فَفَعَلُوا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ
سِيَاقٌ آخَرُ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَنْبَأَنَا
ثَابِتٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ ذَاتَ
يَوْمٍ فَنَادَتْهُ فَقَالَتْ: أَيْ جُرَيْجُ أَيْ بُنَيَّ أَشْرِفْ عَلَيَّ
أُكَلِّمْكَ أَنَا أَمُّكَ أَشْرِفْ عَلَيَّ فَقَالَ: أَيْ رَبِّي صَلَاتِي
وَأُمِّي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، ثُمَّ عَادَتْ فَنَادَتْهُ مِرَارًا
فَقَالَتْ: أَيْ جُرَيْجُ أَيْ بُنَيَّ أَشْرِفْ عَلَيَّ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ
صَلَاتِي وَأُمِّي فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ
حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَةَ.
وَكَانَتْ رَاعِيَةً تَرْعَى غَنَمًا لِأَهْلِهَا، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى ظِلِّ
صَوْمَعَتِهِ فَأَصَابَتْ فَاحِشَةً فَحَمَلَتْ فَأُخِذَتْ، - وَكَانَ مَنْ زَنَى
مِنْهُمْ قُتِلَ - فَقَالُوا: مِمَّنْ ؟ قَالَتْ: مِنْ جُرَيْجٍ صَاحِبِ
الصَّوْمَعَةِ فَجَاءُوا بِالْفُئُوسِ وَالْمُرُورِ فَقَالُوا: أَيْ جُرَيْجُ أَيْ
مُرَاءٍ انْزِلْ فَأَبَى وَأَقْبَلَ عَلَى صِلَاتِهِ يُصَلِّي، فَأَخَذُوا فِي
هَدْمِ صَوْمَعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ فَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ
وَعُنُقِهَا حَبْلًا فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا فِي النَّاسِ، فَوَضَعَ
أُصْبُعَهُ عَلَى بَطْنِهَا فَقَالَ: أَيْ غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ ؟ فَقَالَ: أَبِي
فُلَانٌ رَاعِي الضَّأْنِ. فَقَبَّلُوهُ وَقَالُوا: إِنْ شِئْتَ بَنَيْنَا لَكَ
صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ. قَالَ أَعِيدُوهَا كَمَا كَانَتْ.. وَهَذَا
سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ وَلَمْ
يُخْرِجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ تَكَلَّمُوا فِي الْمَهْدِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتِهِ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ
ابْنُ الْبَغِيِّ مِنَ الرَّاعِي كَمَا سَمِعْتَ وَالثَّالِثُ ابْنُ الْمَرْأَةِ
الَّتِي كَانَتْ تُرْضِعُهُ فَتَمَنَّتْ لَهُ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الشَّارَةِ
الْحَسَنَةِ فَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ كَتِلْكَ الْأَمَةِ الْمَتْهُومَةِ بِمَا
هِيَ بَرِيئَةٌ مِنْهُ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ،
كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
مَرْفُوعًا وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَوْذَةَ عَنْ عَوْفٍ
الْأَعْرَابِيِّ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِصَّةِ هَذَا الْغُلَامِ الرَّضِيعِ وَهُوَ
إِسْنَادٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ حَدَّثَهُ
أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا
رَاكِبٌ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتِ ابْنِي حَتَّى
يَكُونَ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ
رَجَعَ فِي الثَّدْيِ، وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرُّ، وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتِ:
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي
مِثْلَهَا فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ،
فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهَا تَزْنِي، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ: تَسْرِقُ، وَتَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَقَدْ وَرَدَ فِي مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَيْضًا شَاهِدُ يُوسُفَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ آلِ فِرْعَوْنَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ بَرْصِيصَا
وَهِيَ عَكْسُ قَضِيَّةِ جُرَيْجٍ فَإِنَّ جُرَيْجًا عُصِمَ، وَذَلِكَ فُتِنَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ ابْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ
حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ
عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ [ الْحَشْرِ: 16، 17 ] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَكَانَتِ امْرَأَةٌ
تَرْعَى الْغَنَمَ وَكَانَ لَهَا إِخْوَةٌ أَرْبَعَةٌ، وَكَانَتْ تَأْوِي
بِاللَّيْلِ إِلَى صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ. قَالَ: فَنَزَلَ الرَّاهِبُ فَفَجَرَ بِهَا
فَحَمَلَتْ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهُ: اقْتُلْهَا ثُمَّ ادْفِنْهَا
فَإِنَّكَ رَجُلٌ مُصَدَّقٌ يُسْمَعُ قَوْلُكَ فَقَتَلَهَا، ثُمَّ دَفَنَهَا
قَالَ: فَأَتَى الشَّيْطَانُ إِخْوَتَهَا فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ
الرَّاهِبَ صَاحِبُ الصَّوْمَعَةِ فَجَرَ بِأُخْتِكُمْ فَلَمَّا أَحْبَلَهَا
قَتَلَهَا، ثُمَّ دَفَنَهَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ
رَجُلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ رُؤْيًا مَا أَدْرِي
أَقُصُّهَا عَلَيْكُمْ أَمْ أَتْرُكُ ؟ قَالُوا: لَا بَلْ قُصَّهَا عَلَيْنَا،
قَالَ: فَقَصَّهَا فَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ
لَقَدْ رَأَيْتُ
ذَلِكَ فَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ قَالُوا:
فَوَاللَّهِ مَا هَذَا إِلَّا لِشَيْءٍ فَانْطَلَقُوا فَاسْتَعَدَوْا مَلِكَهُمْ
عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ فَأَتَوْهُ فَأَنْزَلُوهُ، ثُمَّ انْطَلَقُوا بِهِ
فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: إِنِّي أَنَا الَّذِي أَوْقَعْتُكَ فِي هَذَا،
وَلَنْ يُنْجِيَكَ مِنْهُ غَيْرِي فَاسْجُدْ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً وَأُنَجِّيَكَ
مِمَّا أَوْقَعْتُكَ فِيهِ، قَالَ: فَسَجَدَ لَهُ، فَلَمَّا أَتَوْا بِهِ
مَلِكَهُمْ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَأُخِذَ فَقُتِلَ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَطَاوُسٍ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ، نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِسِيَاقٍ آخَرَ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ
أَسْلَمَ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نَهِيكٍ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: إِنَّ
رَاهِبًا تَعَبَّدَ سِتِّينَ سَنَةً، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَرَادَهُ فَأَعْيَاهُ
فَعَمَدَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَجَنَّهَا، وَلَهَا إِخْوَةٌ فَقَالَ لِإِخْوَتِهَا:
عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقَسِّ فَيُدَاوِيَهَا قَالَ: فَجَاءُوا بِهَا إِلَيْهِ
فَدَاوَاهَا وَكَانَتْ عِنْدَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا عِنْدَهَا، إِذْ
أَعْجَبَتْهُ فَأَتَاهَا فَحَمَلَتْ فَعَمَدَ إِلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَجَاءَ إِخْوَتُهَا
فَقَالَ الشَّيْطَانُ: لِلرَّاهِبِ أَنَا صَاحِبُكَ إِنَّكَ أَعْيَيْتَنِي أَنَا
صَنَعْتُ هَذَا بِكَ فَأَطِعْنِي أُنَجِّكَ مِمَّا صَنَعْتُ بِكَ، اسْجُدْ لِي
سَجْدَةً فَسَجَدَ لَهُ فَلَمَّا سَجَدَ لَهُ قَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي
أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
قِصَّةُ
الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْغَارِ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ
فَتَوَسَّلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِصَالِحِ أَعْمَالِهِمْ فَفُرِّجَ عَنْهُمْ
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ
إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنَجِّيكُمْ إِلَّا
الصِّدْقُ فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ
فِيهِ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ
لِي أَجِيرٌ، عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَأَنِّي
عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي
اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا، وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ:
اعْمَدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ
فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ فَقُلْتُ لَهُ: اعْمَدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا
مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ
مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ.
فَقَالَ الْآخَرُ:
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ
كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ آتِيهُمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فَأَبْطَأْتُ
عَنْهُمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا، وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ
مِنَ الْجُوعِ، وَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ
أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا
فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرَ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي
فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ
الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ.
فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ
عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا
فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ
فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا،
فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتِ: اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ
الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ
كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا،
فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ
سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ بِهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ
سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ
حَدِيثِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَفِيهِ زِيَادَاتٌ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَجِيلَةَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَنَشٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
خَبَرُ
الثَّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَبْرَصِ وَالْأَقْرَعِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى
عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ ثَلَاثَةً فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصُ وَأَعْمَى وَأَقْرَعُ، بَدَا لِلَّهِ أَنْ
يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا فَأَتَى الْأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ
شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ قَدْ قَذِرَنِي
النَّاسُ قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا
حَسَنًا، فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ ؟ قَالَ: الْإِبِلُ - أَوْ
قَالَ: الْبَقَرُ هُوَ شَكٌّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْأَبْرَصَ وَالْأَقْرَعَ قَالَ
أَحَدُهُمَا: الْإِبِلُ، وَقَالَ الْآخَرُ: الْبَقَرُ - فَأُعْطِيَ نَاقَةً
عُشَرَاءَ فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
قَالَ: وَأَتَى الْأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ:
شَعْرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّي هَذَا قَدْ قَذِرَنِي النَّاسُ فَمَسَحَهُ
فَذَهَبَ، وَأُعْطِيَ شَعْرًا حَسَنًا. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ الَيْكَ ؟
قَالَ: الْبَقَرُ فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلًا، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
وَأَتَى الْأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ
أَحَبُّ الَيْكَ ؟
قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ، قَالَ:
فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ، قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ
الَيْكَ ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأَعْطَاهُ شَاةً وَالِدًا، فَأَنْتَجَ هَذَانِ
وَوَلَدَ هَذَا فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ
الْبَقَرِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الْأَبْرَصَ فِي
صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ
فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ
بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ
بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوقَ
كَثِيرَةٌ فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ
النَّاسُ ؟ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ فَقَالَ: لَقَدْ
وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ ! فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ
اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الْأَقْرَعُ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ
فَقَالَ لَهُ مِثْلَمَا قَالَ لِهَذَا فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ
هَذَا فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
وَأَتَى الْأَعْمَى فِي صُورَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ،
وَتَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِي فَلَا بَلَاغَ الْيَوْمَ إِلَّا
بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ، شَاةً
أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي
فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيَّ بَصَرِي، وَفَقِيرًا فَقَدْ أَغْنَانِي فَخُذْ مَا شِئْتَ فَوَاللَّهِ لَا أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي أَحَادِيثِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
حَدِيثُ الَّذِي
اسْتَسْلَفَ مِنْ صَاحِبِهِ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ
عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
ذَكَرَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ: ائْتِنِي بِشُهَدَاءَ أُشْهِدُهُمْ
قَالَ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قَالَ: ائْتِنِي بِكَفِيلٍ قَالَ: كَفَى
بِاللَّهِ كَفِيلًا قَالَ: صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَقْدَمُ
عَلَيْهِ لِلْأَجْلِ الَّذِي كَانَ أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ
خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مَعَهَا
إِلَى صَاحِبِهَا، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا الْبَحْرَ، ثُمَّ
قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنِّي اسْتَلَفْتُ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ
دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ
بِذَلِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْتُ: كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا فَرَضِيَ
بِذَلِكَ، وَإِنِّي قَدْ جَهِدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ
بِالَّذِي لَهُ فَلَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا فَرَمَى
بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ
يَنْظُرُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَطْلُبُ مَرْكَبًا إِلَى بَلَدِهِ فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيءُ بِمَالِهِ فَاذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ وَاللَّهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ، قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا الَّذِي جِئْتُ فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ بِهِ فِي الْخَشَبَةِ فَانْصَرِفْ بِأَلْفِكَ رَاشِدًا هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُسْنَدًا وَقَدْ عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ صَحِيحِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَسْنَدَهُ فِي بَعْضِهَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْهُ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ كَيْفَ رَوَاهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُدْرِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَا يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
قِصَّةٌ أُخْرَى
شَبِيهَةٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ فِي الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشْتَرَى رَجُلٌ
مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي
عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ
ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ، وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ،
وَقَالَ الَّذِي لَهُ الْأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا
فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ
؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قَالَ:
أَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ،
وَتَصَدَّقَا هَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَخْبَارِ بَنِي
إِسْرَائِيلَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ بِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ ذِي الْقَرْنَيْنِ
وَقَدْ كَانَ قَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ فِي كِتَابِهِ " الْمُبْتَدَأِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ يَتَفَقَّدُ أُمُورَ مُلُوكِهِ، وَعُمَّالِهِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ خِيَانَةً إِلَّا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَطَّلِعَ هُوَ بِنَفْسِهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ مُتَنَكِّرًا فِي بَعْضِ الْمَدَائِنِ فَجَلَسَ إِلَى قَاضٍ مِنْ قُضَاتِهِمْ أَيَّامًا لَا يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ أَحَدٌ فِي خُصُومَةٍ فَلَمَّا أَنْ طَالَ ذَلِكَ بِذِي الْقَرْنَيْنِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ ذَلِكَ الْقَاضِي، وَهَمَّ بِالِانْصِرَافِ إِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ قَدِ اخْتَصَمَا إِلَيْهِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا فَقَالَ: أَيُّهَا الْقَاضِي إِنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْ هَذَا دَارًا عَمَّرْتُهَا، وَوَجَدْتُ فِيهَا كَنْزًا، وَإِنِّي دَعَوْتُهُ إِلَى أَخْذِهِ فَأَبَى عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: مَا تَقُولُ قَالَ: مَا دَفَنْتُ وَمَا عَلِمْتُ بِهِ فَلَيْسَ هُوَ لِي وَلَا أَقْبِضُهُ مِنْهُ قَالَ الْمُدَّعِي: أَيُّهَا الْقَاضِي مُرْ مَنْ يَقْبِضُهُ فَتَضَعُهُ حَيْثُ أَحْبَبْتَ فَقَالَ الْقَاضِي: تَفِرُّ مِنَ الشَّرِّ وَتُدْخِلُنِي فِيهِ مَا أَنْصَفْتَنِي وَمَا أَظُنُّ هَذَا فِي قَضَاءِ الْمَلِكِ، فَقَالَ الْقَاضِي: هَلْ لَكَمَا فِي أَمْرٍ أَنْصَفَ مِمَّا دَعَوْتُمَانِي إِلَيْهِ ؟ قَالَا: نَعَمْ قَالَ لِلْمُدَّعِي: أَلَكَ ابْنٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ لِلْآخَرِ: أَلَكَ ابْنَةٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبَا فَزَوِّجِ ابْنَتَكَ مِنِ ابْنِ هَذَا وَجَهِّزُوهُمَا مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَادْفَعُوا فَضْلَ مَا بَقِيَ إِلَيْهِمَا يَعِيشَانِ بِهِ فَتَكُونَا قَدْ صَلَيْتُمَا بِخَيْرِهِ وَشَرِّهِ فَعَجِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ
لِلْقَاضِي: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ فِي الْأَرْضِ أَحَدًا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا أَوَقَاضٍ يَقْضِي بِمِثْلِ هَذَا ؟ ! فَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، وَهَلْ أَحَدٌ يَفْعَلُ غَيْرَ هَذَا ؟ قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: نَعَمْ. قَالَ الْقَاضِي: فَهَلْ يُمْطَرُونَ فِي بِلَادِهِمْ ؟ فَعَجِبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: بِمِثْلِ هَذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
قِصَّةٌ أُخْرَى
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ
النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ
فَقَالَ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ فَجَعَلَ يَسْأَلُ فَقَالَ
لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ
بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ
الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إِلَى
هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ فَغُفِرَ لَهُ هَكَذَا رَوَاهُ هَاهُنَا مُخْتَصَرًا
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُنْدَارٍ بِهِ وَمِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ مِنْ وَجْهٍ
آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ مُطَوَّلًا.
حَدِيثٌ آخَرُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صَلَاةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ
يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ
لِهَذَا، إِنَّمَا
خُلِقْنَا
لِلْحَرْثِ فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ ! فَقَالَ:
فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - وَمَا هُمَا ثَمَّ -.
وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ
فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: هَذَا
اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي ! فَمَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَا رَاعِيَ
لَهَا غَيْرِي ؟ فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ ! قَالَ
فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - وَمَا هُمَا.
ثَمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ
عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ، وَقَدْ أَسْنَدَهُ
الْبُخَارِيُّ فِي الْمُزَارِعَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، وَمُسْلِمٌ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَاهُ مِنْ
طَرِيقِ شُعْبَةَ كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدٍ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ
صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ
إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
". لَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ
سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعْرٍ كَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ فَقَالَ: يَا
أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا
هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ. وَهَكَذَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَكَذَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ
وَيُونُسُ
وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ
التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو
بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَدِمَ مُعَاوِيَةُ
بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا
فَأَخْرَجَ كُبَّةَ شَعْرٍ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ
هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سَمَّاهُ الزُّورَ يَعْنِي: الْوِصَالُ فِي الشَّعْرِ. تَابَعَهُ غُنْدَرٌ عَنْ
شُعْبَةَ وَالْعَجَبُ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ غُنْدَرٍ
عَنْ شُعْبَةَ بِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ
يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ
فَغُفِرَ لَهَا
بِهِ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ بْنِ السَّرْحِ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ
بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عُذِّبَتِ
امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ
فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ
تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ. وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ
حَدَّثَنَا الْمُسْتَمِرُّ بْنُ الرَّيَّانِ حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ
فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ امْرَأَةٌ قَصِيرَةٌ فَصَنَعَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ فَكَانَتْ
تَمْشِي بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ قَصِيرَتَيْنِ، وَاتَّخَذَتْ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ،
وَحَشَتْ تَحْتَ فَصِّهِ أَطْيَبَ الطِّيبِ الْمِسْكَ فَكَانَتْ إِذَا مَرَّتْ
بِالْمَجْلِسِ حَرَّكَتْهُ فَنَفَحَ رِيحُهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
الْمُسْتَمِرِّ، وَخُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ
صَحِيحٌ.
حَدِيثٌ آخَرُ
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ
سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ رَسُولُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ
النُّبُوَّةِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ تَفَرَّدَ بِهِ
الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ
حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا أَيْضًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ يَعْنِي ابْنَ بَهْرَامَ حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ
حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لَهُ فِي
السَّلَفِ الْخَالِي، لَا يَقْدِرَانِ عَلَى شَيْءٍ فَجَاءَ الرَّجُلُ مِنْ
سَفَرِهِ فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ جَائِعًا قَدْ أَصَابَتْهُ مَسْغَبَةٌ
شَدِيدَةٌ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَعِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ أَبْشِرْ
أَتَاكَ رِزْقُ اللَّهِ. فَاسْتَحَثَّهَا فَقَالَ: وَيَحَكِ ابْتَغِي إِنْ كَانَ
عِنْدَكِ شَيْءٌ قَالَتْ: نَعَمْ هُنَيَّةً نَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ حَتَّى إِذَا
طَالَ عَلَيْهِ الطَّوَى قَالَ: وَيْحَكِ قُومِي فَابْتَغِي إِنْ كَانَ عِنْدَكِ
خُبْزٌ فَأْتِينِي بِهِ فَإِنِّي قَدْ بَلَغْتُ وَجَهَدْتُ فَقَالَتْ: نَعَمِ
الْآنَ يُنْضِجُ التَّنُّورُ فَلَا تَعْجَلْ، فَلَمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا
سَاعَةً، وَتَحَيَّنَتْ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ لَهَا قَالَتْ هِيَ مِنْ
عِنْدِ نَفْسِهَا:
لَوْ قُمْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى تَنُّورِي فَقَامَتْ فَوَجَدَتْ تَنُّورَهَا مَلْآنَ
مِنْ جُنُوبِ الْغَنَمِ، وَرَحْيَيْهَا تَطْحَنَانِ فَقَامَتْ إِلَى الرَّحَى
فَنَفَضَتْهَا وَأَخْرَجَتْ مَا فِي تَنُّورِهَا مِنْ جُنُوبِ الْغَنَمِ. قَالَ
أَبُو هُرَيْرَةَ فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ - عَنْ قَوْلِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوْ أَخَذَتْ مَا فِي رَحْيَيْهَا
وَلَمْ تَنْفُضْهَا، لَطَحَنَتْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ هِشَامٍ
عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهِ
فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ خَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَلَمَّا
رَأَتِ امْرَأَتُهُ قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا، وَإِلَى التَّنُّورِ
فَسَجَرَتْهُ، ثُمَّ قَالَتِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا فَنَظَرَتْ فَإِذَا
الْجَفْنَةُ قَدِ امْتَلَأَتْ. قَالَ: وَذَهَبَتْ إِلَى التَّنُّورِ فَوَجَدَتْهُ
مُمْتَلِئًا قَالَ: فَرَجَعَ الزَّوْجُ قَالَ: أَصَبْتُمْ بَعْدِي شَيْئًا قَالَتِ
امْرَأَتُهُ: نَعَمْ مِنْ رَبِّنَا. قَامَ إِلَى الرَّحَى فَرَفَعَهَا فَذُكِرَ
ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَمَا إِنَّهُ لَوْ
لَمْ يَرْفَعْهَا، لَمْ تَزَلْ تَدُورُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَأَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ صَبِيرًا، ثُمَّ يَحْمِلَهُ فَيَبِيعَهُ فَيَسْتَعِفَّ مِنْهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ.
قِصَّةُ
الْمَلِكَيْنِ التَّائِبَيْنِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ
عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ
فِي مَمْلَكَتِهِ فَتَفَكَّرَ فَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ، وَأَنَّ
مَا هُوَ فِيهِ قَدْ شَغَلَهُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ فَتَسَرَّبَ فَانْسَابَ
ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ قَصْرِهِ فَأَصْبَحَ فِي مَمْلَكَةِ غَيْرِهِ، وَأَتَى
سَاحِلَ الْبَحْرِ وَكَانَ بِهِ يَضْرِبُ اللَّبِنَ بِالْأَجْرِ فَيَأْكُلُ
وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى رَقِيَ أَمْرُهُ إِلَى
مِلْكِهِمْ وَعِبَادَتُهُ وَفَضْلُهُ فَأَرْسَلَ مَلِكُهُمْ إِلَيْهِ أَنْ
يَأْتِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَعَادَ ثُمَّ أَعَادَ إِلَيْهِ فَأَبَى
أَنْ يَأْتِيَهُ، وَقَالَ: مَا لَهُ وَمَا لِي ؟ قَالَ: فَرَكِبَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ
فَلَمَّا رَآهُ الرَّجُلُ، وَلَّى هَارِبًا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ
رَكَضَ فِي أَثَرِهِ فَلَمْ يُدْرِكْهُ قَالَ: فَنَادَاهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ
إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكَ مِنِّي بَأْسٌ، فَقَامَ حَتَّى أَدْرَكَهُ فَقَالَ لَهُ:
مَنْ أَنْتَ رَحِمَكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ صَاحِبُ
مُلْكِ كَذَا وَكَذَا، تَفَكَّرْتُ فِي أَمْرِي فَعَلِمْتُ أَنَّ مَا أَنَا فِيهِ
مُنْقَطِعٌ فَإِنَّهُ قَدْ
شَغَلَنِي عَنْ
عِبَادَةِ رَبِّي فَتَرَكْتُهُ وَجِئْتُ هَاهُنَا أَعْبُدُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ،
فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ بِأَحْوَجَ إِلَى مَا صَنَعْتَ مِنِّي. قَالَ: ثُمَّ
نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ فَسَيَّبَهَا ثُمَّ تَبِعَهُ فَكَانَا جَمِيعًا
يَعْبُدَانِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَدَعَوَا اللَّهَ أَنْ يُمِيتَهُمَا جَمِيعًا
قَالَ: فَمَاتَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَوْ كُنْتُ بِرُمَيْلَةِ مِصْرَ،
لَأَرَيْتُكُمْ قُبُورَهُمَا، بِالنَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْغَافِرِ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ رَجُلًا كَانَ
قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ
كُنْتُ لَكُمْ ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ. قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا
قَطُّ فَاذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي
يَوْمٍ عَاصِفٍ. فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: مَا
حَمَلَكَ ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ. فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ. وَرَوَاهُ فِي
مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنْ قَتَادَةَ بِهِ. ثُمَّ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ، وَمِنْ حَدِيثِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ
حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ،
فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا. قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ
وَقَدْ رَوَاهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَعَنْ أَبِي
النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ
مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الطَّاعُونِ ؟ قَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
- أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ - فَاذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا
تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ
بِهَا فَلَا
تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لَا يُخْرِجُكُمْ إِلَّا
فِرَارًا مِنْهُ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَمِنْ طُرُقٍ أُخَرَ
عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ بِهِ.
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنِ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا
مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ
إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ عَنْ
مُسْلِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ
الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ
عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ فَقَالَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ
حُدُودِ اللَّهِ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ،
وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ
لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا وَأَخْرَجَهُ
بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ طُرُقٍ عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ: وَقَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ
الْهِلَالِيَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَجُلًا
قَرَأَ آيَةً، وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقْرَأُ خِلَافَهَا فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرْتُهُ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، وَقَالَ: كِلَاكُمَا
مُحْسِنٌ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا
فَهَلَكُوا تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ مُسْلِمٍ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ حَدَّثَنَا ابْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
قَالَ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبِغُونَ فَخَالِفُوهُمْ تَفَرَّدَ بِهِ دُونَ
مُسْلِمٍ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ صَلُّوا فِي نِعَالِكُمْ خَالِفُوا
الْيَهُودَ..
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ عَمْرٍو عَنْ
طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
قَاتَلَ اللَّهُ فُلَانًا أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ
الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُيَيْنَةَ، وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ. ثُمَّ قَالَ
الْبُخَارِيُّ تَابَعَهُ جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ سَتَأْتِي فِي
بَابِ الْحِيَلِ مِنْ كِتَابِ " الْأَحْكَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
وَبِهِ الثِّقَةُ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: ذَكَرُوا النَّارَ وَالنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ، وَأَنْ
يُوْتِرَ الْإِقَامَةَ وَأَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
قِلَابَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْجَرْمِيِّ بِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا مُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي جَمِيعِ شِعَارِهِمْ
فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَحَيَّنُونَ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ
دَعْوَةٍ إِلَيْهَا، ثُمَّ أَمَرَ مَنْ يُنَادِي فِيهِمْ وَقْتَ الصَّلَاةِ:
الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ أَرَادُوا أَنْ يَدْعُوَا إِلَيْهَا
بِشَيْءٍ
يَعْرِفُهُ النَّاسُ فَقَالَ قَائِلُونَ: نَضْرِبُ بِالنَّاقُوسِ، وَقَالَ آخَرُ:
نُورِي نَارًا فَكَرِهُوا ذَلِكَ لِمُشَابِهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأُرِيَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ الْأَنْصَارِيُّ فِي مَنَامِهِ
الْأَذَانَ، فَقَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِهِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ بَابِ
الْأَذَانِ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ ".
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، وَيُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ، وَابْنَ
عَبَّاسٍ قَالَا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ فَاذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا
عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا
صَنَعُوا وَهَكَذَا رَوَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ بِهِ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ
حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ،
وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ
ضَبٍّ
لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ ؟ ! وَهَكَذَا رَوَاهُ
مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَمَّا يَقَعُ مِنَ الْأَقْوَالِ
وَالْأَفْعَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا شَرْعًا مِمَّا يُشَابِهُ أَهْلَ الْكِتَابِ
قَبْلَنَا فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِ عَنْ مُشَابِهَتِهِمْ فِي
أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ حَتَّى وَلَوْ كَانَ قَصْدُ الْمُؤْمِنِ خَيْرًا،
لَكِنَّهُ تَشَبَّهَ بِفِعْلِهِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ فِعْلِهِمْ. وَكَمَا نُهِيَ
عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا; لِئَلَّا
يُشَابِهَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ
الْمُؤْمِنُ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا
رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [
الْبَقَرَةِ: 104 ] فَكَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلَامِهِمْ مَعَهُ: رَاعِ نَا أَيِ: انْظُرْ إِلَيْنَا
بِبَصَرِكَ، وَاسْمَعْ كَلَامَنَا، وَيَقْصِدُونَ بِقَوْلِهِمْ: رَاعِنَا مِنَ
الرُّعُونَةِ فَنُهِيَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا
يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَذَا أَبَدًا.
فَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى
مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ فَلَيْسَ
لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ; لَا فِي عِبَادَاتِهِمْ وَلَا
مَوَاسِمِهِمْ وَلَا فِي أَعْيَادِهِمْ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَّفَ هَذِهِ
الْأُمَّةَ بِخَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي شَرَعَ لَهُ الدِّينَ الْعَظِيمَ
الْقَوِيمَ الشَّامِلَ الْكَامِلَ الَّذِي لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ الَّذِي
أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الَّذِي أُنْزِلَ
عَلَيْهِ الْإِنْجِيلُ حَيَّيْنِ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا شَرْعٌ مُتَّبَعٌ بَلْ لَوْ
كَانَا مَوْجُودَيْنِ بَلْ وَكُلُّ الْأَنْبِيَاءِ لَمَا سَاغَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ
أَنْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُشَرَّفَةِ
الْمُكَرَّمَةِ الْمُعَظَّمَةِ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ مَنَّ
عَلَيْنَا، بِأَنْ جَعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَتَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، قَدْ ضَلُّوا مِنْ
قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [ الْمَائِدَةِ:
77 ] قَدْ بَدَّلُوا دِينَهُمْ وَحَرَّفُوهُ وَأَوَّلُوهُ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ
غَيْرُ مَا شُرِعَ لَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَنْسُوخٌ
وَالتَّمَسُّكُ بِالْمَنْسُوخِ حَرَامٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ قَلِيلًا
وَلَا كَثِيرًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي لَمْ يُشْرَعْ
بِالْكُلِّيَّةِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
حَدِيثٌ آخَرُ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ
خَلَا مِنَ الْأُمَمِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ،
وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمِثْلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ
عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ
عَلَى قِيرَاطٍ
قِيرَاطٍ ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ،
ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ
عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى
صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ
صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ؟
أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ
الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ.
فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ
عَطَاءً ! قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا ؟ قَالُوا:
لَا. قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ شِئْتُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَصِيرَةٌ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى
مَا مَضَى مِنْ مُدَدِ الْأُمَمِ قَبْلَهَا; لِقَوْلِهِ إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي
أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ
الشَّمْسِ.
فَالْمَاضِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ كَمَا أَنَّ الْآتِيَ لَا يَعْلَمُهُ
إِلَّا هُوَ، وَلَكِنَّهُ قَصِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَبَقَ، وَلَا
اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ عَلَى تَحْدِيدِ مَا بَقِيَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [
الْأَعْرَافِ: 187 ] وَقَالَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [ النَّازِعَاتِ: 42 -
44 ] وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ
الْعَامَّةِ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُؤَلَّفُ تَحْتَ الْأَرْضِ
فَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ، وَوَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ إِنَّ
الدُّنْيَا جُمُعَةٌ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ
وَفِي صِحَّتِهِ
نَظَرٌ. وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ بِالْعُمَّالِ تَفَاوُتُ
أُجُورِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَنُوطًا بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَلَا
قِلَّتِهِ، بَلْ بِأُمُورٍ أُخَرَ مُعْتَبَرَةٍ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمْ
مِنْ عَمَلٍ قَلِيلٍ أَجْدَى مَا لَا يُجْدِيهِ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ ; هَذِهِ
لَيْلَةُ الْقَدْرِ الْعَمَلُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ شَهْرٍ
سِوَاهَا، وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْفَقُوا فِي أَوْقَاتٍ لَوْ أَنْفَقَ غَيْرُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ مِثْلَ أُحُدٍ
مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ مِنْ تَمْرٍ. وَهَذَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ
أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ، وَقَبَضَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
عَلَى الْمَشْهُورِ وَقَدْ بَرَزَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ - الَّتِي هِيَ ثَلَاثٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً - فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، حَتَّى عَلَى نُوحٍ الَّذِي لَبِثَ فِي
قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ
اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ لَيْلًا وَنَهَارًا
صَبَاحًا وَمَسَاءً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ
الْأَنْبِيَاءِ أَجْمَعِينَ.
فَهَذِهِ الْأُمَّةُ إِنَّمَا شَرُفَتْ وَتَضَاعَفَ ثَوَابُهَا بِبَرَكَةِ
سِيَادَةِ نَبِيِّهَا وَشَرَفِهِ وَعَظَمَتِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ
كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهِ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. [ الْحَدِيدِ: 28، 29
]
فَصْلٌ
وَأَخْبَارُ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْكِتَابِ، وَفِي
السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَوْ ذَهَبْنَا نَتَقَصَّى ذَلِكَ لَطَالَ
الْكِتَابُ، وَلَكِنْ ذَكَرْنَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْبَابِ فَفِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ وَهُوَ
تَذْكِرَةٌ، وَأُنْمُوذَجٌ لِهَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ مِمَّا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ
الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَرَّخَيْنِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمِنْهَا مَا هُوَ
صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِمَا وَقَعَ وَكَثِيرٌ مِنْهَا - بَلْ أَكْثَرُهَا - مِمَّا
يَذْكُرُهُ الْقُصَّاصُ مَكْذُوبٌ مُفْتَرًى، وَضَعَهُ زَنَادِقَتُهُمْ
وَضُلَّالُهُمْ، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ
لِمُوَافَقَتِهِ مَا قَصَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومُ
الْبُطْلَانِ لِمُخَالَفَتِهِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ، وَمِنْهَا مَا
يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَهَذَا الَّذِي أُمِرْنَا بِالتَّوَقُّفِ فِيهِ
فَلَا نُصَدِّقُهُ وَلَا نُكَذِّبُهُ; لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ إِذَا
حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ،
وَقُولُوا: آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ الَيْكُمْ وَتَجُوزُ
رِوَايَتُهُ مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ..
تَحْرِيفُ أَهْلِ
الْكِتَابِ وَتَبْدِيلِهِمْ أَدْيَانَهُمْ
أَمَّا الْيَهُودُ فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ التَّوْرَاةَ عَلَى يَدَيْ
مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَكَانَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [ الْأَنْعَامِ: 154 ] وَقَالَ تَعَالَى قُلْ مَنْ
أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ
تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [ الْأَنْعَامِ: 91 ]
وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً
وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 48 ] وَقَالَ تَعَالَى
وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ [ الصَّافَّاتِ: 117، 118 ] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا
النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [ الْمَائِدَةِ:
44 ] فَكَانُوا يَحْكُمُونَ بِهَا وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِهَا بُرْهَةً مِنَ
الزَّمَانِ، ثُمَّ شَرَعُوا فِي تَحْرِيفِهَا وَتَبْدِيلِهَا وَتَغْيِيرِهَا وَتَأْوِيلِهَا
وَإِبْدَاءِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ
مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ آلِ عِمْرَانَ: 78 ] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ
يُفَسِّرُونَهَا وَيُئَوِّلُونَهَا، وَيَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا.
وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّهُمْ
يَتَصَرَّفُونَ فِي مَعَانِيهَا وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى غَيْرِ الْمُرَادِ، كَمَا
بَدَّلُوا حُكْمَ الرَّجْمِ وَالتَّحْمِيمِ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ الرَّجْمِ فِيهَا،
وَكَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَاذَا
سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، مَعَ أَنَّهُمْ
مَأْمُورُونَ بِاقَامَةِ الْحَدِّ وَالْقَطْعِ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ.
فَأَمَّا تَبْدِيلُ أَلْفَاظِهَا ; فَقَالَ قَائِلُونَ بِأَنَّهَا جَمِيعَهَا
بُدِّلَتْ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ تُبَدَّلْ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ [
الْمَائِدَةِ: 43 ] وَقَوْلُهُ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ [ الْأَعْرَافِ: 157 ] الْآيَةَ. وَبِقَوْلِهِ
قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ آلِ
عِمْرَانَ: 93 ] وَبِقِصَّةِ الرَّجْمِ فَإِنَّهُمْ - كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ
عَازِبٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَغَيْرِهِ - لَمَّا تَحَاكَمُوا
إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِيِّ
وَالْيَهُودِيَّةِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا فَقَالَ لَهُمْ: " مَا تَجِدُونَ فِي
التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ " فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ
وَيُجْلَدُونَ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِإِحْضَارِ التَّوْرَاةِ فَلَمَّا جَاءُوا بِهَا وَجَعَلُوا يَقْرَءُونَهَا
وَيَكْتُمُونَ آيَةَ الرَّجْمِ الَّتِي فِيهَا، وَوَضَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صُورِيَا يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، وَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ارْفَعْ
يَدَكَ يَا أَعْوَرُ " فَرَفَعَ يَدَهُ فَاذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا،
وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ
". وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءُوا بِهَا نَزَعَ
الْوِسَادَةَ مِنْ تَحْتِهِ فَوَضَعَهَا تَحْتَهَا، وَقَالَ: آمَنْتُ بِكِ
وَبِمَنْ أَنْزَلَكِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَامَ لَهَا. وَلَمْ أَقِفْ
عَلَى إِسْنَادِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا كُلُّهُ يُشْكِلُ عَلَى مَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ
وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ التَّوْرَاةَ انْقَطَعَ تَوَاتُرُهَا فِي زَمَنِ
بُخْتُنَصَّرَ، وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يَحْفَظُهَا إِلَّا الْعُزَيْرُ، ثُمَّ
الْعُزَيْرُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَهُوَ مَعْصُومٌ وَالتَّوَاتُرُ إِلَى
الْمَعْصُومِ يَكْفِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ
إِلَيْهِ، لَكِنْ بَعْدَهُ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى، وَكُلُّهُمْ كَانُوا
مُتَمَسِّكِينَ بِالتَّوْرَاةِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً مَعْمُولًا بِهَا،
لَمَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَهُمْ أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ، ثُمَّ قَدْ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ
الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى جَمِيعِ
الْأَنْبِيَاءِ مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُودِ فِي
قَصْدِهِمُ
الْفَاسِدِ إِذْ عَدَلُوا عَمَّا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهُ عِنْدَهُمْ -
وَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِهِ حَتْمًا - إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يُعَانِدُونَ مَا جَاءَ بِهِ،
لَكِنْ لَمَّا كَانَ - فِي زَعْمِهِمْ - مَا قَدْ يُوَافِقُهُمْ عَلَى مَا
ابْتَدَعُوهُ مِنَ الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ الْمُصَادِمِ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ
بِهِ حَتْمًا، وَقَالُوا: إِنْ حَكَمَ لَكُمْ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ
فَاقْبَلُوهُ، وَتَكُونُونَ قَدِ اعْتَذَرْتُمْ بِحُكْمِ نَبِيٍّ لَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ لَكُمْ بِهَذَا بَلْ
بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُ.
فَأَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَصْدِ الْفَاسِدِ الَّذِي
إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَيْهِ الْغَرَضُ الْفَاسِدُ، وَمُوَافَقَةُ الْهَوَى لَا
الدِّينُ الْحَقُّ فَقَالَ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ
فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ [ الْمَائِدَةِ: 43، 44
] الْآيَةَ. وَلِهَذَا لَمَّا حَكَمَ بِالرَّجْمِ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي
أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ " وَسَأَلَهُمْ مَا
حَمَلَهُمْ عَلَى هَذَا ؟ وَلِمَ تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ ؟
فَقَالُوا: إِنَّ الزِّنَا قَدْ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، وَلَمْ يُمْكِنَّا أَنْ
نُقِيمَهُ عَلَيْهِمْ، وَكُنَّا نَرْجُمُ مَنْ زَنَى مِنْ ضُعَفَائِنَا فَقُلْنَا:
تَعَالَوْا إِلَى أَمْرٍ نِصْفٍ نَفْعَلُهُ مَعَ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ
فَاصْطَلَحْنَا عَلَى الْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ
تَحْرِيفِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمُ الْبَاطِلِ.
وَهَذَا إِنَّمَا فَعَلُوهُ فِي الْمَعَانِي، مَعَ بَقَاءِ لَفْظِ الرَّجْمِ فِي
كِتَابِهِمْ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ.
فَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ هَذَا مِنَ النَّاسِ: إِنَّهُ لَمْ
يَقَعْ
تَبْدِيلُهُمْ إِلَّا فِي الْمَعَانِي وَإِنَّ الْأَلْفَاظَ بَاقِيَةٌ، وَهِيَ
حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَوْ أَقَامُوا مَا فِي كِتَابِهِمْ جَمِيعِهِ ;
لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِمْ [ الْأَعْرَافِ: 157 ] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ
مُقْتَصِدَةٌ [ الْمَائِدَةِ: 66 ] الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى قُلْ يَاأَهْلَ
الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
وَمَا أُنْزِلَ الَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [ الْمَائِدَةِ: 68 ] الْآيَةَ. وَهَذَا
الْمَذْهَبُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ التَّبْدِيلَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي
مَعَانِيهَا لَا فِي أَلْفَاظِهَا - حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِي آخِرِ كِتَابِهِ " الصَّحِيحِ " وَقَرَّرَ عَلَيْهِ وَلَمْ
يَرُدَّهُ، وَحَكَاهُ الْعَلَّامَةُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ فِي
" تَفْسِيرِهِ " عَنْ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ مَسُّ
التَّوْرَاةِ وَهُوَ مُحْدِثٌ، وَحَكَاهُ الْحَنَّاطِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ
بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا. وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ
الْعُلَمَاءِ إِلَى التَّوَسُّطِ فِي هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمْ شَيْخُنَا
الْإِمَامُ
الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ:
أَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا كُلَّهَا مُبَدَّلَةٌ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى
آخِرِهَا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا حَرْفٌ إِلَّا بِدَّلُوهُ فَهَذَا بِعِيدٌ،
وَكَذَا مَنْ قَالَ: لَمْ يُبَدَّلْ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ بَعِيدٌ
أَيْضًا وَالْحَقُّ أَنَّهُ دَخَلَهَا تَبْدِيلٌ وَتَغْيِيرٌ، وَتَصَرَّفُوا فِي
بَعْضِ أَلْفَاظِهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ كَمَا تَصَرَّفُوا فِي
مَعَانِيهَا. وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، وَلِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ
آخَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. كَمَا فِي قَوْلِهِمْ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ: اذْبَحِ
ابْنَكَ وَحِيدَكَ، وَفِي نُسْخَةٍ: بِكْرَكَ إِسْحَاقُ فَلَفْظَةُ إِسْحَاقَ مُقْحَمَةٌ
مَزِيدَةٌ بِلَا مِرْيَةٍ ; لِأَنَّ الْوَحِيدَ - وَهُوَ الْبِكْرُ - إِسْمَاعِيلُ
لِأَنَّهُ وُلِدَ قَبْلَ إِسْحَاقَ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَكَيْفَ يَكُونُ
الْوَحِيدُ الْبِكْرَ إِسْحَاقُ ؟! ! وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَسَدُ
الْعَرَبِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُمْ هُوَ الذَّبِيحُ فَأَرَادُوا أَنْ يَذْهَبُوا
بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لَهُمْ فَزَادُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ افْتِرَاءً
عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَقَدِ اغْتَرَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ، وَوَافَقُوهُمْ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ
إِسْحَاقُ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا فِي تَوْرَاةِ السَّامِرَةِ فِي الْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ زِيَادَةُ
الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الطُّورِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي
سَائِرِ نُسَخِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهَكَذَا يُوجَدُ
فِي الزَّبُورِ
الْمَأْثُورِ، عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخْتَلِفًا كَثِيرًا، وَفِيهِ
أَشْيَاءُ مَزِيدَةٌ مُلْحَقَةٌ فِيهِ، وَلَيْسَتْ مِنْهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَأَمَّا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ التَّوْرَاةِ الْمُعَرَّبَةِ فَلَا
يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي تَبْدِيلِهَا، وَتَحْرِيفِ كَثِيرٍ مِنْ أَلْفَاظِهَا،
وَتَغْيِيرِ الْقَصَصِ وَالْأَلْفَاظِ وَالزِّيَادَاتِ وَالنَّقْصِ الْبَيِّنِ
الْوَاضِحِ، وَفِيهَا مِنَ الْكَذِبِ الْبَيِّنِ وَالْخَطَأِ الْفَاحِشِ شَيْءٌ
كَثِيرٌ جِدًّا فَأَمَّا مَا يَتْلُونَهُ بِلِسَانِهِمْ، وَيَكْتُبُونَهُ
بِأَقْلَامِهِمْ فَلَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ وَالْمَظْنُونُ بِهِمْ أَنَّهُمْ
كَذَبَةُ خَوَنَةٌ يُكْثِرُونَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ.
وَأَمَّا النَّصَارَى فَأَنَاجِيلُهُمُ الْأَرْبَعَةُ مِنْ طُرُقِ مُرْقُسٍ
وَلُوقَا وَمَتَّى وَيُوحَنَّا، أَشَدُّ اخْتِلَافًا وَأَكْثَرُ زِيَادَةً
وَنَقْصًا وَأَفْحَشُ تَفَاوُتًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَقَدْ خَالَفُوا أَحْكَامَ
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ قَدْ شَرَعُوهُ
لِأَنْفُسِهِمْ، فَمِنْ ذَلِكَ صَلَاتُهُمْ إِلَى الشَّرْقِ، وَلَيْسَتْ
مَنْصُوصًا عَلَيْهَا وَلَا مَأْمُورًا بِهَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَنَاجِيلِ
الْأَرْبَعَةِ، وَهَكَذَا تَصْوِيرُهُمْ كَنَائِسَهُمْ، وَتَرْكُهُمُ الْخِتَانَ،
وَنَقْلُهُمْ صِيَامَهُمْ إِلَى زَمَنِ الرَّبِيعِ، وَزِيَادَتُهُ فِيهِ إِلَى
خَمْسِينَ يَوْمًا، وَأَكَلُهُمُ الْخِنْزِيرَ، وَوَضْعُهُمُ الْأَمَانَةَ
الْكَبِيرَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ الْخِيَانَةُ الصَّغِيرَةُ الْحَقِيرَةُ،
وَالرَّهْبَانِيَّةُ، وَهِيَ تَرْكُ التَّزْوِيجِ لِمَنْ أَرَادَ التَّعَبُّدَ،
وَتَحْرِيمَهُ عَلَيْهِ، وَكَتْبُهُمُ الْقَوَانِينَ الَّتِي وَضَعَتْهَا لَهُمُ
الْأَسَاقِفَةُ الثَّلَاثُمِائَةِ وَالثَّمَانِيَةَ عَشَرَ.
فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ابْتَدَعُوهَا، وَوَضَعُوهَا فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ
بْنِ قَسْطَسَ بَانِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَكَانَ زَمَنُهُ بَعْدَ الْمَسِيحِ
بِثَلَاثِمِائَةِ
سَنَةٍ وَكَانَ أَبُوهُ أَحَدَ مُلُوكِ الرُّومِ، وَتَزَوَّجَ أُمَّهُ هِيلَانَةَ
فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ لِلصَّيْدِ مِنْ بِلَادِ حَرَّانَ وَكَانَتْ نَصْرَانِيَّةً
عَلَى دِينِ الرَّهَابِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَلَمَّا وُلِدَ لَهَا مِنْهُ
قُسْطَنْطِينُ الْمَذْكُورُ تَعَلَّمَ الْفَلْسَفَةَ وَمَهَرَ فِيهَا، وَصَارَ
فِيهِ مَيْلٌ بَعْضَ الشَّيْءِ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ الَّتِي أُمُّهُ عَلَيْهَا
فَعَظَّمَ الْقَائِمِينَ بِهَا بَعْضَ الشَّيْءِ وَهُوَ عَلَى اعْتِقَادِ
الْفَلَاسِفَةِ فَلَمَّا مَاتَ أَبَوْهُ، وَاسْتَقَلَّ هُوَ فِي الْمَمْلَكَةِ
سَارَ فِي رَعِيَّتِهِ سِيرَةً عَادِلَةً فَأَحَبَّهُ النَّاسُ وَسَادَ فِيهِمْ،
وَغَلَبَ عَلَى مَلِكِ الشَّامِ بِأَسْرِهِ مَعَ الْجَزِيرَةِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ.
وَكَانَ أَوَّلَ الْقَيَاصِرَةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ اخْتِلَافٌ فِي زَمَانِهِ بَيْنَ
النَّصَارَى، وَمُنَازَعَةٌ وَقَعَتْ بَيْنَ بِطْرِيقِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
إِكْصَنْدَرُوسَ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يُقَالَ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَرْيُوسَ فَذَهَبَ إِكْصَنْدَرُوسَ إِلَى أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، -
تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ - وَذَهَبَ ابْنُ أَرْيُوسَ إِلَى أَنَّ عِيسَى
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاتَّبَعَهُ عَلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ
النَّصَارَى، وَأَصْفَقَ الْأَكْثَرُونَ الْأَخْسَرُونَ عَلَى قَوْلِ
بِطَرِيقِهِمْ، وَمَنْعِ ابْنِ أَرْيُوسَ مِنْ دُخُولِ الْكَنِيسَةِ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ، فَذَهَبَ يَسْتَعْدِي عَلَى إِكْصَنْدَرُوسَ وَأَصْحَابِهِ إِلَى
الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ، فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ عَنْ مَقَالَتِهِ فَعَرَضَ
عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْيُوسَ مَا يَقُولُ فِي الْمَسِيحِ مِنْ أَنَّهُ
عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَى
ذَلِكَ فَمَالَ
إِلَيْهِ، وَجَنَحَ إِلَى قَوْلِهِ فَقَالَ لَهُ قَائِلُونَ: فَيَنْبَغِي أَنْ
تَبْعَثَ إِلَى خَصْمِهِ فَتَسْمَعُ كَلَامَهُ فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِإِحْضَارِهِ،
وَطَلَبَ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ كُلَّ أُسْقُفٍ، وَكُلَّ مَنْ عِنْدَهُ
عِلْمٌ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَجَمَعَ الْبَطَارِقَةَ الْأَرْبَعَةَ مِنَ
الْقُدْسِ، وَأَنْطَاكِيَةَ وَرُومِيَّةَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةَ فَيُقَالَ:
إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي مُدَّةِ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ مَا يَزِيدُ عَلَى
أَلْفَيْ أُسْقُفٍ.
فَجَمَعَهُمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَجْمَعُ الْأَوَّلُ مِنْ
مَجَامِعِهِمُ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا
مُنْتَشِرًا جِدًّا فَمِنْهُمُ الشِّرْذِمَةُ عَلَى الْمَقَالَةِ الَّتِي لَا
يُوَافِقُهُمْ أَحَدٌ مِنَ الْبَاقِينَ عَلَيْهَا فَهَؤُلَاءِ خَمْسُونَ عَلَى
مَقَالَةٍ، وَهَؤُلَاءِ ثَمَانُونَ عَلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ عَشَرَةٌ
عَلَى مَقَالَةٍ وَأَرْبَعُونَ عَلَى أُخْرَى وَمِائَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ
وَمِائَتَانِ عَلَى مَقَالَةٍ، وَطَائِفَةٌ عَلَى مَقَالَةِ ابْنِ أَرْيُوسَ،
وَجَمَاعَةٌ عَلَى مَقَالَةٍ أُخْرَى فَلَمَّا تَفَاقَمَ أَمْرُهُمْ، وَانْتَشَرَ
اخْتِلَافُهُمْ حَارَ فِيهِمُ الْمَلِكُ قُسْطَنْطِينُ، مَعَ أَنَّهُ سَيِّئُ
الظَّنِّ بِمَا عَدَا دِينَ الصَّابِئِينَ مِنْ أَسْلَافِهِ الْيُونَانِيِّينَ
فَعَمَدَ إِلَى أَكْثَرِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلَى مَقَالَةٍ مِنْ مَقَالَاتِهِمْ
فَوَجَدَهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ أُسْقُفًا قَدِ اجْتَمَعُوا
عَلَى مَقَالَةِ إِكْصَنْدَرُوسَ، وَلَمْ يَجِدْ طَائِفَةً بَلَغَتْ عِدَّتَهُمْ
فَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِنَصْرِ قَوْلِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْفِرَقِ
فَاجْتَمَعَ بِهِمْ خُصُوصًا، وَوَضْعَ سَيْفَهُ وَخَاتَمَهُ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ:
إِنِّي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرَ الْفِرَقِ قَدِ اجْتَمَعْتُمْ عَلَى مَقَالَتِكُمْ
هَذِهِ فَأَنَا أَنْصُرُهَا
وَأَذْهَبُ
إِلَيْهَا فَسَجَدُوا لَهُ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَضَعُوا لَهُ كِتَابًا فِي
الْأَحْكَامِ، وَأَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ إِلَى الشَّرْقِ ; لِأَنَّهَا مَطْلِعُ الْكَوَاكِبِ
النَّيِّرَةِ، وَأَنْ يُصَوِّرُوا فِي كَنَائِسِهِمْ صُوَرًا لَهَا جُثَثٌ
فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ تَكُونَ فِي الْحِيطَانِ فَلَمَّا تَوَافَقُوا عَلَى
ذَلِكَ أَخَذَ فِي نَصْرِهِمْ، وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِمْ وَإِقَامَةِ
مَقَالَتِهِمْ، وَإِبْعَادِ مَنْ خَالَفَهُمْ وَتَضْعِيفِ رَأْيِهِ وَقَوْلِهِ،
فَظَهَرَ أَصْحَابُهُ بِجَاهِهِ عَلَى مُخَالِفِهِمْ وَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ،
وَأَمَرَ بِبِنَاءِ الْكَنَائِسِ عَلَى دِينِهِمْ، وَهُمُ الْمَلِكِيَّةُ ;
نِسْبَةً إِلَى دِينِ الْمَلِكِ فَبُنِيَ فِي أَيَّامِ قُسْطَنْطِينَ بِالشَّامِ
وَغَيْرِهَا فِي الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى أَزِيدُ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أَلْفَ
كَنِيسَةٍ، وَاعْتَنَى الْمَلِكُ بِبِنَاءِ بَيْتِ لَحْمٍ يَعْنِي عَلَى مَكَانِ
مَوْلِدِ الْمَسِيحِ، وَبَنَتْ أُمُّهُ هِيلَانَةُ قُمَامَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى
مَكَانِ الْمَصْلُوبِ الَّذِي زَعَمَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِجَهْلِهِمْ،
وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ أَنَّهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَ مَنْ عَدَا أُولَئِكَ، وَخَدَّ لَهُمُ الْأَخَادِيدَ
فِي الْأَرْضِ، وَأَجَّجَ فِيهَا النَّارَ وَأَحْرَقَهُمْ بِهَا، كَمَا
ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبُرُوجِ.
وَعَظُمَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ جِدًّا بِسَبَبِ الْمَلِكِ
قُسْطَنْطِينَ وَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْهِمْ فَسَادًا لَا صَلَاحَ لَهُ وَلَا
نَجَاحَ مَعَهُ وَلَا فَلَاحَ عِنْدِهِ، وَكَثُرَتْ أَعْيَادُهُمْ بِسَبَبِ
عُظَمَائِهِمْ، وَكَثُرَتْ كَنَائِسُهُمْ عَلَى أَسْمَاءِ عُبَّادِهِمْ،
وَتَفَاقَمَ كُفْرُهُمْ، وَغَلُظَتْ مُصِيبَتُهُمْ، وَتَخَلَّدَ ضَلَالُهُمْ،
وَعَظُمَ وَبَالُهُمْ، وَلَمْ يَهْدِ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَا
أَصْلَحَ بَالَهُمْ بَلْ صَرَفَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَالَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ حَالَهُمْ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَجْمَعَيْنِ فِي قَضِيَّةِالنُّسْطُورِيَّةِ وَالْيَعْقُوبِيَّةِ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ تُكَفِّرُ الْأُخْرَى، وَتَعْتَقِدُ تَخْلِيدَهُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَلَا تَرَى مُجَامَعَتَهُمْ فِي الْمَعَابِدِ وَالْكَنَائِسِ، وَكُلُّهُمْ يَقُولُ بِالْأَقَانِيمِ الثَّلَاثَةِ: أُقْنُومِ الْأَبِ، وَأُقْنُومِ الِابْنِ، وَأُقْنُومِ الْكَلِمَةِ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِيمَا بَيْنُ اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ هَلْ تَدَرَّعَهُ أَوْ حَلَّ فِيهِ أَوِ اتَّحَدَ بِهِ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ شَدِيدٌ، وَكُفْرُهُمْ بِسَبَبِهِ غَلِيظٌ، وَكُلُّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ إِلَّا مَنْ قَالَ مِنَ الْأَرْيُوسِيَّةِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَرْيُوسَ: إِنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَكِنْ لَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْأَرْيُوسِيَّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْفَرْقُ الثَّلَاثَةُ بِالْإِبْعَادِ وَالطَّرْدِ حَتَّى قَلُّوا فَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كِتَابُ الْجَامِعِ
لِأَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْآيَةَ [
الْبَقَرَةِ: 253 ] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَوْحَيْنَا الَيْكَ كَمَا
أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى
وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ
عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ النِّسَاءِ: 163 ].
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي "
تَفْسِيرِهِ " وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْرَاهِيمَ بْنِ هِشَامٍ عَنْ
يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيِّ الشَّامِيِّ - وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ -
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمِ الْأَنْبِيَاءُ ؟ قَالَ: " مِائَةُ أَلْفٍ
وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَمِ
الرُّسُلُ مِنْهُمْ ؟قَالَ: " ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ جَمٌّ
غَفِيرٌ ". قُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ:
مَنْ كَانَ أَوَّلُهُمْ ؟ قَالَ: " آدَمُ " قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ:
نَبِيٌّ مُرْسَلٌ قَالَ: " نَعَمْ خَلَقَهُ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ
مِنْ رُوحِهِ، ثُمَّ سَوَّاهُ قَبْلًا " ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ،
أَرْبَعَةٌ سُرْيَانِيُّونَ: آدَمُ وَشِيثٌ وَنُوحٌ وَخَنُوخُ وَهُوَ إِدْرِيسُ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْعَرَبِ هُودٌ
وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَنَبِيُّكَ يَا أَبَا ذَرٍّ، وَأَوَّلُ نَبِيٍّ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مُوسَى، وَآخِرُهُمْ عِيسَى، وَأَوَّلُ النَّبِيِّينَ آدَمُ،
وَآخِرُهُمْ نَبِيُّكَ "..
وَقَدْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمَوْضُوعَاتِ " وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ
فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ
حَدَّثَنَا مَعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْقَاسِمِ
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَمِ الْأَنْبِيَاءُ ؟
قَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، الرُّسُلُ مِنْ ذَلِكَ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا. وَهَذَا أَيْضًا مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ ضَعِيفٌ فِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الضُّعَفَاءِ مُعَانٌ وَشَيْخُهُ وَشَيْخُ
شَيْخِهِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِسْحَاقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْهَرِيُّ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا مَكِّيُّ
بْنُ ابْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
عُبَيْدَةَ
الرَّبَذِيُّ عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَعَثَ اللَّهُ ثَمَانِيَةَ
آلَافِ نَبِيٍّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ
إِلَى سَائِرِ النَّاسِ. مُوسَى وَشَيْخُهُ ضَعِيفَانِ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ ثَابِتٍ الْعَبْدِيُّ حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ
يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ فِيمَنْ خَلَا مِنْ إِخْوَانِي مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ ثَمَانِيَةُ آلَافِ نَبِيٍّ، ثُمَّ كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ،
ثُمَّ كُنْتُ أَنَا يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ ضَعِيفٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ
أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ طَارِقٍ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ
حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ صَفْوَانَ
بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ عَلَى إِثْرِ ثَمَانِيَةِ آلَافِ نَبِيٍّ مِنْهُمْ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ
لَكِنِّي لَا أَعْرِفُ حَالَ أَحْمَدَ بْنِ طَارِقٍ هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَجَدْتُ فِي
كِتَابِ أَبِي
بِخَطِّهِ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمُتَعَالِي بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ قَالَ: قَالَ
أَبُو سَعِيدٍ: هَلْ تُقِرُّ الْخَوَارِجُ بِالدَّجَّالِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا.
فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي
خَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ أَكْثَرَ وَمَا بُعِثَ نَبِيٌّ يُتَّبَعُ إِلَّا
وَحَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، وَإِنِّي قَدْ بُيِّنَ لِي مِنْ أَمْرِهِ مَا
لَمْ يُبَيَّنْ لِأَحَدٍ، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ
بِأَعْوَرَ، وَعَيْنُهُ الْيُمْنَى عَوْرَاءُ جَاحِظَةٌ لَا تَخْفَى، كَأَنَّهَا
نُخَامَةٌ فِي حَائِطٍ مُجَصَّصٍ، وَعَيْنُهُ الْيُسْرَى كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ، مَعَهُ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ، وَمَعَهُ صُورَةُ الْجَنَّةِ خَضْرَاءُ يَجْرِي
فِيهَا الْمَاءُ، وَصُورَةُ النَّارِ سَوْدَاءُ تَدْخَنُ.. وَهَذَا حَدِيثٌ
غَرِيبٌ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ
الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
حَدَّثَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لِخَاتَمُ أَلْفِ نَبِيٍّ أَوْ
أَكْثَرَ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُمْ نَبِيٌّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
الدَّجَّالَ، وَإِنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ لِي فِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لِأَحَدٍ
مِنْهُمْ، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ. وَهَذَا
إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى ذِكْرِ عَدَدِ مَنْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
الدَّجَّالَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَكِنَّ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ
مَا مِنْ نَبِيٍّ
إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ فُرَاتٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ
قَالَ قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ خَمْسَ سِنِينَ فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ
لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ قَالُوا: فَمَا
تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ
فَالْأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا
اسْتَرْعَاهُمْ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ بُنْدَارٍ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ
عَنْ فُرَاتٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي
حَدَّثَنِي الْأَعْمَشُ حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ
ابْنُ مَسْعُودٍ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ،
وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي
; فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ بِهِ
نَحْوَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،
عَنْ رَجُلٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ، وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَيْكَ
مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ كَمَا
يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ، إِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يُبْتَلَى
بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى يَأْخُذَ الْعَبَاءَةَ فَيُحَوِّيَهَا، وَإِنْ
كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا تَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ ".
هَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ
رَجُلٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ دُحَيْمٍ عَنِ ابْنِ
أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ
عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ:
الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنَ النَّاسِ،
يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسْبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلَابَةٌ
زِيدَ فِي بَلَائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَلَيْهِ، وَلَا
يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ
الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ نَحْنُ مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ، وَأُمَّهَاتُنَا شَتَّى وَالْمَعْنَى أَنَّ شَرَائِعَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فِي الْفُرُوعِ، وَنَسَخَ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى انْتَهَى الْجَمِيعُ إِلَى مَا شَرَعَ اللَّهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فَإِنَّمَا دِينُهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ التَّوْحِيدُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الْأَنْبِيَاءِ: 25 ] وَقَالَ تَعَالَى وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ الزُّخْرُفِ: 45 ] وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ الْآيَةَ [ النَّحْلِ: 36 ] فَأَوْلَادُ الْعَلَّاتِ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ وَاحِدًا وَالْأُمَّهَاتُ مُتَفَرِّقَاتٌ فَالْأَبُ بِمَنْزِلَةِ الدِّينِ وَهُوَ التَّوْحِيدُ وَالْأُمَّهَاتُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرَائِعِ فِي اخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى. وَقَالَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [ الْحَجِّ: 67 ] وَقَالَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [ الْبَقَرَةِ: 148 ] عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّرَائِعَ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ فِي أَوْقَاتِهَا إِلَّا أَنَّ الْجَمِيعَ آمِرَةٌ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الدِّينُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ آلِ عِمْرَانَ: 85 ] وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ ابْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 130 - 132 ] وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا الْآيَةَ [ الْمَائِدَةِ: 44 ] فَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ وَالْإِحْسَانُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ عَمَلًا بَعْدَ أَنْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا عَلَى مَا شَرَعَهُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ الْأَعْرَافِ: 158 ] وَقَالَ تَعَالَى وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ الْأَنْعَامِ: 19 ] وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ هُودٍ: 17 ] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ قِيلَ: أَرَادَ الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ. وَقِيلَ: الْإِنْسَ وَالْجِنَّ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى،
ثُمَّ
اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا
كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إِخْوَةَ الْعَلَّاتِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ
وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، مَأْخُوذٌ مِنْ شُرْبِ الْعَلَلِ بَعْدَ النَّهَلِ،
وَأَمَّا إِخْوَةُ الْأَخْيَافِ فَعَكْسُ هَذَا أَنْ تَكُونَ أُمُّهُمْ وَاحِدَةً
مِنْ آبَاءٍ شَتَّى، وَإِخْوَةُ الْأَعْيَانِ فَهُمُ الْأَشِقَّاءُ مِنْ أَبٍ
وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَةٍ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا
تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ. وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُمْ لَا
يُورَثُونَ وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ الدُّنْيَا أَحْقَرُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ
تَكُونَ مُخَلَّفَةً عَنْهُمْ ; وَلِأَنَّ تَوَكُّلَهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، أَعْظَمُ وَأَشَدُّ وَآكَدُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجُوا
مَعَهُ إِلَى أَنْ يَتْرُكُوا لِوَرَثَتِهِمْ - مِنْ بَعْدِهِمْ - مَالًا
يَسْتَأْثِرُونَ بِهِ عَنِ النَّاسِ بَلْ يَكُونُ جَمِيعُ مَا تَرَكُوهُ صَدَقَةً
لِفُقَرَاءِ النَّاسِ وَمَحَاوِيجِهِمْ وَذَوِي خَلَّتِهِمْ.
وَسَنَذْكُرُ جَمِيعَ مَا يَخْتَصُّ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَعَ
خَصَائِصِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ كِتَابِ " الْأَحْكَامِ
الْكَبِيرِ " حَيْثُ ذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ اقْتِدَاءً
بِالْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ،
وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ انْتَهَيْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: بَيْنَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ إِذْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ إِذْ نَادَى مُنَادِيهِ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَبَنَا فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا دَلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لَهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَتْ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَإِنَّ آخِرَهَا سَيُصِيبُهَا بَلَاءٌ شَدِيدٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ فِتَنٌ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ. ثُمَّ تَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ، ثُمَّ تَنْكَشِفُ. فَمَنْ سَرَّهُ مِنْكُمْ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَوْتَتُهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ. وَمَنْ بَايَعَ
إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ. فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ. قَالَ فَأَدْخَلْتُ رَأْسِي مِنْ بَيْنِ النَّاسِ فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي قَالَ: فَقُلْتُ هَذَا ابْنُ عَمِّكَ - يَعْنِي مُعَاوِيَةَ - يَأْمُرُنَا بِأَكْلِ أَمْوَالِنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَأَنْ نَقْتُلَ أَنْفُسَنَا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [ الْبَقَرَةِ: 188 ] قَالَ: فَجَمَعَ يَدَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى جَبْهَتِهِ، ثُمَّ نَكَّسَ هُنَيَّةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَقَالَ فِيهِ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ خَيْرًا لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ مَا يَعْلَمُهُ شَرًّا لَهُمْ. وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِنَحْوِهِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طُرُقٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ.
ذِكْرُ أَخْبَارِ
الْعَرَبِ
قِيلَ: إِنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ
ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَالتَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ. وَالصَّحِيحُ
الْمَشْهُورُ أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ قَبْلَ إِسْمَاعِيلَ، وَقَدْ
قَدَّمْنَا أَنَّ الْعَرَبَ الْعَارِبَةَ مِنْهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ وَطَسْمٌ
وَجَدِيسٌ وَأَمِيمٌ وَجُرْهُمٌ وَالْعَمَالِيقُ، وَأُمَمٌ آخَرُونَ لَا
يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ. وَكُلُّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَبْلَ الْخَلِيلِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي زَمَانِهِ أَيْضًا فَأَمَّا الْعَرَبُ
الْمُسْتَعْرِبَةُ ; وَهُمْ عَرَبُ الْحِجَازِ فَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَأَمَّا عَرَبُ الْيَمَنِ ; وَهُمْ
حِمْيَرُ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ مِنْ قَحْطَانَ وَاسْمُهُ مُهَرِّمٌ. قَالَهُ
ابْنُ مَاكُولَا. وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ ; قَحْطَانُ
وَقَاحِطٌ وَمِقْحَطٌ وَفَالِغٌ وَقَحْطَانُ بْنُ هُودٍ، وَقِيلَ: هُوَ هُودٌ،
وَقِيلَ: هُودٌ أَخُوهُ، وَقِيلَ: مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ قَحْطَانَ
مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَكَاهُ ابْنُ
إِسْحَاقَ
وَغَيْرُهُ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هُوَ قَحْطَانُ بْنُ الْهَمَيْسَعِ بْنِ تَيْمَنَ بْنِ قَيْذَرَ بْنِ
نَبْتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ إِلَى
إِسْمَاعِيلَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ:
بَابُ نِسْبَةِ الْيَمَنِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَدَّثَنَا
مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا
سَلَمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَسْلَمَ يَتَنَاضَلُونَ بِالسُّوقِ
فَقَالَ: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ - لِأَحَدِ
الْفَرِيقَيْنِ - فَأَمْسَكُوا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ: مَا لَكُمْ ؟ ! قَالُوا:
وَكَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَ بَنِي فُلَانٍ ؟ فَقَالَ: ارْمُوا وَأَنَا
مَعَكُمْ كُلِّكُمْ. انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ
رَامِيًا. ارْمُوا وَأَنَا مَعَ ابْنِ الْأَدْرَعِ فَأَمْسَكَ الْقَوْمُ فَقَالَ:
ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَأَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى
بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ خُزَاعَةَ يَعْنِي: وَخُزَاعَةُ
فِرْقَةٌ مِمَّنْ كَانَ تَمَزَّقَ مِنْ قَبَائِلِ سَبَأٍ حِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَكَانَتِ الْأَوْسُ
وَالْخَزْرَجُ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ سُلَالَتِهِ،
وَتَأَوَّلَهُ آخَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جِنْسُ الْعَرَبِ،
لَكِنَّهُ تَأْوِيلٌ
بِعِيدٌ ; إِذْ
هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ بِلَا دَلِيلٍ، لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ
الْعَرَبَ الْقَحْطَانِيَّةَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ لَيْسُوا مِنْ
سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ جَمِيعَ الْعَرَبِ يَنْقَسِمُونَ
إِلَى قِسْمَيْنِ: قَحْطَانِيَّةٍ وَعَدْنَانِيَّةٍ فَالْقَحْطَانِيَّةُ شَعْبَانِ:
سَبَأٌ وَحَضْرَمَوْتُ وَالْعَدْنَانِيَّةُ شَعْبَانِ أَيْضًا: رَبِيعَةُ وَمُضَرُ
ابْنًا نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَالشَّعْبُ الْخَامِسُ وَهُمْ
قُضَاعَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهِمْ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ عَدْنَانِيُّونَ قَالَ ابْنُ
عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَابْنِ عُمَرَ وَجُبَيْرِ بْنِ مَطْعِمٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الزُّبَيْرِ بْنِ
بَكَّارٍ وَعَمِّهِ مُصْعَبِ الزُّبَيْرِيِّ، وَابْنِ هِشَامٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي
حَدِيثِ " قُضَاعَةَ بْنِ مَعَدٍّ "، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ قَالَهُ
ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَيُقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا فِي
جَاهِلِيَّتِهِمْ، وَصَدْرٍ مِنَ الْإِسْلَامِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى عَدْنَانَ
فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ كَانُوا
أَخْوَالَهُ انْتَسَبُوا إِلَى قَحْطَانَ فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَعْشَى بْنُ
ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
أَبْلِغْ قُضَاعَةَ فِي الْقِرْطَاسِ أَنَّهُمُ لَوْلَا خَلَائِفُ آلِ اللَّهِ مَا
عُتِقُوا قَالَتْ قُضَاعَةُ إِنَّا مِنْ ذَوِي يُمْنٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
بَرُّوا وَمَا صَدَقُوا
قَدِ ادَّعَوْا
وَالِدًا مَا نَالَ أُمَّهُمُ قَدْ يَعْلَمُونَ وَلَكِنْ ذَلِكَ الْفَرَقُ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو السُّهَيْلِيُّ أَيْضًا مِنْ شِعْرِ الْعَرَبِ، مَا
فِيهِ ابْدَاعٌ فِي تَفْسِيرِ قُضَاعَةَ فِي انْتِسَابِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ مِنْ قَحْطَانَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ
وَالْكَلْبِيِّ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ
قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ
قَحْطَانَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِهِمْ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ -
صَحَابِيٌّ لَهُ حَدِيثَانِ -
يَا أَيُّهَا الدَّاعِي ادْعُنَا وَأَبْشِرْ وَكُنْ قُضَاعِيًّا وَلَا تُنْزِرْ
نَحْنُ بَنُو الشَّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ قُضَاعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِمْيَرِ النَّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ
فِي الْحَجَرِ الْمَنْقُوشِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ النَّسَبِ هُوَ قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
مُرَّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حِمْيَرَ، وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ
سُوِيدٍ عَنْ أَبِي عُشَّانَةَ حَيِّ بْنِ يُومِنَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ
قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَا نَحْنُ مِنْ مَعَدٍّ ؟
قَالَ: لَا.
قُلْتُ: فَمِمَّنْ نَحْنُ ؟ قَالَ: أَنْتُمْ قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ
قَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ جُهَيْنَةَ
بْنَ زَيْدِ بْنِ سُودِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافَ بْنِ
قُضَاعَةَ، قَبِيلَةُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ ; فَعَلَى هَذَا
قُضَاعَةُ فِي الْيَمَنِ فِي حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ. وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ
بَيْنَ هَذَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِمَا ذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ
وَغَيْرُهُ; مِنْ أَنَّ قُضَاعَةَ امْرَأَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ تَزَوَّجَهَا مَالِكُ
بْنُ حِمْيَرَ فَوَلَدَتْ لَهُ قُضَاعَةَ، ثُمَّ خَلَّفَ عَلَيْهَا مَعَدُّ بْنُ
عَدْنَانَ - وَابْنُهَا صَغِيرٌ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ حَمْلًا -
فَنُسِبَ إِلَى زَوْجِ أُمِّهِ، كَمَا كَانَتْ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ
يَنْسُبُونَ الرَّجُلَ إِلَى زَوْجِ أُمِّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ الْبَصْرِيُّ النَّسَّابَةُ: الْعَرَبُ ثَلَاثَةُ
جَرَاثِيمَ ; الْعَدْنَانِيَّةُ وَالْقَحْطَانِيَّةُ وَقُضَاعَةُ. قِيلَ لَهُ:
فَأَيُّهُمَا أَكْثَرُ الْعَدْنَانِيَّةُ أَوِ الْقَحْطَانِيَّةُ ؟ فَقَالَ: مَا
شَاءَتْ قُضَاعَةُ إِنْ تَيَامَنَتْ فَالْقَحْطَانِيَّةُ أَكْثَرُ، وَإِنْ
تَمَعْدَدَتْ فَالْعَدْنَانِيَّةُ أَكْثَرُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ
يَتَلَوَّمُونَ فِي نَسَبِهِمْ،
فَإِنْ صَحَّ
حَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ الْمُقَدَّمُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ
الْقَحْطَانِيَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ [ الْحُجُرَاتِ: 13 ] قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ: يُقَالَ شُعُوبٌ،
ثُمَّ قَبَائِلُ، ثُمَّ عَمَائِرُ، ثُمَّ بُطُونٌ، ثُمَّ أَفْخَاذٌ، ثُمَّ
فَصَائِلُ، ثُمَّ عَشَائِرُ وَالْعَشِيرَةُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الرَّجُلِ،
وَلَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ. وَلْنَبْدَأْ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْقَحْطَانِيَّةِ،
ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَهُمْ عَرَبَ الْحِجَازِ وَهُمُ الْعَدْنَانِيَّةُ وَمَا
كَانَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِسِيرَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ
الثِّقَةُ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابُ ذِكْرِ قَحْطَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ
عَنْ أَبِي الْغَيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ
قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ
عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ بِهِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
وَقَحْطَانُ أَوَّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ: أَبَيْتَ اللَّعْنَ، وَأَوَّلُ مَنْ قِيلَ
لَهُ: أَنْعِمْ صَبَاحًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَنْ حَرِيزٍ حَدَّثَنِي رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ الْمَقْرَائِيُّ عَنْ أَبِي حَيٍّ عَنْ ذِي مِخْبَرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حِمْيَرَ فَنَزْعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُ فِي قُرَيْشٍ ( و س ي ع و د إ ل ي ه م قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكَذَا كَانَ فِي كِتَابِ أَبِي مُقَطَّعٌ، وَحَيْثُ حَدَّثَنَا بِهِ تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى الِاسْتِوَاءِ يَعْنِي: " وَسَيَعُودُ إِلَيْهِمْ ".
قِصَّةُ سَبَأٍ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ
عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ
طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا
وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى
الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا
فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَفَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ
أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ
وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِ صَبَّارٍ
شَكُورٍ. [ سَبَأٍ: 15 - 19 ]
قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْمُ سَبَأٍ ;
عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ، قَالُوا: وَكَانَ
أَوَّلَ مَنْ سَبَى فِي الْعَرَبِ فَسُمِّي سَبَأً لِذَلِكَ وَكَانَ يُقَالَ لَهُ:
الرَّائِشُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطِي النَّاسَ الْأَمْوَالَ مِنْ مَتَاعِهِ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُقَالَ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَتَوَّجَ. وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَكَانَ لَهُ شِعْرٌ بَشَّرَ فِيهِ بِوُجُودِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظِيمًا نَبِيٌّ لَا يُرَخِّصُ فِي الْحَرَامِ
وَيَمْلِكُ
بَعْدَهُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ يَدِينُونَ الْعِبَادَ بِغَيْرِ ذَامِ
وَيَمْلِكُ بَعْدَهُمْ مِنَّا مُلُوكٌ يَصِيرُ الْمُلْكُ فِينَا بِاقْتِسَامِ
وَيَمْلِكُ بَعْدَ قَحْطَانٍ نَبِيٌّ تَقِيٌّ خَبْتَةٌ خَيْرُ الْأَنَامِ يُسَمَّى
أَحْمَدًا يَا لَيْتَ أَنِّي
أُعَمَّرُ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِعَامِ فَأَعْضُدُهُ وَأَحْبُوهُ بِنَصْرِي بِكُلِّ
مُدَجَّجٍ وَبِكُلِّ رَامِ مَتَى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصِرِيهِ
وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلِغْهُ سَلَامِي
حَكَاهُ ابْنُ دِحْيَةَ فِي كِتَابِهِ " التَّنْوِيرِ فِي مَوْلِدِ
الْبَشِيرِ النَّذِيرِ ".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا
ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ السَّبَائِيُّ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلَةَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ يَقُولُ:
إِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَأٍ
مَا هُوَ ؟ أَرْجُلٌ أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ رَجُلٌ وَلَدَ
عَشَرَةً ; فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَبِالشَّامِ مِنْهُمْ
أَرْبَعَةٌ فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ ; فَمَذْحِجٌ وَكِنْدَةُ وَالْأَزْدُ
وَالْأَشْعَرِيُّونَ وَأَنْمَارٌ وَحِمْيَرُ، وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ ; فَلَخْمٌ
وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ
فَرْوَةَ بْنَ
مُسَيْكٍ الْغُطَيْفِيَّ هُوَ السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا اسْتَقْصَيْنَا
طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَلْفَاظَهُنَّ هُنَاكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَبَأً يَجْمَعُ هَذِهِ الْقَبَائِلَ كُلَّهَا، وَقَدْ كَانَ
فِيهِمُ التَّبَابِعَةُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَاحِدُهُمْ تُبَّعٌ وَكَانَ
لِمُلُوكِهِمْ تِيجَانٌ يَلْبَسُونَهَا وَقْتَ الْحُكْمِ، كَمَا كَانَتِ
الْأَكَاسِرَةُ مُلُوكُ الْفُرْسِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ
تُسَمِّي كُلَّ مَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ مَعَ الشِّحْرِ وَحَضْرَمَوْتَ تُبَّعًا،
كَمَا يُسَمُّونَ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ الْجَزِيرَةِ قَيْصَرَ، وَمَنْ مَلَكَ
الْفُرْسَ كِسْرَى، وَمَنْ مَلَكَ مِصْرَ فِرْعَوْنَ، وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ
النَّجَاشِيَّ، وَمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ
مُلُوكِ حِمْيَرَ بِأَرْضِ الْيَمَنِ بِلْقِيسُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّتَهَا
مَعَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ
وَأَرْزَاقٍ دَارَّةٍ وَثِمَارٍ وَزُرُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ عَلَى
الِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ وَطَرِيقِ الرَّشَادِ فَلَمَّا بَدَّلُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ كُفْرًا ; أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَرْسَلَ اللَّهُ
إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا، وَزَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُ أَرْسَلَ
إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ
أَنَّهُمْ لَمَّا عَدَلُوا عَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، وَسَجَدُوا لِلشَّمْسِ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ بِلْقِيسَ وَقَبْلَهَا أَيْضًا،
وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِمْ حَتَّى أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ
الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ
وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا
وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ.
ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ
وَغَيْرِهِمْ أَنَّ سَدَّ مَأْرِبَ كَانَ صَنْعَتَهُ ; أَنَّ الْمِيَاهَ تَجْرِي
مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ فَعَمَدُوا فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ فَسَدُّوا مَا
بَيْنَهُمَا بِبَنَاءٍ مُحْكَمٍ جِدًّا حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ فَحَكَمَ عَلَى
أَعَالِي الْجَبَلَيْنِ، وَغَرَسُوا فِيهِمَا الْبَسَاتِينَ وَالْأَشْجَارَ
الْمُثْمِرَةَ الْأَنِيقَةَ، وَزَرَعُوا الزُّرُوعَ الْكَثِيرَةَ. وَيُقَالَ كَانَ
أَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ سَبَأَ بْنَ يَعْرُبَ، وَسَلَّطَ إِلَيْهِ سَبْعِينَ
وَادِيًا يَفِدُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ فُرْضَةً يَخْرُجُ مِنْهَا
الْمَاءُ، وَمَاتَ وَلَمْ يَكْمُلْ بِنَاؤُهُ فَكَمَّلَتْهُ حِمْيَرُ بَعْدَهُ
وَكَانَ اتِّسَاعُهُ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ كَانُوا فِي غِبْطَةٍ عَظِيمَةٍ
وَعَيْشٍ رَغِيدٍ وَأَيَّامٍ طَيِّبَةٍ حَتَّى ذَكَرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ أَنَّ
الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمُرُّ بِالْمِكْتَلِ عَلَى رَأْسِهَا فَيَمْتَلِئُ مِنَ
الثِّمَارِ مَا يَتَسَاقَطُ فِيهِ مِنْ نُضْجِهِ وَكَثْرَتِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ
لَمْ يَكُنْ فِي بِلَادِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْبَرَاغِيثِ وَلَا الدَّوَابِّ
الْمُؤْذِيَةِ لِصِحَّةِ هَوَائِهِمْ وَطِيبِ فِنَائِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى
لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ
كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ
غَفُورٌ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. [ إِبْرَاهِيمَ:
7 ]
فَلَمَّا عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ، وَبَطَرُوا نِعْمَتَهُ، وَسَأَلُوا بَعْدَ تَقَارُبِ مَا بَيْنَ قُرَاهُمْ، وَطِيبِ مَا بَيْنَهَا مِنَ الْبَسَاتِينِ، وَأَمْنِ الطُّرُقَاتِ سَأَلُوا أَنْ يُبَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ سَفَرُهُمْ فِي مَشَاقٍّ وَتَعَبٍ، وَطَلَبُوا أَنْ يُبَدَّلُوا بِالْخَيْرِ شَرًّا، كَمَا سَأَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَدَلَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى الْبُقُولَ ; وَالْقِثَّاءَ وَالْفُومَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ فَسُلِبُوا تِلْكَ النِّعْمَةَ الْعَظِيمَةَ وَالْحَسَنَةَ الْعَمِيمَةَ بِتَخْرِيبِ الْبِلَادِ وَالشَّتَاتِ عَلَى وُجُوهِ الْعِبَادِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَصْلِ السَّدِّ الْفَارَ وَهُوَ الْجُرَذُ، وَيُقَالَ: الْخُلْدُ. فَلَمَّا فَطِنُوا لِذَلِكَ أَرْصَدُوا عِنْدَهَا السَّنَانِيرَ فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا إِذْ قَدْ حُمَّ الْقَدَرُ، وَلَمْ يَنْفَعِ الْحَذَرُ كَلَّا لَا وَزَرَ فَلَمَّا تَحَكَّمَ فِي أَصْلِهِ الْفَسَادُ سَقَطَ وَانْهَارَ فَسَلَكَ الْمَاءُ الْقَرَارَ فَقُطِعَتْ تِلْكَ الْجَدَاوِلُ وَالْأَنْهَارُ، وَانْقَطَعَتْ تِلْكَ الثِّمَارُ، وَبَادَتْ تِلْكَ الزُّرُوعُ وَالْأَشْجَارُ، وَتَبَدَّلُوا بَعْدَهَا بِرَدِيءِ الْأَشْجَارِ وَالْأَثْمَارِ كَمَا قَالَ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هُوَ الْأَرَاكُ وَثَمَرُهُ الْبَرِيرُ، وَأَثْلٍ وَهُوَ الطَّرْفَاءُ،
وَقِيلَ:
يُشْبِهُهُ وَهُوَ حَطَبٌ لَا ثَمَرَ لَهُ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ يُثْمِرُ النَّبْقُ كَانَ قَلِيلًا مَعَ أَنَّهُ ذُو
شَوْكٍ كَثِيرٍ، وَثَمَرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالَ فِي الْمَثَلِ:
لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلَ فَيُرْتَقَى وَلَا
سَمِينَ فَيُنْتَقَى; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا
كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ أَيْ: إِنَّمَا نُعَاقِبُ هَذِهِ
الْعُقُوبَةَ الشَّدِيدَةَ مَنْ كَفَرَ بِنَا وَكَذَّبَ رُسُلَنَا، وَخَالَفَ
أَمْرَنَا، وَانْتَهَكَ مَحَارِمَنَا، وَقَالَ تَعَالَى فَجَعَلْنَاهُمْ
أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا هَلَكَتْ
أَمْوَالُهُمْ، وَخَرِبَتْ بِلَادُهُمُ احْتَاجُوا أَنْ يَرْتَحِلُوا مِنْهَا،
وَيَنْتَقِلُوا عَنْهَا فَتَفَرَّقُوا فِي غَوْرِ الْبِلَادِ وَنَجْدِهَا ;
أَيْدِيَ سَبَأٍ شَذَرَ مَذَرَ فَنَزَلَتْ طَوَائِفُ مِنْهُمُ الْحِجَازَ، وَهُمْ
خُزَاعَةُ نَزَلُوا ظَاهِرِ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ،
وَمِنْهُمُ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ الْيَوْمَ فَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ
سَكَنَهَا، ثُمَّ نَزَلَتْ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ قَبَائِلَ مِنَ الْيَهُودِ; بَنُو
قَيْنُقَاعَ، وَبَنُو قُرَيْظَةَ، وَبَنُو النَّضِيرِ فَحَالَفُوا الْأَوْسَ
وَالْخَزْرَجَ وَأَقَامُوا عِنْدَهُمْ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ،
وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْهُمُ الشَّامَ، وَهُمُ الَّذِينَ تَنَصَّرُوا
فِيمَا بَعْدُ، وَهُمْ غَسَّانُ وَعَامِلَةُ وَبَهْرَاءُ وَلَخْمٌ وَجُذَامٌ
وَتَنُوخُ وَتَغْلِبُ وَغَيْرُهُمْ، وَسَنَذْكُرُهُمْ عِنْدَ ذِكْرِ فُتُوحِ
الشَّامِ فِي زَمَنِ الشَّيْخَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ
الْأَعْشَى بْنُ قَيْسِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ
وَهُوَ مَيْمُونُ بْنُ قَيْسٍ
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ وَمَأْرِبُ عَفَّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرُ إِذَا جَاءَ مَوَّارُهُ لَمْ يَرِمْ فَأَرْوَى
الزُّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا
عَلَى سَعَةٍ مَاؤُهُمْ إِذْ قُسِمْ فَصَارُوا أَيَادِيَ لَا يَقْدِرُو
نَ مِنْهُ عَلَى شُرْبِ طِفْلٍ فُطِمْ
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ " السِّيرَةِ "
أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْيَمَنِ قَبْلَ سَيْلِ الْعَرِمِ عَمْرُو بْنُ
عَامِرٍ اللَّخْمِيُّ، وَلَخْمٌ هُوَ ابْنُ عَدِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرَّةَ
بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ هَمَيْسَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ
بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالُ: لَخْمُ بْنُ عَدِيِّ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَبَأٍ قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ سَبَبُ
خُرُوجِهِ مِنَ الْيَمَنِ فِيمَا حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ
رَأَى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدِّ مَأْرِبَ الَّذِي كَانَ يَحْبِسُ
عَلَيْهِمُ
الْمَاءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ أَرْضِهِمْ فَعَلِمَ أَنَّهُ لَا
بَقَاءَ لِلسَّدِّ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَزَمَ عَلَى النَّقَلَةِ عَنِ الْيَمَنِ
فَكَادَ قَوْمَهُ فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إِذَا أَغْلَظَ عَلَيْهِ وَلَطَمَهُ،
أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَالَ
عَمْرٌو: لَا أُقِيمُ بِبَلَدٍ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ أَصْغَرُ وَلَدِي، وَعَرَضَ
أَمْوَالَهُ فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ: اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ
عَمْرٍو فَاشْتَرُوا مِنْهُ أَمْوَالَهُ. وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ
وَلَدِهِ وَقَالَتِ الْأَزْدُ: لَا نَتَخَلَّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ وَخَرَجُوا مَعَهُ فَسَارُوا حَتَّى نَزَلُوا بِلَادَ
عَكٍّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ فَحَارَبَتْهُمْ عَكٌّ فَكَانَتْ
حَرْبُهُمْ سِجَالًا فَفِي ذَلِكَ قَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
وَعَكُّ بْنُ عَدْنَانَ الَّذِينَ تَلَعَّبُوا بِغَسَّانَ حَتَّى طُرِّدُوا كُلَّ
مَطْرَدِ
قَالَ: فَارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَنَزَلَ آلُ
جَفْنَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشَّامَ، وَنَزَلَ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ
يَثْرِبَ، وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرًّا، وَنَزَلَتْ أَزْدُ السَّرَاةِ السَّرَاةَ،
وَنَزَلَتْ أُزْدُ عُمَانَ عُمَانَ، ثُمَّ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى
السَّدِّ السَّيْلَ فَهَدَمَهُ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ كَانَ كَاهِنًا،
وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَتِ امْرَأَتُهُ طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيَّةُ كَاهِنَةً فَأُخْبِرَتْ بِقُرْبِ هَلَاكِ بِلَادِهِمْ، وَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا شَاهِدَ ذَلِكَ فِي الْفَأْرِ الَّذِي سُلِّطَ عَلَى سَدِّهِمْ فَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ قِصَّتَهُ مُطَوِّلَةً عَنْ عِكْرِمَةَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي " التَّفْسِيرِ ".
فَصْلٌ
وَلَيْسَ جَمِيعُ سَبَأٍ خَرَجُوا مِنَ الْيَمَنِ لَمَّا أُصِيبُوا بِسَيْلِ
الْعَرِمِ بَلْ أَقَامَ أَكْثَرُهُمْ بِهَا، وَذَهَبَ أَهْلُ مَأْرِبٍ الَّذِينَ
كَانَ لَهُمُ السَّدُّ فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ قَبَائِلِ سَبَأٍ لَمْ يَخْرُجُوا
مِنَ الْيَمَنِ بَلْ إِنَّمَا تَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَبَقِيَ
بِالْيَمَنِ سِتَّةٌ، وَهُمْ مَذْحِجٌ وَكِنْدَةُ وَأَنْمَارٌ
وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارٌ هُوَ أَبُو خَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ وَحِمْيَرُ
فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قَبَائِلَ مِنْ سَبَأٍ أَقَامُوا بِالْيَمَنِ، وَاسْتَمَرَّ
فِيهِمُ الْمُلْكُ وَالتَّبَابِعَةُ حَتَّى سَلَبَهُمْ ذَلِكَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ
بِالْجَيْشِ الَّذِي بَعَثَهُ صُحْبَةَ أَمِيرَيْهِ أَبْرَهَةَ وَأَرْيَاطَ،
نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ اسْتَرْجَعَهُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ
الْحِمْيَرِيُّ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَلِيلٍ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ مُفَصَّلًا قَرِيبًا إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ. ثُمَّ أَرْسَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ
عَلِيًّا وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ وَمُعَاذَ
بْنَ جَبَلٍ كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُبَيِّنُونَ لَهُمُ
الْحُجَجَ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَى الْيَمَنِ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ، وَأَخْرَجَ
نُوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا فَلَمَّا
قُتِلَ الْأَسْوَدُ اسْتَقَرَّتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا فِي
أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَنُبَيِّنُ ذَلِكَ
بَعْدَ الْبَعْثَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قِصَّةُ رَبِيعَةَ
بْنِ نَصْرِ
بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ
اللَّخْمِيُّ
كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَنُسَابُّ الْيَمَنِ
تَقُولُ: نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: رَبِيعَةُ بْنُ
نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَعْوَذِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَجْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ، وَلَخْمٌ أَخُو جُذَامٍ، وَسُمِّي لَخْمًا ; لِأَنَّهُ
لَخَمَ أَخَاهُ أَيْ: لَطَمَهُ فَعَضَّهُ الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَجَذَمَهَا
فَسُمِّيَ جُذَامًا وَكَانَ رَبِيعَةُ أَحَدَ مُلُوكِ حِمْيَرَ التَّبَابِعَةِ،
وَخَبَرُهُ مَعَ شِقٍّ وَسَطِيحٍ الْكَاهِنَيْنِ، وَإِنْذَارُهُمَا بِوُجُودِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا سَطِيحٌ فَاسْمُهُ
رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيِّ
بْنِ مَازِنِ بْنِ غَسَّانَ، وَأَمَّا شِقٌّ فَهُوَ ابْنُ صَعْبِ بْنِ يَشْكُرَ
بْنِ رُهْمِ بْنِ أَفْرَكَ بْنِ قَسْرِ
بْنِ عَبْقَرَ بْنِ
أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنْمَارُ بْنُ أَرَاشِ بْنِ
لَحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالَ: إِنَّ سَطِيحًا كَانَ لَا أَعْضَاءَ لَهُ،
وَإِنَّمَا كَانَ مِثْلَ السَّطِيحَةِ، وَوَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ وَكَانَ إِذَا
غَضِبَ انْتَفَخَ وَجَلَسَ وَكَانَ شِقٌّ نِصْفُ إِنْسَانٍ، وَيُقَالَ: إِنَّ
خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَسْرِيِّ كَانَ سُلَالَتَهُ، وَذَكَرَ
السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُمَا وُلِدَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ
مَاتَتْ طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيَّةُ، وَيُقَالَ: إِنَّهَا
تَفَلَتْ فِي فَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَوَرِثَ الْكِهَانَةَ عَنْهَا، وَهِيَ
امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكَ الْيَمَنِ
بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التَّبَابِعَةِ فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ وَفَظِعَ
بِهَا فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجِّمًا
مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إِلَّا جَمَعَهُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ
رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي، وَفَظِعْتُ بِهَا فَأَخْبَرُونِي بِهَا،
وَبِتَأْوِيلِهَا فَقَالُوا: اقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا
فَقَالَ: إِنِّي إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ
بِتَأْوِيلِهَا; لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا
قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: فَإِنَّ كَانَ
الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إِلَى شِقٍّ وَسَطِيحٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ
أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ فَبَعَثَ
إِلَيْهِمَا فَقَدِمَ إِلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ
رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا فَأَخْبِرْنِي بِهَا فَإِنَّكَ إِنْ
أَصَبْتَهَا أَصَبْتَ
تَأْوِيلَهَا فَقَالَ: أَفْعَلُ. رَأَيْتَ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ فَوَقَعَتْ بِأَرْضٍ تَهَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحُ فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا ؟ قَالَ: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ حَنَشٍ لَتَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمُ الْحَبَشُ فَلْيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى جُرَشَ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا سَطِيحُ إِنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي أَمْ بَعْدَهُ ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ بَعْدَهُ بِحِينٍ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ أَوْ سَبْعَيْنَ يَمْضِينَ مِنَ السِّنِينَ قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعٍ وَسَبْعِينَ مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ يُقْتَلُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ قَالَ: وَمَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ. قَالَ: يَلِيَهُمْ إِرَمُ ذِي يَزَنَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ فَلَا يَتْرُكُ مِنْهُمْ أَحَدًا بِالْيَمَنِ قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ قَالَ: وَمَنْ يَقْطَعُهُ قَالَ: نَبِيٌّ زَكِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ قَالَ: وَمِمَّنْ هَذَا النَّبِيُّ ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ يَوْمَ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ، يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ. قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالشَّفَقِ وَالْغَسَقِ وَالْفَلَقِ إِذَا
اتَّسَقَ إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ. قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحٍ، وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ ; لِيَنْظُرَ أَيَتَّفِقَانِ أَمْ يَخْتَلِفَانِ، قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتَ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا، وَأَنَّ قَوْلَهُمَا وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ سَطِيحًا قَالَ وَقَعَتْ بِأَرْضٍ تَهَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ، وَقَالَ شِقٌّ: وَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا أَخْطَأْتَ يَا شِقُّ مِنْهَا شَيْئًا فَمَا عِنْدَكَ فِي تَأْوِيلِهَا ؟ فَقَالَ: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ إِنْسَانٍ، لَيَنْزِلَنَّ أَرْضِكُمُ السُّودَانُ فَلْيَغْلِبُنَّ عَلَى كُلِّ طَفْلَةِ الْبَنَانِ، وَلِيَمْلِكُنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى نَجْرَانَ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا شِقُّ إِنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أَفِي زَمَانِي أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ: لَا بَلْ بَعْدَهُ بِزَمَانٍ، ثُمَّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَانٍ، وَيُذِيقُهُمْ أَشَدَّ الْهَوَانِ قَالَ: وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشَّانِ ؟ قَالَ: غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيٍّ وَلَا مُدَنٍّ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ قَالَ: أَفَيَدُومُ سُلْطَانُهُ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ قَالَ: وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ ؟ قَالَ: يَوْمَ تُجْزَى فِيهِ الْوُلَاةُ يُدْعَى فِيهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدَعَوَاتٍ، يَسْمَعُ مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتُ، وَيُجْمَعُ النَّاسُ فِيهِ لِلْمِيقَاتِ، يَكُونُ فِيهِ لِمَنِ اتَّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتُ قَالَ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ: إِي وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ مَا فِيهِ أَمْضٌ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا فَجَهَّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ: سَابُورُ بْنُ خُرَّزَاذَ فَأَسْكَنَهُمُ الْحِيرَةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ يَعْنِي الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى الْحِيرَةِ لِمُلُوكِ الْأَكَاسِرَةِ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَفِدُ إِلَيْهِ، وَتَمْتَدِحُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ سُلَالَةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ قَالَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا جِيءَ بِسَيْفِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ سَأَلَ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ عَنْهُ مِمَّنْ كَانَ ؟ فَقَالَ: مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قِصَّةُ تُبَّعٍ
أَبِي كَرِبٍ
تُبَّانِ أَسْعَدَ مَلِكِ الْيَمَنِ
مَعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَيْفَ
أَرَادَ غَزْوَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ، ثُمَّ شَرَّفَهُ
وَعَظَّمَهُ وَكَسَاهُ الْحُلَلَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَسَاهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ مُلْكُ
الْيَمَنِ كُلِّهِ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبٍ، وَتُبَّانُ
أَسْعَدَ تُبَّعٌ الْآخِرُ ابْنُ كُلْكِيكَرِبَ بْنِ زَيْدٍ، وَزَيْدٌ تُبَّعٌ
الْأَوَّلُ ابْنُ عَمْرٍو ذِي الْأَذْعَارِ بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ
الرَّائِشِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبٍ -
كَهْفِ الظُّلَمِ - بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ
قَطَنِ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ
الْعَرَنْجَجِ وَالْعَرَنْجَجُ هُوَ حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَكْبَرُ بْنُ
يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ:
سَبَأُ بْنُ يَشْجُبُ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ.
قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: وَتُبَّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبٍ هُوَ الَّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ،
وَسَاقَ الْحَبْرَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى الْيَمَنِ، وَعَمَّرَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ، وَكَسَاهُ وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ
وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقُهُ حِينَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ
عَلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ قَدْ مَرَّ بِهَا فِي بُدَأَتِهِ فَلَمْ يُهِجْ
أَهْلَهَا، وَخَلَّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمُ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً
فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا، وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا، وَقَطْعِ
نَخْلِهَا فَجَمَعَ لَهُ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو
بْنُ طَلَّةَ أَخُو بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ
مَبْذُولٍ، وَاسْمُ مَبْذُولٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَاسْمُ
النَّجَّارِ تَيْمُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ
حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ عَمْرُو بْنُ طَلْحَةَ هُوَ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَطَلَّةُ أُمُّهُ وَهِيَ
بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ الْخَزْرَجِيَّةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ
يُقَالَ لَهُ: أَحْمَرُ عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبَّعٍ وَجَدَهُ
يَجُدُّ عَذْقًا لَهُ فَضَرَبَهُ بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا
التَّمْرُ لِمَنْ أَبَّرَهُ فَزَادَ ذَلِكَ تُبَّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ
فَاقْتَتَلُوا فَتَزْعُمُ
الْأَنْصَارُ
أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنَّهَارِ وَيُقْرُونَهُ بِاللَّيْلِ
فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنَّ قَوْمَنَا لِكِرَامٌ،
وَحَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَنْصَارِ أَنَّ تُبَّعًا إِنَّمَا كَانَ
حَنَقُهُ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُمْ مِنْهُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُقَالُ إِنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ
- أَبْنَاءِ عَمِّهِ - عَلَى الْيَهُودِ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَهُمْ فِي
الْمَدِينَةِ عَلَى شُرُوطٍ فَلَمْ يَفُوا بِهَا، وَاسْتَطَالُوا عَلَيْهِمْ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَيْنَا تُبَّعُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ إِذْ
جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ عَالِمَانِ
رَاسِخَانِ حِينَ سَمِعَا بِمَا يُرِيدُ مِنْ إِهْلَاكِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا
فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا
مَا تُرِيدُ حِيَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْكَ عَاجِلَ
الْعُقُوبَةِ فَقَالَ لَهُمَا: وَلِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَا: هِيَ مُهَاجَرُ نَبِيٍّ
يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ تَكُونُ
دَارَهُ وَقَرَارَهُ فَتَنَاهَى وَرَأَى أَنَّ لَهُمَا عِلْمًا، وَأَعْجَبَهُ مَا
سَمِعَ مِنْهُمَا فَانْصَرَفَ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَاتَّبَعَهُمَا عَلَى
دِينِهِمَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ تُبَّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابَ
أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا فَتَوَجَّهَ إِلَى مَكَّةَ، وَهِيَ طَرِيقُهُ إِلَى
الْيَمَنِ حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجٍ، أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ
هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرِ بْنِ
نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ أَلَا نَدُلُّكَ عَلَى بَيْتِ مَالٍ دَاثِرٍ أَغْفَلَتْهُ الْمُلُوكُ قَبْلَكَ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ وَالزَّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ؟ قَالَ: بَلَى قَالُوا بَيْتٌ بِمَكَّةَ ; يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ وَيُصَلُّونَ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْهُذَلِيُّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ لَمَّا عَرَفُوا مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ مِنَ الْمُلُوكِ وَبَغَا عِنْدَهُ فَلَمَّا أَجْمَعَ لِمَا قَالُوا أَرْسَلَ إِلَى الْحَبْرَيْنِ فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا لَهُ مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إِلَّا هَلَاكَكَ، وَهَلَاكَ جُنْدَكَ مَا نَعْلَمُ بَيْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ، وَلَئِنْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ إِلَيْهِ لَتَهْلِكَنَّ، وَلَيَهْلِكَنَّ مَنْ مَعَكَ جَمِيعًا فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إِذَا أَنَا قَدِمْتُ عَلَيْهِ ؟ قَالَا: تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ، وَتَحْلِقُ رَأْسَكَ عِنْدَهُ، وَتَذِلُّ لَهُ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَا: أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهُ لَبَيْتُ أَبِينَا ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّهُ لَكَمَا أَخْبَرْنَاكَ، وَلَكِنَّ أَهْلَهُ حَالُوا بَيْنَنَا، وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ، وَبِالدِّمَاءِ الَّتِي يُهْرِيقُونَ عِنْدَهُ، وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ أَوْ كَمَا قَالَا لَهُ فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصِدْقَ حَدِيثِهِمَا، وَقَرَّبَ النَّفَرَ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَنَحَرَ عِنْدَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَقَامَ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَيَّامٍ فِيمَا يَذْكُرُونَ يَنْحَرُ بِهَا لِلنَّاسِ، وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا، وَيَسْقِيَهُمُ الْعَسَلَ، وَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ فَكَسَاهُ الْخَصَفَ، ثُمَّ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمَعَافِرَ، ثُمَّ
أُرِيَ أَنْ
يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ فَكَانَ
تُبَّعٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَوَّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ، وَأَوْصَى بِهِ
وُلَاتَهُ مِنْ جُرْهُمٍ وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ، وَأَنْ لَا يُقَرِّبُوهُ
دَمًا وَلَا مَيْتَةً وَلَا مِئْلَاةً وَهِيَ الْمَحَايِضُ، وَجَعَلَ لَهُ بَابًا،
وَمِفْتَاحًا فَفِي ذَلِكَ قَالَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْأَحَبِّ - تُذَكِّرُ
ابْنَهَا خَالِدَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ
مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبٍ، وَتَنْهَاهُ عَنِ الْبَغْيِ
بِمَكَّةَ، وَتَذْكُرُ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ تُبَّعٍ فِيهَا -:
أَبُنَيَّ لَا تَظْلِمْ بِمَكَّةَ لَا الصَّغِيرَ وَلَا الْكَبِيرْ وَاحْفَظْ
مَحَارِمَهَا بُنَيَّ وَلَا يَغُرَّنَّكَ الْغَرُورْ أَبُنَيَّ مَنْ يَظْلِمْ
بِمَكَّةَ يَلْقَ أَطْرَافَ الشُّرُورْ أَبُنَيَّ يُضْرَبُ وَجْهُهُ وَيَلُحْ
بِخَدَّيْهِ السَّعِيرْ أَبُنَيَّ قَدْ جَرَّبْتُهَا فَوَجَدْتُ ظَالِمَهَا
يَبُورْ اللَّهُ أَمَّنَهَا وَمَا بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصُورْ
وَاللَّهُ أَمَّنَ طَيْرَهَا وَالْعُصْمُ تَأْمَنُ فِي ثَبِيرْ وَلَقَدْ غَزَاهَا
تُبَّعٌ فَكَسَا بُنَيَّتَهَا الْحَبِيرْ وَأَذَلَّ رَبِّي مُلْكَهُ فِيهَا
فَأَوْفَى بِالنُّذُورْ
يَمْشِي إِلَيْهَا
حَافِيًا بِفِنَائِهَا أَلْفَا بَعِيرْ
وَيَظَلُّ يُطْعِمُ أَهْلَهَا لْحَمَ الْمَهَارَى وَالْجَزُورْ يَسْقِيهُمُ
الْعَسَلَ الْمُصَفَّى وَالرَّحِيضَ مِنَ الشَّعِيرْ وَالْفِيلُ أُهْلِكَ جَيْشُهُ
يُرْمَوْنَ فِيهَا بِالصُّخُورْ وَالْمُلْكُ فِي أَقْصَى الْبِلَادِ وَفِي
الْأَعَاجِمِ وَالْخَزِيرْ
فَاسْمَعْ إِذَا حُدِّثْتَ وَافْهَمْ كَيْفَ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ تُبَّعٌ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْيَمَنِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ
جُنُودِهِ، وَبِالْحَبْرَيْنِ حَتَّى إِذَا دَخَلَ الْيَمَنَ دَعَا قَوْمَهُ إِلَى
الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتَّى يُحَاكِمُوهُ إِلَى
النَّارِ الَّتِي كَانَتْ بِالْيَمَنِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبُو
مَالِكِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ الْقُرَظِيُّ قَالَ سَمِعْتُ
ابْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّ
تُبَّعًا لَمَّا دَنَا مِنَ الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَقَالُوا: لَا تَدْخُلْهَا عَلَيْنَا، وَقَدْ فَارَقْتَ
دِينَنَا فَدَعَاهُمْ إِلَى دِينِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ
قَالُوا: فَحَاكِمْنَا إِلَى النَّارِ ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَكَانَتْ
بِالْيَمَنِ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَأْكُلُ الظَّالِمَ وَلَا تَضُرُّ الْمَظْلُومَ فَخَرَجَ
قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ فِي
دِينِهِمْ،
وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا مُتَقَلِّدِيهَا
حَتَّى قَعَدُوا لِلنَّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الَّذِي تَخْرُجُ مِنْهُ فَخَرَجَتِ
النَّارُ إِلَيْهِمْ فَلَمَّا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حَادُوا عَنْهَا وَهَابُوهَا
فَذَمَرَهُمْ مَنْ حَضَرَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَرُوهُمْ بِالصَّبْرِ لَهَا
فَصَبَرُوا حَتَّى غَشِيَتْهُمْ فَأَكَلَتِ الْأَوْثَانَ وَمَا قَرَّبُوا مَعَهَا،
وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ رِجَالِ حِمْيَرَ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ
بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا وَلَمْ تَضُرَّهُمَا
فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِ فَمِنْ هُنَالِكَ وَعَنْ
ذَلِكَ كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيَّةِ بِالْيَمَنِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ أَنَّ الْحَبْرَيْنِ، وَمَنْ
خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ إِنَّمَا اتَّبَعُوا النَّارَ لِيَرُدُّوهَا، وَقَالُوا:
مَنْ رَدَّهَا فَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقِّ فَدَنَا مِنْهَا رِجَالُ حِمْيَرَ
بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدُّوهَا فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ فَحَادُوا
عَنْهَا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رَدَّهَا، وَدَنَا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ
ذَلِكَ، وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التَّوْرَاةَ، وَتَنْكِصُ عَنْهُمَا حَتَّى
رَدَّاهَا إِلَى مَخْرَجِهَا الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ
حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رِئَامٌ بَيْتًا لَهُمْ يُعَظِّمُونَهُ،
وَيَنْحَرُونَ عِنْدَهُ،
وَيُكَلَّمُونَ
فِيهِ إِذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ. فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُّبَّعٍ: إِنَّمَا
هُوَ شَيْطَانٌ يَفْتِنُهُمْ بِذَلِكَ فَخَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَالَ:
فَشَأْنُكُمَا بِهِ. فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ
كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ، ثُمَّ هَدَمَا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَبَقَايَاهُ
الْيَوْمَ كَمَا ذُكِرَ لِي بِهَا آثَارُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ تُهْرَاقُ
عَلَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " التَّفْسِيرِ " الْحَدِيثَ الَّذِي
وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( لَا تَسُبُّوا
تُبَّعًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ..
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا
تَسُبُّوا أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيَّ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ..
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ قَالَ تُّبَّعٌ حِينَ أَخْبَرَهُ الْحَبْرَانِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْرًا:
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بَارِي النَّسَمْ فَلَوْ
مُدَّ عُمْرِي إِلَى عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزِيرًا لَهُ وَابْنَ عَمْ وَجَاهَدْتُ
بِالسَّيْفِ أَعْدَاءَهُ وَفَرَّجْتُ عَنْ صَدْرِهِ كُلَّ هَمْ قَالَ: وَلَمْ
يَزَلْ هَذَا الشِّعْرُ تَتَوَارَثُهُ الْأَنْصَارُ وَيَحْفَظُونَهُ بَيْنَهُمْ
وَكَانَ عِنْدَ أَبِي
أَيُّوبَ
الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَرْضَاهُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ:
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " الْقُبُورِ " أَنَّ
قَبْرًا حُفِرَ بِصَنْعَاءَ فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا لَوْحٌ مِنْ
فِضَّةٍ مَكْتُوبٌ بِالذَّهَبِ، وَفِيهِ: هَذَا قَبْرُ لَمِيسٍ وَحُبَّى ابْنَتَيْ
تُبَّعٍ، مَاتَا وَهُمَا تَشْهَدَانِ أَنْ لَا الَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ، وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ الصَّالِحُونَ قَبْلَهُمَا.
ثُمَّ صَارَ الْمُلْكُ فِيمَا بَعْدُ إِلَى حَسَّانَ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ ;
وَهُوَ أَخُو الْيَمَامَةِ الزَّرْقَاءِ الَّتِي صُلِبَتْ عَلَى بَابِ مَدِينَةِ
جَوٍّ فَسُمِّيَتْ مِنْ يَوْمِئِذٍ الْيَمَامَةَ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا
مَلَكَ ابْنُهُ حَسَّانُ بْنُ أَبِي كَرِبٍ تُبَّانُ أَسْعَدَ سَارَ بِأَهْلِ
الْيَمَنِ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِمْ أَرْضَ الْعَرَبِ وَأَرْضَ الْأَعَاجِمِ
حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ كَرِهَتْ حِمْيَرُ، وَقَبَائِلُ
الْيَمَنِ السَّيْرَ مَعَهُ، وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ
وَأَهْلِيهِمْ فَكَلَّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالَ لَهُ: عَمْرٌو - وَكَانَ مَعَهُ فِي
جَيْشِهِ - فَقَالُوا لَهُ: اقْتُلْ أَخَاكَ حَسَّانَ، وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا
وَتَرْجِعُ بِنَا إِلَى بِلَادِنَا فَأَجَابَهُمْ فَاجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ
إِلَّا ذَا رُعَيْنٍ الْحِمْيَرِيُّ فَإِنَّهُ نَهَى عَمْرًا عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ فَكَتَبَ ذُو رُعَيْنٍ رُقْعَةً فِيهَا هَذَانَ الْبَيْتَانِ
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمٍ سَعِيدٌ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنِ
فَأَمَّا حِمْيَرٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لِذِي رُعَيْنِ
ثُمَّ اسْتَوْدَعَهَا عَمْرًا فَلَمَّا قَتَلَ عَمْرٌو أَخَاهُ حَسَّانَ، وَرَجَعَ إِلَى الْيَمَنِ مُنِعَ مِنْهُ النَّوْمُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ فَسَأَلَ الْأَطِبَّاءَ وَالْحُزَاةَ مِنَ الْكُهَّانِ وَالْعَرَّافِينَ عَمَّا بِهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا قَتَلَ رَجُلٌ أَخَاهُ قَطُّ أَوْ ذَا رَحِمَهُ بَغْيًا إِلَّا ذَهَبَ نَوْمُهُ، وَسُلِّطَ عَلَيْهِ السَّهَرُ فَعِنْدَ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلَّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ فَلَمَّا خَلُصَ إِلَى ذِي رُعَيْنٍ قَالَ لَهُ: إِنَّ لِي عِنْدَكَ بَرَاءَةً قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ قَالَ: الْكِتَابُ الَّذِي دَفَعْتُهُ الَيْكَ فَأَخْرَجَهُ فَاذَا فِيهِ الْبَيْتَانِ فَتَرَكَهُ، وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ نَصَحَهُ، وَهَلَكَ عَمْرٌو فَمَرَجَ أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ ذَلِكَ، وَتَفَرَّقُوا.
وُثُوبُ
لَخْنِيعَةَ ذِي شَنَاتِرَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ
وَقَدْ مَلَكَهَا سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَوَثَبَ
عَلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمُلْكِ يُقَالَ
لَهُ: لَخْنِيعَةُ يَنُوفُ ذُو شَنَاتِرَ فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ، وَعَبَثَ
بِبُيُوتِ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ امْرَأً فَاسِقًا
يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَكَانَ يُرْسِلُ إِلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ
الْمُلُوكِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ
لِئَلَّا يَمْلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَطَّلِعُ مِنْ مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إِلَى
حَرَسِهِ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ قَدْ أَخَذَ مِسْوَاكًا فَجَعَلَهُ فِي
فِيهِ أَيْ: لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ حَتَّى بَعَثَ إِلَى
زُرْعَةَ ذِي نُوَاسِ بْنِ تُبَّانِ أَسْعَدَ أَخِي حَسَّانَ وَكَانَ صَبِيًّا
صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ حَسَّانُ، ثُمَّ شَبَّ غُلَامًا جَمِيلًا وَسِيمًا
ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ، فَلَمَّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ مَا يُرِيدُ مِنْهُ
فَأَخَذَ
سِكِّينًا حَدِيدًا
لَطِيفًا فَخَبَّأَهُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَنَعْلِهِ، ثُمَّ أَتَاهُ فَلَمَّا خَلَا
مَعَهُ وَثَبَ إِلَيْهِ فَوَاثَبَهُ ذُو نُوَاسٍ فَوَجَأَهُ حَتَّى قَتَلَهُ،
ثُمَّ حَزَّ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي الْكُوَّةِ الَّتِي كَانَ يُشْرِفُ مِنْهَا،
وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ.
فَقَالُوا لَهُ: ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٍ أَمْ يَبَاسٌ ؟ فَقَالَ: سَلْ نَخْمَاسَ
اسْتُرْطُبَانَ ذُو نُوَاسٍ اسْتُرْطُبَانَ لَا بَاسَ فَنَظَرُوا إِلَى الْكُوَّةِ
فَاذَا رَأْسُ لَخْنِيعَةَ مَقْطُوعٌ فَخَرَجُوا فِي أَثَرِ ذِي نُوَاسٍ حَتَّى
أَدْرَكُوهُ، فَقَالُوا: مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَنَا غَيْرُكَ إِذْ
أَرَحْتَنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعَتْ
عَلَيْهِحِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ،
وَتَسَمَّى يُوسُفَ فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا، وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ
أَهْلِ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْإِنْجِيلِ
أَهْلُ فَضْلٍ وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ، لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالَ لَهُ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الثَّامِرِ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ سَبَبَ دُخُولِ
أَهْلِ نَجْرَانَ فِي دِينِ النَّصَارَى، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى يَدَيْ
رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ: فَيْمَيُونُ كَانَ مِنْ عُبَّادِ النَّصَارَى بِأَطْرَافِ
الشَّامِ وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ.
وَصَحِبَهُ رَجُلٌ
يُقَالَ لَهُ: صَالِحٌ فَكَانَا يَتَعَبَّدَانِ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَيَعْمَلُ
فَيْمَيُونُ بَقِيَّةَ الْجُمُعَةِ فِي الْبِنَاءِ، وَكَانَ يَدْعُو لِلْمَرْضَى
وَالزَّمْنَى وَأَهْلِ الْعَاهَاتِ فَيُشْفَوْنَ، ثُمَّ اسْتَأْسَرَهُ وَصَاحِبَهُ
بَعْضُ الْأَعْرَابِ فَبَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ، فَكَانَ الَّذِي اشْتَرَى
فَيْمَيُونَ يَرَاهُ إِذَا قَامَ فِي مُصَلَّاهُ بِالْبَيْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ -
فِي اللَّيْلِ - يَمْتَلِئُ عَلَيْهِ الْبَيْتُ نُورًا فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهِ، وَكَانَ أَهْلُ نَجْرَانَ يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً يُعَلِّقُونَ
عَلَيْهَا حُلِيَّ نِسَائِهِمْ، وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهَا فَقَالَ فَيْمَيُونَ
لِسَيِّدِهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الشَّجَرَةِ
فَهَلَكَتْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَاطِلٌ ؟ قَالَ:
نَعَمْ فَجُمِعَ لَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ، وَقَامَ فَيْمَيُونَ إِلَى مُصَلَّاهُ
فَدَعَا اللَّهَ عَلَيْهَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا قَصْفًا فَجَعَفَهَا مِنْ
أَصْلِهَا، وَرَمَاهَا إِلَى الْأَرْضِ فَاتَّبَعَهُ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ
النَّصْرَانِيَّةِ، وَحَمَلَهُمْ عَلَى شَرِيعَةِ الْإِنْجِيلِ حَتَّى حَدَثَتْ
فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ بِكُلِّ أَرْضٍ
فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَتِ النَّصْرَانِيَّةُ بِنَجْرَانَ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قِصَّةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الثَّامِرِ حِينَ تَنَصَّرُ
عَلَى يَدَيْ فَيْمَيُونَ، وَكَيْفَ قَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ، ذُو نُوَاسٍ وَخَدَّ
لَهُمُ الْأُخْدُودَ - وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَهُوَ الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي
الْأَرْضِ مِثْلُ الْخَنْدَقِ - وَأَجَّجَ فِيهِ النَّارَ وَحَرَّقَهُمْ بِهَا،
وَقَتَلَ آخَرِينَ حَتَّى قَتَلَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا كَمَا
قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَمَا هُوَ
مُسْتَقْصًى فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ مِنْ كِتَابِنَا
" التَّفْسِيرِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ذِكْرُ خُرُوجِ
الْمُلْكِ بِالْيَمَنِ مِنْ حِمْيَرَ وَصَيْرُورَتِهِ
إِلَى الْحَبَشَةِ السُّودَانِ
كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ شِقٌّ وَسَطِيحٌ الْكَاهِنَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ
يَنْجُ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ يُقَالَ لَهُ: دَوْسٌ ذُو
ثُعْلُبَانِ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَسَلَكَ الرَّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ فَمَضَى عَلَى
وَجْهِهِ ذَلِكَ حَتَّى أَتَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي
نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَ مِنْهُمْ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
نَصْرَانِيٌّ عَلَى دِينِهِمْ فَقَالَ لَهُ: بَعُدَتْ بِلَادُكَ مِنَّا، وَلَكِنْ
سَأَكْتُبُ لَكَ إِلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَهُوَ
أَقْرَبُ إِلَى بِلَادِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطَّلَبِ
بِثَأْرِهِ فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلَى النَّجَاشِيِّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ فَبَعَثَ
مَعَهُ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْحَبَشَةِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا
مِنْهُمْ يُقَالَ لَهُ: أَرْيَاطُ، وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ
فَرَكِبَ أَرْيَاطُ الْبَحْرَ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ، وَمَعَهُ
دَوْسٌ، وَسَارَ إِلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ فِي حِمْيَرَ، وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ
قَبَائِلِ الْيَمَنِ فَلَمَّا الْتَقَوُا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ
وَأَصْحَابُهُ
فَلَمَّا رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلْ بِهِ وَبِقَوْمِهِ وَجَّهَ فَرَسَهُ فِي
الْبَحْرِ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فَدَخَلَ فِيهِ فَخَاضَ بِهِ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ
حَتَّى أَفْضَى بِهِ إِلَى غَمْرَةٍ فَأَدْخَلَهُ فِيهَا فَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ
بِهِ، وَدَخَلَ أَرْيَاطُ الْيَمَنَ وَمَلَكَهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ هَاهُنَا أَشْعَارًا لِلْعَرَبِ فِيمَا وَقَعَ مِنْ
هَذِهِ الْكَائِنَةِ الْغَرِيبَةِ وَفِيهَا فَصَاحَةٌ وَحَلَاوَةٌ وَبَلَاغَةٌ
وَطَلَاوَةٌ، وَلَكِنْ تَرْكَنَا إِيرَادَهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ، وَخَوْفَ
الْمَلَالَةِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
ذِكْرُ خُرُوجِ
أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ
عَلَى أَرْيَاطَ وَاخْتِلَافِهِمَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ أَرْيَاطُ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ فِي
سُلْطَانِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ نَازَعَهُ أَبْرَهَةُ حَتَّى تَفَرَّقَتِ الْحَبَشَةُ
عَلَيْهِمَا فَانْحَازَ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ، ثُمَّ سَارَ أَحَدُهُمَا
إِلَى الْآخَرِ فَلَمَّا تَقَارَبَ النَّاسُ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إِلَى أَرْيَاطَ:
إِنَّكَ لَنْ تَصْنَعَ بِأَنْ تُلْقِيَ الْحَبَشَةَ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ حَتَّى
تُفْنِيَهَا شَيْئًا شَيْئًا فَابْرُزْ لِي وَأَبْرُزُ لَكَ فَأَيُّنَا أَصَابَ
صَاحِبَهُ انْصَرَفَ إِلَيْهِ جُنْدُهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَرْيَاطُ أَنْصَفْتَ
فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبْرَهَةُ وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا لَحِيمًا وَكَانَ ذَا
دِينٍ فِي النَّصْرَانِيَّةِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ أَرْيَاطُ وَكَانَ رَجُلًا
جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا، وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ، وَخَلْفَ أَبْرَهَةَ غُلَامٌ
يُقَالَ لَهُ: عَتُودَةَ يَمْنَعُ ظَهْرَهُ فَرَفَعَ أَرْيَاطُ الْحَرْبَةَ
فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ يُرِيدُ يَافُوخَهُ فَوَقَعَتِ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ
أَبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ حَاجِبَهُ وَعَيْنَهُ وَأَنْفَهُ وَشَفَتَهُ فَبِذَلِكَ
سُمِّيَ: أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ، وَحَمَلَ عَتُودَةُ عَلَى أَرْيَاطَ مِنْ خَلْفِ
أَبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ، وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطَ إِلَى أَبْرَهَةَ
فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ، وَوَدَى أَبْرَهَةُ أَرْيَاطَ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ الَّذِي بَعَثَهُمْ
إِلَى
الْيَمَنِ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلَى أَبْرَهَةَ، وَقَالَ: عَدَا عَلَى أَمِيرِي فَقَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِي، ثُمَّ حَلَفَ لَا يَدَعُ أَبْرَهَةَ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ، وَيَجُزَّ نَاصِيَتَهُ فَحَلَقَ أَبْرَهَةُ رَأْسَهُ، وَمَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّمَا كَانَ أَرْيَاطُ عَبْدَكَ، وَأَنَا عَبْدُكَ فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِكَ، وَكُلٌّ طَاعَتُهُ لَكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ، وَأَضْبَطَ لَهَا وَأَسْوَسَ مِنْهُ، وَقَدْ حَلَقْتُ رَأْسِي كُلَّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ الْمَلِكِ، وَبَعَثْتُ إِلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَبَرَّ قَسَمَهُ فِيَّ فَلَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى النَّجَاشِيِّ رَضِيَ عَنْهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ اثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ.
ذِكْرُ سَبَبِ
قَصْدِ أَبْرَهَةَ بِالْفِيلِ مَكَّةَ لِيُخَرِّبَ الْكَعْبَةَ
كَمَا قَالَ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ
مَأْكُولٍ. [ الْفِيلِ: 1 - 5 ]
قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ ذَلَّلَ الْفِيَلَةَ أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْفِيَانَ الَّذِي
قَتَلَ الضَّحَّاكَ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ. وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ
لِلْخَيْلِ السُّرُوجَ، وَأَمَّا أَوَّلُ مَنْ سَخَّرَ الْخَيْلَ وَرَكِبَهَا
فَطَهْمُورَثُ وَهُوَ الْمَلِكُ الثَّالِثُ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَيُقَالَ:
إِنَّ أَوَّلَ مَنْ رَكِبَهَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ رَكِبَهَا مِنَ الْعَرَبِ وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ، وَيُقَالَ: إِنَّ الْفِيلَ مَعَ عَظَمَةِ خَلْقِهِ يَفْرَقُ
مِنَ الْهِرِّ وَقَدِ احْتَالَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْحُرُوبِ فِي قِتَالِ
الْهُنُودِ بِإِحْضَارِ سَنَانِيرَ إِلَى حَوْمَةِ الْوَغَى فَنَفَرَتِ
الْفِيَلَةُ.
قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ بَنَى الْقُلَّيْسَ بِصَنْعَاءَ فَبَنَى
كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا - فِي زَمَانِهَا - بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ،
وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ كَنِيسَةً، لَمْ يُبْنَ
مِثْلُهَا لِمَلِكٍ كَانَ قَبْلَكَ، وَلَسْتُ بِمُنْتَهٍ حَتَّى أَصْرِفَ
إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ.
فَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّ أَبْرَهَةَ اسْتَذَلَّ أَهْلَ الْيَمَنِ فِي
بِنَاءِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الْخَسِيسَةِ، وَسَخَّرَهُمْ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنَ
السُّخَرِ وَكَانَ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْعَمَلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ،
يَقْطَعُ يَدَهُ لَا مَحَالَةَ، وَجَعَلَ يَنْقُلُ إِلَيْهَا مِنْ قَصْرِ
بِلْقِيسَ رُخَامًا، وَأَحْجَارًا، وَأَمْتِعَةً عَظِيمَةً، وَرَكَّبَ فِيهَا
صُلْبَانًا مِنْ ذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ، وَجَعَلَ فِيهَا مَنَابِرَ مِنْ عَاجٍ،
وَآبِنُوسَ، وَجَعَلَ ارْتِفَاعَهَا عَظِيمًا جِدًّا، وَاتِّسَاعَهَا بَاهِرًا
فَلَمَّا هَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ، وَتَفَرَّقَتِ الْحَبَشَةُ كَانَ مَنْ
تَعَرَّضَ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بِنَائِهَا، وَأَمْتِعَتِهَا أَصَابَتْهُ الْجِنُّ
بِسُوءٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى اسْمِ صَنَمَيْنِ
كُعَيْبٍ وَامْرَأَتِهِ وَكَانَ طُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا فَتَرَكَهَا
أَهْلُ الْيَمَنِ عَلَى حَالِهَا فَلَمْ تَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى زَمَنِ السَّفَّاحِ
أَوَّلِ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْعَزْمِ وَالْحَزْمِ وَالْعِلْمِ فَنَقَضُوهَا حَجَرًا حَجَرًا، وَدَرَسَتْ
آثَارُهَا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا تَحَدَّثَتِ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ
إِلَى النَّجَاشِيِّ
غَضِبَ رَجُلٌ مِنَ
النَّسَأَةِ مِنْ كِنَانَةَ الَّذِينَ يَنْسَئُونَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ إِلَى
الْحِلِّ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ الْآيَةَ [ التَّوْبَةِ: 37
] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجَ الْكِنَانِيُّ حَتَّى أَتَى الْقُلَّيْسَ
فَقَعَدَ فِيهِ أَيْ أَحْدَثَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَلَحِقَ
بِأَرْضِهِ فَأُخْبِرَ أَبْرَهَةُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ
لَهُ: صَنَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي تَحُجُّهُ الْعَرَبُ
بِمَكَّةَ لَمَّا سَمِعَ بِقَوْلِكَ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَصْرِفَ حَجَّ
الْعَرَبِ إِلَى بَيْتِكَ هَذَا فَغَضِبَ فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا أَيْ أَنَّهُ
لَيْسَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَحَلَفَ
لَيَسِيرَنَّ إِلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَهْدِمَهُ، ثُمَّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ
فَتَهَيَّأَتْ وَتَجَهَّزَتْ ثُمَّ سَارَ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ.
وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ فَأَعْظَمُوهُ، وَفَظِعُوا بِهِ، وَرَأَوْا
جِهَادَهُ حَقًّا عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا بِأَنَّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ
بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ
الْيَمَنِ، وَمُلُوكِهِمْ يُقَالَ لَهُ: ذُو نَفَرٍ فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ
أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ وَجِهَادِهِ عَنْ
بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَمَا يُرِيدُهُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ
فَأَجَابَهُ مَنْ أَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ فَهُزِمَ
ذُو نَفَرٍ وَأَصْحَابُهُ وَأُخِذَ لَهُ ذُو نَفَرٍ فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا
فَلَمَّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ: يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا
تَقْتُلْنِي ; فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَكَ خَيْرًا لَكَ مِنَ الْقَتْلِ
فَتَرَكَهُ مِنَ
الْقَتْلِ،
وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا، ثُمَّ
مَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ حَتَّى إِذَا
كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمٍ عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي
قَبِيلَتَيْ خَثْعَمٍ، وَهُمَا: شَهْرَانُ وَنَاهِسٌ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ
قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأُخِذَ لَهُ نُفَيْلٌ
أَسِيرًا فَأُتِيَ بِهِ فَلَمَّا هَمَّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ: أَيُّهَا
الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنِّي دَلِيلُكَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، وَهَاتَانِ
يَدَايَ لَكَ عَلَى قَبِيلَتَيْ خَثْعَمٍ - شَهْرَانَ وَنَاهِسٍ - بِالسَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ، وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلُّهُ حَتَّى إِذَا
مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ
فَقَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّمَا نَحْنُ عَبِيدُكَ سَامِعُونَ لَكَ
مُطِيعُونَ لَيْسَ عِنْدَنَا لَكَ خِلَافٌ، وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ
الَّذِي تُرِيدُ - يَعْنُونَ اللَّاتَ - إِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي
بِمَكَّةَ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ فَتَجَاوَزَ
عَنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاللَّاتُ بَيْتٌ لَهُمْ بِالطَّائِفِ كَانُوا
يُعَظِّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ. قَالَ: فَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا
رِغَالٍ يَدُلُّهُ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ، وَمَعَهُ
أَبُو رِغَالٍ حَتَّى أَنْزَلَهُ بِالْمُغَمِّسِ فَلَمَّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ
أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ فَرَجَمَتْ قَبْرَهُ الْعَرَبُ فَهُوَ الْقَبْرُ الَّذِي
يَرْجُمُ النَّاسُ بِالْمُغَمِّسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ ثَمُودَ أَنَّ
أَبَا رِغَالٍ كَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ وَكَانَ يَمْتَنِعُ بِالْحَرَمِ فَلَمَّا
خَرَجَ مِنْهُ
أَصَابَهُ حَجَرٌ
فَقَتَلَهُ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
لِأَصْحَابِهِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ دُفِنَ مَعَهُ غُصْنَانِ مِنْ ذَهَبٍ
فَحَفَرُوا فَوَجَدُوهُمَا قَالَ وَهُوَ أَبُو ثَقِيفٍ.
قُلْتُ: وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ
أَبَا رِغَالٍ هَذَا الْمُتَأَخِّرَ وَافَقَ اسْمُهُ اسْمَ جَدِّهِ الْأَعْلَى،
وَرَجَمَهُ النَّاسُ كَمَا رَجَمُوا قَبْرَ الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ جَرِيرٌ
إِذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ كَرَجْمِكُمُ لِقَبْرِ أَبِي رِغَالِ
الظَّاهِرُ أَنَّهُ الثَّانِي.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ بِالْمُغَمِّسِ، بَعَثَ
رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ يُقَالَ لَهُ: الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ. عَلَى خَيْلٍ
لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ فَسَاقَ إِلَيْهِ أَمْوَالَ تِهَامَةَ مِنْ
قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَأَصَابَ فِيهَا مِائَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ
بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدُهَا فَهَمَّتْ
قُرَيْشٌ، وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ، وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ،
ثُمَّ عَرَفُوا أَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ، وَبَعَثَ
أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُ: سَلْ عَنْ
سَيِّدِ أَهْلِ هَذَا
الْبَلَدِ وَشَرِيفِهِمْ، ثُمَّ قُلْ لَهُ: إِنَّ الْمَلِكَ يَقُولُ: إِنِّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ إِنَّمَا جِئْتُ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا لَنَا دُونَهُ بِحَرْبٍ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي فَأْتِنِي بِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكَّةَ سَأَلَ عَنْ سَيِّدِ قُرَيْشٍ، وَشَرِيفِهَا فَقِيلَ لَهُ: عَبْدُ الْمُطَّلَبِ بْنُ هَاشِمٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ فَقَالَ لَهُ: عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ حَرَمُهُ وَبَيْتُهُ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ: فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِكَ فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتَّى أَتَى الْعَسْكَرَ فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفَرٍ وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا ذَا نَفَرٍ هَلْ عِنْدَكَ مِنْ غَنَاءٍ فِيمَا نَزَلَ بِنَا ؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفَرٍ: وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوًّا أَوْ عَشِيًّا مَا عِنْدِي غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَزَلَ بِكَ إِلَّا أَنَّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي فَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ، وَأُوصِيهِ بِكَ، وَأُعَظِّمُ عَلَيْهِ حَقَّكَ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَكَ عَلَى الْمَلِكِ فَتُكَلِّمَهُ بِمَا بَدَا لَكَ، وَيَشْفَعَ لَكَ عِنْدَهُ بِخَيْرٍ إِنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ: حَسْبِي فَبَعَثَ ذُو نَفَرٍ إِلَى أُنَيْسٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ سَيِّدُ قُرَيْشٍ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ، وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا
اسْتَطَعْتَ قَالَ:
أَفْعَلُ فَكَلَّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ هَذَا
سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِكَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْكَ وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ
وَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ بِالسَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ
الْجِبَالِ فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْكَ فَلْيُكَلِّمْكَ فِي حَاجَتِهِ. فَأَذِنَ لَهُ
أَبْرَهَةُ قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَوْسَمَ النَّاسِ وَأَعْظَمَهُمْ
وَأَجْمَلَهُمْ فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلَّهُ، وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ
يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ، وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى
سَرِيرِ مُلْكِهِ فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ،
وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إِلَى جَانِبِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ
لَهُ: حَاجَتُكَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التُّرْجُمَانُ فَقَالَ: حَاجَتِي أَنْ
يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي فَلَمَّا قَالَ لَهُ
ذَلِكَ قَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي
حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدْتُ فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي أَتُكَلِّمُنِي
فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ،
وَدِينُ آبَائِكَ قَدْ جِئْتُ لِأَهْدِمَهُ لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ ؟ فَقَالَ لَهُ
عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبًّا
سَيَمْنَعُهُ. فَقَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ.
فَرَدَّ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدْ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ عَلَى أَبْرَهَةَ يَعْمَرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ
الدُّئِلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ سَيِّدُ بَنِي بَكْرٍ،
وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ سَيِّدُ هُذَيْلٍ فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ
أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ
فَأَبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا.
فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ
فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرُ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ
مِنْ مَكَّةَ
وَالتَّحَرُّزِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخَذَ
بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ
اللَّهَ، وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ، وَقَالَ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ
لَاهُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلَالَكْ لَا يَغْلِبَنَّ
صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ
وَقِبْلَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ هَذَا مَا صَحَّ لَهُ
مِنْهَا، وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقَةَ
بَابِ الْكَعْبَةِ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى شَعَفِ
الْجِبَالِ يَتَحَرَّزُونَ فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ فَلَمَّا
أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ وَعَبَّى
جَيْشَهُ وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ إِلَى
مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتَّى قَامَ إِلَى جَنْبِ الْفِيلِ،
ثُمَّ أَخَذَ
بِأُذُنِهِ
فَقَالَ: ابْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ أَتَيْتَ فَإِنَّكَ
فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ، وَأَرْسَلَ أُذُنَهُ فَبَرَكَ الْفِيلُ. قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: أَيْ سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْفِيَلَةِ
أَنَّ تَبْرُكَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهَا مَا يَبْرُكُ كَالْبَعِيرِ فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدُّ حَتَّى أَصْعَدَ فِي الْجَبَلِ،
وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى فَضَرَبُوا رَأْسَهُ بِالطَّبَرْزِينِ
لِيَقُومَ فَأَبَى فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقِّهِ فَبَزَغُوهُ
بِهَا لِيَقُومَ فَأَبَى فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ
يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ
إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ،
وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ
وَالْبَلَسَانِ، مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا;
حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالَ الْحِمَّصِ
وَالْعَدَسِ لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا
هَلَكَ، وَلَيْسَ
كُلُّهُمْ أَصَابَتْ، وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ الَّتِي
مِنْهَا جَاءُوا، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى
الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ نُفَيْلٌ فِي ذَلِكَ
أَلَّا حُيِّيتِ عَنَّا يَا رُدَيْنَا نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْتِ فَلَا تَرَيْهِ لَدَى جَنْبِ الْمُحَصَّبِ مَا رَأَيْنَا
إِذًا لَعَذَرْتِنِي وَحَمِدْتِ أَمْرِي وَلَمْ تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْتُ اللَّهَ إِذْ أَبْصَرْتُ طَيْرًا وَخِفْتُ حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلُّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ كَأَنَّ عَلَيَّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلِكُونَ
بِكُلِّ مَهْلِكٍ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ، وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ،
وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً، كُلَّمَا سَقَطَتْ
أُنْمُلَةٌ أَتْبَعَتْهَا مِنْهُ مِدَّةٌ تَمِثُّ قَيْحًا وَدَمًا حَتَّى قَدِمُوا
بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ
صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
قَالَ ابْنُ
إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ أَنَّ أَوَّلَ مَا
رُئِيَتِ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامُ،
وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُئِيَ بِهَا مَرَائِرُ الشَّجَرِ الْحَرْمَلِ
وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشَرِ ذَلِكَ الْعَامُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يَعُدُّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ
عَلَيْهِمْ، وَفَضْلِهِ مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ
أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ. [ الْفِيلِ: 1 - 5 ]
ثُمَّ شَرَعَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَابْنُ هِشَامٍ يَتَكَلَّمَانِ عَلَى تَفْسِيرِ
هَذِهِ السُّورَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي
كِتَابِنَا " التَّفْسِيرِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ الْأَبَابِيلُ الْجَمَاعَاتُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمْ لَهَا
الْعَرَبُ بِوَاحِدٍ عَلِمْنَاهُ. قَالَ: وَأَمَّا السِّجِّيلُ فَأَخْبَرَنِي
يُونُسُ النَّحْوِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الشَّدِيدُ
الصُّلْبُ قَالَ: وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ
بِالْفَارِسِيَّةِ جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّهَا " سِنْجٌ " وَ " جِلٌّ " فَالسِّنْجُ: الْحَجَرُ وَالْجِلُّ: الطِّينُ يَقُولُ: الْحِجَارَةُ مِنْ هَذَيْنَ الْجِنْسَيْنِ الْحَجَرُ وَالطِّينُ قَالَ: وَالْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقْصَبْ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ إِبِّيلٌ، وَقَالَ كَثِيرُونَ مِنَ السَّلَفِ: الْأَبَابِيلُ الْفِرَقُ مِنَ الطَّيْرِ الَّتِي يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا مِنْ هَاهُنَا، وَهَاهُنَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَانَتْ رُءُوسُهَا كَرُءُوسِ السِّبَاعِ خَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَحْرِ وَكَانَتْ خُضْرًا، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَتْ سُودًا بَحْرِيَّةً فِي مَنَاقِيرِهَا وَأَكُفِّهَا الْحِجَارَةُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ أَشْكَالُهَا كَعَنْقَاءِ مُغْرِبٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أَصْغَرُ حَجَرٍ مِنْهَا كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَالْإِبِلِ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَقِيلَ كَانَتْ
صِغَارًا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا
أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا
أُنْشِئَتْ مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ كُلُّ طَيْرٍ مِنْهَا يَحْمِلُ
ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ مُجَزَّعَةً، حَجَرَيْنِ فِي رِجْلَيْهِ، وَحَجَرًا فِي
مِنْقَارِهِ قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى صَفَّتْ عَلَى رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ صَاحَتْ
وَأَلْقَتْ مَا فِي رِجْلَيْهَا، وَمَنَاقِيرِهَا فَمَا يَقَعُ حَجَرٌ عَلَى
رَأْسِ رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ وَلَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
جَسَدِهِ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً
فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَالَ: وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْهُ
الْحِجَارَةُ يَعْنِي: بَلْ رَجَعَ مِنْهُمْ رَاجِعُونَ إِلَى الْيَمَنِ حَتَّى
أَخْبَرُوا أَهْلَهُمْ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِهِمْ مِنَ النَّكَالِ، وَذَكَرُوا
أَنَّ أَبْرَهَةَ رَجَعَ وَهُوَ يَتَسَاقَطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَى الْيَمَنِ انْصَدَعَ صَدْرُهُ فَمَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَرَوَى
ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ
الْفِيلِ، وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ سَائِسَ الْفِيلِ كَانَ اسْمُهُ أُنَيْسًا فَأَمَّا قَائِدُهُ
فَلَمْ يُسَمَّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ النَّقَّاشُ فِي " تَفْسِيرِهِ " أَنَّ السَّيْلَ احْتَمَلَ
جُثَثَهُمْ فَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْرِ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَتْ قِصَّةُ
الْفِيلِ أَوَّلَ الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ
مِنْ تَارِيخِ ذِي الْقَرْنَيْنِ
قُلْتُ: وَفِي عَامِهَا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِسِنِينَ، كَمَا
سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي
هَذِهِ الْكَائِنَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا بَيْتَهُ
الْحَرَامَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ وَيُطَهِّرَهُ،
وَيُوَقِّرَهُ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا
يُشْرَعُ لَهُ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ الَّذِي أَحَدُ أَرْكَانِهِ الصَّلَاةُ
بَلْ عِمَادُ
دِينِهِ، وَسَيَجْعَلُ قِبْلَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ الْمُطَهَّرَةِ،
وَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نُصْرَةً لِقُرَيْشٍ إِذْ ذَاكَ
عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ هُمُ الْحَبَشَةُ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ إِذْ ذَاكَ
كَانُوا أَقْرَبَ لَهَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّصْرُ
لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِرْهَاصًا وَتَوْطِئَةً لِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزِّبَعْرَى السَّهْمِيُّ
فَتَنَكَّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إِنَّهَا كَانَتْ قَدِيمَا لَا يُرَامُ
حَرِيمُهَا لَمْ تُخْلَقِ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ إِذْ لَا عَزِيزَ مِنَ
الْأَنَامِ يَرُومُهَا سَائِلْ أَمِيَرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى فَلَسَوْفَ
يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا سِتُّونَ أَلْفًا لَمْ يَئُوبُوا أَرْضَهُمْ
بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا
كَانَتْ بِهَا
عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ وَاللَّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقِيمُهَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ
وَمِنْ صُنْعِهِ يَوْمَ فِيلِ الْحُبُو شِ إِذْ كُلَّمَا بَعَثُوهُ رَزَمْ
مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ وَقَدْ شَرَمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ وَقَدْ
جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا إِذَا يَمَّمُوهُ قَفَاهُ كُلِمْ فَوَلَّى وَأَدْبَرَ
أَدْرَاجَهُ وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمَّ فَأَرْسَلَ مِنْ
فَوْقِهِمْ حَاصِبًا فَلَفَّهُمُ مِثْلَ لَفِّ الْقُزُمْ تَحُضُّ عَلَى الصَّبْرِ
أَحْبَارُهُمْ وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمْ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الصَّلْتِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَهْبِ بْنِ
عِلَاجٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَيُرْوَى لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي
الصَّلْتِ
إِنَّ آيَاتِ رَبِّنَا ثَاقِبَاتٌ مَا يُمَارِي فِيهِنَّ إِلَّا الْكَفُورُ خَلَقَ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَكُلٌّ مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ ثُمَّ يَجْلُو
النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيمٌ بِمَهَاةٍ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ
حُبِسَ الْفِيلُ
بِالْمُغَمِّسِ حَتَّى صَارَ يَحْبُو كَأَنَّهُ مَعْقُورُ لَازِمًا حَلْقَةَ
الْجِرَانِ كَمَا قَطَ رَ مِنْ صَخْرِ كَبْكَبٍ مَحْدُورُ حَوْلَهُ مِنْ مُلُوكِ
كِنْدَةَ أَبْطَالٌ مَلَاوِيثٌ فِي الْحُرُوبِ صُقُورُ خَلَّفُوهُ ثُمَّ
ابْذَعَرُّوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ كُلُّ دِينٍ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا دِينَ الْحَنِيفِةِ بُورُ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ أَيْضًا
فَقُومُوا فَصَلُّوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ
الْأَخَاشِبِ فَعِنْدَكُمُ مِنْهُ بَلَاءٌ مُصَدَّقٌ غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ
هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ
بِالسُّهْلِ تَمْشِي وَرَجْلُهُ عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ
سَافٍ وَحَاصِبِ فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ إِلَى أَهْلِهِ
مِلْحَبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ
الرُّقَيَّاتِ فِي عَظَمَةِ الْبَيْتِ وَحِمَايَتِهِ بِهَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ
بِسُوءٍ.
كَادَهُ الْأَشْرَمُ الَّذِي جَاءَ بِالْفِي لِ فَوَلَّى وَجَيْشُهُ مَهْزُومُ
وَاسْتَهَلَّتْ عَلَيْهِمُ الطَّيْرُ بِالْجَنْ دَلِ حَتَّى كَأَنَّهُ مَرْجُومُ
ذَاكَ مَنْ يَغْزُهُ مِنَ النَّاسِ يَرْجِعُ وَهُوَ فَلٌّ مِنَ الْجُيُوشِ ذَمِيمُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ، مَلَكَ
الْحَبَشَةَ بَعْدَهُ ابْنُهُ
يَكْسُومُ، ثُمَّ
مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بُنُ أَبْرَهَةَ، وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِهِمْ
وَهُوَ الَّذِي انْتَزَعَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ الْمُلْكَ مِنْ
يَدِهِ، بِالْجَيْشِ الَّذِينَ قَدِمَ بِهِمْ مِنْ عِنْدِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَكَانَتْ قِصَّةُ الْفِيلِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَثَمَانِمِائَةٍ مِنْ تَارِيخِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ الثَّانِي إِسْكَنْدَرُ
بْنُ فِلِبْسَ الْمَقْدُونِيُّ، الَّذِي يُؤَرِّخُ لَهُ الرُّومُ. وَلَمَّا هَلَكَ
أَبْرَهَةُ وَابْنَاهُ، وَزَالَ مُلْكُ الْحَبَشَةِ عَنِ الْيَمَنِ، هُجِرَ
الْقُلَّيْسَ الَّذِي كَانَ بِنَاهُ أَبْرَهَةُ، وَأَرَادَ صَرْفَ حَجِّ الْعَرَبِ
إِلَيْهِ لِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ، وَأَصْبَحَ يَبَابًا لَا أَنِيسَ لَهُ
وَكَانَ قَدْ بَنَاهُ عَلَى صَنَمَيْنِ وَهُمَا كُعَيْبٌ وَامْرَأَتُهُ كَانَا
مِنْ خَشَبٍ طُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ كَانَا
مَصْحُوبَيْنِ مِنَ الْجَانِّ، وَلِهَذَا كَانَ لَا يَتَعَرَّضُ أَحَدٌ إِلَى
أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ بِنَاءِ الْقُلَّيْسِ، وَأَمْتِعَتِهِ إِلَّا أَصَابُوهُ
بِسُوءٍ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ إِلَى أَيَّامِ السَّفَّاحِ أَوَّلِ خُلَفَاءِ
بَنِي الْعَبَّاسِ فَذَكَرَ لَهُ أَمْرَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ
وَالرُّخَامِ الَّذِي كَانَ أَبْرَهَةُ نَقْلَهُ إِلَيْهِ مِنْ صَرْحِ بِلْقِيسَ
الَّذِي كَانَ بِالْيَمَنِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ خَرَّبَهُ حَجَرًا حَجَرًا
وَأَخْذَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْحَوَاصِلِ هَكَذَا ذَكَرَهُ
السُّهَيْلِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ خُرُوجِ
الْمُلْكِ عَنِ الْحَبَشَةِ
وَرُجُوعِهِ إِلَى سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ،
مَلِكُ الْحَبَشَةِ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى فَلَمَّا
هَلَكَ يَكْسُومُ، مَلَكَ الْيَمَنَ مِنَ الْحَبَشَةِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ
أَبْرَهَةَ. قَالَ: فَلَمَّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ خَرَجَ
سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ - وَهُوَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بْنِ ذِي
أَصْبَحَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ
قَطَنِ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ
الْعَرَنْجَجِ وَهُوَ حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ وَكَانَ سَيْفٌ يُكَنَّى أَبَا مُرَّةَ
- حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَشَكَى إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ،
وَسَأَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ عَنْهُ، وَيَلِيَهُمْ هُوَ، وَيُخْرِجَ إِلَيْهِمْ
مَنْ شَاءَ مِنَ الرُّومِ فَيَكُونُ لَهُ مُلْكُ الْيَمَنِ فَلَمْ يُشْكِهِ
فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ وَهُوَ عَامِلُ كِسْرَى
عَلَى الْحِيرَةِ وَمَا يَلِيَهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ.
فَشَكَا إِلَيْهِ أَمْرَ الْحَبَشَةِ فَقَالَ لَهُ النُّعْمَانُ: إِنَّ لِي عَلَى
كِسْرَى، وِفَادَةً فِي كُلِّ عَامٍ فَأَقِمْ عِنْدِي حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ
فَفَعَلَ، ثُمَّ خَرَجَ مَعَهُ فَأَدْخَلَهُ عَلَى
كِسْرَى وَكَانَ
كِسْرَى يَجْلِسُ فِي إِيوَانِ مَجْلِسِهِ الَّذِي فِيهِ تَاجُهُ وَكَانَ تَاجُهُ
مِثْلَ الْقُنْقُلِ الْعَظِيمِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، يُضْرَبُ فِيهِ الْيَاقُوتُ
وَالزَّبَرْجَدُ اللُّؤْلُؤُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُعَلَّقًا بِسِلْسِلَةٍ
مِنْ ذَهَبٍ فِي رَأْسِ طَاقَةٍ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، وَكَانَتْ عُنُقُهُ لَا
تَحْمِلُ تَاجَهُ إِنَّمَا يَسْتُرُ عَلَيْهِ بِالثِّيَابِ حَتَّى يَجْلِسَ فِي
مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِي تَاجِهِ فَاذَا اسْتَوَى فِي
مَجْلِسِهِ كَشَفَ عَنْهُ الثِّيَابَ فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ
ذَلِكَ إِلَّا بَرَكَ هَيْبَةً لَهُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ
فَقَالَ الْمَلِكُ: إِنَّ هَذَا الْأَحْمَقَ يَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ
الطَّوِيلِ، ثُمَّ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ فَقِيلَ ذَلِكَ لِسَيْفٍ فَقَالَ: إِنَّمَا
فَعَلْتُ هَذَا لِهَمِّي لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَنْهُ كُلُّ شَيْءٍ، ثُمَّ قَالَ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ غَلَبَتْنَا عَلَى بِلَادِنَا الْأَغْرِبَةُ. قَالَ كِسْرَى:
أَيُّ الْأَغْرِبَةِ; الْحَبَشَةُ أَمِ السِّنَدُ ؟ قَالَ: بَلِ الْحَبَشَةُ
فَجِئْتُكَ لِتَنْصُرَنِي، وَيَكُونُ مُلْكُ بِلَادِي لَكَ. فَقَالَ لَهُ كِسْرَى:
بَعُدَتْ بِلَادُكَ مَعَ قِلَّةِ خَيْرِهَا فَلَمْ أَكُنْ لِأُوَرِّطَ جَيْشًا
مِنْ فَارِسَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ، ثُمَّ أَجَازَهُ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَافٍ، وَكَسَاهُ كُسْوَةً حَسَنَةً فَلَمَّا قَبَضَ
ذَلِكَ مِنْهُ سَيْفٌ خَرَجَ فَجَعَلَ يَنْثُرُ تِلْكَ الْوَرِقَ لِلنَّاسِ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكُ فَقَالَ: إِنَّ لِهَذَا لَشَأْنًا، ثُمَّ بَعَثَ
إِلَيْهِ فَقَالَ: عَمَدْتَ إِلَى حِبَاءِ الْمَلِكِ تَنْثُرُهُ لِلنَّاسِ !
قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا ؟ مَا
جِبَالُ أَرْضِي الَّتِي جِئْتُ مِنْهَا إِلَّا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ يُرَغِّبُهُ فِيهَا فَجَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَرَوْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ وَمَا جَاءَ لَهُ ؟ فَقَالَ قَائِلٌ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ فِي سُجُونِكَ رِجَالًا قَدْ حَبَسْتَهُمْ لِلْقَتْلِ فَلَوْ أَنَّكَ بَعَثْتَهُمْ مَعَهُ فَإِنْ يَهْلِكُوا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْتَ بِهِمْ، وَإِنْ ظَفِرُوا كَانَ مُلْكًا ازْدَدْتَهُ. فَبَعَثَ مَعَهُ كِسْرَى مَنْ كَانَ فِي سُجُونِهِ كَانُوا ثَمَانَمِائَةِ رَجُلٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ وَهْرِزَ وَكَانَ ذَا سِنٍّ فِيهِمْ وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا وَبَيْتًا فَخَرَجُوا فِي ثَمَانِ سَفَائِنَ فَغَرِقَتْ سَفِينَتَانِ وَوَصَلَ إِلَى سَاحِلِ عَدَنَ سِتُّ سَفَائِنَ فَجَمَعَ سَيْفٌ إِلَى وَهْرِزَ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَالَ لَهُ: رِجْلِي وَرِجْلُكَ حَتَّى نَمُوتَ جَمِيعًا أَوْ نَظْفَرَ جَمِيعًا فَقَالَ لَهُ: وَهْرِزُ أَنْصَفْتَ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ مَلِكُ الْيَمَنِ، وَجَمَعَ إِلَيْهِ جُنْدَهُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَهْرِزُ ابْنًا لَهُ، لِيُقَاتِلَهُمْ فَيَخْتَبِرَ قِتَالَهُمْ فَقُتِلَ ابْنُ وَهْرِزَ فَزَادَهُ ذَلِكَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَلَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ عَلَى مَصَافِّهِمْ قَالَ وَهْرِزُ: أَرُونِي مَلِكَهُمْ فَقَالُوا لَهُ: أَتَرَى رَجُلًا عَلَى الْفِيلِ عَاقِدًا تَاجَهُ عَلَى رَأْسِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالُوا: ذَلِكَ مَلِكُهُمْ فَقَالَ: اتْرُكُوهُ قَالَ: فَوَقَفُوا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: عَلَامَ هُوَ ؟ قَالُوا: قَدْ تَحَوَّلَ عَلَى الْفَرَسِ قَالَ: اتْرُكُوهُ فَتَرَكُوهُ طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ عَلَامَ هُوَ ؟ قَالُوا: عَلَى الْبَغْلَةِ قَالَ وَهْرِزُ: بِنْتُ الْحِمَارِ ذَلَّ وَذَلَّ مُلْكُهُ إِنِّي سَأَرْمِيهِ فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَصْحَابَهُ لَمْ يَتَحَرَّكُوا فَاثْبُتُوا حَتَّى أُوذِنَكُمْ فَإِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ الرَّجُلَ، وَإِنْ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ قَدِ اسْتَدَارُوا بِهِ وَلَاثُوا فَقَدْ أَصَبْتُ الرَّجُلَ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ وَتَرَ قَوْسَهُ وَكَانَتْ -
فِيمَا يَزْعُمُونَ
- لَا يُوتِرُهَا غَيْرُهُ مِنْ شِدَّتِهَا، وَأَمَرَ بِحَاجِبَيْهِ فَعُصِبَا
لَهُ، ثُمَّ رَمَاهُ فَصَكَّ الْيَاقُوتَةَ الَّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ،
وَتَغَلْغَلَتِ النَّشَّابَةُ فِي رَأْسِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ، وَنَكَسَ
عَنْ دَابَّتِهِ، وَاسْتَدَارَتِ الْحَبَشَةُ وَلَاثَتْ بِهِ، وَحَمَلَتْ
عَلَيْهِمُ الْفُرْسُ فَانْهَزَمُوا فَقُتِلُوا وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ،
وَأَقْبَلَ وَهْرِزُ لِيَدْخُلَ صَنْعَاءَ حَتَّى إِذَا أَتَى بَابَهَا قَالَ: لَا
تَدْخُلْ رَايَتِي مُنَكَّسَةً أَبَدًا، اهْدِمُوا هَذَا الْبَابَ فَهُدِمَ. ثُمَّ
دَخَلَهَا نَاصِبًا رَايَتَهُ فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيُّ
يَظُنُّ النَّاسُ بِالْمَلِكَيْنِ أَنَّهُمَا قَدِ الْتَأَمَا وَمَنْ يَسْمَعُ
بِلَأْمِهِمَا فَإِنَّ
الْخَطْبَ قَدْ فَقُمَا قَتَلْنَا الْقَيْلَ مَسْرُوقًا
وَرَوَيْنَا الْكَثِيبَ دَمًا وَإِنَّ الْقَيْلَ قَيْلُ النَّاسِ
وَهْرِزَ مُقْسِمٌ قَسَمًا يَذُوقُ مُشَعْشَعًا حَتَّى
نُفِيءَ السَّبْيَ وَالنِّعَمَا
وَوَفَدَتِ الْعَرَبُ مِنَ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا عَلَى سَيْفٍ يُهَنِّئُونَهُ
بِعَوْدِ الْمُلْكِ إِلَيْهِ
وَامْتَدَحُوهُ
فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ وَفَدَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ وَفِيهِمْ عَبْدُ
الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فَبَشَّرَهُ سَيْفٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ، وَسَيَأْتِي
ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي بَابِ الْبِشَارَاتِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ
الثَّقَفِيُّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَتُرْوَى لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
لِيَطْلُبِ الْوِتْرَ أَمْثَالُ ابْنِ ذِي يَزَنَ رَيَّمَ فِي الْبَحْرِ
لِلْأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
يَمَّمَ قَيْصَرَ لَمَّا حَانَ رِحْلَتَهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ بَعْضَ الَّذِي
سَالَا
ثُمَّ انْثَنَى نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ مِنَ السِّنِينَ يُهِينُ
النَّفْسَ وَالْمَالَا
حَتَّى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَحْمِلُهُمْ إِنَّكَ عَمْرِي لَقَدْ
أَسْرَعْتَ قِلْقَالَا
لِلَّهِ دَرُّهُمْ مِنْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا مَا إِنْ أَرَى لَهُمْ فِي النَّاسِ
أَمْثَالَا
غُلْبًا
مَرَازِبَةً بِيضًا أَسَاوِرَةً أُسْدًا تُرَبِّبُ فِي الْغَيْضَاتِ أَشْبَالَا
يَرْمُونَ عَنْ شُدُفٍ كَأَنَّهَا غُبُطٌ بِزَمْخَرٍ يُعَجِّلُ الْمَرْمِيَّ
إِعْجَالَا
أَرْسَلْتَ أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ أَضْحَى شَرِيدُهُمُ فِي
الْأَرْضِ فَلَّالَا
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْكَ التَّاجُ مُرْتَفِقًا فِي رَأْسِ غُمْدَانَ دَارًا مِنْكَ
مِحْلَالَا
وَاشْرَبْ هَنِيئًا فَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ وَأَسْبِلِ الْيَومَ فِي
بُرْدَيْكَ إِسْبَالًا
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ
أَبْوَالَا
يُقَالَ: إِنَّ غُمْدَانَ قَصْرٌ بِالْيَمَنِ، بِنَاهُ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ،
وَأَكْمَلَهُ
بَعْدَهُ
وَاحْتَلَّهُ وَائِلَةُ بْنُ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ، وَيُقَالَ: كَانَ ارْتِفَاعُهُ
عِشْرِينَ طَبَقَةً فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ الْحِيَرِيُّ وَكَانَ أَحَدَ
بَنِي تَمِيمٍ
مَا بَعْدَ صَنْعَاءَ كَانَ يَعْمُرُهَا وُلَاةُ مُلْكٍ جَزْلٍ مَوَاهِبُهَا
رَفَّعَهَا مِنْ بَنَى لِذِي قَزَعٍ الْمُزْنِ وَتَنْدَى مِسْكًا مَحَارِبُهَا
مَحْفُوفَةٌ بِالْجِبَالِ دُونَ عُرَى الْ كَائِدِ مَا يَرْتَقِي غَوَارِبُهَا
يَأْنَسُ فِيهَا صَوْتُ النَّهَامِ إِذَا جَاوَبَهَا بِالْعَشِيِّ قَاصِبُهَا
سَاقَتْ إِلَيْهَا الْأَسْبَابُ جُنْدَ بَنِي الْأَحْرَارِ فُرْسَانُهَا
مَوَاكِبُهَا
وَفُوِّزَتْ
بِالْبِغَالِ تُوسَقُ بِالْحَتْفِ وَتَسْعَى بِهَا تَوَالِبُهَا
حَتَّى رَآهَا الْأَقْوَالُ مِنْ طَرَفٍ الْمَنْقَلِ مُخْضَرَّةٌ كَتَائِبُهَا
يَوْمَ يُنَادُونَ الْبَرْبَرَ وَالْيَكْسُومَ لَا يُفْلِحَنَّ هَارِبُهَا
فَكَانَ يَوْمًا بَاقِي الْحَدِيثِ، وَزَالَتْ أُمَّةٌ ثَابِتٌ مَرَاتِبُهَا
وَبُدِّلَ الْفَيْجُ بِالزَّرَافَةِ وَالْأَيَّامُ خُونٍ جَمٌّ عَجَائِبُهَا
بَعْدَ بَنِي تُبَّعٍ نَخَاوِرَةٌ قَدِ اطْمَأَنَّتْ بِهَا مَرَازِبُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ. وَهَذَا الَّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ: يَلِيهِ إِرَمُ
ذِي يَزَنَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنَ فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ
بِالْيَمَنِ وَالَّذِي عَنَا شِقٌّ بِقَوْلِهِ: غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيٍّ وَلَا
مُدَنٍّ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَقَامَ وَهْرِزُ وَالْفُرْسُ بِالْيَمَنِ فَمِنْ بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْجَيْشِ مِنَ الْفُرْسِ الْأَبْنَاءُ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ الْيَوْمَ. وَكَانَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ فِيمَا بَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا أَرْيَاطُ إِلَى أَنْ قَتَلَتِ الْفُرْسُ مَسْرُوقَ بْنَ أَبْرَهَةَ، وَأَخْرَجَتِ الْحَبَشَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً تَوَارَثَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ: أَرْيَاطُ، ثُمَّ أَبْرَهَةُ، ثُمَّ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ، ثُمَّ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ.
ذِكْرُ مَا آلَ
إِلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ مَاتَ وَهْرِزُ فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ
الْمَرْزُبَانَ بْنَ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرْزُبَانُ
فَأَمَّرَ كِسْرَى ابْنَهُ التَّيْنُجَانَ، ثُمَّ مَاتَ فَأَمَّرَ ابْنَ
التَّيْنُجَانِ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنِ الْيَمَنِ، وَأَمَّرَ عَلَيْهَا بَاذَانَ،
وَفِي زَمَنِهِ بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
ابْنُ هِشَامٍ فَبَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَتَبَ كِسْرَى إِلَى
بَاذَانَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكَّةَ
يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَسِرْ إِلَيْهِ فَاسْتَتِبْهُ فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا
فَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِهِ. فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يُقْتَلَ
كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا فَلَمَّا أَتَى بَاذَانَ
الْكِتَابُ وَقَفَ لِيَنْتَظِرَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيَكُونُ مَا
قَالَ. فَقَتَلَ اللَّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: ابْنُ هِشَامٍ عَلَى يَدَيِ ابْنِهِ
شِيرَوَيْهِ قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَنُوهُ تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ.
وَكِسْرَى هَذَا هُوَ أَبْرَوِيزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قُبَازَ
وَهُوَ الَّذِي غَلَبَ الرُّومَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي
أَدْنَى الْأَرْضِ [ الرُّومِ: 1 - 3 ] كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَ قَتْلُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءَ لِعَشَرٍ خَلَوْنَ
مِنْ جُمَادَى الْأُولَى
سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ كَانَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. لَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَغَضِبَ،
وَمَزَّقَ كِتَابَهُ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ بِالْيَمَنِ يَقُولُ لَهُ مَا قَالَ.
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: لِرَسُولِ بَاذَانَ إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ اللَّيْلَةَ
رَبَّكَ فَكَانَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قُتِلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِعَيْنِهَا قَتَلَهُ بَنُوهُ لِظُلْمِهِ بَعْدَ
عَدْلِهِ بَعْدَمَا خَلَعُوهُ، وَوَلَّوُا ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَلَمْ يَعِشْ
بَعْدَ قَتْلِهِ أَبَاهُ إِلَّا سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَوْ دُونَهَا، وَفِي هَذَا
يَقُولُ خَالِدُ بْنُ حِقٍّ الشَّيْبَانِيُّ
وَكِسْرَى إِذْ تَقَسَّمَهُ بَنُوهُ بِأَسْيَافٍ كَمَا اقْتُسِمَ اللِّحَامُ
تَمَخَّضَتِ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ
أَنَى، وَلِكُلِّ حَامِلَةٍ تَمَامُ
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ،
وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ الرُّسُلُ: إِلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ أَنْتُمْ مِنَّا، وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَمِنْ
ثَمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَلْمَانُ مِنَّا
أَهْلَ الْبَيْتِ قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ مَا هَاجَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلِهَذَا
بَعَثَ الْأُمَرَاءَ إِلَى الْيَمَنِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ الْخَيْرَ،
وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَبَعَثَ أَوَّلًا خَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ
أَتْبَعَهُمَا
أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَدَانَتِ الْيَمَنُ،
وَأَهْلُهَا لِلْإِسْلَامِ، وَمَاتَ بَاذَانُ فَقَامَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ شَهْرُ
بْنُ بَاذَانَ وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيُّ حِينَ تَنَبَّأَ
وَأَخَذَ زَوْجَتَهُ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ - وَأَجْلَى عَنِ الْيَمَنِ
نُوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمَّا قُتِلَ الْأَسْوَدُ عَادَتِ الْيَدُ
الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَى
بِهِ سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ: نَبِيٌّ زَكِيٌّ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ
الْعَلِيِّ وَالَّذِي عَنَى شِقٌّ بِقَوْلِهِ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ
يَأْتِي بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ، يَكُونُ
الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى يَوْمِ الْفَصْلِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِي حِجَرٍ بِالْيَمَنِ فِيمَا يَزْعُمُونَ
كِتَابٌ بِالزَّبُورِ كُتِبَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ: لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ ؟
لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارٍ ؟ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارِ
لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارْ ؟ لِفَارِسَ الْأَحْرَارْ لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارْ ؟
لِقُرَيْشٍ التُّجَّارْ. وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ هَذَا الْمَعْنَى
فِيمَا ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ
حِينَ شِيدَتْ ذِمَارُ قِيلَ لِمَنْ أَنْتِ فَقَالَتْ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ
ثُمَّ سِيلَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ فَقَالَتْ
أَنَا لِلْحُبْشِ أَخْبَثِ الْأَشْرَارِ
ثُمَّ قَالُوا مِنْ
بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْتِ
فَقَالَتْ لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ ثُمَّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْتِ
فَقَالَتْ إِلَى قُرَيْشِ التُّجَّارِ
وَيُقَالُ: إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ
وُجِدَ مَكْتُوبًا عِنْدَ قَبْرِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ كَشَفَتِ
الرِّيحُ عَنْ قَبْرِهِ بِأَرْضِ الْيَمَنِ، وَذَلِكَ قَبْلَ زَمَنِ بِلْقِيسَ
بِيَسِيرٍ فِي أَيَّامِ مَالِكِ بْنِ ذِي الْمَنَارِ أَخِي عَمْرٍو ذِي
الْأَذْعَارِ بْنِ ذِي الْمَنَارِ، وَيُقَالَ: كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى مِنْبَرِ
هُودٍ أَيْضًا وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. حَكَاهُ
السُّهَيْلِيُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِصَّةُ
السَّاطِرُونَ صَاحِبِ الْحَضْرِ
وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ هَاهُنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ لِأَجْلِ مَا
قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ النَّسَبِ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ الَّذِي
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وُرُودِ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ عَلَيْهِ، وَسُؤَالِهِ فِي
مُسَاعَدَتِهِ فِي رَدِّ مُلْكِ الْيَمَنِ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ
السَّاطِرُونَ صَاحِبِ الْحَضْرِ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ
النُّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ، وَأَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدِّ
بْنِ عَدْنَانَ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي نَسَبِهِ. فَاسْتَطْرَدَ ابْنُ
هِشَامٍ فِي ذِكْرِ صَاحِبِ الْحَضْرِ، وَالْحَضْرُ حِصْنٌ عَظِيمٌ بَنَاهُ هَذَا
الْمَلِكُ وَهُوَ السَّاطِرُونَ عَلَى حَافَّةِ الْفُرَاتِ وَهُوَ مُنِيفٌ
مُرْتَفِعُ الْبِنَاءِ، وَاسِعُ الرَّحْبَةِ وَالْفِنَاءِ دَوْرُهُ بِقَدْرِ
مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالْبَهَاءِ وَالْحُسْنِ
وَالسَّنَاءِ، وَإِلَيْهِ يُجْبَى مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَقْطَارِ وَالْأَرْجَاءِ،
وَاسْمُ السَّاطِرُونَ: الضَّيْزَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَجْرَمَ
مِنْ بَنِي سَلِيحِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ. كَذَا نَسَبَهُ
ابْنُ الْكَلْبِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنَ الْجَرَامِقَةِ وَكَانَ أَحَدَ
مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَكَانَ
يَقْدُمُهُمْ إِذَا
اجْتَمَعُوا لِحَرْبِ عَدُوٍّ مِنْ غَيْرِهِمْ وَكَانَ حِصْنُهُ بَيْنَ دِجْلَةَ
وَالْفُرَاتِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ كِسْرَى سَابُورَ ذُو الْأَكْتَافِ غَزَا
السَّاطِرُونَ مَلِكَ الْحَضْرِ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ هِشَامٍ: إِنَّمَا الَّذِي
غَزَا صَاحِبَ الْحَضْرِ ; سَابُورُ بْنُ أَزْدَشَيْرِ بْنِ بَابِكَ أَوَّلُ
مُلُوكِ بَنِي سَاسَانَ أَذَلَّ مُلُوكَ الطَّوَائِفِ وَرَدَّ الْمُلْكَ إِلَى
الْأَكَاسِرَةِ، وَأَمَّا سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ بْنُ هُرْمُزَ فَبَعْدَ
ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ذَكَرَهُ السُّهَيْلِيُّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَحَصَرَهُ سَنَتَيْنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَرْبَعَ سِنِينَ
; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَغَارَ عَلَى بِلَادِ سَابُورَ فِي غَيْبَتِهِ
بِأَرْضِ الْعِرَاقِ فَأَشْرَفَتْ بِنْتُ السَّاطِرُونَ - وَكَانَ اسْمُهَا:
النَّضِيرَةَ - فَنَظَرَتْ إِلَى سَابُورَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ دِيبَاجٍ، وَعَلَى
رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ
وَاللُّؤْلُؤِ وَكَانَ جَمِيلًا فَدَسَّتْ إِلَيْهِ: أَتَتَزَوَّجُنِي إِنْ
فَتَحْتُ لَكَ بَابَ الْحَضْرِ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا أَمْسَى سَاطِرُونَ
شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ وَكَانَ لَا يَبِيتُ إِلَّا سَكْرَانَ فَأَخَذَتْ مَفَاتِيحَ
بَابِ الْحَضْرِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ، وَبَعَثَتْ بِهَا مَعَ مَوْلًى لَهَا
فَفَتَحَ الْبَابَ، وَيُقَالَ: بَلْ دَلَّتْهُمْ عَلَى نَهْرٍ
يَدْخُلُ مِنْهُ
الْمَاءُ مُتَّسِعٍ فَوَلَجُوا مِنْهُ إِلَى الْحَضْرِ، وَيُقَالَ: بَلْ
دَلَّتْهُمْ عَلَى طِلَّسْمٍ كَانَ فِي الْحَضْرِ وَكَانَ فِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ
لَا يُفْتَحُ حَتَّى تُؤْخَذَ حَمَامَةٌ وَرْقَاءُ، وَتُخَضَّبُ رِجْلَاهَا
بِحَيْضِ جَارِيَةٍ بِكْرٍ زَرْقَاءَ، ثُمَّ تُرْسَلُ فَاذَا وَقَعَتْ عَلَى سُورِ
الْحَضْرِ سَقَطَ ذَلِكَ الطِّلَّسْمُ فَيُفْتَحُ الْبَابُ فَفَعَلَ ذَلِكَ
فَانْفَتَحَ الْبَابُ فَدَخَلَ سَابُورُ فَقَتَلَ سَاطِرُونَ، وَاسْتَبَاحَ
الْحَضْرَ، وَخَرَّبَهُ، وَسَارَ بِهَا مَعَهُ فَتَزَوَّجَهَا فَبَيْنَا هِيَ
نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِهَا لَيْلًا إِذْ جَعَلَتْ تَمَلْمَلُ لَا تَنَامُ فَدَعَا
لَهَا بِالشَّمْعِ فَفَتَّشَ فِرَاشَهَا فَوَجَدَ عَلَيْهِ وَرَقَةَ آسٍ فَقَالَ
لَهَا سَابُورُ: أَهَذَا الَّذِي أَسْهَرَكِ ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا كَانَ
أَبُوكِ يَصْنَعُ بِكِ ؟ قَالَتْ: كَانَ يَفْرِشُ لِي الدِّيبَاجَ، وَيُلْبِسُنِي
الْحَرِيرَ، وَيُطْعِمُنِي الْمُخَّ، وَيَسْقِينِي الْخَمْرَ قَالَ: أَفَكَانَ
جَزَاءُ أَبِيكِ مَا صَنَعْتِ بِهِ ؟ ! أَنْتِ إِلَيَّ بِذَلِكَ أَسْرَعُ، ثُمَّ
أَمَرَ بِهَا فَرُبِطَتْ قُرُونُ رَأْسِهَا بِذَنَبِ فَرَسٍ، ثُمَّ رَكَضَ
الْفَرَسُ حَتَّى قَتَلَهَا فَفِيهِ يَقُولُ أَعْشَى بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
أَلَمْ تَرَ لِلْحَضْرِ إِذْ أَهْلُهُ بِنُعْمَى وَهَلْ خَالِدٌ مَنْ نَعِمْ
أَقَامَ بِهِ
شَاهْبُورُ الْجُنُو
دِ حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُمْ فَلَمَّا دَعَا رَبَّهُ دَعْوَةً
أَنَابَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ فَهَلْ زَادَهُ رَبُّهُ قُوَّةً
وَمِثْلُ مُجَاوِرِهِ لَمْ يُقِمْ وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً
هَلُمُّوا إِلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ فَمُوتُوا كِرَامًا بِأَسْيَافِكُمْ
أَرَى الْمَوْتَ يَجْشَمُهُ مَنْ جَشِمْ
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ
وَالْحَضْرُ صَابَتْ عَلَيْهِ دَاهِيَةٌ مِنْ فَوْقِهِ أَيِّدٌ مَنَاكِبُهَا
رَبِيَّةٌ لَمْ تُوَقِّ وَالِدَهَا لِحِينِهِا إِذْ أَضَاعَ رَاقِبُهَا
إِذْ غَبَقَتْهُ صَهْبَاءَ صَافِيَةً وَالْخَمْرُ وَهْلٌ يَهِيمُ شَارِبُهَا
فَأَسْلَمَتْ
أَهْلَهَا بِلَيْلَتِهَا تَظُنُّ أَنَّ الرَّئِيسَ خَاطِبُهَا
فَكَانَ حَظُّ الْعَرُوسِ إِذْ جَشَرَ الصُّبْحُ دِمَاءً تَجْرِي سَبَائِبُهَا
وَخُرِّبَ الْحَضْرُ وَاسْتُبِيحَ وَقَدِ أُحْرِقَ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ أَيْضًا
أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُعَيِّرُ بِالدَّهْرِ أَأَنْتَ الْمُبَرَّأُ الْمَوْفُورُ
أَمْ لَدَيْكَ الْعَهْدُ الْوَثِيقُ مِنَ الْأَيَّا مِ بَلْ أَنْتَ جَاهِلٌ
مَغْرُورُ
مَنْ رَأَيْتَ الْمَنُونَ خَلَّدْنَ أَمْ مَنْ ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ
خَفِيرُ
أَيْنَ كِسْرَى كِسْرَى الْمُلُوكِ أَنُوشِرْ وَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ
وَبَنُو الْأَصْفَرِ الْكِرَامِ مُلُوكِ الرُّومِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمُ مَذْكُورُ
وَأَخُو الْحَضْرِ إِذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ لَةُ تُجْبَى إِلَيْهِ وَالْخَابُورُ
شَادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْ سًا فَلِلطَّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ يَهَبْهُ
رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَانَ الْمُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
وَتَذَكَّرْ رَبَّ الْخَوَرْنَقِ إِذْ أَشْ رَفَ يَوْمًا وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ
سَرَّهُ مَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْ لِكُ وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسَّدِيرُ
فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ وَمَا غِبْ طَةُ حَيٍّ إِلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ
ثُمَّ أَضْحَوْا كَأَنَّهُمْ وَرَقٌ جَ فَّ فَأَلْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
قُلْتُ: وَرَبُّ الْخَوَرْنَقِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شِعْرِهِ، رَجُلٌ مِنَ
الْمُلُوكِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعَظَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ فِي أَمْرِهِ
الَّذِي كَانَ قَدْ أَسْرَفَ فِيهِ وَعَتَا، وَتَمَرَّدَ فِيهِ، وَأَتْبَعَ
نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَلَمْ يُرَاقِبْ فِيهَا مَوْلَاهَا فَوَعَظَهُ بِمَنْ سَلَفَ
قَبْلَهُ مِنَ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ، وَكَيْفَ بَادُوا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
أَحَدٌ، وَأَنَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ مُنْتَقِلٌ
عَنْهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُ فَأَخَذَتْهُ مَوْعِظَتُهُ، وَبَلَغَتْ مِنْهُ كُلَّ
مَبْلَغٍ فَارْعَوَى لِنَفْسِهِ، وَفَكَّرَ فِي يَوْمِهِ وَأَمْسِهِ، وَخَافَ مِنْ
ضِيقِ رَمْسِهِ فَتَابَ وَأَنَابَ وَنَزَعَ عَمَّا كَانَ فِيهِ، وَتَرَكَ
الْمُلْكَ وَلَبِسَ زِيَّ الْفُقَرَاءِ وَسَاحَ فِي الْفَلَوَاتِ وَحَظِيَ
بِالْخَلَوَاتِ، وَخَرَجَ عَمَّا كَانَ النَّاسُ فِيهِ مِنِ اتِّبَاعِ
الشَّهَوَاتِ وَعِصْيَانِ رَبِّ
السَّمَاوَاتِ وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ مَبْسُوطَةً الشَّيْخُ الْإِمَامُ مُوَفَّقُ ابْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ " التَّوَّابِينَ "، وَكَذَلِكَ أَوْرَدَهَا بِإِسْنَادٍ مَتِينٍ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ فِي كِتَابِ " الرَّوْضُ الْأَنِفُ " الْمُرَتَّبُ أَحْسَنَ تَرْتِيبٍ، وَأَوْضَحَ تَبْيِينٍ.
خَبَرُ مُلُوكِ
الطَّوَائِفِ
وَأَمَّا صَاحِبُ الْحَضْرِ وَهُوَ سَاطِرُونَ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ
مُقَدَّمًا عَلَى سَائِرِ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ وَكَانَ مِنْ زَمَنِ إِسْكَنْدَرَ
بْنِ فِيلِبْسَ الْمَقْدُونِيِّ الْيُونَانِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا غَلَبَ
عَلَى مَلِكِ الْفُرْسِ دَارَا بْنِ دَارَا وَأَذَلَّ مَمْلَكَتَهُ، وَخَرَّبَ
بِلَادِهِ، وَاسْتَبَاحَ بَيْضَةَ قَوْمِهِ، وَنَهَبَ حَوَاصِلَهُ، وَمَزَّقَ
شَمْلَ الْفُرْسِ شَذَرَ مَذَرَ، عَزَمَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ
شَمْلٌ وَلَا يَلْتَئِمَ لَهُمْ أَمْرٌ فَجَعَلَ يُقِرُّ كُلَّ مَلِكٍ عَلَى
طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ فِي إِقْلِيمٍ مِنْ أَقَالِيمِ الْأَرْضِ، مَا بَيْنَ
عَرَبِهَا وَأَعَاجِمِهَا فَاسْتَمَرَّ كُلُّ مَلِكٍ مِنْهُمْ يَحْمِي حَوْزَتَهُ
وَيَحْفَظُ حِصَّتَهُ، وَيَسْتَغِلُّ مَحِلَّتَهُ فَاذَا هَلَكَ قَامَ وَلَدُهُ
مِنْ بَعْدِهِ أَوْ أَحَدُ قَوْمِهِ فَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ قَرِيبًا
مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ حَتَّى كَانَ أَزْدَشَيْرُ بْنُ بَابِكَ مِنْ بَنِي
سَاسَانَ بْنِ بَهْمَنَ بْنِ إِسْفِنْدِيَارَ بْنِ يَشْتَاسِبَ بْنِ لِهْرَاسِبَ
فَأَعَادَ مُلْكَهُمْ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَرَجَعَتِ الْمَمَالِكُ
بِرُمَّتِهَا إِلَيْهِ، وَأَزَالَ مَمَالِكَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ، وَلَمْ يَبْقَ
مِنْهُمْ تَالِدٌ وَلَا طَارِفٌ وَكَانَ تَأَخَّرَ عَلَيْهِ حِصَارُ صَاحِبِ
الْحَضْرِ الَّذِي كَانَ أَكْبَرَهُمْ وَأَشَدَّهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ إِذْ كَانَ
رَئِيسَهُمْ وَمُقَدَّمَهُمْ فَلَمَّا مَاتَ أَزْدَشَيْرُ تَصَدَّى لَهُ وَلَدُهُ
سَابُورُ فَحَاصَرَهُ حَتَّى أَخَذَهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
بَابُ ذِكْرُ بَنِي
إِسْمَاعِيلَ
وَمَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى زَمَانِ الْبَعْثَةِ
تَقَدَّمَ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ ذِكْرِ
الْأَنْبِيَاءِ، وَكَيْفَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ احْتَمَلَهُ أَبُوهُ
ابْرَاهِيمَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ
فَأَسْكَنَهَا بِوَادِي مَكَّةَ بَيْنَ جِبَالِ فَارَانَ حَيْثُ لَا أَنِيسَ بِهِ
وَلَا حَسِيسَ وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ رَضِيعًا، ثُمَّ ذَهَبَ وَتَرَكَهُمَا
هُنَالِكَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ، لَيْسَ عِنْدَ أُمِّهِ سِوَى جِرَابٌ
فِيهِ تَمْرٌ، وَوِكَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَلَمَّا نَفِدَ ذَلِكَ أَنْبَعَ اللَّهُ
لِهَاجَرَ زَمْزَمَ الَّتِي هِيَ طَعَامُ طُعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمٍ كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ نَزَلَتْ جُرْهُمٌ، وَهِيَ طَائِفَةٌ مِنَ
الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ مِنْ أُمَمِ الْعَرَبِ الْأَقْدَمِينَ عِنْدَ هَاجَرَ
بِمَكَّةَ عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْمَاءِ شَيْءٌ إِلَّا مَا يَشْرَبُونَ
مِنْهُ، وَيَنْتَفِعُونَ بِهِ فَاسْتَأْنَسَتْ هَاجَرُ بِهِمْ، وَجَعَلَ
الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُطَالِعُ أَمْرَهُمْ فِي كُلِّ حِينٍ يُقَالَ:
إِنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْبُرَاقَ مِنْ بِلَادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي ذَهَابِهِ
وَإِيَابِهِ، ثُمَّ لَمَّا تَرَعْرَعَ الْغُلَامُ وَشَبَّ، وَبَلَغَ مَعَ أَبِيهِ السَّعْيَ
كَانَتْ قِصَّةُ الذَّبْحِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ
إِسْمَاعِيلُ عَلَى
الصَّحِيحِ.
ثُمَّ لَمَّا كَبِرَ تَزَوَّجَ مِنْ جُرْهُمٍ امْرَأَةً ثُمَّ فَارَقَهَا
وَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا، وَتَزَوَّجَ بِالسَّيِّدَةِ بِنْتِ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو
الْجُرْهُمِيِّ، وَجَاءَتْهُ بِالْبَنِينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ كَمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ، وَهُمْ نَابِتٌ وَقَيْذَرُ وَمِيشَا وَمِسْمَعٌ وَمَاشَى وَدُمَا
وَأُدَرُ وَيَطُورُ وَنَبِشٌ وَطِيمَا وَقَيْذُمَا، هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ
ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَهُ ابْنَةٌ
وَاحِدَةٌ اسْمُهَا نَسَمَةُ، وَهِيَ الَّتِي زَوَّجَهَا مِنِ ابْنِ أَخِيهِ
الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ ابْرَاهِيمَ فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا الرُّومُ
وَالْيُونَانُ وَالْأَشْبَانُ أَيْضًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
ثُمَّ جَمِيعُ عَرَبِ الْحِجَازِ عَلَى اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ يَرْجِعُونَ فِي
أَنْسَابِهِمْ إِلَى وَلَدَيْهِ نَابِتٍ وَقَيْذَرَ وَكَانَ الرَّئِيسُ بَعْدَهُ
وَالْقَائِمُ بِالْأُمُورِ الْحَاكِمُ فِي مَكَّةَ وَالنَّاظِرُ فِي أَمْرِ
الْبَيْتِ وَزَمْزَمَ: نَابِتُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ
الْجُرْهُمِيِّينَ، ثُمَّ تَغَلَّبَتْ جُرْهُمٌ عَلَى الْبَيْتِ طَمَعًا فِي بَنِي
أُخْتِهِمْ فَحَكَمُوا بِمَكَّةَ وَمَا وَالَاهَا عِوَضًا عَنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ
مُدَّةً طَوِيلَةً فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ أَمْرُ الْبَيْتِ بَعْدَ
نَابِتٍ مُضَاصَ بْنَ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ الرَّقِيبِ بْنِ هِينِ بْنِ نَبْتِ
بْنِ جُرْهُمٍ، وَجُرْهُمُ بْنُ قَحْطَانَ، وَيُقَالُ: جُرْهُمُ بْنُ يَقْطُنَ
بْنُ عَيْبَرِ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ الْجُرْهُمِيُّ
وَكَانَ نَازِلًا بِأَعْلَى مَكَّةَ بِقُعَيْقِعَانَ وَكَانَ السَّمَيْدَعُ
سَيِّدُ قَطُورَاءَ نَازِلًا بِقَوْمِهِ فِي أَسْفَلِ
مَكَّةَ، وَكُلٌّ
مِنْهُمَا يَعْشُرُ مَنْ مَرَّ بِهِ مُجْتَازًا إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ
جُرْهُمٍ، وَقَطُورَاءَ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ السَّمَيْدَعُ، وَاسْتَوْثَقَ
الْأَمْرُ لِمُضَاضٍ وَهُوَ الْحَاكِمُ بِمَكَّةَ وَالْبَيْتِ لَا يُنَازِعُهُ فِي
ذَلِكَ وَلَدُ إِسْمَاعِيلَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَشَرَفِهِمْ، وَانْتِثَارِهِمْ
بِمَكَّةَ وَبِغَيْرِهَا، وَذَلِكَ لِخُئُولَتِهِمْ لَهُ، وَلِعَظَمَةِ الْبَيْتِ
الْحَرَامِ، ثُمَّ صَارَ الْمُلْكُ بَعْدَهُ إِلَى ابْنِهِ الْحَارِثِ، ثُمَّ
إِلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، ثُمَّ بَغَتْ جُرْهُمٌ بِمَكَّةَ، وَأَكْثَرَتْ
فِيهَا الْفَسَادَ، وَأَلْحَدُوا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى ذُكِرَ أَنَّ رَجُلًا
مِنْهُمْ يُقَالَ: لَهُ إِسَافُ بْنُ بَغِيٍّ، وَامْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا:
نَائِلَةُ بِنْتُ وَائِلٍ اجْتَمَعَا فِي الْكَعْبَةِ فَكَانَ مِنْهُ إِلَيْهَا
الْفَاحِشَةُ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ فَنَصَبَهُمَا النَّاسُ قَرِيبًا
مِنَ الْبَيْتِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِمَا فَلَمَّا طَالَ الْمَطَالُ بَعْدَ ذَلِكَ
بِمُدَدٍ، عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي زَمَنِ خُزَاعَةَ كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ فَكَانَا صَنَمَيْنِ مَنْصُوبَيْنِ يُقَالُ لَهُمَا:
إِسَافٌ وَنَائِلَةُ فَلَمَّا أَكْثَرَتْ جُرْهُمٌ الْبَغْيَ بِالْبَلَدِ
الْحَرَامِ تَمَالَأَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ الَّذِينَ كَانُوا نَزَلُوا حَوْلَ
الْحَرَمِ كَانُوا مِنْ ذُرِّيَّةِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الَّذِي خَرَجَ مِنَ
الْيَمَنِ لِأَجْلِ مَا تَوَقَّعَ مِنْ سَيْلِ الْعَرِمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ:
إِنَّ خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لِحَرْبِهِمْ وَآذَنُوهُمْ بِالْحَرْبِ
وَاقْتَتَلُوا، وَاعْتَزَلَ بَنُو إِسْمَاعِيلَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ فَغَلَبَتْ
خُزَاعَةُ، وَهُمْ بَنُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَغُبْشَانُ
وَأَجْلَوْهُمْ
عَنِ الْبَيْتِ فَعَمَدَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيُّ -
وَهُوَ سَيِّدُهُمْ - إِلَى غَزَالَيِ الْكَعْبَةِ - وَهُمَا مِنْ ذَهَبٍ -
وَحَجَرِ الرُّكْنِ - وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ - وَإِلَى سُيُوفٍ مُحَلَّاةٍ،
وَأَشْيَاءَ أُخَرَ فَدَفَنَهَا فِي زَمْزَمَ وَعَلَّمَ زَمْزَمَ، وَارْتَحَلَ
بِقَوْمِهِ فَرَجَعُوا إِلَى الْيَمَنِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ
وَقَائِلَةٍ وَالدَّمْعُ سَكْبٌ مُبَادِرٌ وَقَدْ شَرِقَتْ بِالدَّمْعِ مِنْهَا
الْمَحَاجِرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إِلَى الصَّفَا
أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمَرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ فَقُلْتُ لَهَا وَالْقَلْبُ مِنِّي
كَأَنَّمَا
يُلَجْلِجُهُ بَيْنَ الْجَنَاحَيْنِ طَائِرُ بَلَى نَحْنُ كُنَّا أَهْلَهَا
فَأَزَالَنَا
صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ وَكُنَّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ
بَعْدِ نَابِتٍ
نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ وَنَحْنُ وَلِينَا الْبَيْتَ مِنْ
بَعْدِ نَابِتٍ
بِعِزٍّ فَمَا يَحْظَى لَدَيْنَا الْمُكَاثِرُ مَلَكْنَا فَعَزَّزْنَا فَأَعْظِمْ
بِمُلْكِنَا
فَلَيْسَ لِحَيٍّ غَيْرِنَا ثَمَّ فَاخِرُ أَلَمْ تُنْكِحُوا مِنْ خَيْرِ شَخْصٍ
عَلِمْتُهُ
فَأَبْنَاؤُهُ مِنَّا وَنَحْنُ الْأَصَاهِرُ فَإِنْ تَنْثَنِ الدُّنْيَا عَلَيْنَا
بِحَالِهَا
فَإِنَّ لَهَا حَالًا وَفِيهَا التَّشَاجُرُ فَأَخْرَجَنَا مِنْهَا الْمَلِيكُ
بِقُدْرَةٍ
كَذَلِكَ يَا لَلنَّاسِ تَجْرِي الْمَقَادِرُ
أَقُولُ إِذَا
نَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ أَنَمْ
أَذَا الْعَرْشِ لَا يَبْعُدْ سُهَيْلٌ وَعَامِرُ وَبُدِّلْتُ مِنْهَا أَوْجُهًا
لَا أُحِبُّهَا
قَبَائِلُ مِنْهَا حِمْيَرٌ وَيَحَابِرُ وَصِرْنَا أَحَادِيثًا وَكُنَّا
بِغِبْطَةٍ
بِذَلِكَ عَضَّتْنَا السُّنُونُ الْغَوَابِرُ فَسَحَّتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ تَبْكِي
لِبَلْدَةٍ
بِهَا حَرَمٌ أَمْنٌ وَفِيهَا الْمَشَاعِرُ وَتَبْكِي لِبَيْتٍ لَيْسَ يُؤْذَى
حَمَامُهُ
يَظَلُّ بِهِ أَمْنًا وَفِيهِ الْعَصَافِرُ. وَفِيهِ وُحُوشٌ لَا تُرَامُ
أَنِيسَةٌ
إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ فَلَيْسَتْ تُغَادِرُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ - أَيْضًا -
يَذْكُرُ بَنِي بَكْرٍ وَغُبْشَانَ الَّذِينَ خَلَفُوا بَعْدَهُمْ بِمَكَّةَ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ سِيرُوا إِنَّ قَصْرَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا
تَسِيرُونَا
حُثُّوا الْمَطِيَّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمَّتِهَا قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضُّوا مَا
تُقَضُّونَا
كُنَّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيَّرَنَا دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا صِرْنَا
تَصِيرُونَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ هَذَا مَا صَحَّ لَهُ مِنْهَا، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَوَّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي
الْعَرَبِ، وَأَنَّهَا وُجِدَتْ مَكْتُوبَةً فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ، وَلَمْ
يُسَمَّ قَائِلُهَا، وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ لِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ إِخْوَةً
وَحَكَى
عِنْدَهَا
حِكَايَةً مُعْجِبَةً، وَإِنْشَادَاتٍ مُعَرَّبَةً قَالَ: وَزَادَ أَبُو
الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِهِ " فَضَائِلِ مَكَّةَ " عَلَى
هَذِهِ الْأَبْيَاتِ الْمَذْكُورَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ مُضَاضٍ
قَدْ مَالَ دَهْرٌ عَلَيْنَا ثُمَّ أَهْلَكَنَا بِالْبَغْيِ فِينَا وَبَزَّ
النَّاسَ نَاسُونَا
إِنَّ التَّفَكُّرَ لَا يُجْدِي بِصَاحِبِهِ عِنْدَ الْبَدِيهَةِ فِي عِلْمٍ لَهُ
دُونَا
قَضُّوا أُمُورَكُمُ بِالْحَزْمِ إِنَّ لَهَا أُمُورَ رُشْدٍ رَشَدْتُمْ ثُمَّ
مَسْنُونَا
وَاسْتَخْبِرُوا فِي صَنِيعِ النَّاسِ قَبْلَكُمُ كَمَا اسْتَبَانَ طَرِيقٌ
عِنْدَهُ الْهُونَا
كُنَّا زَمَانًا مُلُوكَ النَّاسِ قَبْلَكُمُ بِمَسْكَنٍ فِي حَرَامِ اللَّهِ
مَسْكُونَا
قِصَّةُ خُزَاعَةَ
وَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ
وَعِبَادَةِ الْعَرَبِ لِلْأَصْنَامِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ غُبْشَانَ مِنْ خُزَاعَةَ، وَلِيَتِ الْبَيْتَ
دُونَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَكَانَ الَّذِي يَلِيهِ مِنْهُمْ عَمْرُو
بْنُ الْحَارِثِ الْغُبْشَانِيُّ، وَقُرَيْشٌ إِذْ ذَاكَ حُلُولٌ، وَصِرْمٌ
وَبُيُوتَاتٌ مُتَفَرِّقُونَ فِي قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ. قَالُوا:
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ خُزَاعَةُ خُزَاعَةَ; لِأَنَّهُمْ تَخَزَّعُوا مِنْ وَلَدِ
عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ حِينَ أَقْبَلُوا مِنَ الْيَمَنِ يُرِيدُونَ الشَّامَ
فَنَزَلُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فَأَقَامُوا بِهِ قَالَ عَوْنُ بْنُ أَيُّوبَ
الْأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ الْخَزْرَجِيُّ فِي ذَلِكَ
فَلَمَّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَرٍّ تَخَزَّعَتْ خُزَاعَةُ مِنَّا فِي حُلُولٍ
كَرَاكِرِ حَمَتْ كُلَّ وَادٍ مِنْ تِهَامَةَ وَاحْتَمَتْ
بِصُمِّ الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ الْبَوَاتِرِ
وَقَالَ أَبُو
الْمُطَهَّرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ
فَلَمَّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَكَّةَ أَحْمَدَتْ خُزَاعَةُ دَارَ الْآكِلِ
الْمُتَحَامِلِ
فَحَلَّتْ أَكَارِيسًا وَشَتَّتْ قَنَابِلًا عَلَى كُلِّ حَيٍّ بَيْنَ نَجْدٍ
وَسَاحِلِ
نَفَوْا جُرْهُمًا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ وَاحْتَبَوْا بِعِزٍّ خُزَاعِيٍّ شَدِيدِ
الْكَوَاهِلِ
فَوَلِيَتْ خُزَاعَةُ الْبَيْتَ يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ
حَتَّى كَانَ آخِرَهُمْ حُلَيْلُ بْنُ حُبْشِيَّةَ بْنِ سَلُولِ بْنِ كَعْبِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ الْخُزَاعِيُّ الَّذِي تَزَوَّجَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ
ابْنَتَهُ حُبَّى فَوَلَدَتْ لَهُ بَنِيهِ الْأَرْبَعَةَ; عَبْدَ الدَّارِ
وَعَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدًا، ثُمَّ صَارَ أَمْرُ الْبَيْتِ
إِلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. وَاسْتَمَرَّتْ خُزَاعَةُ عَلَى وِلَايَةِ
الْبَيْتِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقِيلَ: خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانُوا مَشْئُومِينَ فِي وِلَايَتِهِمْ; وَذَلِكَ لِأَنَّ
فِي زَمَانِهِمْ كَانَ أَوَّلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ بِالْحِجَازِ; وَذَلِكَ
بِسَبَبِ رَئِيسِهِمْ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ
أَوَّلُ مَنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا يُقَالَ:
إِنَّهُ فَقَأَ أَعْيُنَ عِشْرِينَ بَعِيرًا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ أَنَّهُ
مَلَكَ عِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّ مَنْ
مَلَكَ أَلْفَ
بَعِيرٍ فَقَأَ
عَيْنَ وَاحِدٍ مِنْهَا; لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْعَيْنَ عَنْهَا،
وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْأَزْرَقِيُّ. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ
رُبَّمَا ذَبَحَ أَيَّامَ الْحَجِيجِ عَشَرَةَ آلَافِ بَدَنَةً، وَكَسَى عَشَرَةَ
آلَافِ حُلَّةٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ يُطْعِمُ الْعَرَبَ وَيَحِيسُ لَهُمُ الْحَيْسَ
بِالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ، وَيَلُتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ قَالُوا: وَكَانَ قَوْلُهُ
وَفِعْلُهُ فِيهِمْ كَالشَّرْعِ الْمُتَّبِعِ لِشَرَفِهِ فِيهِمْ وَمَحِلَّتِهِ
عِنْدَهُمْ، وَكَرَمِهِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ
لُحَيٍّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ فَلَمَّا قَدِمَ
مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ، وَهُمْ وَلَدُ
عِمْلَاقٍ وَيُقَالُ وَلَدُ عَمْلِيقِ بْنِ لَاوَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ رَآهُمْ
يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي
أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا لَهُ: هَذِهِ أَصْنَامٌ نَعْبُدُهَا
فَنَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا وَنَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا فَقَالَ لَهُمْ:
أَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا فَأَسِيرُ بِهِ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ
فَيَعْبُدُوهُ ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالَ لَهُ: هُبَلُ فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ
فَنَصَبَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَيَزْعُمُونَ أَنَّ أَوَّلَ مَا كَانَتْ عِبَادَةُ
الْحِجَارَةِ فِي بَنِي إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ لَا
يَظْعَنُ مِنْ مَكَّةَ ظَاعِنٌ مِنْهُمْ حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ وَالْتَمَسُوا
الْفُسَحَ فِي الْبِلَادِ إِلَّا حَمَلَ مَعَهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ
الْحَرَمِ;
تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ فَحَيْثُمَا نَزَلُوا وَضَعُوهُ فَطَافُوا بِهِ
كَطَوَافِهِمْ بِالْكَعْبَةِ حَتَّى سَلَخَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى أَنْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ مَا اسْتَحْسَنُوا مِنَ الْحِجَارَةِ، وَأَعْجَبَهُمْ حَتَّى خَلَفَتِ
الْخُلُوفُ، وَنَسُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ
قَالَ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا حَثْيَةً
مِنَ التُّرَابِ، وَجِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا
بِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتَبْدَلُوا بِدِينِ ابْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ غَيْرَهُ فَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَصَارُوا إِلَى مَا
كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ
بَقَايَا مِنْ عَهْدِ ابْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَا مِنْ
تَعْظِيمِ الْبَيْتِ وَالطَّوَافِ بِهِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْوُقُوفِ
عَلَى عَرَفَاتٍ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَهَدْيِ الْبُدْنِ وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ مَعَ إِدْخَالِهِمْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَكَانَتْ كِنَانَةُ
وَقُرَيْشٌ إِذَا أَهَلُّوا قَالُوا: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ
لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ
فَيُوَحِّدُونَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، ثُمَّ يُدْخِلُونَ مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ،
وَيَجْعَلُونَ مِلْكَهَا بِيَدِهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ [ يُوسُفَ: 106 ] أَيْ مَا يُوَحِّدُونَنِي لِمَعْرِفَةِ حَقِّي
إِلَّا جَعَلُوا مَعِي شَرِيكًا مِنْ خَلْقِي.
وَقَدْ ذَكَرَ
السُّهَيْلِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ لَبَّى هَذِهِ التَّلْبِيَةَ
عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَأَنَّ ابْلِيسَ تَبَدَّى لَهُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ
فَجَعَلَ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ فَيَسْمَعُ مِنْهُ وَيَقُولُ كَمَا يَقُولُ،
وَاتَّبَعَهُ الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ:
لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ يَقُولُ: قَدْ قَدْ أَيْ: حَسْبُ حَسْبُ.
وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ ثنا إِسْحَاقُ بْنُ ابْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ آدَمَ ثنا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَمْرُو
بْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ أَبُو خُزَاعَةَ تَفَرَّدَ بِهِ
الْبُخَارِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي حَدَّثَكَ عَمْرُو
بْنُ مُجَمِّعٍ حَدَّثَنَا ابْرَاهِيمُ الْهَجَرِيُّ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ أَبُو خُزَاعَةَ
عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ
تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَهَذَا
يَقْتَضِي: أَنَّ
عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ هُوَ أَبُو خُزَاعَةَ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ
الْقَبِيلَةُ بِكَمَالِهَا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ
فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ. وَلَوْ تَرَكْنَا مُجَرَّدَ هَذَا
لَكَانَ ظَاهِرًا فِي ذَلِكَ بَلْ كَالنَّصِّ، وَلَكِنْ قَدْ جَاءَ مَا
يُخَالِفُهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَبُو
الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيَّبِ قَالَ: الْبَحِيرَةُ الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ فَلَا
يَحْلِبُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَالسَّائِبَةُ الَّتِي كَانُوا يَسُيِّبُونَهَا
لِآلِهَتِهِمْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ قَالَ: وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ
عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ
السَّوَائِبَ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
صَالِحِ بْنِ كِيسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
بِهِ. ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قَالَ الْحَاكِمُ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ
الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ كَذَا قَالَ.
وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيِّ عَنِ اللَّيْثِ
بْنِ سَعْدٍ عَنْ
يَزِيدَ بْنِ
الْهَادِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ
يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ
وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ
بُخْتٍ كَمَا قَالَ الْحَاكِمُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ
قُصْبَهُ فِي النَّارِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ. وَهَذَا
مُنْقَطِعٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالصَّحِيحُ: الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْهُ
كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَالَّذِي قَبْلَهُ
الْخُزَاعِيُّ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وَالِدَ الْقَبِيلَةِ بَلْ
مُنْتَسِبٌ إِلَيْهَا فَلَعَلَّ مَا وَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ: أَبُو
خُزَاعَةَ تَصْحِيفٌ مِنَ الرَّاوِي مِنْ: أَخِي خُزَاعَةَ أَوْ أَنَّهُ كَانَ
يُكَنَّى بِأَبِي خُزَاعَةَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ
بِأَنَّهُ أَبُو خُزَاعَةَ كُلِّهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ ابْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيِّ يَا
أَكْثَمُ، رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ
قُصْبَهُ فِي النَّارِ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ
وَلَا بِكَ مِنْهُ فَقَالَ أَكْثَمُ: عَسَى أَنْ يَضُرَّنِي شُبَهُهُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ: لَا إِنَّكَ
مُؤْمِنٌ وَهُوَ
كَافِرٌ إِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ ; فَنَصَبَ
الْأَوْثَانَ، وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَوَصَّلَ
الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ هَنَّادِ بْنِ عَبْدَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ أَوْ مِثْلَهُ، وَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ
أَيْضًا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْكِرْمَانِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ ابْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا يُونُسُ
عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا
بَعْضًا، وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبَهُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ
السَّوَائِبَ تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ
صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ لَعَنَهُ اللَّهُ كَانَ قَدِ ابْتَدَعَ
لَهُمْ أَشْيَاءَ فِي الدِّينِ غَيَّرَ بِهَا دِينَ الْخَلِيلِ فَاتَّبَعَهُ
الْعَرَبُ فِي ذَلِكَ فَضَلُّوا بِذَلِكَ ضَلَالًا بَعِيدًا بَيِّنًا فَظِيعًا
شَنِيعًا وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ مِنْهُ فَقَالَ تَعَالَى وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ الْآيَةَ [ النَّحْلِ: 116 ] وَقَالَ تَعَالَى
مَا جَعَلَ اللَّهُ
مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [
الْمَائِدَةِ: 13 ] وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا كُلِّهِ مَبْسُوطًا،
وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ فَمَنْ أَرَادَ
فَلْيَأْخُذْهُ مِنْ ثَمَّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ تَعَالَى وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [ النَّحْلِ:
56 ] وَقَالَ تَعَالَى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ
وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ. وَهَذَا
لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا
كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ
شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ
وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ
حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا
افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا مَا فِي
بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى
أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ
وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ
سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى
اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ. [ الْأَنْعَامِ: 136 - 140 ]
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: بَابُ جَهْلِ الْعَرَبِ: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِذَا سَرَّكَ أَنْ تَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَمِائَةٍ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [ الْأَنْعَامِ: 140 ] وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا كَانُوا ابْتَدَعُوهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْبَاطِلَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي ظَنَّهَا كَبِيرُهُمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - مَصْلَحَةً وَرَحْمَةً بِالدَّوَابِّ وَالْبَهَائِمِ وَهُوَ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ اتَّبَعَهُ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الطَّغَامُ فِيهِ بَلْ قَدْ تَابَعُوهُ فِيمَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ بِكَثِيرٍ وَهُوَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَدَّلُوا مَا كَانَ اللَّهُ بَعَثَ بِهِ ابْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مِنْ تَوْحِيدِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَتَحْرِيمِ الشِّرْكِ، وَغَيَّرُوا شَعَائِرَ الْحَجِّ، وَمَعَالِمَ الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ وَلَا دَلِيلٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ، وَاتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُشْرِكِينَ، وَشَابَهُوا قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ، وَلِهَذَا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نُوحًا وَكَانَ أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ يَنْهَى عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا [ نُوحٍ: 23، 24 ] الْآيَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا صَالِحِينَ فِي
قَوْمِ نُوحٍ
فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ
عَبَدُوهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي
عِبَادَتِهِمْ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْأَصْنَامُ فِي
الْعَرَبِ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمْ دِينَ إِسْمَاعِيلَ فَكَانَ وَدُّ لِبَنِي كَلْبِ
بْنِ وَبْرَةَ بْنِ تَغَلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ
قُضَاعَةَ وَكَانَ مَنْصُوبًا بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَكَانَ سُوَاعٌ لِبَنِي
هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ وَكَانَ مَنْصُوبًا
بِمَكَانٍ يُقَالَ لَهُ: رُهَاطٌ. وَكَانَ يَغُوثُ لِبَنِي أَنْعَمَ مِنْ طَيِّئٍ،
وَلِأَهْلِ جُرَشٍ مِنْ مَذْحِجٍ وَكَانَ مَنْصُوبًا بِجُرَشَ وَكَانَ يَعُوقُ
مَنْصُوبًا بِأَرْضِ هَمْدَانَ مِنَ الْيَمَنِ لِبَنِي خَيْوَانَ بَطْنٍ مِنْ
هَمَدَانَ وَكَانَ نَسْرٌ مَنْصُوبًا بِأَرْضِ حِمْيَرَ لِقَبِيلَةٍ يُقَالَ
لَهُمْ ذُو الْكُلَاعِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ لِخَوْلَانَ بِأَرْضِهِمْ صَنَمٌ يُقَالَ لَهُ:
عُمْيَانِسُ يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أَنْعَامِهِمْ، وَحُرُوثِهِمْ قَسْمًا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ فَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ عُمْيَانِسَ مِنْ
حَقِّ اللَّهِ الَّذِي قَسَمُوهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ وَمَا دَخَلَ فِي حَقِّ
اللَّهِ مَنْ حَقِّ عُمْيَانِسَ رَدُّوهُ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ وَجَعَلُوا
لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا [ الْأَنْعَامِ:
136 ]
قَالَ: وَكَانَ
لِبَنِي مِلْكَانَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ صَنَمٌ يُقَالَ
لَهُ: سَعْدٌ، صَخْرَةٌ بِفَلَاةٍ مِنْ أَرْضِهِمْ طَوِيلَةٍ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ
مِنْهُمْ بِإِبِلٍ لَهُ مُؤَبَّلَةٍ لِيَقِفَهَا عَلَيْهِ الْتِمَاسَ بَرَكَتِهِ
فِيمَا يَزْعُمُ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْإِبِلُ وَكَانَتْ مَرْعِيَّةً لَا تُرْكَبُ
وَكَانَ الصَّنَمُ يُهْرَاقُ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ نَفَرَتْ مِنْهُ فَذَهَبَتْ فِي
كُلِّ وَجْهٍ، وَغَضِبَ رَبُّهَا وَأَخَذَ حَجَرًا فَرَمَاهُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ:
لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ نَفَرْتَ عَلَيَّ إِبِلِي، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا
فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَالَ:
أَتَيْنَا إِلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا فَشَتَّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ
مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعْدٌ إِلَّا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةٍ مِنَ الْأَرْضِ لَا يَدْعُو لِغَيٍّ
وَلَا رُشْدِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ فِي دَوْسٍ صَنَمٌ لِعَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ
الدَّوْسِيِّ قَالَ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدِ اتَّخَذَتْ صَنَمًا عَلَى بِئْرٍ فِي
جَوْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالَ لَهُ: هُبَلُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ
هِشَامٍ أَنَّهُ أَوَّلُ صَنَمٍ نَصَبَهُ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذُوا إِسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى مَوْضِعِ
زَمْزَمَ يَنْحَرُونَ
عِنْدَهُمَا، ثُمَّ
ذَكَرَ أَنَّهُمَا كَانَا رَجُلًا، وَامْرَأَةً فَوَقَعَ عَلَيْهَا فِي
الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ
أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ
إِسَافًا وَنَائِلَةَ كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ أَحْدَثَا فِي
الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَجَرَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُمْهِلْهُمَا حَتَّى فَجَرَا فِيهَا بَلْ مَسَخَهُمَا
قَبْلَ ذَلِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ نُصِبَا عِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلَمَّا
كَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ نَقَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا عَلَى زَمْزَمَ، وَطَافَ
النَّاسُ بِهِمَا، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو طَالِبٍ وَحَيْثُ يُنِيخُ
الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ بِمُفْضَى السُّيُولِ مِنْ إِسَافٍ وَنَائِلِ
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِكَسْرِ نَائِلَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ خَرَجَتْ مِنْهَا
سَوْدَاءُ شَمْطَاءُ تَخْمِشُ وَجْهَهَا وَتَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ.
وَقَدْ ذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ: أَنَّ أَجَأً وَسَلْمَى وَهُمَا جَبَلَانِ بِأَرْضِ
الْحِجَازِ إِنَّمَا سُمِّيَا بِاسْمِ رَجُلٍ اسْمُهُ أَجَأُ بْنُ عَبْدِ الْحَيِّ
فَجَرَ بِسَلْمَى بِنْتِ حَامٍ فَصُلِبَا فِي هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ فَعُرِفَا بِهِمَا
قَالَ: وَكَانَ بَيْنَ أَجَأٍ، وَسَلْمَى صَنَمٌ لِطَيَّئٍ يُقَالَ لَهُ: فِلْسٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذَ أَهْلُ كُلِّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا
يَعْبُدُونَهُ فَإِذَا
أَرَادَ الرَّجُلُ
مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسَّحَ بِهِ حِينَ يَرْكَبُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ مَا
يَصْنَعُ حِينَ يَتَوَجَّهُ إِلَى سَفَرِهِ، وَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ
تَمَسَّحَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ
عَلَى أَهْلِهِ قَالَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ قَالَتْ قُرَيْشٌ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ ص: 5 ] قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ
كَانَتِ الْعَرَبُ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ، وَهِيَ بُيُوتٌ
تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ، وَتُهْدِي
لَهَا كَمَا تُهْدِي لِلْكَعْبَةِ، وَتَطُوفُ بِهَا كَطَوَافِهَا بِهَا،
وَتَنْحَرُ عِنْدَهَا، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا;
لِأَنَّهَا بِنَاءُ ابْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَسْجِدُهُ، فَكَانَتْ
لِقُرَيْشٍ وَبَنِي كِنَانَةَ الْعُزَّى بِنَخْلَةَ، وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا
وَحُجَّابُهَا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ سُلَيْمٍ حُلَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ وَقَدْ
خَرَّبَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ زَمَنَ الْفَتْحِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ: وَكَانَتِ اللَّاتُ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا،
وَحُجَّابُهَا بَنِي مُعَتِّبٍ مِنْ ثَقِيفٍ، وَخَرَّبَهَا أَبُو سُفْيَانَ
وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ بَعْدَ مَجِيءِ أَهْلِ الطَّائِفِ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ: وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ
مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشَلَّلِ
بِقُدَيْدٍ وَقَدْ خَرَّبَهَا أَبُو سُفْيَانَ أَيْضًا، وَقِيلَ: عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ: وَكَانَ ذُو
الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ وَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنَ
الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ وَكَانَ يُقَالَ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَةُ،
وَلِبَيْتِ مَكَّةَ الْكَعْبَةُ الشَّامِيَّةُ وَقَدْ خَرَّبَهُ جَرِيرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ كَمَا سَيَأْتِي. قَالَ: وَكَانَ فِلْسٌ لِطَيِّئٍ
وَمَنْ يَلِيهَا بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ بَيْنَ أَجَأٍ وَسَلْمَى، وَهُمَا جَبَلَانِ
مَشْهُورَانِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: وَكَانَ رِئَامٌ بَيْتًا لِحِمْيَرَ،
وَأَهْلِ الْيَمَنِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قِصَّةِ تُبَّعٍ أَحَدِ مُلُوكِ
حِمْيَرَ، وَقِصَّةُ الْحَبْرَيْنِ حِينَ خَرَّبَاهُ، وَقَتَلَا مِنْهُ كَلْبًا
أَسْوَدَ قَالَ: وَكَانَتْ رُضَاءُ بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَلَهَا يَقُولُ الْمُسْتَوْغِرُ،
وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ
وَلَقَدْ شَدَدْتُ عَلَى رُضَاءٍ شَدَّةً فَتَرَكْتُهَا قَفْرًا بِقَاعٍ أَسْحَمَا
وَأَعَانَ عَبْدُ اللَّهِ فِي مَكْرُوهِهَا وَبِمِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ أَغْشَى
الْمَحْرَمَا
وَيُقَالَ: إِنَّ الْمُسْتَوْغِرَ هَذَا عَاشَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ
سَنَةً وَكَانَ أَطْوَلَ مُضَرَ كُلِّهَا عُمْرًا وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ
وَلَقَدْ سَئِمْتُ
مِنَ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا وَعُمِرْتُ مِنْ عَدَدِ السِّنِينَ مِئِينَا
مِائَةً حَدَتْهَا بَعَدْهَا مِائَتَانِ لِي وَازْدَدْتُ مِنْ عَدَدِ الشُّهُورِ
سِنِينَا
هَلْ مَا بَقِي إِلَّا كَمَا قَدْ فَاتَنَا يَوْمٌ يَمُرُّ وَلَيْلَةٌ تَحْدُونَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابِ بْنِ هُبَلَ. قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: وَمِنَ الْمُعَمَّرِينَ الَّذِينَ جَاوَزُوا الْمِائَتَيْنِ
وَالثَّلَاثَمِائَةٍ زُهَيْرٌ هَذَا، وَعُبَيْدُ بْنُ شَرِيَّةَ، وَدَغْفَلُ بْنُ
حَنْظَلَةَ النَّسَّابَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ ضُبَعَ الْفَزَارِيُّ، وَذُو
الْأُصْبُعِ الْعَدْوَانِيُّ، وَنَصْرُ بْنُ دُهْمَانَ بْنِ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ
بْنِ غَطَفَانَ وَكَانَ قَدِ اسْوَدَّ شَعْرُهُ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ، وَتَقَوَّمَ ظَهْرُهُ
بَعْدَ اعْوِجَاجِهِ قَالَ: وَكَانَ ذُو الْكَعَبَاتِ لِبَكْرٍ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ
وَائِلٍ، وَإِيَادٍ بِسَنْدَادَ، وَلَهُ يَقُولُ أَعْشَى بْنُ قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ
بَيْنَ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ وَالْبَيْتِ ذِي الشُّرُفَاتِ مِنْ
سَنْدَادِ
وَأَوَّلُ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ
وَلَقَدْ عَلِمْتُ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِي الْمَدَى أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُ ذِي
الْأَعْوَادِ
مَاذَا أُؤَمِّلُ بَعْدَ آلِ مُحَرِّقٍ تَرَكُوا مَنَازِلَهُمْ وَبَعْدَ إِيَادِ
نَزَلُوا
بِأَنْقَرَةَ يَسِيلُ عَلَيْهِمُ مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيءُ مِنْ أَطْوَادِ
أَرْضُ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ وَبَارِقٍ وَالْبَيْتِ ذِي الْكَعَبَاتِ مِنْ
سَنْدَادِ
جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَلِّ دِيَارِهِمْ فَكَأَنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيعَادِ
وَأَرَى النَّعِيمَ وَكُلَّمَا يُلْهَى بِهِ يَوْمًا يَصِيرُ إِلَى بِلًى
وَنَفَادِ
قَالَ السُّهَيْلُ: الْخَوَرْنَقُ قَصْرٌ بَنَاهُ النُّعْمَانُ الْأَكْبَرُ
لِسَابُورَ; لِيَكُونَ وَلَدُهُ فِيهِ عِنْدَهُ، وَبَنَاهُ رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ:
سِنِمَّارُ فِي عِشْرِينَ، وَلَمْ يُرَ بِنَاءٌ أَعْجَبُ مِنْهُ فَخَشِيَ
النُّعْمَانُ أَنْ يَبْنِيَ لِغَيْرِهِ مِثْلَهُ فَأَلْقَاهُ مِنْ أَعْلَاهُ
فَقَتَلَهُ فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ
جَزَانِي جَزَاهُ اللَّهُ شَرَّ جَزَائِهِ جَزَاءَ سِنِمَّارَ وَمَا كَانَ ذَا
ذَنْبِ
سِوَى رَصْفِهِ الْبُنْيَانَ عِشْرِينَ حَجَّةً يَعُدُّ عَلَيْهِ بِالْقَرَامِدِ
وَالسَّكْبِ
فَلَمَّا انْتَهَى الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ وَآضَ كَمِثْلِ الطَّوْدِ
وَالْبَاذِخِ الصَّعْبِ
رَمَى بِسِنِمَّارَ عَلَى حُقِّ رَأْسِهِ وَذَاكَ لَعَمْرُ اللَّهِ مِنْ أَقْبَحِ
الْخَطْبِ
قَالَ
السُّهَيْلِيُّ: أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ وَالسِّنِمَّارُ
مِنْ أَسْمَاءِ الْقَمَرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْبُيُوتَ كُلَّهَا هُدِمَتْ لَمَّا جَاءَ
الْإِسْلَامُ، جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
كُلِّ بَيْتٍ مِنْ هَذِهِ سَرَايَا تُخَرِّبُهُ، وَإِلَى تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَنْ
كَسَرَهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْكَعْبَةِ مَا يُضَاهِيهَا، وَعُبِدَ اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَتَفْصِيلُهُ فِي
مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.
خَبَرُ عَدْنَانَ جَدِّ عَرَبِ الْحِجَازِ
لَا خِلَافَ أَنَّ عَدْنَانَ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ ابْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ الْآبَاءِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَأَكْثَرُ مَا قِيلَ:
أَرْبَعُونَ أَبًا وَهُوَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَخَذُوهُ مِنْ
كِتَابِ رِخْيَا كَاتِبِ أَرَمِيَا بْنِ حَلْقِيَا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ
وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا ثَلَاثُونَ وَقِيلَ: عِشْرُونَ وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ
وَقِيلَ: عَشَرَةٌ وَقِيلَ: تِسْعَةٌ وَقِيلَ: سَبْعَةٌ وَقِيلَ: إِنَّ أَقَلَّ
مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ; لِمَا رَوَاهُ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ الزَّمْعِيِّ عَنْ عَمَّتِهِ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
مَعَدُّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَنْدِ بْنِ يَرَى بْنِ أَعْرَاقِ
الثَّرَى قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَزَنْدٌ هُوَ الْهَمَيْسَعُ وَالْيَرَى هُوَ
نَبْتٌ، وَأَعْرَاقُ الثَّرَى هُوَ إِسْمَاعِيلُ; لِأَنَّهُ ابْنُ ابْرَاهِيمَ،
وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ تَأْكُلْهُ النَّارُ كَمَا أَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ
الثَّرَى قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَا نَعْرِفُ زَنْدًا إِلَّا فِي هَذَا
الْحَدِيثِ، وَزَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ وَهُوَ أَبُو دُلَامَةَ الشَّاعِرُ==التالي ج5وج6. بمشيئة الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق