ج33.وج34.البداية والنهاية لابن كثير
ج33. البداية
والنهاية لابن كثير
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
كِتَابُ السُّلْطَانِ بِإِبْطَالِ
الضَّمَانَاتِ مِنَ الْأَوْقَافِ وَالْأَمْلَاكِ بِغَيْرِ رِضَا أَصْحَابِهَا، قَرَأَهُ
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ صَاحِبُ دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ،
وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ: مَنْ لَهُ مَظْلِمَةٌ فَلْيَأْتِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ
إِلَى دَارِ الْعَدْلِ. وَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ
وَأَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْكَتَبَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَخَلَعَ
عَلَى ابْنِ جَمَاعَةَ خِلْعَتَيْنِ; وَاحِدَةً لِلْقَضَاءِ وَالْأُخْرَى
لِلْخَطَابَةِ.
وَلَمَّا كَانَ فِي شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَصَلَ الْبَرِيدُ فَأَخْبَرَ
بِوِلَايَةِ إِمَامِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِالشَّامِ
عِوَضًا عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ، وَإِبْقَاءِ ابْنِ جَمَاعَةَ عَلَى
الْخَطَابَةِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ تَدْرِيسُ الْقَيْمُرِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ
بِيَدِ إِمَامِ الدِّينِ، وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، وَفِيهِ
احْتِرَامٌ وَإِكْرَامٌ لَهُ، فَدَرَّسَ بِالْقَيْمُرِيَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ
ثَانِي رَجَبٍ، وَدَخَلَ إِمَامُ الدِّينِ إِلَى دِمَشْقَ عَقِيبَ صَلَاةِ
الظُّهْرِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الثَّامِنِ مِنْ رَجَبٍ فَجَلَسَ
بِالْعَادِلِيَّةِ، وَحَكَمَ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ
بِقَصَائِدَ، مِنْهَا قَصِيدَةٌ لِبَعْضِهِمْ يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
تَبَدَّلَتِ الْأَيَّامُ مِنْ عُسْرِهَا يُسْرًا فَأَضْحَتْ ثُغُورُ الشَّامِ
تَفْتَرُّ بِالْبُشْرَى
وَكَانَ حَالَ دُخُولِهِ عَلَيْهِ خِلْعَةُ السُّلْطَانِ، وَمَعَهُ الْقَاضِي
جَمَالُ الدِّينِ الزَّوَاوِيُّ قَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ وَعَلَيْهِ
خِلْعَةٌ أَيْضًا، وَقَدْ شَكَرَ سِيرَةَ إِمَامِ الدِّينِ فِي السَّفَرِ،
وَذَكَرَ مَنْ حُسْنِ أَخْلَاقِهِ وَرِيَاضَتِهِ مَا هُوَ حَسَنٌ جَمِيلٌ،
وَدَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ بُكْرَةَ الْأَرْبِعَاءِ مُنْتَصَفِ رَجَبٍ،
وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بَعْدَ الدَّرْسِ بِتَوْلِيَةِ أَخِيهِ جَلَالِ الدِّينِ
نِيَابَةَ
الْحُكْمِ، وَجَلَسَ فِي الْإِيوَانِ
الصَّغِيرِ وَحَكَمَ، وَأَلْبَسَهُ أَخُوهُ خِلْعَةً وَجَاءَ النَّاسُ
يُهَنِّئُونَهُ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالشُّبَّاكِ
الْكَمَالِيِّ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَبَقِيَّةِ
الْقُضَاةِ، قَرَأَهُ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ.
وَفِي شَعْبَانَ وَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ شَمْسَ الدِّينِ الْأَعْسَرَ تَوَلَّى
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ شَدَّ الدَّوَاوِينِ وَالْوِزَارَةَ، وَبَاشَرَ
الْمَنْصِبَيْنِ جَمِيعًا، وَبَاشَرَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ فَخْرُ
الدِّينِ بْنُ الشِّيرَجِيِّ عِوَضًا عَنْ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ صَصْرَى، ثُمَّ
عُزِلَ بِعْدَ قَلِيلٍ بِشَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ بِأَمِينِ الدِّينِ بْنِ هِلَالٍ،
وَأُعِيدَتِ الشَّامِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ إِلَى الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ
الْفَارِقِيِّ مَعَ النَّاصِرِيَّةِ بِسَبَبِ غَيْبَةِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ
الشَّرِيشِيِّ بِالْقَاهِرَةِ، وَدَرَّسَ فِيهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَوْمَ
اثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ.
وَفِي الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مُسِكَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ
قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلَاجِّينَ
هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ مَعَهُ، وَاحْتِيطَ عَلَى حَوَاصِلِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، وَوَلَّى السُّلْطَانُ نِيَابَةَ مِصْرَ
الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ مَنْكُوتَمُرَ الْحُسَامِيَّ، وَهَؤُلَاءِ
الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ مَسَكَهُمْ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ أَعَانُوهُ
وَبَايَعُوهُ عَلَى الْعَادِلِ كَتْبُغَا، وَقَدِمَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ
بْنُ الشَّرِيشِيِّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ
بِتَدْرِيسِ النَّاصِرِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ،
وَدَرَّسَ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأُمْسِكَ الْأَمِيرُ شَمْسُ
الدِّينِ سُنْقُرُ الْأَعْسَرُ وَزِيرُ مِصْرِ وَشَادُّ الدَّوَاوِينِ يَوْمَ
السَّبْتِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَاحْتِيطَ عَلَى
أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ بِمِصْرَ وَالشَّامِ أَيْضًا، وَنُودِيَ بِمِصْرَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ أَنْ لَا يَرْكَبَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَرَسًا
وَلَا بَغْلًا، وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ
رَاكِبًا ذَلِكَ أُخِذَ مِنْهُ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْيَمَنَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ هِزَبْرُ الدِّينِ
دَاوُدُ بْنُ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ الْمُتَقَدَّمُ ذِكْرُهُ فِي الَّتِي
قَبِلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ بِمِصْرَ عِزُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عِوَضٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَرَعَ فِي الْمَذْهَبِ، وَحَكَمَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ مَشْكُورًا فِي سِيرَتِهِ وَحُكْمِهِ، تُوُفِّيَ فِي
صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِالْمُقَطَّمِ، وَتَوَلَّى بَعْدَهُ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ
الْغَنِيِّ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرٍ
الْحَرَّانِيُّ بِدِيَارِ مِصْرَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ، عَفِيفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَزْرُوعِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَزَّازٍ
الْمِصْرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ
تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ، وُلِدَ سَنَةَ
خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَجَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَحَجَّ فِيهَا أَرْبَعِينَ حَجَّةً
مُتَوَالِيَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ صَلَاةَ الْغَائِبِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الشَّيْخُ شِيثُ بْنُ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيُّ
تُوُفِّيَ بِقَرْيَةِ بُسْرَ مِنْ حَوْرَانَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْآخِرِ، وَتَوَجَّهَ أَخُوهُ حَسَنٌ وَالْفُقَرَاءُ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى هُنَاكَ
لِتَعْزِيَةِ أَخِيهِمْ حَسَنٍ الْأَكْبَرِ فِيهِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُقْرِئُ جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
كَثِيرِ بْنِ ضِرْغَامٍ الْمِصْرِيُّ
ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، نَقِيبُ السُّبْعِ الْكَبِيرِ وَالْغَزَّالِيَّةِ، كَانَ
قَدْ قَرَأَ عَلَى السَّخَاوِيِّ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ
رَجَبٍ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ
قُبَّةِ الشَّيْخِ رَسْلَانَ
وَاقِفُ السَّامَرِّيَّةِ الصَّدْرُ الْكَبِيرُ سَيْفُ الدِّينِ، أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ
السَّامَرِّيُّ
وَاقِفُ السَّامَرِّيَّةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِ الْكَرَوَّسِيَّةِ بِدِمَشْقَ،
وَكَانَتْ دَارَهُ الَّتِي يَسْكُنُ بِهَا، وَدُفِنَ بِهَا، وَوَقَفَهَا دَارَ
حَدِيثٍ وَخَانْقَاهُ، وَكَانَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِهَا
بِهَذِهِ الدَّارِ مُدَّةً، وَكَانَتْ قَدِيمًا تُعْرَفُ بِدَارِ ابْنِ قَوَّامٍ،
بَنَاهَا مِنْ حِجَارَةٍ مَنْحُوتَةٍ كُلِّهَا، وَكَانَ السَّامَرِّيُّ كَثِيرَ
الْأَمْوَالِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، مُعَظَّمًا عِنْدَ الدَّوْلَةِ، جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ،
لَهُ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ وَمُبْتَكَرَاتٌ فَائِقَةٌ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ. وَقَدْ كَانَ بِبَغْدَادَ لَهُ حُظْوَةٌ
عِنْدَ الْوَزِيرِ ابْنِ الْعَلْقَمِيِّ، وَامْتَدَحَ الْمُسْتَعْصِمَ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ خِلْعَةً سَوْدَاءَ سِنِيَّةً، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ
النَّاصِرِ صَاحِبِ حَلَبَ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ أَيْضًا، فَسَعَى فِيهِ أَهْلُ
الدَّوْلَةِ، فَصَنَّفَ فِيهِمْ أُرْجُوزَةً فَتْحَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهَا بَابًا
فَصَادَرَهُمُ الْمَلِكُ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَعَظَّمُوهُ جِدًّا،
وَتَوَسَّلُوا بِهِ إِلَى أَغْرَاضِهِمْ، وَلَهُ قَصِيدَةٌ فِي مَدْحِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَتَبَ عَنْهُ الْحَافِظُ
الدِّمْيَاطِيُّ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ.
وَاقِفُ النَّفِيسِيَّةِ الَّتِي
بِالرَّصِيفِ: الرَّئِيسُ نَفِيسُ الدِّينِ أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ صَدَقَةَ الْحَرَّانَيُّ
كَانَ أَحَدَ عُدُولِ الْقِسْمَةِ بِدِمَشْقَ، وَوَلِيَ نَظَرَ الْأَيْتَامِ فِي
وَقْتٍ، وَكَانَ ذَا ثَرْوَةٍ مِنَ الْمَالِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَوَقَفَ دَارَهَ دَارَ حَدِيثٍ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ الرَّابِعِ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيونَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْأَحَدِ بَعْدَ مَا صُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْأُمَوِيِّ.
الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِالشَّارُوتِ الدِّمَشْقِيُّ، يُلَقَّبُ
بِنَجْمِ الدِّينِ، تَرْجَمَهُ الْحَرِيرِيُّ فَأَطْنَبَ، وَذَكَرَ لَهُ
كَرَامَاتٍ وَأَشْيَاءَ مِنْ عِلْمِ الْحُرُوفِ وَغَيْرِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِحَالِهِ.
وَفِيهَا قَتَلَ قَازَانُ الْأَمِيرَ نَوْرُوزَ الَّذِي كَانَ إِسْلَامُهُ عَلَى
يَدَيْهِ، كَانَ نَوْرُوزُ هَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَسْلَمَهُ، وَدَعَاهُ
لِلْإِسْلَامِ، فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَكْثَرُ التَّتَرِ، فَإِنَّ
التَّتَرَ شَوَّشُوا خَاطِرَ قَازَانَ عَلَيْهِ، وَاسْتَمَالُوهُ مِنْهُ وَعَنْهُ،
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ وَقَتَلَ جَمِيعَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ،
وَكَانَ نَوْرُوزُ هَذَا مِنْ خِيَارِ أُمَرَاءِ التَّتَرِ عِنْدَ قَازَانَ،
وَكَانَ ذَا عِبَادَةٍ وَصِدْقٍ فِي إِسْلَامِهِ وَأَذْكَارِهِ وَتَطَوُّعَاتِهِ،
وَقَصْدِهِ الْجَيِّدِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَفَا عَنْهُ، وَلَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى
يَدَيْهِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَاتَّخَذُوا
السُّبَحَ وَالْهَيَاكِلَ، وَحَضَرُوا الْجُمُعَ وَالْجَمَاعَاتِ، وَقَرَءُوا
الْقُرْآنَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ حُسَامُ
الدِّينِ لَاجِينُ السِّلَحْدَارِيُّ الْمَنْصُورِيُّ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ
مَنْكُوتَمُرُ، وَبِدِمَشْقَ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ، وَقَاضِي الشَّافِعِيَّةِ
إِمَامُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ، وَقَاضِي الْحَنَفِيَّةِ حُسَامُ الدِّينِ الرَّازِيُّ،
ثُمَّ وَلِيَ ابْنُهُ جَلَالُ الدِّينِ مَكَانَهُ بِدِمَشْقَ فِي عَاشِرِ صَفَرٍ،
وَرَكِبَ بِالْخِلْعَةِ وَالطَّرْحَةِ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ، وَكُتِبَ فِي
الْإِسْجَالَاتِ قَاضِي الْقُضَاةِ. وَقَاضِي الْمَالِكِيَّةِ جَمَالُ الدِّينِ
الزَّوَاوِيُّ، وَقَاضِي الْحَنَابِلَةِ تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ
حَمْزَةَ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
جَمَاعَةَ، وَطُلِبَ قَاضِي الْقُضَاةِ حُسَامُ الدِّينِ الرَّازِيُّ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَقَامَ عِنْدَ السُّلْطَانِ لَاجِينَ وَوَلَّاهُ
قَضَاءَ الْقُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ بِمِصْرَ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ
السُّرُوجِيِّ، وَاسْتَقَرَّ وَلَدُهُ جَلَالُ الدِّينِ بِالْقَضَاءِ فِي الشَّامِ
بِدِمَشْقَ قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَدَرَّسَ بِمَدْرَسَتَيْ أَبِيهِ الْخَاتُونِيَّةِ
وَالْمُقَدَّمِيَّةِ، وَتَرَكَ مَدْرَسَةَ الْقَصَّاعِينَ وَالشِّبْلِيَّةِ.
وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى يَدَيِ الْبَرِيدِ بِعَافِيَةِ السُّلْطَانِ مِنَ
الْوَقْعَةِ الَّتِي كَانَ وَقَعَهَا، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ وَزُيَّنَتِ
الْبَلَدُ، فَإِنَّهُ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَهُوَ يَلْعَبُ بِالْكُرَةِ، فَكَانَ
كَمَا
قَالَ الشَّاعِرُ:
حَوَيْتَ بَطْشًا وَإِحْسَانًا وَمَعْرِفَةً وَلَيْسَ يَحْمِلُ هَذَا كُلَّهُ
الْفَرَسُ
وَجَاءَ التَّقْلِيدُ وَالْخِلْعَةُ لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَقُرِئَ
التَّقْلِيدُ، وَبَاسَ الْعَتَبَةَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَرَّسَ بِالْجَوْزِيَّةِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ قَاضِي
الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ سُلَيْمَانَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ إِمَامُ الدِّينِ
الشَّافِعِيُّ وَأَخُوهُ جَلَالُ الدِّينِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ،
وَبَعْدَ التَّدْرِيسِ جَلَسَ وَحَكَمَ عَنْ أَبِيهِ بِإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ غَضِبَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ
الْعِيدِ، وَتَرَكَ الْحُكْمَ بِمِصْرَ أَيَّامًا، ثُمَّ اسْتُرْضِيَ وَعَادَ،
وَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْتَنِيبَ وَلَدَهُ الْمُحِبَّ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَاشِرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ
بِالْمَدْرَسَةِ الْمُعَظَّمِيَّةِ، وَخَطَبَ فِيهَا مُدَرِّسُهَا الْقَاضِي
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ. وَاشْتُهِرَ فِي هَذَا الْحِينِ
الْقَبْضُ عَلَى بَدْرِ الدِّينِ بَيْسَرِيِّ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ. وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ
بِجَرِيدَةٍ صُحْبَةَ عَلَمِ الدِّينِ الدَّوَادَارِيِّ إِلَى تَلِّ حَمْدُونَ
فَفُتِحَتْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ، وَجَاءَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى
دِمَشْقَ فِي الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
رَمَضَانَ، وَضُرِبَتْ بِهِ
الْخَلِيلِيَّةُ، وَأُذِّنَ بِهَا الظَّهْرُ، وَكَانَ أَخْذُهَا يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ رَمَضَانَ، ثُمَّ فُتِحَتْ مَرْعَشُ بَعْدَهَا، فَدَقَّتِ
الْبَشَائِرُ، ثُمَّ انْتَقَلَ الْجَيْشُ إِلَى قَلْعَةِ حَمُوصَ، فَأُصِيبَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ، مِنْهُمُ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ
طُقْصُبَا، أَصَابَهُ زِيَارٌ فِي فَخِذِهِ، وَأَصَابَ الْأَمِيرَ عَلَمَ الدِّينِ
الدَّوَادَارِيَّ حَجَرٌ فِي رِجْلِهِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ عَمِلَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِيعَادًا فِي الْجِهَادِ، وَحَرَّضَ فِيهِ،
بَالَغَ فِي أُجُورِ الْمُجَاهِدِينَ، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا وَمِيعَادًا
جَلِيلًا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ عَادَ الْمَلِكُ الْمَسْعُودُ نَجْمُ الدِّينِ خَضِرُ بْنُ
الظَّاهِرِ مِنْ بِلَادِ الْأَشْكَرِيِّ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ مَكَثَ
هُنَاكَ مِنْ زَمَنِ الْأَشْرَفِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَتَلَقَّاهُ السُّلْطَانُ
بِالْمَوْكِبِ، وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَحَجَّ الْأَمِيرُ خَضِرُ بْنُ
الظَّاهِرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَعَ الْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ فِيهِمُ
الْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ.
وَفِي شَهْرِ شَوَّالٍ جَلَسَ الْمُدَرِّسُونَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي
أَنْشَأَهَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِمِصْرَ، وَهِيَ الْمَنْكُوتَمُرِيَّةُ
دَاخِلَ بَابِ الْقَنْطَرَةِ.
وَفِيهَا دَقَّتِ الْبَشَائِرُ
لِأَجْلِ أَخْذِ قَلْعَتِي حُمَيْصَ وَنُجَيْمَةَ مِنْ بِلَادِ سِيسَ.
وَفِيهَا وَصَلَتِ الْجَرِيدَةُ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ قَاصِدِينَ بِلَادَ سِيسَ
مَدَدًا لِأَصْحَابِهِمْ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدٍ.
وَفِي مُنْتَصَفِ ذِي الْحِجَّةِ أُمْسِكَ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ
الْحَمَوِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ
وَأَصْحَابِهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ.
وَفِيهَا قَلَّتِ الْمِيَاهُ بِدِمَشْقَ جِدًّا حَتَّى بَقِيَ ثَوْرًا فِي بَعْضِ
الْأَمَاكِنِ لَا يَصِلُ إِلَى رُكْبَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَمَّا بَرَدَى فَإِنَّهُ
لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُسْكَةُ مَاءٍ، وَلَا يَصِلُ إِلَى جِسْرِ جِسْرَيْنِ، وَغَلَا
سِعْرُ الثَّلْجِ بِالْبَلَدِ، وَأَمَّا نِيلُ مِصْرَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ
الزِّيَادَةِ وَالْكَثْرَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ حَسَنُ بْنُ الشَّيْخِ عَلِيٍّ الْحَرِيرِيُّ
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ بِقَرْيَةِ بُسْرَ، وَكَانَ أَكْبَرَ
الطَّائِفَةِ، وَلِلنَّاسِ إِلَيْهِ مَيْلٌ لِحُسْنِ أَخْلَاقِهِ وَجَوْدَةِ
مُعَاشَرَتِهِ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ.
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ أَبِي الرَّجَاءِ بْنِ أَبِي الزُّهْرِ التَّنُوخِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
السَّلْعُوسِ أَخُو الْوَزِيرِ شَمْسِ الدِّينِ، قَرَأَ
الْحَدِيثَ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْبَرِّ، تُوُفِّيَ
بِدَارِهِ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَعُمِلَ عَزَاؤَهُ بِمَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ، وَقَدْ وَلِيَ
فِي وَقْتٍ نَظَرَ الْجَامِعِ، وَشُكِرَتْ سِيرَتُهُ وَحَصَلَ لَهُ وَجَاهَةٌ
عَظِيمَةٌ عَرِيضَةٌ أَيَّامَ وِزَارَةِ أَخِيهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَشَهِدَ جِنَازَتَهُ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَيْكِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْأَيْكِيِّ، أَحَدُ الْفُضَلَاءِ الْحَلَّالِينَ
لِلْمُشْكِلَاتِ، الْمُفَسِّرِينَ الْمُعْضِلَاتِ، لَا سِيَّمَا فِي عِلْمِ
الْأَصْلَيْنِ وَالْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الْأَوَائِلِ، بَاشَرَ فِي وَقْتٍ
مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِمِصْرَ، وَأَقَامَ يُدَرِّسُ الْغَزَّالِيَّةِ قَبْلَ
ذَلِكَ، تُوُفِّيَ بِقَرْيَةِ الْمِزَّةِ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَدُفِنَ يَوْمَ
السَّبْتَ بَعْدَمَا صُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْمِزَّةِ، وَمَشَى النَّاسُ فِي
جِنَازَتِهِ مِنْهُمْ قَاضِي الْقُضَاةِ إِمَامُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ،
وَذَلِكَ فِي الرَّابِعِ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ
إِلَى جَانِبِ الشَّيْخِ شَمْلَةَ، وَعُمِلَ عَزَاؤُهُ بِخَانِقَاهِ
السُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مُعَظَّمًا
فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الصَّدْرُ ابْنُ عُقْبَةَ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الْبَصْرَاوِيُّ
الْحَنَفِيُّ
دَرَّسَ وَأَعَادَ، وَوَلِيَ فِي وَقْتٍ قَضَاءَ حَلَبَ، ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ
وَفَاتِهِ إِلَى مِصْرَ، فَجَاءَ بِتَوْقِيعٍ فِيهِ قَضَاءُ حَلَبَ، فَلَمَّا
اجْتَازَ بِدِمَشْقَ تُوُفِّيَ بِهَا فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
يَشِيبُ الْمَرْءُ وَيَشِبُّ مَعَهُ خَصْلَتَانِ; الْحِرْصُ، وَطُولُ الْأَمَلِ.
الشِّهَابُ الْعَابِرُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ
بْنِ نِعْمَةَ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ عَابِرُ الرُّؤْيَا، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى
الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَجَبًا فِي تَفْسِيرِ الْمَنَامَاتِ، وَلَهُ فِيهِ الْيَدُ
الطُّولَى، وَلَهُ تَصْنِيفٌ فِيهِ، لَيْسَ كَالَّذِي يُؤْثَرُ عَنْهُ مِنَ
الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ
الْمَنْصُورُ لَاجِينُ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ مَمْلُوكُهُ سَيْفُ الدِّينِ
مَنْكوتَمُرُ، وَقَاضِي الشَّافِعِيَّةِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ
الْعِيدِ، وَالْحَنَفِيُّ حُسَامُ الدِّينِ الرَّازِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ
وَالْحَنْبَلِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَنَائِبُ الشَّامِ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ
الْمَنْصُورِيُّ، وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَالْوَزِيرُ تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ، وَالْخَطِيبُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
جَمَاعَةَ.
وَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْمُحَرَّمِ رَجَعَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ
مِنْ بِلَادِ سِيسَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ الَّذِي أَصَابَ بَعْضَهُمْ، فَجَاءَ
كِتَابُ السُّلْطَانِ بِالْعَتَبِ الْأَكِيدِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لَهُمْ،
وَأَنَّ الْجَيْشَ يَخْرُجُ جَمِيعُهُ صُحْبَةَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ قَبْجَقَ
إِلَى هُنَاكَ، وَنَصَبَ مَشَانِقَ لِمَنْ تَأَخَّرَ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ،
فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ،
وَصُحْبَتُهُ الْجُيُوشُ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِلْفُرْجَةِ عَلَى
الْأَطْلَابِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، فَبَرَزَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَتَجَمُّلٍ هَائِلٍ، فَدَعَتْ لَهُ الْعَامَّةُ،
وَكَانُوا يُحِبُّونَهُ، وَاسْتَمَرَّ الْجَيْشُ سَائِرِينَ قَاصِدِينَ بِلَادَ
سِيسَ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى حِمْصَ بَلَغَ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ
قَبْجَقَ وَجَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ أَنَّ السُّلْطَانَ مُتَقَلِّبُ
الْخَاطِرِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ سَعْيِ مَنْكوتَمُرَ فِيهِمْ، وَعَلِمُوا أَنَّ
السُّلْطَانَ لَا يُخَالِفُهُ لِمَحَبَّتِهِ
لَهُ، فَاتَّفَقَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
عَلَى الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِ التَّتَارِ وَالنَّجَاةِ بِأَنْفُسِهِمْ،
فَسَاقُوا مِنْ حِمْصَ فِيمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَهُمْ قَبْجَقُ وَبزْلَى
وَبَكْتَمُرُ السِّلَحْدَارُ أَلْبَكِّيُّ، وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ، فَرَجَعَ
كَثِيرٌ مِنَ الْجَيْشِ إِلَى دِمَشْقَ، وَتَخَبَّطَتِ الْأُمُورُ، وَتَأَسَّفَتِ
الْعَوَامُ عَلَى قَبْجَقَ لِحُسْنِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ
الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْمَنْصُورِ لَاجِينَ وَعَوْدِ
الْمُلْكِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ التَّاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْبَرِيدِيَّةِ، وَأَخْبَرُوا بِمَقْتَلِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ لَاجِينَ وَنَائِبِهِ سَيْفِ الدِّينِ مَنْكوتَمُرَ، وَأَنَّ ذَلِكَ
كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ حَادِي عَشَرَةَ، عَلَى يَدِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ كُرْجِيٍّ الْأَشْرَفِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَذَلِكَ بِحُضُورِ الْقَاضِي
حُسَامِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي خِدْمَتِهِ يَتَحَدَّثَانِ،
وَقِيلَ: كَانَا يَلْعَبَانِ بِالشَّطَرَنْجِ. فَلَمْ يَشْعُرَا إِلَّا وَقَدْ
دَخَلَ عَلَيْهِمَا، فَبَادَرُوا إِلَى السُّلْطَانِ بِسُرْعَةٍ جَهْرَةً لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ، فَقَتَلُوهُ وَقُتِلَ نَائِبُهُ صَبْرًا صَبِيحَةَ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ، وَأُلْقِيَ عَلَى مَزْبَلَةٍ، وَاتَّفَقَ الْأُمَرَاءُ عَلَى
إِعَادَةِ ابْنِ أُسْتَاذِهِمُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ،
فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ، وَكَانَ بِالْكَرَكِ وَنَادَوْا لَهُ بِالْقَاهِرَةِ،
وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ قَبْلَ قُدُومِهِ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ إِلَى
نَائِبِ الشَّامِ سَيْفِ الدِّينِ قَبْجَقَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ فَرَّ خَوْفًا مِنْ
غَائِلَةِ لَاجِينَ، فَسَارَتِ الْبَرِيدِيَّةُ
وَرَاءَهُ، فَلَمْ يُدْرِكُوهُ إِلَّا وَقَدْ
لَحِقَ بِالْمَغُولِ عِنْدَ رَأْسِ الْعَيْنِ، مِنْ أَعْمَالِ مَارِدِينَ،
وَتَفَارَطَ الْحَالُ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَكَانَ الَّذِي شَمَّرَ الْعَزْمَ وَرَاءَهُمْ، وَسَاقَ لِيَرُدَّهُمُ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ الْبَلَدِ نَائِبُ الْقَلْعَةِ
عَلَمُ الدِّينِ أَرْجُواشُ وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ جَاغَانُ، وَاحْتَاطُوا
عَلَى مَا كَانَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِتِلْكَ الدَّوْلَةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ جَمَالُ
الدِّينِ يُوسُفُ الرُّومِيُّ مُحْتَسِبُ الْبَلَدِ وَنَاظِرُ الْمَارَسْتَانِ،
ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْدَ مُدَّةٍ، وَأُعِيدَ إِلَى وَظَائِفِهِ، وَاحْتِيطَ أَيْضًا
عَلَى سَيْفِ الدِّينِ جَاغَانَ وَحُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ وَالِي الْبَرِّ،
وَأُدْخِلَا الْقَلْعَةَ، وَقُتِلَ بِمِصْرَ الْأَمِيرَانِ سَيْفُ الدِّينِ
طُغْجِيٌّ - وَكَانَ قَدْ نَابَ عَنِ النَّاصِرِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ -
وَكُرْجِيٌّ الَّذِي تَوَلَّى قَتْلَ لَاجِينَ، فَقُتِلًا وَأُلْقِيَا عَلَى
الْمَزَابِلِ، وَجَعَلَ النَّاسُ مِنَ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَتَأَمَّلُونَ
صُورَةَ طُغْجِيٍّ، وَكَانَ جَمِيلَ الصُّورَةِ جِدًّا، ثُمَّ بَعْدَ الدَّلَالِ
وَالْمَالِ وَالْمُلْكِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ قُبُورٌ، فَدُفِنَ السُّلْطَانُ
لَاجِينُ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ نَائِبُهُ وَمَمْلُوكُهُ سَيْفُ الدِّينِ
مَنْكوتَمُرُ، وَدُفِنَ الْبَاقُونَ فِي مَضَاجِعِهِمْ هُنَالِكَ.
وَجَاءَتِ الْبَشَائِرُ بِدُخُولِ الْمَلِكِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ إِلَى مِصْرَ
يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا
وَضَرَبَتِ الْبَشَائِرُ، وَدَخَلَ الْقُضَاةُ وَأَكَابِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى
الْقَلْعَةِ، وَبُويِعَ بِحَضْرَةِ عَلَمِ الدِّينِ أرْجُواشَ، وَخُطِبَ لَهُ
عَلَى الْمَنَابِرِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا بِحَضْرَةِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ
وَالْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ قَدْ رَكِبَ
وَشَقَّ الْقَاهِرَةَ، وَعَلَيْهِ خِلْعَةُ الْخَلِيفَةِ، وَالْجَيْشُ مَعَهُ
مُشَاةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَضَرَبَتِ الْبَشَائِرُ
أَيْضًا. وَجَاءَتْ مَرَاسِيمُهُ، فَقُرِئَتْ عَلَى السُّدَّةِ،
وَفِيهَا الرِّفْقُ بِالرَّعَايَا
وَالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَوَا لَهُ، وَقِدَمَ الْأَمِيرُ
جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ، فَدَخَلَهَا يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ قَبْلَ الْعَصْرِ ثَانِي عِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى،
فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِقُدُومِهِ،
وَأَشْعَلُوا لَهُ الشُّمُوعَ، وَكَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَشْعَلُوا لَهُ
لَمَّا جَاءَ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْمَقْصُورَةِ، وَبَعْدَ أَيَّامٍ
أُفْرِجَ عَنْ جَاغَانَ وَلَاجِينَ وَالِي الْبَرِّ مِنَ الْقَلْعَةِ، وَعَادَا
إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ الْأُسْتَادَارُ
أَتَابِكًا لِلْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَلَّارُ
نَائِبًا بِمِصْرَ، وَأُخْرِجَ الْأَعْسَرُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْحَبْسِ،
وَوَلِيَ الْوِزَارَةَ بِمِصْرَ، وَأُخْرِجَ قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ مِنَ
الْحَبْسِ أَيْضًا، وَأُعْطِيَ نِيَابَةَ الصُّبَيْبَةِ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ
صَاحِبُ حَمَاةَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ نُقِلَ قَرَاسُنْقُرُ إِلَيْهَا.
وَكَانَ قَدْ وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ دَوْلَةٍ لَاجِينَ بَعْدَ خُرُوجِ قَبْجَقَ
مِنَ الْبَلَدِ مِحْنَةٌ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ ; قَامَ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَرَادُوا إِحْضَارَهُ إِلَى مَجْلِسِ
الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ فَلَمْ يَحْضُرْ، فَنُودِيَ فِي
الْبَلَدِ فِي الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَانَ قَدْ سَأَلَهُ عَنْهَا أَهْلُ حَمَاةَ الْمُسَمَّاةِ
" بِالْحَمَوِيَّةِ "، فَانْتَصَرَ لَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
جَاغَانُ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْهِ، فَاخْتَفَى كَثِيرٌ
مِنْهُمْ، وَضَرَبَ جَمَاعَةً مِمَّنْ نَادَى عَلَى الْعَقِيدَةِ، فَسَكَتَ
الْبَاقُونَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ عَمِلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ الْمِيعَادَ بِالْجَامِعِ عَلَى عَادَتِهِ، وَفَسَّرَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ الْقَلَمِ: 4 ] ثُمَّ اجْتَمَعَ
بِالْقَاضِي إِمَامِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ صَبِيحَةَ يَوْمِ السَّبْتِ،
وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَبَحَثُوا فِي "
الْحَمَوِيَّةِ " وَنَاقَشُوهُ
فِي أَمَاكِنَ مِنْهَا، فَأَجَابَ
عَنْهَا بِمَا أَسْكَتَهُمْ بَعْدَ كَلَامٍ كَثِيرٍ، ثُمَّ قَامَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ، وَقَدْ تَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ وَسَكَنَتِ الْأَحْوَالُ،
وَكَانَ الْقَاضِي إِمَامُ الدِّينِ مُعْتَقَدُهُ حَسَنٌ وَمَقْصِدُهُ صَالِحٌ.
وَفِيهَا وَقَفَ عَلَمُ الدِّينِ سَنْجَرُ الدَّوَادَارُ رِوَاقَهُ دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَجِ مَدْرَسَةً وَدَارَ حَدِيثٍ، وَوَلَّى مَشْيَخَتَهُ الشَّيْخَ عَلَاءَ
الدِّينِ بْنَ الْعَطَّارِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ وَعَمِلَ
لَهُمْ ضِيَافَةً، وَأُفْرِجُ عَنْ قَرَاسُنْقُرَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ حَادِي عَشَرَ شَوَّالٍ فُتِحَ مَشْهَدُ عُثْمَانَ الَّذِي
جَدَّدَهُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ نَاظِرُ الْجَامِعِ، وَأَضَافَ
إِلَيْهِ مَقْصُورَةَ الْخَدَمِ مِنْ شَمَالِيِّهِ، وَجَعَلَ لَهُ إِمَامًا
رَاتِبًا، وَحَاكَى بِهِ مَشْهَدَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ زَيْنِ الْعَابِدِينَ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَادَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ
الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ إِلَى قَضَاءِ الشَّامِ، وَعُزِلَ عَنْ قَضَاءِ مِصْرَ،
وَعُزِلِ وَلَدُهُ عَنْ قَضَاءِ الشَّامِ. وَكَثُرَتِ الْأَرَاجِيفُ فِي ذِي
الْحِجَّةِ بِقَصْدِ التَّتَارِ بِلَادَ الشَّامِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ نِظَامُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ مَحْمُودِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْحَصِيرِيُّ الْحَنَفِيُّ مُدَرِّسُ
النُّورِيَّةِ، تُوُفِّيَ ثَامِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ فِي تَاسِعِهِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فِي مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، كَانَ مُفْتِيًا فَاضِلًا، نَابَ فِي
الْحُكْمِ فِي وَقْتٍ،
وَدَرَّسَ بِالنُّورِيَّةِ بَعْدَ
أَبِيهِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّدْرِ
سُلَيْمَانَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ.
ابْنُ النَّقِيبِ الْمُفَسِّرِ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ
جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَلْخِيُّ
ثُمَّ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ فِي النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ
إِحْدَى عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ بِالْقُدْسِ، وَاشْتَغَلَ بِالْقَاهِرَةِ
وَأَقَامَ مُدَّةً بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ، وَدَرَّسَ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ
هُنَاكَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْقُدْسِ، فَاسْتَوْطَنَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وَكَانَ شَيْخًا فَاضِلًا فِي التَّفْسِيرِ، وَلَهُ فِيهِ
مُصَنَّفٌ حَافِلٌ كَبِيرٌ، جَمَعَ فِيهِ خَمْسِينَ مُصَنَّفًا مِنَ
التَّفَاسِيرِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقْصِدُونَ زِيَارَتَهُ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ،
وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ.
الشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ الْمَغْرِبِيُّ الْمُقِيمُ بِالْقُدْسِ
كَانَ النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ بِهِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى،
وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ يَقُولُ فِيهِ: هُوَ عَلَى
طَرِيقَةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ. تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
التَّقِيُّ تَوْبَةُ الْوَزِيرِ
الصَّاحِبُ الْكَبِيرُ الصَّدْرُ الْوَزِيرُ تَقِيُّ الدِّينِ تَوْبَةُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ مُهَاجِرِ بْنِ شُجَاعِ بْنِ تَوْبَةَ الرَّبَعِيُّ التَّكْرِيتِيُّ،
وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ يَوْمَ
عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ، وَتَنَقَّلَ فِي
الْخَدَمِ إِلَى أَنْ صَارَ وَزِيرًا بِدِمَشْقَ مَرَّاتٍ عَدِيدَةٍ، حَتَّى
تُوفِيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
غَدْوَةً بِالْجَامِعِ وَسُوقِ الْخَيْلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ تُجَاهَ دَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ بِالسَّفْحِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ
فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَجِيِّ، وَأَخْذَ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْهِلَالِ
نَظَرَ الْخِزَانَةِ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ شَمْسُ الدِّينِ بَيْسَرِيٌّ
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ فِي خِدْمَةِ الْمُلُوكِ مِنْ
زَمَنِ قَلَاوُونَ وَهَلُمَّ جَرًّا، تُوُفِّيَ فِي السِّجْنِ بِقَلْعَةِ مِصْرَ،
وَعُمِلَ لَهُ عَزَاءٌ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَحَضَرَهُ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمُ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ تَقِيُّ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ نَاصِرِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ
صَاحِبُ حَمَاةَ، وَابْنُ مُلُوكِهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ.
الْمَلِكُ الْأَوْحَدُ نَجْمُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ دَاوُدَ
بْنِ الْمُعَظَّمِ نَاظِرُ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، تُوُفِّيَ بِهِ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَدُفِنَ بِرِبَاطِهِ عِنْدَ
بَابِ حِطَّةَ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً،
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ
دِينًا وَفَضِيلَةً وَإِحْسَانًا إِلَى الضُّعَفَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الصَّاحِبِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
النَّحَّاسِ
أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُدَرِّسُ الرَّيْحَانِيَّةِ
وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ وَلِيَ نَظَرَ الْخِزَانَةِ وَنَظَرَ الْجَامِعِ فِي
وَقْتٍ، وَكَانَ صَدْرًا كَبِيرًا كَافِيًا، تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ بِالْمِزَّةِ
ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بالرَّيْحَانِيَّةِ الْقَاضِي
جَلَالُ الدِّينِ بْنُ حُسَامِ الدِّينِ.
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ الرَّئِيسُ الصَّاحِبُ أَمِينُ الدِّينِ أَبُو الْغَنَائِمِ،
سَالِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةَ اللَّهِ بْنِ
مَحْفُوظِ بْنِ صَصْرَى التَّغْلِبِيُّ كَانَ أَسَنَّ حَالًا مِنْ أَخِيهِ
الْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ بْنِ صَصْرَى، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ،
وَكَانَ صَدْرًا مُعَظَّمًا، وَلِيَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ وَنَظَرَ الْخِزَانَةِ،
ثُمَّ تَرَكَ الْمَنَاصِبَ وَحَجَّ وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ،
فَأَقَامَ بِهَا دُونَ السَّنَةِ وَمَاتَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ
وَالْعِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيونَ، وَعُمِلَ عَزَاؤُهُ
بِالصَّاحِبِيَّةِ.
يَاقُوتُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو
الدُّرِّ الْمُسْتَعْصِمِيُّ الْكَاتِبُ
لَقَبُهُ جَمَالُ الدِّينِ، وَأَصْلُهُ رُومِيٌّ، كَانَ فَاضِلًا، مَلِيحَ
الْخَطِّ مَشْهُورًا بِذَلِكَ، كَتَبَ خِتَمًا حِسَانًا، وَكَتَبَ النَّاسُ
عَلَيْهِ بِبَغْدَادَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ
رَائِقٌ، فَمِنْهُ مَا أَوْرَدَهُ الْبِرْزَالِيُّ فِي " تَارِيخِهِ "
عَنْهُ:
تُجَدِّدُ الشَّمْسُ شَوْقِي كُلَّمَا طَعَلَتْ إِلَى مُحَيَّاكِ يا سَمْعِي وَيَا
بَصَرِي وَأَسْهَرُ اللَّيْلَ فِي أُنْسٍ بِلَا وَنَسٍ
إِذْ طِيبُ ذِكْرَاكِ فِي ظُلْمَاتِهِ يَسْرِي وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى لَا أَرَاكِ
بِهِ
فَلَسْتُ مُحْتَسِبًا مَاضِيهِ مِنْ عُمْرِي لَيْلِي نَهَارٌ إِذَا ما دُرْتِ فِي
خَلَدِي
لِأَنَّ ذِكْرَكِ نُورُ الْقَلْبِ وَالْبَصَرِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ قَازَانَ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ السَّنَةَ اسْتَهَلَّتْ
وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةُ
وَالْمِصْرِيَّةُ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْمَمَالِكِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُ مِصْرَ سَلَّارُ، وَبِالشَّامِ جَمَالُ
الدِّينِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ، وَالْقُضَاةُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ
تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِقَصْدِ التَّتَرِ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، وَقَدْ
خَافَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا شَدِيدًا، وَجَفَلَ النَّاسُ مِنْ بِلَادِ
حَلَبَ وَحَمَاةَ، وَبَلَغَ كِرَاءُ الْجَمَلِ مِنْ حَمَاةَ إِلَى دِمَشْقَ نَحْوَ
الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ
ضَرَبَتِ الْبَشَائِرُ بِسَبَبِ خُرُوجِ السُّلْطَانِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
قَاصِدًا الشَّامَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثَامِنِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
دَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ، وَقَدْ أَقَامَ بِغَزَّةَ قَرِيبًا مِنْ
شَهْرَيْنِ، وَذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُ قُدُومُ التَّتَرِ إِلَى الشَّامِ تَهَيَّأَ
لِذَلِكَ، وَجَاءَ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَطَرٍ
شَدِيدٍ وَوَحَلٍ كَثِيرٍ، وَمَعَ هَذَا خَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ
وَالدُّعَاءِ لَهُ، فَنَزَلَ بِالطَّارِمَةِ، وَزُيِّنَتْ لَهُ الْبَلَدُ
وَكَثُرَتْ لَهُ الْأَدْعِيَةُ، وَكَانَ وَقْتًا شَدِيدًا وَحَالًا صَعْبًا،
وَامْتَلَأَ الْبَلَدُ مِنَ الْجَافِلِينَ النَّازِحِينَ عَنْ بِلَادِهِمْ،
وَجَلَسَ الْأَعْسَرُ وَزِيرُ الدَّوْلَةِ، وَطَالَبَ الْعُمَّالَ، وَاقْتَرَضُوا
أَمْوَالَ الْأَيْتَامِ وَأَمْوَالَ الْأَسْرَى لِأَجْلِ تَقْوِيَةِ الْجَيْشِ، وَخَرَجَ
السُّلْطَانُ بِالْجَيْشِ مِنْ دِمَشْقَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْجُيُوشِ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي الدُّعَاءِ وَالْقُنُوتِ فِي
الصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ وَغَيْرِهِ، وَتَضَرَّعُوا وَاسْتَغَاثُوا
وَابْتَهَلُوا إِلَى اللَّهِ بِالْأَدْعِيَةِ.
وَقْعَةُ قَازَانَ
لَمَّا وَصَلَ السُّلْطَانُ إِلَى وَادِي الْخَزَنْدَارِ عِنْدَ وَادِي
سَلَمْيَةَ، الْتَقَى التَّتَارُ هُنَاكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَالْتَقَوْا مَعَهُمْ، فَكَسَرُوا
الْمُسْلِمِينَ، وَوَلَّى السُّلْطَانُ هَارِبًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرُهُمْ وَمِنَ
الْعَوَامِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَفُقِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ
حُسَامُ الرَّازِيُّ، وَقَدْ صَبَرُوا وَأَبْلَوْا بَلَاءً حَسَنًا، وَلَكِنْ
كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، فَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ لَا يَلْوِي
أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُتَّقِينَ،
غَيْرَ أَنَّهُ رَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ عَلَى أَعْقَابِهَا إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَاجْتَازَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى دِمَشْقَ، وَأَهْلُهَا فِي
خَوْفٍ شَدِيدٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمُ
اسْتَكَانُوا وَاسْتَسْلَمُوا لِلْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ، وَمَاذَا يُجْدِي
الْحَذَرُ إِذَا نَزَلَ الْقَدَرُ، وَرَجَعَ السُّلْطَانُ فِي طَائِفَةٍ مِنَ
الْجَيْشِ عَلَى نَاحِيَةِ بَعْلَبَكَّ، وَأَبْوَابُ دِمَشْقَ مُغَلَّقَةٌ،
وَالْقَلْعَةُ مُحَصَّنَةٌ، وَالْغَلَاءُ شَدِيدٌ، وَالْحَالُ ضَيِّقٌ، وَفَرَجُ
اللَّهِ قَرِيبٌ، وَقَدْ هَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْبَلَدِ وَغَيْرُهُمْ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، كَالْقَاضِي إِمَامِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ،
وَقَاضِي الْمَالِكِيَّةِ جَمَالِ الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ، وَتَاجِ الدِّينِ بْنِ
الشِّيرَازِيِّ، وَعَلَمِ الدِّينِ الصَّوَابِيِّ وَالِي الْبَرِّ، وَجَمَالِ
الدِّينِ بْنِ النَّحَّاسِ وَالِي الْمَدِينَةِ، وَالْمُحْتَسِبِ وَغَيْرِهِمْ
مِنَ التُّجَّارِ وَالْعَوَامِّ، وَبَقِيَ الْبَلَدُ شَاغِرًا لَيْسَ فِيهِ
حَاكِمٌ وَلَا زَاجِرٌ وَلَا رَادِعٌ
سِوَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ عَلَمِ الدِّينِ أَرْجُوَاشَ، وَهُوَ مَشْغُولٌ عَنِ
الْبَلَدِ بِالْقَلْعَةِ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخِرِ كَسَرَ الْمَحْبُوسُونَ
بِحَبْسِ بَابِ الصَّغِيرِ بَابَ السِّجْنِ وَخَرَجُوا مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ
مِائَتَيْ رَجُلٍ، فَنَهَبُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَجَاءُوا إِلَى بَابِ
الْجَابِيَةِ، فَكَسَرُوا أَقْفَالَ الْبَابِ الْجُوَّانِيِّ وَأَخَذُوا مِنَ
الْبَاشُورَةِ مَا شَاءُوا، ثُمَّ كَسَرُوا أَقْفَالَ الْبَابِ الْبَرَّانِيِّ،
وَخَرَجُوا مِنْهُ عَلَى حَمِيَّةٍ، فَتَفَرَّقُوا حَيْثُ شَاءُوا لَا يَقْدِرُ
أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِمْ وَلَا صَدِّهِمْ، وَعَاثَتِ الْحَرَافِشَةُ فِي ظَاهِرِ
الْبَلَدِ، فَكَسَرُوا أَبْوَابَ الْبَسَاتِينِ، وَقَلَعُوا مِنَ الْأَبْوَابِ
وَالشَّبَابِيكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَبَاعُوهُ بِأَرْخَصِ
الْأَثْمَانِ.
هَذَا وَسُلْطَانُ التَّتَارُ قَدْ قَصَدَ دِمَشْقَ بَعْدَ الْوَقْعَةِ،
فَاجْتَمَعَ أَعْيَانُ الْبَلَدِ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ
فِي مَشْهَدٍ عَلِيٍّ، وَاتَّفَقُوا عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى قَازَانَ
لِتَلَقِّيهِ، وَأَخَذِ الْأَمَانِ مِنْهُ لِأَهْلِ دِمَشْقَ، فَتَوَجَّهُوا
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، فَاجْتَمَعُوا بِهِ عِنْدَ
النَّبْكِ، وَكَلَّمَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ كَلَامًا
قَوِيًّا شَدِيدًا، فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ عَادَ نَفْعُهَا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ لَيْلَتَئِذٍ مِنْ
جِهَةِ قَازَانَ، فَنَزَلُوا الْبَاذَرَائِيَّةَ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ
سِوَى بَابِ تُومَا، وَخَطَبَ الْخَطِيبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ، وَلَمْ
يَذْكُرْ سُلْطَانًا فِي خُطْبَتِهِ، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ قَدِمَ الْأَمِيرُ
إِسْمَاعِيلُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ، فَنَزَلُوا بِبُسْتَانِ
الظَّاهِرِ عِنْدَ
الطُّرْنِ. وَحَضَرَ الْفَرَمَانُ
بِالْأَمَانِ، وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ وَقُرِئَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَامِنِ
الشَّهْرِ بِمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ، وَنُثِرَ شَيْءٌ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ الْمُنَادَاةِ بِالْأَمَانِ
طُلِبَتِ الْخُيُولُ وَالسِّلَاحُ وَالْأَمْوَالُ الْمُخَبَّأَةُ عِنْدَ النَّاسِ
مِنْ جِهَةِ الدَّوْلَةِ، وَجَلَسَ دِيوَانُ الِاسْتِخْلَاصِ إِذْ ذَاكَ
بِالْمَدْرَسَةِ الْقَيْمُرِيَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ الشَّهْرِ قَدِمَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ الْمَنْصُورِيُّ، فَنَزَلَ بِالْمَيْدَانِ، وَاقْتَرَبَ
جَيْشُ التَّتَارِ، وَكَثُرَ الْعَيْثُ فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَقُتِلَ
جَمَاعَةٌ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِالْبَلَدِ جِدًّا، وَضَاقَ الْحَالُ
عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَ قَبْجَقُ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ لِيُسَلِّمَهَا إِلَى
التَّتَارِ، فَامْتَنَعَ أَرْجُوَاشُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، فَجَمَعَ
لَهُ قَبْجَقُ أَعْيَانَ الْبَلَدِ، فَكَلَّمُوهُ أَيْضًا، فَلَمْ يُجِبْهُمْ
إِلَى ذَلِكَ، وَصَمَّمَ عَلَى تَرْكِ تَسْلِيمِهَا إِلَيْهِمْ وَفِيهَا عَيْنٌ
تَطْرُفُ، فَإِنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَةَ أَرْسَلَ إِلَى
نَائِبِ الْقَلْعَةِ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ، فَاشْتَدَّ عَزْمُهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَقَالَ لَهُ: لَوْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا إِلَّا حَجَرٌ وَاحِدٌ، فَلَا
تُسَلِّمْهُمْ ذَلِكَ إِنِ اسْتَطَعْتَ. وَكَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ
لِأَهْلِ الشَّامِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَفِظَ لَهُمْ هَذَا الْحِصْنَ
وَالْمَعْقِلَ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ حِرْزَا لِأَهْلِ الشَّامِ الَّتِي لَا
تَزَالُ دَارَ أَمَانٍ وَسُنَّةٍ، حَتَّى يَنْزِلَ بِهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَفِي يَوْمِ دُخُولِ قَبْجَقَ إِلَى دِمَشْقَ دَخَلَ السُّلْطَانُ وَنَائِبُهُ
سَلَّارُ إِلَى مِصْرَ كَمَا جَاءَتِ الْبَطَائِقُ بِذَلِكَ إِلَى الْقَلْعَةِ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِهَا، فَقَوِيَ جَأْشُ النَّاسِ بَعْضَ الشَّيْءِ،
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا يُقَالُ:
كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى سُعَادَ
وَدُونَهَا قُلَلُ الْجِبَالِ وَدُونَهُنَّ حُتُوفُ الرِّجْلُ حَافِيَةٌ وَمَا لِي
مَرْكَبٌ
وَالْكَفُّ صِفْرٌ وَالطَّرِيقُ مَخُوفُ
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ خُطِبَ لَقَازَانَ عَلَى
مِنْبَرِ دِمَشْقَ بِحُضُورِ الْمَغُولِ بِالْمَقْصُورَةِ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى
السُّدَّةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَقُرِئَ عَلَيْهَا مَرْسُومٌ بِنِيَابَةِ قَبْجَقَ
عَلَى الشَّامِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَعْيَانُ فَهَنَّئُوهُ بِذَلِكَ،
فَأَظْهَرَ الْكَرَامَةَ، وَأَنَّهُ فِي تَعَبٍ عَظِيمٍ مَعَ التَّتَارِ، ثُمَّ
شَرَعَ فِي طَلَبِ الْخُيُولِ الَّتِي عِنْدَ النَّاسِ وَالْأَمْوَالِ لِأَجْلِ
النَّفَقَةِ عَلَى التَّتَارِ، وَنَزَلَ شَيْخُ الْمَشَايِخِ نِظَامُ الدِّينِ
مَحْمُودُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ شَرَعَتِ التَّتَارُ
وَصَاحِبُ سِيسَ فِي نَهْبِ الصَّالِحِيَّةِ، فَوَجَدُوا فِيهَا شَيْئًا كَثِيرًا
مِنَ الْغَلَّاتِ، وَقَلَّعُوا الْأَبْوَابَ وَالشَّبَابِيكَ، وَخَرَّبُوا
أَمَاكِنَ كَثِيرَةً ; كَالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَمَاكِنِ
الْحَسَنَةِ وَالْمَارَسْتَانِ بِالصَّالِحِيَّةِ وَمَسْجِدِ الْأَسَدِيَّةِ
وَمَسْجِدِ خَاتُونَ وَدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ بِهَا، وَاحْتَرَقَ
جَامِعُ التَّوْبَةِ بِالْعَقِيبَةِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ جِهَةِ الْكُرْجِ
وَالْأَرْمَنِ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ هُمْ مَعَ التَّتَارِ، قَبَّحَهُمُ
اللَّهُ تَعَالَى، وَسَبَوْا مَنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَجَمًّا غَفِيرًا،
وَلَجَأَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى رِبَاطِ الْحَنَابِلَةِ، فَاحْتَاطَ بِهِ
التَّتَارُ، فَحَمَاهُ مِنْهُمْ شَيْخُ الشُّيُوخِ الْمَذْكُورُ، وَأُعْطِيَ فِي
السَّاكِنِ مَالٌ لَهُ صُورَةٌ، ثُمَّ قَحَمُوا عَلَيْهِ، فَسَبَوْا مِنْهُ
خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ بَنَاتِ الْمَشَايِخِ وَأَوْلَادِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا نُكِبَ دَيْرُ الْحَنَابِلَةِ
فِي ثَانِي جُمَادَى الْأُولَى قَتَلُوا خَلْقًا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَوْا مِنَ
النِّسَاءِ كَثِيرًا، وَنَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيَّ الدِّينِ مِنْهُمْ أَذًى
كَثِيرٌ، يُقَالُ: إِنَّهُمْ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الصَّالِحِيَّةِ قَرِيبًا مِنْ
أَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، وَنُهِبَتْ
كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ وَالضِّيَائِيَّةِ، وَخِزَانَةِ
ابْنِ الْبُزُورِيِّ، فَكَانَتْ تُبَاعُ وَهِيَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا
الْوَقْفِيَّةُ، وَفَعَلُوا بِالْمِزَّةِ مِثْلَ مَا فَعَلُوا بِالصَّالِحِيَّةِ،
وَكَذَلِكَ بِدَارَيَّا وَغَيْرِهَا، وَتَحَصَّنَ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي
الْجَامِعِ بِدَارَيَّا، فَفَتَحُوهُ قَسْرًا، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا،
وَسَبَوْا نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَخَرَجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ إِلَى مَلِكِ
التَّتَارِ، وَعَادَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، وَلَمْ يَتَّفِقِ اجْتِمَاعُهُ
بِقَازَانَ، حَجَبَهُ عَنْهُ الْوَزِيرُ سَعْدُ الدِّينِ وَالرَّشِيدُ مُشِيرُ
الدَّوْلَةِ الْمَسْلَمَانِيُّ بْنُ يَهُودَى، وَالْتَزَمَا لَهُ بِقَضَاءِ
الشُّغْلِ، وَذَكَرَا لَهُ أَنَّ التَّتَارَ لَمْ يَحْصُلْ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ
شَيْءٌ إِلَى الْآنِ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ شَيْءٍ.
وَاشْتُهِرَ بِالْبَلَدِ أَنَّ التَّتَرَ يُرِيدُونَ دُخُولَ دِمَشْقَ،
فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَخَافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، وَأَرَادُوا
الْخُرُوجَ مِنْهَا وَالْهَرَبَ، وَأَيْنَ ؟ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ ! وَقَدْ
أُخِذَ مِنَ الْبَلَدِ فَوْقُ الْعَشَرَةِ آلَافِ فَرَسٍ، ثُمَّ فُرِضَتْ
أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ عَلَى الْبَلَدِ مُوَزَّعَةً عَلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ،
كُلُّ سُوقٍ بِحَسْبِهِ مِنَ الْمَالِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ. وَشَرَعَ التَّتَرُ فِي عَمَلِ
مَجَانِيقَ بِالْجَامِعِ لِيَرْمُوا بِهَا الْقَلْعَةَ مِنَ الصَّحْنِ،
وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهُ، وَنَزَلَ التَّتَرُ فِي مَشَاهِدِهِ يَحْرُسُونَ
أَخْشَابَ الْمَجَانِيقَ، وَيَنْهَبُونَ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْأَسْوَاقِ،
وَأَحْرَقَ أَرْجُوَاشُ مَا حَوْلَ الْقَلْعَةِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ; كَدَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَى حَدِّ الْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ وَدَارِ السَّعَادَةِ; لِئَلَّا يَتَمَكَّنُوا مِنْ مُحَاصَرَةِ
الْقَلْعَةِ مِنْ أَعَالِيهَا، وَلَزِمَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ لِئَلَّا يُسَخَّرُوا
فِي طَمِّ الْخَنْدَقِ، وَكَانَتِ الطُّرُقَاتُ لَا يُرَى بِهَا أَحَدٌ إِلَّا
الْقَلِيلُ، وَالْجَامِعُ لَا يُصَلِّي فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَيَوْمُ
الْجُمُعَةَ لَا يَتَكَامَلُ فِيهِ الصَّفُّ الْأَوَّلُ وَمَا بَعْدَهُ إِلَّا
بِجَهْدٍ جَهِيدٍ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فِي ضَرُورَتِهِ يَخْرُجُ
بِثِيَابِ زِيِّهِمْ، ثُمَّ يَعُودُ سَرِيعًا، وَيَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ
إِلَى أَهْلِهِ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ قَدْ أَذَاقَهُمُ اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَالْمُصَادَرَاتُ وَالتَّرَاسِيمُ وَالْعُقُوبَاتُ عَمَّالَةٌ فِي أَكَابِرِ
أَهْلِ الْبَلَدِ لَيْلًا وَنَهَارًا، حَتَّى أُخِذَ مِنْهُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَوْقَافِ، كَالْجَامِعِ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ جَاءَ مَرْسُومٌ
بِصِيَانَةِ الْجَامِعِ وَتَوْفِيرِ أَوْقَافِهِ وَصَرْفِ مَا كَانَ يُؤْخَذُ
لِخَزَائِنِ السِّلَاحِ إِلَى الْحِجَازِ، وَقُرِئَ ذَلِكَ الْمَرْسُومُ بَعْدَ
صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ فِي تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى. وَفِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ تَوَجَّهَ السُّلْطَانُ قَازَانُ إِلَى بِلَادِهِ، وَتَرَكَ
نُوَّابَهُ بِالشَّامِ فِي سِتِّينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، نَحْوَ بِلَادِ الْعِرَاقِ،
وَجَاءَ كِتَابُهُ: إِنَّا قَدْ تَرَكْنَا نُوَّابَنَا بِالشَّامِ فِي سِتِّينَ
أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَمِنْ عَزْمِنَا الْعَوْدُ إِلَيْهَا فِي زَمَنِ الْخَرِيفِ،
وَالدُّخُولُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَفَتْحُهَا. وَقَدْ أَعْجَزَتْهُمُ
الْقَلْعَةُ أَنْ يَصِلُوا إِلَى حَجَرٍ مِنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَخَرَجَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ لِتَوْدِيعِ قُطْلُوشَاهْ نَائِبِ
قَازَانَ، وَسَارَ وَرَاءَهُ،
وَضَرَبَتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ فَرَحًا لِرَحِيلِهِمْ، وَلَمْ تُفْتَحِ
الْقَلْعَةُ، وَأَرْسَلَ أَرْجُوَاشَ ثَانِي يَوْمٍ مِنْ خُرُوجِ قَبْجَقَ
لِتَوْدِيعِ قُطْلُوشَاهْ - الْقَلْعِيَّةَ إِلَى الْجَامِعِ، فَكَسَرُوا
أَخْشَابَ الْمَنْجَنِيقَاتِ الْمَنْصُوبَةِ بِهِ، وَعَادُوا إِلَى الْقَلْعَةِ
سَرِيعًا سَالِمِينَ آمِنِينَ، وَاسْتَصْحَبُوا مَعَهُمْ جَمَاعَةً مِمَّنْ
كَانُوا يَلُوذُونَ بِالتَّتَارِ قَهْرًا إِلَى الْقَلْعَةِ، مِنْهُمُ الشَّرِيفُ
الْقُمِّيُّ، وَهُوَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
أَبِي الْقَاسِمِ الْمُرْتَضَى الْعَلَوِيُّ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْجَقَ
إِلَى دِمَشْقَ فَنَادَوْا بِهَا: طَيِّبُوا قُلُوبَكُمْ، وَافْتَحُوا
دَكَاكِينَكُمْ، وَتَهَيَّئُوا غَدًا لِتَلَقِّي سُلْطَانِ الشَّامِ سَيْفِ
الدِّينِ قَبْجَقَ. فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ، فَأَشْرَفُوا
عَلَيْهَا، فَرَأَوْا مَا بِهَا مِنَ الْفَسَادِ وَالدَّمَارِ، وَانْفَكَّ
رُؤَسَاءُ الْبَلَدِ مِنَ التَّرَاسِيمِ بَعْدَمَا وُزِنُوا شَيْئًا كَثِيرًا.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ: ذَكَرَ لِي الشَّيْخُ وَجِيهُ
الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا أَنَّهُ حُمِلَ إِلَى خِزَانَةِ قَازَانَ ثَلَاثَةُ
آلَافٍ وَسِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، سِوَى مَا تَمَحَّقَ مِنَ التَرَاسِيمِ
وَالْبَرَاطِيلِ، وَمَا أَخَذَ غَيْرُهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ،
وَأَنَّ شَيْخَ الْمَشَايِخِ حُصِّلَ لَهُ نَحْوٌ مَنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَالْأَصِيلَ بْنَ النَّصِيرِ الطُّوسِيَّ مِائَتَا أَلْفٍ وَالصَّفِيَّ
السِّنْجَاوِيَّ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَعَادَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ
إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بَعْدَ الظُّهْرِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى، وَمَعَهُ الْأَلْبَكِيُّ
وَجَمَاعَةٌ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ السُّيُوفُ مُسَلَّلَةً، وَعَلَى رَأْسِهِ
عِصَابَةٌ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ، وَنُودِيَ بِالْبَلَدِ: إِنِّ نَائِبَكُمْ
سَيْفَ الدِّينِ قَبْجَقَ قَدْ جَاءَ فَافْتَحُوا دَكَاكِينَكُمْ، وَاعْمَلُوا
مَعَاشَكُمْ، وَلَا يُغَرِّرْ أَحَدٌ بِنَفْسِهِ. هَذَا وَالْأَسْعَارُ فِي
غَايَةِ الْغَلَاءِ وَالْقِلَّةِ، قَدْ بَلَغَتِ الْغِرَارَةُ إِلَى أَرْبَعِمِائَةٍ،
وَاللَّحْمُ الرَّطْلُ بِنَحْوِ الْعَشَرَةِ، وَالْخُبْزُ كُلُّ رَطْلٍ
بِدِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ، وَالْعَشَرَةُ الدَّقِيقِ بِنَحْوِ الْأَرْبَعِينَ،
وَالْجُبْنُ الْأُوِقَيَةُ بِدِرْهَمٍ، وَالْبَيْضُ كُلُّ خَمْسَةٍ بِدِرْهَمٍ،
ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُمْ فِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ، وَلَمَّا كَانَ فِي أَوَاخِرِ
الشَّهْرِ نَادَى قَبْجَقُ بِالْبَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ إِلَى قُرَاهُمْ،
وَأَمَرَ جَمَاعَةً، وَانْضَافَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَجْنَادِ، وَكَثُرَتِ
الْأَرَاجِيفُ عَلَى بَابِهِ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ
بِالْقَلْعَةِ وَعَلَى بَابِ قَبْجَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعِ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَرَكِبَ قَبْجَقُ بِالْعَصَائِبِ فِي الْبَلَدِ، وَالشَّاوِيشِيَّةُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَهَّزَ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ فَارِسٍ نَحْوَ خَرِبَةِ
اللُّصُوصِ، وَمَشَى مَشْيَ الْمُلُوكِ فِي الْوِلَايَاتِ وَتَأْمِيرِ
الْأُمَرَاءِ وَالْمَرَاسِيمِ الْعَالِيَةِ النَّافِذَةِ، وَصَارَ كَمَا قَالَ
الشَّاعِرُ:
يَا لَكَ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكَ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
ثُمَّ إِنَّهُ ضَمِنَ الْخَمَّارَاتِ وَمَوَاضِعَ الزِّنَا مِنَ الْحَانَاتِ
وَغَيْرِهَا، وَجُعِلَتْ دَارُ ابْنِ جَرَادَةَ خَارِجَ بَابَ تُومَا خَمَّارَةً
وَحَانَةً أَيْضًا، وَصَارَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ.
وَهِيَ الَّتِي دَمَّرَتْهُ، وَمَحَقَتْ آثَارَهُ، وَأَخَذَ أَمْوَالًا
أُخَرَ مِنْ أَوْقَافِ الْمَدَارِسِ
وَغَيْرِهَا، وَرَجَعَ بُولَايُ مِنْ جِهَةِ الْأَغْوَارِ، وَقَدْ عَاثَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا، وَنَهَبَ الْبِلَادِ وَسَبَى وَخَرَّبَ، وَمَعَهُ طَائِفَةٌ
كَبِيرَةٌ مِنَ التَّتَرِ، وَقَدْ خَرَّبُوا قُرًى كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا مَنْ
أَهْلِهَا خَلْقًا، وَأَسَرُوا مِنْ أَطْفَالِهَا جَمَاعَاتٍ، وَجُبِيَ لِبُولَايِ
مِنْ دِمَشْقَ أَيْضًا جِبَايَةً أُخْرَى، وَخَرَجَ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَلْعَةِ،
فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنَ التَّتَرِ وَنَهَبُوهُمْ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي غُبُونِ ذَلِكَ، وَأَخَذُوا طَائِفَةً مِمَّنْ كَانَ يَلُوذُ
بِالتَّتَرِ، وَرَسَمَ قَبْجَقُ لِخَطِيبِ الْبَلَدِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ
الْأَعْيَانِ أَنْ يَدْخُلُوا الْقَلْعَةَ، فَيَتَكَلَّمُوا مَعَ نَائِبِهَا فِي
الْمُصَالَحَةِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، فَكَلَّمُوهُ وَبَالَغُوا مَعَهُ، فَلَمْ يُجِبْ إِلَى ذَلِكَ وَقَدْ
أَجَادَ وَأَحْسَنَ.
وَفِي ثَانِي رَجَبٍ طَلَبَ قَبْجَقُ الْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ، فَحَلَّفَهُمْ
عَلَى الْمُنَاصَحَةِ لِلدَّوْلَةِ الْمَحْمُودِيَّةِ - يَعْنِي قَازَانَ -
فَحَلَفُوا لَهُ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ خَرَجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَةَ إِلَى مُخَيَّمِ بُولَايِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فِي فِكَاكِ مَنْ مَعَهُ
مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَنْقَذَ كَثِيرًا مِنْهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ،
وَأَقَامَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ عَادَ، ثُمَّ رَاحَ إِلَيْهِ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ دِمَشْقَ، ثُمَّ عَادُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَشُلِّحُوا
عِنْدَ بَابٍ شَرْقِيٍّ، وَأُخِذَتْ ثِيَابُهُمْ وَعَمَائِمُهُمْ، وَرَجَعُوا فِي
شَرِّ حَالَةٍ، ثُمَّ بَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ، فَاخْتَفَى أَكْثَرُهُمْ،
وَتَغَيَّبُوا عَنْهُ، وَنُودِيَ بِالْجَامِعِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَالِثَ رَجَبٍ
مِنْ جِهَةِ نَائِبِ الْقَلْعَةِ بِأَنَّ الْعَسَاكِرَ الْمِصْرِيَّةَ قَادِمَةٌ
إِلَى الشَّامِ، وَفِي عَشِيَّةِ يَوْمِ السَّبْتِ رَحَلَ بُولَايُ وَأَصْحَابُهُ
مِنَ التَّتَرِ، وَانْشَمَرُوا عَنْ دِمَشْقَ، وَقَدْ أَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُمْ،
وَسَارُوا مِنْ عَلَى
عَقَبَةِ دُمَّرَ، فَعَاثُوا فِي
تِلْكَ النَّوَاحِي فَسَادًا، وَلَمْ يَأْتِ سَابِعُ الشَّهْرِ وَفِي حَوَاشِي
الْبَلَدِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَقَدْ أَزَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَرَّهُمْ عَنِ
الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ، وَنَادَى قَبْجَقُ فِي النَّاسِ: قَدْ أَمِنَتِ
الطُّرُقَاتُ، وَلَمْ يَبْقَ بِالشَّامِ مِنَ التَّتَرِ أَحَدٌ. وَصَلَّى قَبْجَقُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَاشِرِ رَجَبٍ بِالْمَقْصُورَةِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِمْ لَأْمَةُ الْحَرْبِ مِنَ السُّيُوفِ وَالْقِسِيِّ
وَالتَّرَاكِيشِ فِيهَا النُّشَّابُ، وَأَمِنَتِ الْبَلَدُ وَنَوَاحِيهَا،
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْفُرْجَةِ فِي غِيَاضِ السَّفَرْجَلِ عَلَى عَادَتِهِمْ،
فَعَاثَتْ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ التَّتَارِ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ رَجَعُوا
إِلَى الْبَلَدِ هَارِبِينَ مُسْرِعِينَ، وَنَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا،
وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّهْرِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تِلْكَ
الطَّائِفَةُ مُجْتَازِينَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ، وَتَقَلَّقَ قَبْجَقُ مِنَ
الْبَلَدِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَائِهَا -
مِنْهُمْ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانَسِيِّ - لِتَلَقِّي الْجَيْشِ
الْمِصْرِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ فِي تَاسِعِ رَجَبٍ
وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ بِذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَبَقِيَ
الْبَلَدُ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ، وَنَادَى أَرْجُوَاشُ فِي الْبَلَدِ أَنِ احْفَظُوا
الْأَسْوَارَ، وَأَخْرِجُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنَ الْأَسْلِحَةِ، وَلَا
تُهْمِلُوا الْأَسْوَارَ وَالْأَبْوَابَ، وَلَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ إِلَّا عَلَى
السُّورِ، وَمَنْ بَاتَ فِي دَارِهِ شُنِقَ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى
الْأَسْوَارِ لِحِفْظِ الْبَلَدِ، وَكَانَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَةَ يَدُورُ كُلَّ لَيْلَةٍ فَوْقَ الْأَسْوَارِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى
الصَّبْرِ وَالْقِتَالِ، وَيَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ الْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ أُعِيدَتِ الْخُطْبَةُ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ لِصَاحِبِ مِصْرَ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ،
فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يُخْطَبُ لِقَازَانَ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا
مِنْ بِلَادِ الشَّامِ مِائَةَ يَوْمٍ سَوَاءً. وَفِي بُكْرَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
الْمَذْكُورِ دَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْخَمَّارَاتِ
وَالْحَانَاتِ، فَكَسَرُوا آنِيَةَ الْخُمُورِ، وَشَقُّوا الظُّرُوفَ، وَأَرَاقُوا
الْخُمُورَ، وَعَزَّرُوا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْحَانَاتِ الْمُتَّخَذَةِ
لِهَذِهِ الْفَوَاحِشِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَنُودِيَ يَوْمَ السَّبْتِ
ثَامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ بِأَنْ تُزَيَّنَ الْبَلَدُ لِقُدُومِ الْعَسَاكِرِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَفُتِحَ بَابُ الْفَرَجِ مُضَافًا إِلَى بَابِ النَّصْرِ يَوْمَ
الْأَحَدِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَانْفَرَجُوا;
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَدْخُلُونَ إِلَّا مِنْ بَابِ النَّصْرِ، وَقَدِمَ
الْجَيْشُ الشَّامِيُّ صُحْبَةَ نَائِبِ دِمَشْقَ جَمَالِ الدِّينِ آقُوشَ
الْأَفْرَمِ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ السَّبْتِ عَاشِرِ شَعْبَانَ، وَثَانِي يَوْمٍ
دَخَلَ بَقِيَّةُ الْعَسَاكِرِ، وَفِيهِمُ الْأَمِيرَانِ شَمْسُ الدِّينِ
قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ وَسَيْفُ الدِّينِ قَطْلَبَكُّ فِي تَجَمُّلٍ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ فُتِحَ بَابُ الْفَرَادِيسِ. وَفِيهِ دَرَّسَ الْقَاضِي
جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ الْأَمِينِيَّةِ عِوَضًا عَنْ
أَخِيهِ قَاضِي الْقُضَاةِ إِمَامِ الدِّينِ، تُوُفِّيَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ تَكَامَلَ دُخُولُ
الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ صُحْبَةَ نَائِبِ مِصْرَ سَيْفِ الدِّينِ سَلَّارَ،
وَفِي خِدْمَتِهِ الْمَلِكُ الْعَادِلُ كَتْبُغَا، وَسَيْفُ الدِّينِ
الطَّبَّاخِيُّ فِي تَجَمُّلٍ بَاهِرٍ، وَنَزَلُوا بِالْمَرْجِ، وَكَانَ
السُّلْطَانُ قَدْ خَرَجَ عَازِمًا عَلَى الْمَجِيءِ، فَوَصَلَ إِلَى
الصَّالِحِيَّةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أُعِيدَ الْقَاضِي بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ إِلَى
قَضَاءِ الْقُضَاةُ بِدِمَشْقَ مَعَ
الْخَطَابَةِ بَعْدَ إِمَامِ الدِّينِ وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ وَلَبِسَ مَعَهُ فِي
هَذَا الْيَوْمِ أَمِينُ الدِّينِ الْعَجَمِيُّ خِلْعَةَ الْحِسْبَةِ، وَفِي
يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ عَشْرَةَ لَبِسَ خِلْعَةَ نَظَرِ الدَّوَاوِينِ
الصَّدْرُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ بْنِ
الشِّيرَجِيِّ، وَلَبِسَ أَقْجِبَا خِلْعَةَ شَدِّ الدَّوَاوِينِ فِي بَابِ
الْوَزِيرِ شَمْسِ الدِّينِ سُنْقُرَ الْأَعْسَرِ، وَبَاشَرَ الْأَمِيرُ عِزُّ
الدِّينِ أَيْبَكُ الدَّوَادَارُ النَّجِيبِيُّ وِلَايَةَ الْبَرِّ بَعْدَ مَا
جُعِلَ مِنْ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ.
وَدَرَّسَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمَلْكَانِيِّ بِأُمِّ الصَّالِحِ
عِوَضًا عَنْ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَلِيَ قَضَاءَ
الْحَنَفِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّفِيِّ الْحَرِيرِيُّ، عِوَضًا عَنْ حُسَامِ
الدِّينِ الرَّازِيِّ، فُقِدَ يَوْمَ الْمَعْرَكَةِ، وَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ
تَدْرِيسُ الْخَاتُونِيَّةِ عِوَضًا عَنْ حُسَامِ الدِّينِ الرَّازِيِّ فِي ثَانِي
رَمَضَانَ، وَرُفِعَتِ السَّتَائِرُ عَنِ الْقَلْعَةِ فِي ثَالِثِ رَمَضَانَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ جَلَسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَلَّارُ بِدَارِ
الْعَدْلِ فِي الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَعِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ
يَوْمَ السَّبْتِ، وَفِي السَّبْتِ الْآخَرِ خَلَعَ عَلَى عِزِّ الدِّينِ بْنِ
الْقَلَانِسِيِّ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَجَعَلَ وَلَدَهُ عِمَادَ الدِّينِ عَبْدَ
الْعَزِيزِ شَاهِدًا فِي الْخِزَانَةِ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ رَجَعَ سَلَّارُ
بِالْعَسَاكِرِ إِلَى مِصْرَ، وَانْصَرَفَتِ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ إِلَى
مَوَاضِعِهَا وَبُلْدَانِهَا.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ رَمَضَانَ دَرَّسَ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيُّ
بْنُ الصَّفِيِّ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَصْرَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ
بِالْمُدَرِّسَةِ الْمُقَدَّمِيَّةِ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا عُرِفَتْ
جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ يَلُوذُ بِالتَّتَرِ وَيُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، فَشُنِقَ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَسُمِرَ آخَرُونَ، وَكُحِلَ بَعْضُهُمْ، وَقُطِعَتْ
أَلْسُنٌ، وَجَرَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ دَرَّسَ بِالدَّوْلَعِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ
الدِّينِ الزُّرَعِيُّ نَائِبُ الْحُكْمِ عِوَضًا عَنْ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْبَاجُرْبَقِيِّ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ رَكِبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ فِي جَيْشِ دِمَشْقَ إِلَى جِبَالِ الْجَرَدِ
وَكَسْرُوَانَ، وَخَرَجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَمَعَهُ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ وَالْحَوَارِنَةِ لِقِتَالِ أَهْلِ تِلْكَ
النَّاحِيَةِ، بِسَبَبِ فَسَادِ دِينِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ، وَكُفْرِهِمْ
وَضَلَالِهِمْ، وَمَا كَانُوا عَامَلُوا بِهِ الْعَسَاكِرَ لَمَّا كَسَرَهُمُ
التَّتَرُ وَهَرَبُوا; حِينَ اجْتَازُوا بِبِلَادِهِمْ وَثَبُوا عَلَيْهِمْ
وَنَهَبُوهُمْ، وَأَخَذُوا أَسْلِحَتَهُمْ وَخُيُولَهُمْ، وَقَتَلُوا كَثِيرًا
مِنْهُمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى بِلَادِهِمْ جَاءَ رُؤَسَاؤُهُمْ إِلَى
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَاسْتَتَابَهُمْ، وَبَيَّنَ لِكَثِيرٍ
مِنْهُمُ الصَّوَابَ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَانْتِصَارٌ كَبِيرٌ
عَلَى أُولَئِكَ الْمُفْسِدِينَ، وَالْتَزَمُوا بِرَدِّ مَا كَانُوا أَخَذُوهُ
مِنْ أَمْوَالِ الْجَيْشِ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً
يَحْمِلُونَهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأُقْطِعَتْ أَرَاضِيهِمْ وَضَيَاعُهُمْ،
وَلَمْ يَكُونُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَدْخُلُونَ فِي طَاعَةِ الْجُنْدِ وَلَا
يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ، وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَعَادَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ
بِالشُّمُوعِ إِلَى طَرِيقِ بَعْلَبَكَّ وَسَطَ النَّهَارِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشْرِهِ نُودِيَ بِالْبَلَدِ أَنْ يُعَلِّقَ
النَّاسُ الْأَسْلِحَةَ بِالدَّكَاكِينِ، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ النَّاسُ الرَّمْيَ،
فَعُمِلَتِ الْآمَاجَاتُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنَ
الْبَلَدِ، وَعُلِّقَتِ الْأَسْلِحَةُ
بِالْأَسْوَاقِ، وَرَسَمَ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ
بِعَمَلِ الْآمَاجَاتِ فِي الْمَدَارِسِ، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ الْفُقَهَاءُ
الرَّمْيَ، وَيَسْتَعِدُّوا لِقِتَالِ الْعَدُوِّ إِنَّ حَضَرَ، وَبِاللَّهِ
الْمُسْتَعَانُ.
وَفِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ اسْتَعْرَضَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ أَهْلَ الْأَسْوَاقِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَعَلَ عَلَى كُلِّ سُوقٍ
مُقَدَّمًا، وَحَوْلَهُ أَهْلُ سُوقِهِ، وَفِي الْخَمِيسِ الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ عُرِضَتِ الْأَشْرَافُ مَعَ نَقِيبِهِمْ نِظَامِ الْمُلْكِ
الْحُسَيْنِيِّ بِالْعِدَدِ وَالتَّجَمُّلِ الْحَسَنِ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَمِمَّا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنَّهُ جُدِّدَ إِمَامٌ
رَاتِبٌ عِنْدَ رَأْسِ قَبْرِ زَكَرِيَّا، وَهُوَ الْفَقِيهُ شَرَفُ الدِّينِ
أَبُو بَكْرٍ الْحَمَوِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ ظُهْرَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ
الْقَاضِي إِمَامُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ، وَحُسَامُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ
وَجَمَاعَةٌ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ إِلَّا شُهُورًا، ثُمَّ عَادَ الْحَمَوِيُّ
إِلَى بَلَدِهِ، وَبَطَلَتْ هَذِهِ الْوَظِيفَةِ إِلَى الْآنِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ أَبُو الْفَضَائِلِ الْحَسَنُ بْنُ الْقَاضِي تَاجِ
الدِّينِ أَبِي الْمَفَاخِرِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ
الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ
وَلِيَ قَضَاءَ مَلَطْيَةَ مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ،
فَوَلِيَهَا مُدَّةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ، فَوَلِيَهَا مُدَّةً،
وَوَلَدُهُ جَلَالُ الدِّينِ
بِالشَّامِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الشَّامِ، فَعَادَ إِلَى الْحُكْمِ بِدِمَشْقَ،
ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ الْجَيْشُ إِلَى لِقَاءِ قَازَانَ بِوَادِي الْخَزَنْدَارِ
عِنْدَ وَادِي سَلَمْيَةَ خَرَجَ مَعَهُمْ، فَفُقِدَ مِنَ الصَّفِّ، وَلَمْ يُدْرَ
مَا خَبَرُهُ، وَقَدْ قَارَبَ السَّبْعِينَ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا رَئِيسًا،
لَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ، وَمُوَلِدُهُ بِأَقْسَرا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فِي
الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فُقِدَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا،
وَقَدْ قُتِلَ يَوْمئِذٍ عِدَّةٌ مِنْ مَشَاهِيرِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ وَلِيَ
بَعْدَهُ الْقَضَاءَ شَمْسُ الدِّينِ الْحَرِيرِيُّ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَالِي إِمَامُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي عُمَرُ بْنُ
الْقَاضِي سَعْدِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الشَّيْخِ
إِمَامِ الدِّينِ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ
قَدِمَ دِمَشْقَ هُوَ وَأَخُوهُ جَلَالُ الدِّينِ، فَقُرِّرَا فِي تَدَارِيسَ،
ثُمَّ انْتَزَعَ إِمَامُ الدِّينِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِدِمَشْقَ مِنْ بَدْرِ
الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَنَابَ
عَنْهُ أَخُوهُ، وَكَانَ جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ الْإِحْسَانِ، قَلِيلَ
الْأَذَى، وَلَمَّا أَزِفَ قُدُومُ التَّتَارِ سَافِرَ إِلَى مِصْرَ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهَا لَمْ يُقِمْ بِهَا سِوَى أُسْبُوعٍ وَتُوُفِّيَ، وَدُفِنَ
بِالْقُرْبِ مِنْ قُبَّةِ الشَّافِعِيِّ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَصَارَ
الْمَنْصِبُ إِلَى بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ كَمَا كَانَ، مُضَافًا إِلَى
مَا بِيَدِهِ مِنَ الْخَطَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَدَرَّسَ أَخُوهُ بَعْدَهُ
بِالْأَمِينِيَّةِ.
الْمُسْنِدُ الْمُعَمِّرُ الرُّحَلَةُ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ
بْنُ هِبَةِ اللَّهِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَوَى،
تُوُفِّيَ خَامِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْخَطِيبُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي،
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْبَهْرَانِيُّ الْقُضَاعَيُّ
الْحَمَوِيُّ
خَطِيبُ حَمَاةَ، ثُمَّ خَطَبَ بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنِ الْفَارُوثِيِّ كَمَا
ذَكَرْنَا، وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ، ثُمَّ عُزِلَ بِابْنِ جَمَاعَةَ،
وَعَادَ إِلَى بَلَدِهِ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ عَامَ قَازَانَ، فَمَاتَ بِهَا.
الصَّدْرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ حَمَائِلَ بْنِ عَلِيٍّ
الْمَقْدِسِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ غَانِمٍ
وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ مُرُوءَةً، وَدَرَّسَ
بِالْعَصْرَوَنِيَّةِ، تُوُفِّيَ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، كَانَ مِنَ
الْكُتَّابِ الْمَشْهُورِينَ الْمَشْكُورِينَ، وَهُوَ وَالِدُ الصَّدْرِ عَلَاءِ
الدِّينِ بْنِ غَانِمٍ.
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ، عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْبَاجُرْبَقِيُّ
الشَّافِعِيُّ
أَقَامَ مُدَّةً بِالْمَوْصِلِ يَشْتَغِلُ وَيُفْتِي، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ عَامَ
قَازَانَ، فَمَاتَ بِهَا، وَكَانَ قَدْ أَقَامَ بِهَا مُدَّةً كَذَلِكَ، وَدَرَّسَ
بِالْفَتْحِيَّةِ وَالدَّوْلَعِيَّةِ، وَنَابَ فِي الْخَطَابَةِ، وَدَرَّسَ
بِالْغَزَّالِيَّةِ نِيَابَةً عَنِ الشَّمْسِ الْأَيْكِيِّ، وَكَانَ قَلِيلَ
الْكَلَامِ، مَجْمُوعًا عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ وَالِدُ الشَّمْسِ مُحَمَّدٍ
الْمَنْسُوبِ إِلَى الزَّنْدَقَةِ وَالِانْحِلَالِ، وَلَهُ أَتْبَاعٌ يُنْسَبُونَ
إِلَى مَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ وَيَعْكُفُونَ عَلَى مَا كَانَ يَعْكُفُ عَلَيْهِ،
وَقَدْ حَدَّثَ جَمَالُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ بِ " جَامِعِ الْأُصُولِ
" عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مُصَنِّفِهِ ابْنِ الْأَثِيرِ، وَلَهُ نَظْمٌ
وَنَثْرٌ حَسَنٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِمِائَةٍ
مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ وَنُوَّابُ الْبِلَادِ وَالْحُكَّامِ
بِهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ الشَّافِعِيِّ
وَالْحَنَفِيِّ. وَلَمَّا كَانَ ثَالِثُ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْمُسْتَخْرِجُ
لِاسْتِخْلَاصِ أُجْرَةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ جَمِيعِ أَمْلَاكِ النَّاسِ
وَأَوْقَافِهِمْ بِدِمَشْقَ، فَهَرَبَ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنَ الْبَلَدِ، وَجَرَتْ
خَبْطَةٌ قَوِيَّةٌ وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً جِدًّا.
وَفِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِقَصْدِ التَّتَارِ بِلَادَ
الشَّامِ، وَأَنَّهُمْ عَازِمُونَ عَلَى دُخُولِ مِصْرَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ
لِذَلِكَ وَازْدَادُوا ضَعْفًا عَلَى ضَعْفِهِمْ، وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ
وَأَلْبَابُهُمْ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الْهَرَبِ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ
وَالْكَرَكِ وَالشَّوْبَكِ وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، فَبَلَغَتِ الْمَحَارَةُ
إِلَى مِصْرَ خَمْسَمِائَةٍ، وَبِيعَ الْجَمَلُ بِأَلِفٍ، وَالْحِمَارُ بِخَمْسِمِائَةٍ،
وَبِيعَتِ الْأَمْتِعَةُ وَالثِّيَابُ وَالْغَلَّاتُ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ،
وَجَلَسَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي ثَانِي صَفَرٍ
بِمَجْلِسِهِ فِي
الْجَامِعِ، وَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى
الْقِتَالِ، وَسَاقَ لَهُمُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ،
وَنَهَى عَنِ الْإِسْرَاعِ فِي الْفِرَارِ، وَرَغَّبَ فِي إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ
فِي الذَّبِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ مَا
يُنْفَقَ فِي أُجْرَةِ الْهَرَبِ إِذَا أُنْفِقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى
كَانَ خَيْرًا، وَأَوْجَبَ جِهَادَ التَّتَرِ حَتْمًا فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ،
وَتَابَعَ الْمَجَالِسَ فِي ذَلِكَ، وَنُودِيَ فِي الْبُلْدَانِ: لَا يُسَافِرُ
أَحَدٌ إِلَّا بِمَرْسُومٍ وَوَرَقَةٍ. فَتَوَقَّفَ النَّاسُ عَنِ السَّيْرِ،
وَسَكَنَ جَأْشُهُمْ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِخُرُوجِ السُّلْطَانِ مِنَ
الْقَاهِرَةِ بِالْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ لِخُرُوجِهِ،
لَكِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ بُيُوتَاتِ دِمَشْقَ كَبَيْتِ ابْنِ
صَصْرَى وَبَيْتِ ابْنِ فَضْلِ اللَّهِ وَابْنِ مُنَجَّا وَابْنُ سُوَيْدٍ وَابْنُ
الزَّمَلْكَانِيِّ وَابْنِ جَمَاعَةَ.
وَفِي أَوَّلِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَوِيَ الْإِرْجَافُ بِأَمْرِ التَّتَارِ، وَجَاءَ
الْخَبَرُ بِأَنَّهُمْ قَدْ وَصَلُوا إِلَى الْبِيرَةِ، وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ
أَنْ تَخْرُجَ الْعَامَّةَ مَعَ الْعَسْكَرِ، وَجَاءَ مَرْسُومُ النَّائِبُ مِنَ
الْمَرْجِ بِذَلِكَ، فَاسْتَعْرَضُوا فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ، فَعُرِضَ نَحْوٌ
مَنْ خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْعَامَّةِ بِالْعُدَّةِ وَالْأَسْلِحَةِ عَلَى قَدْرِ
طَاقَتِهِمْ، وَقَنَتَ الْخَطِيبُ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا،
وَاتَّبَعَهُ أَئِمَّةُ الْمَسَاجِدِ، وَأَشَاعَ الْمُرْجِفُونَ بِأَنَّ
التَّتَارَ قَدْ وَصَلُوا إِلَى حَلَبَ، وَأَنَّ نَائِبَ حَلَبَ تَقَهْقُرَ إِلَى
حَمَاةَ، وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ بِتَطْيِيبِ قُلُوبِ النَّاسِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى
مَعَايِشِهِمْ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ وَالْعَسَاكِرَ وَاصِلَةٌ، وَأُبْطِلَ
دِيوَانُ الْمُسْتَخْرَجِ وَأُقِيمُوا، وَلَكِنْ كَانُوا قَدِ اسْتَخْرَجُوا
أَكْثَرَ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، وَبَقِيَتْ بِوَاقٍ عَلَى النَّاسِ الَّذِينَ قَدِ
اخْتَفَوْا، فَعُفِيَ عَمَّا بَقِيَ، وَلَمْ يُرَدَّ مَا سَلَفَ، لَا جَرَمَ أَنَّ
عَوَاقِبَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ خُسْرٌ وَنُكْرٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَهَا لَا
يُفْلِحُونَ، ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ سُلْطَانَ
مِصْرَ رَجَعَ عَائِدًا إِلَى مِصْرَ
بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهَا قَاصِدًا الشَّامَ، فَكَثُرَ الْخَوْفُ، وَاشْتَدَّ
الْحَالُ، وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ جِدًّا، وَصَارَ بِالطُّرُقَاتِ مِنَ
الْأَوْحَالِ وَالسُّيُولِ مَا يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُهُ
مِنَ الِانْتِشَارِ فِي الْأَرْضِ وَالذَّهَابِ فِيهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَخَرَجَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ خِفَافًا وَثِقَالًا يَتَحَمَّلُونَ
بِأَهَالِيهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ، وَجَعَلُوا يَحْمِلُونَ الصِّغَارَ فِي الْوَحْلِ الشَّدِيدِ
وَالْمَشَقَّةِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالرِّقَابِ، وَقَدْ ضَعُفَتِ الدَّوَابُّ مِنْ
قِلَّةِ الْعَلَفِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالزَّلَقِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ
وَالْجُوعِ وَقِلَّةِ الشَّيْءِ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَاسْتَهَلَّ جُمَادَى الْأُولَى، وَالنَّاسُ عَلَى
خُطَّةٍ صَعْبَةٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَتَأَخُّرِ السُّلْطَانِ وَاقْتِرَابِ
الْعَدُوِّ، وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَالْحَالِ، وَخَرَجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
ابْنُ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ،
وَكَانَ يَوْمُ السَّبْتِ، إِلَى نَائِبِ الشَّامِ وَعَسَاكِرِهِ بِالْمَرْجِ،
فَثَبَّتَهُمْ وَقَوَّى جَأْشَهُمْ، وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ، وَوَعَدَهُمُ
النَّصْرَ وَالظَّفْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: ذَلِكَ
وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ
اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [ الْحَجِّ: 60 ]. وَبَاتَ عِنْدَ
الْعَسْكَرِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، وَقَدْ سَأَلَهُ
النَّائِبُ وَالْأُمَرَاءُ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى مِصْرَ
يَسْتَحِثُّ السُّلْطَانَ عَلَى الْمَجِيءِ، فَسَاقَ وَرَاءَ السُّلْطَانِ،
وَكَانَ السُّلْطَانُ قَدْ وَصَلَ إِلَى السَّاحِلِ، فَلَمْ يُدْرِكْهُ إِلَّا
وَقَدْ رَجَعَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَتَفَارَطَ الْحَالُ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحَثَّهُمْ
عَلَى تَجْهِيزِ الْعَسَاكِرِ إِلَى الشَّامِ
إِنْ كَانَ لَهُمْ بِهِ حَاجَةٌ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الشَّامِ وَحِمَايَتِهِ، أَقَمْنَا لَهُ سُلْطَانًا يُحَوِّطُهُ وَيَحْمِيهِ، وَيَسْتَغِلُّهُ فِي زَمَنِ الْأَمْنِ. وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى جُرِّدَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: لَوْ قُدِّرَ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ حُكَّامَ الشَّامِ وَلَا مُلُوكَهُ وَاسْتَنْصَرَكُمْ أَهْلُهُ وَجَبَ عَلَيْكُمُ النَّصْرُ، فَكَيْفَ وَأَنْتُمْ حُكَّامُهُ وَسَلَاطِينُهُ، وَهُمْ رَعَايَاكُمْ وَأَنْتُمْ مَسْئُولُونَ عَنْهُمْ. وَقَوَّى جَأْشَهُمْ، وَضَمِنَ لَهُمُ النَّصْرَ هَذِهِ الْكَرَّةَ، فَخَرَجُوا إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا تَوَاصَلَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى الشَّامِ فَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا شَدِيدًا، بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَدْ يَئِسُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، ثُمَّ قَوِيَتِ الْأَرَاجِيفُ بِوُصُولِ التَّتَارِ وَتَحَقُّقِ أَهْلِ الشَّامِ عَوْدَ السُّلْطَانِ إِلَى مِصْرَ، وَنَادَى ابْنُ النَّحَّاسِ مُتَوَلِّي دِمَشْقَ فِي النَّاسِ: مَنْ قَدَرَ عَلَى السَّفَرِ فَلَا يَقْعُدْ بِدِمَشْقَ. فَتَصَايَحَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، وَرَهِقَ النَّاسَ ذِلَّةٌ عَظِيمَةٌ وَخَمْدَةٌ، وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقَ، وَتَيَقَّنَ النَّاسُ أَنْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ نَائِبَ الشَّامِ لَمَّا كَانَ فِيهِ قُوَّةٌ مَعَ السُّلْطَانِ عَامَ أَوَّلَ لَمْ يَقْوَ عَلَى الْتِقَاءِ جَيْشِ التَّتَارِ فَكَيْفَ بِهِ الْآنَ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ؟ وَيَقُولُونَ: مَا بَقِيَ أَهْلُ دِمَشْقَ إِلَّا طُعْمَةَ الْعَدُوِّ. وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْقَلْعَةَ، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ النَّوْمِ وَالْقَرَارِ، وَخَرَجَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَرَارِي وَالْقِفَارِ بِأَهَالِيهِمْ مِنَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: مَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الْجِهَادَ فَلْيَلْحَقْ بِالْجَيْشِ; فَقَدِ اقْتَرَبَ وُصُولُ التَّتَارِ. وَلَمْ يَبْقَ بِدِمَشْقَ مِنْ أَكَابِرِهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَسَافَرَ ابْنُ جَمَاعَةَ وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْحَرِيرِيِّ وَنَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى وَوَجِيهُ الدِّينِ بْنُ مُنَجَّا، وَقَدْ سَبَقَتْهُمْ بُيُوتُهُمْ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِوُصُولِ
التَّتَارِ إِلَى سَرْمِينَ، وَخَرَجَ
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ وَالشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الرَّقِّيُّ
وَابْنُ قَوَّامٍ وَشَرَفُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَابْنُ خَبَارَةَ إِلَى
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمِ، فَقَوَّوْا عَزْمَهُ عَلَى مُلَاقَاةِ
الْعَدُوِّ، وَاجْتَمَعُوا بِمُهَنَّا أَمِيرِ الْعَرَبِ، فَحَرَّضُوهُ عَلَى
قِتَالِ الْعَدُوِّ، فَأَجَابَهُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَقَوِيَتْ
نِيَّاتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ طُلْبُ سَلَّارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى
نَاحِيَةِ الْجَيْشِ بِالْمَرْجِ، وَاسْتَعَدُّوا لِلْحَرْبِ وَالْقِتَالِ
بِنِيَّاتٍ صَادِقَةٍ.
وَرَجَعَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى عَلَى
الْبَرِيدِ، وَقَدْ أَقَامَ بِقَلْعَةِ مِصْرَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَاجْتَمَعَ
بِالسُّلْطَانِ وَالْوَزِيرِ وَأَعْيَانِ الدَّوْلَةِ، وَحَثَّهُمْ وَحَرَّضَهُمْ
فَأَجَابُوهُ، وَقَدْ غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِدِمَشْقَ جِدًّا، حَتَّى أَنَّهُ
أُبِيعَ خَرُوفَانِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ جِدًّا، ثُمَّ
جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَلِكَ التَّتَارِ قَدْ خَاضَ الْفُرَاتَ رَاجِعًا
عَامَهُ ذَلِكَ; لِضَعْفِ جَيْشِهِ وَقِلَّةِ مَدَدِهِ، فَطَابَتِ النُّفُوسُ
بِذَلِكَ، وَسَكَنَ النَّاسُ وَعَادُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ مُنْشَرِحِينَ
آمِنِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَلَمَّا
جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِعَدَمِ وُصُولِ التَّتَارِ إِلَى الشَّامِ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ تَرَاجَعَتْ أَنْفُسُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، وَعَادَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ مُخَيِّمًا فِي الْمَرْجِ مِنْ مُدَّةِ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الرِّبَاطِ،
وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى أَوْطَانِهِمْ.
وَكَانَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ قَدْ دَرَّسَ بِالنَّاصِرِيَّةِ
لِغَيْبَةِ مُدَرِّسِهَا كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ بِالْكَرَكِ
هَارِبًا، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا فِي رَمَضَانَ، وَفِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ
دَرَّسَ ابْنُ الزَّكِيِّ
بِالدَّوْلَعِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزُّرَعِيِّ
لِغَيْبَتِهِ، وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قُرِئَتْ شُرُوطُ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ،
وَأُلْزِمُوا بِهَا، وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى عَزْلِهِمْ عَنِ الْجِهَاتِ،
وَأُخِذُوا بِالصِّغَارِ، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ، وَأُلْزِمَ النَّصَارَى
بِالْعَمَائِمِ الزُّرْقِ، وَالْيَهُودِ بِالصُّفْرِ، وَالسَّامِرَةُ -
بِالْحُمْرِ، فَحَصَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَتَمَيَّزُوا عَنِ
الْمُسْلِمِينَ. وَفِي عَاشِرِ رَمَضَانَ جَاءَ الْمَرْسُومُ بِالْمُشَارَكَةِ
بَيْنَ أَرْجُوَاشَ وَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَقْجِبَا فِي نِيَابَةِ
الْقَلْعَةِ، وَأَنْ يَرْكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمًا، وَيَكُونُ
الْآخَرُ بِالْقَلْعَةِ يَوْمًا، فَامْتَنَعَ أَرْجُوَاشُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي شَوَّالٍ دَرَّسَ بِالْإِقْبَالِيَّةِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ
الْمُجِدِّ عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ بِحُكْمِ إِقَامَتِهِ
بِالْقَاهِرَةِ، وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقِعْدَةِ عُزِلَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْحَرِيرِيِّ عَنْ قَضَاءِ
الْحَنَفِيَّةِ بِالْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ بْنِ حُسَامِ الدِّينِ عَلَى
قَاعِدَتِهِ وَقَاعِدَةِ أَبِيهِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ مِنَ الْوَزِيرِ
الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ سُنْقُرَ الْأَعْسَرِ، وَنَائِبِ السَّلْطَنَةِ
جَمَالِ الدِّينِ آقُوشَ الْأَفْرَمِ.
وَفِيهَا وَصَلَتْ رُسُلُ مَلِكِ التَّتَارِ إِلَى دِمَشْقَ فِي أَوَاخِرِ
الشَّهْرِ، فَأُنْزِلُوا بِالْقَلْعَةِ ثُمَّ سَارُوا إِلَى مِصْرَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ حَسَنٌ الْكُرْدِيُّ
الْمُقِيمُ بِالشَّاغُورِ فِي بُسْتَانٍ لَهُ، يَأْكُلُ مَنْ غَلَّتْهُ،
وَيُطْعِمُ مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُزَارُ، وَلَمَّا احْتُضِرَ اغْتَسَلَ،
وَأَخَذَ مَنْ شَعْرِهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَرَكَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ
تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى، وَقَدْ جَاوَزَ
الْمِائَةَ سَنَةٍ.
الطَّوَاشِيُّ صَفِيُّ الدِّينِ جَوْهَرُ التَّفْلِيسِيُّ الْمُحَدِّثُ
اعْتَنَى بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَتَحْصِيلِ الْأَجْزَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ
الْخُلُقِ، لَيِّنَ الْجَانِبِ، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا مُبَارَكًا صَالِحًا،
وَأَوْقَفَ أَجْزَاءَهُ الَّتِي مَلَّكَهَا عَلَى الْمُحَدِّثِينَ.
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْهَذَبَانِيُّ الْإِرْبِلِيُّ
مُتَوَلِّي دِمَشْقَ كَانَ لَدَيْهِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي التَّارِيخِ
وَالشِّعْرِ، وَرُبَّمَا جَمَعَ شَيْئًا فِي ذَلِكَ، وَكَانَ يَسْكُنُ بِدَرْبِ
سَقُونَ فَعُرِفَ بِهِ، فَيُقَالُ: دَرْبُ ابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءَ. وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْزِلٍ نَزَلْنَاهُ حِينَ قَدِمْنَا دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَسَبْعِمِائَةٍ، خَتَمَ اللَّهُ لَنَا بِخَيْرٍ فِي عَافِيَةٍ آمِينَ، وَكَانَتْ
وَفَاةُ ابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ فِي طَرِيقِ مِصْرَ، وَلَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً،
وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، حَسَنَ الْمُحَاضَرَةِ.
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الشَّرِيفِيُّ
وَالِي الْوُلَاةِ بِالْبِلَادِ الْقِبْلِيَّةِ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ،
وَكَانَتْ لَهُ هَيْبَةٌ وَسَطْوَةٌ وَحُرْمَةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ سَلَّارُ، وَبِالشَّامِ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ
الْأَفْرَمُ. وَفِي أَوَّلِهَا عُزِلَ الْأَمِيرُ قُطْلُبَكْ عَنْ نِيَابَةِ
الْبِلَادِ السَّاحِلِيَّةِ، وَتَوَلَّاهَا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أَسَنْدَمُرُ، وَعُزِلَ عَنْ وِزَارَةِ مِصْرَ شَمْسُ الدِّينِ الْأَعْسَرُ،
وَتَوَلَّى سَيْفُ الدِّينِ آقْجِبَا الْمَنْصُورِيُّ نِيَابَةَ غَزَّةَ وَجُعِلَ
عِوَضَهُ بِالْقَلْعَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ السِّنْجَرِيُّ
وَهُوَ مِنَ الْبُرْجِيَّةِ.
وَفِي صَفَرٍ رَجَعَتْ رُسُلُ مَلِكِ التَّتَرِ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ
فَتَلَقَّاهُمْ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ
وَالْعَامَّةُ. وَفِي نِصْفِ صَفَرٍ وَلِيَ تَدْرِيسَ النُّورِيَّةِ الشَّيْخُ
صَدْرُ الدِّينِ عَلِيٌّ الْبُصْرَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ
وَلِيِّ الدِّينِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَإِنَّمَا كَانَ وَلِيَهَا سِتَّةَ
أَيَّامٍ، وَدَرَّسَ بِهَا أَرْبَعَةَ دُرُوسٍ بَعْدَ بَنِي الصَّدْرِ
سُلَيْمَانَ، تُوُفِّيَ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، يُصَلِّي كُلَّ
يَوْمٍ مِائَةَ رَكْعَةٍ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَلَسَ قَاضِي
الْقُضَاةِ، وَخَطِيبُ الْخُطَبَاءِ: بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ
بِالْخَانَقَاهْ السُّمَيْسَاطِيَّةِ، شَيْخَ الشُّيُوخِ بِهَا عَنْ طَلَبِ
الصُّوفِيَّةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَرَغْبَتِهِمْ فِيهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ
الشَّيْخِ يُوسُفَ بْنِ حَمَّويَهِ الْحَمَوِيِّ، وَفَرِحَتِ الصُّوفِيَّةُ بِهِ،
وَجَلَسُوا حَوْلَهُ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ هَذِهِ الْمَنَاصِبُ قَبْلَهُ لِغَيْرِهِ،
وَلَا بَلَغَنَا أَنَّهَا اجْتَمَعَتْ إِلَى أَحَدٍ بَعْدَهُ إِلَى زَمَانِنَا
هَذَا: الْقَضَاءُ، وَالْخَطَابَةُ، وَمَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
قُتِلَ الْفَتْحُ أَحْمَدُ بْنُ الْبَقَقِيِّ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، حَكَمَ
فِيهِ الْقَاضِي زَيْنُ الدِّينِ بْنُ مَخْلُوفٍ الْمَالِكِيُّ بِمَا ثَبَتَ
عِنْدَهُ مَنْ تَنَقُّصِهِ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَاسْتِهْزَائِهِ
بِالْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ، وَمُعَارَضَةِ
الْمُشْتَبِهَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ،
وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُحِلُّ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ اللِّوَاطِ،
وَالْخَمْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِمَنْ كَانَ يَجْتَمِعُ بِهِ مِنَ الْفَسَقَةِ
مِنَ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْجَهَلَةِ، هَذَا، وَقَدْ كَانَ لَدَيْهِ
فَضِيلَةٌ، وَلَهُ اشْتِغَالٌ وَهَيْئَةٌ جَمِيلَةٌ فِي الظَّاهِرِ، وَبِزَّتُهُ
وَلُبْسَتُهُ جَيِّدَةٌ، وَلَمَّا أُوقِفَ عِنْدَ شُبَّاكِ دَارِ الْحَدِيثِ
الْكَامِلِيَّةِ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ، اسْتَغَاثَ بِالْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ
بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَقَالَ: مَا تَعْرِفُ مِنِّي ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا
أَعْرِفُ مِنْكَ الْفَضِيلَةَ، وَلَكِنَّ حُكْمَكَ إِلَى الْقَاضِي زَيْنِ
الدِّينِ، فَأَمْرَ الْقَاضِي لِلْوَالِي أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَضَرَبَ
عُنُقَهُ، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْبَلَدِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ
مَنْ طَعَنَ فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ":
وَفِي وَسَطِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ بِلَادِ حَمَاةَ،
مِنْ جِهَةِ قَاضِيهَا، يُخْبِرُ فِيهِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ
بِبَارِينَ مِنْ عَمَلِ حَمَاةَ، بَرَدٌ كِبَارٌ عَلَى صُوَرِ حَيَوَانَاتٍ
مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا: سِبَاعٌ، وَحَيَّاتٌ، وَعَقَارِبُ، وَطُيُورٌ، وَمَعْزٌ،
وَبَلَشُونٌ، وَرِجَالٌ فِي أَوْسَاطِهِمْ حَوَائِصُ، وَأَنَّ ذَلِكَ ثَبَتَ
بِمَحْضَرٍ عِنْدَ قَاضِي النَّاحِيَةِ، ثُمَّ نُقِلَ ثُبُوتُهُ إِلَى قَاضِي
حَمَاةَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ شُنِقَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ
الْحَوْرَانِيُّ، بَوَّابُ
الظَّاهِرِيَّةِ عَلَى بَابِهَا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِقَتْلِ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ
السَّمَرْقَنْدِيِّ.
وَفِي النِّصْفِ مِنْهُ حَضَرَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ
تَدْرِيسَ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ
الشَّرِيشِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ مَحْضَرٌ أَنَّهَا لِقَاضِي
الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ، فَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ ابْنِ الشَّرِيشِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى
قَدِمَ الصَّدْرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ
عَلَى أَهْلِهِ مِنْ بِلَادِ التَّتَرِ بَعْدَ الْأَسْرِ سَنَتَيْنِ وَأَيَّامٍ،
وَقَدْ حُبِسَ مُدَّةً، ثُمَّ لَطَفَ اللَّهُ بِهِ، وَتَلَطَّفَ حَتَّى تَخَلَّصَ
مِنْهُمْ، وَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَفَرِحُوا بِهِ.
وَفِي سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الْقَاهِرَةِ
وَأَخْبَرَ بِوَفَاةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ: الْخَلِيفَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، وَأَنَّ وَلَدَهُ وَلِيَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِهِ،
وَهُوَ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ،
وَأَنَّهُ حَضَرَ جِنَازَتَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ مُشَاةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ
مِنَ السِّتِّ نَفِيسَةَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً فِي الْخِلَافَةِ. وَقَدِمَ
مَعَ الْبَرِيدِ تَقْلِيدٌ بِالْقَضَاءِ لِشَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْحَرِيرِيِّ
الْحَنَفِيِّ، وَبِنَظَرِ الدَّوَاوِينِ لِشَرَفِ الدِّينِ بْنِ مُزْهِرٍ،
وَاسْتَمَرَّتِ الْخَاتُونِيَّةُ الْجَوَّانِيَّةُ بِيَدِ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ
بْنِ حُسَامِ الدِّينِ بِإِذْنِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ خُطِبَ لِلْخَلِيفَةِ.
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، وَتُرُحِّمَ
عَلَى وَالِدِهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَأُعِيدَتِ النَّاصِرِيَّةُ إِلَى ابْنِ
الشَّرِيشِيِّ، وَعُزِلَ عَنْهَا ابْنُ جَمَاعَةَ، وَدَرَّسَ بِهَا يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
وَفِي شَوَّالٍ قَدِمَ إِلَى الشَّامِ جَرَادٌ عَظِيمٌ، أَكَلَ الزَّرْعَ
وَالثِّمَارَ، وَجَرَّدَ الْأَشْجَارَ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ الْعِصِيِّ، وَلَمْ
يُعْهَدْ مِثْلُ هَذَا، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ عُقِدَ مَجْلِسٌ لِلْيَهُودِ
الْخَيَابِرَةِ، وَأُلْزِمُوا بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ أُسْوَةَ أَمْثَالِهِمْ مِنَ
الْيَهُودِ، فَأَحْضَرُوا كِتَابًا مَعَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَنْهُمْ،
فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، تَبَيَّنُوا أَنَّهُ مَكْذُوبٌ مُفْتَعَلٌ
لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الرَّكِيكَةِ، وَالتَّوَارِيخِ الْمُخَبَّطَةِ،
وَاللَّحْنِ الْفَاحِشِ، وَحَاقَقَهُمْ عَلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ خَطَأَهُمْ وَكَذِبَهُمْ، وَأَنَّهُ مُزَوَّرٌ
مَكْذُوبٌ، فَأَنَابُوا إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَخَافُوا مِنْ أَنْ
يُسْتَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالسِّنِينَ الْمَاضِيَةِ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَقَفْتُ أَنَا عَلَى هَذَا الْكِتَابِ، فَرَأَيْتُ فِيهِ
شَهَادَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَامَ خَيْبَرَ، وَقَدْ تُوُفِّيَ سَعْدٌ قَبْلَ
ذَلِكَ بِنَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَشَهَادَةَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِذْ ذَاكَ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ
بِنَحْوٍ مَنْ سَنَتَيْنِ، وَفِيهِ: وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبُو طَالِبٍ، وَهَذَا
لَحْنٌ لَا يَصْدُرُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيٍّ؛ لِأَنَّ عِلْمَ
النَّحْوِ إِنَّمَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ
عَنْهُ، وَقَدْ جَمَعْتُ فِيهِ جُزْءًا.
مُفْرَدًا، وَذَكَرْتُ مَا جَرَى فِيهِ
أَيَّامَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ، وَكِبَارِ أَصْحَابِنَا فِي ذَلِكَ
الْعَصْرِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي " الْحَاوِي "، وَصَاحِبُ "
الشَّامِلِ " فِي كِتَابِهِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَبَيَّنُوا خَطَأَهُ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ ثَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَسَدَةِ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَشَكَوْا مِنْهُ أَنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ،
وَيُعَزِّرُ، وَيَحْلِقُ رُءُوسَ الصِّبْيَانِ، وَتَكَلَّمَ هُوَ أَيْضًا فِي مَنْ
يَشْكُو مِنْهُ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ خَطَأَهُمْ، ثُمَّ سَكَنَتِ الْأُمُورُ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ ضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ أَيَّامًا
بِسَبَبِ فَتْحِ أَمَاكِنَ مِنْ بِلَادِ سِيسَ عَنْوَةً، فَفَتَحَهَا
الْمُسْلِمُونَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَفِيهِ قَدِمَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ
مُيَسَّرٍ عَلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ مُزْهِرٍ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ رَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ حَضَرَ عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ
الْمُهَذِّبِ دَيَّانُ الْيَهُودِ إِلَى دَارِ الْعَدْلِ، وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ،
فَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ، فَأَكْرَمَهُمْ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَأَمَرَ أَنْ
يَرْكَبَ بِخِلْعَةٍ وَخَلْفَهُ الدَّبَادِبُ تَضْرِبُ وَالْبُوقَاتُ إِلَى
دَارِهِ، وَعَمِلَ لَيْلَتَئِذٍ فِي دَارِهِ خَتْمَةً عَظِيمَةً حَضَرَهَا الْقُضَاةُ
وَالْعُلَمَاءُ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ،
وَخَرَجُوا يَوْمَ الْعِيدِ كُلُّهُمْ يُكَبِّرُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ،
وَأَكْرَمَهُمْ
النَّاسُ إِكْرَامًا زَائِدًا.
وَقَدِمَتْ رُسُلُ التَّتَارِ فِي سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، فَنَزَلُوا
بِالْقَلْعَةِ، وَسَافَرُوا إِلَى الْقَاهِرَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
وَبَعْدَ مَسِيرِهِمْ بِيَوْمَيْنِ مَاتَ أَرْجَوَاشُ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ
بِيَوْمَيْنِ قَدِمَ الْجَيْشُ مِنْ بِلَادِ سِيسَ، وَقَدْ فَتَحُوا جَانِبًا
مِنْهَا، فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ لِتَلَقِّيهِمْ، وَخَرَجَ
النَّاسُ لِلْفُرْجَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَفَرِحُوا بِقُدُومِهِمْ وَنَصْرِهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ
الْبَغْدَادِيُّ الْمِصْرِيُّ، بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ فِي الدَّوْلَةِ
الظَّاهِرِيَّةِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
فَاسْتَكْمَلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْخِلَافَةِ، وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَقْتَ
صَلَاةِ الْعَصْرِ بِسُوقِ الْخَيْلِ بِمِصْرَ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ الْأَعْيَانُ
وَالدَّوْلَةُ، كُلُّهُمْ مُشَاةً، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنَ السِّتِّ نَفِيسَةَ،
وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِالْخِلَافَةِ إِلَى وَلَدِهِ الْمَذْكُورِ أَبِي الرَّبِيعِ
سُلَيْمَانَ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
ابْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ
لَمَّا عَهِدَ إِلَيْهِ أَبُوهُ، كُتِبَ تَقْلِيدُهُ بِذَلِكَ، وَقُرِئَ
بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ وَالدَّوْلَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، وَسَارَتْ بِذَلِكَ الْبَرِيدِيَّةُ إِلَى
جَمِيعِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
النَّجِيبِيُّ الدَّوَادَارُ، وَالِي الْبَرِّ بِدِمَشْقَ، وَأَحَدُ أُمَرَاءِ
الطَّبْلَخَانَاهْ بِهَا، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ،
وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ
الْعَلَّامَةِ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْيُونِينِيُّ الْبَعْلَبَكِّيُّ، وَكَانَ
أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ الشَّيْخِ قُطْبِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ،
وُلِدَ شَرَفُ الدِّينِ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَأَسْمَعَهُ
أَبُوهُ الْكَثِيرَ، وَاشْتَغَلَ وَتَفَقَّهَ، وَكَانَ عَابِدًا عَامِلًا، كَثِيرَ
الْخُشُوعِ، دَخَلَ عَلَيْهِ إِنْسَانٌ وَهُوَ بِخِزَانَةِ الْكُتُبِ، فَجَعَلَ
يَضْرِبُهُ بِعَصًا فِي رَأْسِهِ ثُمَّ بِسِكِّينٍ، فَبَقِيَ مُتَمَرِّضًا
أَيَّامًا، ثُمَّ تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَادِيَ
عَشَرَ رَمَضَانَ بِبَعْلَبَكَّ، وَدُفِنَ بِبَابِ سَطْحَا، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ لِعِلْمِهِ، وَعَمَلِهِ، وَحِفْظِهِ الْأَحَادِيثَ، وَتَوَدُّدِهِ إِلَى
النَّاسِ، وَتَوَاضُعِهِ، وَحُسْنِ سَمْتِهِ، وَمُرُوءَتِهِ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ
بِرَحْمَتِهِ.
الصَّدْرُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ،
وَالِدُ الْقَاضِي قُطْبِ الدِّينِ مُوسَى، الَّذِي تَوَلَّى فِيمَا بَعْدُ نَظَرَ
الْجَيْشِ بِالشَّامِ وَبِمِصْرَ أَيْضًا،
تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، وَعُمِلَ عَزَاؤُهُ
بِالرَّوَاحِيَّةِ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمُجَاهِدُ الْمُرَابِطُ: عَلَمُ الدِّينِ أَرْجَوَاشُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْصُورِيُّ، نَائِبُ الْقَلْعَةِ بِالشَّامِ، كَانَ ذَا
هَيْبَةٍ، وَهِمَّةٍ، وَشَهَامَةٍ، وَقَصْدٍ صَالِحٍ، قَدَّرَ اللَّهُ عَلَى
يَدَيْهِ حِفْظَ مَعْقِلِ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا مَلَكَتِ التَّتَارُ الشَّامَ
أَيَّامَ قَازَانَ، وَعَصَتْ عَلَيْهِمُ الْقَلْعَةُ، وَمَنَعَهَا اللَّهُ
مِنْهُمْ عَلَى يَدَيْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا
يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِمْ مَا دَامَ بِهَا عَيْنٌ تَطْرِفُ، وَاقْتَدَتْ بِهَا بَقِيَّةُ
الْقِلَاعِ الشَّامِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْقَلْعَةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ
الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَأُخْرِجَ مِنْهَا ضَحْوَةَ
يَوْمِ السَّبْتِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فَمَنْ
دُونَهُ جِنَازَتَهُ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى سَفْحِ قَاسِيُونَ، فَدُفِنَ فِي
تُرْبَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى..
الْأَبَرْقُوهِيُّ الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الْمِصْرِيُّ، هُوَ الشَّيْخُ
الْجَلِيلُ الْمُسْنِدُ الرُّحْلَةُ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ، شِهَابُ الدِّينِ أَبُو
الْمَعَالِي أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُؤَيَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْأَبَرْقُوهِيُّ الْهَمَذَانِيُّ
ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، وُلِدَ بِأَبَرْقُوهْ مِنْ بِلَادِ شِيرَازَ فِي رَجَبٍ أَوْ
شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ
الْحَدِيثِ عَلَى الْمَشَايِخِ
الْكَثِيرِينَ، وَخُرِّجَتْ لَهُ مَشْيَخَاتٌ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا
مُتَيَقِّظًا، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْحَجِيجِ بِأَرْبَعَةِ
أَيَّامٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَاحِبُ مَكَّةَ، الْأَمِيرُ الشَّرِيفُ أَبُو نُمَيٍّ
مُحَمَّدُ ابْنُ الْأَمِيرِ أَبِي سَعْدٍ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ قَتَادَةَ
الْحَسَنِيُّ، صَاحِبُ مَكَّةَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ حَلِيمًا
وَقُورًا، ذَا رَأْيٍ وَسِيَاسَةٍ وَعَقْلٍ وَمُرُوءَةٍ.
وَفِيهَا وُلِدَ كَاتِبُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ الْقُرَشِيُّ
الْبُصْرَوِيُّ الشَّافِعِيُّ، عَفَا اللَّهُ عَنْهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي صَفَرٍ مِنْهَا فُتِحْتَ جَزِيرَةُ أَرْوَادَ
بِالْقُرْبِ مِنْ أَنْطَرْطُوسَ، وَكَانَتْ مِنْ أَضَرِّ الْأَمَاكِنِ عَلَى
أَهْلِ السَّوَاحِلِ، فَجَاءَتْهَا مَرَاكِبُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
الْبَحْرِ، وَارِدٌ فِيهَا جُيُوشُ طَرَابُلُسَ، فَفُتِحَتْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
- إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهَّلَهَا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ،
وَأَسَرُوا قَرِيبًا مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سُرُورًا وَفَرَحًا، وَكَانَ فَتْحُهَا مِنْ تَمَامِ فَتْحِ
السَّوَاحِلِ، وَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّ أَهْلِهَا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى دِمَشْقَ،
فَأَخْبَرَ بِوَفَاةِ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَمَعَهُ كِتَابُ
السُّلْطَانِ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ
بْنِ جَمَاعَةَ، فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ،
وَاحْتِرَامٌ وَإِكْرَامٌ، يَسْتَدْعِيهِ إِلَى قُرْبِهِ؛ لِيُبَاشِرَ وَظِيفَةَ
الْقَضَاءِ بِمِصْرَ عَلَى عَادَتِهِ، فَتَهَيَّأَ لِذَلِكَ، وَلَمَّا عَزَمَ،
خَرَجَ مَعَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمُ، وَأَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ،
وَأَعْيَانُ النَّاسِ لِيُوَدِّعُوهُ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَةُ ابْنِ دَقِيقِ
الْعِيدِ فِي الْوَفَيَاتِ. وَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ جَمَاعَةَ إِلَى مِصْرَ
أَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةَ صُوفٍ،
وَبَغْلَةً تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَبَاشَرَ الْحُكْمَ بِمِصْرَ
يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَوَصَلَتْ رُسُلُ التَّتَارِ فِي أَوَاخِرِ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَاصِدِينَ بِلَادَ مِصْرَ.
وَبَاشَرَ شَرَفُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ
الظَّاهِرِيَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنِ رَبِيعٍ الْآخِرِ عِوَضًا عَنْ شَرَفِ
الدِّينِ النَّاسِخِ، وَهُوَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
حَسَنِ بْنِ خَوَاجَا إِمَامُ الدِّينِ الْقَارِسِيُّ، تُوُفِّيَ بِهَا عَنْ
سَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ، وَلَهُ أَخْلَاقٌ حَسَنَةٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَكَرَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ دَرْسًا
مُفِيدًا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَادِي عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى خُلِعَ عَلَى
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ صَصْرَى بِقَضَاءِ الشَّامِ عِوَضًا عَنِ
ابْنِ جَمَاعَةَ، وَعَلَى الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ الْفَارِقِيِّ
بِالْخَطَابَةِ، وَعَلَى الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ
التِّلَاوِيِّ بِشَدِّ الدَّوَاوِينِ،
وَهَنَّأَهُمُ النَّاسُ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأَعْيَانُ
الْمَقْصُورَةَ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُ ابْنِ صَصْرَى بَعْدَ
الصَّلَاةِ، ثُمَّ جَلَسَ فِي الشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ
مَرَّةً ثَانِيَةً.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ بِيَدِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ كِتَابٌ مُزَوَّرٌ،
فِيهِ أَنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَالْقَاضِي شَمْسَ
الدِّينِ بْنَ الْحَرِيرِيِّ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْخَوَاصِّ
الَّذِينَ بِبَابِ السَّلْطَنَةِ، يُنَاصِحُونَ التَّتَرَ وَيُكَاتِبُوهُمْ،
وَيُرِيدُونَ تَوْلِيَةَ قَبْجَقَ عَلَى الشَّامِ، وَأَنَّ الشَّيْخَ كَمَالَ
الدِّينِ بْنَ الزَّمْلَكَانِيِّ يُعْلِمُهُمْ بِأَحْوَالِ الْأَمِيرِ جَمَالِ
الدِّينِ آقُوشَ الْأَفَرَمِ، وَكَذَلِكَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْعَطَّارِ،
فِلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَرَفَ أَنَّ هَذَا مُفْتَعَلٌ،
فَفَحَصَ عَنْ وَاضِعِهِ، فَإِذَا هُوَ فَقِيرٌ كَانَ مُجَاوِرًا بِالْبَيْتِ
الَّذِي كَانَ إِلَى جَانِبِ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، يُقَالُ لَهُ:
الْيَعْفُورِيُّ، وَآخَرُ مَعَهُ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ الْفَنَارِيُّ، وَكَانَا
مَعْرُوفَيْنِ بِالشَّرِّ وَالْفُضُولِ، وَوُجِدَ مَعَهُمَا مُسَوَّدَةُ هَذَا
الْكِتَابِ، فَتَحَقَّقَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ ذَلِكَ، فَعُزِّرَا تَعْزِيرًا
عَنِيفًا، ثُمَّ وُسِّطَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
وَقُطِعَتْ يَدُ الْكَاتِبِ الَّذِي كَتَبَ لَهُمَا هَذَا الْكِتَابَ، وَهُوَ
التَّاجُ بْنُ الْمَنَادِيلِيِّ. وَفِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْأُولَى انْتَقَلَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بَلَبَانُ الْجُوكَنْدَارُ
الْمَنْصُورِيُّ إِلَى نِيَابَةِ الْقَلْعَةِ عِوَضًا عَنْ أَرْجَوَاشَ.
عَجِيبَةٌ مِنْ عَجَائِبِ الْبَحْرِ
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ":
قَرَأْتُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْوَارِدَةِ مِنَ الْقَاهِرَةِ أَنَّهُ لَمَّا
كَانَ بِتَارِيخِ يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، ظَهَرَتْ
دَابَّةٌ مِنَ الْبَحْرِ عَجِيبَةُ الْخِلْقَةِ، مِنْ بَحْرِ النِّيلِ إِلَى
أَرْضِ الْمُنُوفِيَّةِ، بَيْنَ بِلَادِ مِنْيَةِ مُسَوَّدٍ، وَإِصْطُبَارِيَّ،
وَالرَّاهِبِ، وَهَذِهِ صِفَتُهَا: لَوْنُهَا لَوْنُ الْجَامُوسِ بِلَا شَعْرٍ،
وَآذَانُهَا كَآذَانِ الْجَمَلِ، وَعَيْنَاهَا وَفَرْجُهَا مِثْلُ النَّاقَةِ،
يُغَطِّي فَرْجَهَا ذَنَبٌ طُولُهُ شِبْرٌ وَنِصْفٌ، طَرَفُهُ كَذَنَبِ
السَّمَكَةِ، وَرَقَبَتُهَا مِثْلُ غِلَظِ التِّلِّيسِ الْمَحْشُوِّ تِبْنًا،
وَفَمُهَا وَشَفَتَاهَا مِثْلُ الْكِرْبَالِ، وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ،
اثْنَانِ مِنْ فَوْقَ وَاثْنَانِ
مِنْ أَسْفَلَ، طُولُ كُلِّ وَاحِدٍ
دُونَ الشِّبْرِ فِي عَرْضِ أُصْبُعَيْنِ، وَفِي فَمِهَا ثَمَانِيَةٌ
وَأَرْبَعُونَ ضِرْسًا وَسِنًّا مِثْلَ بَيَادِقِ الشِّطْرَنْجِ، وَطُولُ
يَدَيْهَا مِنْ بَاطِنِهَا إِلَى الْأَرْضِ شِبْرَانِ وَنِصْفٌ، وَمِنْ
رُكْبَتِهَا إِلَى حَافِرِهَا مِثْلُ بَطْنِ الثُّعْبَانِ، أَصْفَرُ مُجَعَّدٌ،
وَدَوْرُ حَافِرِهَا مِثْلُ السُّكُرُّجَةِ، بِأَرْبَعَةِ أَظَافِيرَ مِثْلِ
أَظَافِيرِ الْجَمَلِ، وَعَرْضُ ظَهْرِهَا مِقْدَارُ ذِرَاعَيْنِ وَنِصْفٍ،
وَطُولُهَا مِنْ فَمِهَا إِلَى ذَنَبِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ قَدَمًا، وَفِي
بَطْنِهَا ثَلَاثَةُ كُرُوشٍ، وَلَحْمُهَا أَحْمَرُ، وَزُفْرَتُهُ مِثْلُ
السَّمَكِ، وَطَعْمُهُ كَلَحْمِ الْجَمَلِ، وَغِلَظُ جِلْدِهَا أَرْبَعَةُ
أَصَابِعَ، مَا تَعْمَلُ فِيهِ السُّيُوفُ، وَحُمِلَ جِلْدُهَا عَلَى خَمْسَةِ
أَجْمَالٍ فِي مَدَارِ سَاعَةٍ مِنْ ثِقْلِهِ، عَلَى جَمَلٍ بَعْدَ جَمَلٍ،
وَأَحْضَرُوهُ إِلَى بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ بِالْقَلْعَةِ، وَحَشَوْهُ
تِبْنًا، وَأَقَامُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِي شَهْرِ رَجَبٍ قَوِيَتِ الْأَخْبَارُ بِعَزْمِ التَّتَارِ عَلَى دُخُولِ
بِلَادِ الشَّامِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَاشْتَدَّ خَوْفُهُمْ جِدًّا،
وَقَنَتَ الْخَطِيبُ فِي الصَّلَوَاتِ، وَقُرِئَ " الْبُخَارِيُّ "،
وَشَرَعَ النَّاسُ فِي الْجَفْلِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْكَرَكِ،
وَالْحُصُونِ الْمَنِيعَةِ، وَتَأَخَّرَ مَجِيءُ الْعَسَاكِرِ الْمِصْرِيَّةِ عَنْ
أَوَانِهَا، فَاشْتَدَّ لِذَلِكَ الْخَوْفُ.
وَفِي شَهْرِ رَجَبٍ بَاشَرَ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ نَظَرَ
الْخِزَانَةِ عِوَضًا عَنِ الصَّدْرِ أَمِينِ الدِّينِ بْنِ هِلَالٍ، تُوُفِّيَ
إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَاشَرَ نَظَرَ الْجَامِعِ جَمَالُ الدِّينِ
بْنُ الصَّدْرِ سُلَيْمَانُ عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الشَّيْرَجِيِّ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ
شَعْبَانَ بَاشَرَ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بَعْدَ ابْنِ جَمَاعَةَ الْقَاضِي
نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَكَانَ جَمَالُ الدِّينِ الزُّرَعِيُّ
يَسُدُّ الْوَظِيفَةَ إِلَى هَذَا التَّارِيخِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ شَعْبَانَ ضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ
وَالطَّبْلَخَانَاهْ عَلَى أَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ بِخُرُوجِ السُّلْطَانِ
بِالْعَسَاكِرِ مِنْ مِصْرَ لِمُنَاجَزَةِ التَّتَارِ الْمَخْذُولِينَ. وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ كَانَتْ وَقْعَةُ عُرْضٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ الْتَقَى
جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ فِيهِمْ أَسَنْدَمُرُ، وَبَهَادُرُ آصْ،
وَكُجْكُنُ، وَغُرْلُو الْعَادِلِيُّ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ
الْمِلَّةِ وَالدِّينِ، فِي أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ - مَعَ التَّتَرِ،
وَكَانَ التَّتَارُ فِي سَبْعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ،
وَصَبَرَ الْمُسْلِمُونَ صَبْرًا جَيِّدًا، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ، وَخَذَلَ
التَّتَرَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَوَلَّوْا عِنْدَ
ذَلِكَ مُدْبِرِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَنَائِمَ، وَعَادُوا
سَالِمِينَ لَمْ يُفْقَدْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ مِمَّنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِالشَّهَادَةِ، وَوَقَعَتِ الْبِطَاقَةُ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَتِ
الْأُسَارَى يَوْمَ الْخَمِيسِ مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ، وَكَانَ يَوْمَ خَمِيسِ
النَّصَارَى.
أَوَائِلُ وَقْعَةِ شَقْحَبٍ
وَفِي ثَامِنَ عَشَرَهُ قَدِمَتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جَيْشِ
الْمِصْرِيِّينَ، فِيهِمُ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ الْجَاشْنَكِيرُ،
وَالْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ الْمَعْرُوفُ بِالْأُسْتَادَارِ
الْمَنْصُورِيُّ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ كَرَايُ الْمَنْصُورِيُّ، ثُمَّ
قَدِمَتْ بَعْدَهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، فِيهِمْ بَدْرُ الدِّينِ أَمِيرُ سِلَاحٍ،
وَأَيْبَكُ الْخَزِنْدَارُ، فَقَوِيَتِ الْقُلُوبُ، وَاطْمَأَنَّ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ فِي جَفَلٍ عَظِيمٍ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ، وَحَمَاةَ،
وَحِمْصَ، وَتِلْكَ النَّوَاحِي، وَتَقَهْقَرَ الْجَيْشُ الْحَلَبِيُّ
وَالْحَمَوِيُّ إِلَى حِمْصَ، ثُمَّ خَافُوا أَنْ يَدْهَمَهُمُ التَّتَرُ،
فَجَاءُوا فَنَزَلُوا الْمَرْجَ يَوْمَ الْأَحَدِ خَامِسِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ،
وَوَصَلَ التَّتَرُ إِلَى حِمْصَ، وَبَعْلَبَكَّ، وَعَاثُوا فِي تِلْكَ
الْأَرَاضِي فَسَادًا، وَقَلِقَ النَّاسُ قَلَقًا عَظِيمًا، وَخَافُوا خَوْفًا
شَدِيدًا، وَاخْتَبَطَ الْبَلَدُ لِتَأَخُّرِ قُدُومِ السُّلْطَانِ بِبَقِيَّةِ
الْجَيْشِ، وَقَالَ النَّاسُ: لَا طَاقَةَ لِجَيْشِ الشَّامِ مَعَ هَؤُلَاءِ
الْمِصْرِيِّينَ بِلِقَاءِ التَّتَارِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ
أَنْ يَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ
مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِالْأَرَاجِيفِ، فَاجْتَمَعَ
الْأُمَرَاءُ يَوْمَ الْأَحَدِ الْمَذْكُورِ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ،
وَتَحَالَفُوا عَلَى لِقَاءِ الْعَدُوِّ، وَشَجَّعُوا أَنْفُسَهُمْ، وَنُودِيَ
بِالْبَلَدِ أَنْ لَا يَرْحَلَ أَحَدٌ مِنْهُ، فَسَكَنَ النَّاسُ، وَجَلَسَ
الْقُضَاةُ بِالْجَامِعِ، وَحَلَّفُوا جَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْعَامَّةِ
عَلَى الْقِتَالِ، وَتَوَجَّهَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
إِلَى الْعَسْكَرِ الْوَاصِلِ مِنْ حَمَاةَ، فَاجْتَمَعَ بِهِمْ فِي الْقُطَيِّفَةِ،
فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا تَحَالَفَ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ مِنْ لِقَاءِ
الْعَدُوِّ، فَأَجَابُوا إِلَى ذَلِكَ، وَحَلَفُوا مَعَهُمْ، وَكَانَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يَحْلِفُ لِلْأُمَرَاءِ وَالنَّاسِ: إِنَّكُمْ
فِي هَذِهِ الْكَرَّةِ مَنْصُورُونَ عَلَى التَّتَارِ، فَيَقُولُ لَهُ
الْأُمَرَاءُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقًا
لَا تَعْلِيقًا، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ،
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ
ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [
الْحَجِّ: 60 ].
وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي كَيْفِيَّةِ قِتَالِ هَؤُلَاءِ التَّتَرِ مِنْ
أَيِّ قَبِيلٍ هُوَ، فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، وَلَيْسُوا بُغَاةً
عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي طَاعَتِهِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ
خَالَفُوهُ، فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ
الْخَوَارِجِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَرَأَوْا
أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْهُمَا، وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ
أَحَقُّ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعِيبُونَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ مَا هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ،
وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِمَا هُوَ
أَعْظَمُ مِنْهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، فَتَفَطَّنَ الْعُلَمَاءُ وَالنَّاسُ
لِذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي مِنْ ذَلِكَ
الْجَانِبِ وَعَلَى رَأْسِي مُصْحَفٌ، فَاقْتُلُونِي، فَتَشَجَّعَ النَّاسُ فِي
قِتَالِ التَّتَارِ، وَقَوِيَتْ قُلُوبُهُمْ وَنِيَّاتُهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ،
خَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ الشَّامِيَّةُ، فَخَيَّمَتْ عَلَى الْجُسُورَةِ مِنْ
نَاحِيَةِ الْكُسْوَةِ، وَمَعَهُمُ الْقُضَاةُ، فَصَارَ النَّاسُ فِيهِمْ
فَرِيقَيْنِ، فَرِيقٌ يَقُولُونَ: إِنَّمَا سَارُوا لِيَخْتَارُوا مَوْضِعًا
لِلْقِتَالِ، فَإِنَّ الْمَرْجَ فِيهِ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
مَعَهَا الْقِتَالَ، وَقَالَ فَرِيقٌ: إِنَّمَا سَارُوا إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ
لِيَهْرُبُوا، وَلِيَلْحَقُوا بِالسُّلْطَانِ.
فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ، سَارُوا إِلَى نَاحِيَةِ الْكُسْوَةِ،
فَقَوِيَتْ ظُنُونُ النَّاسِ فِي هَرَبِهِمْ، وَقَدْ وَصَلَتِ التَّتَارُ إِلَى
قَارَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ وَصَلُوا إِلَى الْقُطَيِّفَةِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ
لِذَلِكَ انْزِعَاجًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَبْقَ حَوْلَ الْبَلَدِ مِنَ الْقُرَى
وَالْحَوَاضِرِ أَحَدٌ، وَامْتَلَأَتِ الْقَلْعَةُ، وَازْدَحَمَتِ الْمَنَازِلُ
وَالطُّرُقَاتُ، وَاضْطَرَبَ النَّاسُ، وَخَرَجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ مِنَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ مِنْ بَابِ
النَّصْرِ بِمَشَقَّةٍ كَبِيرَةٍ، وَصَحِبَتْهُ جَمَاعَةٌ لِيَشْهَدَ الْقِتَالَ
بِنَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ، فَظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ هَارِبًا، فَحَصَلَ
لَهُ لَوْمٌ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَقَالُوا: أَنْتَ مَنَعْتَنَا مِنَ الْجَفْلِ،
وَهَا أَنْتَ هَارِبٌ مِنَ الْبَلَدِ ! فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ
الْبَلَدُ لَيْسَ فِيهِ حَاكَمٌ، وَعَاثَتِ
اللُّصُوصُ وَالْحَرَافِيشُ فِيهِ
وَفِي بَسَاتِينِ النَّاسِ يُخَرِّبُونَ وَيَنْهَبُونَ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ،
وَيَقْطَعُونَ الْمِشْمِشَ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَكَذَلِكَ الْبَاقِلَّاءُ،
وَالْقَمْحُ، وَالشَّعِيرُ، وَسَائِرُ الْخُضْرَاوَاتِ، وَحِيلَ بَيْنَ النَّاسِ
وَبَيْنَ خَبَرِ الْجَيْشِ، وَانْقَطَعَتِ الطُّرُقُ إِلَى الْكُسْوَةِ،
وَظَهَرَتِ الْوَحْشَةُ عَلَى الْبَلَدِ وَالْحَوَاضِرِ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ
شُغُلٌ غَيْرُ الصُّعُودِ إِلَى الْمَآذِنِ يَنْظُرُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا
وَإِلَى نَاحِيَةِ الْكُسْوَةِ، فَتَارَةً يَقُولُونَ: رَأَيْنَا غَبَرَةً.
فَيَخَافُونَ أَنْ تَكُونَ مِنَ التَّتَرِ، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَبَرِ
الْجَيْشِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَجَوْدَةِ عُدَّتِهِمْ أَيْنَ ذَهَبُوا ! وَلَا
يَدْرُونَ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ، فَانْقَطَعَتِ الْآمَالُ، وَأَلَحَّ
النَّاسُ فِي الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ، وَفِي الصَّلَوَاتِ، وَفِي كُلِّ حَالٍ،
وَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ
النَّاسُ فِي خَوْفٍ وَرُعْبٍ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، لَكِنْ كَانَ الْفَرَجُ مِنْ
ذَلِكَ قَرِيبًا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، كَمَا جَاءَ فِي
حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ: عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ
غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلِينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ، يَعْلَمُ
أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ هَذَا الْيَوْمِ وَصَلَ
الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ أَيَاسٌ الْمَرْقَبِيُّ أَحَدُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ،
فَبَشَّرَ النَّاسَ بِخَيْرٍ، وَهُوَ أَنَّ السُّلْطَانَ قَدْ وَصَلَ وَقَدِ
اجْتَمَعَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ، وَقَدْ أَرْسَلَنِي
أَكْشِفُ هَلْ طَرَقَ الْبَلَدَ أَحَدٌ مِنَ التَّتَرِ ؟ فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَمَا
يُحِبُّ،
لَمْ يَطْرُقْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ
وَذَلِكَ أَنَّ التَّتَارَ عَرَجُوا عَنْ دِمَشْقَ إِلَى نَاحِيَةِ الْعَسَاكِرِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْبَلَدِ، بَلْ قَالُوا: إِنْ غَلَبْنَا
فَالْبَلَدُ لَنَا، وَإِنْ غَلَبْنَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهِ. وَنُودِيَ فِي
الْبَلَدِ بِتَطْيِيبِ الْخَوَاطِرِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ قَدْ وَصَلَ،
فَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ، وَثَبَتَ الشَّهْرُ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ عَلَى الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ، فَإِنَّ السَّمَاءَ
كَانَتْ مُغَيِّمَةً، فَعُلِّقَتِ الْقَنَادِيلُ، وَصُلِّيَتِ التَّرَاوِيحُ،
وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِشَهْرِ رَمَضَانَ وَبَرَكَتِهِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي هَمٍّ شَدِيدٍ، وَخَوْفٍ أَكِيدٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ مَا خَبَرُ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ غُرْلُو الْعَادِلِيُّ، فَاجْتَمَعَ بِنَائِبِ
الْقَلْعَةِ، ثُمَّ عَادَ سَرِيعًا وَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ مَا أَخْبَرَ بِهِ،
وَوَقَعَ النَّاسُ فِي الْأَرَاجِيفِ وَالْخَوْضِ.
وَقْعَةُ شَقُحَبٍ
أَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ السَّبْتِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ
الْحَالِ، وَضِيِقِ الْأَمْرِ، فَرَأَوْا مِنَ الْمَآذِنِ سَوَادًا وَغَبَرَةً
مِنْ نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ وَالْعَدُوِّ، فَغَلَبَ عَلَى الظُّنُونِ أَنَّ
الْوَقْعَةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَابْتَهَلُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِالدُّعَاءِ فِي الْجَامِعِ وَالْبَلَدِ، وَطَلَعَ النِّسَاءُ وَالصِّغَارُ عَلَى
الْأَسْطِحَةِ، وَكَشَفُوا رُءُوسَهُمْ، وَضَجَّ الْبَلَدُ ضَجَّةً عَظِيمَةً،
وَوَقَعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَطَرٌ عَظِيمٌ غَزِيرٌ، ثُمَّ سَكَنَ النَّاسُ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الظُّهْرِ، قُرِئَتْ بِطَاقَةٌ بِالْجَامِعِ تَتَضَمَّنُ:
أَنَّ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ نَهَارِ السَّبْتِ هَذَا اجْتَمَعَتِ
الْجُيُوشُ الشَّامِيَّةُ وَالْمِصْرِيَّةُ مَعَ السُّلْطَانِ فِي مَرْجِ
الصُّفَّرِ، وَفِيهَا طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَالْأَمْرُ بِحِفْظِ الْقَلْعَةِ،
وَالتَّحَرُّزِ عَلَى الْأَسْوَارِ، فَدَعَا النَّاسُ فِي الْمَآذِنِ
وَالْبَلَدِ، وَانْقَضَى النَّهَارُ،
وَكَانَ يَوْمًا مُزْعِجًا هَائِلًا.
وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَحَدِ يَتَحَدَّثُونَ بِكَسْرِ التَّتَرِ،
وَخَرَجَ نَاسٌ إِلَى نَاحِيَةِ الْكُسْوَةِ، فَرَجَعُوا وَمَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ
الْمَكَاسِبِ، وَرُءُوسِ التَّتَرِ، وَصَارَتْ أَدِلَّةُ كَسْرَةِ التَّتَرِ
تَقْوَى وَتَتَزَايَدُ قَلِيلًا، حَتَّى اتَّضَحَتْ جُمْلَةً، وَلَكِنَّ النَّاسَ
لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَكَثْرَةِ التَّتَرِ لَا يُصَدِّقُونَ،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الظُّهْرِ، قُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ إِلَى مُتَوَلِّي
الْقَلْعَةِ يُخْبِرُ فِيهِ بِاجْتِمَاعِ الْجَيْشِ ظُهْرَ يَوْمِ السَّبْتِ
بِشَقْحَبٍ وَبِالْكُسْوَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِطَاقَةٌ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ
نَائِبِ السُّلْطَانِ جَمَالِ الدِّينِ آقُوشَ الْأَفْرَمِ إِلَى نَائِبِ
الْقَلْعَةِ، مَضْمُونُهَا أَنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ مِنَ الْعَصْرِ يَوْمَ
السَّبْتِ إِلَى السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ يَوْمِ الْأَحَدِ، وَأَنَّ
السَّيْفَ كَانَ يَعْمَلُ فِي رِقَابِ التَّتَرِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَأَنَّهُمْ
هَرَبُوا وَفَرُّوا، وَاعْتَصَمُوا بِالْجِبَالِ وَالتِّلَالِ، وَأَنَّهُ لَمْ
يَسْلَمْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَأَمْسَى النَّاسُ وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ
خَوَاطِرُهُمْ، وَتَبَاشَرُوا بِهَذَا الْفَتْحِ الْعَظِيمِ وَالنَّصْرِ الْمُبَارَكِ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ الْمَذْكُورِ،
وَنُودِيَ بَعْدَ الظُّهْرِ بِإِخْرَاجِ الْجُفَّالِ مِنَ الْقَلْعَةِ لِأَجْلِ
نُزُولِ السُّلْطَانِ، فَشَرَعُوا فِي الْخُرُوجِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ الشَّهْرِ رَجَعَ النَّاسُ مِنَ الْكُسْوَةِ
إِلَى دِمَشْقَ فَبَشَّرُوا النَّاسَ بِالنَّصْرِ. وَفِيهِ دَخَلَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْبَلَدَ وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، مِنَ
الْجِهَادِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ، وَدَعَوْا لَهُ، وَهَنَّئُوهُ بِمَا يَسَّرَ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَدَبَهُ الْعَسْكَرُ
الشَّامِيُّ أَنْ يَسِيرَ إِلَى السُّلْطَانِ يَسْتَحِثُّهُ عَلَى السَّيْرِ إِلَى
دِمَشْقَ، فَسَارَ إِلَيْهِ، فَحَثَّهُ عَلَى الْمَجِيءِ إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ
أَنْ كَادَ يَرْجِعُ إِلَى مِصْرَ، فَجَاءَ هُوَ وَإِيَّاهُ جَمِيعًا، فَسَأَلَهُ
السُّلْطَانُ أَنْ يَقِفَ مَعَهُ فِي مَعْرَكَةِ الْقِتَالِ، فَقَالَ لَهُ
الشَّيْخُ: السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ تَحْتَ رَايَةِ قَوْمِهِ، وَنَحْنُ
مِنْ جَيْشِ الشَّامِ لَا نَقِفُ إِلَّا مَعَهُمْ، وَحَرَّضَ السُّلْطَانَ عَلَى
الْقِتَالِ، وَبَشَّرَهُ بِالنَّصْرِ، وَجَعَلَ يَحْلِفُ لَهُ بِاللَّهِ الَّذِي
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ:
إِنَّكُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ فِي
هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَيَقُولُ لَهُ الْأُمَرَاءُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،
فَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَحْقِيقًا لَا تَعْلِيقًا، وَأَفْتَى النَّاسَ
بِالْفِطْرِ مُدَّةَ قِتَالِهِمْ، وَأَفْطَرَ هُوَ أَيْضًا، وَكَانَ يَدُورُ عَلَى
الْأَطْلَابِ وَالْأُمَرَاءِ فَيَأْكُلُ مِنْ شَيْءٍ مَعَهُ فِي يَدِهِ،
لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ إِفْطَارَهُمْ لِيَتَقَوَّوْا عَلَى الْقِتَالِ أَفْضَلُ،
فَيَأْكُلُ النَّاسُ، وَكَانَ يَتَأَوَّلُ فِي الشَّامِيِّينَ قَوْلَهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:إِنَّكُمْ مُلَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا، وَالْفِطَرُ
أَقْوَى لَكُمْ فَعَزَمَ عَلَيْهِمْ فِي الْفِطْرِ عَامَ الْفَتْحِ كَمَا فِي
حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ أَبُو الرَّبِيعِ
سُلَيْمَانُ فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ، وَلَمَّا اصْطَفَّتِ الْعَسَاكِرُ،
وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ ثَبَتَ السُّلْطَانُ ثَبَاتًا عَظِيمًا، وَأَمَرَ
بِجَوَادِهِ فَقُيِّدَ حَتَّى لَا يَهْرَبَ، وَبَايَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي
ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ عَظِيمَةٌ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنْ
سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ يَوْمَئِذٍ، مِنْهُمُ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِنُ
الرُّومِيُّ أُسْتَادَارُ السُّلْطَانِ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ
مَعَهُ، وَصَلَاحُ الدِّينِ بْنُ الْمَلِكِ الْكَامِلِ بْنِ السَّعِيدِ بْنِ
الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَخَلْقٌ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ نَزَلَ
النَّصْرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَرِيبَ الْعَصْرِ يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَظْهَرَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ لَجَأَ التَّتَرُ إِلَى اقْتِحَامِ التُّلُولِ
وَالْجِبَالِ وَالْآكَامِ، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْمُسْلِمُونَ يَحْرُسُونَهُمْ مِنَ
الْهَرَبِ، وَيَرْمُونَهُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى وَقْتِ الْفَجْرِ،
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
وَجَعَلُوا يَجِيئُونَ بِهِمْ فِي الْحِبَالِ، فَتُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ، ثُمَّ
اقْتَحَمَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ الْهَزِيمَةَ، فَنَجَا مِنْهُمْ قَلِيلٌ، ثُمَّ
كَانُوا يَتَسَاقَطُونَ فِي
الْأَوْدِيَةِ وَالْمَهَالِكِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ غَرِقَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ فِي
الْفُرَاتِ بِسَبَبِ الظَّلَامِ، وَكَشَفَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ
غُمَّةً عَظِيمَةً شَدِيدَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَدَخَلَ السُّلْطَانُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ رَمَضَانَ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَفَرِحَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَالْأَحَدِ، فَنَزَلَ السُّلْطَانُ فِي
الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ وَالْمَيْدَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَحَوَّلَ إِلَى الْقَلْعَةِ
يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَصَلَّى بِهَا الْجُمُعَةَ، وَخَلَعَ عَلَى نُوَّابِ
الْبِلَادِ، وَأَمَرَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَاسْتَقَرَّتِ
الْخَوَاطِرُ، وَذَهَبَ الْيَأْسُ، وَطَابَتْ قُلُوبُ النَّاسِ، وَعَزَلَ
السُّلْطَانُ ابْنَ النَّحَّاسِ عَنْ وِلَايَةِ الْمَدِينَةِ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ
الْأَمِيرَ عَلَاءَ الدِّينِ أَيْدُغْدِي أَمِيرَ عَلَمٍ، وَعَزَلَ صَارِمَ
الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ وَالِي الْخَاصِّ عَنْ وِلَايَةِ الْبَرِّ، وَجَعَلَ
مَكَانَهُ الْأَمِيرَ حُسَامَ الدِّينِ لَاجِينَ الصَّغِيرَ، ثُمَّ عَادَ
السُّلْطَانُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ
شَوَّالٍ بَعْدَ أَنْ صَامَ رَمَضَانَ، وَعَيَّدَ بِدِمَشْقَ. وَطَلَبَ
الصُّوفِيَّةُ مِنْ نَائِبِ دِمَشْقَ الْأِفْرَمِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ
مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ لِلشَّيْخِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ، فَأَذِنَ لَهُ
فِي الْمُبَاشَرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسِ شَوَّالٍ عِوَضًا عَنْ نَاصِرِ
الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَدَخَلَ السُّلْطَانُ الْقَاهِرَةَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا،
وَزُيِّنَتِ الْقَاهِرَةُ.
وَفِيهَا جَاءَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ
يَوْمَ الْخَمِيسِ بُكْرَةَ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ جُمْهُورُهَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، تَلَاطَمَتْ
بِسَبَبِهَا الْبِحَارُ، فَكُسِرَتِ الْمَرَاكِبُ، وَتَهَدَّمَتِ الدُّورُ،
وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
وَتَشَقَّقَتِ الْحِيطَانُ، وَلَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ،
وَكَانَ مِنْهَا بِالشَّامِ طَائِفَةٌ، لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ أَخَفَّ مِنْ سَائِرِ
الْبِلَادِ غَيْرِهَا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ بَاشَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ الْحَاجِّ
الْإِشْبِيلِيُّ الْمَالِكِيُّ إِمَامَةَ مِحْرَابِ الْمَالِكِيَّةِ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاةِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الصِّنْهَاجِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ، الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ،
الْحَافِظُ، قَاضِي الْقُضَاةِ: تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ
الْقُشَيْرِيُّ الْمِصْرِيُّ، وُلِدَ يَوْمَ السَّبْتِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِسَاحِلِ مَدِينَةِ
يَنْبُعَ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ،
وَخَرَّجَ، وَصَنَّفَ فِيهِ - إِسْنَادًا وَمَتْنًا - مُصَنَّفَاتٍ عَدِيدَةً
فَرِيدَةً مُفِيدَةً، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْعِلْمِ فِي زَمَانِهِ،
وَفَاقَ أَقْرَانَهَ، وَرَحَلَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ، وَدَرَّسَ فِي أَمَاكِنَ
كَثِيرَةٍ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَمَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ،
وَكَانَ وَقُورًا قَلِيلَ
الْكَلَامِ، غَزِيرَ الْفَوَائِدِ،
كَثِيرَ الْعُلُومِ فِي دِيَانَةٍ وَنَزَاهَةٍ، وَلَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ شَهْرِ صَفَرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ الْمَذْكُورِ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ السَّكَنْدَرِيُّ إِبْرَاهِيمُ بْنُ فَلَاحِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَتَفَقَّهَ، وَدَرَّسَ
بِالْقُوصِيَّةِ، وَأَعَادَ وَأَفْتَى، وَنَابَ فِي الْخَطَابَةِ مُدَّةً، وَفِي
الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ جَمَاعَةَ، وَكَانَ دَيِّنًا فَاضِلًا، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ - عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَبَعْدَ شَهْرٍ سَوِيٍّ، كَانَتْ وَفَاةُ الصَّدْرِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ
الْعَطَّارِ - كَاتِبِ الدَّرْجِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً - أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ مَحْمُودِ بْنِ أَبِي الْوَحْشِ أَسَدِ بْنِ
سَلَامَةَ بْنِ فِتْيَانَ الشَّيْبَانِيُّ، كَانَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ
وَأَحْسَنِهِمْ تَقِيَّةً، وَدُفِنَ
بِتُرْبَةٍ لَهُمْ تَحْتَ الْكَهْفِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمَلِكُ الْعَادِلُ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا، تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ نَائِبًا
عَلَيْهَا بَعْدَ صَرْخَدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى، وَنُقِلَ
إِلَى تُرْبَتِهٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ غَرْبِيَّ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ،
يُقَالُ لَهَا: الْعَادِلِيَّةُ، وَهِيَ تُرْبَةٌ مَلِيحَةٌ ذَاتُ شَبَابِيكَ،
وَبَوَّابَةٍ، وَمِئْذَنَةٍ، وَلَهُ عَلَيْهَا أَوْقَافٌ دَارَّةٌ عَلَى
وَظَائِفَ، مِنْ قِرَاءَةٍ، وَأَذَانٍ، وَإِمَامَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ
مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ الْمَنْصُورِيَّةِ، وَقَدْ مَلَكَ الْبِلَادَ بَعْدَ
مَقْتَلِ الْأَشْرَفِ خَلِيلِ بْنِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ انْتَزَعَ الْمُلْكَ
لَاجِينُ، وَجَلَسَ فِي قَلْعَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى صَرْخَدَ،
فَكَانَ بِهَا حَتَّى قُتِلَ لَاجِينُ، وَأَخَذَ الْمُلْكَ النَّاصِرُ بْنُ
قَلَاوُونَ فَاسْتَنَابَهُ بِحَمَاةَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ، وَأَعْدَلِهِمْ، وَأَكْثَرِهِمْ بِرًّا، وَكَانَ
مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَالنُّوَّابِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي
صَفَرٍ تَوَلَّى الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ نَظَرَ الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَبَاشَرَهُ مُبَاشَرَةً مَشْكُورَةً، وَسَاوَى
بَيْنَ النَّاسِ، وَعَزَلَ نَفْسَهُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا. وَفِي شَهْرِ صَفَرٍ
تَوَلَّى الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ خَطَابَةَ كَفْرِ بَطْنَا،
وَأَقَامَ بِهَا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، كَانَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي نَوَاحِي الْبَلْقَاءِ يَكْشِفُ
بَعْضَ الْأُمُورِ، فَلَمَّا قَدِمَ تَكَلَّمُوا مَعَهُ فِي وَظَائِفِ
الْفَارِقِيِّ، فَعَيَّنَ الْخَطَابَةَ لِشَرَفِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ،
وَعَيَّنَ الشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ وَدَارَ الْحَدِيثِ لِلشَّيْخِ كَمَالِ
الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَأَخَذَ مِنْهُ النَّاصِرِيَّةَ لِلشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ
بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَرَسَمَ بِكِتَابَةِ التَّوَاقِيعِ بِذَلِكَ، وَبَاشَرَ
الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْإِمَامَةَ وَالْخَطَابَةَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ
لِحُسْنِ قِرَاءَتِهِ، وَطِيبِ صَوْتِهِ، وَجَوْدَةِ سِيرَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ
بُكْرَةُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَ
الْبَرِيدُ مِنْ مِصْرَ صُحْبَةَ الشَّيْخِ صَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ،
وَقَدْ سَبَقَهُ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ لَهُ بِجَمِيعِ جِهَاتِ الْفَارِقِيِّ
مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ التَّدْرِيسَيْنِ، فَاجْتَمَعَ بِنَائِبِ
السَّلْطَنَةِ بِالْقَصْرِ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى الْجَامِعِ، فَفُتِحَ
لَهُ بَابُ دَارِ الْخَطَابَةِ فَنَزَلَهَا،
وَجَاءَهُ النَّاسُ يُهَنِّئُونَهُ،
وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُرَّاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْعَصْرَ،
وَبَاشَرَ الْإِمَامَةَ يَوْمَيْنِ، فَأَظْهَرَ النَّاسُ التَّأَلُّمَ مِنْ صَلَاتِهِ
وَخَطَابَتِهِ، وَسَعَوْا فِيهِ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَمَنَعَهُ مِنَ
الْخَطَابَةِ، وَأَقَرَّهُ عَلَى التَّدَارِيسِ وَدَارِ الْحَدِيثِ، وَجَاءَ
تَوْقِيعٌ سُلْطَانِيٌّ لِلشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ بِالْخَطَابَةِ،
فَخَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ بِطَرْحَةٍ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ، وَأَخَذَ الشَّيْخُ كَمَالُ
الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ مِنْ
يَدِ ابْنِ الْوَكِيلِ، وَبَاشَرَهَا فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى،
وَاسْتَقَرَّتْ دَارُ الْحَدِيثِ بِيَدِ ابْنِ الْوَكِيلِ مَعَ مَدْرَسَتَيْهِ
الْأُولَيَيْنِ، وَأَظُنُّهُمَا الْعَذْرَاوِيَّةَ، وَالشَّامِيَّةَ
الْجَوَّانِيَّةَ.
وَوَصَلَ الْبَرِيدُ فِي ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى بِإِعَادَةِ السِّنْجِرِيِّ
إِلَى نِيَابَةِ الْقَلْعَةِ، وَتَوْلِيَةِ نَائِبِهَا الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
الْجُوكَنْدَارِ نِيَابَةَ حِمْصَ عِوَضًا عَنْ عِزِّ الدِّينِ الْحَمَوِيِّ،
تُوُفِّيَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ رَمَضَانَ قَدِمَتْ ثَلَاثَةُ آلَافِ
فَارِسٍ مِنْ مِصْرَ، وَأُضِيفَ إِلَيْهَا أَلْفَانِ مِنْ دِمَشْقَ، وَسَارُوا،
فَأَخَذُوا مَعَهُمْ نَائِبَ حِمْصَ الْجُوكَنْدَارَ، وَوَصَلُوا إِلَى حَمَاةَ،
فَصَحِبَهُمْ نَائِبُهَا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ، وَجَاءَ إِلَيْهِمْ
أَسَنْدَمُرُ نَائِبُ طَرَابُلُسَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ قَرَاسُنْقُرُ نَائِبُ
حَلَبَ، وَانْفَصَلُوا كُلُّهُمْ عَنْهَا فَانْفَرَقُوا فِرْقَتَيْنِ، سَارَتْ
طَائِفَةٌ صُحْبَةَ قَبْجَقَ إِلَى نَاحِيَةِ مَلَطْيَةَ وَقَلْعَةِ
الرُّومِ، وَالْفِرْقَةُ الْأُخْرَى
صُحْبَةَ قَرَاسُنْقُرَ حَتَّى دَخَلُوا الدَّرْبَنْدَاتِ، وَحَاصَرُوا تَلَّ
حَمْدُونَ، فَتَسَلَّمُوهُ عَنْوَةً فِي ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ
حِصَارٍ طَوِيلٍ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ لِذَلِكَ، وَوَقَعَ
الِاتِّفَاقُ مَعَ صَاحِبِ سِيسَ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ نَهْرِ
جَيْهَانَ إِلَى حَلَبَ، وَبِلَادِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ إِلَى نَاحِيَتِهِمْ
لَهُمْ، وَأَنْ يُعَجِّلُوا حَمْلَ سَنَتَيْنِ، وَوَقَعَتِ الْهُدْنَةُ عَلَى
ذَلِكَ بَعْدَ مَا قُتِلَ خَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَرْمَنِ وَرُؤَسَائِهِمْ،
وَعَادَتِ الْعَسَاكِرُ إِلَى دِمَشْقَ مُؤَيَّدِينَ مَنْصُورِينَ، ثُمَّ
تَوَجَّهَتِ الْعَسَاكِرُ الْمِصْرِيَّةُ صُحْبَةَ مُقَدَّمِهِمْ أَمِيرِ سِلَاحٍ
إِلَى مِصْرَ.
وَفِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ كَانَ مَوْتُ قَازَانَ وَتَوْلِيَةُ أَخِيهِ
خَرْبَنْدَا، وَهُوَ مَلِكُ التَّتَرِ قَازَانُ، وَاسْمُهُ مَحْمُودُ بْنُ
أَرْغُوَنَ بْنِ أَبْغَا، فِي رَابِعِهِ، أَوْ حَادِيَ عَشَرَهُ، بِالْقُرْبِ مِنْ
هَمَذَانَ، وَنُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ بِتِبْرِيزَ بِمَكَانٍ يُسَمَّى الشَّامَ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ مَسْمُومًا، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ أَخُوهُ
خَرْبَنْدَا مُحَمَّدُ بْنُ أَرْغُوَنَ، وَلَقَّبُوهُ الْمَلِكَ غِيَاثَ الدِّينِ،
وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ الْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَتِلْكَ النَّوَاحِي
وَالْبِلَادِ.
وَحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَلَّارُ نَائِبُ
مِصْرَ، وَفِي صُحْبَتِهِ
أَرْبَعُونَ أَمِيرًا، وَجَمِيعُ
أَوْلَادِ الْأُمَرَاءِ، وَحَجَّ مَعَهُمْ وَزِيرُ مِصْرَ الْأَمِيرُ عِزُّ
الدِّينِ الْبَغْدَادِيُّ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ بِالْبِرْكَةِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ الشَّيْخِيُّ، وَخَرَجَ سَلَّارُ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
جِدًّا، وَأَمِيرُ رَكْبِ الْمِصْرِيِّينَ الْحَاجُّ أَنَاقُ الْحُسَامِيُّ.
وَتَرَكَ الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ، فَوَلِيَهَا
الْقَاضِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ
الزَّكِيِّ، وَحَضَرَ الْخَانَقَاهْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَادِي عِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ صَصْرَى، وَعِزُّ الدِّينِ بْنُ
الْقَلَانِسِيِّ، وَالصَّاحِبُ ابْنُ مُيَسَّرٍ، وَالْمُحْتَسِبُ، وَجَمَاعَةٌ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ وَصَلَ مِنَ التَّتَرِ مَقْدِمٌ كَبِيرٌ قَدْ هَرَبَ
مِنْهُمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ
جَنْكَلِي بْنُ الْبَابَا، وَفِي صُحْبَتِهِ نَحْوٌ مَنْ عَشَرَةٍ، فَحَضَرُوا
الْجُمُعَةَ فِي الْجَامِعِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى مِصْرَ، فَأُكْرِمَ، وَأُعْطِيَ
إِمْرَةَ أَلْفٍ، وَكَانَ مُقَامُهُ بِبِلَادِ آمِدَ، وَكَانَ يُنَاصِحُ
السُّلْطَانَ، وَيُكَاتِبُهُ، وَيُطْلِعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ التَّتَرِ، فَلِهَذَا
عَظُمَ شَأْنُهُ فِي الدَّوْلَةِ النَّاصِرِيَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
مَلِكُ التَّتَرِ قَازَانُ بْنُ أَرْغُوَنَ بْنِ أَبْغَا، تَقَدَّمَ.
الشَّيْخُ الْقُدْوَةُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ، أَبُو إِسْحَاقَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَعَالِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّقِّيُّ الْحَنْبَلِيُّ، كَانَ أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ
الشَّرْقِ، وَمَوْلِدُهُ بِالرَّقَّةِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَسَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ،
وَقَدِمَ دِمَشْقَ، فَسَكَنَ بِالْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ فِي أَسْفَلِهَا
بِأَهْلِهِ إِلَى جَانِبِ الطَّهَارَةِ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ
الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، خَشِنَ
الْعَيْشِ، حَسَنَ الْمُجَالَسَةِ، لِطَيْفَ الْمُفَاكَهَةِ، كَثِيرَ
التِّلَاوَةِ، قَوِيَّ التَّوَجُّهِ، مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِ، عَارِفًا
بِالتَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ، وَالْفِقْهِ، وَالْأَصْلَيْنِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ
وَخُطَبٌ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، تُوُفِّيَ بِمَنْزِلِهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
خَامِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ عُقَيْبَ الْجُمُعَةِ، وَنُقِلَ
إِلَى تُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ بِالسَّفْحِ وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ
حَافِلَةً رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ زَيْنُ الدِّينِ قَرَاجَا أُسْتَدَارُ
الْأَفْرَمِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَيْدَانِ الْحَصَا عِنْدَ النَّهْرِ.
وَالشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، عُرِفَ بِابْنِ الْحُبُلِيِّ، كَانَ
مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، يَتَرَدَّدُ إِلَى عَكَّا أَيَّامَ كَانَتِ الْفِرَنْجُ
فِي فِكَاكِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَعَتَقَهُ مِنَ
النَّارِ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ.
الْخَطِيبُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطِيبِ
جَمَالِ الدِّينِ أَبِي الْفَرَجِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ عَقِيلٍ السُّلَمِيُّ، خَطِيبُ بَعْلَبَكَّ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ سَنَةً
بَعْدَ وَالِدِهِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَتَفَرَّدَ عَنِ الْقَزْوِينِيِّ، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا، حَسَنَ
الْقِرَاءَةِ، مِنْ كِبَارِ الْعُدُولِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ
صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ سَطْحَا.
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فِهْرِ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِقِيُّ،
شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَاشْتَغَلَ وَدَرَّسَ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ،
وَأَفْتَى مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ، وَشَهَامَةٌ، وَصَرَامَةٌ،
وَكَانَ يُبَاشِرُ الْأَوْقَافَ جَيِّدًا، وَهُوَ الَّذِي عَمَّرَ دَارَ
الْحَدِيثِ بَعْدَ خَرَابِهَا زَمَنَ قَازَانَ، وَقَدْ بَاشَرَهَا سَبْعًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْ بَعْدِ
النَّوَوِيِّ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ،
وَكَانَتْ مَعَهُ الشَّامِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ، وَخَطَابَةُ الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، بَاشَرَ بِهِ الْخَطَابَةَ قَبْلَ وَفَاتِهِ،
وَقَدِ انْتَقَلَ إِلَى دَارِ الْخَطَابَةِ، وَتُوُفِّيَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بَعْدَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ضَحْوَةَ السَّبْتِ ابْنُ صَصْرَى عِنْدَ
بَابِ الْخَطَابَةِ، وَبِسُوقِ الْخَيْلِ قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ شَمْسُ الدِّينِ
بْنُ الْحَرِيرِيِّ، وَعِنْدَ جَامِعِ الصَّالِحِيَّةِ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ
تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ أَهْلِهِ شَمَالِيَّ تُرْبَةِ
الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ الْخَطَابَةَ شَرَفُ
الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَمَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ ابْنُ الْوَكِيلِ،
وَالشَّامِيَّةَ الْبَرَّانِيَّةَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذَلِكَ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْبَكَ الْحَمَوِيُّ، نَابَ بِدِمَشْقَ
مُدَّةً، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا إِلَى صَرْخَدَ، ثُمَّ نُقِلَ قَبْلَ مَوْتِهِ
بِشَهْرٍ إِلَى نِيَابَةِ حِمْصَ، وَتُوُفِّيَ بِهَا يَوْمَ الْأَحَدِ
الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَنُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِ بِالسَّفْحِ
غَرْبِيَّ زَاوِيَةِ ابْنِ قَوَامٍ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْحَمَّامُ بِمَسْجِدِ
الْقَصَبِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: حَمَّامُ الْحَمَوِيِّ، عَمَرَهُ فِي أَيَّامِ
نِيَابَتِهِ.
الْوَزِيرُ فَتْحُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرِ بْنِ صَغِيرٍ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ،
ابْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ، كَانَ شَيْخًا جَلِيلًا، أَدِيبًا شَاعِرًا مُجِيدًا،
مِنْ بَيْتِ الرِّيَاسَةِ وَالْوِزَارَةِ، وَقَدْ وَلِيَ وِزَارَةِ دِمَشْقَ
مُدَّةً، ثُمَّ أَقَامَ بِمِصْرَ مُوَقِّعًا مُدَّةً، وَكَانَ لَهُ اعْتِنَاءٌ
بِعُلُومِ الْحَدِيثِ وَسَمَاعِهِ
وَإِسْمَاعِهِ، وَلَهُ مُصَنَّفٌ فِي
أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ خُرِّجَ لَهُمْ فِي " الصَّحِيحَيْنِ
"، وَأَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ أَحَادِيثِهِمْ فِي مُجَلَّدَيْنِ كَبِيرَيْنِ
مَوْقُوفَيْنِ بِالْمَدْرَسَةِ النَّاصِرِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ لَهُ
مُذَاكَرَةٌ جَيِّدَةٌ مُحَرَّرَةٌ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ خَرَّجَ
عَنْهُ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْ شُيُوخِهِ،
تُوُفِّيَ بِالْقَاهِرَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَأَصْلُهُمْ مِنْ قَيْسَارِيَّةِ الشَّامِ، وَكَانَ جَدُّهُ
مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ خَالِدٌ وَزِيرًا لِنُورِ الدِّينِ
الشَّهِيدِ، وَكَانَ مِنَ الْكُتَّابِ الْمُجِيدِينَ الْمُتْقِنِينَ، لَهُ
كِتَابَةٌ جَيِّدَةٌ مُحَرَّرَةٌ جِدًّا، تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ صَلَاحِ الدِّينِ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَأَبُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرِ
بْنِ صَغِيرٍ، وُلِدَ بَعَكَّا قَبْلَ أَخْذِ الْفِرَنْجِ لَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَلَمَّا أُخِذَتْ بَعْدَ التِّسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
انْتَقَلَ أَهْلُهُمْ إِلَى حَلَبَ فَكَانُوا بِهَا، وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا،
لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَكَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالنُّجُومِ
وَالْهَيْئَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْوَالِدُ، وَهُوَ الْخَطِيبُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ
عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ ضَوْءِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ ضَوْءِ بْنِ دِرْعٍ
الْقُرَشِيُّ، مِنْ بَنِي حَصْلَةَ، وَهَمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الشَّرَفِ،
وَبِأَيْدِيهِمْ نَسَبٌ، وَقَفَ عَلَى بَعْضِهَا شَيْخُنَا الْمِزِّيُّ
فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَابْتَهَجَ بِهِ، فَصَارَ يَكْتُبُ فِي نَسَبِي بِسَبَبِ
ذَلِكَ: الْقُرَشِيُّ - مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا:
الشَّرْكُوِينُ، غَرْبِيَّ بُصْرَى، بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَذْرِعَاتٍ، وُلِدَ بِهَا فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ عِنْدَ أَخْوَالِهِ بَنِي عُقْبَةَ بِبُصْرَى، فَقَرَأَ " الْبِدَايَةَ " فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَفِظَ " جَمُلَ الزَّجَّاجِيِّ "، وَعُنِيَ بِالنَّحْوِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَاللُّغَةِ، وَحِفْظِ أَشْعَارِ الْعَرَبِ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ الْجَيِّدَ الْفَائِقَ الرَّائِقَ فِي الْمَدِيحِ، وَالْمَرَاثِي، وَقَلِيلٍ مِنَ الْهِجَاءِ، وَقُرِّرَ فِي مَدَارِسِ بُصْرَى بِمَبْرَكِ النَّاقَةِ شَمَالِيَّ الْبَلَدِ حَيْثُ يُزَارُ، وَهُوَ الْمَبْرَكُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى خَطَابَةِ الْقَرْيَةِ شَرْقِيَّ بُصْرَى، وَتَمَذْهَبَ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَخَذَ عَنِ النَّوَاوِيِّ، وَالشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَكَانَ يُكْرِمُهُ، وَيَحْتَرِمُهُ فِيمَا أَخْبَرَنِي شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، فَأَقَامَ بِهَا نَحَوًا مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى خَطَابَةِ مُجَيْدِلِ الْقَرْيَةِ الَّتِي مِنْهَا الْوَالِدَةُ، فَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً فِي خَيْرٍ، وَكِفَايَةٍ، وَتِلَاوَةٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ يَخْطُبُ جَيِّدًا، وَلَهُ قَبُولٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَلِكَلَامِهِ وَقْعٌ لِدِيَانَتِهِ، وَفَصَاحَتِهِ، وَحَلَاوَتِهِ، وَكَانَ يُؤْثِرُ الْإِقَامَةَ فِي الْبِلَادِ لِمَا يَرَى فِيهَا مِنَ الرِّفْقِ وَوُجُودِ الْحَلَالِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ عِدَّةُ أَوْلَادٍ مِنَ الْوَالِدَةِ، وَمِنْ أُخْرَى قَبْلَهَا، أَكْبَرُهُمْ إِسْمَاعِيلُ، ثُمَّ يُونُسُ وَإِدْرِيسُ، ثُمَّ مِنَ الْوَالِدَةِ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدٌ، وَأَخَوَاتٌ عِدَّةٌ، ثُمَّ أَنَا أَصْغُرُهُمْ، وَسُمِّيتُ بِاسْمِ الْأَخِ إِسْمَاعِيلَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَدِمَ دِمَشْقَ فَاشْتَغَلَ بِهَا بَعْدَ أَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ عَلَى وَالِدِهِ، وَقَرَأَ مُقَدِّمَةً فِي النَّحْوِ، وَحَفِظَ " التَّنْبِيهَ "، وَ " شَرْحَهُ " عَلَى الْعَلَّامَةِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَحَصَّلَ " الْمُنْتَخَبَ " فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، قَالَهُ لِي شَيْخُنَا ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ،، ثُمَّ إِنَّهُ سَقَطَ مِنْ
سَطْحِ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، فَمَكَثَ أَيَّامًا وَمَاتَ، فَوَجَدَ الْوَالِدُ عَلَيْهِ
وَجْدًا كَثِيرًا، وَرَثَاهُ بِأَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَلَمَّا وُلِدْتُ أَنَا لَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ سَمَّانِي بِاسْمِهِ، فَأَكْبَرُ أَوْلَادِهِ إِسْمَاعِيلُ،
وَآخِرُهُمْ وَأَصْغَرُهُمْ إِسْمَاعِيلُ، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ سَلَفَ، وَخَتَمَ
بِخَيْرٍ لِمَنْ بَقِيَ، وَكَانَتْ وَفَاةُ الْوَالِدِ فِي شَهْرِ جُمَادَى
الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، فِي قَرْيَةِ مُجَيْدِلِ الْقَرْيَةِ،
وَدُفِنَ بِمَقْبَرَتِهَا الشَّمَالِيَّةِ عِنْدَ الزَّيْتُونَةِ، وَكُنْتُ إِذْ
ذَاكَ صَغِيرًا ابْنَ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ نَحْوِهَا، لَا أُدْرِكُهُ إِلَّا
كَالْحُلْمِ، ثُمَّ تَحَوَّلْنَا مِنْ بَعْدِهِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ
إِلَى دِمَشْقَ صُحْبَةَ الْأَخِ كَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَقَدْ
كَانَ لَنَا شَقِيقًا، وَبِنَا رَفِيقَا شَفُوقَا، وَقَدْ تَأَخَّرَتْ وَفَاتُهُ
إِلَى سَنَةِ خَمْسِينَ، فَاشْتَغَلْتُ عَلَى يَدَيْهِ فِي الْعِلْمِ، فَيَسَّرَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مَا يَسَّرَ، وَسَهَّلَ مِنْهُ مَا تَعَسَّرَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ فِي "
مُعْجَمِهِ " فِيمَا أَخْبَرَنِي عَنْهُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ الْمَقْدِسِيُّ مُخَرِّجُهٌ لَهُ، وَمِنْ خَطِّ الْمُحَدِّثِ شَمْسِ
الدِّينِ بْنِ سَعْدٍ هَذَا نَقَلْتُ، وَكَذَلِكَ وَقَفْتُ عَلَى خَطِّ الْحَافِظِ
الْبِرْزَالِيِّ مِثْلَهُ فِي السَّفِينَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّفُنِ
الْكِبَارِ، قَالَ: عُمَرُ بْنُ كَثِيرٍ الْقُرَشِيُّ، خَطِيبُ الْقَرْيَةِ،
وَهِيَ قَرْيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ بُصْرَى، رَجُلٌ فَاضِلٌ، لَهُ نَظْمٌ جَيِّدٌ،
وَيَحْفَظُ كَثِيرًا مِنَ اللُّغْزِ، وَلَهُ هِمَّةٌ وَقُوَّةٌ، كَتَبْتُ عَنْهُ
مِنْ شِعْرِهِ بِحُضُورِ شَيْخِنَا تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَتُوُفِّيَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِمِائَةٍ بِمُجِيْدِلِ الْقَرْيَةِ مِنْ
عَمَلِ بُصْرَى، أَنْشَدَنَا الْخَطِيبُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ
بْنُ كَثِيرٍ الْقُرَشِيُّ خَطِيبُ الْقَرْيَةِ بِهَا لِنَفْسِهِ فِي مُنْتَصَفِ
شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ:
نَأَى النَّوْمُ عَنْ جَفْنِي فَبِتُّ
مُسَهَّدَا أَخَا كَلَفٍ حِلْفَ الصَّبَابَةِ مُوجِدَا سَمِيرَ الثُّرَيَّا
وَالنُّجُومِ مُدَلَّهًا
فَمِنْ وَلَهِي خِلْتُ الْكَوَاكَبَ رُكَّدَا طَرِيحًا عَلَى فُرُشِ الصَّبَابَةِ
وَالْأَسَى
فَمَا ضَرَّكُمْ لَوْ كُنْتُمُ لِي عُوَّدَا تُقَلِّبُنِي أَيْدِي الْغَرَامِ
بِلَوْعَةٍ
أَرَى النَّارَ مِنْ تِلْقَائِهَا لِي أَبْرَدَا وَمَزَّقَ صَبْرِي بَعْدَ
جِيرَانِ حَاجِزٍ
سَعِيرُ غَرَامٍ بَاتَ فِي الْقَلْبِ مُوقَدَا فَأَمْطَرْتُهُ دَمْعِي لَعَلَّ
زَفِيرَهُ
يَقِلُّ فَزَادَتْهُ الدُّمُوعُ تَوَقُّدَا فَبِتُّ بِلَيْلٍ نَابِغِيٍّ وَلَا
أَرَى
عَلَى النَّأْيِ مَنْ بَعْدَ الْأَحِبَّةِ مُسْعِدَا فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ
تَبَاعَدَ فَجْرُهُ
عَلَيَّ إِلَى أَنْ خِلْتُهُ قَدْ تَخَلَّدَا غَرَامًا وَوَجْدًا لَا يُحَدُّ
أَقَلُّهُ
بِأَهْيَفَ مَعْسُولِ الْمَرَاشِفِ أَغْيَدَا لَهُ طَلْعَةٌ كَالْبَدْرِ زَانَ
جَمَالَهَا
بِطُرَّةِ شَعْرٍ حَالِكُ اللَّوْنِ أَسْوَدَا يَهُزُّ مِنَ الْقَدِّ الرَّشِيقِ
مُثَقَّفًا
وَيُشْهِرُ مِنْ جَفْنَيْهِ سَيْفًا مُهَنَّدَا وَفِي وَرْدِ خَدَّيْهِ وَآسِ
عِذَارِهِ
وَضَوْءِ ثَنَايَاهُ فَنِيتُ تَجَلُّدَا غَدَا كُلُّ حُسْنٍ دُونَهُ مُتَقَاصِرًا
وَأَضْحَى لَهُ رَبُّ الْجَمَالِ مُوَحِّدَا إِذَا مَا رَنَا وَاهْتَزَّ عِنْدَ
لِقَائِهِ
سَبَاكَ فَلَمْ تَمْلِكْ لِسَانًا وَلَا يَدَا وَتَسْجُدُ إِجْلَالًا لَهُ
وَكَرَامَةً
وَتُقْسِمُ قَدْ أَمْسَيْتَ فِي الْحُسْنِ أَوْحَدَا
وَرُبَّ أَخِي كُفْرٍ تَأَمَّلَ
حُسْنَهُ
فَأَسْلَمَ مِنْ إِجْلَالِهِ وَتَشَهَّدَا وَأَنْكَرَ عِيسَى وَالصَّلِيبَ
وَمَرْيَمًا
وَأَصْبَحَ يَهْوَى بَعْدَ بُغْضٍ مُحَمَّدَا أَيَا كَعْبَةَ الْحُسْنِ الَّتِي
طَافَ حَوْلَهَا
فُؤَادِي أَمَا لِلصَّدِ عِنْدَكَ مِنْ فِدَا؟ قَنِعْتُ بِطَيْفٍ مِنْ خَيَالِكِ
طَارِقٍ
وَقَدْ كُنْتُ لَا أَرْضَى بِوَصْلِكِ سَرْمَدَا فَقَدْ شَفَّنِي شَوْقٌ تَجَاوَزَ
حَدَّهُ
وَحَسْبُكَ مِنْ شَوْقٍ تَجَاوَزَ وَاعْتَدَا سَأَلْتُكَ إِلَّا مَا مَرَرْتَ
بِحَيِّنَا
بِفَضْلِكَ يَا رَبَّ الْمَلَاحَةِ وَالنَّدَا لَعَلَّ جُفُونِي أَنْ تَغِيضَ
دُمُوعُهَا
وَيَسْكُنَ قَلْبٌ مُذْ هَجَرْتَ فَمَا هَدَا غَلِطْتَ بِهِجْرَانِي وَلَوْ كُنْتَ
صَابِيًا
لَمَا صَدَّكَ الْوَاشُونَ عَنِّي وَلَا الْعِدَا
وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْتًا، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ مَا صَنَعَ
مِنَ الشِّعْرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ، وَالسُّلْطَانُ، وَالْحُكَّامُ، وَالْمُبَاشِرُونَ
هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثِ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَضَّرْتُ الدُّرُوسَ وَالْوَظَائِفَ الَّتِي أَنْشَأَهَا
الْأَمِيرُ بَيْبَرْسُ الْجَاشْنَكِيرُ الْمَنْصُورِيُّ بِجَامِعِ الْحَاكِمِ،
بَعْدَ أَنْ جَدَّدَهُ مِنْ خَرَابِهِ بِالزَّلْزَلَةِ الَّتِي طَرَقَتْ دِيَارَ
مِصْرَ فِي آخِرِ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَجَعَلَ الْقُضَاةَ
الْأَرْبَعَةَ هُمُ الْمُدَرِّسِينَ لِلْمَذَاهِبِ، وَشَيْخَ الْحَدِيثِ سَعْدَ
الدِّينِ الْحَارِثِيَّ، وَشَيْخَ النَّحْوِ أَثِيرَ الدِّينِ أَبَا حَيَّانَ،
وَشَيْخَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ نُورَ الدِّينِ الشَّطَّنَوْفِيَّ، وَشَيْخَ
إِفَادَةِ الْعُلُومِ عَلَاءَ الدِّينِ الْقُونَوِيَّ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ بَاشَرَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ
الْحُجُوبِيَّةَ مَعَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَكْتَمُرَ، وَصَارَا
حَاجِبَيْنِ كَبِيرَيْنِ فِي دِمَشْقَ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا أُحْضِرَ إِلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ شَيْخٌ كَانَ يَلْبَسُ
دِلْقًا كَبِيرًا مُتَّسِعًا جِدًّا،
يُسَمَّى الْمُجَاهِدَ إِبْرَاهِيمَ الْقَطَّانَ، فَأَمَرَ الشَّيْخُ بِتَقْطِيعِ
ذَلِكَ الدِّلْقِ، فَتَنَاهَبَهُ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَطَعُوهُ حَتَّى
لَمْ يَدَعُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَأَمَرَ بِحَلْقِ رَأْسِهِ، وَكَانَ ذَا شَعْرٍ،
وَقَلْمِ أَظْفَارِهِ، وَكَانُوا طِوَالًا جِدًّا، وَحَفِّ شَارِبِهِ الْمُسْبَلِ
عَلَى فَمِهِ، الْمُخَالِفِ لِلسُّنَّةِ، وَاسْتَتَابَهُ مِنْ كَلَامِ الْفُحْشِ،
وَأَكْلِ مَا لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمِمَّا يُغَيِّرُ
الْعَقْلَ مِنَ الْحَشِيشَةِ وَغَيْرِهَا. وَبَعْدَهُ اسْتُحْضِرَ الشَّيْخُ
مُحَمَّدٌ الْخَبَّازُ الْبَلَاسِيُّ، فَاسْتَتَابَهُ أَيْضًا عَنْ أَكْلِ
الْمُحَرَّمَاتِ، وَمُخَالَطَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ مَكْتُوبًا
أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي تَعْبِيرِ الْمَنَامَاتِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِمَّا لَا
عِلْمَ لَهُ بِهِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ رَاحَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ إِلَى مَسْجِدِ النَّارَنْجِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ وَمَعَهُمْ
حَجَّارُونَ بِقَطْعِ صَخْرَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ بِنَهْرِ قَلُوطٍ - تُزَارُ
وَيُنْذَرُ لَهَا - فَقَطَعَهَا، وَأَرَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَمِنَ
الشِّرْكِ بِهَا، فَأَزَاحَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ شُبْهَةً كَانَ شَرُّهَا
عَظِيمًا، وَبِهَذَا وَأَمْثَالِهِ حَسَدُوهُ وَأَبْرَزُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ،
وَكَذَلِكَ بِكَلَامِهِ فِي ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَتْبَاعِهِ، فَحُسِدَ عَلَى ذَلِكَ
وَعُودِيَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَلَا
بَالَى، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بِمَكْرُوهٍ، وَأَكْثَرُ مَا نَالُوا مِنْهُ
الْحَبْسُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ
يَنْقَطِعْ فِي بَحْثٍ لَا بِمِصْرَ وَلَا بِالشَّامِ، وَلَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُمْ
عَلَيْهِ مَا يَشِينُ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ، وَحَبَسُوهُ بِالْجَاهِ كَمَا
سَيَأْتِي، وَإِلَى اللَّهِ إِيَابُ الْخَلْقِ، وَعَلَيْهِ حِسَابُهُمْ.
وَفِي رَجَبٍ جَلَسَ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى
بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَعُمِلَتِ التُّخُوتُ بَعْدَمَا
جُدِّدَتْ عِمَارَةُ الْمَدْرَسَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَحْكُمُ بِهَا بَعْدَ
وَقْعَةِ قَازَانَ بِسَبَبِ خَرَابِهَا، وَجَاءَ الْمَرْسُومُ لِلشَّيْخِ
بُرْهَانِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ بِوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمْ يَقْبَلْ،
وَلِلشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ،
فَقَبِلَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِطَرْحَةٍ، وَحَضَرَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
وَهَاتَانِ الْوَظِيفَتَانِ كَانَتَا مَعَ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ،
تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي شَعْبَانَ سَعَى جَمَاعَةٌ فِي تَبْطِيلِ الْوَقِيدِ لَيْلَةَ النِّصْفِ،
وَأَخَذُوا خُطُوطَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَتَكَلَّمُوا مَعَ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، بَلْ أَشْعَلُوا، وَصُلِّيَتْ صَلَاةُ
لَيْلَةِ النِّصْفِ أَيْضًا. وَفِي خَامِسِ رَمَضَانَ وَصَلَ الشَّيْخُ كَمَالُ
الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ مِنْ مِصْرَ بِوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَبِسَ
الْخِلْعَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَابِعِ رَمَضَانَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ
صَصْرَى بِالشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ. وَفِي سَابِعِ شَوَّالٍ عُزِلَ وَزِيرُ
مِصْرَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْخِيِّ، وَقُطِعَ إِقْطَاعُهُ، وَرُسِمَ
عَلَيْهِ، وَعُوقِبَ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَتَوَلَّى
الْوِزَارَةَ سَعْدُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَايَا، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، حَكَمَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ
الزَّوَاوِيُّ بِقَتْلِ الشَّمْسِ مُحَمَّدِ بْنِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ الْبَاجُرْبَقِيِّ، وَإِرَاقَةِ دَمِهِ، وَإِنْ تَابَ وَإِنْ أَسْلَمَ،
بَعْدَ إِثْبَاتِ مَحْضَرٍ عَلَيْهِ يَتَضَمَّنُ كُفْرَ الْبَاجُرْبَقِيِّ
الْمَذْكُورِ، وَمِمَّنْ شَهِدَ عَلَيْهِ فِيهِ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ
التُّونِسِيُّ النَّحْوِيُّ الشَّافِعِيُّ، فَهَرَبَ الْبَاجُرْبَقِيُّ إِلَى
بِلَادِ الشَّرْقِ، فَمَكَثَ بِهَا مُدَّةَ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ مَوْتِ
الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ كَانَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي الصَّيْدِ، فَقَصَدَهُمْ
فِي اللَّيْلِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَاتَلَهُمُ الْأُمَرَاءُ،
فَقَتَلُوا مِنَ الْعَرَبِ نَحْوَ النِّصْفِ، وَتَوَغَّلَ فِي الْعَرَبِ أَمِيرٌ
يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ سَمِزِ احْتِقَارًا بِالْعَرَبِ،
فَضَرَبَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِرُمْحٍ فَقَتَلَهُ، فَكَرَّتِ الْأُمَرَاءُ
عَلَيْهِمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا أَيْضًا، وَأَخَذُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ
زَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ، فَصُلِبَ تَحْتَ الْقَلْعَةِ، وَدُفِنَ
الْأَمِيرُ الْمَذْكُورُ بِقَبْرِ السِّتِّ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقِيبِ،
وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْفَتَاوَى الصَّادِرَةِ مِنَ الشَّيْخِ
عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْعَطَّارِ شَيْخِ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ
وَالْقُوصِيَّةِ، وَأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَفِيهَا
تَخْبِيطٌ كَثِيرٌ، فَتَوَهَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَرَاحَ إِلَى الْحَنَفِيِّ، فَحَقِنَ
دَمَهُ، وَأَبْقَاهُ عَلَى وَظَائِفِهِ، ثُمَّ بَلَغَ ذَلِكَ نَائِبَ
السَّلْطَنَةِ، فَأَنْكَرَ عَلَى الْمُنْكِرِينَ عَلَيْهِ، وَرَسَمَ عَلَيْهِمْ،
ثُمَّ اصْطَلَحُوا، وَرَسَمَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَنْ لَا
تُثَارَ الْفِتَنُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ رَكِبَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى جَبَلِ الْجُرْدِ
وَالْكَسْرَوَانِيِّينَ، وَمَعَهُ نَقِيبُ الْأَشْرَافِ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ
عَدْنَانَ، فَاسْتَتَابُوا خَلْقًا مِنْهُمْ، وَأَلْزَمُوهُمْ بِشَرَائِعِ
الْإِسْلَامِ، وَرَجَعَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ بْنُ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الرِّفَاعِيِّ، شَيْخُ
الْأَحْمَدِيَّةِ بِأُمِّ عُبَيْدَةَ مِنْ مُدَّةٍ عَدِيدَةٍ، وَعَنْهُ تُكْتَبُ
إِجَازَاتُ الْفُقَرَاءِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ عِنْدَ سِلَفِهِ بِالْبَطَائِحِ.
الصَّدْرُ نَجْمُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْكَتَائِبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
الطَّيِّبِ، وَكَيْلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ، وَقَدْ وَلِيَ فِي
وَقْتٍ نَظَرَ الْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَشْكُورَ
السِّيرَةِ رَجُلًا جَيِّدًا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى أَيْضًا،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا مَضَى. وَجَاءَ الْخَبَرُ
فِي أَوَّلِهَا أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ التَّتَرِ كَمَنُوا لِجَيْشِ حَلَبَ،
وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا مِنَ الْأَعْيَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَثُرَ النَّوْحُ
بِبِلَادِ حَلَبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَفِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ حَكَمَ جَلَالُ
الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ أَخُو قَاضِي الْقُضَاةِ إِمَامِ الدِّينِ نِيَابَةً عَنِ
ابْنِ صَصْرَى. وَفِي ثَانِيهِ خَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ
مِنَ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَائِفَةٌ
مِنْهُمْ مَعَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي ثَانِي الْمُحَرَّمِ، فَسَارُوا إِلَى
بِلَادِ الْجُرْدِ، وَالرَّفْضِ، وَالتَّيَامِنَةِ، فَخَرَجَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ خُرُوجِ الشَّيْخِ لِغَزْوِهِمْ،
فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَبَادُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَمِنْ
فِرْقَتِهِمُ الضَّالَّةِ، وَوَطِئُوا أَرَاضِيَ كَثِيرَةً مِنْ مَنِيعِ
بِلَادِهِمْ، وَعَادَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى دِمَشْقَ فِي صُحْبَةِ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَالْجَيْشِ، وَقَدْ حَصَلَ
بِسَبَبِ شُهُودِ الشَّيْخِ هَذِهِ الْغَزْوَةِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَأَبَانَ
الشَّيْخُ عِلْمًا وَشَجَاعَةً فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَقَدِ امْتَلَأَتْ
قُلُوبُ أَعْدَائِهِ حَسَدًا لَهُ وَغَمًّا.
وَفِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى
قَدِمَ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْقَاضِي وَجِيهِ الدِّينِ
عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ الرُّقَاقِيِّ الْمِصْرِيُّ مِنَ الْقَاهِرَةِ عَلَى
نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ، عِوَضًا عَنْ عِزِّ الدِّينِ بْنِ مُيَسَّرٍ.
ذِكْرُ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مَعَ
الْأَحْمَدِيَّةِ، وَكَيْفَ عُقِدَتْ لَهُ الْمَجَالِسُ الثَّلَاثَةُ
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى حَضَرَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الْفُقَرَاءِ الْأَحْمَدِيَّةِ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِالْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ، وَحَضَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، فَسَأَلُوا
مِنْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَكُفَّ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُسَلِّمَ لَهُمْ حَالَهُمْ،
فَقَالَ لَهُمُ الشَّيْخُ: هَذَا مَا يُمْكِنُ، وَلَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ
يَدْخُلَ تَحْتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَمَنْ خَرَجَ
عَنْهُمَا وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَأَرَادُوا أَنْ
يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ الَّتِي
يَتَعَاطَوْنَهَا فِي سَمَاعَاتِهِمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: تِلْكَ أَحْوَالٌ
شَيْطَانِيَّةٌ بَاطِلَةٌ، وَأَكْثَرُ أَحْوَالِكُمْ مِنْ بَابِ الْحِيَلِ
وَالْبُهْتَانِ، وَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ فَلْيَدْخُلْ
أَوَّلًا إِلَى الْحَمَّامِ، وَلْيَغْسِلْ جَسَدَهُ غَسْلًا جَيِّدًا،
وَيَدْلِكْهُ بِالْخَلِّ وَالْأُشْنَانِ، ثُمَّ يَدْخُلْ بَعْدَ
ذَلِكَ إِلَى النَّارِ إِنْ كَانَ
صَادِقًا، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ دَخَلَ النَّارَ
بَعْدَ أَنْ يَغْتَسِلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى صَلَاحِهِ، وَلَا عَلَى
كَرَامَتِهِ، بَلْ حَالُهُ مِنْ أَحْوَالِ الدَّجَاجِلَةِ الْمُخَالِفَةِ
لِلشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، إِذَا كَانَ صَاحِبُهَا عَلَى السُّنَّةِ، فَمَا
الظَّنُّ بِخِلَافِ ذَلِكَ! فَابْتَدَرَ شَيْخُ الْمُنَيْبِعِ الشَّيْخُ صَالِحٌ،
وَقَالَ: نَحْنُ أَحْوَالُنَا إِنَّمَا تَنْفَقُ عِنْدَ التَّتَرِ، لَيْسَتْ
تَنْفَقُ عِنْدَ الشَّرْعِ. فَضَبَطَ الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَلِمَةَ،
وَكَثُرَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ
عَلَى أَنَّهُمْ يَخْلَعُونَ الْأَطْوَاقَ الْحَدِيدَ مِنْ رِقَابِهِمْ، وَأَنَّ
مَنْ خَرَجَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَصَنَّفَ الشَّيْخُ جُزْءًا فِي طَرِيقَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ، وَبَيَّنَ فِيهِ
فَسَادَ أَحْوَالِهِمْ، وَمَسَالِكِهِمْ، وَتَخَيُّلَاتِهِمْ، وَمَا فِي
طَرِيقَتِهِمْ مِنْ مَقْبُولٍ وَمَرْدُودٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَظْهَرَ
اللَّهُ السُّنَّةَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَخْمَدَ بِدْعَتَهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ خُلِعَ عَلَى عَلَاءِ الدِّينِ
بْنِ مَعْبَدٍ، وَعِزِّ الدِّينِ خَطَّابٍ، وَسَيْفِ الدِّينِ بَكْتَمُرَ
مَمْلُوكِ بَكْتَاشَ الْحُسَامِيِّ بِالْإِمْرَةِ، وَلَبِسُوا التَّشَارِيفَ،
وَرَكِبُوا بِهَا، وَسَلَّمُوا إِلَيْهِمْ جَبَلَ الْجُرْدِ، وَالْكَسْرَوَانِ،
وَالْبِقَاعِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ رَجَبٍ خَرَجَ النَّاسُ لِلِاسْتِسْقَاءِ إِلَى
سَطْحِ الْمِزَّةِ، وَنَصَبُوا هُنَاكَ مِنْبَرًا، وَخَرَجَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، وَجَمِيعُ النَّاسِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَالْعُلَمَاءِ،
وَالْفُقَرَاءِ، وَكَانَ مَشْهَدًا هَائِلًا، وَخُطْبَةً عَظِيمَةً فَصِيحَةً،
فَاسْتَسْقَوْا فَلَمْ يُسْقَوْا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ.
أَوَّلُ الْمَجَالِسِ الثَّلَاثَةِ
لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ رَجَبٍ حَضَرَ الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ،
وَفِيهِمُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عِنْدَ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ بِالْقَصْرِ، وَقُرِئَتْ عَقِيدَةُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
" الْوَاسِطِيَّةُ "، وَحَصَلَ بَحْثٌ فِي أَمَاكِنَ مِنْهَا،
وَأُخِّرَتْ مَوَاضِعُ إِلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي، فَاجْتَمَعُوا يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ثَانِيَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَحَضَرَ
الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ الْهِنْدِيُّ، وَتَكَلَّمَ مَعَ الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ كَلَامَا كَثِيرًا، وَلَكِنَّ سَاقِيَتَهُ لَاطَمَتْ بَحْرًا، ثُمَّ
اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الزَّمْلَكَانِيِّ هُوَ الَّذِي يُحَاقِقُهُ مِنْ غَيْرِ مُسَامَحَةٍ،
فَتَنَاظَرَا فِي ذَلِكَ، وَشَكَرَ النَّاسُ مِنْ فَضَائِلِ الشَّيْخِ كَمَالِ
الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَجَوْدَةِ ذِهْنِهِ، وَحُسْنِ بَحْثِهِ، حَيْثُ
قَاوَمَ ابْنَ تَيْمِيَّةَ فِي الْبَحْثِ، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ، ثُمَّ انْفَصَلَ
الْحَالُ عَلَى قَبُولِ الْعَقِيدَةِ، وَعَادَ الشَّيْخُ إِلَى مَنْزِلِهِ
مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وَبَلَغَنِي أَنَّ الْعَامَّةَ حَمَلُوا لَهُ الشَّمْعَ
مِنْ بَابِ النَّصْرِ إِلَى الْقَصَّاعِينَ عَلَى جَارِي عَادَتِهِمْ فِي
أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَكَانَ الْحَامِلَ عَلَى هَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتِ
كِتَابٌ وَرَدَ مِنَ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ، كَانَ الْبَاعِثَ عَلَى إِرْسَالِهِ
قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ ابْنُ مَخْلُوفٍ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَنْبِجِيُّ
شَيْخُ الْجَاشْنَكِيرِ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَعْدَائِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي
الْمَنْبِجِيِّ، وَيَنْسِبُهُ إِلَى اعْتِقَادِ ابْنِ عَرَبِيٍّ، وَكَانَ
لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْفُقَهَاءِ جَمَاعَةٌ يَحْسُدُونَهُ
لِتَقَدُّمِهِ عِنْدَ الدَّوْلَةِ، وَانْفِرَادِهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ، وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ،
وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَقِيَامِهِ فِي الْحَقِّ، وَعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ،
ثُمَّ وَقَعَ بِدِمَشْقَ خَبْطٌ
كَثِيرٌ وَتَشْوِيشٌ بِسَبَبِ غَيْبَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ فِي الصَّيْدِ،
وَطَلَبَ الْقَاضِي جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ وَعَزَّرَ بَعْضَهُمْ،
ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّ الشَّيْخَ جَمَالَ الدِّينِ الْمِزِّيَّ الْحَافِظَ قَرَأَ
فَصْلًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مِنْ كِتَابِ " خَلْقِ أَفْعَالِ
الْعِبَادِ " لِلْبُخَارِيِّ - تَحْتَ قُبَّةِ النَّسْرِ، بَعْدَ قِرَاءَةِ
مِيعَادِ " الْبُخَارِيِّ " بِسَبَبِ الِاسْتِسْقَاءِ، فَغَضِبَ بَعْضُ
الْفُقَهَاءِ الْحَاضِرِينَ، وَشَكَاهُ إِلَى الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ ابْنِ
صَصْرَى، وَكَانَ عَدُوَّ الشَّيْخِ، فَسَجَنَ الْمِزِّيَّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ، فَتَأَلَّمَ لِذَلِكَ، وَذَهَبَ إِلَى السِّجْنِ
فَأَخْرَجَهُ مِنْهُ بِنَفْسِهِ، وَرَاحَ إِلَى الْقَصْرِ فَوَجَدَ الْقَاضِيَ
هُنَاكَ، فَتَقَاوَلَا بِسَبَبِ. الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ،
فَحَلَفَ ابْنُ صَصْرَى وَلَا بُدَّ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى السِّجْنِ، وَإِلَّا
عَزَلَ نَفْسَهُ، فَأَمَرَ النَّائِبُ بِإِعَادَتِهِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ
الْقَاضِي، فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي الْقُوصِيَّةِ أَيَّامًا ثُمَّ أَطْلَقَهُ،
وَلَمَّا قَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ ذَكَرَ لَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
مَا جَرَى فِي حَقِّهِ وَحَقِّ أَصْحَابِهِ فِي غَيْبَتِهِ، فَتَأَلَّمَ
النَّائِبُ لِذَلِكَ، وَنَادَى فِي الْبَلَدِ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي
الْعَقَائِدِ، وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ حَلَّ مَالُهُ وَدَمُهُ، وَنُهِبَتْ
دَارُهُ وَحَانُوتُهُ، فَسَكَنَتِ الْأُمُورُ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ فَصْلًا مِنْ
كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي كَيْفِيَّةِ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ
الْمَجَالِسِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْمُنَاظَرَاتِ.
ثُمَّ عُقِدَ الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ سَابِعَ شَعْبَانَ بِالْقَصْرِ، وَاجْتَمَعَ
الْجَمَاعَةُ عَلَى الرِّضَا بِالْعَقِيدَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِي هَذَا
الْيَوْمِ عَزَلَ ابْنُ صَصْرَى نَفْسَهُ عَنِ الْحُكْمِ بِسَبَبِ كَلَامٍ
سَمِعَهُ مِنْ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ، وَهُوَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الزَّمْلَكَانِيِّ، فِي الْمَجْلِسِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ جَاءَ كِتَابُ
السُّلْطَانِ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ فِيهِ
إِعَادَةُ ابْنِ صَصْرَى إِلَى
الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمَنْبِجِيِّ، وَفِي الْكِتَابِ: إِنَّا
كُنَّا رَسَمْنَا بِعَقْدِ مَجْلِسٍ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ، وَقَدْ بَلَغَنَا مَا عُقِدَ لَهُ مِنَ الْمَجَالِسِ، وَأَنَّهُ
عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِذَلِكَ بَرَاءَةَ سَاحَتِهِ
مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ.
ثُمَّ جَاءَ كِتَابٌ آخَرُ فِي خَامِسِ رَمَضَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَفِيهِ الْكَشْفُ
عَمَّا كَانَ وَقَعَ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي أَيَّامِ
جَاغَانَ وَالْقَاضِي إِمَامِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، وَأَنْ يُحْمَلَ هُوَ
وَالْقَاضِي ابْنُ صَصْرَى إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَتَوَجَّهَا عَلَى
الْبَرِيدِ نَحْوَ مِصْرَ، وَخَرَجَ مَعَ الشَّيْخِ خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَبَكَوْا وَخَافُوا عَلَيْهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمُ بِتَرْكِ الذَّهَابِ إِلَى مِصْرَ، وَقَالَ لَهُ: أَنَا
أُكَاتِبُ السُّلْطَانَ فِي ذَلِكَ، وَأُصْلِحُ الْقَضَايَا، فَامْتَنَعَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ، وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ فِي تَوَجُّهِهِ
لِمِصْرَ مَصْلَحَةً كَبِيرَةً، وَمَصَالِحَ كَثِيرَةً، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى
مِصْرَ ازْدَحَمَ النَّاسُ لِوَدَاعِهِ وَرُؤْيَتِهِ حَتَّى انْتَشَرُوا مِنْ
بَابِ دَارِهِ إِلَى قُرْبِ الْجُسُورَةِ، فِيمَا بَيْنَ دِمَشْقَ وَالْكُسْوَةِ،
وَهُمْ مَا بَيْنَ بَاكٍ وَحَزِينٍ، وَمُتَفَرِّجٍ وَمُتَنَزِّهٍ، وَمُزَاحِمٍ
مُتَغَالٍ فِيهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ دَخَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ غَزَّةَ فَعَمِلَ بِجَامِعِهَا مَجْلِسًا عَظِيمًا، ثُمَّ رَحَلَا مَعًا
إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَالْقُلُوبُ مَعَهُ وَبِهِ مُتَعَلِّقَةٌ، فَدَخَلَا مِصْرَ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ:
إِنَّهُمَا دَخَلَاهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
بَعْدَ الصَّلَاةِ عُقِدَ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
مَجْلِسٌ بِالْقَلْعَةِ، اجْتَمَعَ
فِيهِ الْقُضَاةُ وَأَكَابِرُ الدَّوْلَةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى
عَادَتِهِ، فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْبَحْثِ وَالْكَلَامِ، وَانْتَدَبَ لَهُ
الشَّمْسُ بْنُ عَدْلَانَ خَصْمًا احْتِسَابًا، وَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ ابْنِ
مَخْلُوفٍ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ
حَقِيقَةً، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، فَسَأَلَهُ الْقَاضِي
جَوَابَهُ، فَأَخَذَ الشَّيْخُ فِي حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، فَقِيلَ
لَهُ: أَجِبْ، مَا جِئْنَا بِكَ لِتَخْطُبَ، فَقَالَ: وَمَنِ الْحَاكِمُ فِيَّ ؟
فَقِيلَ لَهُ: الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: كَيْفَ تَحْكُمُ
فِيَّ وَأَنْتَ خَصْمِي ؟!.
فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَانْزَعَجَ، وَأُقِيمَ مُرَسَّمًا عَلَيْهِ، وَحُبِسَ
فِي بُرْجٍ أَيَّامًا، ثُمَّ نُقِلَ مِنْهُ لَيْلَةَ الْعِيدِ إِلَى الْحَبْسِ
الْمَعْرُوفِ بِالْجُبِّ هُوَ وَأَخَوَاهُ: شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ،
وَزَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
وَأَمَّا ابْنُ صَصْرَى فَإِنَّهُ جُدِّدَ لَهُ تَوْقِيعٌ بِالْقَضَاءِ
بِإِشَارَةِ الْمَنْبِجِيِّ شَيْخِ الْجَاشْنَكِيرِ حَاكِمِ مِصْرَ، وَعَادَ إِلَى
دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَالْقُلُوبُ لَهُ
مَاقِتَةٌ، وَالنُّفُوسُ مِنْهُ نَافِرَةٌ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ،
وَبَعْدَهُ قُرِئَ كِتَابٌ فِيهِ الْحَطُّ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ،
وَمُخَالَفَتُهُ فِي الْعَقِيدَةِ، وَأَنْ يُنَادَى بِذَلِكَ فِي الْبِلَادِ
الشَّامِيَّةِ، وَأُلْزِمَ أَهْلُ مَذْهَبِهِ بِمُخَالَفَتِهِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ
بِمِصْرَ، قَامَ عَلَيْهِ جَاشْنَكِيرُ وَشَيْخُهُ نَصْرٌ الْمَنْبِجِيُّ،
وَسَاعَدَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَجَرَتْ
فِتَنٌ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ، وَحَصَلَ
لِلْحَنَابِلَةِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِهَانَةٌ
عَظِيمَةٌ كَثِيرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ قَاضِيَهُمْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ،
مُزْجَى الْبِضَاعَةِ، وَهُوَ شَرَفُ الدِّينِ الْحَرَّانِيُّ، فَلِذَلِكَ نَالَ
أَصْحَابَهُمْ مَا نَالَهُمْ، وَصَارَتْ حَالُهُمْ حَالَهُمْ.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ جَاءَ كِتَابٌ مِنْ مُقَدَّمِ الْخُدَّامِ بِالْحَرَمِ
النَّبَوِيِّ يَسْتَأْذِنُ السُّلْطَانَ فِي بَيْعِ طَائِفَةٍ مِنْ قَنَادِيلِ
الْحَرَمِ النَّبَوِيِّ لِيُنْفِقَ ذَلِكَ فِي بِنَاءِ مِئْذَنَةٍ عِنْدَ بَابِ
السَّلَامِ الَّذِي عِنْدَ الْمِطْهَرَةِ، فَرَسَمَ لَهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ فِي
جُمْلَةِ الْقَنَادِيلِ قِنْدِيلَانِ مِنْ ذَهَبٍ زِنَتُهُمَا أَلْفُ دِينَارٍ،
فَبَاعَ ذَلِكَ، وَشَرَعَ فِي بِنَائِهَا، وَوَلِيَ سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ
قَضَاءَهَا مَعَ الْخَطَابَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّوَافِضِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِي عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ وَصَلَ الْبَرِيدُ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِتَوْلِيَةِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ الْأَذْرَعِيِّ الْحَنَفِيِّ قَضَاءَ
الْحَنَفِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْحَرِيرِيِّ، وَتَوْلِيَةِ الْفَزَارِيِّ
الْخَطَابَةَ عِوَضًا عَنْ عَمِّهِ شَرَفِ الدِّينِ، تُوُفِّيَ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَبَاشَرَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ الشَّهْرِ،
وَخَطَبَ الشَّيْخُ بُرْهَانُ الدِّينِ خُطْبَةً حَسَنَةً حَضَرَهَا النَّاسُ
وَالْأَعْيَانُ، ثُمَّ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ عَزَلَ نَفْسَهُ عَنِ
الْخَطَابَةِ، وَآثَرَ بَقَاءَهُ عَلَى الْبَادَرَائِيَّةِ حِينَ بَلَغَهُ
أَنَّهَا طُلِبَتْ لِتُؤْخَذَ مِنْهُ، فَبَقِيَ مَنْصِبُ الْخَطَابَةِ شَاغِرًا،
وَنَائِبُ الْخَطِيبِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَيَخْطُبُ، وَدَخَلَ عِيدُ الْأَضْحَى
وَلَيْسَ لِلنَّاسِ خَطِيبٌ، وَقَدْ كَاتَبَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ فِي ذَاكَ،
فَجَاءَ الْمَرْسُومُ بِإِلْزَامِهِ بِذَلِكَ، وَفِيهِ: لِعِلْمِنَا
بِأَهْلِيَّتِهِ، وَكِفَايَتِهِ، وَاسْتِمْرَارِهِ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ
تَدْرِيسِ الْبَادَرَائِيَّةِ.
فَبَاشَرَهَا مَعَهَا مَرَّةً
ثَانِيَةً، ثُمَّ إِنَّ كَمَالَ الدِّينِ بْنَ الشِّيرَازِيِّ سَعَى فِي
الْبَادَرَائِيَّةِ، فَأَخَذَهَا، وَبَاشَرَهَا فِي صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ
الْآتِيَةِ بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ، فَعَزَلَ الْفَزَارِيُّ نَفْسَهُ مِنَ
الْخَطَابَةِ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ، فَرَاسَلَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِذَلِكَ،
فَصَمَّمَ عَلَى الْعَزْلِ، وَأَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا أَبَدًا، وَذَكَرَ
أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهَا، فَلَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
أَعَادَ إِلَيْهِ مَدْرَسَتَهُ، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا تَوْقِيعًا فِي الْعَشْرِ
الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَخَلَعَ عَلَى شَمْسِ الدِّينِ بْنِ
الْحَظِيرِيِّ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ شَرَفُ الدِّينِ حُسَيْنُ
بْنُ جَنْدَرٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عِيسَى ابْنُ الشَّيْخِ سَيْفِ الدِّينِ الرُّجَيْحِيِّ بْنِ سَابِقِ
ابْنِ الشَّيْخِ يُونُسَ الْقُنَيِّيِّ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِمُ الَّتِي
بِالشَّرَفِ الشَّمَالِيِّ بِدِمَشْقَ، غَرْبِيَّ الْوِرَاقَةِ وَالْعِزِّيَّةِ،
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ الْمُحَرَّمِ.
الْمَلِكُ الْأَوْحَدُ تَقِيُّ
الدِّينِ شَاذِي بْنُ الْمَلِكِ الزَّاهِرِ مُجِيرِ الدِّينِ دَاوُدَ بْنِ
الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ أَسَدِ الدِّينَ شِيرِكُوهْ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ
مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ الدِّينِ شِيرِكُوهْ بْنِ شَاذِي، تُوُفِّيَ بِجَبَلِ
الْجُرْدِ فِي آخِرِ نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي صَفَرٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ
سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، فَنُقِلَ إِلَى تُرْبَتِهِمْ بِالسَّفْحِ، وَكَانَ
مِنْ خِيَارِ الدَّوْلَةِ، مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَكَانَ
يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِعُلُومٍ، وَلَدَيْهِ فَضَائِلُ.
الصَّدْرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مَعَالِي الْأَنْصَارِيُّ الْحَرَّانِيُّ
الْحَاسِبُ، يُعْرَفُ بِابْنِ الْوَزِيرِ، وَكَانَ فَاضِلًا بَارِعًا فِي
صِنَاعَةِ الْحِسَابِ، انْتَفَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ
السَّنَةِ فَجْأَةً، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، وَقَدْ أَخَذْتُ الْحِسَابَ عَنِ
الْحَاضِرِيِّ عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ الطُّيُورِيِّ، عَنْهُ.
الْخَطِيبُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
سِبَاعِ بْنِ ضِيَاءٍ الْفَزَارِيُّ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، أَخُو
الْعَلَّامَةِ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَلَاثِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَانْتَفَعَ عَلَى
الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، كَابْنِ الصَّلَاحِ، وَالسَّخَاوِيِّ،
وَغَيْرِهِمَا، وَتَفَقَّهَ، وَأَفْتَى، وَنَاظَرَ،
وَبَرَعَ، وَسَادَ أَقْرَانَهُ،
وَكَانَ أُسْتَاذًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَاللُّغَةِ، وَالْقِرَاءَاتِ، وَإِيرَادِ
الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ، أَكْثَرَ التَّرْدَادَ إِلَى الْمَشَايِخِ
لِلْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، حُلْوَ الْمُحَاضِرَةِ،
لَا تُمَلُّ مُجَالَسَتُهُ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالطَّيِّبَةِ، وَبِالرِّبَاطِ
النَّاصِرِيِّ مُدَّةً، ثُمَّ تَحَوَّلَ عَنْهُ إِلَى خَطَابَةِ جَامِعِ جِرَاحٍ،
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى خَطَابَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ الْفَارِقِيِّ فِي
سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
عَشِيَّةَ التَّاسِعِ مِنْ شَوَّالٍ، عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ عَلَى بَابِ الْخَطَابَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ
أَبِيهِ وَأَخِيهِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَوَلِيَ الْخَطَابَةَ
ابْنُ أَخِيهِ.
شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ
الدِّمْيَاطِيُّ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ، الْعَالِمُ الْحَافِظُ، شَيْخُ
الْمُحَدِّثِينَ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُؤْمِنِ بْنُ خَلَفِ
بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ شَرَفِ بْنِ الْخَضِرِ بْنِ مُوسَى الدِّمْيَاطِيُّ،
حَامِلُ لِوَاءِ هَذَا الْفَنِّ - أَعْنِي صِنَاعَةَ الْحَدِيثِ وَعِلْمَ
اللُّغَةِ - فِي زَمَانِهِ، مَعَ كِبَرِ السِّنِّ وَالْقَدْرِ، وَعُلُوِّ
الْإِسْنَادِ، وَكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَجَوْدَةِ الدِّرَايَةِ، وَحُسْنِ
التَّصْنِيفِ، وَانْتِشَارِ التَّوَالِيفِ، وَتَرَدُّدِ الطَّلَبَةِ إِلَيْهِ مِنْ
سَائِرِ الْآفَاقِ، مَوْلِدُهُ فِي آخِرِ سِنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَقَدْ كَانَ أَوَّلُ سَمَاعِهِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى الْمَشَايِخِ، وَرَحَلَ،
وَطَافَ، وَحَصَّلَ، وَجَمَعَ فَأَوْعَى، وَلَكِنْ مَا مَنَعَ وَلَا بَخِلَ،
بَلْ بَذَلَ، وَنَشَرَ الْعِلْمَ، وَوَلِيَ الْمَنَاصِبَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ كَثِيرًا، وَجَمَعَ مُعْجَمًا لِمَشَايِخِهِ الَّذِينَ لَقِيَهُمْ بِالْحِجَازِ، وَبِالشَّامِ، وَالْجَزِيرَةِ، وَالْعِرَاقِ، وَدِيَارِ مِصْرَ، يَزِيدُونَ عَلَى أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ شَيْخٍ، وَهُوَ مُجَلَّدَانِ، وَلَهُ " الْأَرْبَعُونَ الْمُتَبَايِنَةُ الْإِسْنَادِ "، وَغَيْرُهَا، وَلَهُ كِتَابٌ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى مُفِيدٌ جِدًّا، وَمُصَنَّفٌ فِي صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، أَفَادَ فِيهِ وَأَجَادَ، وَجَمَعَ مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ، وَلَهُ كِتَابُ " الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ "، وَكِتَابُ " التَّسَلِّي وَالِاغْتِبَاطِ بِثَوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَفْرَاطِ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْحِسَانِ، وَلَمْ يَزَلْ فِي إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ إِلَى أَنْ أَدْرَكَتْهُ وَفَاتُهُ وَهُوَ صَائِمٌ فِي مَجْلِسِ الْإِمْلَاءِ، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ يَوْمَ الْأَحَدِ خَامِسَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ بِالْقَاهِرَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِمَقَابِرِ بَابِ النَّصْرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مَسْجُونٌ بِالْجُبِّ مِنْ
قَلْعَةِ الْجَبَلِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ جَاءَ الْبَرِيدُ بِتَوْلِيَةِ الْخَطَابَةِ
لِلشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ إِمَامِ الْكَلَّاسَةِ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَهُنِّئَ بِذَلِكَ، فَأَظْهَرَ التَّكَرُّهَ لِذَلِكَ وَالضَّعْفَ
عَنْهُ، وَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ مُبَاشَرَةٌ لِغَيْبَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ فِي
الصَّيْدِ، فَلَمَّا حَضَرَ أُذِنَ لَهُ، فَبَاشَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، فَأَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا الصُّبْحُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، ثُمَّ خُلِعَ عَلَيْهِ، وَخَطَبَ بِهَا يَوْمَئِذٍ، وَفِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ
عَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُحْسِنِ
بْنِ حَسَنٍ الْمَعْرُوفُ بِالدِّمَشْقِيِّ، عِوَضًا عَنْ تَاجِ الدِّينِ صَالِحِ
بْنِ ثَامِرِ بْنِ حَامِدِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَعْبَرِيِّ، وَكَانَ مُعَمَّرًا
قَدِيمَ الْهِجْرَةِ، كَثِيرَ الْفَضَائِلِ، دَيِّنًا وَرِعًا، جَيِّدَ
الْمُبَاشَرَةِ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، فَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ صَصْرَى كَرِهَ نِيَابَتَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ قَدِمَ الْبَرِيدُ
مِنَ الْقَاهِرَةِ وَمَعَهُ تَجْدِيدُ تَوْقِيعٍ لِلْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ
الْأَذْرَعِيِّ الْحَنَفِيِّ، فَظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ
لِابْنِ
الْحَرِيرِيِّ، فَذَهَبُوا إِلَيْهِ
لِيُهَنِّئُوهُ مَعَ الْبَرِيدِيِّ إِلَى الظَّاهِرِيَّةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ
لِقِرَاءَةِ التَّقْلِيدِ عَلَى الْعَادَةِ، فَشَرَعَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ
الْبِرْزَالِيُّ فِي قِرَاءَتِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الِاسْمِ تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَأَنَّهُ لِلْأَذْرَعِيِّ، فَبَطَلَ الْقَارِئُ، وَقَامَ
النَّاسُ مَعَ الْبَرِيدِيِّ إِلَى الْأَذْرَعِيِّ، وَحَصَلَتْ كَسْرَةٌ
وَخَمْدَةٌ عَلَى الْحَرِيرِيِّ وَالْحَاضِرِينَ. وَوَصَلَ مَعَ الْبَرِيدِيِّ
أَيْضًا كِتَابٌ فِيهِ طَلَبُ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ
إِلَى الْقَاهِرَةِ فَتَوَهَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَخَافَ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ انْتِسَابِهِ إِلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ،
فَتَلَطَّفَ بِهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَدَارَى عَنْهُ حَتَّى أُعْفِيَ مِنَ
الْحُضُورِ إِلَى مِصْرَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى دَخَلَ الشَّيْخُ بُرَاقٌ
إِلَى دِمَشْقَ، وَفِي صُحْبَتِهِ مِائَةُ فَقِيرٍ كُلُّهُمْ مَحْلُوقُونَ، قَدْ
وَفَّرُوا شَوَارِبَهُمْ عَكْسَ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَعَلَى
رُءُوسِهِمْ قُرُونُ لَبَابِيدَ، وَمَعَهُمْ أَجْرَاسٌ، وَكِعَابٌ، وَجَوَاكِينُ
خَشَبٍ، فَنَزَلُوا بِالْمُنَيْبِعِ، وَحَضَرُوا الْجُمُعَةَ بِرِوَاقِ
الْحَنَابِلَةِ، ثُمَّ تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَزَارُوا، ثُمَّ
اسْتَأْذَنُوا فِي الدُّخُولِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَلَمْ يُؤْذَنْ
لَهُمْ، فَعَادُوا إِلَى دِمَشْقَ فَصَامُوا بِهَا رَمَضَانَ، ثُمَّ انْشَمَرُوا
رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِ الشَّرْقِ، إِذْ لَمْ يَجِدُوا بِدِمَشْقَ قَبُولًا،
وَلَا مَنْزِلًا، وَلَا مَقِيلًا. وَقَدْ كَانَ شَيْخُهُمْ بُرَاقٌ الْمَذْكُورُ
رُومِيًّا مِنْ بَعْضِ قُرَى دَوْقَاتَ، مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْبَعِينَ، وَقَدْ
كَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ قَازَانَ وَمَكَانَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَلَّطَ
عَلَيْهِ نَمِرًا، فَزَجَرَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ وَتَرَكَهُ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ،
وَأَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فَفَرَّقَهَا كُلَّهَا، فَأَحَبَّهُ.
وَمِنْ طَرِيقَةِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ لَهُمْ صَلَاةً، وَمَنْ
تَرَكَ صَلَاةً ضَرَبُوهُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ طَرِيقَهُ
الَّذِي سَلَكَهُ إِنَّمَا
سَلَكَهُ لِيُخَرِّبَ عَلَى نَفْسِهِ،
وَيَرَى أَنَّهُ زِيُّ الْمَسْخَرَةِ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ
بِالدُّنْيَا، وَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْبَاطِنُ، وَالْقَلْبُ، وَعِمَارَةُ
ذَلِكَ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالسَّرَائِرِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَضَرَ مُدَرِّسُ
النَّجِيبِيَّةِ الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ كَمَالِ الدِّينِ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَجَمِيُّ الْحَلَبِيُّ، عِوَضًا عَنِ
الشَّيْخِ ضِيَاءِ الدِّينِ الطُّوسِيِّ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي
ابْنُ صَصْرَى، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ صُلِّيَتْ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ وَالنِّصْفِ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ قَدْ أَبْطَلَهَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ مُنْذُ أَرْبَعِ
سِنِينَ، وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ حَضَرَ الْحَاجِبُ رُكْنُ الدِّينِ
بَيْبَرْسُ الْعَلَائِيُّ، وَمَنْعَ النَّاسَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْجَامِعِ
لَيْلَتَئِذٍ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهُ، فَبَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي
الطُّرُقَاتِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ أَذًى كَثِيرٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ صِيَانَةَ
الْجَامِعِ مِنَ اللَّغْوِ، وَالرَّفَثِ، وَالتَّخْلِيطِ.
وَفِي سَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ حَكَمَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ
بِحَقْنِ دَمِ مُحَمَّدٍ الْبَاجُرْبَقِيِّ، وَأَثْبَتْ عِنْدَهُ مَحْضَرًا
بِعَدَاوَةِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّهُودِ السِّتَّةِ الَّذِينَ شَهِدُوا
عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيِّ حِينَ حَكَمَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ، وَمِمَّنْ شَهِدَ
بِهَذِهِ الْعَدَاوَةِ: نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَزَيْنُ
الدِّينِ بْنُ الشَّرِيفِ عَدْنَانَ، وَقُطْبُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِيهَا بَاشَرَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ نَظَرَ دِيوَانِ مَلِكِ
الْأُمَرَاءِ عِوَضًا عَنْ
شِهَابِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ،
وَذَلِكَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِطَيْلَسَانَ وَخِلْعَةٍ،
وَحَضَرَ بِهَا دَارَ الْعَدْلِ.
وَفِي لَيْلَةِ عِيدِ الْفِطْرِ أَحْضَرَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَلَّارُ
نَائِبُ مِصْرَ الْقُضَاةَ الثَّلَاثَةَ، وَجَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ،
فَالْقُضَاةُ: الشَّافِعِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَالْفُقَهَاءُ:
الْبَاجِيُّ، وَالْجَزَرِيُّ، وَالنِّمْرَاوِيُّ، وَتَكَلَّمُوا فِي إِخْرَاجِ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْحَبْسِ، فَاشْتَرَطَ بَعْضُ
الْحَاضِرِينَ شُرُوطًا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، مِنْهَا: أَنَّهُ يَلْتَزِمُ
بِالرُّجُوعِ عَنْ بَعْضِ الْعَقِيدَةِ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ لِيَحْضُرَ
لِيَتَكَلَّمُوا مَعَهُ فِي ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ، وَصَمَّمَ،
وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِ سِتَّ مَرَّاتٍ، فَصَمَّمَ عَلَى عَدَمِ
الْحُضُورِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يَعِدْهُمْ شَيْئًا، فَطَالَ
عَلَيْهِمُ الْمَجْلِسُ، فَتَفَرَّقُوا وَانْصَرَفُوا غَيْرَ مَأْجُورِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي شَوَّالٍ أَذِنَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
الْأَفْرَمُ لِلْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ
بِالنَّاسِ، وَيَخْطُبَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ شَمْسِ
الدِّينِ إِمَامِ الْكَلَّاسَةِ، تُوُفِّيَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَئِذٍ،
وَخَطَبَ الْجُمُعَةَ، وَاسْتَمَرَّ فِي الْإِمَامَةِ وَالْخَطَابَةِ حَتَّى
وَصَلَ تَوْقِيعُهُ بِذَلِكَ مِنَ الْقَاهِرَةِ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ،
وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْأُمَرَاءُ، وَالْأَعْيَانُ،
وَشُكِرَتْ خُطْبَتُهُ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ كَمَلَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَأَهُ
وَبَنَاهُ وَعَمَّرَهُ الْأَمِيرُ
جَمَالُ الدِّينِ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمُ بِالسَّفْحِ شَمَالِيِّ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ،
وَرَتَّبَ فِيهِ خَطِيبًا، فَخَطَبَ بِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْقَاضِي
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ، وَحَضَرَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، وَالْقُضَاةُ، وَشُكِرَتْ خُطْبَةُ الْخَطِيبِ بِهِ، وَمَدَّ
الصَّاحِبُ شِهَابُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ سِمَاطًا بَعْدَ الصَّلَاةِ
بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ السَّاعِي فِي عِمَارَتِهِ،
وَالْمُسْتَحِثَّ عَلَيْهَا، فَجَاءَ فِي غَايَةِ الْإِتْقَانِ وَالْحُسْنِ،
تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ.
وَفِي ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ اسْتَنَابَ ابْنُ صَصْرَى الْقَاضِي صَدْرَ
الدِّينِ سُلَيْمَانَ بْنَ هِلَالِ بْنِ شِبْلٍ الْجَعْفَرِيَّ خَطِيبَ دَارَيَّا
فِي الْحُكْمِ، عِوَضًا عَنْ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ بِسَبَبِ
اشْتِغَالِهِ بِالْخَطَابَةِ عَنِ الْحُكْمِ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ التَّاسِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ قَدِمَ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِىُّ بْنُ الشَّيْخِ صِفِيِّ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ
مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ الْبُصْرَاوِيُّ إِلَى دِمَشْقَ مِنَ الْقَاهِرَةِ
مُتَوَلِّيًا قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ، عِوَضًا عَنِ الْأَذْرَعِيِّ، مَعَ مَا
بِيَدِهِ مِنْ تَدْرِيسِ النُّورِيَّةِ وَالْمُقَدَّمِيَّةِ، وَخَرَجَ النَّاسُ
لِتَلَقِّيهِ، وَهَنَّئُوهُ، وَحَكَمَ بِالنُّورِيَّةِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ
بِالْمَقْصُورَةِ الْكِنْدِيَّةِ فِي الزَّاوِيَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنْ جَامِعِ
بَنِي أُمَيَّةَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ وُلِّيَ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ صُبْرَةَ عَلَى
الصَّفْقَةِ الْقِبْلِيَّةِ وَالِيَ الْوُلَاةِ، عِوَضًا عَنِ الْأَمِيرِ جَمَالِ
الدِّينِ آقُوشَ الرُّسْتُمِيِّ، بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ شَدَّ الدَّوَاوِينَ
بِدِمَشْقَ، وَجَاءَ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ بِوِلَايَةِ وَكَالَتِهِ
لِلرَّئِيسِ عِزِّ الدِّينِ
حَمْزَةَ الْقَلَانِسِيِّ، عِوَضًا
عَنِ ابْنِ عَمِّهِ شَرَفِ الدِّينِ، فَكَرِهَ ذَلِكَ.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أُخْبِرَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ بِوُصُولِ كُتَّابٍ مِنَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْحَبْسِ
الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْجُبُّ، فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ، فَجِيءَ بِهِ، فَقُرِئَ
عَلَى النَّاسِ، وَجَعَلَ يَشْكُرُ الشَّيْخَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَعَلَى
عِلْمِهِ، وَدِيَانَتِهِ، وَشَجَاعَتِهِ، وَزُهْدِهِ، وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ
مِثْلَهُ، وَإِذَا هُوَ كِتَابٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي السِّجْنِ
مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا لَا
مِنَ النَّفَقَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَلَا مِنَ الْكُسْوَةِ، وَلَا مِنَ
الْإِدْرَارَاتِ، وَلَا غَيْرِهَا، وَلَا تَدَنَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ طُلِبَ
أَخَوَا الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ - شَرَفِ الدِّينِ وَزَيْنِ الدِّينِ - مِنَ
الْحَبْسِ إِلَى مَجْلِسِ نَائِبِ السُّلْطَانِ سَلَّارَ، وَحَضَرَ نَائِبَ
السَّلْطَنَةِ ابْنُ مَخْلُوفٍ الْمَالِكِيُّ، وَجَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ
كَثِيرٌ، فَظَهَرَ شَرَفُ الدِّينِ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ
بِالنَّقْلِ، وَالدَّلِيلِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَخَطَّأَهُ فِي مَوَاضِعَ ادَّعَى
فِيهَا دَعَاوَى بَاطِلَةً، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ،
وَمَسْأَلَةِ الْكَلَامِ، وَفِي مَسْأَلَةِ النُّزُولِ. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
أُحْضِرَ شَرَفُ الدِّينِ أَخُو الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَحَدَهُ فِي مَجْلِسِ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ سَلَّارَ، وَحَضَرَ ابْنُ عَدْلَانَ، وَتَكَلَّمَ مَعَهُ
الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ، وَنَاظَرَهُ، وَبَحَثَ مَعَهُ، وَظَهَرَ عَلَيْهِ
أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَصَلَ عَلَى الْبَرِيدِ مِنْ مِصْرَ نَجْمُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ ابْنُ أَخِي قَاضِي الْقُضَاةِ
الْبُصْرَاوِيِّ، وَزَوْجُ ابْنَتِهِ عَلَى الْحِسْبَةِ بِدِمَشْقَ، عِوَضًا عَنْ
جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ الْعَجَمِيِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِطَيْلَسَانَ،
وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ، وَدَارَ بِهَا فِي الْبَلَدِ فِي مُسْتَهَلِّ سَنَةِ سَبْعٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَمَرَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ نَحْوُ مِائَةِ أَلْفٍ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ مِنَ الشَّامِ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ الْمَجْنُونُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ صَالِحُ بْنُ ثَامِرِ بْنِ حَامِدِ بْنِ عَلِيٍّ
الْجَعْبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ، نَائِبُ الْحُكْمِ بِدِمَشْقَ، وَمُعِيدُ النَّاصِرِيَّةِ،
كَانَ ثِقَةً دَيِّنًا، عَدْلًا مَرْضِيًّا زَاهِدًا، حَكَمَ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، لَهُ فَضَائِلُ وَعُلُومٌ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ
وَالْهَيْئَةِ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ بَعْدَهُ نَجْمُ الدِّينِ
الدِّمَشْقِيُّ.
الشَّيْخُ ضِيَاءُ الدِّينِ الطُّوسِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ
الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ
النَّجِيبِيَّةِ، شَارِحُ " الْحَاوِي "، وَ " مُخْتَصَرِ ابْنِ
الْحَاجِبِ "، كَانَ شَيْخًا فَاضِلًا بَارِعًا، وَأَعَادَ فِي
النَّاصِرِيَّةِ أَيْضًا، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ - بَعْدَ مَرْجِعِهِ
مِنَ الْحَمَّامِ - التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، وَحَضَرَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَدُفِنَ
بِالصُّوفِيَّةِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالْمَدْرَسَةِ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ
الْعَجَمِيِّ.
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الطِّيبِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّوَامِلِيِّ، وَالسَّوَامِلُ: الطَّاسَاتُ، كَانَ
مُعَظَّمًا بِبِلَادِ الشَّرْقِ جِدًّا، وَكَانَ تَاجِرًا كَبِيرًا، تُوُفِّيَ فِي
هَذَا الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ.
الشَّيْخُ الْجَلِيلُ سَيْفُ الدِّينِ الرُّجَيْحِيُّ بْنُ سَابِقِ بْنِ هِلَالِ
بْنِ يُونُسَ، شَيْخُ الْيُونُسِيَّةِ بِمَقَامِهِمْ، صُلِّيَ عَلَيْهِ سَادِسَ
رَجَبٍ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى دَارِهِ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا
دَاخِلَ بَابِ تُومَاءَ، وَتُعْرَفُ بِدَارِ أَمِينِ الدَّوْلَةِ، فَدُفِنَ بِهَا،
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ
مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، وَكَانَتْ لَهُ حُرْمَةٌ
كَبِيرَةٌ عِنْدَ الدَّوْلَةِ، وَعِنْدَ طَائِفَتِهِ، وَكَانَ ضَخْمَ الْهَامَّةِ
جِدًّا، مَحْلُوقَ الشَّعْرِ، وَخَلَّفَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا.
الْأَمِيرُ فَارِسُ الدِّينِ الرَّدَّادِيُّ، تُوُفِّيَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ
مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَفَاتِهِ بِأَيَّامٍ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ مَغْفُورٌ
لَكَ، وَنَحْوَ هَذَا، وَهُوَ مِنْ أُمَرَاءِ حُسَامِ الدِّينِ لَاجِينَ.
الشَّيْخُ الْقُدْوَةُ الْعَابِدُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُطَرِّفٍ، تُوُفِّيَ
بِمَكَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَمَكَثَ مُجَاوِرًا سِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ
يَطُوفُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسِينَ أُسْبُوعًا، وَتُوُفِّيَ عَنْ
تِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الصَّالِحُ خَطِيبُ دِمَشْقَ، شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ ابْنُ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الْخِلَاطِيُّ،
إِمَامُ الْكَلَّاسَةِ، كَانَ شَيْخًا حَسَنًا بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، كَثِيرَ
الْعِبَادَةِ، عَلَيْهِ سُكُونٌ وَوَقَارٌ، بَاشَرَ إِمَامَةَ الْكَلَّاسَةِ
قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ
سَنَةً، ثُمَّ خُطِبَ إِلَى أَنْ يَكُونَ خَطِيبًا بِدِمَشْقَ بِالْجَامِعِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ مِنْهُ وَلَا طَلَبٍ، فَبَاشَرَهَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا أَحْسَنَ مُبَاشَرَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، طَيِّبَ النَّغْمَةِ، عَارِفًا بِصِنَاعَةِ الْمُوسِيقَا، مَعَ دِيَانَةٍ وَعِبَادَةٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً بِدَارِ الْخَطَابَةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنِ شَوَّالٍ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ وَقَدِ امْتَلَأَ بِالنَّاسِ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ وَالْعَامَّةُ، وَقَدْ غُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، ثُمَّ حُمِلَ إِلَى سَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مُعْتَقَلٌ بِالْجُبِّ فِي
قَلْعَةِ الْجَبَلِ بِمِصْرَ. وَفِيَ أَوَائِلِ الْمُحَرَّمِ أَظْهَرَ
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ الْغَضَبَ عَلَى الْأَمِيرَيْنِ سَلَّارَ
وَالْجَاشْنَكِيرِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْعَلَامَةِ، وَأَغْلَقَ الْقَلْعَةَ
وَتَحَصَّنَ فِيهَا، وَلَزِمَ الْأَمِيرَانِ بُيُوتَهُمَا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَحُوصِرَتِ الْقَلْعَةُ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ
عَظِيمَةٌ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، ثُمَّ رَاسَلُوا السُّلْطَانَ،
فَتَأَطَّدَتِ الْأُمُورُ، وَسَكَنَتِ الشُّرُورُ عَلَى دَخَنٍ وَتَنَافُرِ
قُلُوبٍ، وَقَوِيَ الْأَمِيرَانِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَكِبَ
السُّلْطَانُ، وَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى دَخَنٍ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ التَّتَرِ وَبَيْنَ أَهْلِ كِيلَانَ
وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ التَّتَرِ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا فِي بِلَادِهِمْ
طَرِيقًا إِلَى عَسْكَرِهِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ
التَّتَرِ خَرْبَنْدَا جَيْشًا كَثِيفًا سِتِّينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ
أَرْبَعِينَ أَلْفًا مَعَ قُطْلُوشَاهْ، وَعِشْرِينَ أَلْفًا مَعَ جُوبَانَ،
فَأَمْهَلَهُمْ أَهْلُ كِيلَانَ حَتَّى تَوَسَّطُوا
بِلَادَهُمْ، ثُمَّ أَرْسَلُوا
عَلَيْهِمْ خَلِيجًا مِنَ الْبَحْرِ، وَرَمَوْهُمْ بِالنِّفْطِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ، وَاحْتَرَقَ آخَرُونَ، وَقَتَلُوا بِأَيْدِيهِمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً،
فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَكَانَ فِي مَنْ قُتِلَ أَمِيرُ
التَّتَرِ الْكَبِيرُ قُطْلُوشَاهْ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ خَرْبَنْدَا عَلَى أَهْلِ
كِيلَانَ، وَلَكِنَّهُ فَرِحَ بِقَتْلِ قُطْلُوشَاهْ فَإِنَّهُ كَانَ يُرِيدُ
قَتْلَ خَرْبَنْدَا، فَكُفِيَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَهُ بُولَايْ. ثُمَّ
إِنَّ مَلِكَ التَّتَرِ أَرْسَلَ الشَّيْخَ بُرَاقًا الَّذِي قَدِمَ الشَّامَ
فِيمَا تَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ كِيلَانَ يُبْلِغُهُمْ عَنْهُ رِسَالَةً،
فَقَتَلُوهُ وَأَرَاحُوا النَّاسَ مِنْهُ. وَبِلَادُهُمْ مَنْ أَحْصَنِ الْبِلَادِ
وَأَطْيَبِهَا، لَا تُسْتَطَاعُ، وَهُمْ أَهْلُ سُنَّةٍ، وَأَكْثَرُهُمْ
حَنَابِلَةٌ، لَا يَسْتَطِيعُ مُبْتَدِعٌ أَنْ يَسْكُنَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ اجْتَمَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ بِالشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
فِي دَارِ الْأَوْحَدِيِّ مِنْ قَلْعَةِ الْجَبَلِ، وَطَالَ بَيْنَهُمَا
الْكَلَامُ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
مُصَمِّمٌ عَلَى عَدَمِ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَاءَ الْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا بْنُ عِيسَى مَلِكُ الْعَرَبِ إِلَى السِّجْنِ
بِنَفْسِهِ، وَأَقْسَمَ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ لَيَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا خَرَجَ أَقْسَمَ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّ مَعَهُ إِلَى دَارِ سَلَّارَ،
فَاجْتَمَعَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِدَارِ سَلَّارَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ
بُحُوثٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا
إِلَى الْمَغْرِبِ، وَبَاتَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عِنْدَ سَلَّارَ، ثُمَّ
اجْتَمَعُوا يَوْمَ الْأَحَدِ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ جَمِيعَ النَّهَارِ،
وَلَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ، بَلِ اجْتَمَعَ مِنَ الْفُقَهَاءِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، مِنْهُمُ الْفَقِيهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
رِفْعَةَ، وَعَلَاءُ الدِّينِ
الْبَاجِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ بْنُ
بِنْتِ أَبِي سَعْدٍ، وَعِزُّ الدِّينِ النِّمْرَاوَيُّ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ
عَدْلَانَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَطَلَبُوا الْقُضَاةَ، فَاعْتَذَرُوا
بِأَعْذَارٍ بَعْضُهُمْ بِالْمَرَضِ، وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِهِ، لِمَعْرِفَتِهِمْ
بِمَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ مُنْطَوٍ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَدِلَّةِ،
وَأَنَّ أَحَدًا مِنَ الْحَاضِرِينَ لَا يُطِيقُهُ، فَقَبِلَ عُذْرَهُمْ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْحُضُورَ بَعْدَ أَنْ رَسَمَ السُّلْطَانُ
بِحُضُورِهِمْ، وَانْفَصَلَ الْمَجْلِسُ عَلَى خَيْرٍ، وَبَاتَ الشَّيْخُ عِنْدَ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَكَانَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا يُرِيدُ
أَنْ يَسْتَصْحِبَ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَأَشَارَ
سَلَّارُ بِإِقَامَةِ الشَّيْخِ بِمِصْرَ عِنْدَهُ لِيَرَى النَّاسُ فَضْلَهُ
وَعِلْمَهُ، وَيَنْتَفِعَ النَّاسُ بِهِ، وَيَشْتَغِلُوا عَلَيْهِ، وَكَتَبَ
الشَّيْخُ كِتَابًا إِلَى الشَّامِ يَتَضَمَّنُ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا شَكَى الصُّوفِيَّةُ بِالْقَاهِرَةِ
عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَكَلَامِهِ فِي ابْنِ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِهِ
إِلَى الدَّوْلَةِ، فَرَدُّوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي
الشَّافِعِيِّ، فَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ، وَادَّعَى عَلَيْهِ ابْنُ عَطَاءٍ
بِأَشْيَاءَ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ، لَكِنَّهُ قَالَ: لَا
يُسْتَغَاثُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يُسْتَغَاثُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتِغَاثَةً بِمَعْنَى
الْعِبَادَةِ، وَلَكِنْ يُتَوَسَّلُ
بِهِ، وَيُتَشَفَّعُ بِهِ إِلَى اللَّهِ. فَبَعْضُ الْحَاضِرِينَ قَالَ: لَيْسَ
عَلَيْهِ فِي هَذَا شَيْءٌ. وَرَأَى الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ
أَنَّ هَذَا فِيهِ قِلَّةُ أَدَبٍ، فَحَضَرَتْ رِسَالَةٌ إِلَى الْقَاضِي أَنْ
يَعْمَلَ مَعَهُ مَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ، فَقَالَ الْقَاضِي: قَدْ قُلْتُ
لَهُ مَا يُقَالُ لِمِثْلِهِ. ثُمَّ إِنَّ الدَّوْلَةَ خَيَّرُوهُ بَيْنَ
أَشْيَاءَ إِمَّا أَنْ يَسِيرَ إِلَى دِمَشْقَ أَوِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
بِشُرُوطٍ، أَوِ الْحَبْسِ، فَاخْتَارَ الْحَبْسَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
فِي السَّفَرِ إِلَى دِمَشْقَ مُلْتَزِمًا مَا شُرِطَ، فَأَجَابَ أَصْحَابَهُ
إِلَى مَا اخْتَارُوا جَبْرًا لِخَوَاطِرِهِمْ، فَرَكِبَ خَيْلَ الْبَرِيدِ
لَيْلَةَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ، ثُمَّ أَرْسَلُوا خَلْفَهُ مِنَ
الْغَدِ بَرِيدًا آخَرَ، فَرَدُّوهُ، وَحَضَرَ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ
جَمَاعَةَ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ:
إِنَّ الدَّوْلَةَ مَا تَرْضَى إِلَّا بِالْحَبْسِ.
فَقَالَ الْقَاضِي: وَفِيهِ مُصْلِحَةٌ لَهُ.
وَاسْتَنَابَ شَمْسَ الدِّينِ التُّونِسِيَّ الْمَالِكِيَّ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ
يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ، فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ. فَأَذِنَ لِنُورِ الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ الْمَالِكِيِّ، فَتَحَيَّرَ،
فَلَمَّا رَأَى الشَّيْخُ تَوَقُّفَهُمْ فِي حَبْسِهِ قَالَ: أَنَا أَمْضِي إِلَى
الْحَبْسِ، وَأَتَّبِعُ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُصْلِحَةُ.
فَقَالَ نُورُ الدِّينِ الزَّوَاوِيُّ: يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ يَصْلُحُ لِمِثْلِهِ،
فَقِيلَ لَهُ: الدَّوْلَةُ مَا تَرْضَى إِلَّا بِمُسَمَّى الْحَبْسِ، فَأُرْسِلَ
إِلَى حَبْسِ الْقَاضِي، وَأُجْلِسَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُجْلِسَ فِيهِ
الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ بِنْتِ الْأَعَزِّ حِينَ سُجِنَ، وَأُذِنَ لَهُ
أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِإِشَارَةِ
نَصْرِ الْمَنْبِجِيِّ - لِوَجَاهَتِهِ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى عَقْلِ الْجَاشْنَكِيرِ الَّذِي تَسَلْطَنَ فِيمَا بَعْدُ -
وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوْلَةِ، وَالسُّلْطَانُ مَقْهُورٌ مَعَهُ، وَاسْتَمَرَّ
الشَّيْخُ فِي الْحَبْسِ يُسْتَفْتَى، وَيَقْصِدُهُ النَّاسُ، وَيَزُورُونَهُ،
وَتَأْتِيهِ الْفَتَاوَى الْمُشْكِلَةُ الَّتِي لَا يَسْتَطِيعُهَا الْفُقَهَاءُ،
مِنَ الْأُمَرَاءِ وَأَعْيَانِ
النَّاسِ، فَيَكْتُبُ عَلَيْهَا بِمَا
يُحَيِّرُ الْعُقُولَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. ثُمَّ عُقِدَ لِلشَّيْخِ
مَجْلِسٌ بِالصَّالِحِيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَنَزَلَ الشَّيْخُ
بِالْقَاهِرَةِ بِدَارِ ابْنِ شُقَيْرٍ، وَأَكَبَّ النَّاسُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ
بِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا.
وَفِي سَادِسِ رَجَبٍ بَاشَرَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ
نَظَرَ دِيوَانِ الْمَارَسْتَانِ عِوَضًا عَنْ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ
الْعَجَمِيِّ، تُوُفِّيَ، وَكَانَ مُحْتَسِبًا بِدِمَشْقَ مُدَّةً، فَأَخَذَهَا
مِنْهُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الْبُصْرَاوِيِّ قَبْلَ هَذَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ،
وَكَانَ الْعَجَمِيُّ مَوْصُوفًا بِالْأَمَانَةِ وَالْكَفَاءَةِ.
وَفِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أُبْطِلَتْ صَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ
لِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وَصِينَ الْجَامِعُ مِنَ الْغَوْغَاءِ وَالرَّعَاعِ،
وَحَصَلَ بِذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي رَمَضَانَ قَدِمَ الصَّدْرُ نَجْمُ الدِّينِ الْبُصْرَاوِيُّ، وَمَعَهُ
تَوْقِيعٌ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ الْحَظِيرِيِّ،
مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْحِسْبَةِ. وَوَقَعَ فِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ
مَطَرٌ قَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَكَانَ النَّاسُ لَهُمْ مُدَّةً لَمْ يُمْطَرُوا،
فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَلَمْ يُمْكِنِ النَّاسَ
الْخُرُوجُ إِلَى الْمُصَلَّى مِنْ كَثْرَةِ الْمَطَرِ، فَصَلُّوا فِي الْجَامِعِ،
وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فَصَلَّى بِالْمَقْصُورَةِ. وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ
وَأَمِيرُ الْحَجِّ عَامَئِذٍ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ الْبَدْرِيُّ
التَّتَرِيُّ. وَفِيهَا حَجَّ الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ الْبَارِزِيُّ مِنْ
حَمَاةَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ،
مَبْدَؤُهُ مِنَ الْفُرْنِ تُجَاهَهَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ: فُرْنُ
الصُّوفِيَّةِ. ثُمَّ لَطَفَ اللَّهُ، وَكَفَّ شَرَهًا وَشَرَرَهَا.
قُلْتُ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ
قُدُومُنَا مِنْ بُصْرَى إِلَى دِمَشْقَ بَعْدَ وَفَاةِ الْوَالِدِ، وَكَانَ
أَوَّلُ مَا سَكَنَّا بِدَرْبِ سُقُونَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: دَرْبُ ابْنِ أَبِي
الْهَيْجَاءِ، بِالصَّاغَةِ الْعَتِيقَةِ عِنْدَ الطُّيُورِيِّينَ، وَنَسْأَلُ
اللَّهَ حَسَنَ الْعَاقِبَةِ وَالْخَاتِمَةِ، آمِينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ الْعَجَمِيُّ الصَّالِحِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِالْجَالِقْ، كَانَ رَأْسَ الْجَمَدَارِيَّةِ فِي أَيَّامِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ نَجْمِ الدِّينِ أَيُّوبَ، وَأَمَّرَهُ الْمَلِكُ
الظَّاهِرُ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ، كَثِيرَ الْأَمْوَالِ، تُوُفِّيَ
بِالرَّمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي قِسْمِ إِقْطَاعِهِ فِي نِصْفِ جُمَادَى
الْأُولَى، وَنُقِلَ إِلَى الْقُدْسِ فَدُفِنَ بِهِ.
الشَّيْخُ صَالِحٌ الْأَحْمَدِيُّ الرِّفَاعِيُّ، شَيْخُ الْمُنَيْبِعِ، كَانَ
التَّتَرُ يُكْرِمُونَهُ لَمَّا قَدِمُوا دِمَشْقَ، وَلَمَّا جَاءَ قُطْلُوشَاهْ
نَائِبُ التَّتَرِ نَزَلَ عِنْدَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ بِالْقَصْرِ: نَحْنُ مَا يَنْفَقُ حَالُنَا إِلَّا
عِنْدَ التَّتَرِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّرْعِ فَلَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَالشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْحَبْسِ، وَالنَّاسُ قَدِ انْعَكَفُوا عَلَيْهِ زِيَارَةً
وَتَعَلُّمًا وَإِفْتَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أُفْرِجَ عَنِ الْأَمِيرِ نَجْمِ الدِّينِ
خِضْرِ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الظَّاهِرِ، فَأُخْرِجَ مِنَ الْبُرْجِ،
وَأُسْكِنَ دَارَ الْأَفْرَمِ بِالْقَاهِرَةِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
خَامِسِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَفِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْأُولَى
تَوَلَّى نَظَرَ دِيوَانِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ الشَّرِيفُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ
عَدْنَانَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ نَظَرُ
الْجَامِعِ أَيْضًا عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْحَظِيرِيِّ، وَتَوَلَّى نَجْمُ الدِّينِ
الدِّمَشْقِيُّ نَظَرَ الْأَيْتَامِ عِوَضًا عَنْ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ هِلَالٍ.
وَفِي رَمَضَانَ عُزِلَ الصَّاحِبُ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الرُّقَاقِيِّ عَنْ
نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ، وَسَافَرَ إِلَى مِصْرَ.
وَفِيهَا عَزَلَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ نَفْسَهُ عَنْ وَكَالَةِ
بَيْتِ الْمَالِ، وَصَمَّمَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الْعَزْلِ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ
الْعَوْدُ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ الْخِلْعَةُ لَمَّا خُلِعَ عَلَى
الْمُبَاشِرِينَ فَلَمْ يَلْبَسْهَا، وَاسْتَمَرَّ مَعْزُولًا إِلَى يَوْمِ
عَاشُورَاءَ مِنَ السَّنَةِ
الْآتِيَةِ، فَجُدِّدَ لَهُ تَقْلِيدٌ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ فِي الدَّوْلَةِ الْجَدِيدَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ مِنِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ قَاصِدًا الْحَجَّ، وَذَلِكَ فِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَمَضَانَ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ لِتَوْدِيعِهِ،
فَرَدَّهُمْ، وَلَمَّا اجْتَازَ بِالْكَرَكِ عَدَلَ إِلَيْهَا، فَنُصِبَ لَهُ
الْجِسْرُ، فَلَمَّا تَوَسَّطَهُ كُسِرَ بِهِ، فَسَلِمَ مَنْ كَانَ أَمَامَهُ،
وَقَفَزَ بِهِ الْفَرَسُ فَسَلِمَ، وَسَقَطَ مَنْ كَانَ وَرَاءَهُ وَكَانُوا
خَمْسِينَ، فَمَاتَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، وَتَهَشَّمَ أَكْثَرُهُمْ فِي الْوَادِي
الَّذِي تَحْتَهُ، وَبَقِيَ نَائِبُ الْكَرَكِ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ
خَجِلًا، يَتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا يَظُنُّهُ السُّلْطَانُ عَنْ قَصْدٍ،
وَكَانَ قَدْ عَمِلَ لِلسُّلْطَانِ ضِيَافَةً غَرِمَ عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ
أَلْفًا، فَلَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ لِاشْتِغَالِ السُّلْطَانِ بِهَمِّهِ وَمَا
جَرَى لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ خَلَعَ عَلَى النَّائِبِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي
الِانْصِرَافِ إِلَى مِصْرَ، فَسَافَرَ، وَاشْتَغَلَ السُّلْطَانُ بِتَدْبِيرِ
الْمَمْلَكَةِ فِي الْكَرَكِ وَحْدَهَا، فَكَانَ يَحْضُرُ دَارَ الْعَدْلِ،
وَيُبَاشِرُ الْأُمُورَ بِنَفْسِهِ، وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ مِنْ مِصْرَ،
فَذَكَرَتْ لَهُ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحَالِ وَقِلَّةِ النَّفَقَاتِ.
ذِكْرُ سَلْطَنَةِ الْمَلِكِ
الْمُظَفَّرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ الْجَاشْنَكِيرِ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ النَّاصِرُ بِالْكَرَكِ، وَعَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ
بِهَا، كَتَبَ كِتَابًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ
نَفْسِهِ عَنِ الْمَمْلَكَةِ، فَأُثْبِتَ ذَلِكَ عَلَى الْقُضَاةِ بِمِصْرَ، ثُمَّ
نُفِّذَ عَلَى قُضَاةِ الشَّامِ، وَبُويِعَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ
الْجَاشْنَكِيرُ بِالسَّلْطَنَةِ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ
يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الْعَصْرِ بِدَارِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ سَلَّارَ،
اجْتَمَعَ بِهَا أَعْيَانُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ،
وَبَايَعُوهُ، وَخَاطَبُوهُ بِالْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى
الْقَلْعَةِ، وَمَشَوْا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ
بِالْقَلْعَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَسَارَتِ الْبَرِيدِيَّةُ بِذَلِكَ إِلَى
سَائِرِ الْبُلْدَانِ. وَفِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ وَصَلَ الْأَمِيرُ عِزُّ
الدِّينِ الْبَغْدَادِيُّ إِلَى دِمَشْقَ، فَاجْتَمَعَ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ،
وَالْقُضَاةِ، وَالْأُمَرَاءِ، وَالْأَعْيَانِ، بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، فَقَرَأَ
عَلَيْهِمْ كِتَابَ النَّاصِرِ إِلَى مِصْرَ، وَأَنَّهُ قَدْ نَزَلَ عَنِ
الْمُلْكِ، وَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَثْبَتَهُ الْقُضَاةُ، وَامْتَنَعَ
الْحَنْبَلِيُّ مِنْ إِثْبَاتِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ أَحَدٌ يَتْرُكُ الْمُلْكَ
مُخْتَارًا، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُضْطَهَدٌ مَا تَرَكَهُ، فَعُزِلَ، وَأُقِيمَ
غَيْرُهُ، ثُمَّ اسْتَحْلَفَهُمْ لِلسُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ،
وَكُتِبَتِ الْعَلَامَةُ عَلَى الْقَلْعَةِ، وَأَلْقَابُهُ عَلَى مَحَالِّ
الْمَمْلَكَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَّ الْبَلَدُ، وَلَمَّا قُرِئَ
كِتَابُ السُّلْطَانِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْقَصْرِ، وَفِيهِ: إِنِّي قَدْ
صَحِبْتُ النَّاسَ عَشْرَ سِنِينَ، ثُمَّ اخْتَرْتُ الْمُقَامَ بِالْكَرَكِ -
تَبَاكَى جَمَاعَةٌ مِنِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ بَايَعُوا كَالْمُكْرَهِينَ،
وَتَوَلَّى مَكَانَ بَيْبَرْسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بُرُلْغِي، وَمَكَانَ
بُرُلْغِي سَيْفُ الدِّينِ بَتْخَاصُ، وَمَكَانَ بَتْخَاصَ جَمَالُ الدِّينِ
آقُوشُ نَائِبُ الْكَرَكِ، وَخُطِبَ لِلْمُظَفَّرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى
الْمَنَابِرِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
الْأَفْرَمُ، وَالْقُضَاةُ فِي تَاسِعَ
عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَرَأَ تَقْلِيدَ النَّائِبِ كَاتِبُ السِّرِّ
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ بِالْقَصْرِ بِحَضْرَةِ
الْأُمَرَاءِ، وَعَلَيْهِمُ الْخِلَعُ كُلِّهِمْ، وَرَكِبَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ
بِالْخِلْعَةِ السَّوْدَاءِ الْخَلِيفَتِيَّةِ وَالْعِمَامَةِ الْمُدَوَّرَةِ،
وَالدَّوْلَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِمُ الْخِلَعُ، يَوْمَ السَّبْتِ سَابِعِ
ذِي الْقَعْدَةِ، وَالصَّاحِبُ ضِيَاءُ الدِّينِ النَّشَائِيُّ حَامِلٌ تَقْلِيدَ
السُّلْطَانِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فِي كِيسٍ أَطْلَسَ أَسْوَدَ، وَأَوَّلُهُ:
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [
النَّمْلِ: 30 ] وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَلَعَ فِي الْقَاهِرَةِ قَرِيبَ أَلْفِ
خِلْعَةٍ وَمِائَتَيْ خِلْعَةٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ
أَيَّامًا يَسِيرَةً، وَكَذَا شَيْخُهُ الْمَنْبِجِيُّ، ثُمَّ أَزَالَ اللَّهُ
عَنْهُمَا نِعْمَتَهُ سَرِيعًا.
وَفِيهَا خَطَبَ ابْنُ جَمَاعَةَ بِالْقَلْعَةِ، وَبَاشَرَ الشَّيْخُ عَلَاءُ
الدِّينِ الْقُونَوِيُّ تَدْرِيسَ الشَّرِيفِيَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ عُثْمَانُ الْحَلْبُونِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ صَعِيدِ مِصْرَ،
فَأَقَامَ مُدَّةً بِقَرْيَةِ حَلْبُونَ وَغَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ،
وَمَكَثَ مُدَّةً لَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُرِيدِينَ، وَتُوُفِّيَ بِقَرْيَةِ بَرْزَةَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ بِهَا، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ الشَّامِ، وَالْقُضَاةُ،
وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ
الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، إِمَامُ
مَسْجِدِ عَطِيَّةَ، وَيُعْرَفُ
بِابْنِ الْمُقْرِئِ، رَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ فَقِيهًا بِمَدَارِسِ
الْحَنَابِلَةِ، وُلِدَ بِحَرَّانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
وَتُوُفِّيَ قَبْلَهُ الشَّيْخُ أَمِيرُ الدِّينِ بْنُ سَعْدٍ الْحَرَّانِيُّ
بِغَزَّةَ، وَعُمِلَ عَزَاؤُهُ بِدِمَشْقَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
السَّيِّدُ الشَّرِيفُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ عَدْنَانَ الْحُسَيْنِيُّ، نَقِيبُ الْأَشْرَافِ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا
فَصِيحًا مُتَكَلِّمًا، يَعْرِفُ طَرِيقَةَ الِاعْتِزَالِ، وَيُبَاحِثُ
الْإِمَامِيَّةَ، وَيُنَاظِرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ،
وَقَدْ بَاشَرَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِقَلِيلٍ نَظَرَ الْجَامِعِ وَنَظَرَ دِيوَانِ
الْأَفْرَمِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَامِسِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ عَنْ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الشَّيْخُ الْجَلِيلُ ظَهِيرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ مَنَعَةَ الْبَغْدَادِيُّ، شَيْخُ
الْحَرَمِ الشَّرِيفِ بِمَكَّةَ، بَعْدَ عَمِّهِ عَفِيفِ الدِّينِ مَنْصُورِ بْنِ
مَنَعَةَ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً طَوِيلَةً،
ثُمَّ سَارَ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ مَوْتِ عَمِّهِ، فَتَوَلَّى مَشْيَخَةَ
الْحَرَمِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَخَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْمُسْتَكْفِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ابْنُ
الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ
الْمُظَفَّرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ الْجَاشْنَكِيرِ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَلَّارُ، وَبِالشَّامِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ، وَقُضَاةُ
مِصْرَ وَالشَّامِ هَمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي لَيْلَةِ
سَلْخِ صَفَرٍ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ
الْقَاهِرَةِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ صُحْبَةَ أَمِيرٍ مُقَدَّمٍ،
فَأَدْخَلَهُ دَارَ السُّلْطَانِ، وَأَنْزَلَهُ فِي بُرْجٍ مِنْهَا فَسِيحٍ
مُتَّسِعِ الْأَكْنَافِ، فَكَانَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، وَيَشْتَغِلُونَ
فِي سَائِرِ الْعُلُومِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَحْضُرُ الْجُمُعَاتِ،
وَيَعْمَلُ الْمَوَاعِيدَ عَلَى عَادَتِهِ فِي الْجَوَامِعِ، وَكَانَ دُخُولُهُ
إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَبَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَصَلَ
خَبَرُهُ إِلَى دِمَشْقَ، فَحَصَلَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ تَأَلُّمٌ، وَخَافُوا
عَلَيْهِ مِنْ غَائِلَةِ الْجَاشْنَكِيرِ وَشَيْخِهِ نَصْرٍ الْمَنْبِجِيِّ،
فَتَضَاعَفَ لَهُ الدُّعَاءُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُمَكِّنُوا أَحَدًا مِنْ
أَصْحَابِهِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَضَاقَتْ لَهُ
الصُّدُورُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُّوهُ نَصْرٌ الْمَنْبِجِيُّ،
وَكَانَ سَبَبَ عَدَاوَتِهِ لَهُ أَنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ
تَيْمِيَّةَ كَانَ يَنَالُ مِنَ الْجَاشْنَكِيرِ، وَمِنْ شَيْخِهِ نَصْرٍ
الْمَنْبِجِيِّ، وَيَقُولُ: زَالَتْ
أَيَّامُهُ، وَانْتَهَتْ رِيَاسَتُهُ، وَقَرُبَ انْقِضَاءُ أَجْلِهِ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهِمَا وَفِي ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَتْبَاعِهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يُسَيِّرُوهُ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ كَهَيْئَةِ الْمَنْفِيِّ لَعَلَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ فَيَقْتُلَهُ غِيلَةً، فَيَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، فَمَا زَادَ ذَلِكَ النَّاسُ إِلَّا مَحَبَّةً فِيهِ، وَقُرْبًا مِنْهُ، وَانْتِفَاعًا بِهِ، وَاشْتِغَالًا عَلَيْهِ، وَحُنُوًّا وَكَرَامَةً لَهُ، وَجَاءَ كِتَابٌ مِنْ أَخِيهِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّ الْأَخَ الْكَرِيمَ قَدْ نَزَلَ بِالثَّغْرِ الْمَحْرُوسِ عَلَى نِيَّةِ الرِّبَاطِ، فَإِنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ قَصَدُوا بِذَلِكَ أُمُورًا يَكِيدُونَهُ بِهَا، وَيَكِيدُونَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، فَكَانَتْ تِلْكَ كَرَامَةً فِي حَقِّنَا، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى هَلَاكِ الشَّيْخِ، فَانْقَلَبَتْ عَلَيْهِمْ مَقَاصِدُهُمُ الْخَبِيثَةُ، وَانْعَكَسَتْ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَأَصْبَحُوا وَأَمْسَوْا وَمَازَالُوا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ عِبَادِهِ الْعَارِفِينَ سُودَ الْوُجُوهِ، يَتَقَطَّعُونَ حَسَرَاتٍ وَنَدَمًا عَلَى مَا فَعَلُوا، وَانْقَلَبَ أَهْلُ الثَّغْرِ أَجْمَعِينَ إِلَى الْأَخِ مُقْبِلِينَ، عَلَيْهِ مُكْرِمِينَ لَهُ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَنْشُرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا تَقَرُّ بِهِ أَعْيُنُ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ شَجًى فِي حُلُوقِ الْأَعْدَاءِ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَجَدَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِبْلِيسَ قَدْ بَاضَ فِيهَا وَفَرَّخَ، وَأَضَلَّ بِهَا فِرَقَ السَّبْعِينِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، فَمَزَّقَ اللَّهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِمْ شَمْلَهُمْ، وَشَتَّتَ جُمُوعَهُمْ شَذَرَ مَذَرَ، وَهَتَكَ أَسْتَارَهُمْ، وَفَضَحَهُمْ، وَاسْتَتَابَ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ، وَتَوَّبَ رَئِيسًا مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، وَاسْتَقَرَّ عِنْدَ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَوَاصِّهِمْ - مِنْ أَمِيرٍ وَقَاضٍ، وَفَقِيهٍ وَمُفْتٍ، وَشَيْخٍ وَجَمَاعَةِ الْمُجْتَهِدِينَ، إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنَ الْأَغْمَارِ الْجُهَّالِ، مَعَ الذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ - مَحَبَّةُ الشَّيْخِ وَتَعْظِيمُهُ، وَقَبُولُ كَلَامِهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَعَلَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ بِهَا عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلُعِنُوا سِرًّا وَجَهْرًا، وَبَاطِنًا وَظَاهِرًا، فِي مَجَامِعِ النَّاسِ بِأَسْمَائِهِمُ الْخَاصَّةِ بِهِمْ، وَصَارَ بِذَلِكَ عِنْدَ نَصْرٍ الْمَنْبِجِيِّ الْمُقِيمَ الْمُقْعِدَ، وَنَزَلَ بِهِ مِنَ الْخَوْفِ وَالذُّلِّ مَالَا يُعَبَّرُ عَنْهُ. وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الشَّيْخَ
تَقِيَّ الدِّينِ أَقَامَ بِثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ،
مُقِيمًا بِبُرْجٍ مُتَّسِعٍ، مَلِيحٍ نَظِيفٍ، لَهُ شُبَّاكَانِ أَحَدُهُمَا
إِلَى جِهَةِ الْبَحْرِ، وَالْآخَرُ إِلَى جِهَةِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَدْخُلُ
عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ، وَيَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ الْأَكَابِرُ، وَالْأَعْيَانُ،
وَالْفُقَهَاءُ، يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي
أَطْيَبِ عَيْشٍ وَأَشْرَحِ صَدْرٍ.
وَفِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُزِلَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الزَّمْلَكَانِيِّ عَنْ نَظَرِ الْمَارَسْتَانِ بِسَبَبِ انْتِمَائِهِ إِلَى ابْنِ
تَيْمِيَّةَ، بِإِشَارَةِ الْمَنْبِجِيِّ، وَبَاشَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ عَبْدُ
الْقَادِرِ بْنُ الْحَظِيرِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَلِيَ قَضَاءَ
الْحَنَابِلَةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ
سَعْدُ الدِّينِ أَبُو مَحْمُودٍ مَسْعُودُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ
زَيْنِ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ، شَيْخُ الْحَدِيثِ بِمِصْرَ، بَعْدَ وَفَاةِ
الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْحَرَّانِيِّ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى بَرَزَتِ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ
الْمُظَفَّرِيَّةُ إِلَى نُوَّابِ الْبِلَادِ السَّوَاحِلِيَّةِ بِإِبْطَالِ
الْخُمُورِ، وَتَخْرِيبِ الْخَانَاتِ، وَنَفْيِ أَهْلِهَا، فَفُعِلَ ذَلِكَ،
وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَفِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَصَلَ بَرِيدٌ بِتَوْلِيَةِ قَضَاءِ
الْحَنَابِلَةِ بِدِمَشْقَ لِلشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ شَرِيفِ
الدِّينِ حَسَنِ بْنِ الْحَافِظِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيِّ، عِوَضًا عَنْ قَاضِي
الْقُضَاةِ الْتَقِيِّ
سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ بِسَبَبِ
تَكَلُّمِهِ فِي نُزُولِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ عَنِ الْمُلْكِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا
نَزَلَ عَنْهُ مُضْطَهَدًا فِي ذَلِكَ، لَيْسَ بِمُخْتَارٍ، وَقَدْ صَدَقَ فِيمَا
قَالَ.
وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَصَلَ الْبَرِيدُ بِوِلَايَةِ شَدِّ
الدَّوَاوِينِ لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ عِوَضًا عَنِ
الرُّسْتُمِيِّ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَبِنَظَرِ الْخِزَانَةِ لِلْأَمِيرِ عِزِّ
الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَلَانِسِيِّ، فَبَاشَرَهَا، وَعُزِلَ عَنْهَا
الْبُصْرَاوِيُّ مُحْتَسِبُ الْبَلَدِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ بَاشَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ جَمَاعَةَ مَشْيَخَةَ
سَعِيدِ السُّعَدَاءِ بِالْقَاهِرَةِ، بِطَلَبِ الصُّوفِيَّةِ لَهُ، وَرَضُوا
مِنْهُ بِالْحُضُورِ عِنْدَهُمْ فِي الْجُمُعَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعُزِلَ
عَنْهَا الشَّيْخُ كَرِيمُ الدِّينِ الْآمُلِيُّ؛ لِأَنَّهُ عَزَلَ مِنْهَا
الشُّهُودَ، فَثَارُوا عَلَيْهِ، وَكَتَبُوا فِي حَقِّهِ مُحَاضِرَ بِأَشْيَاءَ
قَادِحَةٍ فِي الدِّينِ، فَرُسِمَ بِصَرْفِهِ عَنْهُمْ، وَعُومِلَ بِنَظِيرِ مَا
كَانَ يُعَامِلُ بِهِ النَّاسَ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ قِيَامُهُ عَلَى شَيْخِ
الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَافْتِرَاؤُهُ عَلَيْهِ الْكَذِبَ، مَعَ
جَهْلِهِ، وَقِلَّةِ وَرَعِهِ، فَعَجَّلَ اللَّهُ لَهُ هَذَا الْجَزَاءَ عَلَى
يَدَيْ أَصْحَابِهِ وَأَصْدِقَائِهِ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَفِي شَهْرِ رَجَبٍ كَثُرَ الْخَوْفُ بِدِمَشْقَ، وَانْتَقَلَ النَّاسُ مِنْ
ظَاهِرِهَا إِلَى دَاخِلِهَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ
النَّاصِرَ مُحَمَّدَ بْنَ قَلَاوُونَ رَكِبَ مِنَ الْكَرَكِ قَاصِدًا دِمَشْقَ
يَطْلُبُ عَوْدَهُ إِلَى الْمُلْكِ، وَقَدْ مَالَأَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ، وَكَاتَبُوهُ فِي الْبَاطِنِ، وَنَاصَحُوهُ، وَقَفَزَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ
مِنْ أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَتَحَدَّثَ
النَّاسُ بِسَفَرِ نَائِبِ دِمَشْقَ الْأَفْرَمِ إِلَى الْقَاهِرَةِ لِيَكُونَ مَعَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، فَاضْطَرَبَ النَّاسُ، وَلَمْ تُفْتَحْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ إِلَى ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، وَتَخَبَّطَتِ الْأُمُورُ، فَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِالْقَصْرِ، وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِلْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، وَفِي آخِرِ نَهَارِ السَّبْتِ غُلِّقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ بِبَابِ النَّصْرِ، وَحَصَلَ لَهُمْ تَعَبٌ عَظِيمٌ، وَازْدَحَمَ الْبَلَدُ بِأَهْلِ الْقُرَى، وَكَثُرَ النَّاسُ بِالْبَلَدِ، وَجَاءَ الْبَرِيدُ بِوُصُولِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ إِلَى الْخَمَّانِ، فَانْزَعَجَ نَائِبُ الشَّامِ لِذَلِكَ، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ قِتَالَهُ وَمَنْعَهُ مِنْ دُخُولِ الْبَلَدِ، وَقَفَزَ إِلَيْهِ الْأَمِيرَانِ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ الْمَجْنُونُ، وبَيْبَرْسُ الْعَلَائِيُّ، وَرَكِبَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ الْحَاجِبُ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ، وَيُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ لَا طَاقَةَ لَهُ بِقِتَالِ الْمِصْرِيِّينَ، وَلَحِقَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ آصْ يُشِيرُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ رَجَبٍ، وَأَخْبَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ النَّاصِرَ قَدْ عَادَ إِلَى الْكَرَكِ، فَسَكَنَ النَّاسُ، وَرَجَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى الْقَصْرِ، وَتَرَاجَعَ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ، وَاسْتَقَرُّوا بِهَا.
صِفَةُ عَوْدِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ إِلَى الْمُلْكِ وَزَوَالُ
دَوْلَةِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ الْجَاشْنَكِيرِ بَيْبَرْسَ وَخِذْلَانُهُ
وَخِذْلَانُ شَيْخِهِ نَصْرٍ الْمَنْبِجِيِّ الِاتِّحَادِيِّ الْحُلُولِيِّ
لَمَّا كَانَ ثَالِثَ عَشَرَ شَعْبَانَ جَاءَ الْخَبَرُ بِقُدُومِ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَاقَ إِلَيْهِ الْأَمِيرَانِ سَيْفُ الدِّينِ
قُطْلُوبَكُ وَالْحَاجُّ بَهَادُرُ إِلَى الْكَرَكِ، وَحَضَّاهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَاضْطَرَبَ نَائِبُ دِمَشْقَ، وَرَكِبَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ عَلَى
الْهُجُنِ فِي سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَمَعَهُ ابْنُ صُبْحٍ صَاحِبُ شَقِيفِ
أَرْنُوَنَ، وَهُيِّئَتْ بِدِمَشْقَ أُبَّهَةُ السَّلْطَنَةِ، وَالْإِقَامَاتُ
اللَّائِقَةُ بِهِ، وَالْعَصَائِبُ، وَالْكُوسَاتُ، وَرَكِبَ مِنَ الْكَرَكِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَرْسَلَ الْأَمَانَ إِلَى الْأَفْرَمِ، وَدَعَا لَهُ
الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْمِئْذَنَةِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ
عَشَرَ شَعْبَانَ، فَضَجَّ النَّاسُ
لَهُ بِالدُّعَاءِ وَالسُّرُورِ بِذِكْرِهِ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ،
وَأَنْ يَفْتَحُوا دَكَاكِينَهُمْ وَيَأْمَنُوا فِي أَوْطَانِهِمْ، وَشَرَعَ
النَّاسُ فِي الزِّينَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَنَامَ النَّاسُ فِي
الْأَسْطِحَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِيَتَفَرَّجُوا عَلَى السُّلْطَانِ حِينَ
يَدْخُلُ الْبَلَدَ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ
لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ دُخُولُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ وَسَطَ النَّهَارِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبُسِطَ لَهُ مِنْ عِنْدِ الْمُصَلَّى إِلَى الْقَلْعَةِ.
قَالَ كَاتِبُهُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكُنْتُ فِي مَنْ شَاهَدَ دُخُولَهُ وَعَلَيْهِ
أُبَّهَةُ الْمُلْكِ، وَالْبُسُطُ تَحْتَ أَقْدَامِ فَرَسِهِ، كُلَّمَا جَاوَزَ
شُقَّةً طُوِيَتْ مِنْ وَرَائِهِ، وَالْجِتْرُ عَلَى رَأْسِهِ، وَالْأُمَرَاءُ
السِّلِحْدَارِيَّةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَالنَّاسُ
يَدْعُونَ لَهُ، وَيَضِجُّونَ بِذَلِكَ ضَجِيجًا عَالِيًا، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا. قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ: وَكَانَ عَلَى
السُّلْطَانِ يَوْمَئِذٍ عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ، وَكَلُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَكَانَ
الَّذِي حَمَلَ الْغَاشِيَةَ عَلَى رَأْسِهِ يَوْمَئِذٍ الْحَاجُّ بَهَادُرُ،
وَعَلَيْهِ خِلْعَةٌ مُعَظَّمَةٌ مُذَهَّبَةٌ بِفَرْوِ قَاقُمٍ، وَلَمَّا وَصَلَ إِلَى
الْقَلْعَةِ نُصِبَ لَهُ الْجِسْرُ، وَنَزَلَ إِلَيْهَا نَائِبُهَا الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ
السِّنْجِرِيُّ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ: إِنِّي الْآنَ لَا أَنْزِلُ هَاهُنَا.
وَسَارَ بِفَرَسِهِ إِلَى جِهَةِ الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَالْأُمَرَاءُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ، وَخُطِبَ لَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَفِي بُكْرَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ وَصَلَ
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الْأَفْرَمُ نَائِبُ دِمَشْقَ مُطِيعًا
لِلسُّلْطَانِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَرَجَّلَ لَهُ
السُّلْطَانُ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَذِنَ لَهُ فِي مُبَاشَرَةِ النِّيَابَةِ عَلَى
عَادَتِهِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِطَاعَةِ الْأَفْرَمِ لَهُ. ثُمَّ وَصَلَ إِلَيْهِ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْجَقُ نَائِبُ حَمَاةَ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ نَائِبُ طَرَابُلُسَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَخَرَجَ الْأُمَرَاءُ لِتَلَقِّيهِمَا،
وَتَلَقَّاهُمَا السُّلْطَانُ كَمَا تَلَقَّى الْأَفْرَمَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِتَقْلِيدِ قَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ
وَعَوْدِهِ إِلَى تَقِيِّ الدِّينِ سُلَيْمَانَ، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ، وَجَاءَ
إِلَى السُّلْطَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى الْجَوْزِيَّةِ فَحَكَمَ
بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ الثَّانِيَةُ بِالْمَيْدَانِ،
وَحَضَرَ السُّلْطَانُ وَالْقُضَاةُ إِلَى جَانِبِهِ، وَأَكَابِرُ الْأُمَرَاءِ
وَالدَّوْلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَصَلَ إِلَى
السُّلْطَانِ الْأَمِيرُ قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ نَائِبُ حَلَبَ، وَخَرَجَ
السُّلْطَانُ لِتَلَقِّيهِ أَيْضًا، وَوَصَلَ جَيْشُ حَلَبَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
ثَالِثِ رَمَضَانَ، وَخَرَجَ دِهْلِيزُ السُّلْطَانِ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعِ
رَمَضَانَ وَمَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْقُرَّاءُ وَقْتَ الْعَصْرِ،
وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ خَامِسَ رَمَضَانَ
بِالْمَيْدَانِ أَيْضًا، ثُمَّ خَرَجَ السُّلْطَانُ مِنْ دِمَشْقَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ رَمَضَانَ، وَفِي صُحْبَتِهِ ابْنُ صَصْرَى، وَصَدْرُ
الدِّينِ الْحَنَفِيُّ قَاضِي الْعَسَاكِرِ، وَالْخَطِيبُ جَلَالُ الدِّينِ،
وَالشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَالْمُوَقِّعُونَ،
وَدِيوَانُ الْجَيْشِ، وَجَيْشُ الشَّامِ بِكَمَالِهِ، قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ
مِنْ سَائِرِ مُدُنِهِ وَأَقَالِيمِهِ بِنُوَّابِهِ وَأُمَرَائِهِ، فَلَمَّا
انْتَهَى السُّلْطَانُ إِلَى غَزَّةَ دَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ،
وَتَلَقَّاهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ آصْ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ قَدْ
خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْمَمْلَكَةِ، ثُمَّ تَوَاتَرَ قُدُومُ الْأُمَرَاءِ مِنْ
مِصْرَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ، فَطَابَتْ قُلُوبُ
الشَّامِيِّينَ، وَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَتَأَخَّرَ
مَجِيءُ الْبَرِيدِ بِصُورَةِ مَا جَرَى.
وَاتَّفَقَ فِي يَوْمِ هَذَا الْعِيدِ أَنَّهُ خَرَجَ نَائِبُ الْخَطِيبِ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْجَزَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمِقَصَّاتِيِّ فِي
السَّنَاجِقِ إِلَى الْمُصَلَّى عَلَى الْعَادَةِ، وَاسْتَنَابَ فِي الْبَلَدِ
الشَّيْخَ مَجْدَ الدِّينِ التُّونِسِيَّ، فِلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْمُصَلَّى
وَجَدُوا خَطِيبَ الْمُصَلَّى قَدْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ، فَنُصِبَتِ
السَّنَاجِقُ فِي صَحْنِ الْمُصَلَّى، وَصَلَّى بَيْنَهُمَا تَقِيُّ الدِّينِ
الْمِقَصَّاتِيُّ، ثُمَّ خَطَبَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ ابْنُ حَسَّانَ دَاخِلَ
الْمُصَلَّى، فَعُقِدَ فِيهِ صَلَاتَانِ وَخُطْبَتَانِ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ
يَتَّفِقْ مِثْلُ هَذَا فِيمَا نَعْلَمُ.
وَكَانَ دُخُولُ السُّلْطَانِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ إِلَى قَلْعَةِ الْجَبَلِ
آخَرَ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَسَمَ لِسَلَّارَ أَنْ
يُسَافِرَ إِلَى الشَّوْبَكِ وَاسْتَنَابَ بِمِصْرَ الْأَمِيرَ سَيْفَ
الدِّينِ بَكْتَمُرَ الْجُوكَنْدَارَ
الَّذِي كَانَ نَائِبَ صَفَدَ، وَبِالشَّامِ الْأَمِيرَ شَمْسَ الدِّينِ
قَرَاسُنْقُرَ الْمَنْصُورِيَّ، وَذَلِكَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ،
وَاسْتَوْزَرَ الصَّاحِبَ فَخْرَ الدِّينِ بْنَ الْخَلِيلِيِّ بَعْدَهَا
بِيَوْمَيْنِ، وَبَاشَرَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِكِ نَظَرَ
الْجُيُوشِ بِمِصْرَ بَعْدَ بَهَاءِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْمُظَفَّرِ، ابْنِ الْحِلِّيِّ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
عَاشِرِ شَوَّالٍ، وَكَانَ مِنْ صُدُورِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَعْيَانِ الْكِبَارِ،
وَقَدْ رَوَى شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ. وَصَرَفَ الْأَمِيرَ جَمَالَ الدِّينِ
آقُوشَ الْأَفْرَمَ إِلَى نِيَابَةِ صَرْخَدَ، وَقَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرُ
زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا رَأْسُ نَوْبَةِ الْجَمَدَارِيَّةِ مُشِدَّ
الدَّوَاوِينِ، وَأُسْتَاذَ دَارِ الْأُسْتَادَارِيَّةِ - عِوَضًا عَنْ سَيْفِ
الدِّينِ آقْجِبَا، وَتَغَيَّرَتِ الدَّوْلَةُ، وَانْقَلَبَتْ قَلْبَةً عَظِيمَةً.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ: وَلَمَّا دَخَلَ السُّلْطَانُ
إِلَى مِصْرَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَأْبٌ إِلَّا طَلَبَ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
مُعَزَّزًا مُكَرَّمًا مُبَجَّلًا، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ فِي ثَانِي يَوْمٍ مِنْ
شَوَّالٍ بَعْدَ وُصُولِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، فَقَدِمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ عَلَى السُّلْطَانِ فِي يَوْمِ ثَامِنِ الشَّهْرِ، وَخَرَجَ مَعَ
الشَّيْخِ خَلْقٌ يُوَدِّعُونَهُ، وَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
فَأَكْرَمَهُ، وَتَلَقَّاهُ فِي مَجْلِسٍ حَافِلٍ فِيهِ قُضَاةُ الْمِصْرِيِّينَ
وَالشَّامِيِّينَ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ الشَّيْخُ
إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَسَكَنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَالنَّاسُ
يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ، وَالْأُمَرَاءُ، وَالْجُنْدُ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ، مِنْهُمْ مَنْ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ،
وَيَتَنَصَّلُ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُ، فَقَالَ:
أَنَا قَدْ حَالَلْتُ كُلَّ مَنْ
آذَانِي.
قُلْتُ: وَقَدْ أَخْبَرَنِي الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ
بِتَفَاصِيلِ هَذَا الْمَجْلِسِ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ إِكْرَامِ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ، وَمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الشُّكْرِ وَالْمَدْحِ مِنَ
السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرُ الدِّينِ
الْحَنَفِيُّ، وَلَكِنَّ إِخْبَارَ ابْنِ الْقَلَانِسِيِّ أَكْثَرُ تَفْصِيلًا، وَذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ إِذْ ذَاكَ قَاضِيَ الْعَسْكَرِ، وَكِلَاهُمَا كَانَ حَاضِرًا هَذَا
الْمَجْلِسَ، ذَكَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ نَهَضَ قَائِمًا لِلشَّيْخِ أَوَّلَ مَا رَآهُ،
وَمَشَى لَهُ إِلَى طَرَفِ الْإِيوَانِ، وَاعْتَنَقَا هُنَاكَ هُنَيْهَةً، ثُمَّ
أَخَذَ بِيَدِهِ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى صُفَّةٍ فِيهَا شُبَّاكٌ إِلَى بُسْتَانٍ،
فَجَلَسَا سَاعَةً يَتَحَدَّثَانِ، ثُمَّ جَاءَ وَيَدُ الشَّيْخِ فِي يَدِ
السُّلْطَانِ، فَجَلَسَ السُّلْطَانُ وَعَنْ يَمِينِهِ ابْنُ جَمَاعَةَ قَاضِي
مِصْرَ، وَعَنْ يَسَارِهِ ابْنُ الْخَلِيلِيِّ الْوَزِيرُ، وَتَحْتَهُ ابْنُ
صَصْرَى، ثُمَّ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيٌّ الْحَنَفِيُّ، وَجَلَسَ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ عَلَى طَرَفِ طُرَّاحَتِهِ، وَتَكَلَّمَ
الْوَزِيرُ فِي إِعَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى لُبْسِ الْعَمَائِمِ الْبِيضِ
بِالْعَلَائِمِ، وَأَنَّهُمْ قَدِ الْتَزَمُوا لِلدِّيوَانِ بِسَبْعِ مِائَةِ
أَلْفٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، زِيَادَةً عَلَى الْجَالِيَةِ، فَسَكَتَ النَّاسُ،
وَكَانَ فِيهِمْ قُضَاةُ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَأَكَابِرُ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَهْلِ
مِصْرَ وَالشَّامِ، مِنْ جُمْلَتِهِمُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ.
قَالَ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ: وَأَنَا فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ إِلَى جَنْبِ
ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، فَلَمْ
يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنَ الْقُضَاةِ، فَقَالَ لَهُمُ السُّلْطَانُ: مَا تَقُولُونَ؟ يَسْتَفْتِيهِمْ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، فَجَثَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَتَكَلَّمَ مَعَ السُّلْطَانِ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ، وَرَدَّ عَلَى الْوَزِيرِ مَا قَالَهُ رَدًّا عَنِيفًا، وَجَعْلَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَالسُّلْطَانُ يَتَلَافَاهُ وَيُسْكِتُهُ بِتَرَفُّقٍ وَتَوَدُّدٍ وَتَوْقِيرٍ، وَبَالَغَ الشَّيْخُ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُومَ بِمِثْلِهِ وَلَا قَرِيبٍ مِنْهُ، وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لِلسُّلْطَانِ: حَاشَاكَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ تَنْصُرُ فِيهِ أَهْلَ الذِّمَّةِ لِأَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، فَاذْكُرْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ إِذْ رَدَّ مُلْكَكَ إِلَيْكَ، وَكَبَتَ عَدُوَّكَ، وَنَصَرَكَ عَلَى أَعْدَائِكِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْجَاشْنَكِيرَ هُوَ الَّذِي جَدَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ الْجَاشْنَكِيرُ كَانَ مِنْ مَرَاسِيمِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ نَائِبًا لَكَ، فَأَعْجَبَ السُّلْطَانَ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَجَرَتْ فُصُولٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَعْلَمَ بِالشَّيْخِ مِنْ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، وَبِعِلْمِهِ، وَدِينِهِ، وَقِيَامِهِ بِالْحَقِّ، وَشَجَاعَتِهِ، وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ يَذْكُرُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مِنَ الْكَلَامِ لَمَّا انْفَرَدَا فِي ذَلِكَ الشُّبَّاكِ الَّذِي جَلَسَا فِيهِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ اسْتَفْتَى الشَّيْخَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ فَتَاوَى بَعْضِهِمْ بِعَزْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَمُبَايِعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، وَأَنَّهُمْ قَامُوا عَلَيْكَ وَآذَوْكَ أَنْتَ أَيْضًا ! وَأَخَذَ يَحُثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا سَعَوْا فِيهِ مِنْ عَزْلِهِ وَمُبَايَعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، فَفَهِمَ الشَّيْخُ مُرَادَ السُّلْطَانِ، فَأَخَذَ فِي تَعْظِيمِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَنَالَ أَحَدًا مِنْهُمْ سُوءٌ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَتَلْتَ هَؤُلَاءِ لَا تَجِدُ بِعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُمْ قَدْ آذَوْكَ وَأَرَادُوا قَتْلَكَ مِرَارًا، فَقَالَ الشَّيْخُ: مَنْ آذَانِي فَهُوَ فِي حِلٍّ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَأَنَا لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي. وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى حَلُمَ عَنْهُمُ السُّلْطَانُ وَصَفَحَ.
قَالَ: وَكَانَ قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ
ابْنُ مَخْلُوفٍ يَقُولُ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، حَرَّضْنَا
عَلَيْهِ، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقَدَرَ عَلَيْنَا فَصَفَحَ عَنَّا
وَحَاجَجَ عَنَّا. ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِ بِالسُّلْطَانِ
نَزَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَعَادَ إِلَى بَثِّ الْعِلْمِ وَنَشْرِهِ،
وَأَقْبَلَتِ الْخَلْقُ عَلَيْهِ، وَرَحَلُوا إِلَيْهِ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ،
وَيَسْتَفْتُونَهُ وَيُجِيبُهُمْ بِالْكِتَابَةِ وَالْقَوْلِ، وَجَاءَتْهُ
الْفُقَهَاءُ يَعْتَذِرُونَ مِمَّا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي حَقِّهِ، فَقَالَ: قَدْ
جَعَلْتُ الْكُلَّ فِي حِلٍّ.
وَبَعَثَ الشَّيْخُ كِتَابًا إِلَى أَهْلِهِ يَذْكُرُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ نِعَمِ
اللَّهِ وَخَيْرِهِ الْكَثِيرِ، وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ جُمْلَةً مِنْ كُتُبِ
الْعِلْمِ الَّتِي لَهُ، وَيَسْتَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِجَمَالِ الدِّينِ
الْمِزِّيِّ، فَإِنَّهُ يَدْرِي كَيْفَ يَسْتَخْرِجُ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِنَ
الْكُتُبِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا، وَقَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ: وَالْحَقُّ
كُلُّ مَا لَهُ فِي عُلُوٍّ وَازْدِيَادٍ وَانْتِصَارٍ، وَالْبَاطِلُ فِي
انْخِفَاضٍ وَسُفُولٍ وَاضْمِحْلَالٍ، وَقَدْ أَذَلَّ اللَّهُ رِقَابَ الْخُصُومِ،
وَطَلَبَ أَكَابِرُهُمْ مِنَ السَّلَمِ مَا يَطُولُ وَصْفُهُ، وَقَدِ اشْتَرَطْنَا
عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّرُوطِ مَا فِيهِ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ، وَمَا
فِيهِ قَمْعُ الْبَاطِلِ وَالْبِدْعَةِ، وَقَدْ دَخَلُوا تَحْتَ ذَلِكَ كُلِّهِ،
وَامْتَنَعْنَا مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، حَتَّى يَظْهَرَ إِلَى الْفِعْلِ،
فَلَمْ نَثِقْ لَهُمْ بِقَوْلٍ وَلَا عَهْدٍ، وَلَمْ نُجِبْهُمْ إِلَى
مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ الْمَشْرُوطُ مَعْمُولًا، وَالْمَذْكُورُ
مَفْعُولًا، وَيَظْهَرَ مَنْ عَزِّ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ لِلْخَاصَّةِ
وَالْعَامَّةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو سَيِّئَاتِهِمْ. وَذَكَرَ
كَلَامًا طَوِيلًا يَتَضَمَّنُ مَا جَرَى لَهُ مَعَ السُّلْطَانِ فِي قَمْعِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَذُلِّهِمْ، وَتَرْكِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ
الذِّلَّةِ وَالصِّغَارِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَفِي شَوَّالٍ أَمْسَكَ السُّلْطَانُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ قَرِيبًا مِنْ
عِشْرِينَ أَمِيرًا. وَفِي سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ وَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ
حَوْرَانَ مِنْ قَيْسٍ وَيَمَنٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا،
قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نَحْوٌ مَنْ أَلْفِ نَفْسٍ بِالْقُرْبِ مِنَ
السُّوَيْدَاءِ، وَهُمْ يُسَمُّونَهَا
يَوْمَ السُّوَيْدَاءِ، وَوَقْعَةَ
السُّوَيْدَاءِ، وَكَانَتِ الْكَسْرَةُ عَلَى يَمَنٍ، فَهَرَبُوا مِنْ قَيْسٍ
حَتَّى دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى دِمَشْقَ فِي أَسْوَأِ حَالٍ وَأَضْعَفِهِ،
وَهَرَبَتْ قَيْسٌ خَوْفًا مِنَ الدَّوْلَةِ، وَبَقِيَتِ الْقُرَى خَالِيَةً،
وَالزُّرُوعُ سَائِبَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ قَبْجَقُ الْمَنْصُورِيُّ نَائِبًا عَلَى حَلَبَ، فَنَزَلَ الْقَصْرَ
وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى حَلَبَ
بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَاجْتَازَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
الْحَاجُّ بَهَادُرُ بِدِمَشْقَ ذَاهِبًا إِلَى طَرَابُلُسَ وَالْفُتُوحَاتِ
السَّوَاحِلِيَّةِ - عِوَضًا عَنِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَسَنْدَمُرَ،
وَوَصَلَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ سَافَرَ مَعَ السُّلْطَانِ إِلَى مِصْرَ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهُمْ قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ صَدْرُ الدِّينِ،
وَمُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، وَغَيْرُهُمَا.
قُلْتُ: وَجَلَسْتُ يَوْمًا إِلَى الْقَاضِي صَدْرِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ بَعْدَ
مَجِيئِهِ مِنْ مِصْرَ، فَقَالَ لِي: أَتُحِبُّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ، فَقَالَ لِي وَهُوَ يَضْحَكُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْتَ شَيْئًا
مَلِيحًا. وَحَكَى قَرِيبًا مِمَّا ذَكَرَ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ، لَكِنَّ سِيَاقَ
ابْنَ الْقَلَانِسِيِّ أَتَمُّ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْجَاشْنَكِيرِ
كَانَ قَدْ فَرَّ الْخَبِيثُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ مِنْ مِصْرَ
مُتَوَجِّهًا إِلَى نِيَابَةِ الشَّامِ عِوَضًا عَنِ الْأَفْرَمِ، فَلَمَّا كَانَ
فِي غَزَّةَ فِي سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ ضَرَبَ حَلْقَةً لِأَجْلِ الصَّيْدِ،
فَوَقَعَ فِي وَسَطِهَا الْجَاشْنَكِيرُ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَأُحِيطَ بِهِمْ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، فَأَمْسَكُوهُ،
وَرَجَعَ مَعَهُ قَرَاسُنْقُرُ
وَسَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ آصْ عَلَى الْهُجُنِ، فَلَمَّا كَانَ بِالْخَطَّارَةِ
تَلَقَّاهُمْ أَسَنْدَمُرُ، فَتَسَلَّمَهُ مِنْهُمْ، وَرَجَعَا إِلَى
عَسْكَرِهِمْ، وَدَخَلَ بِهِ أَسَنْدَمُرُ عَلَى السُّلْطَانِ، فَعَاتَبَهُ
وَلَامَهُ، وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، قُتِلَ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَلَمْ
يَنْفَعْهُ شَيْخُهُ الْمَنْبِجِيُّ وَلَا أَمْوَالُهُ، بَلْ قُتِلَ شَرَّ
قَتْلَةٍ، وَدَخَلَ قَرَاسُنْقُرُ دِمَشْقَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ، وَكَانَ فِي
صُحْبَتِهِ ابْنُ صَصْرَى، وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَابْنُ الْقَلَانِسِيِّ،
وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ، وَخَلْقٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ
وَالشَّامِيِّينَ، وَكَانَ الْخَطِيبُ جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ قَدْ
وَصَلَ قَبْلَهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ،
وَخَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى عَادَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
الْأُخْرَى وَهُوَ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ مِنَ الشَّهْرِ، خَطَبَ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
الْحَدَّادِ الْحَنْبَلِيُّ، عَنْ إِذْنِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ
وَالْأَكَابِرِ وَالْأَعْيَانِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ عَقِيبَ ذَلِكَ خِلْعَةٌ
سَنِيَّةٌ، وَاسْتَمَرَّ يُبَاشِرُ الْإِمَامَةَ وَالْخَطَابَةَ اثْنَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أُعِيدَ الْخَطِيبُ جَلَالُ الدِّينِ بِمَرْسُومِ
السُّلْطَانِ، وَبَاشَرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنَ
السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ دَرَّسَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ
بِالْمَدْرَسَةِ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ
الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ أَسَنْدَمُرَ
سَاعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا أَظْهَرَ مَلِكُ التَّتَرِ خَرْبَنْدَا الرَّفْضَ فِي بِلَادِهِ،
وَأَمَرَ الْخُطَبَاءَ أَنْ لَا
يَذْكُرُوا فِي خُطْبَتِهِمْ إِلَّا
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَوَلَدَيْهِ، وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَلَمَّا وَصَلَ
خَطِيبُ بِابِ الْأَزَجِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مَنْ خُطْبَتِهِ بَكَى بَكَاءً
شَدِيدًا، وَبَكَى النَّاسُ مَعَهُ، وَنَزَلَ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ
إِتْمَامِهَا، فَأُقِيمَ مَنْ أَتَمَّهَا عَنْهُ وَصَلَّى بِالنَّاسِ، وَظَهَرَ
عَلَى النَّاسِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَهْلُ الْبِدْعَةِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ بِسَبَبِ تَخْبِيطِ
الدَّوْلَةِ وَكَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَطِيبُ نَاصِرُ الدِّينِ أَبُو الْهُدَى أَحْمَدُ بْنُ الْخَطِيبِ بَدْرِ
الدِّينِ يَحْيَى بْنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، خَطِيبُ
الْعُقَيْبَةِ بِدَارِهِ، وَقَدْ بَاشَرَ نَظَرَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
وَغَيْرَ ذَلِكَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ الْعُقَيْبَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَكَانَ مِنْ صُدُورِ دِمَشْقَ، وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ، وَبَاشَرَ
الْخَطَابَةَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بَدْرُ الدِّينِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ.
قَاضِي الْحَنَابِلَةِ بِمِصْرَ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْغَنِيِّ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَصْرِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ الْحَرَّانِيُّ، وُلِدَ بَحَرَّانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَقَدِمَ مِصْرَ، فَبَاشَرَ نَظَرَ
الْخِزَانَةِ وَتَدْرِيسِ الصَّالِحِيَّةِ، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْقَضَاءُ،
وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الْمَكَارِمِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
رَابِعَ
عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ
بِالْقَرَافَةِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ سَعْدُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ، كَمَا
تَقَدَّمَ.
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ مُظَفَّرٍ
الْمِصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِمُؤَذِّنِ النَّجِيبِيِّ، كَانَ رَئِيسَ
الْمُؤَذِّنِينَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَنَقِيبَ الْخُطَبَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ
الشَّكْلِ، رَفِيعَ الصَّوْتِ، اسْتَمَرَّ فِي ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ
سَنَةً إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْأَعْسَرُ
الْمَنْصُورِيُّ، تَوَلَّى الْوِزَارَةَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَعَ شَدِّ
الدَّوَاوِينِ مَعًا، وَبَاشَرَ شَدَّ الدَّوَاوِينِ بِالشَّامِ مَرَّاتٍ، وَلَهُ
دَارٌ وَبُسْتَانٌ بِدِمَشْقَ مَشْهُورَانِ بِهِ، وَكَانَ فِيهِ نَهْضَةٌ، وَلَهُ
هِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَأَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، تُوُفِّيَ بِمِصْرَ.
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرُّسْتُمِيُّ، شَادُّ
الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَالِيَ الْوُلَاةِ
بِالصَّفْقَةِ الْقِبْلِيَّةِ بَعْدَ الشَّرِيفِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ سَطْوَةٌ،
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَانِيَ وَعِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ
ضَحْوَةً بِالْقُبَّةِ الَّتِي بَنَاهَا تُجَاهَ قُبَّةِ الشَّيْخِ رَسْلَانَ،
وَكَانَ فِيهِ كِفَايَةٌ وَخِبْرَةٌ، وَإِنَّمَا وَلِيَ الشَّدَّ بِدِمَشْقَ
مُدَّةً يَسِيرَةً، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ شَدَّ الدَّوَاوِينِ آقْجِبَا.
وَفِي شَعْبَانَ أَوْ فِي رَجَبٍ تُوُفِّيَ التَّاجُ ابْنُ سَعِيدِ الدَّوْلَةِ،
وَكَانَ مُسْلِمَانِيًّا، وَكَانَ مُشِيرَ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ
عِنْدَ الْجَاشْنَكِيرِ بِسَبَبِ صُحْبَتِهِ لِنَصْرٍ
الْمَنْبِجِيِّ شَيْخِ
الْجَاشْنَكِيرِ، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْوِزَارَةُ فَلَمْ يَقْبَلْ،
وَلَمَّا تُوُفِّيَ تَوَلَّى وَظِيفَتَهُ ابْنُ أُخْتِهِ كَرِيمُ الدِّينِ
الْكَبِيرُ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمَكَارِمِ بْنِ
نَصْرٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، رَئِيسُ الْمُؤَذِّنِينَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَاشَرَ
وَظِيفَةَ الْأَذَانِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَخَلِيفَةُ الْوَقْتِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبُو الرَّبِيعِ
سُلَيْمَانُ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ مُقِيمٌ بِمِصْرَ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وَالنَّائِبُ بِمِصْرَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ أَمِيرُ جَانْدَارَ، وَقُضَاتُهُ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى الْحَنْبَلِيِّ، فَإِنَّهُ سَعْدُ
الدِّينِ الْحَارِثِيُّ، وَالْوَزِيرُ بِمِصْرَ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ
الْخَلِيلِيِّ، وَنَاظِرُ الْجُيُوشِ فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ،
وَنَائِبُ الشَّامِ قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمْ هُمْ،
وَنَائِبُ حَلَبَ قَبْجَقُ، وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ الْحَاجُّ بَهَادُرُ،
وَالْأَفْرَمُ بِصَرْخَدَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا بَاشَرَ الشَّيْخُ أَمِينُ الدِّينِ سَالِمُ بْنُ
أَبِي الدُّرِّ، - وَكَيْلُ بَيْتِ الْمَالِ، إِمَامُ مَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ -
تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَالشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ
سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْكُرْدِيُّ تَدْرِيسَ الْعَذْرَاوِيَّةِ، كِلَاهُمَا
انْتَزَعَهَا مِنِ ابْنِ
الْوَكِيلِ بِسَبَبِ إِقَامَتِهِ بِمِصْرَ،
وَكَانَ قَدْ وَفَدَ إِلَى الْمُظَفَّرِ، فَأَكْرَمَهُ وَرَتَّبَ لَهُ رَوَاتِبَ
لِانْتِمَائِهِ إِلَى نَصْرٍ الْمَنْبِجِيِّ، ثُمَّ عَادَ بِتَوْقِيعٍ
سُلْطَانِيٍّ بِمَدْرَسَتَيْهِ، فَأَقَامَ بِهِمَا شَهْرًا أَوْ سَبْعَةً، ثُمَّ
اسْتَعَادَاهُمَا مِنْهُ وَرَجَعَتَا إِلَى الْمُدَرِّسَيْنَ الْأَوَّلَيْنَ
الْأَمِينُ سَالِمٌ، وَالصَّدْرُ الْكُرْدِيُّ، وَرَجَعَ الْخَطِيبُ جَلَالُ
الدِّينِ إِلَى الْخَطَابَةِ فِي سَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَعُزِلَ عَنْهَا
الْبَدْرُ بْنُ الْحَدَّادِ، وَبَاشَرَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ نَظَرَ
الْجَامِعِ، وَالْأَسْرَى، وَالْأَوْقَافِ قَاطِبَةً يَوْمَ الِاثْنَيْنِ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى فِي
نَظَرِ الْجَامِعِ، وَكَانَ نَاظِرُهُ مُسْتَقِلًّا بِهِ قَبْلَهُمَا. وَفِي
يَوْمِ عَاشُورَاءَ قَدِمَ أَسَنْدَمُرُ إِلَى دِمَشْقَ مُتَوَلِّيًا نِيَابَةَ
حَمَاةَ، وَسَافَرَ إِلَيْهَا بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ بَاشَرَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْحَدَّادِ نَظَرَ
الْمَارَسْتَانِ، عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْحَظِيرِيِّ، وَوَقَعَتْ
مُنَازَعَةٌ بَيْنَ الشَّيْخِ صَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ وَبَيْنَ الصَّدْرِ
سُلَيْمَانَ الْكُرْدِيِّ بِسَبَبِ الْعَذَرَاوِيَّةِ، وَكَتَبُوا فِي ابْنِ
الْوَكِيلِ مَحْضَرًا يَتَضَمَّنُ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَالْفَضَائِحِ،
وَالْكُفْرِيَّاتِ عَلَى ابْنِ الْوَكِيلِ، فَبَادَرَ ابْنُ الْوَكِيلِ إِلَى
الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ سُلَيْمَانَ الْحَنْبَلِيِّ، فَحَكَمَ بِإِسْلَامِهِ،
وَحَقْنِ دَمِهِ، وَإِسْقَاطِ التَّعْزِيرِ عَنْهُ، وَالْحُكْمِ بِعَدَالَتِهِ
وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْمَنَاصِبِ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي شَهْرِ
الْمُحَرَّمِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنْ خَرَجَتْ عَنْهُ الْمَدْرَسَتَانُ
الْعَذْرَاوِيَّةُ لِسُلَيْمَانَ
الْكُرْدِيِّ، وَالشَّامِيَّةُ
الْجَوَّانِيَّةُ لِلْأَمِينِ سَالِمٍ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى دَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ السَّابِعِ مِنْ صَفَرٍ وَصَلَ النَّجْمُ مُحَمَّدُ
بْنُ عُثْمَانَ الْبُصْرَاوِيُّ مِنْ مِصْرَ مُتَوَلِّيًا الْوِزَارَةَ
بِالشَّامِ، وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ بِالْحِسْبَةِ لِأَخِيهِ فَخْرِ الدِّينِ
سُلَيْمَانَ، فَبَاشَرَا الْمَنْصِبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِالْخِلَعِ، وَنَزَلَا
بِدَرْبِ سُقُونَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: دَرْبُ ابْنِ أَبِي الْهَيْجَاءِ. ثُمَّ
انْتَقَلَ الْوَزِيرُ إِلَى دَارِ الْأَعْسَرِ عِنْدَ بَابِ الْبَرِيدِ،
وَاسْتَمَرَّ نَظَرُ الْخِزَانَةِ لِعِزِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ
أَخِي الشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَاشَرَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ
الزُّرَعِيُّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِمِصْرَ، عِوَضًا عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ
جَمَاعَةَ، وَكَانَ قَدْ أُخِذَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ فِي
ذِي الْحِجَّةِ، وَأُعِيدَتْ إِلَى الْكَرِيمِ الْآمُلِيِّ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ
الْخَطَابَةُ أَيْضًا، وَجَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى الشَّامِ بِطَلَبِ الْقَاضِي
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْحَرِيرِيِّ لِقَضَاءِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَسَارَ
فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ
لِتَوْدِيعِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى السُّلْطَانِ أَكْرَمَهُ، وَعَظَّمَهُ،
وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ، وَتَدْرِيسَ النَّاصِرِيَّةِ
وَالصَّالِحِيَّةِ، وَجَامِعَ الْحَاكِمِ، وَعُزِلَ عَنْ ذَلِكَ الْقَاضِي شَمْسُ
الدِّينِ السَّرُوجِيُّ، فَمَكَثَ أَيَّامًا ثُمَّ مَاتَ. وَفِي مُنْتَصَفِ هَذَا
الشَّهْرِ مُسِكَ مِنْ دِمَشْقَ
سَبْعَةُ أُمَرَاءَ، وَمِنَ
الْقَاهِرَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَمِيرًا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ اهْتَمَّ السُّلْطَانُ بِطَلَبِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ سَلَّارَ، فَحَضَرَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِ، فَعَاتَبَهُ، ثُمَّ
اسْتُخْلِصَتْ مِنْهُ أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ، ثُمَّ قُتِلَ
بَعْدَ ذَلِكَ، فَوُجِدَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَالْحَيَوَانِ،
وَالْأَمْلَاكِ، وَالْأَسْلِحَةِ، وَالْمَمَالِيكِ، وَالْجِمَالِ، وَالْبِغَالِ،
وَالْحَمِيرِ أَيْضًا، وَالرِّبَاعِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ،
وَالذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، فَشَيْءٌ لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ مِنْ كَثْرَتِهِ،
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ قَدِ اسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ طَائِفَةً كَبِيرَةً
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ تَجْرِي إِلَيْهِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ كَانَ مَعَ هَذَا كَثِيرَ الْعَطَاءِ كَرِيمًا، مُحَبَّبًا إِلَى
الدَّوْلَةِ وَالرَّعِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ بَاشَرَ نِيَابَةَ
السَّلْطَنَةِ بِمِصْرَ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ إِلَى أَنْ قُتِلَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ عِشْرِينَ هَذَا الشَّهْرِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ
لَيْلَةَ الْخَمِيسِ بِالْقَرَافَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ دَرَّسَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْعِزِّ
الْحَنَفِيُّ بِالظَّاهِرِيَّةِ، عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ
الْحَرِيرِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَالُهُ الصَّدْرُ عَلِيٌّ، - قَاضِي قُضَاةِ
الْحَنَفِيَّةِ - وَبَقِيَّةُ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ قَدْ قَدِمَ
دِمَشْقَ لِبَعْضِ أَشْغَالِهِ، وَكَانَ لَهُ حُنُوٌّ عَلَى الشَّيْخِ صَدْرِ
الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ، فَاسْتَنْجَزَ لَهُ مَرْسُومًا بِنَظَرِ دَارِ
الْحَدِيثِ وَتَدْرِيسِ الْعَذْرَاوِيَّةِ، فَلَمْ يُبَاشِرْ ذَلِكَ حَتَّى سَافَرَ
أَسَنْدَمُرُ، فَاتَّفَقَ لَهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَنَّهُ وَقَعَتْ كَائِنَةٌ
بِدَارِ ابْنِ دِرْبَاسٍ بِالصَّالِحِيَّةِ، مِنَ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ،
وَذَكَرُوا أَنَّهُ وُجِدَ شَيْءٌ مِنَ الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ
وَغَيْرِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ نَائِبَ
السَّلْطَنَةِ، فَكَاتَبَ فِيهِ، فَوَرَدَ الْجَوَابُ بِعَزْلِهِ عَنِ
الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، فَخَرَجَتْ عَنْهُ دَارُ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةُ، وَبَقِيَ بِدِمَشْقَ وَلَيْسَ بِيَدِهِ وَظِيفَةٌ، فَلَمَّا
كَانَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ سَافَرَ إِلَى حَلَبَ، فَقَرَّرَ لَهُ نَائِبُهَا
أَسَنْدَمُرُ شَيْئًا عَلَى الْجَامِعِ، ثُمَّ وَلَّاهُ تَدْرِيسًا هُنَاكَ،
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَكَانَ الْأَمِيرُ أَسَنْدَمُرُ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى
نِيَابَةِ حَلَبَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، عِوَضًا عَنْ سَيْفِ الدِّينِ
قَبْجَقَ، تُوُفِّيَ، وَبَاشَرَ مَمْلَكَةَ حَمَاةَ بَعْدَهُ الْأَمِيرُ عِمَادُ
الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْأَفْضَلِ عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ تَقِيِّ
الدِّينِ عُمَرَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ بْنِ أَيُّوبَ، وَانْتَقَلَ جَمَالُ الدِّينِ
آقُوشُ الْأَفْرَمُ مِنْ صَرْخَدَ إِلَى نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ عِوَضًا عَنِ
الْحَاجِّ بَهَادُرَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ بَاشَرَ الشَّيْخُ كَمَالُ
الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ،
عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْوَكِيلِ، وَأَخَذَ فِي التَّفْسِرِ، وَالْحَدِيثِ،
وَالْفِقْهِ، فَذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ دُرُوسًا حَسَنَةً، ثُمَّ لَمْ يَسْتَمِرَّ
بِهَا سِوَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حَتَّى انْتَزَعَهَا مِنْهُ كَمَالُ الدِّينِ
بْنُ الشَّرِيشِيِّ، فَبَاشَرَهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَفِي شَعْبَانَ رَسَمَ قَرَاسُنْقُرُ نَائِبُ الشَّامِ بِتَوْسِعَةِ
الْمَقْصُورَةِ، فَأُخِّرَتْ سُدَّةُ الْمُؤَذِّنِينَ إِلَى الرُّكْنَيْنِ
الْمُؤَخَّرَيْنِ تَحْتَ قُبَّةِ النَّسْرِ، وَمُنِعَتِ الْجَنَائِزُ مِنْ دُخُولِ
الْجَامِعِ أَيَّامًا، ثُمَّ أُذِنَ فِي دُخُولِهِمْ.
وَفِي خَامِسِ رَمَضَانَ قَدِمَ فَخْرُ الدِّينِ أَيَاسٌ الَّذِي كَانَ نَائِبًا
بِقَلْعَةِ الرُّومِ إِلَى دِمَشْقَ شَادَّ الدَّوَاوِينِ، عِوَضًا عَنْ زَيْنِ
الدِّينِ كَتْبُغَا الْمَنْصُورِيِّ،
وَوَلِيَ بَعْدَهُ وِزَارَةَ مِصْرَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ الْحَاجِبُ عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ
بْنِ الْخَلِيلِيِّ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ فِي شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُمُ الْأَمِيرُ زَيْنُ
الدِّينِ كَتْبُغَا الْمَنْصُورِيُّ الَّذِي كَانَ شَادَّ الْدَوَاوَيْنِ. وَفِي
شَوَّالٍ بَاشَرَ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْقُونَوِيُّ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عِوَضًا عَنِ
الشَّيْخِ كَرِيمِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْآمُلِيِّ،
تُوُفِّيَ، وَكَانَ لَهُ تَجْرِيدٌ، وَلَهُ هِمَّةٌ، وَخُلِعَ عَلَى الْقُونَوِيِّ
خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ، وَحَضَرَ سَعِيدُ السُّعَدَاءِ بِهَا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ خُلِعَ عَلَى الصَّاحِبِ عِزِّ
الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ خِلْعَةُ الْوِزَارَةِ بِالشَّامِ، عِوَضًا عَنِ
النَّجْمِ الْبُصْرَاوِيِّ بِحُكْمِ إِقْطَاعِهِ إِمْرَةَ عَشَرَةٍ، وَإِعْرَاضِهِ
عَنِ الْوِزَارَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ عَادَ الشَّيْخُ
كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ إِلَى تَدْرِيسِ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ لَبِسَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الصَّاحِبِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ السَّلْعُوسِ خِلْعَةَ النَّظَرِ عَلَى الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ، وَمُسِكَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ نَائِبُ حَلَبَ فِي
ثَانِي ذِي الْحِجَّةِ، وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ، وَكَذَلِكَ مُسِكَ نَائِبُ
الْبِيرَةِ سَيْفُ الدِّينِ طُوغَانُ بَعْدَهُ بِلَيَالٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
قَاضِي الْقُضَاةِ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ السَّرُوجِيُّ الْحَنَفِيُّ شَارِحُ
" الْهِدَايَةِ "، كَانَ بَارِعًا فِي عُلُومٍ شَتَّى، وَوَلِيَ
الْحُكْمَ بِمِصْرَ مُدَّةً، وَعُزِلَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِي عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِقُرْبِ
الشَّافِعِيِّ، وَلَهُ اعْتِرَاضَاتٌ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، أَضْحَكَ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ رَدَّ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَيْهِ فِي مُجَلَّدَاتٍ، وَأَبْطَلَ حُجَّتَهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَلَّارُ مَقْتُولًا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالصَّاحِبُ أَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْوَجِيهِ عَبْدِ الْعَظِيمِ
بْنِ يُوسُفَ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرُّقَاقِيِّ.
وَالْحَاجُّ بَهَادُرُ، نَائِبُ طَرَابُلُسَ، مَاتَ بِهَا.
وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَبْجَقُ، نَائِبُ حَلَبَ، مَاتَ بِهَا وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ بِحَمَاةَ
فِي ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ،
وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، وَقَدْ وَلِيَ نِيَابَةَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ
لَاجِينَ، ثُمَّ قَفَزَ إِلَى التَّتَرِ خَوْفًا مِنْ لَاجِينَ، ثُمَّ جَاءَ مَعَ
التَّتَرِ، وَكَانَ عَلَى يَدَيْهِ فَرَجُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرْنَا عَامَ
قَازَانَ، ثُمَّ تَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ مَاتَ بِحَلَبَ، ثُمَّ
وَلِيَهَا بَعْدَهُ أَسَنْدَمُرُ، وَمَاتَ أَيْضًا فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ كَرِيمُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ
الْكَرِيمِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآمُلِيُّ، شَيْخُ الشُّيُوخِ بِمِصْرَ، كَانَ لَهُ
وُصْلَةٌ بِالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ عُزِلَ مَرَّةً عَنِ الْمَشْيَخَةِ بِابْنِ
جَمَاعَةَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَابِعِ شَوَّالٍ بِخَانَقَاهْ سَعِيدِ
السُّعَدَاءِ، وَتَوَلَّاهَا بَعْدَهُ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْقُونَوِيُّ
كَمَا تَقَدَّمَ.
الْفَقِيهُ عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الْجَلِيلِ
النِّمْرَاوَيُّ الشَّافِعِيُّ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، وَقَدْ صَحِبَ سَلَّارَ
نَائِبَ مِصْرَ، وَارْتَفَعَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِهِ.
ابْنُ الرِّفْعَةِ، هُوَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، شَارِحُ " التَّنْبِيهِ "، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، كَانَ
فَقِيهًا فَاضِلًا، إِمَامًا فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ. رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا غَيْرَ
الْوَزِيرِ بِمِصْرَ، فَإِنَّهُ عُزِلَ، وَوَلِيَ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ،
وَوَزِيرُ دِمَشْقَ النَّجْمُ الْبُصْرَاوِيُّ عُزِلَ أَيْضًا بِعِزِّ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَقَدِ انْتَقَلَ الْأَفْرَمُ إِلَى نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ
بِإِشَارَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ عَلَى السُّلْطَانِ بِذَلِكَ، وَنَائِبُ حَمَاةَ
الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ عَلَى قَاعِدَةِ
أَسْلَافِهِ فِيهَا، وَقَدْ مَاتَ نَائِبُ حَلَبَ أَسَنْدَمُرُ وَهِيَ شَاغِرَةٌ
عَنْ نَائِبٍ، وَأَرْغُوَنُ الدَّوَادَارُ النَّاصِرِيُّ قَدْ وَصَلَ إِلَى
دِمَشْقَ لِتَسْفِيرِ قَرَاسُنْقُرَ مِنْهَا إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ، وَإِحْضَارِ
سَيْفِ الدِّينِ كِرَايْ إِلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ، وَغَالِبُ الْعَسَاكِرِ
بِحَلَبَ، وَالْأَعْرَابُ مُحْدِقَةٌ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ
قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ مِنْ دِمَشْقَ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ بِجَمِيعِ
حَوَاصِلِهِ، وَحَاشِيَتِهِ، وَأَتْبَاعِهِ، وَخَرَجَ الْجَيْشُ لِتَوْدِيعِهِ،
وَسَارَ مَعَهُ أَرْغُوَنُ لِتَقْرِيرِهِ بِحَلَبَ، وَجَاءَ الْمَرْسُومُ إِلَى
نَائِبِ الْقَلْعَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَهَادُرَ السِّنْجِرِيِّ أَنْ
يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ دِمَشْقَ إِلَى أَنْ يَأْتِيَهَا نَائِبٌ، فَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْوَزِيرُ وَالْمُوَقِّعُونَ، وَبَاشَرَ النِّيَابَةَ، وَقَوِيَتْ
شَوْكَتُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ الْوَزِيرِ إِلَى أَنْ وَلِيَ وِلَايَاتٍ
عَدِيدَةٍ، مِنْهَا لِابْنِ أَخِيهِ عِمَادِ الدِّينِ نَظَرُ الْأَسْرَى،
وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ، وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ كِرَاي الْمَنْصُورِيُّ إِلَى دِمَشْقَ نَائِبًا عَلَيْهَا فِي يَوْمِ
الْخَمِيسِ الْحَادِي عِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَخَرَجَ النَّاسُ
لِتَلَقِّيهِ وَأُوقِدَتِ الشُّمُوعُ،
وَأُعِيدَتِ الْمَقْصُورَةُ
بِالْجَامِعِ إِلَى مَكَانِهَا يَوْمَ الْأَحَدِ رَابِعِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ،
وَانْفَرَجَ النَّاسُ، وَلَبِسَ النَّجْمُ الْبُصْرَاوِيُّ خِلْعَةَ الْإِمْرَةِ
يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْوُزَرَاءِ
بِالطَّرْحَةِ، وَرَكِبَ مَعَ الْمُقَدَّمِينَ الْكِبَارِ وَهُوَ أَمِيرُ عَشَرَةٍ
بِإِقْطَاعٍ يُضَاهِي إِقْطَاعَاتِ كِبَارِ الطَّبْلَخَانَاهْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَلَسَ الْقُضَاةُ
الْأَرْبَعَةُ بِالْجَامِعِ لِإِنْفَاذِ أَمْرِ الشُّهُودِ بِسَبَبِ تَزْوِيرٍ
وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، فَغَضِبَ،
وَأَمَرَ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ كَبِيرُ شَيْءٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ
حَالٌ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وَلِيَ الشَّرِيفُ نَقِيبُ الْأَشْرَافِ أَمِينُ
الدِّينِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدْنَانَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ، عِوَضًا
عَنْ شِهَابِ الدِّينِ الْوَاسِطِيِّ، وَأُعِيدَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ الزَّكِيِّ
إِلَى مَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَلِيَ ابْنُ جَمَاعَةَ تَدْرِيسَ النَّاصِرِيَّةِ
بِالْقَاهِرَةِ، وَضِيَاءُ الدِّينِ النَّشَائِيُّ تَدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ،
وَالْمِيعَادَ الْعَامَّ بِجَامِعِ طُولُونَ وَنَظَرَ الْأَحْبَاسِ أَيْضًا،
وَوَلِيَ الْوِزَارَةَ بِمِصْرَ أَمِينُ الْمُلْكِ أَبُو سَعِيدٍ، عِوَضًا عَنْ
سَيْفِ الدِّينِ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ احْتِيطَ عَلَى الْوَزِيرِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ
الْقَلَانِسِيِّ بِدِمَشْقَ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ، وَكَانَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ كَثِيرَ الْحَنَقِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ،
وَأُعِيدَ
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ إِلَى
الْحُكْمِ بِدِيَارِ مِصْرَ فِي حَادِي عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، مَعَ
تَدْرِيسِ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ، وَجَامِعِ طُولُونَ،
وَالصَّالِحِيَّةِ، وَالنَّاصِرِيَّةِ، وَحَصَلَ لَهُ إِقْبَالٌ كَثِيرٌ مِنَ
السُّلْطَانِ، وَاسْتَقَرَّ جَمَالُ الدِّينِ الزُّرَعِيُّ عَلَى قَضَاءِ
الْعَسْكَرِ وَتَدْرِيسِ جَامِعِ الْحَاكِمِ، وَرُسِمَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَ
الْقُضَاةِ بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ بِدَارِ الْعَدْلِ عِنْدَ
السُّلْطَانِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى أَشْهَدَ الْقَاضِيَ نَجْمُ الدِّينِ
الدِّمَشْقِيُّ نَائِبُ ابْنِ صَصْرَى عَلَى نَفْسِهِ بِالْحُكْمِ بِبُطْلَانِ
الْبَيْعِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي اشْتَرَاهُ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ مِنْ تَرِكَةِ
الْمَنْصُورِ فِي الرَّمْثَا وَالتَّوَّجَةِ وَالْفَضَالِيَّةِ لِكَوْنِهِ بِدُونِ
ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَنَفَّذَهُ بَقِيَّةُ الْحُكَّامِ، وَأُحْضِرَ ابْنُ
الْقَلَانِسِيِّ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَادُّعِيَ عَلَيْهِ بِرَيْعِ ذَلِكَ،
وَرُسِمَ عَلَيْهِ بِهَا، ثُمَّ حَكَمَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ
الْحَنْبَلِيُّ بِصِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ وَبِنَقْضِ مَا حَكَمَ بِهِ
الدِّمَشْقِيُّ، ثُمَّ نَفَّذَ بَقِيَّةُ الْحُكَّامِ مَا حَكَمَ بِهِ
الْحَنْبَلِيُّ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قُرِّرَ عَلَى أَهْلِ دِمَشْقَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ
فَارِسٍ، لِكُلِّ فَارِسٍ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَضُرِبَتْ عَلَى الْأَمْلَاكِ
وَالْأَوْقَافِ، فَتَأَلَّمَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ تَأَلُّمًا عَظِيمًا، وَسَعَوْا
إِلَى الْخَطِيبِ جَلَالِ الدِّينِ، فَسَعَى إِلَى الْقُضَاةِ، وَاجْتَمَعَ
النَّاسُ بُكْرَةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَ الشَّهْرِ، وَاخْتَلَفُوا
فِي الِاجْتِمَاعِ، وَأَخْرَجُوا مَعَهُمُ
الْمُصْحَفَ الْعُثْمَانِيَّ،
وَالْأَثَرَ النَّبَوِيَّ، وَالسَّنَاجِقَ الْخَلِيفَتِيَّةَ، وَوَقَفُوا فِي
الْمَوْكِبِ، فَلَمَّا رَآهُمُ النَّائِبُ تَغَيَّظَ عَلَيْهِمْ، وَشَتَمَ
الْقَاضِي وَالْخَطِيبَ، وَضَرَبَ مَجْدَ الدِّينِ التُّونِسِيَّ، وَرَسَمَ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أَطْلَقَهُمْ بِضَمَانٍ وَكَفَالَةٍ، فَتَأَلَّمَ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ كَثِيرًا، فَلَمْ يُمْهِلْهُ اللَّهُ إِلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَجَاءَهُ
الْأَمْرُ فَجْأَةً، فَعُزِلَ وَحُبِسَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَيُقَالُ: إِنَّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ لَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ
الْخَبَرُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ فَأَخْبَرَ السُّلْطَانَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ مِنْ
فَوْرِهِ، فَمَسَكَهُ شَرَّ مِسْكَةٍ، وَصِفَةُ مَسْكِهِ أَنَّهُ قَدِمَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ الدَّوَادَارُ، فَنَزَلَ الْقَصْرَ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى، خُلِعَ عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ كِرَايْ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ،
فَلَبِسَهَا، وَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ، وَحَضَرَ الْمَوْكِبَ، وَمَدَّ السِّمَاطَ،
فَقَيَّدَهُ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ، وَحُمِلَ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الْكَرَكِ
صُحْبَةَ غُرْلُو الْعَادِلِيِّ، وَبَيْبَرْسَ الْمَجْنُونِ، وَخَرَجَ عِزُّ
الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ مِنَ التَّرْسِيمِ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ،
فَصَلَّى فِي الْجَامِعِ الظُّهْرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِهِ وَقَدْ أُوقِدَتْ
لَهُ الشُّمُوعُ، وَدَعَا لَهُ النَّاسُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دَارِ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةِ، فَجَلَسَ فِيهَا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، حَتَّى قَدِمَ
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ نَائِبُ الْكَرَكِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ مُسِكَ نَائِبُ صَفَدَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
قُطْلُوبَكُ، وَقُيِّدَ وَحُمِلَ إِلَى الْكَرَكِ أَيْضًا، وَمُسِكَ نَائِبُ
مِصْرَ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ أَمِيرُ جَانْدَارَ، وَعُوِّضَ عَنْهُ
بِالْكَرَكِ بَيْبَرْسُ الدَّوَادَارُ الْمَنْصُورِيُّ، وَمُسِكَ نَائِبُ غَزَّةَ،
وَعُوِّضَ عَنْهُ بِالْجَاوِلِيِّ،
فَاجْتَمَعَ فِي حَبْسِ الْكَرَكِ أَسَنْدَمُرُ نَائِبُ حَلَبَ، وَبَكْتَمُرُ
نَائِبُ مِصْرَ، وَكِرَايْ نَائِبُ دِمَشْقَ، وَقُطْلُوبَكْ نَائِبُ صَفَدَ،
وَقُطْلُقْتَمُرُ نَائِبُ غَزَّةَ، وَبَتْخَاصُ، وَقَدِمَ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ
الْمَنْصُورِيُّ - الَّذِي يُقَالُ لَهُ نَائِبُ الْكَرَكِ - عَلَى نِيَابَةِ
دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَتَلَقَّاهُ
النَّاسُ، وَأُشْعِلَتْ لَهُ الشُّمُوعُ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْحَظِيرِيُّ
لِيُقَرِّرَهُ فِي النِّيَابَةِ، وَقَدْ بَاشَرَ نِيَابَةَ الْكَرَكَ مِنْ سَنَةِ
تِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَلَهُ بِهَا
آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَخَرَجَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ لِتَلَقِّي
النَّائِبَ، وَقُرِئَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ كِتَابُ السُّلْطَانِ
عَلَى السُّدَّةِ بِحَضْرَةِ النَّائِبِ وَالْقُضَاةِ، وَالْأَعْيَانِ، وَفِيهِ
الْأَمْرُ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَإِطْلَاقُ الْبَوَاقِي الَّتِي
كَانَتْ قَدْ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ أَيَّامَ كِرَايْ، فَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ
لِلسُّلْطَانِ، وَفَرِحَ النَّاسُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ خُلِعَ عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ بَهَادُرَآصْ بِنِيَابَةِ صَفَدَ، فَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ، وَسَارَ
إِلَيْهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. وَفِيهِ لَبِسَ الصَّدْرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ
أَبِي الْفَوَارِسِ خِلْعَةَ نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ مُشَارِكًا
لِلشَّرِيفِ ابْنِ عَدْنَانَ، وَبَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ قَدِمَ تَقْلِيدُ
عِزِّ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ وَكَالَةَ السُّلْطَانِ عَلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ أُعْفِيَ مِنَ الْوِزَارَةِ لِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ. وَفِي
رَجَبٍ بَاشَرَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ السَّلْعُوسِ نَظَرَ
الْأَوْقَافِ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ
الدِّينِ غِبْرِيَالَ.
وَفِي شَعْبَانَ رَكِبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِنَفْسِهِ إِلَى أَبْوَابِ
السُّجُونِ، فَأَطْلَقَ الْمَحْبُوسِينَ بِنَفْسِهِ، فَتَضَاعَفَتْ لَهُ
الْأَدْعِيَةُ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا، وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَدِمَ
الصَّاحِبُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ مِنْ مِصْرَ، فَاجْتَمَعَ
بِالنَّائِبِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ يَتَضَمَّنُ احْتِرَامَهُ
وَإِكْرَامَهُ وَاسْتِمْرَارَهُ عَلَى وَكَالَةِ السُّلْطَانِ وَنَظَرِ الْخَاصِّ،
وَالْإِنْكَارَ لِمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ لَمْ يَعْلَمْ
بِذَلِكَ وَلَا وَكَلَّ فِيهِ، وَكَانَ الْمُسَاعِدُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كَرِيمَ
الدِّينِ نَاظِرَ الْخَاصِّ السُّلْطَانِيِّ، وَالْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ
أَرْغُوَنَ الدَّوَادَارَ، وَفِي شَعْبَانَ مَنْعَ ابْنُ صَصْرَى الشُّهُودَ
وَالْعُقَّادَ مِنْ جِهَتِهِ، وَامْتَنَعَ غَيْرُهُمْ أَيْضًا، وَرَدَّهُمُ
الْمَالِكِيُّ.
وَفِي رَمَضَانَ جَاءَ الْبَرِيدُ بِتَوْلِيَةِ الْأَمِيرِ زَيْنِ الدِّينِ
كَتْبُغَا الْمَنْصُورِيِّ حُجُوبِيَّةَ الْحُجَّابِ، وَالْأَمِيرِ بَدْرِ
الدِّينِ بَكْتُوتَ الْقَرَمَانِيِّ شَدَّ الدَّوَاوِينِ عِوَضًا عَنْ طُوغَانَ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِمَا مَعًا. وَفِيهَا رَكِبَ بَهَادُرُ السِّنْجِرِيُّ نَائِبُ
قَلْعَةِ دِمَشْقَ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى مِصْرَ، وَتَوَلَّاهَا سَيْفُ الدِّينِ
بَلَبَانُ الْبَدْرِيُّ، ثُمَّ عَادَ السِّنْجِرِيُّ فِي آخِرِ الشَّهْرِ عَلَى
نِيَابَةِ الْبِيرَةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا. وَجَاءَ الْخَبَرُ فِي آخِرِ رَمَضَانَ
بِأَنَّهُ قَدِ احْتِيطَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ
بِبَغْدَادَ، فَقُتِلَ مِنْهُمُ ابْنُ الْعُقَابِ،
وَابْنُ الْبَدْرِ، وَتَخَلَّصَ
عُبَيْدَةُ وَجَاءَ سَالِمًا.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ فِي شَوَّالٍ وَأَمِيرُ الْحَاجِّ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ طَيْبُغَا أَخُو بَهَادُرَآصْ.
وَفِي عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ قَرَاسُنْقُرَ
رَجَعَ مِنْ طَرِيقِ الْحِجَازِ بَعْدَ أَنْ وَصَلَ إِلَى بِرْكَةِ زَيْزَاءَ،
وَأَنَّهُ لِحَقَ بِمُهَنَّا بْنِ عِيسَى، فَاسْتَجَارَ بِهِ خَائِفًا عَلَى
نَفْسِهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ خَوَاصِّهِ، ثُمَّ سَارَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى
التَّتَرِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَصَحِبَهُ الْأَفْرَمُ وَالزَّرَدْكَاشُ.
وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَصَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أَرْغُوَنُ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ تَوَجَّهُوا إِلَى
نَاحِيَةِ حِمْصَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي. وَفِي سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ مِنْ مِصْرَ مُسْتَمِرًّا عَلَى
وَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ بِقَضَاءِ الْعَسْكَرِ
الشَّامِيِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ
وَصَلَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ عَلَيْهِمْ سَيْفُ الدِّينِ قُلِّي مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَتَوَجَّهُوا وَرَاءَ أَصْحَابِهِمْ إِلَى الْبِلَادِ
الشَّمَالِيَّةِ.
وَفِي آخِرِ الشَّهْرِ وَصَلَ شِهَابُ الدِّينِ الْكَاشْغَرِيُّ الشَّرِيفُ مِنَ
الْقَاهِرَةِ وَمَعَهُ تَوْقِيعٌ بِمَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ، فَنَزَلَ الْخَانَقَاهْ
وَبَاشَرَهَا بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ،
وَانْفَصَلَ ابْنُ الزَّكِيِّ عَنْهَا.
وَفِيهَا بَاشَرَ الصَّدْرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ تَاجِ الدِّينِ بْنِ الْأَثِيرِ
كِتَابَةَ السِّرِّ بِمِصْرَ، وَعُزِلَ عَنْهَا شَرَفُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ إِلَى كِتَابَةِ السِّرِّ بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ مُحْيِي
الدِّينِ، وَاسْتَمَرَّ مُحْيِي الدِّينِ عَلَى كِتَابَةِ الدَّسْتِ بِمَعْلُومِهِ
أَيْضًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الرَّئِيسُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ رَئِيسِ الْأَطِبَّاءِ أَبِي
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ طَرْخَانَ الْأَنْصَارِيُّ، مِنْ
سُلَالَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، السُّوَيْدِيِّ، مِنْ سُوَيْدَاءِ حَوْرَانَ،
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَرَعَ فِي الطِّبِّ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
بِبُسْتَانِهِ بِقُرْبِ الشِّبْلِيَّةِ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةٍ لَهُ فِي قُبَّةٍ
فِيهَا عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ شَعْبَانُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْإِرْبِلِيُّ،
شَيْخُ الْحَلَبِيَّةِ بِجَامِعِ بَنِي أُمَيَّةَ، كَانَ صَالِحًا مُبَارَكًا،
فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، كَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَإِيجَادِ الرَّاحَةِ
لِلْفُقَرَاءِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، صُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ بَعْدَ ظُهْرِ يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ عِشْرِينَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ
بِالصُّوفِيَّةِ وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَرَوَى شَيْئًا مِنَ
الْحَدِيثِ، وَخَرَجَتْ لَهُ مَشْيَخَةٌ حَضَرَهَا الْأَكَابِرُ.
وَقَبْلَهُ بِيَوْمٍ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ الْعُرْيَانُ، وَنَائِبُ إِسْكَنْدَرِيَّةَ بَكْتُوتُ أَمِيرُ شِكَارٍ.
الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْعُثْمَانِيُّ، خَادِمُ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ نَحْوًا مِنْ
ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَابِعِ رَمَضَانَ،
وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمِ فِيهِ اعْتِقَادٌ،
وَوَصَلَهُ مِنْهُ افْتِقَادٌ، وَبَلَغَ خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْجَلِيلُ الْقُدْوَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الشَّيْخِ الْقُدْوَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَرْمَوِيُّ، تُوُفِّيَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ وَالصُّدُورُ جِنَازَتَهُ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، ثُمَّ دُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ، وَغُلِقَ
يَوْمَئِذٍ سُوقُ الصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ،
وَشَفَاعَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ، وَفِيهِ تَوَدُّدٌ،
وَجَمَعَ أَجْزَاءً فِي أَخْبَارٍ جَيِّدَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَقَارَبَ
السَّبْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ابْنُ الْوَحِيدِ الْكَاتِبُ، هُوَ
الصَّدْرُ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيفِ بْنِ
يُوسُفَ الزُّرَعِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْوَحِيدِ، كَانَ مُوَقِّعًا
بِالْقَاهِرَةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْإِنْشَاءِ، وَبَلَغَ الْغَايَةَ فِي
الْكِتَابَةِ فِي زَمَانِهِ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَ فَاضِلًا
مِقْدَامًا شُجَاعًا، تُوُفِّيَ بِالْمَارَسْتَانِ الْمَنْصُورِيِّ بِمِصْرَ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ.
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ الدِّينِ حَسَنِ بْنِ
النَّسَائِيِّ، أَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَهُوَ حَاكِمُ الْبُنْدُقِ،
وَلِيَ ذَلِكَ بَعْدَ سَيْفِ الدِّينِ بَلَبَانَ، تُوُفِّيَ فِي الْعَشْرِ
الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ.
التَّمِيمِيُّ الدَّارِيُّ، تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ، وَدُفِنَ
بِالْقَرَافَةِ الصُّغْرَى، وَقَدْ وَلِيَ الْوِزَارَةَ بِمِصْرَ، وَكَانَ
خَبِيرًا كَافِيًا، وَمَاتَ مَعْزُولًا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَسَمِعَ
عَلَيْهِ بَعْضُ الطَّلَبَةِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ جَاءَ الْخَبَرُ
إِلَى دِمَشْقَ بِوَفَاةِ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ أَسَنْدَمُرَ، وَبَتْخَاصَ فِي
السِّجْنِ بِقَلْعَةِ الْكَرَكِ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ سَعْدُ الدِّينِ مَسْعُودٌ
الْحَارِثِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْحَاكِمُ بِمِصْرَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَجَمَعَ
وَخَرَّجَ وَصَنَّفَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ فِي
الْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ، وَشَرَحَ قِطْعَةً مَنْ " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ
"، فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي
خَامِسِ الْمُحَرَّمِ تَوَجَّهَ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ
الزَّرَدْكَاشُ وَأَمِيرَانِ مَعَهُ إِلَى الْأَفْرَمِ، وَسَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ
حَتَّى لَحِقُوا بِقَرَاسُنْقُرَ وَهُوَ عِنْدَ مُهَنَّا، وَكَاتَبُوا
السُّلْطَانَ، ثُمَّ سَارُوا نَحْوَ التَّتَارِ، فَكَانُوا كَالْمُسْتَجِيرِينَ
مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ، وَجَاءَ الْبَرِيدُ فِي صَفَرٍ بِالِاحْتِيَاطِ
عَلَى حَوَاصِلِ الْأَفْرَمِ وَقَرَاسُنْقُرَ وَالزَّرَدْكَاشِ وَجَمِيعِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، وَقَطْعِ خُبْزِ مُهَنَّا، وَجَعْلِ مَكَانَهُ فِي
الْإِمْرَةِ أَخَاهُ مُحَمَّدًا، وَعَادَتِ الْعَسَاكِرُ صُحْبَةَ أَرْغُوَنَ مِنَ
الْبِلَادِ الشَّمَالِيَّةِ، وَقَدْ حَصَلَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ قَرَاسُنْقُرَ
وَأَصْحَابِهِ هَمٌّ وَغَمٌّ وَحُزْنٌ. وَقَدِمَ سَوْدِي مِنْ مِصْرَ عَلَى
نِيَابَةِ حَلَبَ، فَاجْتَازَ بِدِمَشْقَ، فَخَرَجَ النَّاسُ وَالْجَيْشُ
لِتَلَقِّيهِ، وَحَضَرَ السِّمَاطُ، وَقُرِئَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ بِطَلَبِ
الْأَمِيرِ جَمَالِ الدِّينِ نَائِبِ دِمَشْقَ إِلَى مِصْرَ، فَرَكِبَ مِنْ
سَاعَتِهِ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى مِصْرَ، وَتَكَلَّمَ فِي نِيَابَةِ الْغَيْبَةِ
قَرَالَاجِينُ نِيَابَتِهِ لِغَيْبَةِ لَاجِينَ، وَطُلِبَ فِي هَذَا الْيَوْمِ
قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ
شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ نَاظِرُ
الْجَيْشِ إِلَى مِصْرَ، فَرَكِبَ مِنْ آخَرِ النَّهَارِ وَسَارَ إِلَيْهَا،
فَتَوَلَّى بِهَا نَظَرَ الْجُيُوشِ عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ الْكَاتِبِ
كَاتِبِ الْمَمَالِيكِ، بِحُكْمِ عَزْلِهِ، وَمُصَادَرَتِهِ، وَأَخْذِ أَمْوَالِهِ
الْكَثِيرَةِ مِنْهُ فِي عَاشِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَفِي الْحَادِي عَشَرَ مِنْهُ بَاشَرَ الْحُكْمَ لِلْحَنَابِلَةِ بِمِصْرَ
الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعِزِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ عَوَضٍ الْمَقْدِسِيُّ، وَهُوَ ابْنُ بِنْتِ الشَّيْخِ شَمْسِ
الدِّينِ بْنِ الْعِمَادِ أَوَّلِ قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ. وَقَدِمَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ تَمُرُ عَلَى نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ عِوَضًا عَنِ الْأَفْرَمِ،
بِحُكْمِ هَرَبِهِ إِلَى التَّتَرِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مُسِكَ بَيْبَرْسُ الْعَلَائِيُّ نَائِبُ حِمْصَ،
وَبَيْبَرْسُ الْمَجْنُونُ، وَطُوغَانُ، وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنَ الْأُمَرَاءِ،
سِتَّةٌ فِي نَهَارٍ وَاحِدٍ، وَسُيِّرُوا إِلَى الْكَرَكِ مُعْتَقَلِينَ بِهَا.
وَفِيهِ مُسِكَ نَائِبُ مِصْرَ الْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ
الدَّوَادَارُ الْمَنْصُورِيُّ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ أَرْغُوَنُ الدَّوَادَارُ،
وَمُسِكَ نَائِبُ الشَّامِ جَمَالُ الدِّينِ نَائِبُ الْكَرَكِ، وَشَمْسُ الدِّينِ
سُنْقُرُ الْكَمَالِيُّ حَاجِبُ الْحُجَّابِ بِمِصْرَ، وَخَمْسَةُ أُمَرَاءَ
آخَرُونَ، وَحُبِسُوا كُلُّهُمْ بِقَلْعَةِ الْكَرَكِ فِي بُرْجٍ هُنَاكَ. وَفِيهِ
وَقَعَ حَرِيقٌ دَاخِلَ بَابِ السَّلَامَةِ، احْتَرَقَ فِيهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ،
مِنْهَا دَارُ ابْنِ أَبِي الْفَوَارِسِ، وَدَارُ الشَّرِيفِ الْقَبَّانِيِّ.
نِيَابَةُ تَنْكِزَ عَلَى الشَّامِ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ دَخَلَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَالِكِيُّ النَّاصِرِيُّ
نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ، بَعْدَ مَسْكِ نَائِبِ الْكَرَكِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ مِنْهُمُ الْحَاجُّ أَرُقْطَايْ، عَلَى خُبْزِ
بَيْبَرْسَ الْعَلَائِيِّ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ، وَفَرِحُوا بِهِ
كَثِيرًا، وَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَوَقَعَ عِنْدَ قُدُومِهِ مَطَرٌ
عَظِيمٌ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ آبٍ،
وَحَضَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْخُطْبَةَ بِالْمَقْصُورَةِ، وَأُشْعِلَتْ لَهُ
الشُّمُوعُ فِي طَرِيقِهِ، وَجَاءَ تَوْقِيعٌ لِابْنِ صَصْرَى بِإِعَادَةِ قَضَاءِ
الْعَسْكَرِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَنْظُرَ الْأَوْقَافَ فَلَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي
الِاسْتِنَابَةِ فِي الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ
مِنْ قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَجَاءَ مَرْسُومٌ لِشَمْسِ الدِّينِ أَبِي طَالِبِ
بْنِ حُمَيْدٍ بِنَظَرِ الْجَيْشِ عِوَضًا عَنَ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ
بِحُكْمِ إِقَامَتِهِ بِمِصْرَ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ وَصَلَ الصَّدْرُ مُعِينُ
الدِّينِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ حَشِيشٍ نَاظِرُ الْجَيْشِ، وَجُعِلَ ابْنُ حُمَيْدٍ
فِي وَظِيفَةِ ابْنِ الْبَدْرِ، وَسَافَرَ ابْنُ الْبَدْرِ عَلَى نَظَرِ جَيْشِ
طَرَابُلُسَ، وَتَوَلَّى أَرْغُوَنُ نِيَابَةَ مِصْرَ، وَعَادَ فَخْرُ الدِّينِ
كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ إِلَى وَظِيفَتِهِ مَعَ اسْتِمْرَارِ قُطْبِ الدِّينِ بْنِ
شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ أَيْضًا مُبَاشِرًا مَعَهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَامَ الشَّيْخُ
مُحَمَّدُ بْنُ قَوَامٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَى ابْنِ زُهْرَةَ
الْمَغْرِبِيِّ الَّذِي كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَّاسَةِ، وَكَتَبُوا عَلَيْهِ
مَحَاضِرَ تَتَضَمَّنُ اسْتِهَانَتَهُ بِالْمُصْحَفِ، وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي
أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأُحْضِرَ إِلَى دَارِ الْعَدْلِ، فَاسْتَسْلَمَ وَحُقِنَ
دَمُهُ، وَعُزِّرَ تَعْزِيرًا بَلِيغًا عَنِيفًا، وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ
بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ وَهُوَ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ، وَوَجْهُهُ مَقْلُوبٌ،
وَظَهْرُهُ مَضْرُوبٌ، يُنَادَى عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي
الْعِلْمِ بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ. ثُمَّ حُبِسَ وَأُطْلِقَ، فَهَرَبَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ عَادَ عَلَى الْبَرِيدِ فِي شَعْبَانَ، وَرَجَعَ إِلَى مَا
كَانَ عَلَيْهِ.
وَفِيهِ قَدِمَ بَهَادُرُآصْ مِنْ نِيَابَةِ صَفَدَ إِلَى دِمَشْقَ وَهَنَّأَهُ
النَّاسُ. وَفِيهِ قَدِمَ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى دِمَشْقَ أَنْ لَا
يُوَلَّى أَحَدٌ بِمَالٍ وَلَا بِرِشْوَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى وِلَايَةِ
مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةِ، وَإِلَى وِلَايَةِ غَيْرِ الْأَهْلِ،
فَقَرَأَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ عَلَى السُّدَّةِ، وَبَلَّغَهُ عَنْهُ ابْنُ
صَبِيحٍ الْمُؤَذِّنُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ
تَيْمِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ حَصَلَ لِلنَّاسِ خَوْفٌ بِدِمَشْقَ بِسَبَبِ أَنَّ
التَّتَرَ قَدْ تَحَرَّكُوا لِلْمَجِيءِ إِلَى الشَّامِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ
مِنْ ذَلِكَ وَخَافُوا، وَتَحَوَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الْبَلَدِ،
وَازْدَحَمُوا فِي الْأَبْوَابِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَثُرَتِ
الْأَرَاجِيفُ بِأَنَّهُمْ قَدْ وَصَلُوا إِلَى الرَّحْبَةِ، وَكَذَلِكَ جَرَى،
وَاشْتَهَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ قَرَاسُنْقُرَ وَذَوِيهِ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِي رَمَضَانَ جَاءَ كِتَابُ
السُّلْطَانِ أَنَّ مَنْ قَتَلَ لَا يَجْنِي أَحَدٌ عَلَيْهِ، بَلْ يُتَبَّعُ
الْقَاتِلُ حَتَّى يُقْتَصَّ مِنْهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، فَقَرَأَهُ
ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ عَلَى السُّدَّةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
تَنْكِزَ، وَسَبَبُهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، هُوَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَبِالْكِتَابِ
الْأَوَّلِ قَبْلَهُ.
وَفِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَصَلَ التَّتَرُ إِلَى الرَّحْبَةِ فَحَاصَرُوهَا
عِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُوسَى
الْأُزْكُشِيُّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ قِتَالًا عَظِيمًا، وَمَنْعَهُمْ مِنْهَا،
فَأَشَارَ رَشِيدُ الدَّوْلَةِ بِأَنْ يَنْزِلُوا إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ
خَرْبَنْدَا، وَيُهْدُوا لَهُ هَدِيَّةً، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ الْعَفْوَ،
فَنَزَلَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ إِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ، وَأَهْدَوْا لَهُ
خَمْسَةَ رُءُوسِ خَيْلٍ وَعَشَرَةَ أَبَالِيجَ سُكَّرٍ، فَقَبِلَ ذَلِكَ وَرَجَعَ
إِلَى بِلَادِهِ، وَكَانَتْ بِلَادُ حَلَبَ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ قَدْ أُجْلُوْا
مِنْهَا، وَخَرِبَ أَكْثَرُهَا، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهَا لَمَّا تَحَقَّقُوا
رُجُوعَ التَّتَرِ عَنِ الرَّحْبَةِ، وَطَابَتِ الْأَخْبَارُ، وَسَكَنَتِ
النُّفُوسُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَتَرَكَتِ الْأَئِمَّةُ الْقُنُوتَ،
وَخَطَبَ الْخَطِيبُ يَوْمَ الْعِيدِ، وَذَكَّرَ النَّاسَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ رُجُوعِ التَّتَرِ قِلَّةَ الْعَلَفِ، وَغَلَاءَ الْأَسْعَارِ،
وَمَوْتَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَأَشَارَ عَلَى سُلْطَانِهِمْ بِالرُّجُوعِ:
الرَّشِيدُ وَجُوبَانُ.
وَفِي ثَامِنِ شَوَّالٍ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ بِسَبَبِ خُرُوجِ
السُّلْطَانِ مِنْ مِصْرَ لِأَجْلِ مُلَاقَاةِ التَّتَرِ، وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي
نِصْفِ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُمْ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ الصَّغِيرُ، الَّذِي
كَانَ وَالِيَ الْبَرِّ، وَقَدِمَتِ الْعَسَاكِرُ الْمَنْصُورَةُ الْمِصْرِيَّةُ
أَرْسَالًا، وَكَانَ قُدُومُ السُّلْطَانِ وَدُخُولُهُ دِمَشْقَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ
وَاحْتَفَلَ النَّاسُ لِدُخُولِهِ، فَنَزَلَ بِالْقَلْعَةِ وَقَدْ زُيِّنَ الْبَلَدُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ لَيْلَتِئِذٍ إِلَى الْقَصْرِ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْجَامِعِ بِالْمَقْصُورَةِ، وَخَلَعَ عَلَى الْخَطِيبِ، وَجَلَسَ فِي دَارِ الْعَدْلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدِمَ وَزِيرُهُ أَمِينُ الْمُلْكِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عِشْرِينَ الشَّهْرِ، وَقَدِمَ صُحْبَةَ السُّلْطَانِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَتْ غَيْبَتُهُ عَنْهَا سَبْعَ سِنِينَ كَوَامِلَ، وَمَعَهُ أَخَوَاهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ خَلْقٌ كَثِيرٌ لِتَلَقِّيهِ، وَسُرُّوا بِقُدُومِهِ وَعَافِيَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ، وَاسْتَبْشَرُوا بِهِ حَتَّى خَرَجَ خَلْقٌ مِنَ النِّسَاءِ أَيْضًا لِرُؤْيَتِهِ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ صَحِبَهُ مَعَهُ مِنْ مِصْرَ، فَخَرَجَ مَعَهُ بِنِيَّةِ الْغَزَاةِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَدَمَ الْغَزَاةِ وَأَنَّ التَّتَرَ رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ فَارَقَ الْجَيْشَ مِنْ غَزَّةَ، وَزَارَ الْقُدْسَ، وَأَقَامَ بِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ سَافَرَ عَلَى عَجْلُونَ وَبِلَادِ السَّوَادِ وَزُرَعَ، وَوَصَلَ دِمَشْقَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَدَخَلَهَا فَوَجَدَ السُّلْطَانَ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ فِي أَرْبَعِينَ أَمِيرًا مِنْ خَوَاصِّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّيْخَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى دِمَشْقَ وَاسْتِقْرَارِهِ بِهَا لَمْ يَزَلْ مُلَازِمًا لِاشْتِغَالِ النَّاسِ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ، وَنَشْرِ الْعِلْمِ، وَتَصْنِيفِ الْكُتُبِ، وَإِفْتَاءِ النَّاسِ بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابَةِ الْمُطَوِّلَةِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ يُفْتِي بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ مِنْ مُوَافَقَةِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَفِي بَعْضِهَا يُفْتِي بِخِلَافِهِمْ وَبِخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، وَلَهُ اخْتِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ مُجَلَّدَاتٌ عَدِيدَةٌ، أَفْتَى فِيهَا بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ. فَلَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ إِلَى الْحَجِّ فَرَّقَ الْعَسَاكِرَ وَالْجُيُوشَ بِالشَّامِ، وَتَرَكَ أَرْغُوَنَ بِدِمَشْقَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لَبِسَ
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ خِلْعَةَ وَكَالَةِ بَيْتِ
الْمَالِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ الشَّرِيشِيِّ، وَحَضَرَ بِهَا الشُّبَّاكَ،
وَتَكَلَّمَ الْوَزِيرُ أَمِينُ الْمُلْكِ فِي الْبَلَدِ، وَطَلَبَ مِنَ النَّاسِ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَصَادَرَ، وَضَرَبَ، بِالْمَقَارِعِ، وَأَهَانَ جَمَاعَةً
مِنَ الرُّؤَسَاءِ، مِنْهُمُ الصَّدْرُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ.
وَفِيهِ عُيِّنَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ لِتَدْرِيسِ الصَّلَاحِيَّةِ
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ عِوَضًا عَنْ نَجْمِ الدِّينِ دَاوُدَ الْكُرْدِيِّ،
تُوُفِّيَ، وَقَدْ كَانَ مُدَرِّسًا بِهَا مِنْ نَحْوِ ثَلَاثِينَ سَنَةً،
فَسَافَرَ ابْنُ جَهْبَلٍ إِلَى الْقُدْسِ بَعْدَ عِيدِ الْأَضْحَى.
وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ دَسْتِ الْقَفْجَاقِ الْمُسَمَّى طُقْطَايْ خَانْ، وَكَانَ
لَهُ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، عَلَى دِينِ التَّتَرِ فِي
عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَالْكَوَاكِبِ، يُعَظِّمُ الْمُجَسِّمَةَ،
وَالْحُكَمَاءَ، وَالْأَطِبَّاءَ، وَيُكْرِمُ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ
جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، كَانَ جَيْشُهُ هَائِلًا، لَا يَجْسُرُ أَحَدٌ عَلَى
قِتَالِهِ لِكَثْرَةِ جَيْشِهِ، وَقُوَّتِهِمْ، وَعَدَدِهِمْ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ جَرَّدَ مَرَّةً
تَجْرِيدَةً مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ جَيْشِهِ وَاحِدًا، فَبَلَغَتِ
التَّجْرِيدَةُ مِائَتَيْ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُ أَخِيهِ
أُزْبَكْ خَانْ، وَكَانَ مُسْلِمًا، فَأَظْهَرَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِبِلَادِهِ،
وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أُمَرَاءِ الْكَفَرَةِ، وَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ
الْمُحَمَّدِيَّةُ عَلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ هُنَاكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ صَاحِبُ مَارِدِينَ، وَهُوَ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو
الْفَتْحِ غَازِي بْنُ الْمُظَفَّرِ قَرَا أَرْسَلَانَ بْنِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ
نَجْمِ الدِّينِ غَازِيِ بْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ نَاصِرِ الدِّينِ أُرْتُقَ
بْنِ غَازِي بْنِ أَلْبِي بْنِ تَمُرْتَاشَ بْنِ غَازِي بْنِ أُرْتُقَ
الْأَرْتَقِيُّ صَاحِبُ مَارِدِينَ مِنْ عِدَّةِ سِنِينَ، كَانَ شَيْخًا حَسَنًا
مَهِيبًا، كَامِلَ الْخِلْقَةِ، بَدِينًا سَمِينًا، إِذَا رَكِبَ يَكُونُ خَلْفَهُ
مِحَفَّةٌ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَمَسَّهُ لُغُوبٌ فَيَرْكَبَ فِيهَا، تُوُفِّيَ فِي
تَاسِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ فِي مَدْرَسَتِهِ تَحْتَ الْقَلْعَةِ، وَقَدْ
بَلَغَ مِنَ الْعُمْرِ فَوْقَ السَّبْعِينَ، وَمَكَثَ فِي الْمُلْكِ قَرِيبًا مِنْ
عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ فِي الْمُلْكِ وَلَدُهُ الْعَادِلُ
عَلِيٌّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ مَلَكَ أَخُوهُ الصَّالِحُ بْنُ
الْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ قُطْلُوبَكُ الشَّيْخِيُّ، كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ الْكِبَارِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
هَارُونَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُمَيْدٍ الثَّعْلَبِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ، قَارِئُ الْحَدِيثِ بِالْقَاهِرَةِ وَمُسْنِدُهَا، رَوَى عَنِ
ابْنِ الزَّبِيدِيِّ، وَابْنِ اللَّتِّيِّ، وَجَعْفَرٍ الْهَمَذَانِيِّ، وَابْنِ
الشِّيرَازِيِّ، وَخَلْقٍ، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ
الدِّينِ السُّبْكِيُّ مَشْيَخَةً، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ
الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ هَائِلَةً
حَافِلَةً.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ شِهَابُ الدِّينِ غَازِي بْنُ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ دَاوُدَ بْنِ الْمُعَظَّمِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ
رَجُلًا مُتَوَاضِعًا، تُوُفِّيَ بِمِصْرَ ثَانِيَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِالْقَاهِرَةِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ حَازِمٍ الْأَذْرَعِيُّ
الْحَنَفِيُّ، كَانَ بَارِعًا فَاضِلًا، دَرَّسَ وَأَفْتَى، وَوَلِيَ
قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ سَنَةً ثُمَّ عُزِلَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَدْرِيسِ الشِّبْلِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِسَعِيدِ السُّعَدَاءِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي عِشْرِينَ رَجَبٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمْ هُمْ، وَالسُّلْطَانُ فِي الْحِجَازِ لَمْ
يَقْدَمْ بَعْدُ، وَقَدْ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قِجْلِيسُ يَوْمَ
السَّبْتِ مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ مِنَ الْحِجَازِ، وَأَخْبَرَ بِسَلَامَةِ
السُّلْطَانِ، وَأَنَّهُ فَارَقَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَأَنَّهُ
قَدْ قَارَبَ الْبِلَادَ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فَرَحًا بِسَلَامَتِهِ، ثُمَّ
جَاءَ الْبَرِيدُ فَأَخْبَرَ بِدُخُولِهِ إِلَى الْكَرَكِ ثَانِيَ الْمُحَرَّمِ
يَوْمَ الْأَحَدِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ حَادِيَ عَشَرَ
الْمُحَرَّمِ دَخَلَ دِمَشْقَ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِتَلَقِّيهِ عَلَى الْعَادَةِ،
وَقَدْ رَأَيْتُهُ مَرْجِعَهُ مِنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى شَفَتِهِ وَرَقَةٌ
قَدْ أَلْصَقَهَا عَلَيْهَا، فَنَزَلَ بِالْقَصْرِ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ رَابِعَ
عَشَرَ الْمُحَرَّمِ بِمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ، وَكَذَلِكَ الْجُمُعَةُ الَّتِي
تَلِيهَا، وَلَعِبَ فِي الْمَيْدَانِ بِالْكُرَةِ يَوْمَ السَّبْتِ النِّصْفِ مِنَ
الْمُحَرَّمِ، وَوَلَّى نَظَرَ الدَّوَاوِينِ لِلصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ
غِبْرِيَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَشَدَّ الدَّوَاوِينِ
لِفَخْرِ الدِّينِ أَيَاسٍ الْأَعْسَرِيِّ عِوَضًا عَنِ الْقَرَمَانِيِّ،
وَسَافَرَ الْقَرَمَانِيُّ إِلَى نِيَابَةِ الرَّحْبَةِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا
وَعَلَى وَزِيرِهِ، وَخَلَعَ عَلَى ابْنِ صَصْرَى، وَعَلَى الْفَخْرِ كَاتِبِ
الْمَمَالِيكِ، وَكَانَ مَعَ السُّلْطَانِ فِي الْحَجِّ، وَوَلَّى شَرَفَ الدِّينِ
بْنَ
صَصْرَى حِجَابَةَ الدِّيوَانِ،
وَبَاشَرَ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ نَظَرَ الْجَامِعِ،
وَبَاشَرَ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ عُلَيْمَةَ نَظَرَ الْأَوْقَافِ،
وَالْمَنْكُورَسِيُّ شَدَّ الْأَوْقَافِ.
وَتَوَجَّهَ السُّلْطَانُ رَاجِعًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بُكْرَةَ
الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَتَقَدَّمَتِ
الْجُيُوشُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَعَهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ اجْتَازَ عَلَى الْبَرِيدِ فِي الرُّسْلِيَّةِ إِلَى
مُهَنَّا الشَّيْخُ صَدَرُ الدِّينِ بْنُ الْوَكِيلِ، وَمُوسَى بْنُ مُهَنَّا،
وَالْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَلْطُنْبُغَا، فَاجْتَمَعُوا بِهِ فِي تَدْمُرَ،
ثُمَّ عَادَ أَلْطُنْبُغَا وَابْنُ الْوَكِيلِ إِلَى الْقَاهِرَةِ، ثُمَّ عَادَ
صَدْرُ الدِّينِ إِلَى مُهَنَّا، وَرَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ فِي رَجَبٍ إِلَى
الْقَاهِرَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مُسِكَ أَمِينُ الْمُلْكِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْكُتَّابِ مَعَهُ، وَصُودِرُوا بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَأُقِيمُ عِوَضَهُ
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ التُّرْكُمَانِيِّ الَّذِي كَانَ وَالِيَ الْبَحَرِيَّةِ.
وَفِي رَجَبٍ كَمَلَتْ أَرْبَعَةُ مَجَانِيقَ، وَاحِدٌ لِقَلْعَةِ دِمَشْقَ،
وَثَلَاثَةٌ تُحْمَلُ إِلَى الْكَرَكِ، وَرُمِيَ بِاثْنَيْنِ عَلَى بَابِ
الْمَيْدَانِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزُ وَالْعَامَّةُ. وَفِي
شَعْبَانَ تَكَامَلَ حَفْرُ النَّهْرِ الَّذِي عَمِلَهُ سَوْدِي نَائِبُ حَلَبَ
بِهَا، وَكَانَ طُولُهُ مِنْ نَهْرِ السَّاجُورِ إِلَى نَهْرِ قُوَيْقٍ
أَرْبَعِينَ أَلْفَ ذِرَاعٍ فِي عَرْضِ ذِرَاعَيْنِ وَعُمْقِ ذِرَاعَيْنِ،
وَغُرِمَ عَلَيْهِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَعَمِلَ بِالْعَدْلِ وَلَمْ
يَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَامِنِ
شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ مِنْ دِمَشْقَ وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ
التَّتَرِيُّ، وَحَجَّ صَاحِبُ حَمَاةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَخَلْقٌ مِنَ
الرُّومِ وَالْغُرَبَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ
الْقَاضِيَ قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ مِنْ مِصْرَ عَلَى
نَظَرِ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَاحَ مُعِينُ
الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ إِلَى مِصْرَ فِي رَمَضَانَ صُحْبَةَ الصَّاحِبِ شَمْسِ
الدِّينِ غِبْرِيَالَ، وَبَعْدَ وُصُولِ نَاظِرِ الْجُيُوشِ بِيَوْمَيْنِ وَصَلَتِ
الْمَنَاشِيرُ بِمُقْتَضَى إِرَاكَةِ الْإِقْطَاعَاتِ الشَّامِيَّةِ عَلَى مَا
رَآهُ السُّلْطَانُ بَعْدَ نَظَرِهِ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ
التَّوْزَرِيُّ، بِمَكَّةَ يَوْمَ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَقَدْ سَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَأَجَازَهُ خَلْقٌ يَزِيدُونَ عَلَى أَلْفِ شَيْخٍ، وَقَرَأَ
الْكُتُبَ الْكِبَارَ وَغَيْرَهَا، وَقَرَأَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ "
أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ مَرَّةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَدْلِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ
بْنِ إِلْيَاسَ الرَّهَاوِيُّ، كَانَ يُبَاشِرُ اسْتِيفَاءَ الْأَوْقَافِ وَغَيْرَ
ذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَمِينِ الْمُلْكِ، فَلَمَّا مُسِكَ بِمِصْرَ،
أُرْسِلَ إِلَى هَذَا وَهُوَ مُعْتَقَلٌ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ لِيَحْضُرَ عَلَى
الْبَرِيدِ، فَمَرِضَ، فَمَاتَ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَذْرَاوِيَّةِ لَيْلَةَ
الْخَمِيسِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ
خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طَبَرْزَدَ
وَالْكِنْدِيِّ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَتَرَكَ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدَيْنِ ذَكَرَيْنِ: جَمَالُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ، وَعِزُّ الدِّينِ.
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمُقْرِئُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمِقَصَّاتِيُّ، هُوَ أَبُو
بَكْرِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْمُشَيِّعُ الْجَزَرِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِالْمِقَصَّاتِيِّ، نَائِبُ الْخَطَابَةِ، وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ
الْقِرَاءَاتِ مِنْ نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً بِالْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَكَانَ شَيْخًا عَارِفًا بِالْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الشَّوَاذِّ، وَلَهُ إِلْمَامٌ بِالنَّحْوِ، وَفِيهِ وَرَعٌ وَاجْتِهَادٌ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ حَادِي عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ تُجَاهَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمْ هُمْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا الْوَزِيرَ
أَمِينَ الْمُلْكِ، فَمَكَانَهَ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ التُّرْكُمَانِيِّ. وَفِي
رَابِعِ الْمُحَرَّمِ عَادَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ مِنْ مِصْرَ
عَلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ، وَتَلَقَّاهُ أَصْحَابُهُ.
وَفِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ عَلَى
السُّدَّةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ،
يَتَضَمَّنُ إِطْلَاقَ الْبَوَاقِي مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى آخِرِ سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ،
فَتَضَاعَفَتِ الْأَدْعِيَةُ لِلسُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقَارِئُ جَمَالَ الدِّينِ
بْنَ الْقَلَانِسِيِّ، وَمُبَلِّغُهُ بَدْرَ الدِّينِ بْنَ صَبِيحٍ الْمُؤَذِّنُ،
ثُمَّ قُرِئَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى مَرْسُومٌ آخَرُ، فِيهِ الْإِفْرَاجُ عَنِ
الْمَسْجُونِينَ، وَأَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ سِوَى نِصْفِ دِرْهَمٍ،
وَمَرْسُومٌ آخَرُ فِيهِ إِطْلَاقُ السُّخَّرِ وَالْقَصَبِ وَغَيْرِهِ عَنِ
الْفَلَّاحِينَ، قَرَأَهُ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَبَلَّغَهُ عَنْهُ أَمِينُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُؤَذِّنِ النَّجِيبِيِّ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ اسْتَحْضَرَ
السُّلْطَانُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ الْفَقِيهَ نُورَ الدِّينِ عَلِيًّا
الْبَكْرِيَّ، وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَشَفَعَ فِيهِ الْأُمَرَاءُ، فَنَفَاهُ
وَمَنَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي الْفَتْوَى وَالْعِلْمِ، وَكَانَ قَدْ هَرَبَ
لَمَّا طُلِبَ مِنْ جِهَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ،
فَهَرَبَ وَاخْتَفَى، وَشَفَعَ فِيهِ أَيْضًا، ثُمَّ لَمَّا ظَفِرَ بِهِ
السُّلْطَانُ الْآنَ وَأَرَادَ قَتْلَهُ شَفَعَ فِيهِ الْأُمَرَاءُ، فَنَفَاهُ
وَمَنَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ وَالْفَتْوَى، وَذَلِكَ لِاجْتِرَائِهِ وَتَسَرُّعِهِ
عَلَى التَّكْفِيرِ وَالْقَتْلِ، وَالْجَهْلِ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذَا
وَغَيْرِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ قَرَأَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ
كِتَابًا سُلْطَانِيًّا عَلَى السُّدَّةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السُّلْطَانِ
الْقَاضِي، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِإِطْلَاقِ ضَمَانِ الْقَوَّاسِينَ، وَضَمَانِ
النَّبِيذِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَدَعَا النَّاسُ لِلسُّلْطَانِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ بِالْجَامِعِ لِلنَّظَرِ
فِي أَمْرِ الشُّهُودِ، وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَأَنْ
لَا يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مَرْكَزَيْنِ، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّوْا ثَبَاتَ
الْكُتُبِ، وَلَا يَأْخُذُوا أَجْرًا عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَأَنْ لَا
يَغْتَابُوا أَحَدًا، وَأَنْ يَتَنَاصَفُوا فِي الْمَعِيشَةِ، ثُمَّ جَلَسُوا
مَرَّةً ثَانِيَةً لِذَلِكَ، وَتَوَاعَدُوا ثَالِثَةً، فَلَمْ يَتَّفِقِ
اجْتِمَاعُهُمْ، وَلَمْ يُقْطَعْ أَحَدٌ مِنْ مَرْكَزِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ عُقِدَ مَجْلِسٌ
فِي دَارِ ابْنِ صَصْرَى لِبَدْرِ الدِّينِ بْنِ بَصْخَانَ، وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، فَالْتَزَمَ بِتَرْكِ الْإِقْرَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ،
ثُمَّ اسْتَأْذَنَ بَعْدَ أَيَّامٍ فِي الْإِقْرَاءِ، فَأُذِنَ لَهُ، فَجَلَسَ
بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِالْجَامِعِ، وَصَارَتْ لَهُ حَلْقَةٌ عَلَى
الْعَادَةِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ رَجَبٍ تُوُفِّيَ
نَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَوْدِي، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ،
وَوَلِيَ مَكَانَهُ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَلْطُنْبُغَا الصَّالِحِيُّ
الْحَاجِبُ بِمِصْرَ قَبْلَ هَذِهِ النِّيَابَةِ.
وَفِي تَاسِعِ شَعْبَانَ خُلِعَ عَلَى الشَّرِيفِ شَرَفِ الدِّينِ عَدْنَانَ
بِنِقَابَةِ الْأَشْرَافِ، بَعْدَ وَالِدِهِ أَمِينِ الدِّينِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَدْنَانَ الْحُسَيْنِيِّ، بِحُكْمِ وَفَاةِ أَبِيهِ فِي الشَّهْرِ
الْمَاضِي، وَقَدْ كَانَ رَئِيسًا كَبِيرًا.
وَفِي خَامِسِ شَوَّالٍ دُفِنَ الْمَلِكُ شَمْسُ الدِّينِ دُوبَاجُ بْنُ
مَلِكْشَاهْ بْنِ رُسْتَمَ صَاحِبُ كَيْلَانَ بِتُرْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَ قَدْ قَصَدَ الْحَجَّ فِي هَذَا الْعَامِ، فَلَمَّا
كَانَ بِغَبَاغِبَ أَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ السَّادِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَحُمِلَ إِلَى دِمَشْقَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ،
وَدُفِنَ فِي هَذِهِ التُّرْبَةِ، اشْتُرِيَتْ لَهُ وَتُمِّمَتْ، وَجَاءَتْ
حَسَنَةً، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ الْمُكَارِيَّةِ شَرْقِيَّ الْجَامِعِ
الْمُظَفَّرِيِّ، وَكَانَ لَهُ فِي مَمْلَكَةِ كَيْلَانَ خَمْسٌ وَعِشْرِينَ
سَنَةً، وَعُمِّرَ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ
جَمَاعَةٌ، فَفُعِلَ ذَلِكَ. وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي ثَالِثِ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ سُنْقُرُ الْإِبْرَاهِيمِيُّ، وَقَاضِيهِ مُحْيِي
الدِّينِ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِ ذِي الْقَعْدَةِ قَدِمَ الْقَاضِي بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ الْحَدَّادِ مِنَ الْقَاهِرَةِ مُتَوَلِّيًا حِسْبَةَ دِمَشْقَ،
فَخُلِعَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ
سُلَيْمَانَ الْبُصْرَاوِيِّ، عُزِلَ،
فَسَافَرَ سَرِيعًا إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِيَشْتَرِيَ خَيْلًا لِلسُّلْطَانِ
يُقَدِّمُهَا رِشْوَةً عَلَى الْمَنْصِبِ الْمَذْكُورِ، فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي
الْبَرِّيَّةِ فِي سَابِعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَحُمِلَ إِلَى
بُصْرَى، فَدُفِنَ بِهَا عِنْدَ أَجْدَادِهِ فِي ثَامِنِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ
شَابًّا كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الشَّكْلِ.
وَفِي أَوَاخِرِهِ مُسِكَ نَائِبُ صَفَدَ بَلَبَانُ طُرْنَا الْمَنْصُورِيُّ
وَسُجِنَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ الْبَدْرِيُّ.
وَفِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ بَاشَرَ وِلَايَةَ الْبَرِّ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مَعْبَدٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ عِوَضًا عَنْ
شَرَفِ الدِّينِ عِيسَى بْنِ الْبُرْطَاسِيِّ. وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى
وَصَلَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ مِنْ مِصْرَ، وَقَدْ أُفْرِجَ
عَنْهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ، وَفَرِحُوا بِهِ، وَهَنَّئُوهُ
بِالسَّلَامَةِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُعِيدَ أَمِينُ الْمُلْكِ إِلَى نَظَرِ
النُّظَّارِ بِمِصْرَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَعَلَى الصَّاحِبِ ضِيَاءِ الدِّينِ
النَّشَائِيِّ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ عِوَضًا عَنْ سَعْدِ الدِّينِ حَسَنِ بْنِ
الْأَقْفَهْسِيِّ.
وَفِيهِ وَرَدَتِ الْبَرِيدِيَّةُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ لِلْجُيُوشِ
الشَّامِيَّةِ بِالْمَسِيرِ إِلَى حَلَبَ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَدَّمُ الْعَسَاكِرِ
كُلِّهَا تَنْكِزَ نَائِبَ الشَّامِ، وَقَدِمَ مِنْ مِصْرَ سِتَّةُ آلَافِ
مُقَاتِلٍ، عَلَيْهِمُ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ الْأَبُوبَكْرِيُّ، وَفِيهِمْ قِجْلِيسُ، وَبَدْرُ
الدِّينِ الْوَزِيرِيُّ، وَكِشْلِي، وَابْنُ طَيْبَرْسَ، وَسَاطِي، وَابْنُ
سَلَّارَ، وَغَيْرُهُمْ، فَتَقَدَّمُوا إِلَى الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ بَيْنَ
يَدَيْ نَائِبِ الشَّامِ تَنْكِزَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَوْدِي، نَائِبُ حَلَبَ، فِي رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي
أَجْرَى فِيهَا نَهْرًا غَرِمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ
مَشْكُورَ السِّيرَةِ، حَمِيدَ الطَّرِيقَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي شَعْبَانَ تُوُفِّيَ الصَّاحِبُ شَرَفُ الدِّينِ يَعْقُوبُ بْنُ مُزْهِرٍ،
وَكَانَ بَارًّا بِأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ أَبُو الْفِدَاءِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْقُرَشِيُّ الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ، كَانَ مِنْ
أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُفْتِينَ، وَلَدَيْهِ عُلُومٌ شَتَّى، وَفَوَائِدُ،
وَفَرَائِدُ، وَعِنْدَهُ زُهْدٌ
وَانْقِطَاعٌ عَنِ النَّاسِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالْبَلْخِيَّةِ مُدَّةً ثُمَّ
تَرَكَهَا لِوَلَدِهِ، وَسَارَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَقَدْ عُرِضَ
عَلَيْهِ قَضَاءُ دِمَشْقَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ مِنَ
الْعُمْرِ، تُوُفِّيَ سَحَرَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ رَجَبٍ، وَدُفِنَ
بِالْقَرَافَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ التُّرْكُمَانِيُّ الْمُوَلَّهُ،
الَّذِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَى مِصْطَبَةٍ بِالْعَلَبِيِّينَ، وَكَانَ قَبْلَ
ذَلِكَ مُقِيمًا بِطَهَّارَةِ بَابِ الْبَرِيدِ، وَكَانَ لَا يَتَحَاشَى مِنَ
النَّجَاسَاتِ وَلَا يَتَّقِيهَا، وَلَا يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ وَلَا يَأْتِيهَا،
وَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ مِنَ الْهَمَجِ لَهُ فِيهِ عَقِيدَةٌ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ
الْهَمَجِ الرَّعَاعِ الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ مِنَ
الْمُوَلَّهِينَ وَالْمَجَانِينِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُكَاشِفُ، وَأَنَّهُ
رَجُلٌ صَالِحٌ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ فِي يَوْمٍ كَثِيرِ الثَّلْجِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ تُوُفِّيَتِ الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ الْعَابِدَةُ
النَّاسِكَةُ أُمُّ زَيْنَبَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبَّاسِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيَّةُ، بِظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ، وَشَهِدَهَا خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَكَانَتْ مِنَ الْعَالِمَاتِ الْفَاضِلَاتِ، تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ،
وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَقُومُ
عَلَى الْأَحْمَدِيَّةِ فِي مُؤَاخَاتِهِمُ النِّسَاءَ وَالْمُرْدَانَ، وَتُنْكِرُ أَحْوَالَهُمْ وَأَحْوَالَ أَهْلِ الْبِدَعِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْضُرُ مَجْلِسَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَاسْتَفَادَتْ مِنْهُ ذَلِكَ وَغَيْرَهُ، وَقَدْ سَمِعْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ يُثْنِي عَلَيْهَا، وَيَصِفُهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْعِلْمِ، وَيَذْكُرُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَحْضِرُ كَثِيرًا مِنَ " الْمُغْنِي " أَوْ أَكْثَرَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِدُّ لَهَا مِنْ كَثْرَةِ مَسَائِلِهَا، وَحُسْنِ سُؤَالَاتِهَا، وَسُرْعَةِ فَهْمِهَا، وَهِيَ الَّتِي خَتَّمَتْ نِسَاءً كَثِيرًا الْقُرْآنَ، مِنْهُنَّ أُمُّ زَوْجَتِي عَائِشَةُ بِنْتُ صِدِّيقٍ، زَوْجَةُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ، وَهِيَ الَّتِي أَقَرَأَتِ ابْنَتَهَا زَوْجَتِي أَمَةَ الرَّحِيمِ زَيْنَبَ، رَحِمَهُنَّ اللَّهُ، وَأَكْرَمَهُنَّ بِرَحْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ، آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ فِي الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا.
فَتْحُ مَلَطْيَةَ
فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ خَرَجَ سَيْفُ الدِّينِ
تَنْكِزُ بِالْجُيُوشِ قَاصِدًا مَلَطْيَةَ، وَخَرَجَتِ الْأَطْلَابُ عَلَى
رَايَاتِهَا، وَأَبْرَزُوا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُدَدِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخَرَجَ مَعَ الْجَيْشِ ابْنُ صَصْرَى؛ لِأَنَّهُ
قَاضِي الْعَسَاكِرِ وَقَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ، فَسَارُوا حَتَّى دَخَلُوا
حَلَبَ فِي الْحَادِي عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ، وَمِنْهَا وَصَلُوا فِي السَّادِسَ
عَشَرَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، إِلَى مَلَطْيَةَ فَشَرَعُوا فِي مُحَاصَرَتِهَا
فِي الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ حُصِّنَتْ وَمُنِّعَتْ،
وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهَا، فَلَمَّا رَأَوْا كَثْرَةَ الْجَيْشِ، نَزَلَ
مُتَوَلِّيهَا وَقَاضِيهَا وَطَلَبُوا الْأَمَانَ، فَأَمَّنُوا الْمُسْلِمِينَ
وَدَخَلُوهَا، فَقَتَلُوا مِنَ الْأَرْمَنِ خَلْقًا وَمِنَ النَّصَارَى،
وَأَسَرُوا ذُرِّيَّةً كَثِيرَةً، وَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ،
وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُ كَثِيرٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَرَجَعُوا عَنْهَا
بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ
إِلَى عَيْنِ تَابٍ، إِلَى مَرْجِ دَابِقٍ، وَزُيِّنَتْ دِمَشْقُ، وَدَقَّتِ
الْبَشَائِرُ.
وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ رَحَلَ نَائِبُ مَلَطْيَةَ مُتَوَجِّهًا إِلَى السُّلْطَانِ.
وَفِي نِصْفِ الشَّهْرِ وَصَلَ قَاضِيهَا الشَّرِيفُ شَمْسُ الدِّينِ وَمَعَهُ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِهَا. وَفِي بُكْرَةِ نَهَارِ
الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ نَائِبُهَا
الْأَمِيرُ تَنْكِزُ النَّاصِرِيُّ، أَعَزَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي خِدْمَتِهِ
الْجُيُوشُ الشَّامِيَّةُ وَالْمِصْرِيَّةُ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْفُرْجَةِ
عَلَيْهِمْ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَقَامَ الْمِصْرِيُّونَ قَلِيلًا ثُمَّ
تَرَحَّلُوا إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ مَلَطْيَةُ إِقْطَاعًا
لِلْجُوبَانِ، أَطْلَقَهَا لَهُ مَلِكُ التَّتَرِ، فَاسْتَنَابَ بِهَا رَجُلًا
كُرْدِيًّا، فَتَعَدَّى وَأَسَاءَ، وَظَلَمَ، وَكَاتَبَ أَهْلُهَا السُّلْطَانَ
النَّاصِرَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ رَعِيَّتِهِ، فَلَمَّا سَارُوا
إِلَيْهَا وَأَخَذُوهَا، وَفَعَلُوا مَا فَعَلُوا فِيهَا - جَاءَهَا بَعْدَ ذَلِكَ
الْجُوبَانُ، فَعَمَّرَهَا وَرَدَّ إِلَيْهَا خَلْقًا مِنَ الْأَرْمَنِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ إِلَيْنَا الْخَبَرُ
بِمَسْكِ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ، وَأَيْدُغْدِي شُقَيْرٍ، وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ
ذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمُ
اتَّفَقُوا عَلَى السُّلْطَانِ، فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ، فَمَسَكَهُمْ، وَاحْتِيطَ
عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ، وَظَهَرَ لِبَكْتَمُرَ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ،
وَأَمْتِعَةٌ، وَأَخْشَابٌ، وَحَوَاصِلُ
كَثِيرَةٌ، وَقَدِمَ قِجْلِيسُ مَنَ
الْقَاهِرَةِ، فَاجْتَازَ بِدِمَشْقَ إِلَى نَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ، ثُمَّ قَدِمَ
سَرِيعًا وَمَعَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَمُرُ نَائِبُ طَرَابُلُسَ تَحْتَ
الْحَوْطَةِ، وَمُسِكَ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَهَادُرُ آصُ
الْمَنْصُورِيُّ، فَحُمِلَ الْأَوَّلُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَجُعِلَ مَكَانَهُ فِي
نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ كُسْتَايْ، وَحُمِلَ الثَّانِي إِلَى الْكَرَكِ، وَحَزِنَ
النَّاسُ عَلَيْهِ وَدَعَوْا لَهُ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْحَادِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ مُيَسَّرٍ إِلَى
دِمَشْقَ مُتَوَلِّيًا حِسْبَتَهَا، وَنَظَرَ الْأَوْقَافِ، وَانْصَرَفَ ابْنُ
الْحَدَّادِ عَنِ الْحِسْبَةِ، وَبَهَاءُ الدِّينِ بْنُ عُلَيْمَةَ عَنْ نَظَرِ
الْأَوْقَافِ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ
حَرِيقٌ قُبَالَةَ مَسْجِدِ الشِّنْبَاشِيِّ دَاخِلَ بَابِ الصَّغِيرِ، احْتَرَقَ
فِيهِ دَكَاكِينُ كَثِيرَةٌ، وَدَوْرٌ، وَأَمْوَالٌ، وَأَمْتِعَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ دَرَّسُ قَاضِي
مَلَطْيَةَ الشَّرِيفُ شَمْسُ الدِّينِ بِالْمَدْرَسَةِ الْخَاتُونِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ - عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنَفِيِّ الْبُصْرَوِيِّ،
وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ، وَهُوَ رَجُلٌ لَهُ فَضِيلَةٌ، وَحُسْنُ خُلُقٍ،
كَانَ قَاضِيًا بِمَلَطْيَةَ وَخَطِيبًا بِهَا نَحَوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ جُمَادَى
الْآخِرَةِ أُعِيدَ ابْنُ الْحَدَّادِ
إِلَى الْحِسْبَةِ، وَاسْتَمَرَّ ابْنُ مُيَسَّرٍ نَاظِرَ الْأَوْقَافِ. وَفِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ دَرَّسَ ابْنُ صَصْرَى
بِالْأَتَابِكِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ صَفِيِّ الدِّينِ الْهِنْدِيِّ. وَفِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْآخِرِ حَضَرَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ دَرْسَ
الظَّاهِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْهِنْدِيِّ أَيْضًا، بِحُكْمِ
وَفَاتِهِ، كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ أُخْرِجَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ نَائِبُ
الْكَرَكِ مِنْ سِجْنِ الْقَاهِرَةِ، وَأُعِيدَ إِلَى الْإِمْرَةِ بِهَا. وَفِي
شَعْبَانَ تَوَجَّهَ خَمْسَةُ آلَافٍ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ، فَأَغَارُوا عَلَى
بِلَادِ آمِدَ، وَفَتَحُوا بُلْدَانًا كَثِيرَةً، وَقَتَلُوا، وَسَبَوْا،
وَعَادُوا، سَالِمِينَ، وَخَمَّسُوا مَا سَبَوْا، فَبَلَغَ سَهْمُ الْخُمْسِ
أَرْبَعَةَ آلَافِ رَأْسٍ وَكُسُورًا.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ وَصَلَ قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ إِلَى بَغْدَادَ
وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ الْخَاتُونُ بِنْتُ أَبْغَا مَلِكِ التَّتَرِ، وَجَاءَ فِي
خِدْمَةِ خَرْبَنْدَا، وَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْغَارَةِ عَلَى أَطْرَافِ بِلَادِ
الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِدَاوَيٌّ، مِنْ
جِهَةِ صَاحِبِ مِصْرَ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَقُتِلَ الْفِدَاوِيُّ. وَفِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ دَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ
الصَّغِيرَةِ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْمِصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ كَاتِبِ قُطْلُوبَكْ، بِمُقْتَضَى نُزُولِ
مُدَرِّسِهَا كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ لَهُ عَنْهَا، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْخَطِيبُ، وَابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ
أَيْضًا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْقَيْسَارِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ
بِالدَّهْشَةِ عِنْدَ الْوَرَّاقِينَ
وَاللَّبَّادِينَ، وَسَكَنَهَا
التُّجَّارُ، فَتَمَيَّزَتْ بِذَلِكَ أَوْقَافُ الْجَامِعِ، وَذَلِكَ
بِمُبَاشَرَةِ الصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ.
وَفِي ثَامِنِ شَوَّالٍ قُتِلَ أَحْمَدُ الرُّوَيْسُ، شُهِدَ عَلَيْهِ
بِالْعَظَائِمِ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ،
وَاسْتِهَانَتِهِ وَتَنَقُّصِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَحَكَمَ
الْمَالِكِيُّ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ وَإِنْ أَسْلَمَ، فَاعْتُقِلَ، ثُمَّ قُتِلَ،
لَعَنَهُ اللَّهُ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ كَانَ خُرُوجُ الرَّكْبِ الشَّامِيِّ،
وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ طَقْتَمُرُ الْمُوسَاوِيُّ، وَقَاضِيهِ قَاضِي
مَلَطْيَةَ، وَحَجَّ فِيهِ قَاضِي حَمَاةَ، وَحَلَبَ، وَمَارِدِينَ، وَمُحْيِي
الدِّينِ كَاتِبُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَصِهْرُهُ فَخْرُ الدِّينِ
الْمِصْرِيُّ، وَتَقِيُّ الدِّينِ الْفَاضِلِيُّ. وَفِي ثَامِنِ ذِي الْحِجَّةِ
وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَزُيِّنَتِ الْبِلَادُ لَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَدْلِ عِمَادِ الدِّينِ
بْنِ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ اللَّهِ بْنِ
الْمُظَفَّرِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ
سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَبَاشَرَ نَظَرَ الْخَاصِّ، وَقَدْ شَهِدَ
قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْقيمَةِ ثُمَّ تَرَكَهَا، وَقَدْ تَرَكَ أَوْلَادًا
وَأَمْوَالًا جَمَّةً، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ صَفَرٍ،
وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ.
الشَّيْخُ صَفِيُّ الدِّينِ
الْهِنْدِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأُرْمَوِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، وُلِدَ بِالْهِنْدِ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى جَدِّهِ لِأُمِّهِ، وَكَانَ
فَاضِلًا، وَخَرَجَ مِنْ دِهْلَى فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، فَحَجَّ
وَجَاوَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ دَخَلَ الْيَمَنَ، فَأَعْطَاهُ مَلِكُهَا
الْمُظَفَّرُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا
أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى الرُّومِ عَلَى طَرِيقِ أَنْطَاكِيَةَ،
فَأَقَامَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً بِقُونِيَةَ، وَبِسِيوَاسَ خَمْسًا،
وَبِقَيْسَارِيَّةَ سَنَةً، وَاجْتَمَعَ بِالْقَاضِي سِرَاجِ الدِّينِ
فَأَكْرَمَهُ، ثُمَّ قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ
فَأَقَامَ بِهَا وَاسْتَوْطَنَهَا، وَدَرَّسَ فِي الرَّوَاحِيَّةِ،
وَالدَّوْلَعِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ، وَصَنَّفَ فِي
الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ، وَتَصَدَّرَ لِلِاشْتِغَالِ وَالْإِفْتَاءِ، وَوَقَفَ
كُتُبَهُ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَكَانَ فِيهِ بِرٌّ وَصِلَةٌ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَقْتَ مَوْتِهِ سِوَى الظَّاهِرِيَّةِ
وَبِهَا مَاتَ، فَدَرَّسَ بَعْدَهُ فِيهَا ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَأَخَذَ
ابْنُ صَصْرَى الْأَتَابِكِيَّةَ.
الْقَاضِي الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، تَقِيُّ الدِّينِ سُلَيْمَانُ
بْنُ حَمْزَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
عُمَرَ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْحَاكِمُ بِدِمَشْقَ، وُلِدَ فِي نِصْفِ رَجَبٍ
سِنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَقَرَأَ
بِنَفْسِهِ وَتَفَقَّهَ وَبَرَعَ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ مِنْ
خِيَارِ النَّاسِ، وَأَحْسَنِهِمْ خُلُقًا، وَأَكْثَرِهِمْ مُرُوءَةً، تُوُفِّيَ
فَجْأَةً بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْبَلَدِ وَحُكْمِهِ بِالْجَوْزِيَّةِ، فَلَمَّا
صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالدَّيْرِ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، وَمَاتَ عَقِيبَ صَلَاةِ
الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ حَادِي عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ
مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَةِ جَدِّهِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ
غَفِيرٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ الشَّيْخِ عَلِيِّ الْحَرِيرِيُّ، كَانَ مُقَدَّمًا فِي
طَائِفَتِهِ، مَاتَ أَبُوهُ وَعُمْرُهُ سَنَتَانِ، تُوُفِّيَ فِي قَرْيَةِ بُسْرَ
فِي جُمَادَى الْأُولَى.
الْحَكِيمُ الْفَاضِلُ الْبَارِعُ بَهَاءُ الدِّينِ عَبْدُ السَّيِّدِ بْنُ
الْمُهَذَّبِ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، الطَّبِيبُ الْكَحَّالُ، الْمُتَشَرِّفُ
بِالْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى
بَصِيرَةٍ، وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ قَوْمِهِ وَغَيْرِهِمْ،
وَكَانَ مُبَارَكًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِمْ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ دَيَّانَ
الْيَهُودِ، فَهَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَادِسِ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَأَسْلَمَ
عَلَى يَدَيْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ لَمَّا بَيَّنَ لَهُ بُطْلَانَ
دِينِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَمَا بَدَّلُوهُ مِنْ كِتَابِهِمْ وَحَرَّفُوهُ
مِنَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
غَيْرَ الْحَنْبَلِيِّ بِدِمَشْقَ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ. وَفِي الْمُحَرَّمِ تَكَمَّلَتْ تَفْرِقَةُ الْمِثَالَاتِ
السُّلْطَانِيَّةِ بِمِصْرَ بِمُقْتَضَى إِرَاكَةِ الْأَخْبَازِ، وَعَرْضِ
الْجَيْشِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَأَبْطَلَ السُّلْطَانُ الْمَكْسَ بِسَائِرِ
الْبِلَادِ الْقِبْلِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ. وَفِيهِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ
الْحَنَابِلَةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِبَعْلَبَكَّ بِسَبَبِ الْعَقَائِدِ،
وَتَرَافَعُوا إِلَى دِمَشْقَ، فَحَضَرُوا بِدَارِ السَّعَادَةِ عِنْدَ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى
خَيْرٍ مِنْ غَيْرِ مُحَاقَقَةٍ وَلَا تَشْوِيشٍ عَلَى أَحَدٍ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ قُرِئَ تَقْلِيدُ قَاضِي الْقُضَاةِ
شَمْسِ الدِّينِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسَلَّمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
مَزْرُوعٍ الْحَنْبَلِيِّ بِقَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ وَالنَّظَرِ فِي
أَوْقَافِهِمْ، عِوَضًا عَنِ التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ،
وَتَارِيخُ التَّقْلِيدِ مِنْ سَادِسِ
ذِي الْحِجَّةِ، وَقُرِئَ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِحُضُورِ الْقُضَاةِ،
وَالصَّاحِبِ، وَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ مَشَوْا مَعَهُ وَعَلَيْهِ الْخِلْعَةُ إِلَى
دَارِ السَّعَادَةِ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّائِبِ وَرَاحَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ،
ثُمَّ نَزَلَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْجَوْزِيَّةِ فَحَكَمَ بِهَا عَلَى عَادَةِ
مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَاسْتَنَابَ بَعْدَ أَيَّامٍ الشَّيْخَ شَرَفَ الدِّينِ بْنَ
الْحَافِظِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ الْمَذْكُورِ وَصَلَ الشَّيْخُ
كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ مِنْ مِصْرَ عَلَى الْبَرِيدِ، وَمَعَهُ
تَوْقِيعٌ بِعَوْدِ الْوَكَالَةِ إِلَيْهِ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ عَلَى
النَّائِبِ وَالْخِلْعَةُ عَلَيْهِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ مُسِكَ الْوَزِيرُ
عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَاعْتُقِلَ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَصُولِحَ
بِخَمْسِينَ أَلْفًا، ثُمَّ أُطْلِقَ لَهُ مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، وَانْفَصَلَ
مِنْ دِيوَانِ نَظَرِ الْخَاصِّ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَ مِنْ مِصْرَ الْأَمِيرُ فَضْلُ بْنُ عِيسَى
وَمَعَهُ تَقْلِيدٌ بِإِمْرَةِ الْعَرَبِ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ مُهَنَّا بْنِ
عِيسَى، وَأُجْرِيَ لَهُ وَلِابْنِ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ مُهَنَّا إِقْطَاعَاتٌ
جَيِّدَةٌ وَذَلِكَ بِسَبَبِ دُخُولِ مُهَنَّا إِلَى بِلَادِ التَّتَرِ
وَاجْتِمَاعِهِ بِمُلْكِهِمْ خَرْبَنْدَا.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ السَّادِسِ عِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ
ابْنُ صَصْرَى مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ بِسُؤَالِ
الصُّوفِيَّةِ، وَطَلَبِهِمْ لَهُ مِنْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَحَضَرَهَا،
وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ، عِوَضًا عَنِ الشَّرِيفِ
شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْقَاسِمِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ
بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَهُوَ
الْكَاشْغَرِيُّ، تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ
بِالصُّوفِيَّةِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ بَاشَرَ بَهَاءُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَمَالِ
الدِّينِ يَحْيَى، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُلَيْمَةَ الْحَنَفِيُّ - وَهُوَ نَاظِرُ
دِيوَانِ النَّائِبِ بِالشَّامِ - نَظَرَ الدَّوَاوِينِ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ
صَدَقَةَ بْنِ الْحَظِيرِيِّ الْحَاسِبِ الْكَاتِبِ، تُوُفِّيَ، وَقَدْ كَانَ
مُبَاشِرًا عِدَّةً مِنَ الْجِهَاتِ الْكِبَارِ مِثْلَ نَظَرِ الْخِزَانَةِ،
وَنَظَرِ الْجَامِعِ، وَنَظَرِ الْمَارَسْتَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ
نَظَرُ الْمَارَسْتَانِ مِنْ يَوْمَئِذٍ بِأَيْدِي نُظَّارِ دِيوَانِ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ مَنْ كَانَ، وَصَارَتْ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً.
وَفِي رَجَبٍ نُقِلَ نَائِبُ حِمْصَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ قَرَطَايْ إِلَى
نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ عِوَضًا عَنِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
التُّرْكِسْتَانِيُّ بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، وَوَلِيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أَرُقْطَايْ نِيَابَةَ حِمْصَ وَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ
الْأَحَدِ سَابِعِ رَجَبٍ، وَتَوَلَّى نِيَابَةَ الْكَرَكِ سَيْفُ الدِّينِ
طُقْطَاي النَّاصِرِيُّ عِوَضًا عَنْ سَيْفِ الدِّينِ بَيْبُغَا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ رَجَبٍ دَرَّسَ بالنَّجِيبِيَّةِ الْقَاضِي
شَمْسُ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ،
عِوَضًا عَنِ الصَّدْرِ بَهَاءِ
الدِّينِ يُوسُفَ بْنِ كَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الظَّاهِرِ الْعَجَمِيِّ
الْحَلَبِيِّ، سِبْطِ الصَّاحِبِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْعَدِيمِ، تُوُفِّيَ
وَدُفِنَ عِنْدَ خَالِهِ وَوَالِدِهِ بِتُرْبَةِ الْعَدِيمِ.
وَفِي آوَاخِرِ شَعْبَانَ وَصَلَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عِزِّ الدِّينِ
يَحْيَى الْحَرَّانِيُّ أَخُو قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ بِمِصْرَ شَرَفِ
الدِّينِ عَبْدِ الْغَنِيِّ إِلَى دِمَشْقَ مُتَوَلِّيًا نَظَرَ الْأَوْقَافِ
بِهَا، عِوَضًا عَنِ الصَّاحِبِ عِزِّ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مُيَسَّرٍ، تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ
بَاشَرَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِهَا، وَبِمِصْرَ، وَالْحِسْبَةَ، وَبِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ مَعَهُ فِي آخِرِ وَقْتٍ سِوَى نَظَرِ
الْأَوْقَافِ بِدِمَشْقَ، مَاتَ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ
بَقَاسِيُونَ.
وَفِي تَاسِعِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ وَأَمِيرُهُمْ سَيْفُ
الدِّينِ أَرْغُوَنُ السِّلِحْدَارُ النَّاصِرِيُّ السَّاكِنُ عِنْدَ دَارِ
الطِّرَازِ بِدِمَشْقَ، وَحَجَّ مِنْ مِصْرَ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ
الدَّوَادَارُ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ جَمَاعَةَ، وَقَدْ زَارَ الْقُدْسَ
الشَّرِيفَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ وَفَاةِ وَلَدِهِ الْخَطِيبُ جَمَالُ
الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ رَأَسَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سَارَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ إِلَى زِيَارَةِ
الْقُدْسِ فَغَابَ عِشْرِينَ يَوْمًا. وَفِيهِ وَصَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بَكْتَمُرُ الْحَاجِبُ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ مِصْرَ، وَقَدْ
كَانَ مُعْتَقَلًا فِي السِّجْنِ،
فَأُطْلِقَ وَأُكْرِمَ، وَوَلِيَ نِيَابَةَ صَفَدَ، فَسَارَ إِلَيْهَا بَعْدَ مَا
قَضَى أَشْغَالَهُ بِدِمَشْقَ، وَنُقِلَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيُّ مِنْ قَضَاءِ صَفَدَ إِلَى قَضَاءِ طَرَابُلُسَ، وَأُعِيدَتْ
وِلَايَةُ قَضَاءِ صَفَدَ إِلَى قَاضِي دِمَشْقَ، فَوَلَّى فِيهَا ابْنَ صَصْرَى
شَرَفَ الدِّينِ النَّهَاوَنْدِيَّ، وَكَانَ مُتَوَلِّيًا طَرَابُلُسَ قَبْلَ
ذَلِكَ، وَوَصَلَ مَعَ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ الطَّوَاشِيُّ ظَهِيرُ الدِّينِ
مُخْتَارٌ الْمَعْرُوفُ بِالزُّرَعِيِّ، مُتَوَلِّيًا الْخِزَانَةَ بِالْقَلْعَةِ
عِوَضًا عَنِ الطَّوَاشِيِّ ظِهِيرِ الدِّينِ مُخْتَارٍ الْبُلْبَيْسِيِّ،
تُوُفِّيَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ - أَعْنِي ذَا الْقِعْدَةِ - وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِمَوْتِ
مَلِكِ التَّتَرِ خَرْبَنْدَا مُحَمَّدِ بْنِ أَرْغُوَنَ بْنِ أَبْغَا بْنِ
هُولَاكُو قَانَ، مَلِكِ الْعِرَاقِ، وَخُرَاسَانَ، وَعِرَاقِ الْعَجَمِ،
وَالرُّومِ، وَأَذْرَبِيجَانَ، وَبِلَادِ الْأُرَّانَةِ، وَدِيَارِ بَكْرٍ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا، الَّتِي يُقَالُ لَهَا:
السُّلْطَانِيَّةُ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّلَاثِينَ مِنَ الْعُمْرِ، وَكَانَ
مَوْصُوفًا بِالْكَرَمِ، وَمُحِبَّةِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْعَمَائِرِ، وَأَظْهَرَ
الرَّفْضَ فِي بِلَادِهِ، أَقَامَ سَنَةً عَلَى السُّنَّةِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ
عَنْهَا إِلَى الرَّفْضِ
فَأَقَامَ شَعَائِرَهُ بِبِلَادِهِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مُطَهَّرٍ الْحِلِّيُّ تِلْمِيذُ نَصِيرِ الدِّينِ الطَّوْسِيِّ، وَأَقْطَعَهُ عِدَّةَ بِلَادٍ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ الْفَاسِدِ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَرَتْ فِي أَيَّامِهِ فِتَنٌ كِبَارٌ، وَمَصَائِبُ عِظَامٌ، فَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ، وَقَامَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ بُو سَعِيدٍ وَلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَمُدَبِّرُ الْجُيُوشِ وَالْمَمَالِكِ لَهُ الْأَمِيرُ جُوبَانُ، وَاسْتَمَرَّ فِي الْوِزَارَةِ عَلِيُّ شَاهْ التِّبْرِيزِيُّ، وَأَخَذَ أَهْلَ دَوْلَتِهِ بِالْمُصَادَرَةِ، وَقَتْلِ الْأَعْيَانِ مِمَّنِ اتَّهَمَهُمْ بِقَتْلِ أَبِيهِ مَسْمُومًا، وَلَعِبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ فِي أَوَّلِ دَوْلَتِهِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى الْعَدْلِ وَإِقَامَةِ السُّنَّةِ، فَأَمَرَ بِإِعَادَةِ الْخُطْبَةِ بِالتَّرَضِّي عَنِ الشَّيْخَيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ - رِضَى اللَّهِ عَنْهُمْ - فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَسَكَنَتْ بِذَلِكَ الْفِتَنُ وَالشُّرُورُ وَالْقِتَالُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ بِهَرَاةَ، وَأَصْبَهَانَ، وَبَغْدَادَ، وِإِرْبِلَ، وَسَاوَةَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ صَاحِبُ مَكَّةَ الْأَمِيرُ حُمَيْضَةُ بْنُ أَبِي نُمَيٍّ الْحَسَنِيُّ قَدْ قَصَدَ مَلِكَ التَّتَرِ خَرْبَنْدَا لِيَنْصُرَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَسَاعَدَهُ الرَّوَافِضُ هُنَاكَ، وَجَهَّزُوا مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا مِنْ خُرَاسَانَ لِأَجْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا مَاتَ خَرْبَنْدَا بَطَلَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَعَادَ حُمَيْضَةُ خَائِبًا خَاسِئًا، وَفِي صُحْبَتِهِ أَمِيرٌ مِنْ كِبَارِ الرَّوَافِضِ مِنَ التَّتَرِ يُقَالُ لَهُ: الدَّلْقَنْدِيُّ، وَقَدْ جَمَعَ لِحُمَيْضَةَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً لِيُقِيمَ الرَّفْضَ بِذَلِكَ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ، فَوَقَعَ بِهِمَا
الْأَمِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى
أَخُو مُهَنَّا، وَقَدْ كَانَ فِي بِلَادِ التَّتَرِ أَيْضًا وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْعَرَبِ، فَكَسَرَهُمَا وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا، وَنَهَبَ مَا كَانَ
مَعَهُمَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَفَرَّقَ الرِّجَالُ، وَبَلَغَتْ أَخْبَارُ
ذَلِكَ إِلَى الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَرَضِيَ عَنْهُ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ وَأَهْلُ دَوْلَتِهِ، وَغَسَلَ ذَلِكَ ذَنْبَهُ عِنْدَهُ،
فَاسْتَدْعَى بِهِ السُّلْطَانُ إِلَى حَضْرَتِهِ، فَحَضَرَ سَامِعًا مُطِيعًا،
فَأَكْرَمَهُ نَائِبُ الشَّامِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى السُّلْطَانِ أَكْرَمَهُ
أَيْضًا، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَفْتَى الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ،
وَكَذَلِكَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ السُّلْطَانُ يَسْأَلُهُ عَنِ الْأَمْوَالِ الَّتِي
أُخِذَتْ مِنَ الدَّلْقَنْدِيِّ، فَأَفْتَاهُمْ بِأَنَّهَا تُصْرَفُ فِي
الْمَصَالِحِ الَّتِي يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ
مُعَدَّةً لِعِنَادِ الْحَقِّ، وَنُصْرَةِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ عَلَى السُّنَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَرْبَنْدَا مَلِكُ التَّتَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَعِزُّ الدِّينِ بْنُ
مُيَسَّرٍ، وَالشِّهَابُ الْكَاشْغَرِيُّ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَشَمْسُ الدِّينِ
بْنُ الْحَظِيرِيِّ، وَالْبَهَاءُ الْعَجَمِيُّ، مُدَرِّسُ النَّجِيبِيَّةِ.
وَفِيهَا قُتِلَ خَطِيبُ الْمِزَّةِ،
قَتَلَهُ رَجُلٌ جَبَلِيٌّ، ضَرَبَهُ بِفَأْسِ اللِّجَامِ فِي رَأْسِهِ فِي
السُّوقِ، فَبَقِيَ أَيَّامًا وَمَاتَ، وَأُخِذَ الْقَاتِلُ فَشُنِقَ فِي السُّوقِ
الَّذِي قَتَلَ فِيهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَدُفِنَ هُنَاكَ وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ.
الشَّرَفُ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَبْشَاهْ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الْهَمَذَانِيُّ، مَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
النَّيْرَبِ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِطِيبِ الْقِرَاءَةِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ،
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى " جُزْءَ ابْنِ عَرَفَةَ ".
صَاحِبُ " التَّذْكِرَةِ الْكِنْدِيَّةِ " الشَّيْخُ الْإِمَامُ،
الْمُقْرِئُ، الْمُحَدِّثُ، النَّحْوِيُّ، الْأَدِيبُ، عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ
بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ بْنِ زَيْدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ
الْكِنْدِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
عَلَى أَزْيَدَ مِنْ مِائَتَيْ شَيْخٍ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ،
وَحَصَّلَ عُلُومًا جَيِّدَةً، وَنَظَمَ الشِّعْرَ الْحَسَنَ الرَّائِقَ الْفَائِقَ،
وَجَمَعَ كِتَابًا فِي نَحْوٍ مَنْ خَمْسِينَ مُجَلَّدًا، فِيهِ عُلُومٌ جَمَّةٌ،
أَكْثَرُهَا أَدَبِيَّاتٌ، سَمَّاهُ " التَّذْكِرَةَ الْكِنْدِيَّةَ "،
وَقَفَهَا بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَكَتَبَ حَسَنًا، وَحَسَبَ جَيِّدًا، وَخَدَمَ
فِي عِدَّةِ خِدَمٍ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النَّفِيسِيَّةِ فِي
مُدَّةِ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَرَأَ
" صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ "
مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَأَسْمَعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ يَلُوذُ بِشَيْخِ
الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَتُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ عِنْدَ قُبَّةِ
الْمُسَجِّفِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ
بِالْمِزَّةِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الطَّوَاشِيُّ ظَهِيرُ الدِّينِ مُخْتَارٌ الْبُلْبَيْسِيُّ، الْخِزِنْدَارُ
بِالْقَلْعَةِ، وَأَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ بِدِمَشْقَ، كَانَ زَكِيًّا،
خَيِّرًا، فَاضِلًا، يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَيُؤَدِّيهِ بِصَوْتٍ طَيِّبٍ،
وَوَقَفَ مَكْتَبًا لِلْأَيْتَامِ عَلَى بَابِ قَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَرَتَّبَ
لَهُمُ الْكُسْوَةَ وَالْجَامَكِيَّةَ، وَكَانَ يَمْتَحِنُهُمْ بِنَفْسِهِ،
وَيَفْرَحُ بِهِمْ، وَعَمِلَ لَهُ تُرْبَةً خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَوَقَفَ
عَلَيْهَا الْمُقْرِئِينَ، وَبَنَى عِنْدَهَا مَسْجِدًا حَسَنًا، وَوَقَفَهُ
بِإِمَامٍ، وَهِيَ مِنْ أَوَائِلِ مَا عُمِلَ مِنَ التُّرَبِ بِذَلِكَ الْخَطِّ،
وَدُفِنَ بِهَا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِ شَعْبَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ وَالْأَخْلَاقِ، عَلَيْهِ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ
وَهَيْبَةٌ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ فِي الدَّوْلَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَوَلِيَ
بَعْدَهُ الْخِزَانَةَ سَمِيُّهُ ظَهِيرُ الدِّينِ مُخْتَارٌ الزُّرَعِيُّ.
الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِيِّ، كَانَ مِنَ
الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ وَمَعْرِفَةٌ وَخِبْرَةٌ،
وَقَدْ نَابَ عَنِ السُّلْطَانِ بِدَارِ الْعَدْلِ مَرَّةً بِمِصْرَ، وَكَانَ
حَاجِبَ الْمَيْسَرَةِ، وَتَكَلَّمَ
فِي الْأَوْقَافِ، وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ، ثُمَّ
نُقِلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَمَاتَ بِهَا فِي سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ
بِمَيْدَانِ الْحَصَا فَوْقَ خَانِ النَّجِيبِيِّ، وَخَلَّفَ تَرِكَةً عَظِيمَةً.
الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ، سِتُّ الْوُزَرَاءِ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ
الْمُنَجَّا، رَاوِيَةُ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، وَغَيْرِهِ،
جَاوَزَتِ التِّسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، تُوُفِّيَتْ
لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَتْ بِتُرْبَتِهِمْ
بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ بَقَاسِيُونَ.
الْقَاضِي مُحِبُّ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، اسْتَنَابَهُ أَبُوهُ فِي أَيَّامِهِ،
وَزَوَّجَهُ بِابْنَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَدَرَّسَ بِالْكَهَّارِيَّةِ،
وَرَأَسَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ
رَمَضَانَ، وَقَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ بِالْقَرَافَةِ.
الشَّيْخَةُ الصَّالِحَةُ
الْمُعَمَّرَةُ، سِتُّ النِّعَمِ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدُوسٍ الْحَرَّانِيَّةُ، وَالِدَةُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ، عَمَّرَتْ فَوْقَ السَّبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ، وَلَدَتْ تِسْعَةَ بَنِينَ، وَلَمْ تُرْزَقْ بِنْتًا قَطُّ،
تُوُفِّيَتْ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَدُفِنَتْ
بِالصُّوفِيَّةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ،
رَحِمَهَا اللَّهُ.
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ، الْكَاتِبُ الْفَاضِلُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبُصَيْصِ، شَيْخُ
صِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ فِي زَمَانِهِ، لَا سِيَّمَا فِي الْمُزَوَّجِ
وَالْمُثَلَّثِ، وَقَدْ أَقَامَ يَكْتُبُ النَّاسَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَأَنَا
مِمَّنْ كَتَبَ عَلَيْهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا
بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، يَشْعُرُ جَيِّدًا، تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ
ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَلَهُ خَمْسٌ
وَسِتُّونَ سَنَةً.
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ الْمَوْصِلِيُّ، أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي الْكَرَمِ، شَيْخُ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ مِحْرَابِ
الصَّحَابَةِ، وَشَيْخُ مِيعَادِ ابْنِ عَامِرٍ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدِ
انْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً فِي التَّلْقِينِ
وَالْقِرَاءَاتِ، وَخَتَّمَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ يُقْصَدُ لِذَلِكَ،
وَيَجْمَعُ تَصْدِيقَاتٍ يَقُولُهَا الصِّبْيَانُ لَيَالِيَ خَتْمِهِمْ، وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ خَيِّرًا دَيِّنًا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ
سَابِعَ عَشَرَ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
بَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ، الزَّاهِدُ، الْمُقْرِئُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ الْخَطِيبِ سَلَامَةَ بْنِ سَالِمِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَنْبُوبَ
الْمَالِينِيُّ، أَحَدُ الصُّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ
يُفَصِّحُ الْأَوْلَادَ فِي الْحُرُوفِ الصَّعْبَةِ، وَكَانَ مُبْتَلَى فِي
فَمِهِ، يَحْمِلُ طَاسَةً تَحْتَ فَمِهِ مِنْ كَثْرَةِ مَا يَسِيلُ مِنْهُ مِنَ
الرِّيَالِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِأَرْبَعِ سِنِينَ،
تُوُفِّيَ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّارِمِيَّةِ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَانِي عِشْرِينَ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْقَلَنْدَرِيَّةِ،
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا نَحْوٌ مَنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْوَكِيلِ، هُوَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ زَيْنِ
الدِّينِ عُمَرَ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْمُرَحِّلِ وَبِابْنِ الْوَكِيلِ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ،
وَأَشْهُرُهُمْ فِي وَقْتِهِ بِالْفَضِيلَةِ، وَكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ،
وَالْمُطَالَعَةِ، وَالتَّحْصِيلِ، وَالِافْتِنَانِ فِي الْعُلُومِ الْعَدِيدَةِ،
وَقَدْ أَجَادَ مَعْرِفَةَ الْمَذْهَبِ وَالْأَصْلَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي
النَّحْوِ بِذَاكَ الْقَوِيِّ، فَكَانَ يَقَعُ مِنْهُ اللَّحْنُ
الْكَثِيرُ، مَعَ أَنَّهُ قَرَأَ فِيهِ " الْمُفَصَّلَ " لِلزَّمَخْشَرِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ مَحْفُوظَاتٌ كَثِيرَةٌ، وُلِدَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى الْمَشَايِخِ، مِنْ ذَلِكَ " مُسْنَدُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَلَى ابْنِ عَلَّانَ، وَ " الْكُتُبُ السِّتَّةُ "، وَقُرِئَ عَلَيْهِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " بِدَارِ الْحَدِيثِ عَنِ الْأَمِيرِ الْإِرْبِلِيِّ، وَالْعَامِرِيِّ، وَالْمِزِّيِّ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ مَجْمُوعٍ مِنْ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الطِّبِّ وَالْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ الْكَلَامِ - وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ - وَعُلُومِ الْأَوَائِلِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ جَيِّدًا، وَلَهُ دِيوَانٌ مَجْمُوعٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَشْيَاءَ لَطِيفَةٍ، وَكَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَحْسُدُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، وَآخَرُونَ يَحْسُدُونَهُ وَيُبْغِضُونَهُ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ، وَيَرْمُونَهُ بِالْعَظَائِمِ، وَقَدْ كَانَ مُسْرِفًا عَلَى نَفْسِهِ، قَدْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ الْقَاذُورَاتِ وَالْفَوَاحِشِ، وَكَانَ يَنْصِبُ الْعَدَاوَةَ لِلشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَيُنَاظِرُهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَحَافِلِ وَالْمَجَالِسِ، وَكَانَ يَعْتَرِفُ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بِالْعُلُومِ الْبَاهِرَةِ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُجَاحِفُ عَنْ مَذْهَبِهِ وَنَاحِيَتِهِ وَهَوَاهُ، وَيُنَافِحُ عَنْ طَائِفَتِهِ، وَقَدْ كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ يُثْنِي عَلَيْهِ، وَعَلَى عُلُومِهِ، وَفَضَائِلِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْإِسْلَامِ إِذَا قِيلَ لَهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَأَعْمَالِهِ الْقَبِيحَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: كَانَ مُخَلِّطًا عَلَى نَفْسِهِ، مُتَّبِعًا مُرَادَ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، يَمِيلُ إِلَى الشَّهْوَةِ وَالْمُحَاضَرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ كَمَا يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ يَحْسُدُهُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ. هَذَا أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ دَرَّسَ بِعِدَّةِ مَدَارِسَ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، فَدَرَّسَ بِدِمَشْقَ بِالشَّامِيَّتَيْنِ، وَالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَوَلِيَ فِي وَقْتٍ الْخَطَابَةَ أَيَّامًا يَسِيرَةً كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَامَ الْخَلْقُ عَلَيْهِ وَأَخْرَجُوهَا مِنْ يَدِهِ، وَلَمْ يَرْقَ مِنْبَرَهَا، ثُمَّ خَالَطَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ الْأَفْرَمَ، فَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ لَا يَحْسُنُ ذِكْرُهَا، وَلَا يَرْشُدُ أَمْرُهَا، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ عَلَى أَنْ عَزَمَ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى حَلَبَ
لِاسْتِحْوَاذِهِ عَلَى قَلْبِ
نَائِبِهَا، فَأَقَامَ بِهَا وَدَرَّسَ، ثُمَّ تَرَدَّدَ فِي الرُّسْلِيَّةِ
بَيْنَ السُّلْطَانِ وَمُهَنَّا صُحْبَةَ أَرْغُوَنَ وَأَلْطُنْبُغَا، ثُمَّ
اسْتَقَرَّ بِهِ الْمَنْزِلُ بِمِصْرَ، وَدَرَّسَ فِيهَا بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ
إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا بُكْرَةَ نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ عِشْرِينَ
ذِي الْحِجَّةِ، بِدَارِهِ، قَرِيبًا مِنْ جَامِعِ الْحَاكِمِ، وَدُفِنَ مِنْ
يَوْمِهِ قَرِيبًا مِنَ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ بِتُرْبَةِ
الْقَاضِي نَاظِرِ الْجَيْشِ بِالْقَرَافَةِ، وَلَمَّا بَلَغَتْ وَفَاتُهُ
دِمَشْقَ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِهَا صَلَاةَ الْغَائِبِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَرَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ
ابْنُ غَانِمٍ عَلَاءُ الدِّينِ، وَالْقَحْفَازِيُّ، وَالصَّفَدِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ
كَانُوا مِنْ عُشَرَائِهِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْفُوعِيُّ، وَكِيلُ قِجْلِيسَ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى لَهُ
الْبَاشُورَةَ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ بِالْبَرَّانِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ،
وَكَانَتْ فِيهِ نَهْضَةٌ وَكِفَايَةٌ، وَكَانَ مِنْ بَيْتِ الرَّفْضِ، اتَّفَقَ
أَنَّهُ اسْتَحْضَرَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ فَضَرَبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَامَ
النَّائِبُ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِالْمَهَامِيزِ فِي
وَجْهِهِ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَهُوَ تَالِفٌ، فَمَاتَ فِي يَوْمِ
عَرَفَةَ، وَدُفِنَ مِنْ يَوْمِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَلَهُ دَارٌ ظَاهِرَ
بَابِ الْفَرَادِيسِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي
صَفَرٍ شُرِعَ فِي عِمَارَةِ الْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَأَهُ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ
سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ نَائِبُ الشَّامِ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، تُجَاهَ
حِكْرِ السِّمَاقِ عَلَى نَهْرِ بَانْيَاسَ بِدِمَشْقَ، وَتَرَدَّدَ الْقُضَاةُ
وَالْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيرِ قِبْلَتِهِ، فَاسْتَقَرَّ الْحَالُ فِي أَمْرِهَا
عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي يَوْمِ
الْأَحَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَشَرَعُوا فِي بِنَائِهِ بِأَمْرِ
السُّلْطَانِ وَمُسَاعَدَتِهِ لِنَائِبِهِ فِي ذَلِكَ.
وَفِي صَفَرٍ هَذَا جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِمَدِينَةِ بَعْلَبَكَّ، أَهْلَكَ
خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، وَخَرَّبَ دُورًا وَعَمَائِرَ كَثِيرَةً،
وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ عِشْرِينَ صَفَرٍ.
وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَهُمْ قَبْلَهُ رَعْدٌ وَبَرْقٌ عَظِيمٌ،
مَعَهُمَا مَطَرٌ وَبَرَدٌ، فَسَالَتِ الْأَوْدِيَةُ، ثُمَّ جَاءَهُمْ بَعْدَهُ
سَيْلٌ هَائِلٌ خَسَفَ مِنْ سُورِ الْبَلَدِ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ بِشَرْقٍ
مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، مَعَ أَنَّ سُمْكَ الْحَائِطِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ،
وَحَمَلَ بُرْجًا صَحِيحًا، وَمَعَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ بَعْضُ بَدْنِيَّتَيْنِ،
فَحَمَلَهُ كَمَا هُوَ حَتَّى مَرَّ فَحَفَرَ فِي
الْأَرْضِ نَحْوَ خَمْسِمِائَةِ
ذِرَاعٍ، سِعَةَ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَحَمَلَ السَّيْلُ ذَلِكَ إِلَى غَرْبِيِّ
الْبَلَدِ، لَا يَمُرُّ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَتْلَفَهُ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ
عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَتْلَفَ مَا يَزِيدُ عَلَى ثُلُثِهَا،
وَدَخَلَ الْجَامِعَ فَارْتَفَعَ فِيهِ عَلَى قَامَةٍ وَنِصْفٍ، ثُمَّ قَوِيَ
عَلَى حَائِطِهِ الْغَرْبِيِّ فَأَخْرَبَهُ، وَأَتْلَفَ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنَ
الْحَوَاصِلِ، وَالْكُتُبِ، وَالْمَصَاحِفِ، وَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
رِبَاعِ الْجَامِعِ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ،
وَالنِّسَاءِ، وَالْأَطْفَالِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَغَرِقَ فِي الْجَامِعِ الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ عَلِيٍّ
الْحَرِيرِيِّ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَيُقَالُ: جُمْلَةُ
مَنْ هَلَكَ بِالْغَرَقِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ مَنْ أَهْلِ بَعْلَبَكَّ مِائَةٌ
وَأَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ نَفْسًا سِوَى الْغُرَبَاءِ، وَجُمْلَةُ الدُّورِ
الَّتِي خَرَّبَهَا وَالْحَوَانِيتِ الَّتِي أَتْلَفَهَا نَحْوٌ مَنْ سِتِّمِائَةِ
دَارٍ وَحَانُوتٍ، وَجُمْلَةُ الْبَسَاتِينِ الَّتِي جَرَفَ أَشْجَارَهَا
عِشْرُونَ بُسْتَانًا، وَمِنَ الطَّوَاحِينِ ثَمَانِيَةٌ سِوَى الْجَامِعِ
وَالْأَمِينِيَّةِ، وَأَمَّا الْأَمَاكِنُ الَّتِي دَخَلَهَا وَأَتْلَفَ مَا
فِيهَا وَلَمْ تَخْرَبْ فَكَثِيرٌ جِدًّا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ زَادَ النِّيلُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُسْمَعْ
بِمِثْلِهَا مِنْ مُدَدٍ، وَغَرَّقَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَهَلَكَ فِيهَا نَاسٌ
كَثِيرٌ أَيْضًا، وَغَرَّقَ مُنْيَةَ الشِّيرَجِ، فَهَلَكَ لِلنَّاسِ فِيهَا
شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ
جَلَسَ السُّلْطَانُ بُو سَعِيدِ بْنُ خَرْبَنْدَا عَلَى تَخْتِ الْمَمْلَكَةِ
بِالْمَدِينَةِ السُّلْطَانِيَّةِ. وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا أَغَارَ جَيْشُ
حَلَبَ عَلَى مَدِينَةِ آمِدَ، فَنَهَبُوا، وَسَبَوْا، وَعَادُوا سَالِمِينَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ عِشْرِينَ مِنْهُ قَدِمَ قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ
إِلَى الشَّامِ مِنْ مِصْرَ، وَهُوَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَلَامَةَ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
الْمَالِكِيُّ عَلَى قَضَاءِ دِمَشْقَ، عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ
الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ لِضَعْفِهِ، وَاشْتِدَادِ مَرَضِهِ، فَالْتَقَاهُ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ ثَانِي يَوْمِ
وُصُولِهِ، وَهُوَ مُؤَرَّخٌ بِثَانِي عَشَرَ الشَّهْرِ، وَقَدِمَ نَائِبُهُ
الْفَقِيهُ نُورُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ، وَدَرَّسَ بِالْجَامِعِ فِي مُسْتَهَلِّ
جُمَادَى الْأُولَى، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ، وَالْأَعْيَانُ،
وَالْقُضَاةُ، وَشُكِرَتْ فَضَائِلُهُ، وَعُلُومُهُ، وَنَزَاهَتُهُ،
وَصَرَامَتُهُ، وَدِيَانَتُهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ تُوُفِّيَ
الزَّوَاوِيُّ الْمَعْزُولُ، وَقَدْ بَاشَرَ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ ثَلَاثِينَ
سَنَةً.
وَفِيهِ أُفْرِجَ عَنِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَهَادُرَآصْ مِنْ سِجْنِ
الْكَرَكِ، وَحُمِلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَكَانَ
سِجْنُهُ بِهَا مُطَاوَعَةً لِإِشَارَةِ نَائِبِ الشَّامِ بِسَبَبِ مَا كَانَ
وَقَعَ بَيْنَهُمَا بِمَلَطْيَةَ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعِ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُ الْحَجِّ
سَيْفُ الدِّينِ كُجْكُنُ
الْمَنْصُورِيُّ. وَمِمَّنْ حَجَّ
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى، وَابْنُ أَخِيهِ شَرَفُ
الدِّينِ، وَكَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَالْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ
الْحَنَفِيُّ، وَالشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَخَلْقٌ.
وَفِي سَادِسِ هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ بِالْجَارُوخِيَّةِ الْقَاضِي جَمَالُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ الشَّرِيشِيِّ بَعْدَ وَفَاةِ
الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ سَلَّامٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ. وَفِي
التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْهُ دَرَّسَ ابْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ سَلَّامٍ. وَفِيهِ دَرَّسَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ
تَيْمِيَّةَ بِالْحَنْبَلِيَّةِ عَنْ إِذَنِ أَخِيهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، بَعْدَ
وَفَاةِ أَخِيهِمَا لِأُمِّهِمَا بَدْرِ الدِّينِ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
خَالِدٍ، ثُمَّ سَافَرَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ إِلَى الْحَجِّ، وَحَضَرَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ الدَّرْسَ بِنَفْسِهِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى عَادَ أَخُوهُ وَبَعْدَ
عَوْدِهِ أَيْضًا، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّهُ قَدْ أُبْطِلَتِ الْخُمُورُ
وَالْفَوَاحِشُ كُلُّهَا مِنْ بِلَادِ السَّوَاحِلِ، وَطَرَابُلُسَ، وَغَيْرِهَا،
وَوُضِعَتْ مُكُوسٌ كَثِيرَةٌ عَنِ النَّاسِ هُنَالِكَ، وَبُنِيَتْ بِقُرَى
النُّصَيْرِيَّةِ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مَسْجِدٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي بُكْرَةِ نَهَارِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ
وَصَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، شَيْخُ الْكُتَّابِ، شِهَابُ الدِّينِ
مَحْمُودُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَلَبِيُّ عَلَى الْبَرِيدِ مِنْ مِصْرَ إِلَى
دِمَشْقَ مُتَوَلِّيًا كِتَابَةَ السِّرِّ بِهَا، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ
تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ يَوْمَ الْأَحَدِ دَرَّسَ بِالصِّمْصَامِيَّةِ الَّتِي
جُدِّدَتْ لِلْمَالِكِيَّةِ، وَقَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ
غِبْرِيَالُ دَرْسًا، وَدَرَّسَ بِهَا فِقْهًا، وَعَيَّنَ تَدْرِيسَهَا لِنَائِبِ
الْحُكْمِ الْفَقِيهِ نُورِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ النَّصِيرِ
الْمَالِكِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَمِمَّنْ حَضَرَ
عِنْدَهُ: الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ
إِسْكَنْدَرِيَّةَ. وَفِيهِ دَرَّسَ بِالدَّخْوَارِيَّةِ الشَّيْخُ جَمَالُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ الْكَحَّالُ،
وَرُتِّبَ فِي رِيَاسَةِ الطِّبِّ عِوَضًا عَنْ أَمِينِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ
الطَّبِيبِ، بِمَرْسُومِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، وَاخْتَارَهُ لِذَلِكَ.
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ تَجَمَّعَ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ
بِمَارِدِينَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِمْ خَلْقٌ مِنَ الْجُفَالِ مِنَ الْغُلَا
قَاصِدِينَ بِلَادَ الشَّامِ، فَسَارُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِمَرْحَلَتَيْنِ
مِنْ رَأْسِ الْعَيْنِ لَحِقَهُمْ سِتُّونَ فَارِسًا مِنَ التَّتَارِ، فَمَالُوا
عَلَيْهِمْ بِالنُّشَّابِ، وَقَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
سِوَى صِبْيَانِهِمْ نَحْوَ سَبْعِينَ صَبِيًّا، فَقَالُوا: مَنْ يَقْتُلُ
هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: أَنَا، بِشَرْطِ أَنْ تَنْفِلُونِي بِمَالٍ
مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ
قُتِلَ مِنَ التُّجَّارِ سِتَّمِائَةٍ، وَمِنَ الْجُفَالِ ثَلَاثَمِائَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَرَدَمُوا بِمَوْتَاهُمْ خَمْسَ صَهَارِيجَ
هُنَاكَ حَتَّى امْتَلَأَتْ بِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ
الْجَمِيعِ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ تُرْكُمَانِيٍّ هَرَبَ، وَجَاءَ إِلَى رَأْسِ
الْعَيْنِ، فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِمَا رَأَى وَشَاهَدَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ
الْمُؤْلِمِ، فَاجْتَهَدَ مُتَسَلِّمُ دِيَارِ بَكْرٍ سُوتَايْ فِي طَلَبِ
أُولَئِكَ التَّتَرِ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ
رَجُلٌ وَاحِدٌ، لَا جَمَعَ اللَّهُ بِهِمْ شَمَلًا، وَلَا بِهِمْ مَرْحَبًا وَلَا
أَهْلًا، آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
صِفَةُ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ الضَّالِّ بِأَرْضِ جَبَلَةَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَتِ النُّصَيْرِيَّةُ عَنِ الطَّاعَةِ، فَأَقَامُوا
مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلًا سَمَّوْهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ الْمَهْدِيَّ
الْقَائِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَتَارَةً يَدَّعِي أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيرًا، وَتَارَةً يَدَّعِي أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
صَاحِبُ الْبِلَادِ، وَصَرَّحَ بِكُفْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ النُّصَيْرِيَّةَ
عَلَى الْحَقِّ، وَاحْتَوَى هَذَا الرَّجُلُ عَلَى عُقُولِ كَثِيرٍ مِنْ كِبَارِ
النُّصَيْرِيَّةِ الضُّلَّالِ، وَعَيَّنَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ تَقْدِمَةَ
أَلْفٍ، وَبِلَادًا كَثِيرَةً، وَنِيَابَةَ قَلْعَةٍ، وَحَمَلُوا عَلَى مَدِينَةِ
جَبَلَةَ، فَدَخَلُوهَا، وَقَتَلُوا
خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا، وَخَرَجُوا مِنْهَا يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا
عَلِيٌّ، وَلَا حِجَابَ إِلَّا مُحَمَّدٌ، وَلَا بَابَ إِلَّا سَلْمَانُ،
وَسَبُّوا الشَّيْخَيْنِ، وَصَاحَ أَهْلُ الْبَلَدِ: وَاإِسْلَامَاهُ، وَاسُلْطَانَاهُ،
وَاأَمِيرَاهُ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ نَاصِرٌ وَلَا مُنْجِدٌ،
وَجَعَلُوا يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَمَعَ
هَذَا الضَّالُّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ فَقَسَّمَهَا عَلَى أَصْحَابِهِ
وَأَتْبَاعِهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَمْ يَبْقَ
لِلْمُسْلِمِينَ ذِكْرٌ وَلَا دَوْلَةٌ، وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مَعِي سِوَى عَشَرَةِ
نَفَرٍ لَمَلِكْنَا الْبِلَادَ كُلَّهَا.
وَنَادَى فِي تِلْكَ الْبِلَادِ: إِنَّ الْمُقَاسَمَةَ بِالْعُشْرِ لَا غَيْرُ
لِيُرَغِّبَ الْفَلَّاحِينَ فِيهِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِخَرَابِ الْمَسَاجِدِ،
وَاتِّخَاذِهَا خَمَّارَاتٍ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِمَنْ أَسَرُوهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ: قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا عَلِيٌّ، وَاسْجُدْ لِإِلَهِكَ
الْمَهْدِيِّ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ حَتَّى يَحْقِنَ دَمَكَ، وَيَكْتُبَ لَكَ
فَرْمَانَ. وَتَجَهَّزُوا، وَعَمِلُوا أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، فَجُرِّدَتْ
إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرُ، فَهَزَمُوهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَجَمًّا غَفِيرًا، وَقُتِلَ الْمَهْدِيُّ الَّذِي أَضَلَّهُمْ، وَهُوَ يَكُونُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُقَدَّمَهُمْ وَهَادِيَهُمِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ
فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [ الْحَجِّ: 3، 4 ].
وَفِيهَا حَجَّ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا وَوَلَدُهُ سُلَيْمَانُ، فِي
سِتَّةِ آلَافٍ، وَأَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَلَمْ
يَجْتَمِعْ مُهَنَّا بِأَحَدٍ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَلَا الشَّامِيِّينَ، وَقَدْ
كَانَ فِي الْمِصْرِيِّينَ قِجْلِيسُ وَغَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بِهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُبُنِّيُّ، كَانَ فَاضِلًا،
وَكَتَبَ حَسَنًا، نَسَخَ " التَّنْبِيهَ "، وَ " الْعُمْدَةَ
"، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ النَّاسُ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيُقَابِلُونَ
مَعَهُ، وَيُصَحِّحُونَ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ صُنْدُوقٍ كَانَ
لَهُ بِالْجَامِعِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ صَحَّحْتُ عَلَيْهِ فِي " الْعُمْدَةِ
" وَغَيْرِهِ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الرُّومِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْمَرَاغِيُّ، دَرَّسَ بِالْمُعِينِيَّةِ، وَأَمَّ بِمِحْرَابِ
الْحَنَفِيَّةِ بِمَقْصُورَتِهِمُ الْغَرْبِيَّةِ، إِذْ كَانَ مِحْرَابُهُمْ
هُنَاكَ، وَتَوَلَّى مَشْيَخَةَ الْخَاتُونِيَّةِ، وَكَانَ يَؤُمُّ بِنَائِبِ
السُّلْطَانِ الْأَفْرَمِ، وَكَانَ يَقْرَأُ حَسَنًا بِصَوْتٍ مَلِيحٍ، وَكَانَتْ
لَهُ مَكَانَةٌ عِنْدَهُ، وَرُبَّمَا رَاحَ إِلَيْهِ الْأَفْرَمُ مَاشِيًا حَتَّى
يَدْخُلَ عَلَيْهِ زَاوِيَتَهُ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِالشَّرَفِ الشَّمَالِيِّ
عَلَى الْمَيْدَانِ الْكَبِيرِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ بِالْمُحَرَّمِ وَدُفِنَ
بِالصُّوفِيَّةِ قَامَ وَلَدَاهُ عِمَادُ الدِّينِ وَشَرَفُ الدِّينِ فِي
وَظَائِفِهِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَدْلُ الْأَمِينُ، فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي
الْوَفَا بْنِ نِعْمَةِ اللَّهِ الْأَعْزَازِيُّ، كَانَ ذَا ثَرْوَةٍ مِنَ
الْمَالِ، كَثِيرَ الْمُرُوءَةِ وَالتِّلَاوَةِ، أَدَّى الْأَمَانَةَ فِي سِتِّينَ
أَلْفَ دِينَارٍ وَجَوَاهِرَ، حَيْثُ
لَا يَعْلَمُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَعْدَ مَا مَاتَ صَاحِبُهَا
مُجَرَّدًا فِي الْغَزَاةِ، وَهُوَ عِزُّ الدِّينِ الْجِرَاحِيُّ نَائِبُ غَزَّةَ،
أَوْدَعَهُ إِيَّاهَا فَأَدَّاهَا إِلَى أَهْلِهَا، أَثَابَهُ اللَّهُ؛ وَلِهَذَا
لَمَّا مَاتَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ - حَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى،
حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي مِثْلِهَا قَبْلَ ذَلِكَ. وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ سُومَرَ الزَّوَاوِيُّ، قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ بِدِمَشْقَ مِنْ
سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، قَدِمَ مِصْرَ مِنَ الْمَغْرِبِ،
وَاشْتَغَلَ بِهَا، وَأَخَذَ عَنْ مَشَايِخِهَا مِنْهُمُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ
بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ قَاضِيًا فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ تَقْرِيبًا فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَقَامَ شِعَارَ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَعَمَّرَ
الصِّمْصَامِيَّةَ فِي أَيَّامِهِ، وَجَدَّدَ عِمَارَةَ النُّورِيَّةِ، وَحَدَّثَ
بِ " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، وَ " مُوَطَّأِ مَالِكٍ "، عَنْ
يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، وَكِتَابِ " الشِّفَا " لِلْقَاضِي
عِيَاضٍ، وَعُزِلَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعِشْرِينَ يَوْمًا عَنِ الْقَضَاءِ، وَهَذَا
مِنْ خَيْرِهِ حَيْثُ لَمْ يَمُتْ قَاضِيًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدْرَسَةِ
الصِّمْصَامِيَّةِ يَوْمَ الْخَمِيسِ التَّاسِعِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ،
وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ
تُجَاهَ مَسْجِدِ النَّارَنْجِ، وَحَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، وَأَثْنَوْا
عَلَيْهِ خَيْرًا، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ كَمَالِكٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَلَمْ يَبْلُغْ إِلَى سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ عُمْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ
أَيْضًا.
الْقَاضِي الصَّدْرُ الرَّئِيسُ، رَئِيسُ الْكُتَّابِ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ جَمَالِ الدِّينِ فَضْلِ اللَّهِ بْنِ مُجَلِّي
الْقُرَشِيُّ، الْعَدَوِيُّ، الْعُمَرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَخَدَمَ، وَارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ
حَتَّى كَتَبَ الْإِنْشَاءَ بِمِصْرَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى كِتَابَةِ السِّرِّ
بِدِمَشْقَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ثَامِنِ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ،
وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ وَهُوَ مُمَتَّعٌ بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ، وَكَانَتْ
لَهُ عَقِيدَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْعُلَمَاءِ، وَلَا سِيَّمَا فِي ابْنِ تَيْمِيَّةَ
وَفِي الصُّلَحَاءِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَثَاهُ الشِّهَابُ مَحْمُودٌ
كَاتِبُ السِّرِّ بَعْدَهُ بِدِمَشْقَ، وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ،
وَجَمَالُ الدِّينِ بْنُ نُبَاتَةَ.
الْفَقِيهُ الْإِمَامُ، الْعَالَمُ الْمُنَاظِرُ، شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْإِمَامِ
كَمَالِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ سَلَّامٍ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ، وَبَرَعَ، وَحَصَّلَ، وَدَرَسَ
بِالْجَارُوخِيَّةِ، وَالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَأَعَادَ بِالظَّاهِرِيَّةِ، وَأَفْتَى
بِدَارِ الْعَدْلِ، وَكَانَ وَاسِعَ الصَّدْرِ، كَثِيرَ الْهِمَّةِ، كَرِيمَ
النَّفْسِ، مَشْكُورًا فِي فَهْمِهِ، وَخَطِّهِ، وَحِفْظِهِ، وَفَصَاحَتِهِ،
وَمُنَاظَرَتِهِ، تُوُفِّيَ فِي رَابِعِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ، وَتَرَكَ
أَوْلَادًا، وَدَيْنًا كَثِيرًا، فَوَفَّتْهُ عَنْهُ زَوْجَتُهُ بِنْتُ
زُوَيْزَانَ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهَا، وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا.
الصَّاحِبُ أَنِيسُ الْمُلُوكِ، بَدْرُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ الْإِرْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَاشْتَغَلَ بِالْأَدَبِ فَحَصَلَ عَلَى جَانِبٍ جَيِّدٍ مِنْهُ، وَارْتَزَقَ
عِنْدَ الْمُلُوكِ بِهِ، فَمِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ عَلَمُ
الدِّينِ فِي تَرْجَمَتِهِ قَوْلُهُ:
وَمُدَامَةٍ حَمْرَاءَ تُشْ بِهُ خَدَّ مَنْ أَهْوَى وَدَمْعِي يَسْعَى بِهِ
قَمَرٌ أَعَزُّ
عَلَيَّ مِنْ نَظَرِي وَسَمْعِي
وَقَوْلُهُ فِي مُغَنِّيَةٍ:
وَغَرِيرَةٍ هَيْفَاءَ نَاعِمَةِ السَّنَا طَوْعِ الْعِنَاقِ مَرِيضَةِ
الْأَجْفَانِ
غَنَّتْ وَمَاسَ قِوامُهَا فَكَأَنَّهَا الْ وَرْقَاءُ تَسْجَعُ فَوْقَ غُصْنِ
الْبَانِ
الصَّدْرُ الرَّئِيسُ، شَرَفُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ جَمَالِ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَمِينِ الدِّينِ سَالِمِ بْنِ الْحَافِظِ بَهَاءِ الدِّينِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مَحْفُوظِ بْنِ صَصْرَى، بَاشَرَ عِدَّةَ جِهَاتٍ، وَخَرَجَ مَعَ خَالِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ صَصْرَى إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَرَدَى اعْتَرَاهُ مَرَضٌ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَاتَ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مُلَبٍّ، فَشَهِدَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ، وَغَبَطُوهُ بِهَذِهِ الْمَوْتَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ النَّهَارِ سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ، وَدُفِنَ ضُحَى يَوْمِ السَّبْتِ بِمَقْبَرَةِ الْحَجُونِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِ
عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ هُمَا هُمَا، وَكَذَلِكَ النُّوَّابُ وَالْقُضَاةُ،
سِوَى الْمَالِكِيِّ بِدِمَشْقَ، فَإِنَّهُ الْعَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ
سَلَامَةَ، بَعْدَ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزَّوَاوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَوَصَلَتِ الْأَخْبَارُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَبِلَادِ
الشَّرْقِ: سِنْجَارَ، وَالْمَوْصِلَ، وَمَارِدِينَ، وَتِلْكَ النَّوَاحِي
بِغَلَاءٍ عَظِيمٍ، وَفِنَاءٍ شَدِيدٍ، وَقِلَّةِ الْأَمْطَارِ، وَجَوْرِ
التَّتَارِ، وَعَدَمِ الْأَقْوَاتِ، وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ، وَقِلَّةِ
النَّفَقَاتِ، وَزَوَالِ النِّعَمِ، وَحُلُولِ النِّقَمِ، بِحَيْثُ إِنَّهُمْ أَكَلُوا
مَا وَجَدُوهُ مِنَ الْجَمَادَاتِ، وَالْحَيَوَانَاتِ، وَالْمَيْتَاتِ، وَبَاعُوا
حَتَّى أَوْلَادَهُمْ وَأَهَالِيَهُمْ، فَبِيعَ الْوَلَدُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا
وَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ كَانُوا لَا
يَشْتَرُونَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ تَأَثُّمًا، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ
تُصَرِّحُ بِأَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ، لِيُشْتَرَى مِنْهَا وَلَدُهَا لِتَنْتَفِعَ
بِثَمَنِهِ، وَيَحْصُلَ لَهَا مَنْ يُطْعِمُهُ فَيَعِيشُ، وَتَأْمَنَ عَلَيْهِ
مِنَ الْهَلَاكِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَرَتْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَحْوَالٌ صَعْبَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَتَنْبُو
الْأَسْمَاعُ عَنْ وَصْفِهَا، وَقَدْ تَرَحَّلَتْ مِنْهُمْ فَرْقَةٌ قَرِيبُ
الْأَرْبَعِمِائَةِ إِلَى نَاحِيَةِ مَرَاغَةَ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمْ ثَلْجٌ
أَهْلَكَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَصَحِبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فِرْقَةً مِنَ
التَّتَارِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى
عَقَبَةٍ صَعِدَهَا التَّتَارُ، ثُمَّ
مَنَعُوهُمْ أَنْ يَصْعَدُوهَا لِئَلَّا يَتَكَلَّفُوا بِهِمْ، فَمَاتُوا عَنْ
آخِرِهِمْ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَفِي بُكْرَةِ الِاثْنَيْنِ السَّابِعِ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ الْقَاضِي كَرِيمُ
الدِّينِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْعَلَمِ هِبَةِ اللَّهِ وَكِيلُ الْخَاصِّ
السُّلْطَانِيِّ بِالْبِلَادِ جَمِيعِهَا - قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ
بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ
جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: جَامِعُ كَرِيمِ الدِّينِ. وَرَاحَ
لِزِيَارَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَافِرَةٍ،
وَشَرَعَ فِي بِنَاءِ جَامِعِهِ بَعْدَ سَفَرِهِ.
وَفِي ثَانِي صَفَرٍ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِبِلَادِ طَرَابُلُسَ عَلَى بُيُوتِ
مُقَدَّمِ تُرْكُمَانَ، فَأَهْلَكَتْ لَهُمْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْتِعَةِ،
وَقَتَلَتْ أَمِيرًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: طَرَالِي، وَزَوْجَتَهُ، وَابْنَيْهِ،
وَابْنَيِ ابْنَيْهِ، وَجَارِيَتَهُ، وَأَحَدَ عَشَرَ نَفْسًا، وَقَتَلَتْ
جِمَالًا كَثِيرَةً وَغَيْرَهَا، وَكَسَرَتِ الْأَمْتِعَةَ وَالْأَثَاثَ،
وَكَانَتْ تَرْفَعُ الْبَعِيرَ فِي الْهَوَاءِ مِقْدَارَ عَشَرَةِ أَرْمَاحٍ،
ثُمَّ تُلْقِيهِ مُقَطَّعًا، ثُمَّ سَقَطَ بَعْدَ ذَلِكَ مَطَرٌ شَدِيدٌ، وَبَرَدٌ
عَظِيمٌ، بِحَيْثُ أَتْلَفَ زُرُوعًا كَثِيرَةً فِي قُرًى عَدِيدَةٍ نَحْوٍ مَنْ
أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ قَرْيَةً، حَتَّى إِنَّهَا لَا تُرَّدُ بِدَارِهَا.
وَفِي صَفَرٍ أُخْرِجَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُغَاي الْخَاصِكِيُّ إِلَى
نِيَابَةِ صَفَدَ، فَأُقِيمَ
بِهَا شَهْرَيْنِ، ثُمَّ مُسِكَ،
وَالصَّاحِبُ أَمِينُ الْمُلْكِ إِلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِطَرَابُلُسَ عَلَى
مَعْلُومٍ وَافِرٍ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ اجْتَمَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ
بِالشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ،
وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْإِفْتَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ،
فَقَبِلَ الشَّيْخُ نَصِيحَتَهُ، وَأَجَابَ إِلَى مَا أَشَارَ بِهِ رِعَايَةً
لِخَاطِرِهِ وَخَوَاطِرِ الْجَمَاعَةِ الْمُفْتِينَ، ثُمَّ وَرَدَ الْبَرِيدُ فِي
مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى بِكِتَابٍ مِنَ السُّلْطَانِ فِيهِ مَنْعُ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ مِنَ الْإِفْتَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ
بِالطَّلَاقِ، وَعُقِدَ فِي ذَلِكَ مَجْلِسٌ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى مَا
رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ، وَنُودِيَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَكَانَ قَبْلَ قُدُومِ
الْمَرْسُومِ قَدِ اجْتَمَعَ بِالْقَاضِي ابْنِ مُسَلَّمٍ الْحَنْبَلِيِّ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفْتِينَ الْكِبَارِ، وَقَالُوا لَهُ أَنْ يَنْصَحَ الشَّيْخَ
فِي تَرْكِ الْإِفْتَاءِ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، فَعَلِمَ الشَّيْخُ
نَصِيحَتَهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ تَرْكَ ثَوَرَانِ فِتْنَةٍ
وَشَرٍّ.
وَفِي عَاشِرِهِ جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى صَفَدَ بِمَسْكِ سَيْفِ الدِّينِ طُغَايْ،
وَتَوْلِيَةِ بَدْرِ الدِّينِ الْقَرَمَانِيِّ نِيَابَةَ حِمْصَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ مَقْتَلُ رَشِيدِ الدَّوْلَةِ فَضْلِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي الْخَيْرِ بْنِ عَالِي الْهَمَذَانِيِّ، كَانَ أَصْلُهُ يَهُودِيًّا
عَطَّارًا، فَتَقَدَّمَ بِالطِّبِّ، وَشَمِلَتْهُ السَّعَادَةُ حَتَّى صَارَ
عِنْدَ خَرْبَنْدَا الْجُزْءَ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، وَعَلَتْ رُتْبَتُهُ
وَكَلِمَتُهُ، وَتَوَلَّى مَنَاصِبَ الْوُزَرَاءِ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَالْأَمْلَاكِ، وَالسَّعَادَةِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ،
وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ
الْإِسْلَامَ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ
فَضَائِلُ جَمَّةٌ، وَقَدْ فَسَّرَ الْقُرْآنَ، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً،
وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَلَغَ الثَّمَانِينَ مِنَ
الْعُمْرِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ جَيِّدَةٌ يَوْمَ الرَّحْبَةِ، فَإِنَّهُ صَانَعَ
عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْقَنَ الْقَضِيَّةَ فِي رُجُوعِ مَلِكِ التَّتَرِ عَنِ
الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ
يُنَاصِحُ الْإِسْلَامَ، وَلَكِنْ قَدْ نَالَ مِنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ، وَاتَّهَمُوهُ عَلَى الدِّينِ، وَتَكَلَّمُوا فِي تَفْسِيرِهِ هَذَا،
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مُخَبِّطًا مُخَلِّطًا، وَلَيْسَ لَدَيْهِ عِلْمٌ
نَافِعٌ، وَلَا عَمَلٌ صَالِحٌ. وَلَمَّا تَوَلَّى بُو سَعِيدٍ الْمَمْلَكَةَ
عَزَلَهُ، وَبَقِيَ مُدَّةً خَامِلًا، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ جُوبَانُ، وَقَالَ لَهُ:
أَنْتَ سَقَيْتَ السُّلْطَانَ خَرْبَنْدَا سُمًّا؟ فَقَالَ لَهُ: أَنَا كُنْتُ فِي
غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَالذِّلَّةِ، فَصِرْتُ فِي أَيَّامِهِ وَأَيَّامِ أَبِيهِ
فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ، فَكَيْفَ أَعْمَدُ إِلَى سَقْيِهِ
وَالْحَالَةُ هَذِهِ ! فَأُحْضِرَتِ الْأَطِبَّاءُ، فَذَكَرُوا صُورَةَ مَرَضِ
خَرْبَنْدَا وَصِفَتَهُ، وَأَنَّ الرَّشِيدَ أَشَارَ بِإِسْهَالِهِ لِمَا عِنْدَهُ
فِي بَاطِنِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ، فَانْطَلَقَ بَاطِنُهُ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ
مَجْلِسًا، فَمَاتَ، فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي
الطِّبِّ، فَقَالَ: فَأَنْتَ إِذًا قَتَلْتَهُ، فَقَتَلَهُ وَوَلَدَهُ
إِبْرَاهِيمَ، وَاحْتِيطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ، فَبَلَغَتْ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَقُطِّعَتْ أَعْضَاؤُهُ، وَحُمِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا إِلَى
بَلْدَةٍ، وَنُودِيَ عَلَى رَأْسِهِ بِتِبْرِيزَ: هَذَا رَأْسُ الْيَهُودِيِّ
الَّذِي بَدَّلَ كَلَامَ اللَّهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ. ثُمَّ أُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ،
وَكَانَ الْقَائِمُ عَلَيْهِ عَلِيَّ شَاهْ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ - أَعْنِي: جُمَادَى الْأُولَى - تَوَلَّى قَضَاءَ
الْمَالِكِيَّةِ بِمِصْرَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ
عِوَضًا عَنْ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ مَخْلُوفٍ، تُوُفِّيَ
عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَلَهُ فِي الْحُكْمِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِ رَجَبٍ لَبِسَ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
الْمَلِكِ الْأَوْحَدِ خِلْعَةَ الْإِمْرَةِ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ. وَفِي
آخِرِ رَجَبٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِظَاهِرِ حِمْصَ، خَرَّبَ شَيْئًا يَسِيرًا،
وَجَاءَ إِلَى الْبَلَدِ لِيَدْخُلَهَا، فَمَنَعَهُ الْخَنْدَقُ.
وَفِي شَعْبَانَ تَكَامَلَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الَّذِي عَمَرَهُ تَنْكِزُ ظَاهِرَ
بَابِ النَّصْرِ، وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ فِيهِ يَوْمَ عَاشِرِ شَعْبَانَ،
وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ بْنِ يَحْيَى
الْحَنَفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْقَحْفَازِيِّ، مِنْ مَشَاهِيرِ الْفُضَلَاءِ ذَوِي
الْفُنُونِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَالْقُضَاةُ،
وَالْأَعْيَانُ، وَالْقُرَّاءُ، وَالْمُنْشِدُونَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا خَطَبَ بِجَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ
الَّذِي أَنْشَأَهُ كَرِيمُ الدِّينِ وَكِيلُ السُّلْطَانِ، وَحَضَرَ فِيهِ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْوَزِيرِ الْحَرَّانِيُّ الْأَسَدِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، وَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، ذَوِي الزَّهَادَةِ،
وَالْعِبَادَةِ، وَالنُّسُكِ، وَالتَّوَجُّهِ، وَطِيبِ الصَّوْتِ، وَحُسْنِ
السَّمْتِ.
وَفِي حَادِي عَشَرَ رَمَضَانَ خَرَجَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقِيبِ
إِلَى حِمْصَ حَاكِمًا بِهَا، مَطْلُوبًا مَسْئُولًا، مَرْغُوبًا فِيهِ، وَخَرَجَ
النَّاسُ لِتَوْدِيعِهِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ حَصَلَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
بِسَلَمْيَةَ، وَمِثْلُهُ بِالشَّوْبَكِ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ فِي شَوَّالٍ وَأَمِيرُ الرَّكْبِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ بْنُ
مَعْبَدٍ وَالِي الْبَرِّ، وَقَاضِيهِ
زَيْنُ الدِّينِ بْنُ قَاضِي الْخَلِيلِ الْحَاكِمِ بِحَلَبَ.
وَمِمَّنْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ: الشَّيْخُ بُرْهَانُ
الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَكَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ وَوَلَدُهُ،
وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْعَطَّارِ.
وَفِي الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ انْتَقَلَ الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ
أَيَاسٌ الْأَعْسَرِيُّ مِنْ شَدِّ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ إِلَى طَرَابُلُسَ
أَمِيرًا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ فِي الْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَأَهُ الصَّاحِبُ شَمْسُ
الدِّينِ غِبْرِيَالُ - نَاظِرُ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ - خَارِجَ بَابِ
شَرْقِيٍّ، إِلَى جَانِبِ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
بِالْقُرْبِ مِنْ مَحَلَّةِ الْقَعَاطِلَةِ، وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ التَّدْمُرِيِّ، الْمَعْرُوفُ بِالْنَّيْرَبَانِيِّ،
وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ ذَوِي الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَهُوَ
مِنْ أَصْحَابِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَحَضَرَهُ الصَّاحِبُ
الْمَذْكُورُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بَاشَرَ الشَّيْخُ
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الذَّهَبِيُّ - الْمُحَدِّثُ الْحَافِظُ
- مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ عِوَضًا عَنْ كَمَالِ
الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ، تُوُفِّيَ بِطَرِيقِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ، وَقَدْ
كَانَ لَهُ فِي مَشْيَخَتِهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَحَضَرَ عِنْدَ الذَّهَبِيِّ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُضَاةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ صَبِيحَةَ
هَذَا الدَّرْسِ أُحْضِرَ الْفَقِيهُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ عُبَيْدَانَ
الْحَنْبَلِيُّ مِنْ بَعْلَبَكَّ، وَحُوقِقَ عَلَى مَنَامٍ رَآهُ، زَعَمَ أَنَّهُ
رَآهُ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، وَفِيهِ تَخْلِيطٌ وَتَخْبِيطٌ،
وَكَلَامٌ كَثِيرٌ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُسْتَقِيمِ الْمِزَاجِ، كَانَ كَتَبَهُ
بِخَطِّهِ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَاسْتَسْلَمَهُ الْقَاضِي
الشَّافِعِيُّ، وَحَقَنَ دَمَهُ، وَعَزَّرَهُ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ،
وَمُنِعَ مِنَ الْفَتْوَى وَعُقُودِ الْأَنْكِحَةِ، ثُمَّ أُطْلِقَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ بُكْرَةً بَاشَرَ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
بَصْخَانَ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ عِوَضًا عَنِ
الشَّيْخِ مَجْدِ الدِّينِ التُّونِسِيِّ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْأَعْيَانُ وَالْفُضَلَاءُ، وَقَدْ حَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ
بَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْإِقْرَاءِ بِالْأَشْرَفِيَّةِ عِوَضًا عَنَ الشَّيْخِ
مُحَمَّدِ بْنِ خَرُوفٍ الْمَوْصِلِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ بَاشَرَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ، الْعَلَّامَةُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ، شَيْخُنَا وَمُفِيدُنَا، أَبُو
الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ الزَّكِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ الْمِزِّيُّ
- مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدِّينِ
بْنِ الشَّرِيشِيِّ، وَلَمْ يَحْضُرْ عِنْدَهُ كَبِيرُ أَحَدٍ لِمَا فِي نُفُوسِ
بَعْضِ النَّاسِ مِنْ وِلَايَتِهِ لِذَلِكَ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّهَا
أَحَدٌ قَبْلَهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ، وَلَا أَحْفَظُ مِنْهُ، وَمَا عَلَيْهِ
مِنْهُمْ إِذْ لَمْ يَحْضُرُوا عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُوحِشُهُ إِلَّا
حُضُورُهُمْ عِنْدَهُ، وَبُعْدُهُمْ عَنْهُ أُنْسٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ، الْعَابِدُ النَّاسِكُ، الْوَرِعُ الزَّاهِدُ الْقُدْوَةُ،
بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
الشَّيْخِ الصَّالِحِ عُمَرَ بْنِ السَّيِّدِ الْقُدْوَةِ النَّاسِكِ الْكَبِيرِ
الْعَارِفِ أَبِي بَكْرِ بْنِ قَوَامِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ قَوَامٍ الْبَالِسِيُّ،
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِبَالِسَ، وَسَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
طَبَرْزَدَ، وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا بَشُوشَ الْوَجْهِ، حَسَنَ السَّمْتِ،
مَقْصِدًا لِكُلِّ أَحَدٍ، كَثِيرَ الْوَقَارِ، عَلَيْهِ سِيمَا الْعِبَادَةِ
وَالْخَيْرِ، وَكَانَ يَوْمَ قَازَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مَعَ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ لَمَّا تَكَلَّمَ مَعَ قَازَانَ، فَحَكَى عَنْ
كَلَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ تَقِيِّ الدِّينِ لِقَازَانَ وَشَجَاعَتِهِ،
وَجُرْأَتِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لِقَازانِ: أَنْتَ
تَزْعُمُ أَنَّكَ مُسْلِمٌ وَمَعَكَ مُؤَذِّنُونَ، وَقَاضٍ، وَإِمَامٌ، وَشَيْخٌ،
عَلَى مَا بَلَغَنَا، فَغَزَوْتَنَا، وَدَخَلْتَ بِلَادَنَا عَلَى مَاذَا ؟
وَأَبُوكَ وَجَدُّكَ هُولَاكُو كَانَا كَافِرَيْنِ، وَمَا غَزَوَا بِلَادَ
الْإِسْلَامِ، بَلْ عَاهَدَا فَوَفَّيَا، وَأَنْتَ عَاهَدْتَ فَغَدَرْتَ، وَقُلْتَ
فَمَا وَفَّيْتَ. قَالَ: وَجَرَتْ لَهُ مَعَ قَازَانَ، وَقُطْلُوشَاهْ،
وَبُولَايْ، أُمُورٌ وَنُوَبٌ، قَامَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِيهَا كُلِّهَا لِلَّهِ،
وَقَالَ الْحَقَّ، وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَقُرِّبَ
إِلَى الْجَمَاعَةِ طَعَامٌ فَأَكَلُوا مِنْهُ إِلَّا ابْنَ تَيْمِيَّةَ، فَقِيلَ
لَهُ: أَلَا تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: كَيْفَ آكُلُ مِنْ طَعَامِكُمْ وَكُلُّهُ مِمَّا
نَهَبْتُمْ مِنْ أَغْنَامِ النَّاسِ، وَطَبَخْتُمُوهُ بِمَا قَطَعْتُمْ مِنْ
أَشْجَارِ النَّاسِ ؟ قَالَ: ثُمَّ إِنَّ قَازَانَ طَلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءَ،
فَقَالَ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ
إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا مَحْمُودٌ إِنَّمَا يُقَاتِلُ لِتَكُونَ كَلِمَتُكَ
هِيَ الْعُلْيَا، وَلِيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لَكَ - فَانْصُرْهُ، وَأَيِّدْهُ،
وَمَلِّكْهُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا قَامَ رِيَاءً
وَسُمْعَةً، وَطَلَبًا لِلدُّنْيَا، وَلِتَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا،
وَلِيُذِلَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، فَاخْذُلْهُ، وَزَلْزِلْهُ، وَدَمِّرْهُ،
وَاقْطَعْ دَابِرَهُ. قَالَ: وَقَازَانُ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ، وَيَرْفَعُ
يَدَيْهِ. قَالَ: فَجَعَلْنَا نَجْمَعُ ثِيَابَنَا خَوْفًا مِنْ أَنْ تَتَلَوَّثَ
بِدَمِهِ إِذَا أَمَرَ بِقَتْلِهِ. قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ،
قَالَ لَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ صَصْرَى وَغَيْرُهُ: كِدْتَ
أَنْ تُهْلِكَنَا، وَتُهْلِكَ نَفْسَكَ، وَاللَّهِ لَا نَصْحَبُكَ مِنْ هُنَا.
فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَصْحَبُكُمْ. قَالَ: فَانْطَلَقْنَا عُصْبَةً،
وَتَأَخَّرَ هُوَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَتَسَامَعَتْ بِهِ الْخَوَاتِينُ وَالْأُمَرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ قَازَانَ،
فَأَتَوْهُ يَتَبَرَّكُونَ بِدُعَائِهِ، وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى دِمَشْقَ،
وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ إِلَّا فِي
نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ فِي رِكَابِهِ، وَكُنْتُ أَنَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ
كَانَ مَعَهُ، وَأَمَّا أُولَئِكَ الَّذِينَ أَبَوْا أَنْ يَصْحَبُوهُ، فَخَرَجَ
عَلَيْهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّتَرِ، فَشَلَّحُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. هَذَا
الْكَلَامُ أَوْ نَحْوُهُ. وَقَدْ سَمِعْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مِنْ جَمَاعَةٍ
غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ قَوَامٍ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ بِالزَّاوِيَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِهِمْ غَرْبِيَّ
الصَّالِحِيَّةِ وَالنَّاصِرِيَّةِ وَالْعَادِلِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِهَا،
وَدُفِنَ فِيهَا، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ وَدَفَنَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ
غَفِيرٌ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْجَمْعِ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ؛ لِأَنَّهُ
كَانَ يُحِبُّهُ كَثِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدٍ مُرَتَّبٌ عَلَى
الدَّوْلَةِ، وَلَا لِزَاوِيَتِهِ مُرَتَّبٌ وَلَا وَقْفٌ، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ
ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَانَ يُزَارُ، وَكَانَ لَدَيْهِ عِلْمٌ
وَفَضَائِلُ جَمَّةٌ، وَكَانَ فَهْمُهُ صَحِيحًا، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ
تَامَّةٌ، وَكَانَ حَسَنَ الْعَقِيدَةِ، وَطَوِيَّتُهُ صَحِيحَةٌ، وَكَانَ
مُحِبًّا لِلْحَدِيثِ وَآثَارِ السَّلَفِ، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالْجَمْعِيَّةِ
عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ صَنَّفَ جُزْءًا فِيهِ أَخْبَارٌ جَيِّدَةٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ ثَرَاهُ بِوَابِلِ الرَّحْمَةِ، آمِينَ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ، الْأَدِيبُ الْبَارِعُ، الشَّاعِرُ الْمُجِيدُ، تَقِيُّ
الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّيْخِ أَحْمَدَ بْنِ تَمَّامِ
بْنِ حَسَّانَ التَّلِّيُّ ثُمَّ الصَّالِحِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَخُو الشَّيْخِ
مُحَمَّدِ بْنِ تَمَّامٍ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَصَحِبَ الْفُضَلَاءَ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ
وَالْخُلُقِ، طَيِّبَ النَّفْسِ، مَلِيحَ الْمُجَاوَرَةِ وَالْمُجَالَسَةِ،
كَثِيرَ الْمُفَاكَهَةِ، أَقَامَ مُدَّةً بِالْحِجَازِ، وَاجْتَمَعَ بِابْنِ
سَبْعِينَ وَبِالتَّقِيِّ الْحَوْرَانِيِّ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ ابْنِ
مَالِكٍ، وَابْنِهِ بَدْرِ الدِّينِ، وَصَحِبَهُ مُدَّةً، وَقَدْ صَحِبَهُ
الشِّهَابُ مَحْمُودٌ مُدَّةَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ
بِالزُّهْدِ وَالْفَرَاغِ مِنَ الدُّنْيَا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ
الثَّالِثِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ، وَقَدْ أَوْرَدَ
الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ قِطْعَةً مِنْ
شِعْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
أَسُكَّانَ الْمَعَاهِدِ مِنْ فُؤَادِي لَكُمْ فِي خَافِقٍ مِنْهُ سُكُونُ
أُكَرِّرُ فِيكُمُ أَبَدًا حَدِيثِي
فَيَحْلُو وَالْحَدِيثُ لَهُ شُجُونُ وَأَنْظِمُهُ عُقُودًا مِنْ دُمُوعِي
فَتَنْثُرُهُ الْمَحَاجِرُ وَالْجُفُونُ وَأَبْتَكِرُ الْمَعَانِي فِي هَوَاكُمْ
وَفِيكُمْ كُلُّ قَافِيَةٍ تَهُونُ وَأَسْأَلُ عَنْكُمُ الْبَاكِينَ سِرًّا
وَسِرُّ هَوَاكُمُ سِرٌّ مَصُونُ وَأَعْتَبِقُ النَّسِيمَ؛ لِأَنَّ فِيهِ
شَمَائَلَ مِنْ مَعَاطِفِكُمْ تَبِينُ فَكَمْ لِي فِي مَحَبَّتِكُمْ غَرَامٌ
وَكَمْ لِي فِي الْغَرَامِ بِكُمْ فُنُونُ
قَاضِي الْقُضَاةِ زَيْنُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مَخْلُوفِ بْنِ نَاهَضِ بْنِ
مُسْلِمِ بْنِ مُنْعِمِ
بْنِ خَلَفٍ النُّوَيْرِيُّ
الْمَالِكِيُّ، الْحَاكِمُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ،
وَوَلِيَ الْحُكْمَ بَعْدَ ابْنِ شَاسٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ، وَطَالَتْ
أَيَّامُهُ إِلَى هَذَا الْعَامِ، وَكَانَ غَزِيرَ الْمُرُوءَةِ وَالِاحْتِمَالِ
وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالشُّهُودِ وَمَنْ يَقْصِدُهُ، تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ
الْمُقَطَّمِ بِمِصْرَ، وَتَوَلَّى الْحُكْمَ بَعْدَهُ بِمِصْرَ تَقِيُّ الدِّينِ
الْأَخْنَائِيُّ الْمَالِكِيُّ.
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ الْمُقْرِئُ الصَّيِّتُ
الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَعْلَانَ، وَكَانَ رَجُلًا جَيِّدًا فِي
شُهُودِ الْمِسْمَارِيَّةِ، وَيُقْصَدُ لِلْخَتَمَاتِ لِطِيبِ صَوْتِهِ، تُوُفِّيَ
وَهُوَ كَهْلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ
أَبِي الْقَاسِمِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ خَلَفِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عِيسَى بْنِ
الْحَاجِّ التُّجِيبِيُّ الْقُرْطُبِيُّ ثُمَّ الْإِشْبِيلِيُّ، وُلِدَ
بِإِشْبِيلِيَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُهُ
بَيْتَ الْعِلْمِ وَالْخَطَابَةِ وَالْقَضَاءِ بِمَدِينَةِ قُرْطُبَةَ، فَلَمَّا
أَخَذَهَا الْفِرَنْجُ انْتَقَلُوا إِلَى إِشْبِيلِيَةَ، وَتَمَحَّقَتْ
أَمْوَالُهُمْ وَكُتُبُهُمْ، وَصَادَرَ ابْنُ الْأَحْمَرِ جَدَّهُ الْقَاضِيَ
بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَجَدُّهُ سَنَةَ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَنَشَأَ يَتِيمًا، ثُمَّ حَجَّ وَأَقْبَلَ إِلَى
الشَّامِ، فَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَسَمِعَ مِنِ
ابْنِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَتَبَ بِيَدِهِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ
مُجَلَّدٍ إِعَانَةً لِوَلَدَيْهِ أَبِي عُمَرٍو وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى
الِاشْتِغَالِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيَّةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَقْتَ الْأَذَانِ ثَامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
الْعَصْرِ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْفِنْدَلَاوِيِّ بِبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ،
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ، أَحْمَدُ بْنُ الْإِمَامِ
الْعَلَّامَةِ جَمَالِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عُبِدِ اللَّهِ بْنِ سُحْمَانَ الْبَكْرِيُّ الْوَائِلِيُّ
الشَّرِيشِيُّ، كَانَ أَبُوهُ مَالِكِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ، وَاشْتَغَلَ هُوَ فِي
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَبَرَعَ، وَحَصَّلَ عُلُومًا كَثِيرَةً، وَكَانَ
خَبِيرًا بِالْكِتَابَةِ مَعَ ذَلِكَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَتَبَ الطِّبَاقَ
وَقَرَأَهُ بِنَفْسِهِ، وَأَفْتَى، وَدَرَّسَ، وَنَاظَرَ، وَبَاشَرَ عِدَّةَ
مَدَارِسَ وَمَنَاصِبَ كِبَارٍ، أَوَّلَ مَا بَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ
بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ بَعْدَ وَالِدِهِ مِنْ سَنَةِ
خَمْسٍ وَثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ جَمَاعَةَ، ثُمَّ تَرَكَ
ذَلِكَ وَوَلِيَ وَكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَضَاءَ الْعَسْكَرِ، وَنَظَرَ
الْجَامِعِ مَرَّاتٍ، وَدَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَدَرَّسَ
بِالنَّاصِرِيَّةِ عِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِهِ ابْنُ
جَمَاعَةَ وَزَيْنُ الدِّينِ الْفَارِقِيُّ، فَاسْتَعَادَهَا مِنْهُمَا، وَبَاشَرَ
مَشْيَخَةَ الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بَقَاسِيُونَ، مُدَّةً وَمَشْيَخَةَ دَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ ثَمَانِ سِنِينَ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ
فِيمَا تَوَلَّاهُ مِنَ الْجِهَاتِ كُلِّهَا، وَقَدْ عَزَمَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَلَى الْحَجِّ، فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَنِيَّتُهُ بِالْحَسَا فِي
سَلْخِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْوَكَالَةَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ،
وَدَرَّسَ فِي النَّاصِرِيَّةِ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَبِدَارِ
الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ، وَبِأُمِّ
الصَّالِحِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ، وَبِالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ
وَلَدُهُ جَمَالُ الدِّينِ.
الشِّهَابُ الْمُقْرِئُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ
الْبَغْدَادِيُّ، نَقِيبُ الْمُتَعَمِّمِينَ، كَانَ عِنْدَهُ فَضَائِلُ جَمَّةٌ
نَظْمًا وَنَثْرًا، مِمَّا يُنَاسِبُ الْوَقَائِعَ وَمَا يَحْضُرُ فِيهِ مِنَ
التَّهَانِي وَالتَّعَازِي، وَيَعْرِفُ الْمُوسِيقَى، وَالشَّعْبَذَةَ، وَضَرْبَ
الرَّمْلِ، وَيَحْضُرُ الْمَجَالِسَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى اللَّهْوِ،
وَالْمُسْكِرِ، وَاللَّعِبِ، وَالْبَسْطِ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ
لِكِبَرِ سِنِّهِ، وَهُوَ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ:.
ذَهَبْتُ عَنْ تَوْبَتِهِ سَائِلًا وَجَدْتُهَا تَوْبَةَ إِفْلَاسِ
وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ
خَامِسِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ فِي قَبْرٍ أَعَدَّهُ لِنَفْسِهِ، عَنْ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، سَامَحَهُ اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَاجِ
الدِّينِ أَبِي الْخَيْرِ سَلَامَةَ بْنِ زَيْنِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ
أَحْمَدَ بْنِ سَلَامَةَ الْإِسْكَنْدَرِيُّ الْمَالِكِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَبَرَعَ فِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ، وَوَلِيَ نِيَابَةَ
الْحُكْمِ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ، وَدِيَانَتُهُ،
وَصَرَامَتُهُ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَى قَضَاءِ الشَّامِ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَبَاشَرَهَا أَحْسَنَ مُبَاشَرَةٍ سَنَةً وَنِصْفًا،
إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِالصِّمْصَامِيَّةِ بُكْرَةَ الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ
ذِي الْحِجَّةِ، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفِنْدَلَاوِيِّ بِبَابِ الصَّغِيرِ،
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَشَكَرَهُ النَّاسُ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي
مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِدِمَشْقَ، سَقَطَ بِسَبَبِهَا
شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجُدْرَانِ، وَاقْتَلَعَتْ أَشْجَارًا كَثِيرَةً. وَفِي
يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي
جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ بِوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَنِ
ابْنِ الشَّرِيشِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِ صَفَرٍ دَرَّسَ بِالنَّاصِرِيَّةِ
الْجَوَّانِيَّةِ ابْنُ صَصْرَى، عِوَضًا عَنِ ابْنِ الشَّرِيشِيِّ أَيْضًا،
وَحَضَرَ عِنْدَهُ النَّاسُ عَلَى الْعَادَةِ. وَفِي عَاشِرِهِ بَاشَرَ شَدَّ
الدَّوَاوِينِ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الرَّحْبِيُّ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ
الدِّينِ أَيَاسٍ، وَكَانَ آقُوشُ مُتَوَلِّيَ دِمَشْقَ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ
وَسَبْعِمِائَةٍ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ بِالْبِلَادِ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ
طَرْقُشِيُّ السَّاكِنُ الْعُقَيْبَةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ نُودِيَ بِالْبَلَدِ أَنْ يَصُومَ النَّاسُ لِأَجْلِ
الْخُرُوجِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ، وَشُرِعَ فِي قِرَاءَةِ " الْبُخَارِيِّ
"، وَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَدَعَوْا عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَ
الْخُطَبِ، وَابْتَهَلُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الِاسْتِسْقَاءِ، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ
السَّبْتِ مُنْتَصَفِ صَفَرٍ - وَكَانَ
سَابِعَ نَيْسَانَ - خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ بَرُمَّتِهِمْ إِلَى عِنْدِ مَسْجِدِ
الْقَدَمِ، وَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ مُشَاةً يَبْكُونَ،
وَيَتَضَرَّعُونَ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ هُنَالِكَ، وَكَانَ مَشْهَدًا عَظِيمًا،
وَخَطَبَ بِالنَّاسِ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ الْجَعْفَرِيُّ،
وَأَمَّنَ النَّاسُ عَلَى دُعَائِهِ وَرَجَعُوا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ
الْيَوْمِ الثَّانِي جَاءَهُمُ الْغَيْثُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ
وَرَأْفَتِهِ، لَا بِحَوْلِهِمْ وَلَا بِقُوَّتِهِمْ، فَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَعَمَّ الْبِلَادَ كُلَّهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ شَرَعُوا فِي إِصْلَاحِ رُخَامِ الْجَامِعِ
وَتَرْمِيمِهِ، وَجَلْيِ أَبْوَابِهِ، وَتَحْسِينِ مَا فِيهِ.
وَفِي رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ دَرَّسَ بِالنَّاصِرِيَّةِ
الْجَوَّانِيَّةِ، ابْنُ الشِّيرَازِيِّ بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ، وَأَخَذَهَا
مِنِ ابْنِ صَصْرَى، وَبَاشَرَهَا إِلَى أَنْ مَاتَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ ابْنُ شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ فَخْرُ الدِّينِ - أَخُو نَاظِرِ الْجَيْشِ - الْحِسْبَةَ
بِدِمَشْقَ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْحَدَّادِ، وَبَاشَرَ ابْنُ الْحَدَّادِ نَظَرَ
الْجَامِعِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَخُلِعَ عَلَى كُلٍّ
مِنْهُمَا.
وَفِي بُكْرَةِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ
إِلَى دِمَشْقَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ
بْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ مُعِينِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الشَّيْخِ زَكِيِّ
الدِّينِ ظَافِرٍ الْهَمْدَانِيُّ الْمَالِكِيُّ - عَلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ
بِالشَّامِ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ سَلَامَةَ، تُوُفِّيَ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا
سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَلَكِنَّ تَقْلِيدَ هَذَا مُؤَرَّخٌ بِآخِرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ،
وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ الْقَاضِي
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْفُوَيْرَةِ الْحَنَفِيُّ، وَعُمْرُهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ
سَنَةً، عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ قَاضِي مَلَطْيَةَ،
تُوُفِّيَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِ رَمَضَانَ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
أَتْلَفَ لِلنَّاسِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَارْتَفَعَ حَتَّى دَخَلَ مِنْ بَابِ
الْفَرَجِ، وَوَصَلَ إِلَى الْعُقَيْبَةِ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ لَهُ،
وَانْتَقَلُوا مِنْ أَمَاكِنِهِمْ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ
كَانَ مَطَرًا وَقَعَ بِأَرْضِ آبِلِ السُّوقِ وَالْحُسَيْنِيَّةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ بَاشَرَ طَرْقُشِيُّ شَدَّ الدَّوَاوِينِ بَعْدَ مَوْتِ
جَمَالِ الدِّينِ الرَّحْبِيِّ، وَبَاشَرَ وِلَايَةَ الْمَدِينَةِ صَارِمُ الدِّينِ
الْجُوكَنْدَارُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِمَا.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ
اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَأَعْيَانُ الْفُقَهَاءِ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ يَتَضَمَّنُ
مَنْعَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْفُتْيَا فِي
مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَانْفَصَلَ الْمَجْلِسُ عَلَى تَأْكِيدِ الْمَنْعِ مِنْ
ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِ شَوَّالٍ خَطَبَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ الدَّارَانِيُّ
عِوَضًا عَنْ
بَدْرِ الدِّينِ بْنِ نَاصِرِ الدِّينِ
بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، بِجَامِعِ جِرَاحٍ، وَكَانَ فِيهِ خَطِيبًا قَبْلَهُ،
فَتَوَلَّاهُ بَدْرُ الدِّينِ حَسَنٌ الْعَقْرَبَانِيُّ، وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهُ
فِي خَطَابَةِ دَارِيَّا الَّتِي كَانَتْ بِيَدِ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِهِ خَرَجَ الرَّكْبُ وَأَمِيرُهُمْ عِزُّ الدِّينِ
أَيْبَكَ الْمَنْصُورِيُّ أَمِيرُ عَلَمٍ.
وَحَجَّ فِيهَا صَدْرُ الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ الْحَنَفِيُّ، وَبُرْهَانُ
الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ، وَشَرَفُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَنَجْمُ
الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ وَهُوَ قَاضِي الرَّكْبِ، وَرَضِيُّ الدِّينِ
الْمِنْطِيقِيُّ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْوَزِيرِ خَطِيبُ جَامِعِ
الْقُبَيْبَاتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيقٍ الْمَالِكِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِيهَا حَجَّ سُلْطَانُ الْإِسْلَامِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ
قَلَاوُونَ، وَمَعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَوَكِيلُهُ كَرِيمُ
الدِّينِ، وَفَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ، وَكَاتِبُ السِّرِّ ابْنُ
الْأَثِيرِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَصَاحِبُ
حَمَاةَ الْمَلِكُ عِمَادُ الدِّينِ، وَالصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ،
فِي خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْأَعْيَانِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ التَّتَارِ، بِسَبَبِ أَنَّ
سُلْطَانَهُمْ بُو سَعِيدٍ كَانَ قَدْ ضَاقَ ذَرْعًا بِجُوبَانَ، وَعَجَزَ عَنْ
مَسْكِهِ، فَانْتَدَبَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَنْ
أَمْرِهِ مِنْهُمْ أَبُو يَحْيَى خَالُ
أَبِيهِ، وَدُقْمَاقُ، وَقَرْمَشِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ،
وَأَرَادُوا كَبْسَ جُوبَانَ، فَهَرَبَ وَجَاءَ إِلَى السُّلْطَانِ، فَانْتَهَى
إِلَيْهِ مَا كَانَ مِنْهُمْ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْوَزِيرُ عَلِيُّ شَاهْ، وَلَمْ
يَزَلْ بِالسُّلْطَانِ حَتَّى رَضِيَ عَنْ جُوبَانَ، وَأَمَدَّهُ بِجَيْشٍ
كَثِيفٍ، وَرَكِبَ السُّلْطَانُ مَعَهُ أَيْضًا، وَالْتَقَوْا مَعَ أُولَئِكَ،
فَكَسَرُوهُمْ وَأَسَرُوهُمْ، وَتَحَكَّمَ فِيهِمْ جُوبَانُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
إِلَى آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَمِيرًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْمُقْرِئُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ فَزَارَةَ بْنِ بَدْرٍ الْكَفْرِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ
تَقْرِيبًا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ " كِتَابَ التِّرْمِذِيِّ "، وَقَرَأَ
الْقِرَاءَاتِ، وَتَفَرَّدَ بِهَا مُدَّةً يَشْتَغِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ
عَلَيْهِ السَّبْعَ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ طَالِبًا، وَكَانَ يَعْرِفُ
النَّحْوَ، وَالْأَدَبَ، وَفُنُونًا كَثِيرَةً، وَكَانَتْ مُجَالَسَتُهُ حَسَنَةً،
وَلَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، دَرَّسَ بِالطَّرْخَانِيَّةِ أَكْثَرَ مِنْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عَنِ الْأَذْرَعِيِّ مُدَّةَ
وِلَايَتِهِ، وَكَانَ خَيِّرًا مُبَارَكًا، وَأَضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ،
وَانْقَطَعَ فِي بَيْتِهِ مُوَاظِبًا عَلَى
التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَإِقْرَاءِ
الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى
الْأُولَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ بِجَامِعِ دِمَشْقَ،
وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ تَاجِ
الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَامِدٍ التِّبْرِيزِيِّ
الشَّافِعِيِّ، الْمَعْرُوفِ بِالْأَفْضَلِيِّ، بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ الْحَجِّ
بِبَغْدَادَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ صَفَرٍ، وَكَانَ صَالِحًا فَقِيهًا
مُبَارَكًا، وَكَانَ يُنْكِرُ عَلَى رَشِيدِ الدَّوْلَةِ وَيَحُطُّ عَلَيْهِ،
وَلَمَّا قُتِلَ قَالَ: كَانَ قَتْلُهُ أَنْفَعَ مِنْ قَتْلِ مِائَةِ أَلْفِ
نَصْرَانِيٍّ. وَكَانَ رَشِيدُ الدَّوْلَةِ يُرِيدُ أَنْ يَتَرَضَّاهُ فَلَا
يَقْبَلُ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ
بِتُرْبَةِ الشُّونِيزِيِّ، وَكَانَ قَدْ قَارَبَ السِّتِّينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُفَضَّلِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ،
كَاتِبُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ، وَمُسْتَوْفِي الْأَوْقَافِ، كَانَ مَشْكُورَ
السِّيرَةِ، مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، فِيهِ كَرَمٌ وَخِدْمَةٌ
كَثِيرَةٌ لِلنَّاسِ، تُوُفِّيَ رَابِعَ عِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى،
وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ ابْنِ هِلَالٍ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَلَهُ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَبَاشَرَ بَعْدَهُ فِي وَظِيفَتِهِ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ النَّحَّاسِ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ غُرْلُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَادِلِيُّ، كَانَ مِنْ
أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ وَمِنَ
الْأُمَرَاءِ الْمُقَدَّمِينَ
الْأُلُوفِ، وَقَدْ نَابَ بِدِمَشْقَ عَنْ أُسْتَاذِهِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
كَتْبُغَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَوَّلِ سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَاسْتَمَرَّ أَمِيرًا
كَبِيرًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمِ الْخَمِيسِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِشَمَالِيِّ جَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ بَقَاسِيُونَ،
وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا نَاصِحًا لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، مَاتَ فِي عَشْرِ
السِّتِّينَ.
الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ آقُوشُ الرَّحْبِيُّ الْمَنْصُورِيُّ، وَلِيَ
دِمَشْقَ مُدَّةً طَوِيلَةً، كَانَ أَصْلُهُ مِنْ قُرَى إِرْبِلَ، وَكَانَ
نَصْرَانِيًّا، فَسُبِيَ وَأُبِيعَ مِنْ نَائِبِ الرَّحْبَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ
إِلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ فَأَعْتَقَهُ وَأَمَّرَهُ، وَتَوَلَّى الْوِلَايَةَ
بِدِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى شَدِّ
الدَّوَاوِينِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
لَيْلَةَ الْخَمِيسِ حَادِي عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ مَحْبُوبًا إِلَى الْعَامَّةِ مُدَّةَ وِلَايَتِهِ.
الْخَطِيبُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّطِيفِ بْنِ
الْمُغَيْزِلِ الْحَمَوِيُّ، لَهُ تَصَانِيفُ وَفَوَائِدُ، وَكَانَ خَطِيبَ
جَامِعِ السُّوقِ الْأَسْفَلِ بِحَمَاةَ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ طَبَرْزَدَ،
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ.
الْعَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو
عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُسَلَّمِ بْنِ عَلِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ أَبِي سَعْدٍ الْمِصْرِيِّ، سَمَعَ الْحَدِيثَ،
وَكَانَ مِنْ ثِقَاتِ الْعُلَمَاءِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِالْقَاهِرَةِ
مُدَّةً، وَوَلِيَ مَكَانَهُ فِي مِيعَادِ جَامِعِ طُولُونَ الشَّيْخُ عَلَاءُ
الدِّينِ الْقُونَوِيُّ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَفِي مِيعَادِ الْجَامِعِ الْأَزْهَرِ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ عَلَّانَ، كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمِصْرَ وَلَهُ مِنَ
الْعُمْرِ تِسْعُونَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ
عُمَرَ الْمَنْبِجِيُّ، لَهُ زَاوِيَةٌ بِالْحُسَيْنِيَّةِ يُزَارُ فِيهَا، وَلَا
يَخُرَجُ مِنْهَا إِلَّا إِلَى الْجُمُعَةِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِزَاوِيَتِهِ الْمَذْكُورَةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ عِيسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ مَعَالِي بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَطَّافِ بْنِ مُبَارَكِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْجَيْشِ الْمَقْدِسِيُّ
الصَّالِحِيُّ الْمُطْعِمُ، رَاوِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ مَشَايِخَ عِدَّةٍ، وَتَرْجَمَهُ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ فِي " تَارِيخِهِ "، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِالسَّاحَةِ بِالْقُرْبِ مِنْ تُرْبَةِ الْمُوَلَّهِينَ وَلَهُ أَرْبَعٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَكَانَ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي الْحَجِّ، وَعَادَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَدَقَّتِ
الْبَشَائِرُ، وَرَجَعَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ عَلَى طَرِيقِ الشَّامِ وَفِي
صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ الْخَزِنْدَارُ، وَعَادَ صَاحِبُ حَمَاةَ
مَعَ السُّلْطَانِ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ،
وَلَقَّبَهُ بِالْمَلِكِ الْمُؤَيَّدِ، وَرَسَمَ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى
مَنَابِرِ حَمَاةَ وَأَعْمَالِهَا، وَأَنْ يُخَاطَبَ بِالْمَقَامِ الْعَالِي
الْمَوْلَوِيِّ السُّلْطَانِيِّ الْمَلَكِيِّ الْمُؤَيَّدِيِّ، عَلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ عَمُّهُ الْمَنْصُورُ.
وَفِيهَا عَمَرَ ابْنُ الْمَرْجَانِيِّ شِهَابُ الدِّينِ مَسْجِدَ الْخَيْفِ،
وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَفِي الْمُحَرَّمِ
اسْتَقَالَ أَمِينُ الْمُلْكِ مِنْ نَظَرِ طَرَابُلُسَ وَأَقَامَ بِالْقُدْسِ.
وَفِي آخِرِ صَفَرٍ بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ الْمَالِكِيِّ الْقَاضِي شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَفَصِيُّ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَعَ قَاضِي
الْقُضَاةِ شَرَفِ الدِّينِ مِنْ مِصْرَ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ ضُرِبَتْ عُنُقُ شَخْصٍ يُقَالُ لَهُ:
عَبْدُ اللَّهِ
الرُّومِيُّ، وَكَانَ غُلَامًا
لِبَعْضِ التُّجَّارِ، وَكَانَ قَدْ لَزِمَ الْجَامِعَ، ثُمَّ ادَّعَى
النُّبُوَّةَ، فَاسْتُتِيبَ، فَلَمْ يَرْجِعْ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَكَانَ
أَشْقَرَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ جَاهِلًا، وَكَانَ قَدْ خَالَطَهُ شَيْطَانٌ
حَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَاضْطَرَبَ عَقْلُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ فِي
نَفْسِهِ شَيْطَانٌ إِنْسِيٌّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخِرِ عُقِدَ عَقْدُ السُّلْطَانِ
عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي قَدِمَتْ مِنْ بِلَادِ الْقَبْجَاقِ، وَهِيَ مِنْ
بَنَاتِ الْمُلُوكِ، وَخُلِعَ عَلَى الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ،
وَكَاتِبِ السِّرِّ وَكَرِيمِ الدِّينِ وَجَمَاعَةِ الْأُمَرَاءِ. وَوَصَلَتِ
الْعَسَاكِرُ فِي هَذَا الشَّهْرِ إِلَى بِلَادِ سِيسَ، وَغَرِقَ فِي نَهْرِ
جَاهَانَ مَنْ عَسْكَرِ طَرَابُلُسَ نَحْوٌ مِنْ أَلْفِ فَارِسٍ، وَجَاءَتْ
مَرَاسِيمُ السُّلْطَانِ فِي هَذَا الشَّهْرِ إِلَى الشَّامِ بِالِاحْتِيَاطِ
عَلَى أَخْبَازِ آلِ مُهَنَّا، وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ،
وَذَلِكَ لِغَضَبِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ قُدُومِ وَالِدِهِمْ مُهَنَّا
عَلَى السُّلْطَانِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى دَرَّسَ
بِالرُّكْنِيَّةِ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ الْأَسْمَرُ الْحَنَفِيُّ،
وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْجَوْهَرِيَّةُ لِشَمْسِ الدِّينِ الرَّقِّيِّ الْأَعْرَجِ،
وَتَدْرِيسُ جَامِعِ الْقَلْعَةِ لِعِمَادِ الدِّينِ بْنِ مُحْيِي الدِّينِ
الطَّرَسُوسِيِّ، الَّذِي وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ بَعْدَ هَذَا، وَأُخِذَ
مِنَ الرَّقِّيِّ إِمَامَةُ مَسْجِدِ نُورِ الدِّينِ بِحَارَةِ الْيَهُودِ
لِعِمَادِ الدِّينِ بْنِ الْكَيَّالِ،
وَإِمَامَةُ الرَّبْوَةِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الصِّينِيِّ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ اجْتَمَعَتِ الْجُيُوشُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِأَرْضِ
حَلَبَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ نَائِبُ حَلَبَ
أَلْطُنْبُغَا، وَفِيهِمْ نَائِبُ طَرَابُلُسَ شِهَابُ الدِّينِ قَرَطَايْ،
فَدَخَلُوا بِلَادَ الْأَرْمَنِ مِنْ بَابِ إِسْكَنْدَرُونَةَ، فَفَتَحُوا
الثَّغْرَ، ثُمَّ تَلَّ حَمْدُونَ، ثُمَّ خَاضُوا جَاهَانَ فَغَرِقَ مِنْهُمْ
جَمَاعَةٌ، ثُمَّ سَلَّمَ اللَّهُ، ثُمَّ وَصَلُوا إِلَى سِيسَ فَحَاصَرُوهَا،
وَضَيَّقُوا عَلَى أَهْلِهَا، وَأَحْرَقُوا دَارَ الْمَلِكِ الَّتِي فِي
الْبَلَدِ، وَقَطَعُوا أَشْجَارَ الْبَسَاتِينِ، وَسَاقُوا الْأَبْقَارَ
وَالْجَوَامِيسَ وَالْأَغْنَامَ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا بِطَرَسُوسَ، وَخَرَّبُوا
الضِّيَاعَ وَالْأَمَاكِنَ، وَأَحْرَقُوا الزُّرُوعَ، ثُمَّ رَجَعُوا فَخَاضُوا
النَّهْرَ الْمَذْكُورَ فَلَمْ يَغْرَقْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَأَخْرَجُوا بَعْدَ
رُجُوعِهِمْ مُهَنَّا وَأَوْلَادَهُ مِنْ بِلَادِهِمْ، وَسَاقُوا خَلْفَهُمْ إِلَى
عَانَةَ وَحَدِيثَةَ، ثُمَّ بَلَغَ الْجُيُوشَ مَوْتُ صَاحِبِ سِيسَ وَقِيَامُ
وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَشَنُّوا الْغَارَاتِ عَلَى بِلَادِهِ وَتَابَعُوهَا،
وَغَنِمُوا وَأَسَرُوا وَسَلِمُوا، إِلَّا فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ، فَإِنَّهُ
قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ.
وَفِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ
كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالْفِرَنْجِ، فَنَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفًا وَأَكْثَرَ، وَأَسَرُوا خَمْسَةَ آلَافٍ، وَكَانَ فِي
جُمْلَةِ الْقَتْلَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْإِفْرَنْجِ،
وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ، يُقَالُ: كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا
غَنِمُوا سَبْعُونَ قِنْطَارًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنَّمَا كَانَ
جَيْشُ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ غَيْرَ
الرُّمَاةِ، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ سِوَى أَحَدَ عَشَرَ قَتِيلًا، وَهَذَا مِنْ
غَرِيبِ مَا وَقَعَ وَعَجِيبِ مَا سُمِعَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِي عِشْرِينَ رَجَبٍ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِدَارِ
السَّعَادَةِ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ بِحَضْرَةِ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ الْقُضَاةُ وَالْمُفْتُونَ مِنَ الْمَذَاهِبِ،
وَحَضَرَ الشَّيْخُ، وَعَاتَبُوهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى الْإِفْتَاءِ
بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ حُبِسَ الشَّيْخُ يَوْمَئِذٍ بِالْقَلْعَةِ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُضِيفَ شَدُّ الْأَوْقَافِ إِلَى
الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ مَعْبَدٍ مَعَ مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ
الْبَرِّ، وَعُزِلَ بَدْرُ الدِّينِ الْمَنْكُورَسِيُّ عَنِ الشَّدِّ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَعْبَانَ مُسِكَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الْجَاوِلِيُّ
نَائِبُ غَزَّةَ، وَحُمِلَ
إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ
اتُّهِمَ بِأَنَّهُ يُرِيدُ الدُّخُولَ إِلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، وَاحْتِيطَ عَلَى
أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَكَانَ لَهُ بِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَمَعْرُوفٌ
وَأَوْقَافٌ، وَقَدْ بَنَى بِغَزَّةَ جَامِعًا حَسَنًا مَلِيحًا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَرَاقَ مَلِكُ التَّتَرِ بُو سَعِيدٍ الْخُمُورَ،
وَأَبْطَلَ الْخَانَاتِ، وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ إِلَى الرَّعَايَا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَهُمْ بَرَدٌ عَظِيمٌ، وَجَاءَهُمْ سَيْلٌ هَائِلٌ،
فَلَجَئُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَابْتَهَلُوا إِلَيْهِ فَسَلِمُوا،
فَتَابُوا وَأَنَابُوا، وَعَمِلُوا الْخَيْرَ عَقِيبَ ذَلِكَ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ جَرَى الْمَاءُ بِالنَّهْرِ
الْكَرِيمِيِّ الَّذِي اشْتَرَاهُ كَرِيمُ الدِّينِ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ
أَلْفًا، وَأَجْرَاهُ فِي جَدْوَلٍ إِلَى جَامِعِهِ بِالْقُبَيْبَاتِ، فَعَاشَ
بِهِ النَّاسُ، وَحَصَلَ بِهِ أُنْسٌ لِأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَنُصِبَتْ
عَلَيْهِ الْأَشْجَارُ وَالْبَسَاتِينُ، وَعُمِلَ حَوْضٌ كَبِيرٌ تُجَاهَ
الْجَامِعِ مِنَ الْغَرْبِ يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ، وَهُوَ حَوْضٌ
كَبِيرٌ، وَعُمِلَ مِطْهَرَةٌ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ نَفْعٌ كَثِيرٌ وَرِفْقٌ
زَائِدٌ. أَثَابَهُ اللَّهُ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ
الدِّينِ بْنُ الْأَوْحَدِ، وَفِيهِ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا الْحَاجِبُ، وَالشَّيْخُ
كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَالْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
الْعِزِّ، وَقَاضِي حَمَاةَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الْبَازِرِيِّ، وَقُطْبُ
الدِّينِ بْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْعَطَّارِ،
وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ، وَنُورُ الدِّينِ السَّخَاوِيُّ، وَهُوَ قَاضِي
الرَّكْبِ، وَمِنَ الْمِصْرِيِّينَ قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ ابْنُ الْحَرِيرِيِّ،
وَقَاضِي الْحَنَابِلَةِ، وَمَجْدُ الدِّينِ حَرْمِيٌّ، وَالشَّرَفُ عِيسَى
الْمَالِكِيُّ،
وَهُوَ قَاضِي الرَّكْبِ. وَفِيهِ
كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي عَمَرَهُ أُلْجَيْبُغَا غَرْبِيَّ دَارِ
الطُّعْمِ، وَدَخَلَهُ النَّاسُ.
وَفِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ عِنْدِ مَلِكِ
التَّتَرِ الْخَوَاجَا مَجْدُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتٍ
السَّلَامِيُّ، وَفِي صُحْبَتِهِ هَدَايَا وَتُحَفٌ لِصَاحِبِ مِصْرَ مِنْ مَلِكِ
التَّتَرِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالتَّتَرِ، فَتَلَقَّاهُ الْجُنْدُ وَالدَّوْلَةُ، وَنَزَلَ بِدَارِ
السَّعَادَةِ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ.
وَفِيهَا وَقَفَ النَّاسُ بِعَرَفَاتٍ مَوْقِفًا عَظِيمًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ،
أَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَكَانَ مَعَ الْعِرَاقِيِّينَ
مَحَامِلُ كَثِيرَةٌ، مِنْ جُمْلَتِهَا مَحْمَلٌ قُوِّمَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الذَّهَبِ
وَاللَّآلِئِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ مِصْرِيَّةٍ، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الدِّهِسْتَانِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَسَنَّ وَعُمِّرَ،
وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ حِينَ أَخَذَتِ التَّتَرُ بَغْدَادَ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ تَحْتَ
قُبَّةِ النَّسْرِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِزَاوِيَتِهِ الَّتِي عِنْدَ سُوقِ
الْخَيْلِ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِهَا وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ مِائَةٌ وَأَرْبَعُ
سِنِينَ، كَمَا قَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عَلِيٍّ الشَّحَّامُ الْمُقْرِئُ، شَيْخُ
مِيعَادِ ابْنِ عَامِرٍ
وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا بَهِيًّا،
مُوَاظِبًا عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي لَيْلَةِ
تُوُفِّيَ الدِّهِسْتَانِيُّ الْمَذْكُورُ، أَوْ قَبْلَهُ بِلَيْلَةٍ. رَحِمَهُمَا
اللَّهُ.
الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الصَّائِغُ اللُّغَوِيُّ، هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ سِبَاعِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْجُذَامِيُّ
الْمِصْرِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ، وُلِدَ تَقْرِيبًا
سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِمِصْرَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا بَارِعًا فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَعِلْمِ الْعَرُوضِ،
وَالْبَدِيعِ، وَالنَّحْوِ، وَاللُّغَةِ، وَقَدِ اخْتَصَرَ " صِحَاحَ
الْجَوْهَرِيِّ "، وَشَرَحَ " مَقْصُورَةَ ابْنِ دُرَيْدٍ "،
وَلَهُ قَصِيدَةٌ تَائِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى أَلْفَيْ بَيْتٍ فَأَكْثَرَ، ذَكَرَ
فِيهَا الْعُلُومَ وَالصَّنَائِعَ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، لَطِيفَ
الْمُحَاوِرَةِ وَالْمُحَاضِرَةِ، وَكَانَ يَسْكُنُ بَيْنَ دَرْبِ الْحَبَّالِينَ
وَالْفَرَاشِ عِنْدَ بُسْتَانِ الْقِطِّ. تُوُفِّيَ بِدَارِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
ثَالِثِ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا فُتِحَ حَمَّامُ الزَّيْتِ الَّذِي فِي رَأْسِ
دَرْبِ الْحَجَرِ جَدَّدَ عِمَارَتَهُ رَجُلٌ سَامَرِّيٌّ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ
دَرَسَ وَدَثَرَ مِنْ زَمَانِ الْخُوَارَزْمِيَّةِ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ سَنَةً،
وَهُوَ حَمَّامٌ جَيِّدٌ مُتَّسِعٌ.
وَفِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ وَصَلَتْ هَدِيَّةٌ مِنْ مَلِكِ التَّتَارِ بُو
سَعِيدٍ إِلَى السُّلْطَانِ صَنَادِيقُ وَتُحَفٌ وَدَقِيقٌ. وَفِي يَوْمِ
عَاشُورَاءَ خَرَجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مِنَ السِّجْنِ
بِالْقَلْعَةِ بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى دَارِهِ، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُقَامِهِ بِالْقَلْعَةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي رَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ
وَكِيلُ السُّلْطَانِ، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَقَدِمَ قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ عَوَضٍ الْحَاكِمُ الْحَنْبَلِيُّ بِمِصْرَ، وَهُوَ نَاظِرُ
الْخِزَانَةِ أَيْضًا، فَنَزَلَ بِالْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ الَّتِي
لِلشَّافِعِيَّةِ، فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامًا، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ جَاءَ
فِي بَعْضِ أَشْغَالِ السُّلْطَانِ وِزَارَ الْقُدْسَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَانَ السُّلْطَانُ قَدْ حَفَرَ بِرْكَةً قَرِيبًا مِنَ
الْمَيْدَانِ،
وَكَانَ فِي جِوَارِهَا كَنِيسَةٌ،
فَأَمَرَ الْوَالِي بِهَدْمِهَا، فَلَمَّا هُدِمَتْ تَسَلَّطَ الْحَرَافِيشُ
وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْكَنَائِسِ بِمِصْرَ يَهْدِمُونَ مَا قَدَرُوا، عَلَيْهِ
فَانْزَعَجَ السُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلَ الْقُضَاةَ: مَاذَا يَجِبُ عَلَى
مَنْ تَعَاطَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ؟ فَقَالُوا يُعَذَّرُ، فَأَخْرَجَ جَمَاعَةً مِنَ
السُّجُونِ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَتْلٌ، فَقَطَعَ وَصَلَبَ وَخَزَمَ وَعَاقَبَ
مُوهِمًا أَنَّهُ إِنَّمَا عَاقَبَ مَنْ تَعَاطَى تَخْرِيبَ الْكَنَائِسِ،
فَسَكَنَ النَّاسُ، وَأَمِنَتِ النَّصَارَى، وَظَهَرُوا بَعْدَ مَا كَانُوا قَدِ
اخْتَفَوْا أَيَّامًا.
وَفِيهِ ثَارَتِ الْحَرَامِيَّةُ بِبَغْدَادَ، وَنَهَبُوا سُوقَ الثُّلَاثَاءِ
وَقْتَ الظُّهْرِ، فَثَارَ النَّاسُ وَرَاءَهُمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ قَرِيبًا
مِنْ مِائَةٍ، وَأَسَرُوا آخَرِينَ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ -:
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّادِسِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَ
الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْمُفْتُونَ إِلَى الْقَابُونِ، وَوَقَفُوا عَلَى
قِبْلَةِ الْجَامِعِ الَّذِي أَمَرَ بِبِنَائِهِ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ
وَكِيلُ السُّلْطَانِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، وَحَرَّرُوا قِبْلَتَهُ،
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ قِبْلَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ. وَفِيهِ
وَقَعَتْ مُرَاجَعَةٌ بَيْنَ الْأَمِيرِ جُوبَانَ أَحَدِ الْمُقَدَّمِينَ
الْكِبَارِ بِدِمَشْقَ وَبَيْنَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، فَمُسِكَ
جُوبَانُ، وَرُفِعَ إِلَى الْقَلْعَةِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ أُعْطِيَ خُبْزًا يَلِيقُ بِهِ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ أَنَّ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَقَعَ حَرِيقٌ
عَظِيمٌ فِي الْقَاهِرَةِ فِي
الدُّورِ الْحَسَنَةِ، وَالْأَمَاكِنِ
الْمَلِيحَةِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَبَعْضِ الْمَسَاجِدِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ
مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ ذَلِكَ، وَقَنَتُوا فِي الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ كَشَفُوا
عَنِ الْقَضِيَّةِ فَإِذَا هُوَ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى بِسَبَبِ مَا كَانَ
أُحْرِقَ لَهُمْ مِنْ كَنَائِسِهِمْ وَهُدِمَ، فَقَتَلَ السُّلْطَانُ بَعْضَهُمْ،
وَأَلْزَمَ النَّصَارَى أَنْ يَلْبَسُوا الزُّرْقَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ
وَثِيَابِهِمْ كُلِّهَا، وَأَنْ يَحْمِلُوا الْأَجْرَاسَ فِي الْحَمَّامَاتِ،
وَأَنْ لَا يُسْتَخْدَمُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْجِهَاتِ، فَسَكَنَ الْأَمْرُ
وَبَطَلَ الْحَرِيقُ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَّبَ مَلِكُ التَّتَارِ بُو سَعِيدٍ الْبَازَارَ،
وَزَوَّجَ الْخَوَاطِئَ، وَأَرَاقَ الْخُمُورَ، وَعَاقَبَ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ
الْعُقُوبَةِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَدَعَوْا لَهُ، رَحِمَهُ
اللَّهُ وَسَامَحَهُ.
وَفِي الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ بِجَامِعِ
الْقَصَبِ، وَخَطَبَ بِهِ الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَنَاخِلِيُّ. وَفِي يَوْمِ
الْخَمِيسِ تَاسِعِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ فُتِحَ الْحَمَّامُ الَّذِي
أَنْشَأَهُ تَنْكِزُ تُجَاهَ جَامِعِهِ، وَأُكْرِيَ فِي كُلِّ يَوْمٍ
بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا لِحُسْنِهِ، وَكَثْرَةِ ضَوْئِهِ، وَرُخَامِهِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ خُرِّبَتْ كَنِيسَةُ الْقَرَّائِينَ
الَّتِي
تُجَاهَ حَارَةِ الْيَهُودِ، بَعْدَ
إِثْبَاتِ كَوْنِهَا مُحْدَثَةً، وَجَاءَتِ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ
بِذَلِكَ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ نَفَذَتِ الْهَدَايَا مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى بُو سَعِيدٍ
مَلِكِ التَّتَرِ، صُحْبَةَ الْخَوَاجَا مَجْدِ الدِّينِ السُّلَامِيِّ، وَفِيهَا
خَمْسُونَ جَمَلًا وَخُيُولٌ وَحِمَارٌ عَتَّابِيٌّ.
وَفِي مُنْتَصَفِ رَمَضَانَ أَقُيِمَتِ الْجُمُعَةُ بِالْجَامِعِ الْكَرِيمِيِّ
بِالْقَابُونِ، وَشَهِدَهَا يَوْمَئِذٍ الْقُضَاةُ، وَالصَّاحِبُ، وَجَمَاعَةٌ
مِنَ الْأَعْيَانِ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ: وَقَدِمَ دِمَشْقَ الْإِمَامُ قِوَامُ الدِّينِ
أَمِيرُ كَاتِبِ بْنُ الْأَمِيرِ الْعَمِيدِ عُمَرَ الْإِتْقَانِيُّ الْفَارَابِيُّ،
مُدَرِّسُ مَشْهَدِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ بِبَغْدَادَ، فِي أَوَّلِ
رَمَضَانَ، وَقَدْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ،
وَأَقَامَ بِهَا أَشْهُرًا، ثُمَّ مَرَّ بِدِمَشْقَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بَغْدَادَ،
فَنَزَلَ بِالْخَاتُونِيَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ ذُو فُنُونٍ وَبَحْثٍ
وَأَدَبٍ وَفِقْهٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ شَمْسُ الدِّينِ حَمْزَةُ التُّرْكُمَانِيُّ، وَقَاضِيهِ نَجْمُ
الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ تَنْكِزُ نَائِبُ الشَّامِ
وَفِي صُحْبَتِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَقَدِمَ مِنْ مِصْرَ الْأَمِيرُ
رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ الْحَاجِبُ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِي غَيْبَتِهِ إِلَى
أَنْ يَرْجِعَ، فَنَزَلَ بِالنَّجِيبِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ.
وَمِمَّنْ حَجَّ فِيهَا الْخَطِيبُ
جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ، وَعِزُّ الدِّينِ حَمْزَةُ بْنُ
الْقَلَانِسِيِّ، وَابْنُ الْعِزِّ شَمْسُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَالْقَاضِي
جَلَالُ الدِّينِ بْنُ حُسَامِ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَبَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ
عُلَيْمَةَ، وَالشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ.
وَدَرَّسَ ابْنُ جَمَاعَةَ بِزَاوِيَةِ الشَّافِعِيِّ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
ثَامِنَ عَشَرَ شَوَّالٍ عِوَضًا عَنْ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأَنْصَارِيِّ لِسُوءِ تَصَرُّفِهِ، وَخُلِعَ عَلَى ابْنِ جَمَاعَةَ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْعَامَّةِ مَا يُشَابِهُ جَمِيعَةَ الْجُمُعَةِ،
وَأُشْعِلَتْ شُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَرَحًا بِزَوَالِ الْمَعْزُولِ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ - وَمِنْ خَطِّهِ نَقَلْتُ -: وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ
سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ ذَكَرَ الدَّرْسَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ
الدِّينِ السُّبْكِيُّ، الْمُحَدِّثُ بِالْمَدْرَسَةِ الْكَهَّارِيَّةِ عِوَضًا
عَنِ ابْنِ الْأَنْصَارِيِّ أَيْضًا، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ
الْقُونَوِيُّ، وَرَوَى فِي الدَّرْسِ حَدِيثَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْخِيَارِ،
عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ جَمَاعَةَ.
وَفِي شَوَّالٍ عُزِلَ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مَعْبَدٍ عَنْ وِلَايَةِ الْبَرِّ
وَشَدِّ الْأَوْقَافِ، وَتَوَلَّى وِلَايَةَ الْوُلَاةِ بِالْبِلَادِ
الْقِبْلِيَّةِ بِحَوْرَانَ عِوَضًا عَنْ بَكْتَمُرَ لِسَفَرِهِ إِلَى الْحِجَازِ،
وَبَاشَرَ أَخُوهُ بَدْرُ الدِّينِ شَدَّ الْأَوْقَافِ، وَالْأَمِيرُ عَلَمُ
الدِّينِ الطَّرْقُشِيُّ وِلَايَةَ الْبَرِّ مَعَ شَدِّ الدَّوَاوِينِ،
وَتَوَجَّهَ ابْنُ الْأَنْصَارِيِّ إِلَى حَلَبَ مُتَوَلِّيًا وَكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ
عِوَضًا عَنْ تَاجِ الدِّينِ أَخِي شَرَفِ الدِّينِ يَعْقُوبَ نَاظِرِ حَلَبَ،
بِحُكْمِ وِلَايَةِ التَّاجِ الْمَذْكُورِ
نَظَرَ الْكَرَكِ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ رَكِبَ الْأَمِيرُ تَمُرْتَاشُ بْنُ جُوبَانَ
نَائِبُ بُو سَعِيدٍ عَلَى بِلَادِ الرُّومِ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ مِنَ التَّتَارِ وَالتُّرْكُمَانِ وَالْقَرَمَانِ، وَدَخَلَ بِلَادَ
سِيسَ، فَقَتَلَ، وَسَبَى، وَحَرَّقَ، وَخَرَّبَ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ لِنَائِبِ
حَلَبَ أَلْطُنْبُغَا لِيُجَهِّزَ لَهُ جَيْشًا يَكُونُ عَوْنًا لَهُ عَلَى
ذَلِكَ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُقْرِئُ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ، عَفِيفُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْأَحَدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ الدَّلَاصِيُّ، شَيْخُ
الْحَرَمِ بِمَكَّةَ، أَقَامَ فِيهِ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً يُقْرِئُ
النَّاسَ الْقُرْآنَ احْتِسَابًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
الرَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ بِمَكَّةَ، وَلَهُ أَزْيَدُ مِنْ تِسْعِينَ
سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْفَاضِلُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْهَمَذَانِيُّ، أَبُوهُ الصَّالِحِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالسَّكَاكِينِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَقَرَأَ بِالرِّوَايَاتِ، وَاشْتَغَلَ فِي
مُقَدِّمَةٍ فِي النَّحْوِ، وَنَظَمَ قَوِيًّا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَخَرَّجَ
لَهُ ابْنُ الْفَخْرِ الْبَعْلَبَكِّيُّ جُزْءًا عَنْ شُيُوخِهِ، ثُمَّ دَخَلَ فِي
التَّشَيُّعِ، فَقَرَأَ عَلَى أَبِي صَالِحٍ الْحَلَبِيِّ شَيْخِ الشِّيعَةِ،
وَصَحِبَ ابْنَ عَدْنَانَ، وَقَرَأَ
عَلَيْهِ أَوْلَادُهُ، وَطَلَبَهُ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ الْأَمِيرُ
مَنْصُورُ بْنُ جَمَّازٍ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ نَحَوًا مِنْ سَبْعِ سِنِينَ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ ضَعُفَ، وَثَقُلَ سَمْعُهُ، وَلَهُ سُؤَالٌ فِي
الْجَبْرِ، أَجَابَهُ فِيهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَكَلَّ
عَنْهُ غَيْرُهُ. وَظَهَرَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كِتَابٌ فِيهِ انْتِصَارٌ
لِلْيَهُودِ وَأَهْلِ الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ، فَغَسَلَهُ تَقِيُّ الدِّينِ
السُّبْكِيُّ لَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ قَاضِيًا - وَكَانَ بِخَطِّهِ، وَلَمَّا
مَاتَ لَمْ يَشْهَدْ جِنَازَتَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ.
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، وَقُتِلَ ابْنُهُ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَذْفِهِ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ وَغَيْرَهَا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَقَبَّحَ
قَاذِفَهُنَّ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ صُلِّيَ بِدِمَشْقَ عَلَى
غَائِبَيْنِ هُمَا الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْأَصْبَهَانِيُّ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، أَحَدُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ
الَّذِينَ يُقْصِدُونَ لِلزِّيَارَةِ، وَعَلَى الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ
الزَّيْلَعِيِّ، تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ أَيْضًا، وَهُوَ مِنَ الصَّالِحِينَ أَيْضًا،
وَعَلَى جَمَاعَةٍ تُوُفُّوا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، مِنْهُمْ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
الْقَاسِمِ بْنِ فَرِحُونَ مُدَرِّسُ الْمَالِكِيَّةِ بِهَا، وَالشَّيْخُ يَحْيَى
الْكُرْدِيُّ، وَالشَّيْخُ حَسَنٌ الْمَغْرِبِيُّ الْسَّقَّا.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ
سَالِمٍ الْأَنْصَارِيُّ، إِمَامُ مَشْهِدِ عَلِيٍّ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ، كَانَ
بَشُوشَ الْوَجْهِ، مُتَوَاضِعًا، حَسَنَ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ، مُلَازِمًا
لِإِقْرَاءِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالْجَامِعِ، وَكَانَ يَؤُمُّ نَائِبَ
السَّلْطَنَةِ وَهُوَ وَالِدُ الْعَلَّامَةِ بَهَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ مُدَرِّسِ الْأَمِينِيَّةِ وَمُحْتَسِبِ دِمَشْقَ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الِاثْنَيْنِ رَابِعِ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ.
الْأَمِيرُ حَاجِبُ الْحُجَّابِ زَيْنُ الدِّينِ كَتْبُغَا الْمَنْصُورِيُّ،
حَاجِبُ دِمَشْقَ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَأَكْثَرِهِمْ بِرًّا
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، يُحِبُّ الْخِتَمَ وَالْمَوَاعِيدَ
وَالْمَوَالِدَ، وَسَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَيُكْرِمُ أَهْلَ ذَلِكَ،
وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ كَثِيرًا، وَكَانَ مُلَازِمًا لِشَيْخِنَا أَبِي
الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ كَثِيرًا، وَكَانَ يَحُجُّ وَيَتَصَدَّقُ،
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ النَّهَارِ، ثَامِنِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ،
وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَتِهِ قِبْلِيَّ الْقُبَيْبَاتِ، وَشَهِدَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالشَّيْخُ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ
الْمَقْدِسِيِّ، وَالشَّيْخُ سَعْدُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى
الْمَقْدِسِيُّ، وَالِدُ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ
الْمُحَدِّثِ الْمَشْهُورِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ سَيْفُ الدِّينِ النَّاسِخُ، الْمُنَادِي عَلَى الْكُتُبِ.
وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الْحَرَّامُ، الْمُقْرِئُ عَلَى الْجَنَائِزِ، وَكَانَ
يُكَرِّرُ عَلَيَّ " التَّنْبِيهَ "، وَيَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْهَا
مَا هُوَ حَسَنٌ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
اسْتَهَلَّتْ وَأَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، سِوَى وَالِي الْبَرِّ بِدِمَشْقَ، فَإِنَّهُ عَلَمُ الدِّينِ
طَرْقُشِيُّ، وَقَدْ صُرِفَ ابْنُ مَعْبَدٍ إِلَى وِلَايَةِ حَوْرَانَ
لِشَهَامَتِهِ، وَصَرَامَتِهِ، وَدِيَانَتِهِ، وَأَمَانَتِهِ.
وَفِي رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ حَصَلَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِدِمَشْقَ،
وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا. وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزُ مِنَ الْحِجَازِ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ حَادِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ
غَيْبَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَقَدِمَ لَيْلًا لِئَلَّا يَتَكَلَّفَ أَحَدٌ
لِقُدُومِهِ، وَسَافَرَ نَائِبُ الْغَيْبَةِ عَنْهُ قَبْلَ وُصُولِهِ بِيَوْمَيْنِ
لِئَلَّا يُكَلِّفَهُ بِهَدِيَّةٍ وَلَا غَيْرِهَا، وَقَدْ قَدِمَ مُغْلَطَايْ
عَبْدُ الْوَاحِدِ الْجَمَدَارُ، أَحَدُ الْأُمَرَاءِ بِمِصْرَ بِخِلْعَةٍ
سَنِيَّةٍ مِنَ السُّلْطَانِ لِتَنْكِزَ، فَلَبِسَهَا وَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ
الشَّرِيفَةَ عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ صَفَرٍ دَرَّسَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ
الْقَحْفَازِيُّ بِالظَّاهِرِيَّةِ لِلْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ خَطِيبُ جَامِعِ
تَنْكِزَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَدَرَّسَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ
اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [
النِّسَاءِ: 58 ]. وَذَلِكَ
بَعْدَ وَفَاةِ الْقَاضِي شَمْسِ
الدِّينِ بْنِ الْعِزِّ الْحَنَفِيِّ، تُوُفِّيَ فِي مَرْجِعِهِ مِنَ الْحِجَازِ،
وَبَاشَرَ بَعْدَهُ نِيَابَةَ الْقَضَاءِ عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ،
وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ، وَكَانَ يَنُوبُ عَنْهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ،
فَاسْتَمَرَّ بَعْدَهُ، ثُمَّ وَلِيَ الْحُكْمَ بَعْدَ مُسْتَنِيبِهِ فِيهَا.
وَفِيهِ قَدِمَ الْخُوَارَزْمِيُّ حَاجِبًا عِوَضًا عَنْ كَتْبُغَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الشَّيْخُ قِوَامُ الدِّينِ
مَسْعُودُ بْنُ الشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الشَّيْخِ شَرَفِ
الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْكَرْمَانِيُّ الْحَنَفِيُّ، فَنَزَلَ بِالْقَصَّاعِينَ،
وَتَرَدَّدَ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ، وَدَخَلَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
وَاجْتَمَعَ بِهِ وَهُوَ شَابٌّ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ،
وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ مُشَارَكَةٌ فِي الْفُرُوعِ
وَالْأُصُولِ، وَدَعْوَاهُ أَوْسَعُ مِنْ مَحْصُولِهِ، وَكَانَتْ لِأَبِيهِ
وَجَدِّهِ مُصَنَّفَاتٌ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ مُدَّةٍ إِلَى مِصْرَ، وَمَاتَ بِهَا
كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تَكَامَلَ فَتْحُ آيَاسَ وَمُعَامَلَتِهَا،
وَانْتِزَاعُهَا مِنْ أَيْدِي الْأَرْمَنِ، وَأُخِذَ الْبُرْجُ الْأَطْلَسُ،
وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فِي الْبَحْرِ رَمْيَةٌ وَنِصْفٌ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَخَرَّبُوهُ، وَكَانَتْ حِجَارَتُهُ مَطْلِيَّةٌ بِالْحَدِيدِ
وَالرَّصَاصِ،
وَعَرْضُ سُورِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ
ذِرَاعًا بِالنَّجَارِيِّ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً جِدًّا،
وَحَاصَرُوا كُوَارَةَ، فَقَوِيَ عَلَيْهِمُ الْحَرُّ وَالذُّبَابُ، فَرَسَمَ
السُّلْطَانُ بِعُودِهِمْ، فَحَرَّقُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمَجَانِيقِ،
وَأَخَذُوا حَدِيدَهَا، وَأَقْبَلُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ، وَكَانَ مَعَهُمْ
خَلْقٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى
كَمَلَ بَسْطُ دَاخِلِ الْجَامِعِ، فَاتَّسَعَ عَلَى النَّاسِ، وَلَكِنْ حَصَلَ
حَرَجٌ بِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ
كَانُوا يَمُرُّونَ وَسَطَ الرِّوَاقَاتِ وَيَخْرُجُونَ مِنْ بَابِ الْبَرَّادَةِ،
وَمَنْ شَاءَ اسْتَمَرَّ يَمْشِي إِلَى الْبَابِ الْآخَرِ بِنَعْلَيْهِ، وَلَمْ
يَكُنْ مَمْنُوعًا سِوَى الْمَقْصُورَةِ، لَا يُمْكِنُ أَحَدًا الدُّخُولُ
إِلَيْهَا بِالْمَدَاسَاتِ، بِخِلَافِ بَاقِي الرُّوَاقَاتِ، فَأَمَرَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ بِتَكْمِيلِ بَسْطِهِ، بِإِشَارَةِ نَاظِرِهِ ابْنِ مَرَاجِلَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ رَجَعَتِ الْعَسَاكِرُ مِنْ بِلَادِ سِيسَ
وَمُقَدَّمُهُمْ آقُوشُ نَائِبُ الْكَرَكِ.
وَفِي آخِرِ رَجَبٍ بَاشَرَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
جَهْبَلٍ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ صَصْرَى عِوَضًا عَنِ الدَّارَانِيِّ
الْجَعْفَرِيِّ، وَاسْتَغْنَى الدَّارَانِيُّ بِخُطْبَةِ جَامِعِ الْعُقَيْبَةِ
عَنْهَا.
وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ رَكِبَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ، وَعَادَ فِي أَوَّلِ شَعْبَانَ، فَفَرِحَ بِهِ النَّاسُ.
وَفِي رَجَبٍ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي بَنَاهُ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ جِوَارَ دَارِهِ شَمَالِيَّ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِ شَعْبَانَ عَقَدَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أَبُو بَكْرِ بْنُ أَرْغُوَنَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَقْدَهُ عَلَى ابْنَةِ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَخُتِنَ فِي هَذَا الْيَوْمِ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَوْلَادِ الْأُمَرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَدَّ سِمَاطًا عَظِيمًا، وَنُثِرَتِ
الْفِضَّةُ عَلَى رُءُوسِ الْمُطَهَّرِينَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَرَسَمَ
السُّلْطَانُ فِي هَذَا الشَّهْرِ بِوَضْعِ الْمَكْسِ عَنِ الْمَأْكُولَاتِ
بِمَكَّةَ، وَعَوَّضَ صَاحِبَهَا عَنْ ذَلِكَ بِإِقْطَاعٍ فِي بِلَادِ الصَّعِيدِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ الَّذِي بَنَاهُ
بَهَاءُ الدِّينِ ابْنُ عُلَيْمَةَ بِزُقَاقِ الْمَاجِيَّةِ مِنْ قَاسِيُونَ
بِالْقُرْبِ مِنْ سَكَنِهِ، وَانْتَفَعَ بِهِ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَمَنْ
جَاوَرَهُمْ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنَ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُ
سَيْفُ الدِّينِ بُلْطَى نَائِبُ الرَّحْبَةِ، وَكَانَ سَكَنُهُ دَاخِلَ بَابِ
الْجَابِيَةِ بِدَرْبِ ابْنِ صَبْرَةَ، وَقَاضِيهِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
النَّقِيبِ قَاضِي حِمْصَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ مُحَمَّدِ بْنِ
الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ أَبِي الْعِزِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ أَبِي الْعِزِّ بْنِ
وُهَيْبِ بْنِ عَطَاءِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ جَابِرِ بْنِ وُهَيْبٍ الْأَذْرَعِيُّ
الْحَنَفِيُّ، أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَئِمَّتِهِمْ وَفُضَلَائِهِمْ
فِي فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ مُتَعَدِّدَةٍ، حَكَمَ نِيَابَةً نَحْوًا مِنْ
عِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ سَدِيدَ الْأَحْكَامِ، مَحْمُودَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ
الطَّرِيقَةِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، كَثِيرَ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْإِحْسَانِ
إِلَى أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَخَطَبَ بِجَامِعِ الْأَفْرَمِ مُدَّةً، وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ بِهِ، وَدَرَّسَ بِالْمُعَظَّمِيَّةِ، وَالْيَغْمُورِيَّةِ،
وَالْقِلِيجِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَكَانَ نَاظِرَ أَوْقَافِهَا، وَأَذِنَ
لِلنَّاسِ بِالْإِفْتَاءِ، وَكَانَ كَبِيرًا مُعَظَّمًا مَهِيبًا، تُوُفِّيَ
بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ بِأَيَّامٍ قَلَائِلَ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَلْخِ
الْمُحَرَّمِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الظُّهْرِ بِجَامِعِ
الْأَفْرَمِ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْمُعَظَّمِيَّةِ عِنْدَ أَقَارِبِهِ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَشَهِدَ لَهُ النَّاسُ بِالْخَيْرِ، وَغَبَطُوهُ بِهَذِهِ
الْمَوْتَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالظَّاهِرِيَّةِ الشَّيْخُ
نَجْمُ الدِّينِ الْقَحْفَازِيُّ، وَفِي الْمُعَظَّمِيَّةِ وَالْقِلِيجِيَّةِ
وَالْخَطَابَةِ بِجَامِعِ الْأَفْرَمِ ابْنُهُ عَلَاءُ الدِّينِ، وَبَاشَرَ
بَعْدَهُ نِيَابَةَ الْحُكْمِ الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ مُدَرِّسُ
الْقَلْعَةِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ، رَضِيُّ الدِّينِ أَبُو
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الطَّبَرِيُّ الْمَكِّيُّ
الشَّافِعِيُّ، إِمَامُ الْمَقَامِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ شُيُوخِ بَلَدِهِ وَالْوَارِدَيْنِ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
رِحْلَةٌ، وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَيُذْكَرُ أَنَّهُ
اخْتَصَرَ " شَرْحَ السُّنَّةِ " لِلْبَغَوِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى. تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ بَعْدَ الظُّهْرِ ثَامِنِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ بِمَكَّةَ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ، وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ
الْمَشَايِخِ.
شَيْخُنَا الزَّاهِدُ الْوَرِعُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ زَكِيُّ الدِّينِ أَبُو
يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ يُوسُفَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَامِدٍ الْبَجَلِيُّ
الشَّافِعِيُّ، نَائِبُ الْخَطَابَةِ، وَمُدَرِّسُ الطَّيِّبَةِ وَالْأَسَدِيَّةِ،
وَلَهُ حَلْقَةٌ لِلِاشْتِغَالِ بِالْجَامِعِ يَحْضُرُ بِهَا عِنْدَهُ
الطَّلَبَةُ، وَكَانَ يَشْتَغِلُ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، مُوَاظِبًا عَلَى
ذَلِكَ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ شَيْخِهِ الْعَلَّامَةِ
تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
نَصِيرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَجِيهِ الدِّينِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ بْنِ
سُوَيْدِ بْنِ مَعَالِي بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الرَّبَعِيُّ
التَّغْلِبِيُّ التَّكْرِيتِيُّ، أَحَدُ صُدُورِ دِمَشْقَ، قَدِمَ أَبُوهُ
قَبْلَهُ إِلَيْهَا، وَعَظُمَ فِي أَيَّامِ الظَّاهِرِ وَقَبْلَهُ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ فِي حُدُودِ سَنَةِ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَلَهُمُ الْأَمْوَالُ
الْكَثِيرَةُ وَالنِّعْمَةُ الْبَاذِخَةُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عِشْرِينَ
رَجَبٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ تُوُفِّيَ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْمَغْرِبِيِّ، التَّاجِرُ السَّفَّارُ، بَانِي خَانِ
الصَّنَمَيْنِ الَّذِي عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ لِلسَّبِيلِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَتَقَبَّلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي أَحْسَنِ الْأَمَاكِنِ وَأَنْفَعِهَا.
الشَّيْخُ الْجَلِيلُ الزَّاهِدُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَقْدِسِيُّ، الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ عَبُّودٍ الْمِصْرِيُّ، كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَإِقْدَامٌ عَلَى
الدَّوْلَةِ، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ ثَالِثِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ،
وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِ، وَقَامَ بَعْدَهُ فِيهَا ابْنُ أَخِيهِ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو الْهُدَى أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ
شِهَابِ الدِّينِ أَبِي شَامَةَ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، فَأَسْمَعَهُ أَبُوهُ عَلَى الْمَشَايِخِ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ،
وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ، وَكَانَ يَنْسَخُ، وَيُكْثِرُ التِّلَاوَةَ، وَيَحْضُرُ
الْمَدَارِسَ وَالسَّبْعَ
الْكَبِيرَ، تُوُفِّيَ فِي سَابِعِ
عِشْرِينَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ بِمَقَابِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ زَيْنِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْعُقَيْلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ عَبْدِ الدَّائِمِ " جُزْءَ
ابْنِ عَرَفَةَ "، وَرَوَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَمِعَ عَلَى غَيْرِهِ
أَيْضًا، وَاشْتَغَلَ بِصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ وَالْإِنْشَاءِ، ثُمَّ انْقَطَعَ
وَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، وَبَنَى
لَهُ الْأُمَرَاءُ بِمِصْرَ زَوِايَةً، وَتَرَدَّدُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِ
بَشَاشَةٌ وَفَصَاحَةٌ، وَكَانَ ثَقِيلَ السَّمْعِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
الْقُدْسِ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ مَرَّةً، فَاجْتَمَعَ بِهِ النَّاسُ وَأَكْرَمُوهُ،
وَحَدَّثَ بِهَا ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقُدْسِ، وَتُوُفِّيَ بِهِ لَيْلَةَ
الْأَحَدِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ مَامَلَّا، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَهُوَ خَالُ الْمُحْتَسِبِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ،
وَهَذَا خَالُ الصَّاحِبِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ مَرَاجِلَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ قُطْبُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
عَبْدِ الْقَادِرِ السُّنْبَاطِيُّ الْمِصْرِيُّ، اخْتَصَرَ " الرَّوْضَةَ
"، وَصَنَّفَ كِتَابَ " تَصْحِيحَ التَّعْجِيزِ "، وَدَرَّسَ
بِالْفَاضِلِيَّةِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِمِصْرَ، وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ
الْفُقَهَاءِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ بَعْدَهُ تَدْرِيسَ الْفَاضِلِيَّةِ ضِيَاءُ الدِّينِ الْمُنَادِي نَائِبُ الْحُكْمِ بِالْقَاهِرَةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ وَالْأَعْيَانُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ يَوْمَ الْأَحَدِ فِي كَانُونَ الْأَصَمِّ، وَالْحُكَّامُ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ وَالِيَ الْبَرِّ بِدِمَشْقَ
هُوَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَانِيُّ،
بَاشَرَهَا فِي صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ بَاشَرَ وِلَايَةَ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ بَرْقٍ،
عِوَضًا عَنْ صَارِمِ الدِّينِ الْجُوكَنْدَارِ.
وَفِي صَفَرٍ عُوفِيَ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ - وَكِيلُ السُّلْطَانِ - مِنْ
مَرَضٍ كَانَ قَدْ أَصَابَهُ، فَزُيِّنَتِ الْقَاهِرَةُ، وَأُشْعِلَتِ الشُّمُوعُ،
وَجُمِعَ الْفُقَرَاءُ بِالْمَارَسْتَانِ الْمَنْصُورِيِّ لِيَأْخُذُوا مِنْ
صَدَقَتِهِ، فَمَاتَ بَعْضُهُمْ مِنَ الزِّحَامِ.
وَفِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَرَّسَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَدِّثُ
تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ بِالْمَنْصُورِيَّةِ بِالْقَاهِرَةِ،
عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزُّرَعِيِّ، بِمُقْتَضَى انْتِقَالِهِ
إِلَى دِمَشْقَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ عَلَاءُ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ
الْقُونَوِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِجَامِعِ الْحَاكِمِ شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَدْلَانَ بِالْعِزِّيَّةِ، وَكَانَتْ
وِلَايَةُ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ الزُّرَعِيِّ لِقَضَاءِ الشَّامِ
عِوَضًا عَنِ النَّجْمِ ابْنِ صَصْرَى
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ
بِمِصْرَ، وَكَانَ قُدُومُهُ إِلَى دِمَشْقَ آخِرَ نَهَارِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ
جُمَادَى الْأُولَى، فَنَزَلَ الْعَادِلِيَّةَ، وَقَدْ قَدِمَ عَلَى الْقَضَاءِ،
وَمَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ، وَقَضَاءِ الْعَسَاكِرِ، وَتَدْرِيسِ الْعَادِلِيَّةِ،
وَالْغَزَّالِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مُسِكَ الْقَاضِي كَرِيمُ الدِّينِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ
هِبَةِ اللَّهِ بْنِ السَّدِيدِ، وَكِيلُ السُّلْطَانِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِنَ
الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ
غَيْرُهُ مِنَ الْوُزَرَاءِ الْكِبَارِ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ
وَحَوَاصِلِهِ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ رُسِمَ
لَهُ أَنْ يَكُونَ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي بِالْقَرَافَةِ، ثُمَّ نُفِيَ إِلَى
الشَّوْبَكِ، وَأُنْعِمَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ
بِالْإِقَامَةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ بِرِبَاطِهِ. وَمُسِكَ ابْنُ أَخِيهِ
كَرِيمُ الدِّينِ الصَّغِيرُ نَاظِرُ الدَّوَاوِينِ، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُ،
وَحُبِسَ فِي بُرْجٍ، وَفَرِحَ الْعَامَّةُ بِذَلِكَ، وَدَعَوْا لِلسُّلْطَانِ
بِسَبَبِ مَسْكِهِمَا، ثُمَّ أُخْرِجَ إِلَى صَفَدَ.
وَطُلِبَ مِنَ الْقُدْسِ أَمِينُ الْمُلْكِ عَبْدُ اللَّهِ، فَوَلِيَ الْوِزَارَةَ
بِمِصْرَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، وَفَرِحَ الْعَامَّةُ
بِذَلِكَ، وَأَشْعَلُوا لَهُ الشُّمُوعَ، وَطُلِبَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ
غِبْرِيَالُ مِنْ دِمَشْقَ، فَرَكِبَ وَمَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ خُوِّلَ
أَمْوَالَ كَرِيمِ الدِّينِ الْكَبِيرِ، وَعَادَ إِلَى دِمَشْقَ مُكَرَّمًا،
وَقَدِمَ الْقَاضِي مُعِينُ الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ عَلَى نَظَرِ الْجُيُوشِ
الشَّامِيَّةِ، عِوَضًا عَنِ الْقُطْبِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ،
عُزِلَ عَنْهَا، وَرُسِمَ عَلَيْهِ فِي
الْعَذْرَاوِيَّةِ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فِي
الِانْصِرَافِ إِلَى مَنْزِلِهِ مَصْرُوفًا عَنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى عُزِلَ طُرْقُشِيُّ عَنْ شَدِّ الدَّوَاوِينِ،
وَتَوَلَّاهَا الْأَمِيرُ بَكْتَمُرُ وَالِي الْوُلَاةِ. وَفِي ثَانِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ بَاشَرَ الْقَاضِي ابْنُ جَهْبَلٍ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ الزُّرَعِيِّ،
وَكَانَ قَدْ بَاشَرَ قَبْلَهَا بِأَيَّامٍ نَظَرَ الْأَيْتَامِ عِوَضًا عَنِ
ابْنِ هِلَالٍ. وَفِي شَعْبَانَ أُعِيدَ طُرْقُشِيُّ إِلَى الشَّدِّ، وَسَافَرَ
بَكْتَمُرُ إِلَى نِيَابَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَكَانَ بِهَا إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ.
وَفِي رَمَضَانَ قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنْ حُجَّاجِ الشَّرْقِ وَفِيهِمْ بِنْتُ
الْمَلِكِ أَبْغَا بْنِ هُولَاكُو، وَأُخْتُ أَرْغُونَ، وَعَمَّةُ قَازَانَ
وَخَرْبَنْدَا، فَأُكْرِمَتْ، وَأُنْزِلَتْ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَأُجْرِيَتْ
عَلَيْهَا الْإِقَامَاتُ وَالنَّفَقَاتُ إِلَى أَوَانِ الْحَجِّ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ قُطْلِيجَا
الْأَبُو بَكْرِي الَّذِي بِالْقَصَّاعِينَ، وَقَاضِي الرَّكْبِ شَمْسُ الدِّينِ
قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ مُسَلَّمٍ الْحَنْبَلِيُّ، وَحَجَّ مَعَهُمْ جَمَالُ
الدِّينِ الْمِزِّيُّ، وَعِمَادُ الدِّينِ بْنُ الشَّيْرَجِيِّ، وَفُوِّضَ
الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِلَى شَرَفِ الدِّينِ بْنِ سَعْدِ بْنِ نَجِيحٍ، كَذَا
أَخْبَرَنِي بِهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ. وَمِنَ الْمِصْرِيِّينَ قَاضِي
الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَوَلَدُهُ عِزُّ الدِّينِ وَفَخْرُ
الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ، وَشَمْسُ الدِّينِ الْحَارِثِيُّ، وَشِهَابُ
الدِّينِ الْأَذْرَعِيُّ، وَعَلَاءُ الدِّينِ الْفَارِسِيُّ.
وَفِي شَوَّالٍ بَاشَرَ تَقِيُّ
الدِّينِ السُّبْكِيُّ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةِ
بِالْقَاهِرَةِ بَعْدَ وَفَاةِ زَكِيِّ الدِّينِ الْمُنَادِي، وَيُقَالُ لَهُ:
عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ الْحَافِظِ شَرَفِ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ. ثُمَّ
انْتُزِعَتْ مِنَ السُّبْكِيِّ لِفَتْحِ الدِّينِ بْنِ سَيِّدِ النَّاسِ الْيَعْمُرِيِّ،
بَاشَرَهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ خُلِعَ عَلَى قُطْبِ الدِّينِ
ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَأُعِيدَ إِلَى نَظَرِ الْجَيْشِ مُصَاحِبًا
لِمُعِينِ الدِّينِ بْنِ الْحَشِيشِ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَيْدَةٍ اسْتَقَلَّ قُطْبُ
الدِّينِ بِالنَّظَرِ وَحْدَهُ، وَعُزِلَ ابْنُ حَشِيشٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْإِمَامُ الْمُؤَرِّخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْفُوَطِيِّ أَبُو الْفَضْلِ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ
أَبِي الْمَعَالِي الشَّيْبَانِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْفُوَطِيِّ، وَهُوَ جَدُّهُ لِأُمِّهِ، وُلِدَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَأُسِرَ فِي وَاقِعَةِ التَّتَرِ، ثُمَّ تَخَلَّصَ
مِنَ الْأَسْرِ، فَكَانَ مُشَارِفًا عَلَى الْكُتُبِ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ،
وَقَدْ صَنَّفَ تَارِيخًا فِي خَمْسٍ وَخَمْسِينَ مُجَلَّدًا، وَآخَرَ فِي نَحْوِ
عِشْرِينَ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَشِعْرٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ الْجَوْزِيِّ،
تُوُفِّيَ ثَالِثَ الْمُحَرَّمِ
وَدُفِنَ بِالشُّونَيْزِيَّةِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ صَصْرَى، أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
الْعَدْلِ عِمَادِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَدْلِ أَمِينِ الدِّينِ سَالِمِ
بْنِ الْحَافِظِ الْمُحَدِّثِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي الْمَوَاهِبِ بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ مَحْفُوظِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَصْرَى التَّغْلِبِيُّ الرَّبَعِيُّ الشَّافِعِيُّ،
قَاضِي الْقُضَاةِ بِالشَّامِ، وُلِدَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ،
وَكَتَبَ عَنِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ خَلِّكَانَ " وَفَيَاتِ
الْأَعْيَانِ "، وَسَمِعَهَا عَلَيْهِ، وَتَفَقَّهَ بِالشَّيْخِ تَاجِ
الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَعَلَى أَخِيهِ شَرَفِ الدِّينِ فِي النَّحْوِ، وَكَانَ
لَهُ يَدٌ فِي الْإِنْشَاءِ وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ، وَدَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ
الصَّغِيرَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَبِالْأَمِينِيَّةِ سَنَةَ
تِسْعِينَ، وَبِالْغَزَّالِيَّةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، وَتَوَلَّى قَضَاءَ
الْعَسَاكِرِ فِي دَوْلَةِ الْعَادِلِ كَتْبُغَا، ثُمَّ تَوَلَّى قَضَاءَ الشَّامِ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ بَعْدَ ابْنِ جَمَاعَةَ حِينَ طُلِبَ لِقَضَاءِ
مِصْرَ بَعْدَ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِ مَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ
مَعَ تَدْرِيسِ الْعَادِلِيَّةِ، وَالْغَزَّالِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ،
وَكُلُّهَا مَنَاصِبُ دُنْيَوِيَّةٌ، انْسَلَخَ مِنْهَا وَانْسَلَخَتْ مِنْهُ،
وَمَضَى عَنْهَا وَتَرَكَهَا لِغَيْرِهِ، وَأَكْبَرُ أُمْنِيَّتِهِ بَعْدَ
وَفَاتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهَا وَهِيَ:
مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ
مُفَارِقٍ
وَقَدْ كَانَ رَئِيسًا مُحْتَشِمًا، وَقُورًا كَرِيمًا، جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ،
مُعَظَّمًا عِنْدَ السُّلْطَانِ وَالدَّوْلَةِ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً بِبُسْتَانِهِ
بِالسَّهْمِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، وَالْقُضَاةُ، وَالْأُمَرَاءُ، وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ عِنْدَ الرُّكْنِيَّةِ.
عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
الْمُنَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَحْلَةَ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَرَأَ " الْمُحَرَّرَ "،
وَلَازَمَ الشَّيْخَ زَيْنَ الدِّينِ الْفَارِقِيَّ، وَدَرَّسَ بِالدَّوْلَعِيَّةِ
وَالرُّكْنِيَّةِ، وَكَانَ نَاظِرَ بَيْتِ الْمَالِ، وَابْتَنَى دَارًا حَسَنَةً
إِلَى جَانِبِ الرُّكْنِيَّةِ، وَمَاتَ وَتَرَكَهَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالدَّوْلَعِيَّةِ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ جُمْلَةَ،
وَبِالرُّكْنِيَّةِ رُكْنُ الدِّينِ الْخُرَاسَانِيُّ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُتِلَ الشَّيْخُ ضِيَاءُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ
الدَّرْبَنْدِيُّ النَّحْوِيُّ، كَانَ قَدِ اضْطَرَبَ عَقْلُهُ، فَسَافَرَ مِنْ
دِمَشْقَ إِلَى الْقَاهِرَةِ، فَأَشَارَ شَيْخُ الشُّيُوخِ
الْقُونَوِيُّ أَنْ يُودَعَ
بِالْمَارَسْتَانِ فَلَمْ يُوَافَقْ، ثُمَّ دَخَلَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَبِيَدِهِ
سَيْفٌ مَسْلُولٌ فَقَتَلَ نَصْرَانِيًّا، فَحُمِلَ إِلَى السُّلْطَانِ،
وَظَنُّوهُ جَاسُوسًا، فَأَمَرَ بِشَنْقِهِ فَشُنِقَ، وَكُنْتُ مِمَّنَ اشْتَغَلَ
عَلَيْهِ فِي النَّحْوِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُقْرِئُ الْفَاضِلُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
الطَّبِيبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحِلِّيُّ الْعَزِيزِيُّ الْفَوَارِسِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْحَلَبِيَّةِ، سَمِعَ مِنْ خَطِيبِ مَرْدَا وَابْنِ عَبْدِ
الدَّائِمِ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ.
شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَطِينَةَ الزُّرَعِيُّ،
التَّاجِرُ الْمَشْهُورُ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْبَضَائِعِ وَالْمَتَاجِرِ،
قِيلَ: بَلَغَتْ زَكَاةُ مَالِهِ فِي سَنَةِ قَازَانَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ. وَتُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ الَّتِي بِبَابِ بُسْتَانِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَرْفَعِ عِنْدَ
ثَوْرَا فِي طَرِيقِ الْقَابُونِ، وَهِيَ تُرْبَةٌ هَائِلَةٌ، وَكَانَتْ لَهُ
أَمْلَاكٌ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْخَابُورِيُّ، قَاضِي بَعْلَبَكَّ، وَأَكْبَرُ أَصْحَابِ الشَّيْخِ
تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، قَدِمَ مِنْ بَعْلَبَكَّ لِيَتَلَقَّى
الْقَاضِي الزُّرَعِيَّ، فَمَاتَ
بِالْمَدْرَسَةِ الْبَادَرَائِيَّةِ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَابِعِ جُمَادَى
الْأُولَى، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعُونَ سَنَةً
أَضْغَاثُ حِلْمٍ.
الشَّيْخُ الْمُعَمَّرُ الْمُسِنُّ جَمَالُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ
الرَّشِيدِ الْبَعْلَبَكِّيُّ، التَّاجِرُ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، عَنْ مِائَةِ
سَنَةٍ وَسَنَةٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ سَطْحَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ اللُّغَوِيُّ الْمُفِيدُ صَفِيُّ الدِّينِ
أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَامِدِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ الْأُرْمَوِيُّ
الصُّوفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ، وَطَلَبَ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ، وَذَيَّلَ عَلَى "
النِّهَايَةِ " لِابْنِ الْأَثِيرِ، وَكَانَ قَدْ قَرَأَ " التَّنْبِيهَ
"، وَاشْتَغَلَ بِاللُّغَةِ، فَحَصَّلَ مِنْهَا طَرَفًا جَيِّدًا، ثُمَّ
اضْطَرَبَ عَقْلُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ، وَغَلَبَتْ عَلَيْهِ
السَّوْدَاءُ، وَكَانَ يُفِيقُ مِنْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَيُذَاكِرُ
صَحِيحًا ثُمَّ يَعْتَرِضُهُ الْمَرَضُ الْمَذْكُورُ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ
حَتَّى تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ فِي الْمَارَسْتَانِ
النُّورِيِّ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الْخَاتُونُ الْمَصُونَةُ خَاتُونُ بِنْتُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْعَادِلِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ شَاذِي، بِدَارِهَا، وَتُعْرَفُ
بِدَارِ كَافُورٍ، كَانَتْ رَئِيسَةً مُحْتَرَمَةً، وَلَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ،
وَلَيْسَ فِي طَبَقَتِهَا مِنْ بَنِي أَيُّوبَ غَيْرُهَا فِي هَذَا الْحِينِ،
تُوُفِّيَتَ يَوْمَ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ،
وَدُفِنَتْ بِتُرْبَةِ أَمِّ الصَّالِحِ، رَحِمَهَا اللَّهُ.
شَيْخُنَا الْجَلِيلُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، بَهَاءُ الدِّينِ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ بْنُ الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ أَبِي غَالِبٍ
الْمُظَفَّرِ بْنِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الثَّنَاءِ مَحْمُودِ بْنِ تَاجِ
الْأُمَنَاءِ أَبِي الْفَضْلِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ هِبَةِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيُّ
الطَّبِيبُ الْمُعَمَّرُ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَسَمِعَ حُضُورًا وَسَمَاعًا عَلَى الْكَثِيرِ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَقَدْ خَرَّجَ
لَهُ الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ مَشْيَخَةً سَمِعْنَاهَا
عَلَيْهِ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَ لَهُ الْحَافِظُ صَلَاحُ
الدِّينِ الْعَلَائِيُّ عَوَالِيَ مِنْ حَدِيثِهِ، وَكَتَبَ لَهُ الْمُحَدِّثُ
الْمُفِيدُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ طُغْرِيلَ مَشْيَخَةً فِي سَبْعِ مُجَلَّدَاتٍ،
تَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَسَبْعِينَ شَيْخًا سَمَاعًا وَإِجَازَةً،
وَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فَسَمِعَهَا الْحَافِظُ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْبِرْزَالِيُّ:
وَقَدْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ مُجَلَّدًا بِحَذْفِ
الْمُكَرَّرَاتِ، وَمِنَ الْأَجْزَاءِ
خَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ جُزْءًا
بِالْمُكَرَّرَاتِ. قَالَ: وَكَانَ قَدِ اشْتَغَلَ بِالطِّبِّ، وَكَانَ يُعَالِجُ
النَّاسَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ
وَالْحِكَايَاتِ وَالْأَشْعَارِ، وَلَهُ نَظْمٌ، وَخَدَمَ فِي عِدَّةِ جِهَاتٍ
الْكِتَابَةَ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَإِسْمَاعَ الْحَدِيثِ،
وَتَفَرَّدَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ سَهْلًا فِي
التَّسْمِيعِ، وَوَقَفَ آخِرَ عُمْرِهِ دَارَهُ دَارَ حَدِيثٍ، وَخَصَّ الْحَافِظَ
الْبِرْزَالِيَّ وَالْمِزِّيَّ بِشَيْءٍ مِنْ بِرِّهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ وَقْتَ الظُّهْرِ خَامِسِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ
بَقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْوَزِيرُ ثُمَّ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ فَخْرِ
الدِّينِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبُصْرَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ، دَرَّسَ
بِبُصْرَى بَعْدَ عَمِّهِ الْقَاضِي صَدْرِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ، ثُمَّ وَلِيَ
الْحِسْبَةَ بِدِمَشْقَ وَنَظَرَ الْخِزَانَةِ، ثُمَّ وَلِيَ الْوِزَارَةَ، ثُمَّ
سَأَلَ الْإِقَالَةَ مِنْهَا فَعُوِّضَ بِإِمْرِيَّةِ عَشَرَةٍ عَنْهَا
بِإِقْطَاعٍ هَائِلٍ، وَعُومِلَ فِي ذَلِكَ مُعَامَلَةَ الْوُزَرَاءِ فِي
حُرْمَتِهِ وَلُبْسَتِهِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُصْرَى يَوْمَ الْخَمِيسِ
ثَامِنِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَكَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا
وَهَّابًا كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَتَرَكَ مَالًا
وَأَوْلَادًا، ثُمَّ تَفَانَوْا كُلُّهُمْ بَعْدَهُ، وَتَفَرَّقَتْ أَمْوَالُهُ،
وَنُكِحَتْ نِسَاؤُهُ، وَسُكِنَتْ مَنَازِلُهُ.
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ قَرَاسُنْقُرَ الْجُوكَنْدَارُ،
مُشِدُّ الْخَاصِّ، ثُمَّ
وَلِيَ دِمَشْقَ وِلَايَةً، ثُمَّ
عُزِلَ عَنْهَا قَبْلَ مَوْتِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، تُوُفِّيَ تَاسِعَ رَمَضَانَ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الْمُشَرَّفَةِ الْمُبَيَّضَةِ شَرْقِيَّ مَسْجِدِ
النَّارَنْجِ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لِنَفْسِهِ.
الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْأَعْقَفُ الْحَرِيرِيُّ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
حَامِدِ بْنِ سَعِيدٍ التَّنُوخِيُّ الْحَرِيرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ فِي صِبَاهُ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ
الدِّينِ الْفَزَارِيِّ فِي " التَّنْبِيهِ "، ثُمَّ صَحِبَ
الْحَرِيرِيَّةَ وَخَدَمَهُمْ، وَلَزِمَ مُصَاحِبَةَ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ
بْنِ إِسْرَائِيلَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَجَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَانَ مَلِيحَ
الشَّكْلِ، كَثِيرَ التَّوَدُّدِ إِلَى النَّاسِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ بِزَاوِيَتِهِ بِالْمِزَّةِ،
وَدُفِنَ بِمَقْبَرَتِهِ بِالْمِزَّةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ صُلِّيَ بِدِمَشْقَ عَلَى
غَائِبٍ، وَهُوَ الشَّيْخُ هَارُونُ الْمَقْدِسِيُّ، تُوُفِّيَ بِبَعْلَبَكَّ فِي
الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ صَالِحًا مَشْهُورًا عِنْدَ
الْفُقَرَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْمُقْرِئُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ غُصْنٍ
الْأَنْصَارِيُّ الْقَصْرِيُّ ثُمَّ السَّبْتِيُّ، بِالْقُدْسِ، وَدُفِنَ
بِمَامَلَّا، وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ، حَضَرَهَا كَرِيمُ الدِّينِ
وَالنَّاسُ مُشَاةً، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ
شَيْخًا مَهِيبًا، أَحْمَرَ اللِّحْيَةِ مِنَ الْحِنَّاءِ، اجْتَمَعْتُ بِهِ،
وَبَحَثْتُ مَعَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حِينَ زُرْتُ الْقُدْسَ الشَّرِيفَ،
وَهِيَ أَوَّلُ زِيَارَةٍ زُرْتُهُ،
وَكَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ، قَدْ قَرَأَ " الْمُوَطَّأَ " فِي
ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنِ الْأُسْتَاذِ ابْنِ أَبِي الرَّبِيعِ
شَارِحِ " الْجُمَلِ " لِلزَّجَّاجِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُرَيْحٍ.
شَيْخُنَا الْأَصِيلُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عِمَادِ
الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ مُحَمَّدِ بْنِ شَمْسِ الدِّينِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بُنْدَارِ بْنِ مَمِيلٍ
الشِّيرَازِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَأَفَادَ فِي عِلَّتِهِ
شَيْخَنَا الْمِزِّيَّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، قَرَأَ عَلَيْهِ عِدَّةَ
أَجْزَاءٍ بِنَفْسِهِ، أَثَابَهُ اللَّهُ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا خَيِّرًا
مُبَارَكًا مُتَوَاضِعًا، يُذَهِّبُ الرَّبَعَاتِ وَالْمَصَاحِفَ، لَهُ فِي ذَلِكَ
يَدٌ طُولَى، وَلَمْ يَتَدَنَّسْ بِشَيْءٍ مِنَ الْوِلَايَاتِ، وَلَا تَدَنَّسَ
بِشَيْءٍ مِنْ وَظَائِفِ الْمَدَارِسِ وَلَا الشَّهَادَاتِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
فِي يَوْمِ عَرَفَةَ بِبُسْتَانِهِ مِنَ الْمِزَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِجَامِعِهَا، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ سَعْدٍ
الزُّرَعِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، قَيِّمُ الْجَوْزِيَّةِ، كَانَ رَجُلًا صَالِحًا
مُتَعَبِّدًا قَلِيلَ التَّكَلُّفِ، وَكَانَ فَاضِلًا، وَقَدْ سَمِعَ شَيْئًا مِنْ
" دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ " عَنِ الرَّشِيدِيِّ الْعَامِرِيِّ،
تُوُفِّيَ فَجْأَةً
لَيْلَةَ الْأَحَدِ تَاسِعَ عَشَرَ ذِي
الْحِجَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الْجَوْزِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ
بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ خَيْرًا رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ وَالِدُ الْعَلَّامَةِ
شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ صَاحِبِ الْمُصَنَّفَاتِ
الْكَثِيرَةِ النَّافِعَةِ الْكَافِيَةِ.
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَعْبَدٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ، أَحَدُ أُمَرَاءِ
الطَّبْلَخَانَاهْ، كَانَ وَالِدُهُ تَاجِرَا بِبَعْلَبَكَّ، فَنَشَأَ وَلَدُهُ
هَذَا وَاتَّصَلَ بِالدَّوْلَةِ، وَعَلَتْ مَنْزِلَتُهُ حَتَّى أُعْطِيَ
طَّبْلَخَانَهْ، وَبَاشَرَ وِلَايَةَ الْبَرِّ بِدِمَشْقَ مَعَ شَدِّ
الْأَوْقَافِ، ثُمَّ صُرِفَ إِلَى وِلَايَةِ الْوُلَاةِ بِحَوْرَانَ،
فَاعْتَرَضَهُ مَرَضٌ، وَكَانَ سَبْطَ الْبَدَنِ عَبْلَهُ، فَسَأَلَ أَنْ يُقَالَ
فَأُجِيبَ، فَأَقَامَ بِبُسْتَانِهِ بِالْمِزَّةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
خَامِسِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ هُنَاكَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الْمِزَّةِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ وَأَحْسَنِهِمْ، مَعَ دِيَانَةٍ
وَخَيْرٍ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ شَرَفُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
الْأَحَدِ بْنِ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْقَاهِرِ بْنِ عَبْدِ
الْأَحَدِ بْنِ عُمَرَ الْحَرَّانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّجِيحِ، تُوُفِّيَ فِي وَادِي بَنِيَ سَالِمٍ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَغُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ شَرْقِيَّ قَبْرِ عَقِيلٍ، فَغَبَطَهُ النَّاسُ بِهَذِهِ الْمَوْتَةِ وَهَذَا الْقَبْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ مِمَّنْ غَبَطَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ قَاضِي الْحَنَابِلَةِ، فَمَاتَ بَعْدَهُ، وَدُفِنَ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَهُ بِثَلَاثِ سِنِينَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَجَاءَ يَوْمَ حَضَرَ جِنَازَةُ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورِ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ بِجُمْعَةٍ، مَرْجِعَهُ مِنَ الْحَجِّ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنْ مَكَّةَ بِمَرْحَلَتَيْنِ، فَغَبَطَ الْمَيِّتَ الْمَذْكُورَ بِتِلْكَ الْمَوْتَةِ، فَرُزِقَ مِثْلَهَا بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَانَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ نَجِيحٍ هَذَا قَدْ صَحِبَ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ مَعَهُ فِي مَوَاطِنَ كِبَارٍ صَعْبَةٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا إِلَّا الْأَبْطَالُ الْخُلَّصُ الْخَوَاصُّ، وَسُجِنَ مَعَهُ، وَكَانَ مِنْ خُدَّامِهِ وَخَوَاصِّ أَصْحَابِهِ، يَنَالُ فِيهِ الْأَذَى، وَأُوذِيَ بِسَبَبِهِ مَرَّاتٍ، وَكُلُّ مَا لَهُ فِي ازْدِيَادٍ وَمَحَبَّةٍ فِيهِ وَصَبْرٍ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ فِي نَفْسِهِ وَعِنْدَ النَّاسِ جَيِّدًا مَشْكُورَ السِّيرَةِ، جَيِّدَ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، عَظِيمَ الدِّيَانَةِ وَالزُّهْدِ وَلِهَذَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ هَذِهِ الْمَوْتَةَ عَقِيبَ الْحَجِّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِرَوْضَةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ - بَقِيعِ الْغَرْقَدِ - بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَخُتِمَ لَهُ بِصَالِحِ عَمَلِهِ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَتَمَنَّى أَنْ يَمُوتَ عَقِيبَ عَمَلٍ صَالِحٍ يَعْمَلُهُ، وَكَانَتْ لَهُ جِنَازَةٌ حَافِلَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا
الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ
الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ، وَوَزِيرُهُ أَمِينُ
الْمُلْكِ، وَقُضَاتُهُ بِمِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ تَنْكِزُ، وَقُضَاةُ الشَّامِ الشَّافِعِيُّ جَمَالُ
الدِّينِ الزُّرَعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ الصَّدْرُ عَلِيٌّ الْبُصْرَاوِيُّ،
وَالْمَالِكِيُّ شَرَفُ الدِّينِ الْهَمْدَانِيُّ، وَالْحَنْبَلِيُّ شَمْسُ
الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ، وَخَطِيبُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ جَلَالُ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيُّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الْقَلَانِسِيِّ، وَمُحْتَسِبُ الْبَلَدِ فَخْرُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ،
وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ، وَمُشِدُّ الدَّوَاوِينِ
عَلَمُ الدِّينِ طُرْقُشِيُّ، وَنَاظِرُ الْجَيْشِ قُطْبُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ وَمُعِينُ الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ، وَكَاتِبُ السِّرِّ شِهَابُ
الدِّينِ مَحْمُودٌ، وَنَقِيبُ الْأَشْرَافِ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ عَدْنَانَ،
وَنَاظِرُ الْجَامِعِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْحَدَّادِ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ
عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَوَالِي الْبَرِّ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ
الْمَرْوَانِيِّ، وَوَالِي دِمَشْقَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ بَرْقٍ.
وَفِي خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَاشَرَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ
الْقَلَانِسِيِّ الْحِسْبَةَ عِوَضًا
عَنْ فَخْرِ الدِّينِ ابْنِ شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ، وَبَاشَرَ ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ الْحِسْبَةَ مَعَ نَظَرِ
الْخِزَانَةِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ حُمِلَ كَرِيمُ الدِّينِ - وَكِيلُ السُّلْطَانِ - مِنَ
الْقُدْسِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَاعْتُقِلَ، ثُمَّ أُخِذَتْ مِنْهُ
أَمْوَالٌ وَذَخَائِرُ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ نُفِيَ إِلَى الصَّعِيدِ، وَأُجْرِيَ
عَلَيْهِ نَفَقَاتٌ سُلْطَانِيَّةٌ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ عَيَالِهِ، وَطُلِبَ
كَرِيمُ الدِّينِ الصَّغِيرُ، وَصُودِرَ بِأَمْوَالٍ جَمَّةٍ، وَحُبِسَ ثُمَّ
أُطْلِقَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ قُرِئَ كِتَابُ
السُّلْطَانِ بِالْمَقْصُورَةِ مِنَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِحَضْرَةِ
النَّائِبِ وَالْقُضَاةِ، يَتَضَمَّنُ إِطْلَاقَ مَكْسِ الْغَلَّةِ بِالشَّامِ
الْمَحْرُوسِ جَمِيعِهِ، فَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ لِلسُّلْطَانِ مِنَ
الْخَوَاصِّ، وَالْعَوَامِّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدِمَ الْبَرِيدُ إِلَى نَائِبِ الشَّامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَامِسِ عِشْرِينَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ بِعَزْلِ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ الزُّرَعِيِّ، فَبَلَغَهُ
ذَلِكَ فَامْتَنَعَ بِنَفْسِهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَأَقَامَ بِالْعَادِلِيَّةِ
بَعْدَ الْعَزْلِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى
الْأَتَابِكِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّتْ بِيَدِهِ مَشْيَخَةُ الشُّيُوخِ وَتَدْرِيسِ
الْأَتَابِكِيَّةِ، وَاسْتَدْعَى نَائِبُ السَّلْطَنَةِ شَيْخَنَا الْإِمَامَ
الزَّاهِدَ بُرْهَانَ الدِّينِ الْفَزَارِيَّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ فَامْتَنَعَ،
فَأَلَحَّ عَلَيْهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ فَأَبَى وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَرْسَلَ
فِي أَثَرِهِ أَعْيَانَ النَّاسِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
بِكُلِّ حِيلَةٍ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الْوِلَايَةِ، وَصَمَّمَ أَشَدَّ
التَّصْمِيمِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنْ مُرُوءَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ
الْخَطِيبِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
لِتَوْلِيَةِ قَضَاءِ الشَّامِ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ خُلِعَ عَلَى الصَّدْرِ
تَقِيِّ الدِّينِ
سُلَيْمَانَ بْنِ مَرَاجِلَ بِنَظَرِ
الْجَامِعِ عِوَضًا عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْحَدَّادِ، تُوُفِّيَ، وَأُخِذَ
مِنِ ابْنِ مَرَاجِلَ نَظَرُ الْمَارَسْتَانِ الصَّغِيرِ لِبَدْرِ الدِّينِ بْنِ
الْعَطَّارِ.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
بَعْدَ الْعَشَاءِ، فَصَلَّى الْخَطِيبُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ بِأَرْبَعِ سُوَرٍ: ق،
وَاقْتَرَبَتْ، وَالْوَاقِعَةِ، وَالْقِيَامَةِ، ثُمَّ صَلَّى الْعَشَاءَ، ثُمَّ
خَطَبَ بَعْدَهَا لِلْكُسُوفِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ،
ثُمَّ رَكِبَ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى مِصْرَ، فَرُزِقَ مِنَ السُّلْطَانِ
قَبُولًا، وَوَلَّاهُ بَعْدَ أَيَّامٍ الْقَضَاءَ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى
الشَّامِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي خَامِسِ رَجَبٍ عَلَى الْقَضَاءِ مَعَ الْخَطَابَةِ،
وَتَدْرِيسِ الْعَادِلِيَّةِ، وَالْغَزَّالِيَّةِ، فَبَاشَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ،
وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْأَمِينِيَّةُ، فَدَرَّسَ فِيهَا جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الْقَلَانِسِيِّ مَعَ وَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ قَضَاءُ
الْعَسَاكِرِ، وَخُوطِبَ بِقَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ.
وَفِيهَا قَدِمَ مَلِكُ التَّكْرُورِ إِلَى الْقَاهِرَةِ بِسَبَبِ الْحَجِّ فِي
خَامِسِ عِشْرِينَ رَجَبٍ، فَنَزَلَ بِالْقَرَافَةِ وَمَعَهُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ
وَالْخَدَمِ نَحْوٌ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَمَعَهُمْ ذَهَبٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ
إِنَّهُ نَزَلَ سِعْرُ الذَّهَبِ دِرْهَمَيْنِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْمَلِكُ
الْأَشْرَفُ مُوسَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ شَابٌّ جَمِيلُ الصُّورَةِ، لَهُ
مَمْلَكَةٌ مُتَّسِعَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَيُذْكَرُ أَنَّ تَحْتَ
يَدِهِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مَلِكًا، كُلُّ مَلِكٍ تَحْتَ يَدِهِ خَلْقٌ
وَعَسَاكِرُ، وَلَمَّا دَخَلَ إِلَى
قَلْعَةِ الْجَبَلِ لِيُسَلِّمَ عَلَى السُّلْطَانِ أُمِرَ بِتَقْبِيلِ الْأَرْضِ،
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنَ
الْجُلُوسِ أَيْضًا حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ، وَأُحْضِرَ
لَهُ حِصَانٌ أَشْهَبُ بِزُنَّارِيٍّ أَطْلَسَ أَحْمَرَ، وَهُيِّئَتْ لَهُ هُجُنٌ
وَآلَاتٌ كَثِيرَةٌ تَلِيقُ بِمِثْلِهِ، وَأَرْسَلَ هُوَ أَيْضًا إِلَى
السُّلْطَانِ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، مِنْ جُمْلَتِهَا أَرْبَعُونَ أَلْفَ
دِينَارٍ، وَإِلَى النَّائِبِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَتُحَفٌ
كَثِيرَةٌ.
وَفِي شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ زَادَ النِّيلُ بِمِصْرَ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ
يُرَ مِثْلُهَا مِنْ نَحْوِ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، وَمَكَثَ عَلَى
الْأَرَاضِي نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَغَرَّقَ أَقْصَابًا كَثِيرَةً،
وَلَكِنْ كَانَ نَفْعُهُ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ اسْتَنَابَ الْقَاضِي جَلَالُ
الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ نَائِبَيْنِ فِي الْحُكْمِ، وَهُمَا يُوسُفُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُمْلَةَ الْمَحَجِّيُّ الصَّالِحِيُّ، وَقَدْ وَلِيَ
الْقَضَاءَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْمِصْرِيُّ، وَحَكَمَا يَوْمَئِذٍ بِالْعَادِلِيَّةِ، وَمِنَ
الْغَدِ جَاءَ الْبَرِيدُ وَمَعَهُ تَقْلِيدُ قَضَاءِ
حَلَبَ لِلشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ
بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، فَاسْتَدْعَاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَفَاوَضَهُ فِي
ذَلِكَ فَامْتَنَعَ، فَرَاجَعَهُ النَّائِبُ ثُمَّ رَاجَعَ السُّلْطَانَ، فَجَاءَ
الْبَرِيدُ فِي ثَانِيَ عَشَرَ رَمَضَانَ بِإِمْضَاءِ الْوِلَايَةِ، فَشَرَعَ
لِلتَّأَهُّبِ لِبِلَادِ حَلَبَ، وَتَمَادَى فِي ذَلِكَ حَتَّى كَانَ خُرُوجُهُ
إِلَيْهَا فِي بُكْرَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ، وَدَخَلَ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، فَأُكْرِمَ إِكْرَامًا
زَائِدًا، وَدَرَّسَ بِهَا، وَأَلْقَى عُلُومًا أَكْبَرَ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ،
وَحَصَلَ لَهُمُ الشَّرَفُ بِفُنُونِهِ وَفَوَائِدِهِ، وَحَصَلَ لِأَهْلِ الشَّامِ
الْأَسَفُ عَلَى دُرُوسِهِ الْأَنِيقَةِ الْفَائِقَةِ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ
الشَّاعِرُ، وَهُوَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْخَيَّاطُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
مُطَوَّلَةٍ، أَوَّلُهَا قَوْلُهُ:
أَسِفَتْ لِفَقْدِكَ جِلَّقُ الْفَيْحَاءُ وَتَبَاشَرَتْ بِقُدُومِكَ الشَّهْبَاءُ
وَفِي ثَامِنِ رَمَضَانَ عُزِلَ أَمِينُ الْمُلْكِ عَنْ وِزَارَةِ مِصْرَ،
وَأُضِيفَتِ الْوِزَارَةُ إِلَى الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ مُغْلَطَاي
الْجَمَّالِيِّ أُسْتَادَارِ السُّلْطَانِ. وَفِي أَوَاخِرِ رَمَضَانَ طُلِبَ
الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ إِلَى الْقَاهِرَةِ، وَتَوَلَّى بِهَا
نَظَرَ الدَّوَاوِينِ عِوَضًا عَنْ كَرِيمِ الدِّينِ الصَّغِيرِ، وَقَدِمَ كَرِيمُ
الدِّينِ الْمَذْكُورُ إِلَى دِمَشْقَ مُبَاشِرًا بِهَا نَظَرَ الدَّوَاوِينِ،
فَقَدِمَهَا فِي شَوَّالٍ، فَنَزَلَ بِدَارِ الْعَدْلِ مَنَ الْقَصَّاعِينَ.
وَوَلِيَ سَيْفُ الدِّينِ قُدَيْدَارُ وِلَايَةَ مِصْرَ، وَهُوَ شَهْمٌ سَفَّاكٌ
لِلدِّمَاءِ، فَأَرَاقَ
الْخُمُورَ، وَأَحْرَقَ الْحَشِيشَةَ،
وَأَمْسَكَ الشُّطَّارَ، وَاسْتَقَامَتْ بِهِ أَحْوَالُ الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ،
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُلَازِمًا لِابْنِ تَيْمِيَّةَ مُدَّةَ مُقَامِهِ
بِمِصْرَ.
وَفِي رَمَضَانَ قَدِمَ إِلَى مِصْرَ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ
بْنُ الشَّحَّامِ الْمَوْصِلِيُّ مِنْ بِلَادِ السُّلْطَانِ أُزْبَكَ، وَعِنْدَهُ
فُنُونٌ مِنْ عِلْمِ الطِّبِّ وَغَيْرِهِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ بِالْوَصِيَّةِ بِهِ،
فَأُعْطِيَ تَدْرِيسَ الظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا
جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، فَبَاشَرَهَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي
الْحِجَّةِ، ثُمَّ دَرَّسَ بِالْجَارُوخِيَّةِ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي تَاسِعِ شَوَّالٍ وَأَمِيرُهُ كُوكَنْجِيَارُ
الْمُحَمَّدِيُّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ. وَمِمَّنْ خَرَجَ
إِلَى الْحَجِّ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ قَرَطَاي
النَّاصِرِيُّ نَائِبُ طَرَابُلُسَ، وَصَارُوجَا وَشِهْرَى وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي نِصْفِ شَوَّالٍ زَادَ السُّلْطَانُ فِي عِدَّةِ الْفُقَهَاءِ
بِمَدْرَسَتِهِ النَّاصِرِيَّةِ، كَانَ فِيهَا مَنْ كُلِّ مَذْهَبٍ ثَلَاثُونَ
ثَلَاثُونَ، فَزَادَهُمْ إِلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ،
وَزَادَهُمْ فِي الْجَوَامِكِ أَيْضًا.
وَفِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ وُجِدَ كَرِيمُ الدِّينِ الْكَبِيرُ
وَكِيلُ السُّلْطَانِ قَدْ شَنَقَ نَفْسَهُ دَاخِلَ خِزَانَةٍ لَهُ قَدْ
أَغْلَقَهَا عَلَيْهِ مِنْ دَاخِلٍ، رَبَطَ حَلْقَهُ فِي حَبْلٍ، كَانَ تَحْتَ
رِجْلَيْهِ قَفَصٌ، فَدَفَعَ الْقَفَصَ بِرِجْلَيْهِ، فَمَاتَ فِي مَدِينَةِ
أُسْوَانَ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ.
وَفِي سَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ زُيِّنَتْ دِمَشْقُ بِسَبَبِ عَافِيَةِ
السُّلْطَانِ مِنْ مَرَضٍ كَانَ قَدْ أَشْفَى مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَفِي ذِي
الْقَعْدَةِ دَرَّسَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ
بِالظَّاهِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، سَافَرَ عَلَى قَضَاءِ حَلَبَ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقَاضِي الْقَزْوِينِيُّ.
وَجَاءَ كِتَابٌ صَادِقٌ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْلَى شَمْسِ الدِّينِ بْنِ
سِنَانٍ، يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ الْأَمِيرَ جُوبَانَ أَعْطَى الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ
حُسَيْنَاهْ قَدَحًا فِيهِ خَمْرٌ لِيَشْرَبَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ
الِامْتِنَاعِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، وَأَقْسَمَ، فَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ،
فَقَالَ لَهُ: إِنْ لَمْ تَشْرَبْهَا كَلَّفْتُكَ أَنْ تَحْمِلَ ثَلَاثِينَ
تُومَانًا، فَقَالَ: نَعَمْ، أَحْمِلُ وَلَا أَشْرَبُهَا، فَكَتَبَ عَلَيْهِ
حُجَّةً بِذَلِكَ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ إِلَى أَمِيرٍ آخَرَ يُقَالُ لَهُ:
يَلْبَى، فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَالَ؛ ثَلَاثِينَ تُومَانًا، فَأَبَى
أَنْ يُقْرِضَهُ إِلَّا بِرِبْحِ عَشَرَةِ تَوَامِينَ، فَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ،
فَبَعَثَيَلْبَى إِلَى جُوبَانَ يَقُولُ لَهُ: الْمَالُ الَّذِي طَلَبْتَهُ مِنْ
حُسَيْنَاهْ عِنْدِي، فَإِنْ رَسَمْتَ حَمَلْتُهُ إِلَى الْخِزَانَةِ
الشَّرِيفَةِ، وَإِنْ رَسَمْتَ تُفَرِّقُهُ عَلَى الْجَيْشِ، فَأَرْسَلَ جُوبَانُ
إِلَى مُحَمَّدِ حُسَيْنَاهْ فَأَحْضَرَهُ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ: تَزِنُ
أَرْبَعِينَ تُومَانًا وَلَا تَشْرَبُ قَدَحًا مَنْ خَمْرٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ،
فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَمَزَّقَ الْحُجَّةَ الْمُكْتَتَبَةَ عَلَيْهِ،
وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَحَكَّمَهُ فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا، وَوَلَّاهُ وِلَايَاتٍ
كِبَارًا، وَحَصَلَ لِجُوبَانَ إِقْلَاعٌ وَإِنَابَةٌ، وَرُجُوعٌ عَنْ كَثِيرٍ
مِمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ، رَحِمَ اللَّهُ حُسَيْنَاهْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ فِتْنَةٌ بِأَصْبَهَانَ قُتِلَ بِسَبَبِهَا
أُلُوفٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَاسْتَمَرَّتِ
الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ شُهُورًا،
وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ مُفْرِطٌ بِدِمَشْقَ، بَلَغَتِ الْغِرَارَةُ مِائَتَيْنِ
وَعِشْرِينَ، وَقَلَّتِ الْأَقْوَاتُ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَقَامَ لِلنَّاسِ
مَنْ يَحْمِلُ لَهُمُ الْغَلَّةَ مِنْ مِصْرَ لَاشْتَدَّ الْغَلَاءُ وَزَادَ
أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَكَانَ مَاتَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ مُدَّةَ
شُهُورٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَإِلَى أَثْنَاءِ سَنَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ،
حَتَّى قَدِمَتِ الْغَلَّاتُ، وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ.
تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مَمْدُودِ
بْنِ أَحْمَدَ الْحَنَفِيُّ، قَاضِي قَلْعَةِ الرُّومِ بِالْحِجَازِ الشَّرِيفِ،
وَقَدْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، حَجَّ مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَرُبَّمَا أَحْرَمَ
مِنْ قَلْعَةِ الرُّومِ، وَأَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِدِمَشْقَ صَلَاةَ الْغَائِبِ، وَعَلَى شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الْعِزِّ، وَعَلَى
شَرَفِ الدِّينِ بْنِ نَجِيحٍ، تُوُفُّوا فِي أَقَلِّ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ،
كُلُّهُمْ بِطَرِيقِ الْحِجَازِ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ غَبَطُوا ابْنَ نَجِيحٍ صَاحِبَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ بِتِلْكَ الْمَوْتَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَرُزِقُوهَا، فَمَاتُوا
عَقِيبَ عَمَلِهِمُ الصَّالِحِ بَعْدَ الْحَجِّ.
الْجِهَةُ الْكَبِيرَةُ خَوَنْدُ بِنْتُ نُوكَايْ، زَوْجَةُ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَقَدْ
كَانَتْ زَوْجَةَ أَخِيهِ الْمَلِكِ
الْأَشْرَفِ، ثُمَّ هَجَرَهَا النَّاصِرُ وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْقَلْعَةِ،
وَكَانَتْ جِنَازَتُهَا حَافِلَةً، وَدُفِنَتْ بِتُرْبَتِهَا الَّتِي
أَنْشَأَتْهَا.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فَرْعُوشَ، وَيُقَالُ لَهُ: اللَّبَّادُ،
وَيُعْرَفُ بِالْمُوَلَّهِ، كَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِالْجَامِعِ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ
يُعَلِّمُ الصِّغَارَ الْحُرُوفَ الْمُشِقَّةَ، كَالرَّاءِ وَنَحْوِهَا، وَكَانَ
مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، لَا يَقْتَنِي شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ بَيْتٌ وَلَا
خِزَانَةٌ، إِنَّمَا كَانَ يَأْكُلُ فِي السُّوقِ وَيَنَامُ فِي الْجَامِعِ،
تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَدُفِنَ فِي
بَابِ الْفَرَادِيسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ بِمِصْرَ الشَّيْخُ أَيُّوبُ السُّعُودِيُّ،
وَقَدْ قَارَبَ الْمِائَةَ، أَدْرَكَ الشَّيْخَ أَبَا السُّعُودِ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ مَشْهُودَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ شَيْخِهِ بِالْقَرَافَةِ، وَكَتَبَ
عَنْهُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي حَيَاتِهِ، وَذَكَرَ
الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّحْبِيُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَ مِثْلَ جِنَازَتِهِ
بِالْقَاهِرَةِ مُنْذُ سَكَنَهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ نُورُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
يَعْقُوبَ بْنِ جِبْرِيلَ الْبَكْرِيُّ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، لَهُ
تَصَانِيفُ، وَقَرَأَ " مُسْنَدَ الشَّافِعِيِّ " عَلَى وَزِيرَةَ
بِنْتِ الْمُنَجَّا، ثُمَّ إِنَّهُ
أَقَامَ بِمِصْرَ، وَقَدْ كَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَى شَيْخِ
الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَأَرَادَ بَعْضُ الدَّوْلَةِ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ
وَاخْتَفَى، كَمَا تَقَدَّمَ لَمَّا كَانَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ مُقِيمًا بِمِصْرَ،
وَمَا مِثَالُهُ إِلَّا مِثَالُ سَاقِيَةٍ ضَعِيفَةٍ كَدِرَةٍ، لَاطَمَتْ بَحْرًا
عَظِيمًا صَافِيًا، أَوْ رَمَلَةٍ أَرَادَتْ زَوَالَ جَبَلٍ، وَقَدْ أَضْحَكَ
الْعُقَلَاءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَرَادَ السُّلْطَانُ قَتْلَهُ، فَشَفَعَ فِيهِ
بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ أَنْكَرَ مَرَّةً شَيْئًا عَلَى الدَّوْلَةِ فَنُفِيَ
مِنَ الْقَاهِرَةِ إِلَى بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: دَهْرُوطُ، فَكَانَ بِهَا حَتَّى
تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ،
وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ مَشْهُورَةً غَيْرَ مَشْهُودَةٍ، وَكَانَ شَيْخُهُ يُنْكِرُ
عَلَيْهِ إِنْكَارَهُ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ لَا
تُحْسِنُ أَنْ تَتَكَلَّمَ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الْبَاجُرْبَقِيُّ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ
الضَّالَّةُ الْبَاجُرْبَقِيَّةُ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ إِنْكَارُ الصَّانِعِ
جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَقَدْ كَانَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ
جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عُمَرَ الْمَوْصِلِيُّ رَجُلًا صَالِحًا
مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ، وَدَرَّسَ فِي أَمَاكِنَ بِدِمَشْقَ، وَنَشَأَ
وَلَدُهُ هَذَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَاشْتَغَلَ بَعْضَ شَيْءٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَى السُّلُوكِ، وَلَازَمَهُ جَمَاعَةٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ وَيَزُورُونَهُ
مِمَّنْ هُوَ
عَلَى طَرِيقَتِهِ، وَآخَرُونَ لَا
يَفْهَمُونَهُ، ثُمَّ حَكَمَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ،
فَهَرَبَ إِلَى الشَّرْقِ، ثُمَّ إِنَّهُ أَثْبَتَ عَدَاوَةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ
الشُّهُودِ، فَحَكَمَ الْحَنْبَلِيُّ بِحَقْنِ دَمِهِ، فَأَقَامَ بِالْقَابُونِ
مُدَّةَ سِنِينَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَغَارَةِ الدَّمِ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ فِي قُبَّةٍ فِي أَعْلَى ذَيْلِ الْجَبَلِ تَحْتَ الْمَغَارَةِ، وَلَهُ
مِنَ الْعُمْرِ سِتُّونَ سَنَةً.
شَيْخُنَا الْقَاضِي الْمُعَمَّرُ الْفَقِيهُ مُحْيِي الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا
يَحْيَى بْنُ الْفَاضِلِ جَمَالِ الدِّينِ إِسْحَاقَ بْنِ خَلِيلِ بْنِ فَارِسٍ
الشَّيْبَانِيُّ الشَّافِعِيُّ، اشْتَغَلَ عَلَى النَّوَاوِيِّ، وَلَازَمَ
الْمَقْدِسِيَّ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ بِزُرَعَ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ قَامَ بِدِمَشْقَ
يَشْتَغِلُ فِي الْجَامِعِ، وَدَرَّسَ فِي الصَّارِمِيَّةِ، وَأَعَادَ فِي
مَدَارِسَ عِدَّةٍ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ
بَقَاسِيُونَ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَمِعَ كَثِيرًا،
وَخَرَّجَ لَهُ الذَّهَبِيُّ شَيْئًا، وَسَمِعْنَا عَلَيْهِ "
الدَّارَقُطْنِيَّ " وَغَيْرَهُ.
الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الصَّدْرُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْخَطِيبُ بِالْجَامِعِ
بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَدَّادِ الْآمِدِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَاشْتَغَلَ، وَحَفِظَ " الْمُحَرَّرَ " فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ، وَبَرَعَ عَلَى ابْنِ
حَمْدَانَ، وَشَرَحَهُ عَلَيْهِ فِي
مُدَّةِ سِنِينَ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ حَمْدَانَ يُثْنِي عَلَيْهِ كَثِيرًا وَعَلَى
ذِهْنِهِ وَذَكَائِهِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْكِتَابَةِ، وَلَزِمَ خِدْمَةَ
الْأَمِيرِ قَرَاسُنْقُرَ بِحَلَبَ، فَوَلَّاهُ نَظَرَ الْأَوْقَافِ وَخَطَابَةَ
حَلَبَ بِجَامِعِهَا الْأَعْظَمِ، ثُمَّ لَمَّا صَارَ إِلَى دِمَشْقَ وَلَّاهُ
الْخَطَابَةَ، فَاسْتَمَرَّ خَطِيبًا فِيهَا اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا،
ثُمَّ أُعِيدَ إِلَيْهَا جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ، ثُمَّ وَلِيَ نَظَرَ
الْمَارَسْتَانِ وَوَلِيَ الْحِسْبَةَ وَنَظَرَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
وَعُيِّنَ لِقَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ فِي وَقْتٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْكَاتِبُ الْمُفِيدُ قُطْبُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلِ بْنِ فَضْلِ
اللَّهِ الْمِصْرِيُّ، أَخُو مُحْيِي الدِّينِ كَاتِبِ تَنْكِزَ، وَوَالِدُ
الصَّاحِبِ عَلَمِ الدِّينِ كَانَ خَبِيرًا بِالْكِتَابَةِ، وَقَدْ وَلِيَ
اسْتِيفَاءَ الْأَوْقَافِ بَعْدَ أَخِيهِ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ، وَهُوَ
الَّذِي عَلَّمَهُ صِنَاعَةَ الْكِتَابَةِ وَغَيْرَهَا، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ
ثَانِي رَجَبٍ، وَعُمِلَ عَزَاؤُهُ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَكَانَ مُبَاشِرَ
أَوْقَافِهَا.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَلِكُ الْعَرَبِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُهَنَّا،
أَخُو مُهَنَّا، تُوُفِّيَ بِسَلَمْيَةَ يَوْمَ السَّبْتِ سَابِعِ رَجَبٍ، وَقَدْ
جَاوَزَ السِّتِّينَ، كَانَ مَلِيحَ الشَّكْلِ، حَسَنَ السِّيرَةِ، عَاقِلًا
عَارِفًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ بِمَوْتِ الْوَزِيرِ
الْكَبِيرِ تَاجِ الدِّينِ
عَلِيِّ شَاهْ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
التِّبْرِيزِيِّ، وَزِيرِ بُو سَعِيدٍ بَعْدَ قَتْلِ سَعْدِ الدِّينِ السَّاوِيِّ،
وَكَانَ شَيْخًا جَلِيلًا، فِيهِ دِينٌ وَخَيْرٌ، وَحُمِلَ إِلَى تِبْرِيزَ
فَدُفِنَ بِهَا فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْتَمُرُ، وَالِي الْوُلَاةِ، صَاحِبُ الْأَوْقَافِ
فِي بُلْدَانٍ شَتَّى مِنْ ذَلِكَ مَدْرَسَةٌ بِالصَّلْتِ، وَلَهُ دَرْسٌ
بِمَدْرَسَةِ أَبِي عُمَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، تُوُفِّيَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ
وَهُوَ نَائِبُهَا فِي خَامِسِ رَمَضَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
شَرَفُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ
الْعَلَّامَةِ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَسْعَدَ
بْنِ الْمُنَجَّا التَّنُوخِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، أَخُو قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءِ
الدِّينِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَرَّسَ، وَأَفْتَى، وَصَحِبَ الشَّيْخَ تَقِيَّ
الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ فِيهِ دِينٌ، وَمَوَدَّةٌ، وَكَرَمٌ،
وَقَضَاءُ حُقُوقٍ كَثِيرَةٍ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ رَابِعِ شَوَّالٍ،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِمْ بِالصَّالِحِيَّةِ.
الشَّيْخُ حَسَنٌ الْكُرْدِيُّ الْمُوَلَّهُ، كَانَ يُخَالِطُ النَّجَاسَاتِ
وَالْقَاذُورَاتِ وَيَمْشِي حَافِيًا، وَرُبَّمَا تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنَ
الْهَذَيَانَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ عِلْمَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَلِبَعْضِ النَّاسِ
فِيهِ اعْتِقَادَاتٌ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَهْلِ الْعَمَى
وَالضَّلَالَاتِ، مَاتَ فِي شَوَّالٍ.
كَرِيمُ الدِّينِ الَّذِي كَانَ وَكِيلَ السُّلْطَانِ، عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ
الْعَلَمِ هِبَةِ اللَّهِ الْمُسْلِمَانِيُّ، حَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ،
وَالتَّقَدُّمِ، وَالْمَكَانَةِ الْخَطِيرَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مَا لَمْ
يَحْصُلْ لِغَيْرِهِ فِي دَوْلَةِ الْأَتْرَاكِ، وَقَدْ وَقَفَ الْجَامِعَيْنِ
بِدِمَشْقَ أَحَدُهُمَا بِالْقُبَيْبَاتِ وَالْحَوْضِ الْكَبِيرِ الَّذِي تُجَاهَ
بَابِ الْجَامِعِ، وَاشْتَرَى لَهُ نَهْرَ مَاءٍ بِخَمْسِينَ أَلْفًا، فَانْتَفَعَ
بِهِ النَّاسُ انْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَوَجَدُوا رِفْقًا، وَالثَّانِي الَّذِي
بِالْقَابُونِ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ وَعَفَا
عَنْهُ، وَقَدْ مُسِكَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، فَصُودِرَ ثُمَّ نُفِيَ إِلَى
الشَّوْبَكِ، ثُمَّ إِلَى الْقُدْسِ، ثُمَّ الصَّعِيدِ، فَخَنَقَ نَفْسَهُ - كَمَا
قِيلَ - فِي عِمَامَتِهِ بِمَدِينَةِ أُسْوَانَ، وَذَلِكَ فِي الثَّالِثِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَقَدْ كَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ، تَامَّ الْقَامَةِ،
وَوُجِدَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ذَخَائِرُ كَثِيرَةٌ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْعَطَّارِ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ
النُّورِيَّةِ، وَمُدَرِّسُ الْقُوصِيَّةِ بِالْجَامِعِ، وُلِدَ يَوْمَ عِيدِ
الْفِطْرِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ مُحْيِي
الدِّينِ النَّوَاوِيِّ، وَلَازَمَهُ حَتَّى كَانَ يُقَالُ لَهُ: مُخْتَصَرُ
النَّوَاوِيِّ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتُ، وَفَوَائِدُ وَمَجَامِيعُ، وَتَخَارِيجُ،
وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ النُّورِيَّةِ مِنْ سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْهَا مُسْتَهَلِّ ذِي الْحِجَّةِ، فَوَلِيَ بَعْدَهُ النُّورِيَّةَ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ، وَتَوَلَّى الْقُوصِيَّةَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ حِرْزِ اللَّهِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَأَوَّلُهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ.
وَفِي خَامِسِ صَفَرٍ مِنْهَا قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ
مَحْمُودٌ الْأَصْبَهَانِيُّ بَعْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ وَزِيَارَةِ
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَهُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ لَهُ مُصَنَّفَاتُ مِنْهَا "
شَرْحُ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ "، وَ " شَرْحُ التَّجْرِيدِ
"، وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُ شَرَحَ " الْحَاجِبِيَّةَ "
أَيْضًا، وَجَمَعَ تَفْسِيرًا بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ إِلَى مِصْرَ، وَلَمَّا قَدِمَ
إِلَى دِمَشْقَ أُكْرِمَ، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ الطَّلَبَةُ، وَكَانَ حَظِيًّا
عِنْدَ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَرَكَ
الْكُلَّ، وَصَارَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ،
وَسَمِعَ عَلَيْهِ مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ، وَرَدِّهِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ،
وَلَازَمَهُ مُدَّةً، فَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تَحَوَّلَ إِلَى
مِصْرَ وَجَمَعَ التَّفْسِيرَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَرَّدَ السُّلْطَانُ تَجْرِيدَةً نَحْوَ خَمْسَةِ
آلَافٍ إِلَى الْيَمَنِ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ بَيْبَرْسَ
الْحَاجِبِ، وَسَيْفِ الدِّينِ طِينَالَ الْحَاجِبِ أَيْضًا نَجْدَةً لِصَاحِبِ
الْيَمَنِ لِخُرُوجِ عَمِّهِ عَلَيْهِ، وَصَحِبَهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْحُجَّاجِ مِنْهُمُ
الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ
النُّوَيْرِيُّ.
وَفِيهَا مُنِعَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ مُرِّيٍّ الْبَعْلَبَكِّيُّ مِنَ
الْكَلَامِ عَلَى النَّاسِ بِمِصْرَ عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَزَّرَهُ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ بِسَبَبِ مَسْأَلَةِ
الِاسْتِغَاثَةِ، وَحَضَرَ الْمَذْكُورُ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ، وَأَثْنَى
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ سُفِّرَ إِلَى الشَّامِ بِأَهْلِهِ
فَنَزَلَ بِبِلَادِ الْخَلِيلِ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ، وَانْتَزَحَ إِلَى بِلَادِ
الشَّرْقِ، وَأَقَامَ بِسِنْجَارَ وَمَارِدِينَ وَمُعَامَلَتِهِمَا، يَتَكَلَّمُ
وَيَعِظُ النَّاسَ إِلَى أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ عَادَ نَائِبُ الشَّامِ مِنْ مِصْرَ وَقَدْ أَكْرَمَهُ
السُّلْطَانُ وَالْأُمَرَاءُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ بِمِصْرَ مَطَرٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ،
بِحَيْثُ زَادَ النِّيلُ بِسَبَبِهِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ، وَتَغَيَّرَ أَيَّامًا.
وَفِيهِ زَادَتْ دِجْلَةُ بِبَغْدَادَ حَتَّى غَرَّقَتْ مَا حَوْلَ بَغْدَادَ،
وَانْحَصَرَ النَّاسُ بِهَا سِتَّةَ أَيَّامٍ لَمْ تُفْتَحْ أَبْوَابُهَا،
وَبَقِيَتْ مِثْلَ السَّفِينَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ
مِنَ الْفَلَّاحِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَتَلِفَ لِلنَّاسِ مَا لَا يَعْلَمُ قِيمَتَهُ
إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَوَدَّعَ أَهْلُ الْبَلَدِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَجَئُوا
إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَحَمَلُوا الْمَصَاحِفَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَحَمَلَ
النَّاسُ فِي سَدِّ السُّكُورِ بِأَنْفُسِهِمْ، حَتَّى الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَكَانَ وَقْتًا عَجِيبًا، ثُمَّ لَطَفَ اللَّهُ بِهِمْ، فَغِيضَ الْمَاءُ
وَتَنَاقَصَ،
وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى مَا
كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمُ الْجَائِزَةِ وَغَيْرِ الْجَائِزَةِ، وَذَكَرَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهُ غَرِقَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ
وَسِتِّمِائَةِ بَيْتٍ، وَإِلَى عَشَرَةِ سِنِينَ لَا يَرْجِعُ مَا غَرِقَ.
وَفِي أَوَائِلِ جُمَادَى الْآخِرَةِ فَتَحَ السُّلْطَانُ خَانَقَاهْ سِرْيَاقُوسَ
الَّتِي أَنْشَأَهَا، وَسَاقَ إِلَيْهَا خَلِيجًا، وَبَنَى عِنْدَهَا مَحِلَّةً،
وَحَضَرَ بِهَا وَمَعَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْأُمَرَاءُ،
وَغَيْرُهُمْ، وَوَلِيَهَا مَجْدُ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ، وَعَمِلَ
السُّلْطَانُ بِهَا وَلِيمَةً عَظِيمَةً، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ وَكِيرَةٌ،
وَسَمِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ جَمَاعَةَ عِشْرِينَ حَدِيثًا بِقِرَاءَةِ
وَلَدِهِ عِزِّ الدِّينِ بِحَضْرَةِ الدَّوْلَةِ مِنْهُمْ أَرْغُوَنُ النَّائِبُ،
وَشَيْخُ الشُّيُوخِ الْقُونَوِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَخُلِعَ عَلَى الْقَارِئِ
عِزِّ الدِّينِ، وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ ثَنَاءً زَائِدًا، وَأُجْلِسَ مُكَرَّمًا،
وَخُلِعَ أَيْضًا عَلَى وَالِدِهِ ابْنِ جَمَاعَةَ وَعَلَى الْمَالِكِيِّ،
وَشَيْخِ الشُّيُوخِ، وَعَلَى مَجْدِ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيِّ شَيْخِ
الْخَانَقَاهْ الْمَذْكُورَةِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ دَرَّسَ بِقُبَّةِ
الْمَنْصُورِيَّةِ فِي الْحَدِيثِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْكَتَّانِيِّ
الدِّمَشْقِيُّ، بِإِشَارَةِ نَائِبِ الْكَرَكِ وَأَرْغُوَنَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
النَّاسُ، وَكَانَ فَقِيهًا جَيِّدًا، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ مِنْ فَنِّهِ
وَلَا مَنْ شُغْلِهِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ قَدِمَ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْمُرَحِّلِ مِنْ مِصْرَ عَلَى تَدْرِيسِ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، وَكَانَتْ بِيَدِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، فَانْتَقَلَ إِلَى
قَضَاءِ حَلَبَ، فَدَرَّسَ بِهَا فِي خَامِسِ شَعْبَانَ، وَحَضَرَ الْقَاضِي
الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ.
وَفِي سَلْخِ رَجَبٍ قَدِمَ الْقَاضِي
عِزُّ الدِّينِ بْنُ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ مِنْ مِصْرَ وَمَعَهُ
وَلَدُهُ، وَفِي صُحْبَتِهِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيُّ
وَجَمَاعَةٌ مِنَ الطَّلَبَةِ بِسَبَبِ سَمَاعِ الْحَدِيثِ، فَقَرَأَ بِنَفْسِهِ
وَقَرَأَ النَّاسُ لَهُ وَاعْتَنَوْا بِأَمْرِهِ، وَسَمِعْنَا مَعَهُمْ
وَبِقِرَاءَتِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، نَفْعَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَرَءُوا وَبِمَا
سَمِعُوا، وَنَفَعَ بِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ دَرَّسَ الشَّيْخُ شَمْسُ
الدِّينِ بْنُ الْأَصْبَهَانِيِّ بِالرَّوَاحِيَّةِ بَعْدَ ذَهَابِ ابْنِ
الزَّمْلَكَانِيِّ إِلَى حَلَبَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَكَانَ فِيهِمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَجَرَى يَوْمَئِذٍ
بَحْثٌ فِي " الْعَامِّ إِذَا خُصَّ "، وَفِي " الِاسْتِثْنَاءِ
بَعْدَ النَّفْيِ "، وَوَقَعَ انْتِشَارٌ، وَطَالَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ، وَتَكَلَّمَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَلَامًا أَبْهَتَ
الْحَاضِرِينَ.
وَتَأَخَّرَ ثُبُوتُ عِيدِ الْفِطْرِ إِلَى قَرِيبِ الظُّهْرِ يَوْمَ الْعِيدِ،
فَلَمَّا ثَبَتَ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَصَلَّى الْخَطِيبُ الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ
بِالْجَامِعِ، وَلَمْ يَخْرُجِ النَّاسُ إِلَى الْمُصَلَّى، وَتَغَضَّبَ
النَّائِبُ عَلَى الْمُؤَذِّنِينَ، وَسَجَنَ بَعْضَهُمْ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ فِي عَاشِرِهِ، وَأَمِيرُهُ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ أَيْبَكَ
الطَّوِيلُ، وَفِي الرَّكْبِ صَلَاحُ الدِّينِ بْنُ الْأَوْحَدِ،
وَالْمَنْكُورَسِيُّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ.
وَفِي سَابِعَ عَشَرَهُ دَرَّسَ
بِالرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ بَقَاسِيُونَ حُسَامُ الدِّينِ الْقَرْمِيُّ، الَّذِي
كَانَ قَاضِيَ طَرَابُلُسَ، قَايَضَهُ بِهَا جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشَّرِيشِيِّ
إِلَى تَدْرِيسِ الْمَسْرُورِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ تَوْقِيعُهُ
بِالْعَذْرَاوِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، فَوَقَفَ فِي طَرِيقِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ
جَلَالُ الدِّينِ وَنَائِبَاهُ ابْنُ جُمْلَةَ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ،
وَعَقَدَ لَهُ وَلِكَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ مَجْلِسًا، وَمَعَهُ
تَوْقِيعٌ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، فَعُطِّلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمَا؛
لِأَنَّهُمَا لَمْ يُظْهِرَا اسْتِحْقَاقَهُمَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَصَارَتِ
الْمَدْرَسَتَانِ الْعَذْرَاوِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ لِابْنِ الْمُرَحِّلِ كَمَا
ذَكَرْنَا، وَعُوِّضَ الْقَرْمِيُّ بِالْمَسْرُورِيَّةِ، فَقَايَضَ مِنْهَا
لِابْنِ الشَّرِيشِيِّ إِلَى الرِّبَاطِ النَّاصِرِيِّ، فَدَرَّسَ بِهِ فِي هَذَا
الْيَوْمِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ
ابْنُ الشَّرِيشِيِّ بِالْمَسْرُورِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ النَّاسُ أَيْضًا.
وَفِيهِ عَادَتِ التَّجْرِيدَةُ الْيَمَنِيَّةُ، وَقَدْ فُقِدَ مِنْهُمْ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْغِلْمَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَحُبِسَ مُقَدَّمُهُمُ الْكَبِيرُ
رُكْنُ الدِّينِ بَيْبَرْسُ لِسُوءِ سِيرَتِهِ فِيهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الصَّيَّاحُ، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنِيرٍ
الْبَعْلَبَكِّيُّ، كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ، وَكَانَ مُقِيمًا
بِالْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ مُسْتَهَلِّ
الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالْبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً،
وَحَمَلَهُ النَّاسُ عَلَى
الرُّءُوسِ وَالْأَصَابِعِ، وَكَانَ
مُلَازِمًا لِمَجْلِسِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ.
إِبْرَاهِيمُ الْمُوَلَّهُ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الْقَمِينِيُّ لِإِقَامَتِهِ
بِالْقَمَامِينَ خَارِجَ بَابِ شَرْقِيٍّ، وَرُبَّمَا كَاشَفَ بَعْضَ شَيْءٍ،
وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَقَدِ اسْتَتَابَهُ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَضَرَبَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ،
وَمُخَالَطَةِ الْقَاذُورَاتِ، وَجَمْعِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ حَوْلَهُ فِي
الْأَمَاكِنِ النَّجِسَةِ، تُوُفِّيَ كَهْلًا فِي هَذَا الشَّهْرِ.
الشَّيْخُ عَفِيفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ
بْنِ عُمَرَ الصِّقِلِّيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ الرَّأْسِ،
آخِرُ مِنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ الصَّلَاحِ بِبَعْضِ " سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ
"، سَمِعْنَا عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا، تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ النَّاسِكُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ الْجَزَرِيُّ، الَّذِي كَانَ مُقِيمًا بِمَشْهَدِ أَبِي
بَكْرٍ مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ، كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، مُبَارَكًا
خَيِّرًا، عَلَيْهِ سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَكَانَتْ لَهُ مُطَالَعَةٌ كَثِيرَةٌ،
وَلَهُ فَهْمٌ جَيِّدٌ وَعَقْلٌ صَحِيحٌ، وَكَانَ مِنَ الْمُلَازِمِينَ
لِمَجَالِسِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ يَنْقُلُ مِنْ
كَلَامِهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَيَفْهَمُهَا، يَعْجِزُ عَنْهَا كِبَارُ
الْفُقَهَاءِ،
تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ
عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ،
وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً مَحْمُودَةً.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْكَبِيرُ الْمُعَمَّرُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ الصَّائِغِ الْمُقْرِئُ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، آخِرُ مَنْ
بَقِيَ مِنْ مَشَايِخِ الْقُرَّاءِ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَالِمِ بْنِ مَكِّيٍّ،
تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً،
قَارَبَ التِّسْعِينَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مِنْهَا سِوَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ
قَرَأَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ مِمَّنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ
عَمَلُهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ صَدْرُ الدِّينِ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ
تَمَّامِ بْنِ مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَبَرَعَ فِي الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ، وَدَرَّسَ بِالسَّيْفِيَّةِ،
وَبَاشَرَهَا بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الَّذِي
تَوَلَّى قَضَاءَ الشَّامِ فِيمَا بَعْدُ.
الشِّهَابُ مَحْمُودٌ، هُوَ الصَّدْرُ الْكَبِيرُ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ،
الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، شَيْخُ صِنَاعَةِ الْإِنْشَاءِ، الَّذِي لَمْ يَكُنْ
بَعْدَ الْقَاضِي الْفَاضِلِ مِثْلُهُ فِي صَنْعَةِ الْإِنْشَاءِ، وَلَهُ
خَصَائِلُ لَيْسَتْ لِلْفَاضِلِ، مِنْ كَثْرَةِ النَّظْمِ وَالْقَصَائِدِ
الْمُطَوَّلَةِ الْحَسَنَةِ الْبَلِيغَةِ، فَهُوَ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو
الثَّنَاءِ مَحْمُودُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ فَهْدٍ الْحَلَبِيُّ ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ، وُلِدَ
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ بِحَلَبَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَعُنِيَ بِاللُّغَةِ وَالْأَدَبِ
وَالشِّعْرِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْفَضَائِلِ، بَارِعًا فِي عِلْمِ الْإِنْشَاءِ
نَظْمًا وَنَثْرًا، وَلَهُ فِي ذَلِكَ كُتُبٌ وَمُصَنَّفَاتٌ حَسَنَةٌ فَائِقَةٌ،
وَقَدْ مَكَثَ فِي دِيوَانِ الْإِنْشَاءِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ سَنَةً، ثُمَّ
عَمِلَ كِتَابَةَ السِّرِّ بِدِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِي سِنِينَ إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ ثَانِي عِشْرِينَ شَعْبَانَ فِي مَنْزِلِهِ قُرْبَ
بَابِ النَّاطِفَانِيِّينَ، وَهِيَ دَارُ الْقَاضِي الْفَاضِلِ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ أَنْشَأَهَا بِالْقُرْبِ مِنَ
الْيَغْمُورِيَّةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
شَيْخُنَا الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، عَفِيفُ الدِّينِ إِسْحَاقُ بْنُ
يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْآمِدِيُّ ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ الْحَنَفِيُّ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةِ، وُلِدَ
فِي حُدُودِ الْأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى جَمَاعَةٍ
كَثِيرِينَ مِنْهُمْ يُوسُفُ بْنُ خَلِيلٍ، وَمَجْدُ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ،
وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، سَهْلَ الْإِسْمَاعِ، يُحِبُّ
الرِّوَايَةَ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَانِي
عِشْرِينَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بَقَاسِيُونَ، وَهُوَ وَالِدُ فَخْرِ الدِّينِ
نَاظِرِ الْجُيُوشِ وَالْجَامِعِ.
وَقَبْلَهُ بِيَوْمٍ تُوُفِّيَ الصَّدْرُ مُعِينُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ زُغَيْبٍ
الرَّحْبِيُّ، أَحَدُ كِبَارِ التُّجَّارِ الْأُمَنَاءِ.
وَفِي رَمَضَانَ تُوُفِّيَ الْبَدْرُ الْعَوَّامُ،
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَابَا الْحَلَبِيُّ، وَكَانَ فَرْدًا فِي
الْعَوْمِ وَطِيبِ الْأَخْلَاقِ، انْتَفَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ فِي
بَحْرِ الْيَمَنِ، كَانَ مَعَهُمْ فَغَرِقَ بِهِمُ الْمَرْكَبُ، فَلَجَئُوا إِلَى
صَخْرَةٍ فِي الْبَحْرِ، فَكَانُوا عَلَيْهَا، فَخَلَّصَهُمُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَلَى يَدَيْهِ وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى السَّاحِلِ، وَكَانُوا ثَلَاثَةَ
عَشَرَ، ثُمَّ إِنَّهُ غَطَسَ فَاسْتَخْرَجَ لَهُمْ أَمْوَالًا مِنْ قَرَارِ
الْبَحْرِ بَعْدَ أَنْ أَفْلَسُوا وَكَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا، وَكَانَ فِيهِ
دِيَانَةٌ وَصِيَانَةٌ، وَقَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَحَجَّ عَشْرَ مَرَّاتٍ،
وَعَاشَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ يَسْمَعُ
الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ كَثِيرًا.
وَفِيهِ تُوُفِّيَ الشِّهَابُ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ الْأَمْشَاطِيُّ،
الْأَدِيبُ فِي الْأَزْجَالِ، وَالْمُوَشَّحَاتِ، وَالْمَوَالِيَا،
وَالدُّوبَيْتِ، وَالْبَلَالِيقِ، وَكَانَ أُسْتَاذَ أَهْلِ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ،
مَاتَ فِي عَشْرِ السِّتِّينَ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ، صَدْرُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ
هِلَالِ بْنِ شِبْلِ بْنِ فَلَاحِ بْنِ خَصِيبٍ الْجَعْفَرِيُّ الشَّافِعِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِخَطِيبِ دَارَيَّا، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
بِقَرْيَةِ بُسْرَا مِنْ عَمَلِ السَّوَادِ، وَقَدِمَ مَعَ وَالِدِهِ، فَقَرَأَ
بِالصَّالِحِيَّةِ عَلَى الشَّيْخِ نَصْرِ بْنِ عُبَيْدٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيِّ، وَالشَّيْخِ تَاجِ
الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَتَوَلَّى خَطَابَةَ دَارَيَّا، وَأَعَادَ بِالنَّاصِرِيَّةِ،
وَتَوَلَّى نِيَابَةَ الْقَضَاءِ لِابْنِ صَصْرَى مُدَّةً، وَكَانَ مُتَزَهِّدًا
لَا يَتَنَعَّمُ بِحَمَّامٍ وَلَا كَتَّانٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا
اعْتَادَهُ فِي الْبِرِّ، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا، وَهُوَ الَّذِي اسْتَسْقَى
بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، فَسُقُوا كَمَا ذَكَرْنَا، وَكَانَ
يَذْكُرُ لَهُ نَسَبًا إِلَى جَعْفَرٍ الطَّيَّارِ، بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ
أَبًا، ثُمَّ وَلِيَ خَطَابَةَ الْعُقَيْبَةَ، فَتَرَكَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ،
وَقَالَ: هَذِهِ تَكْفِي. إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَامِنِ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ مَشْهُودَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ. وَتَوَلَّى بَعْدَهُ الْخَطَابَةَ وَلَدُهُ شِهَابُ الدِّينِ
أَحْمَدُ.
ابْنُ صَبِيحٍ الْمُؤَذِّنُ، الرَّئِيسُ بِالْعُرُوسِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ مَعَ
الْبُرْهَانِ، وَهُوَ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
صَبِيحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّفْلِيسِيُّ، مَوْلَاهُمُ الْمُقْرِئُ
الْمُؤَذِّنُ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا فِي زَمَانِهِ،
وَأَطْيَبِهِمْ نَغْمَةً، وُلِدَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ تَقْرِيبًا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ، وَمِمَّنْ سَمِعَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ الدَّائِمِ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنًا، أَبُوهُ
مَوْلًى لِامْرَأَةٍ اسْمُهَا شَامَةُ بِنْتُ كَامِلِ الدِّينِ التَّفْلِيسِيِّ،
امْرَأَةُ فَخْرِ الدِّينِ الْكَرْخِيِّ، وَبَاشَرَ مُشَارَفَةَ الْجَامِعِ
وَقِرَاءَةَ الْمُصْحَفِ، وَأَذَّنَ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ مُدَّةً،
وَتُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ بِالطَّوَاوِيسِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ
الْعُقَيْبَةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ.
خَطَّابٌ بَانِي خَانِ خَطَّابٍ، الَّذِي بَيْنَ الْكُسْوَةِ وَغَبَاغِبِ،
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عِزُّ الدِّينِ خَطَّابُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ مُرْتَعِشٍ
الْعِرَاقِيُّ، كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَهُ ثَرْوَةٌ مِنَ الْمَالِ كَبِيرَةٌ،
وَأَمْلَاكٌ وَأَمْوَالٌ، وَلَهُ حَمَّامٌ بِحِكْرِ السِّمَاقِ، وَقَدْ عَمَرَ
الْخَانَ الْمَشْهُورَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَتِفِ
الْمِصْرِيِّ، مِمَّا يَلِي غَبَاغِبَ، وَهُوَ بِمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَقَدْ حَصَلَ
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسَافِرِينَ بِهِ رِفْقٌ، تُوُفِّيَ فِي تَاسِعَ عَشَرَ
رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا تُوُفِّيَ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ رُكْنُ الدِّينِ خَطَّابُ
بْنُ الصَّاحِبِ كَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ أُخْتِ ابْنِ خَطَّابٍ
الرُّومِيُّ السِّيوَاسِيُّ، لَهُ خَانَقَاهْ بِبَلَدِهِ
بِسِيوَاسَ، عَلَيْهَا أَوْقَافٌ
كَثِيرَةٌ وَبِرٌّ وَصَدَقَةٌ، تُوُفِّيَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الْحِجَازِ
الشَّرِيفِ بِالْكَرَكِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ
بِمُؤْتَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ كَمَالِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ
بْنِ أَبِي الْوَحْشِ أَسَدِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَلْمَانَ بْنِ فِتْيَانَ
الشَّيْبَانِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَطَّارِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ الْخَطَّ الْمَنْسُوبَ، وَاشْتَغَلَ
" بِالتَّنْبِيهِ "، وَنَظَمَ الشِّعْرَ، وَوَلِيَ كِتَابَةَ الدَّرَجِ،
ثُمَّ نَظَرَ الْجَيْشِ وَنَظَرَ الْأَشْرَافِ، وَكَانَتْ لَهُ حُظْوَةٌ فِي
أَيَّامِ الْأَفْرَمِ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ خُمُولٌ قَلِيلٌ، وَكَانَ مُتْرَفًا
مُنَعَّمًا، لَهُ ثَرْوَةٌ، وَرِيَاسَةٌ، وَتَوَاضُعٌ، وَحُسْنُ سِيرَةٍ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ بِتُرْبَتِهِمْ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمَّارِ بْنِ مُتَوَّجٍ الْحَارِثِيُّ، قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ مُدَّةً
طَوِيلَةً، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْكَرَكِ، وَبِهَا مَاتَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَاشْتَغَلَ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ مُتَوَاضِعًا،
وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ مُدَرِّسِ
الظَّاهِرِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى
كَاتِبِ السِّرِّ بِدِمَشْقَ شِهَابِ الدِّينِ مَحْمُودٍ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ،
وَوَلِيَ الْمَنْصِبَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الصَّدْرُ شَمْسُ الدِّينِ.
وَفِيهَا تَحَوَّلَ التُّجَّارُ فِي قُمَاشِ النِّسَاءِ الْمَخِيطِ مِنَ
الدَّهْشَةِ الَّتِي لِلْجَامِعِ إِلَى دَهْشَةِ سُوقِ عَلِيٍّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنِ الْمُحَرَّمِ بَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ
الظَّاهِرِيَّةَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ، بَعْدَ وَفَاةِ
الْعَفِيفِ إِسْحَاقَ، وَتَرَكَ تَدْرِيسَ الصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ
الشَّرِيفِ، وَاخْتَارَ دِمَشْقَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي أَوَّلِهَا فُتِحَ الْحَمَّامُ الَّذِي بَنَاهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
جُوبَانُ جِوَارَ دَارِهِ، بِالْقُرْبِ مِنْ دَارِ الْجَالِقِ، وَلَهُ بَابَانِ،
أَحَدُهُمَا إِلَى نَاحِيَةِ مَسْجِدِ الْوَزِيرِ، وَحَصَلَ بِهِ نَفْعٌ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ
الصَّاحِبُ غِبْرِيَالُ مِنْ مِصْرَ عَلَى الْبَرِيدِ، مُتَوَلِّيًا نَظَرَ
الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ عَلَى عَادَتِهِ، وَانْفَصَلَ عَنْهَا الْكَرِيمُ
الصَّغِيرُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ حَادِي
عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بُكْرَةَ النَّهَارِ ضُرِبَتْ عُنُقُ نَاصِرِ ابْنِ
الشَّرَفِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْهِيتِيِّ بِسُوقِ الْخَيْلِ،
عَلَى كُفْرِهِ، وَاسْتِهَانَتِهِ، وَاسْتِهْتَارِهِ بِآيَاتِ اللَّهِ،
وَصُحْبَتِهِ الزَّنَادِقَةِ كَالنَّجْمِ بْنِ خَلِّكَانَ، وَالشَّمْسِ مُحَمَّدٍ
الْبَاجُرْبَقِيِّ، وَابْنِ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ فِيهِ
انْحِلَالٌ وَزَنْدَقَةٌ مَشْهُورٌ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ: وَرُبَّمَا زَادَ هَذَا
الْمَذْكُورُ الْمَضْرُوبُ الْعُنُقِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالتَّلَاعُبِ
بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِالنُّبُوَّةِ وَالْقُرْآنِ. قَالَ:
وَحَضَرَ قَتْلَهُ الْعُلَمَاءُ، وَالْأَكَابِرُ، وَأَعْيَانُ الدَّوْلَةِ. قَالَ:
وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ حَفِظَ " التَّنْبِيهَ " فِي أَوَّلِ
أَمْرِهِ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْخِتَمِ بِصَوْتٍ حَسَنٍ، وَعِنْدَهُ نَبَاهَةٌ
وَفَهْمٌ، وَكَانَ مُنَزَّلًا فِي الْمَدَارِسِ وَالتُّرَبِ، ثُمَّ إِنَّهُ
انْسَلَخَ مِنْ ذَلِكَ جَمِيعِهِ، وَكَانَ قَتْلُهُ عِزًّا لِلْإِسْلَامِ، وَذُلًّا
لِلزَّنَادِقَةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ.
قُلْتُ: وَقَدْ شَهِدْتُ قَتْلَهُ، كَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو
الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ حَاضِرًا يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ أَتَاهُ وَقَرَّعَهُ
عَلَى مَا كَانَ يَصْدُرُ مِنْهُ قَبْلَ قَتْلِهِ، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأَنَا
مُشَاهِدٌ ذَلِكَ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رُسِمَ بِإِخْرَاجِ الْكِلَابِ مِنْ مَدِينَةِ
دِمَشْقَ، فَجُعِلُوا فِي الْخَنْدَقِ ظَاهِرَ بَابِ الصَّغِيرِ مِنْ نَاحِيَةِ
بَابِ شَرْقِيٍّ، الذُّكُورُ عَلَى حِدَةٍ، وَالْإِنَاثُ عَلَى حِدَةٍ، وَأُلْزِمَ
أَصْحَابُ الدَّكَاكِينِ بِذَلِكَ، وَشَدَّدُوا فِي أَمْرِهِمْ أَيَّامًا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ وَلِيَ
الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ مُعِيدُ الْبَادَرَائِيَّةِ مَشْيَخَةَ
الصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَسَافَرَ إِلَيْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عُزِلَ قَرَطَايْ عَنْ نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ،
وَوَلِيَهَا طِينَالُ، وَقَدِمَ قَرَطَايْ عَلَى خُبْزِ الْقَرَمَانِيِّ
بِدِمَشْقَ، بِحُكْمِ سَجْنِ الْقَرَمَانِيِّ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ السَّادِسِ
مِنْ شَعْبَانَ اعْتُقِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، حَضَرَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ مُشِدُّ الْأَوْقَافِ، وَابْنُ الْخَطِيرِ أَحَدُ
الْحُجَّابِ بِدِمَشْقَ، وَأَخْبَرَاهُ أَنَّ مَرْسُومَ السُّلْطَانِ وَرَدَ
بِذَلِكَ، وَأَحْضَرَا مَعَهُمَا مَرْكُوبًا لِيَرْكَبَهُ، فَأَظْهَرَ السُّرُورَ
وَالْفَرَحَ بِذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا كُنْتُ مُنْتَظِرًا لِذَلِكَ، وَهَذَا فِيهِ
خَيْرٌ كَثِيرٌ وَمَصْلَحَةٌ كَبِيرَةٌ. وَرَكِبُوا جَمِيعًا مِنْ دَارِهِ إِلَى
بَابِ الْقَلْعَةِ، وَأُخْلِيَتْ لَهُ قَاعَةٌ، وَأُجْرِيَ إِلَيْهَا الْمَاءُ،
وَرُسِمَ لَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا، وَأَقَامَ مَعَهُ أَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ
يَخْدُمُهُ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ، وَرُسِمَ لَهُ مَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَاشِرِ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ
قُرِئَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ الْكِتَابُ السُّلْطَانِيُّ الْوَارِدُ بِاعْتِقَالِهِ
وَمَنْعِهِ مِنَ الْفُتْيَا، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ سَبَبُهَا فُتْيَا وُجِدَتْ
بِخَطِّهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ السَّفَرِ وَإِعْمَالِ الْمَطِيِّ إِلَى زِيَارَةِ
قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقُبُورِ
الصَّالِحِينَ.
قَالَ: وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ
مُنْتَصَفِ شَعْبَانَ أَمَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيُّ بِحَبْسِ جَمَاعَةٍ
مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي سِجْنِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ
بِمَرْسُومِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَإِذْنِهِ لَهُ فِيهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ
الشَّرِيعَةُ فِي أَمْرِهِمْ، وَعُزِّرَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى دَوَابَّ
وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أُطْلِقُوا سِوَى شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، فَإِنَّهُ حُبِسَ فِي الْقَلْعَةِ، وَسَكَنَتِ
الْقَضِيَّةُ.
قَالَ: وَفِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ
أُجْرِيَتْ عَيْنُ مَاءٍ إِلَى مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ
بِهَا انْتِفَاعًا كَثِيرًا، وَهَذِهِ الْعَيْنُ تُعْرَفُ قَدِيمًا بِعَيْنِ
بَاذَانَ، أَجْرَاهَا جُوبَانُ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ حَتَّى دَخَلَتْ إِلَى
نَفْسِ مَكَّةَ، وَوَصَلَتْ إِلَى عِنْدِ الصَّفَا وَبَابِ إِبْرَاهِيمَ،
وَاسْتَقَى النَّاسُ مِنْهَا، فَقِيرُهُمْ وَغَنِيُّهُمْ، وَضَعِيفُهُمْ
وَشَرِيفُهُمْ، كُلُّهُمْ فِيهَا سَوَاءٌ، وَارْتَفَقَ أَهْلُ مَكَّةَ بِذَلِكَ
رِفْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانُوا قَدْ شَرَعُوا فِي
حَفْرِهَا وَتَجْدِيدِهَا فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْعَشْرِ
الْأُخِرِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَاتَّفَقَ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
كَانَتِ الْآبَارُ الَّتِي فِي مَكَّةَ قَدْ يَبِسَتْ وَقَلَّ مَاؤُهَا، وَقَلَّ
مَاءُ زَمْزَمَ أَيْضًا، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَطَفَ بِالنَّاسِ
بِإِجْرَاءِ هَذِهِ الْقَنَاةِ لَنَزَحَ عَنْ مَكَّةَ أَهْلُهَا، أَوْ لَهَلَكَ
كَثِيرٌ مِمَّنْ يُقِيمُ بِهَا، وَأَمَّا الْحَجِيجُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ
فَحَصَلَ لَهُمْ بِهَا رِفْقٌ عَظِيمٌ زَائِدٌ عَنِ الْوَصْفِ، كَمَا شَاهَدْنَا
ذَلِكَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ عَامَ حَجَجْنَا.
وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ إِلَى نَائِبِهِ بِمَكَّةَ بِإِخْرَاجِ
الزَّيْدِيِّينَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ
إِمَامٌ وَلَا مُجْتَمَعٌ، فَفُعِلَ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ رَابِعِ
شَعْبَانَ دَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ
بْنُ جَهْبَلٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَزْوِينِيُّ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ
وَجَمَاعَةٌ، عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ أَمِينِ الدِّينِ سَالِمِ بْنِ أَبِي
الدُّرِّ إِمَامِ مَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ، تُوُفِّيَ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ جَاءَ
تَوْقِيعٌ بِوِلَايَةِ الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، فَبَاشَرَهَا فِي عِشْرِينَ
رَمَضَانَ.
وَفِي عَاشِرِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ، وَأَمِيرُهُ سَيْفُ
الدِّينِ جُوبَانُ، وَحَجَّ عَامَئِذٍ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُسَلَّمٍ
قَاضِي الْحَنَابِلَةِ، وَبَدْرُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ
الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، وَمَعَهُ تُحَفٌ وَهَدَايَا وَأُمُورٌ تَتَعَلَّقُ
بِالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُوَنَ نَائِبِ مِصْرَ، فَإِنَّهُ حَجَّ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ وَزَوْجَتُهُ بِنْتُ السُّلْطَانِ،
وَحَجَّ فَخْرُ الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، وَصَدْرُ الدِّينِ
الْمَالِكِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الْبَعْلَبَكِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ دَرَّسَ بِالْحَنْبَلِيَّةِ
بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هِلَالٍ الزُّرَعِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، عِوَضًا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَشَقَّ ذَلِكَ
عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَكَانَ ابْنُ
الْخَطِيرِ الْحَاجِبُ قَدْ دَخَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ قَبْلَ هَذَا
بِيَوْمٍ، فَاجْتَمَعَ بِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ بِأَمْرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ،
ثُمَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ دَخَلَ إِلَيْهِ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
جُمْلَةَ، وَنَاصِرُ الدِّينِ مُشِدُّ
الْأَوْقَافِ، وَسَأَلَاهُ عَنْ
مَضْمُونِ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي دَرَجٍ،
وَكَتَبَ تَحْتَهُ قَاضِي الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ: قَابَلْتُ الْجَوَابَ عَنْ
هَذَا السُّؤَالِ الْمَكْتُوبِ عَلَى خَطِّ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فَصَحَّ... إِلَى
أَنْ قَالَ: وَإِنَّمَا الْمَحَزُّ جَعَلُهُ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مَعْصِيَةً بِالْإِجْمَاعِ مَقْطُوعًا. فَانْظُرِ الْآنَ
هَذَا التَّحْرِيفَ عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ جَوَابَهُ عَلَى هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ فِيهِ مَنْعُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّالِحِينَ، وَإِنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ قَوْلَيْنِ فِي شَدِّ الرِّحَالِ
وَالسَّفَرِ إِلَى مُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ مِنْ
غَيْرِ شَدِّ رَحْلٍ إِلَيْهَا مَسْأَلَةٌ، وَشَدُّ الرَّحْلِ لِمُجَرَّدِ
الزِّيَارَةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى، وَالشَّيْخُ لَمْ يَمْنَعِ الزِّيَارَةَ
الْخَالِيَةَ عَنْ شَدِّ رَحْلٍ، بَلْ يَسْتَحِبُّهَا وَيَنْدُبُ إِلَيْهَا،
وَكُتُبُهُ وَمَنَاسِكُهُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إِلَى هَذِهِ
الزِّيَارَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الْفُتْيَا، وَلَا قَالَ: إِنَّهَا
مَعْصِيَةٌ، وَلَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهَا، وَلَا هُوَ
جَاهِلٌ بِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:زُورُوا
الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ:
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [ الشُّعَرَاءِ:
227 ].
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرَ الْقَعْدَةِ فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ
الْحِمْصِيَّةُ تُجَاهَ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَدَرَّسَ بِهَا مُحْيِي
الدِّينِ الطَّرَابُلُسِيُّ، وَكَانَ قَاضِيَ حِصْنِ عَكَّارَ، وَيُلَقَّبُ
بِأَبِي رَبَاحٍ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ سَافَرَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ الزُّرَعِيُّ مِنَ
الْأَتَابِكِيَّةِ إِلَى مِصْرَ،
وَنَزَلَ عَنْ تَدْرِيسِهَا لِمُحْيِي
الدِّينِ بْنِ جَهْبَلٍ. وَفِي ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ دَرَّسَ
بالنَّجِيبِيَّةِ ابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ عِوَضًا عَنِ الدِّمَشْقِيِّ
نَائِبِ الْحُكْمِ مَاتَ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ الْمُطَهَّرِ الشِّيعِيُّ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مَنْصُورٍ حَسَنُ بْنُ
يُوسُفَ بْنِ مُطَهَّرٍ الْحِلِّيُّ الْعِرَاقِيُّ الشِّيعِيُّ، شَيْخُ
الرَّوَافِضِ بِتِلْكَ النَّوَاحِي، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْكَثِيرَةُ، يُقَالُ:
تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مُجَلَّدًا، وَعِدَّتُهَا خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ
مُصَنَّفًا، فِي الْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ، وَالْأُصُولِ، وَالْفَلْسَفَةِ،
وَالرَّفْضِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِبَارٍ وَصِغَارٍ؛ فَمِنْ أَشْهَرِهَا بَيْنَ
الطَّلَبَةِ " شَرْحُ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ " فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَلَيْسَ بِذَاكَ الْفَائِقِ، وَرَأَيْتُ لَهُ مُجَلَّدَيْنِ فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ عَلَى طَرِيقَةِ " الْمَحْصُولِ " وَ "
الْأَحْكَامِ "، وَلَا بَأْسَ بِهَا فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نَقْلٍ
كَثِيرٍ وَتَوَجُّهٍ جَيِّدٍ، وَلَهُ كِتَابُ " مِنْهَاجِ الِاسْتِقَامَةِ
فِي إِثْبَاتِ الْإِمَامَةِ " خَبَطَ فِيهِ فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ،
وَلَمْ يَدْرِ كَيْفَ يَتَوَجَّهُ، إِذْ خَرَجَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَقَدِ
انْتَدَبَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ
الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي مُجَلَّدَاتٍ، أَتَى فِيهَا
بِمَا يُبْهِرُ الْعُقُولَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَلِيحَةِ الْحَسَنَةِ، وَهُوَ
كِتَابٌ حَافِلٌ.
وُلِدَ ابْنُ الْمُطَهَّرِ - الَّذِي لَمْ تَطْهُرْ خَلَائِقُهُ، وَلَمْ
يَتَطَهَّرْ مِنْ دَنَسِ
الرَّفْضِ - فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ
سَابِعِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَاشْتَغَلَ عَلَى
النَّصِيرِ الطُّوسِيِّ وَعَلَى غَيْرِهِ، وَلَمَّا تَرَفَّضَ الْمَلِكُ
خَرْبَنْدَا، حَظِيَ عِنْدَهُ ابْنُ الْمُطَهَّرِ وَسَادَ جَدًّا، وَأَقْطَعَهُ
بِلَادًا كَثِيرَةً.
الشَّمْسُ الْكَاتِبُ مُحَمَّدُ بْنُ أَسَدٍ الْحَرَّانِيُّ، الْمَعْرُوفُ
بِالنَّجَّارِ، كَانَ يَجْلِسُ لِيَكْتُبَ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالْمَدْرَسَةِ
الْقِلِّيجِيَّةِ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الْعِزُّ حَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زُفَرَ الْإِرْبِلِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ،
كَانَ يَعْرِفُ طَرَفًا صَالِحًا مِنَ النَّحْوِ، وَالْحَدِيثِ، وَالتَّارِيخِ،
وَكَانَ مُقِيمًا بِدُوَيْرَةِ حَمَدٍ صُوفِيًّا بِهَا، وَكَانَ حَسَنَ
الْمُجَالَسَةِ، أَثْنَى عَلَيْهِ الْبِرْزَالِيُّ فِي نَقْلِهِ وَحُسْنِ
مَعْرِفَتِهِ، مَاتَ بِالْمَارَسْتَانِ الصَّغِيرِ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ،
وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَمِينُ الدِّينِ سَالِمُ بْنُ أَبِي الدُّرِّ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ
الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، أَخَذَهَا مِنِ ابْنِ الْوَكِيلِ قَهْرًا، وَهُوَ
إِمَامُ مَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ، وَمُحَدِّثُ الْكُرْسِيِّ بِهِ، كَانَ مَوْلِدُهُ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَعَادَ، وَأَفْتَى،
وَدَرَّسَ، وَكَانَ خَبِيرًا
بِالْمُحَاكَمَاتِ، وَكَانَ فِيهِ مُرُوءَةٌ وَعَصَبِيَّةٌ لِمَنْ يَقْصِدُهُ،
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الشَّيْخُ حَمَّادٌ، وَهُوَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، حَمَّادٌ
الْحَلَبِيُّ الْقَطَّانُ، كَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ، مُوَاظِبًا
عَلَى الْإِقَامَةِ بِجَامِعِ التَّوْبَةِ بِالْعُقَيْبَةِ بِالزَّاوِيَةِ
الْغَرْبِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، يُقْرِئُ الْقُرْآنَ، وَيُكْثِرُ الصِّيَامَ،
وَيَتَرَدَّدُ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلزِّيَارَةِ، مَاتَ وَقَدْ جَاوَزَ
التِّسْعِينَ سَنَةً، عَلَى هَذَا الْقَدَمِ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ
عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ
حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ قُطْبُ الدِّينِ الْيُونِينِيُّ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
الْعَالِمُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ، قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُوسَى بْنُ
الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَعْلَبَكِّيُّ الْيُونِينِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِدَارِ الْفَاضِلِ بِدِمَشْقَ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَأَحْضَرَهُ وَالِدُهُ إِلَى الْمَشَايِخِ، وَاسْتَجَازَ لَهُ، وَبَحَثَ،
وَاخْتَصَرَ " مِرْآةَ الزَّمَانِ " لِلسِّبْطِ، وَذَيَّلَ عَلَيْهَا
ذَيْلًا حَسَنًا مُرَتَّبًا، أَفَادَ فِيهِ وَأَجَادَ، بِعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ
سَهْلَةٍ، بِإِنْصَافٍ وَسَتْرٍ، وَأَتَى فِيهِ بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ، وَأَشْيَاءَ
فَائِقَةٍ رَائِقَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، حَسَنَ الْهَيْئَةِ،
مُتَقَلِّلًا فِي مَلْبَسِهِ وَمَأْكَلِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ
عَشَرَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ
سَطْحَا عِنْدَ أَخِيهِ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ مُسَلَّمٍ، شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُسَلَّمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مَزْرُوعِ بْنِ جَعْفَرٍ
الصَّالِحِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَمَاتَ
أَبُوهُ - وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ - سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ فَنَشَأَ
يَتِيمًا فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ، ثُمَّ اشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَانْتَصَبَ لِلْإِفَادَةِ وَالِاشْتِغَالِ، فَطَارَ ذِكْرُهُ،
فَلَمَّا مَاتَ التَّقِيُّ سُلَيْمَانُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَلِيَ قَضَاءَ
الْحَنَابِلَةِ، فَبَاشَرَهُ أَتَمَّ مُبَاشَرَةٍ، وَخُرِّجَتْ لَهُ تَخَارِيجُ
كَثِيرَةٌ، فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ خَرَجَ لِلْحَجِّ فَتَمَرَّضَ فِي
الطَّرِيقِ، فَوَرَدَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ - عَلَى سَاكِنِهَا رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ -
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَزَارَ
قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَلَّى فِي
مَسْجِدِهِ، وَكَانَ بِالْأَشْوَاقِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ تَمَنَّى ذَلِكَ
لَمَّا مَاتَ ابْنُ نَجِيحٍ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ، فَمَاتَ فِي عَشِيَّةِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّوْضَةِ، وَدُفِنَ
بِالْبَقِيعِ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ نَجِيحٍ - الَّذِي كَانَ
قَدْ غَبَطَهُ بِمَوْتِهِ هُنَاكَ سَنَةَ حَجَّ هُوَ، وَهُوَ قَبْلَ هَذِهِ
الْحِجَّةِ - شَرْقِيَّ قَبْرِ عَقِيلٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ
بَعْدَهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ.
الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُحْسِنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ
مَعَالِي الدِّمَشْقِيُّ
الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ
الْفَزَارِيِّ، وَحَصَّلَ وَبَرَعَ، وَوَلِيَ الْإِعَادَةَ، ثُمَّ الْحُكْمَ
بِالْقُدْسِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ فَدَرَّسَ بالنَّجِيبِيَّةِ، وَنَابَ فِي
الْحُكْمِ عَنِ ابْنِ صَصْرَى مُدَّةً، تُوُفِّيَ بالنَّجِيبِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ
يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنِ عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
الْعَصْرَ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
ابْنُ قَاضِي شُهْبَةَ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ، شَيْخُ الطَّلَبَةِ
وَمُفِيدُهُمْ، كَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ ذُؤَيْبٍ
الْأَسَدِيُّ الشُّهْبِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ بِحَوْرَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ
تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ وَلَازَمَهُ، وَانْتَفَعَ بِهِ، وَأَعَادَ
بِحَلْقَتِهِ، وَتَخَرَّجَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَازَمَ أَخَاهُ الشَّيْخَ شَرَفَ
الدِّينِ، وَأَخَذَ عَنْهُ النَّحْوَ وَاللُّغَةَ، وَكَانَ بَارِعًا فِي الْفِقْهِ
وَالنَّحْوِ، لَهُ حَلْقَةٌ يَشْتَغِلُ فِيهَا تُجَاهَ مِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ،
وَكَانَ يَعْتَكِفُ جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ، وَكَانَ حَسَنَ
الْهَيْئَةِ وَالشَّيْبَةِ، حَسَنَ الْعَيْشِ وَالْمَلْبَسِ، مُتَقَلِّلًا مِنَ
الدُّنْيَا، لَهُ مَعْلُومٌ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِ مِنْ إِعَادَاتٍ وَفِقَاهَاتٍ
وَتَصْدِيرٍ بِالْجَامِعِ، وَلَمْ يُدَّرِسْ قَطُّ وَلَا أَفْتَى، مَعَ أَنَّهُ
كَانَ مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْإِفْتَاءِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ
يَتَوَرَّعُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسَمِعَ " الْمُسْنَدَ
" لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدْرَسَةِ
الْمُجَاهِدِيَّةِ - وَبِهَا كَانَتْ إِقَامَتُهُ - لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ حَادِي
عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ
بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الشَّرَفِ
يَعْقُوبَ بْنِ فَارِسٍ الْجَعْبَرِيِّ، التَّاجِرِ بِفُرْجَةِ ابْنِ عَمُودٍ،
وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ، وَيَؤُمُّ بِمَسْجِدِ الْقَصَبِ، وَيَصْحَبُ
الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ وَالْقَاضِي نَجْمَ الدِّينِ
الدِّمَشْقِيَّ، وَقَدْ حَصَّلَ أَمْوَالًا وَأَمْلَاكًا وَثَرْوَةً، وَهُوَ
وَالِدُ صَاحِبِنَا الْفَقِيهِ الْمُشْتَغِلِ الْمُحَصَّلِ الزَّكِيِّ بَدْرِ
الدِّينِ مُحَمَّدٍ خَالِ الْوَلَدِ عُمَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَاجُّ أَبُو بَكْرِ بْنُ تِيمَرَازَ الصَّيْرَفِيُّ،
كَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَدَائِرَةٌ وَمَكَارِمٌ، وَبِرٌّ وَصَدَقَاتٌ،
وَلَكِنَّهُ انْكَسَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَعُمِّرَ، وَكَادَ أَنْ يَنْكَشِفَ،
فَجَبَرَهُ اللَّهُ بِالْوَفَاةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ.
اسْتَهَلَّتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْحُكَّامُ، وَالْخَلِيفَةُ، وَالسُّلْطَانُ،
وَالنُّوَّابُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْمُبَاشِرُونَ، هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى الْحَنْبَلِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي الْعَشْرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ مِصْرَ أَرْغُوَنُ نَائِبُ مِصْرَ،
فَمُسِكَ فِي حَادِيَ عَشَرَهُ، فَحُبِسَ أَيَّامًا ثُمَّ أُطْلِقَ، وَبَعَثَهُ
السُّلْطَانُ إِلَى حَلَبَ نَائِبًا، فَاجْتَازَ بِدِمَشْقَ بُكْرَةَ الْجُمُعَةِ
ثَانِي عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ، فَأَنْزَلَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِدَارِهِ
الْمُجَاوِرَةِ لِجَامِعِهِ، فَبَاتَ بِهَا لَيْلَةً، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى حَلَبَ،
وَقَدْ كَانَ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ قَدْ سَافَرَ مِنْ دِمَشْقَ أُلْجَايْ
الدَّوَادَارُ إِلَى مِصْرَ، وَفِي صُحْبَتِهِ نَائِبُ حَلَبَ عَلَاءُ الدِّينِ
أَلْطُنْبُغَا مَعْزُولًا عَنْهَا إِلَى حُجُوبِيَّةِ الْحُجَّابِ بِمِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قُرِئَ تَقْلِيدُ
قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَابِلَةِ عِزِّ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ التَّقِيِّ
سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ الْمَقْدِسِيِّ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ مُسَلَّمٍ،
بِمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، وَحَكَمَ،
وَقُرِئَ قَبْلَ ذَلِكَ بِالصَّالِحِيَّةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ الْبَرِيدُ بِتَوْلِيَةِ ابْنِ النَّقِيبِ
الْحَاكِمِ بِحِمْصَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِطَرَابُلُسَ، وَنُقِلَ الَّذِي بِهَا
إِلَى حِمْصَ نَائِبًا عَنْ قَاضِي دِمَشْقَ، وَهُوَ نَاصِرُ ابْنُ مَحْمُودٍ
الزُّرَعِيُّ.
وَفِي سَادِسِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ
الْآخِرِ عَادَ تَنْكِزُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ
تَكْرِيمٌ مِنَ السُّلْطَانِ. وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَصَلَتْ زَلْزَلَةٌ
بِالشَّامِ وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ نِيَابَةَ
الْحَنْبَلِيِّ الْقَاضِي بُرْهَانُ الدِّينِ الزُّرَعِيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُضَاةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ الْبَرِيدُ
بِطَلَبِ الْقَاضِي الْقَزْوِينِيِّ الشَّافِعِيِّ إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَهَا فِي
مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ قُضَاةِ مِصْرَ، مَعَ تَدْرِيسِ
النَّاصِرِيَّةِ، وَالصَّالِحِيَّةِ، وَدَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ، عِوَضًا
عَنْ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ لِأَجْلِ كِبَرِ سِنِّهِ، وَضَعْفِ نَفْسِهِ،
وَضَرَرِ عَيْنَيْهِ، فَجَبَرُوا خَاطِرَهُ، فَرُتِّبَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ
وَعَشَرَةُ أَرَادِبَّ قَمْحٍ فِي الشَّهْرِ، مَعَ تَدْرِيسِ زَاوِيَةِ
الشَّافِعِيِّ، وَأُرْسِلَ وَلَدُهُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْقَزْوِينِيِّ إِلَى
دِمَشْقَ خَطِيبًا بِالْأُمَوِيِّ، وَعَلَى تَدْرِيسِ الشَّامِيَّةِ
الْجَوَّانِيَّةِ، عَلَى قَاعِدَةِ وَالِدِهِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ
فِي ذَلِكَ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ ثَامِنِ عِشْرِينِهِ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْأَعْيَانُ.
وَفِي رَجَبٍ كَانَ عُرْسُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قَوْصُونَ السَّاقِي
النَّاصِرِيِّ عَلَى بِنْتِ السُّلْطَانِ، وَقَدْ كَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا،
خُلِعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ، وَفِي صَبِيحَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ
عُقِدَ عَقْدُ الْأَمِيرِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ بَكْتَمُرَ
السَّاقِي عَلَى بِنْتِ تَنْكِزَ نَائِبِ الشَّامِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ وَكِيلَ
أَبِيهَا تَنْكِزَ، وَالْعَاقِدُ
ابْنَ الْحَرِيرِيِّ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي
كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ.
وَفِي رَجَبٍ جَرَتْ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي
سَابِعِ رَجَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَخَاصَمَ هُوَ
وَرَجُلٌ مِنَ الْفِرَنْجِ عَلَى بَابِ الْبَحْرِ، فَضَرَبَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ
بِنَعْلٍ، فَرُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى الْوَالِي، فَأَمَرَ بِغَلْقِ بَابِ الْبَلَدِ
بَعْدَ الْعَصْرِ، فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ لَنَا أَمْوَالًا وَعَبِيدًا
خَارِجَ الْبَلَدِ، وَقَدْ أَغْلَقْتَ الْبَابَ قَبْلَ وَقْتِهِ، فَفَتَحَهُ،
فَخَرَجَ النَّاسُ فِي زَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ نَحْوُ عَشَرَةٍ،
وَنُهِبَتْ عَمَائِمُ، وَثِيَابٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ ذَهَبُوا إِلَى دَارِ الْوَالِي
فَأَحْرَقُوهَا، وَثَلَاثَ دُورٍ لِبَعْضِ الظَّلَمَةِ، وَجَرَتْ أَحْوَالٌ
صَعْبَةٌ، وَنُهِبَتْ أَمَاكِنُ، وَكَسَرَتِ الْعَامَّةُ بَابَ سِجْنِ الْوَالِي
فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ فِيهِ، فَبَلَغَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ، فَاعْتَقَدَ
النَّائِبُ أَنَّهُ السِّجْنُ الَّذِي فِيهِ الْأُمَرَاءُ، فَأَمَرَ بِوَضْعِ
السَّيْفِ فِي الْبَلَدِ وَتَخْرِيبِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْخَبَرَ بَلَغَ
السُّلْطَانَ، فَأَرْسَلَ الْوَزِيرَ طَيْبُغَا الْجَمَّالِيَّ سَرِيعًا، فَوَصَلَ
بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَضَرَبَ وَصَادَرَ، وَضَرَبَ الْقَاضِي وَنَائِبَهُ،
وَعَزَلَهُمْ، وَأَهَانَ خَلْقًا مِنَ الْأَكَابِرِ، وَصَادَرَهُمْ بِأَمْوَالٍ
كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَعُزِلَ الْمُتَوَلِّي ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ تَوَلَّى
الْقَضَاءَ بِهَا عَلَمُ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ الشَّافِعِيُّ الَّذِي تَوَلَّى
دِمَشْقَ فِيمَا بَعْدُ، وَعُزِلَ قَاضِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ الْمَالِكِيُّ
وَنَائِبَاهُ، وَوُضِعَتِ السَّلَاسِلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُهِينُوا، وَضُرِبَ
ابْنُ التِّنِّيسِيِّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عِشْرِينَ
شَعْبَانَ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ قَاضِي قُضَاةِ حَلَبَ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الزَّمْلَكَانِيِّ عَلَى الْبَرِيدِ، فَأَقَامَ بِدِمَشْقَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ،
ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ لِيَتَوَلَّى قَضَاءَ قُضَاةِ الشَّامِ بِحَضْرَةِ
السُّلْطَانِ، فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْقَاهِرَةِ: وَحِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ
إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ [ سَبَأٍ: 54 ].
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ عِشْرِينَ شَعْبَانَ بَاشَرَ صَدْرُ الدِّينِ
الْمَالِكِيُّ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ مُضَافًا إِلَى قَضَاءِ قُضَاةِ
الْمَالِكِيَّةِ، وَحَضَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِذَلِكَ
بَعْدَ انْفِصَالِ الزُّرَعِيِّ عَنْهَا إِلَى مِصْرَ.
وَفِي نِصْفِ رَمَضَانَ وَصَلَ قَاضِي الْحَنَفِيَّةِ بِدِمَشْقَ لِقَضَاءِ
الْقُضَاةِ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ
الْوَاحِدِ الطَّرَسُوسِيُّ، الَّذِي كَانَ نَائِبًا لِقَاضِي الْقُضَاةِ صَدْرِ
الدِّينِ عَلِيٍّ الْبُصْرَوِيِّ، فَخَلَفَهُ بَعْدَهُ بِالْمَنْصِبِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَبَاشَرَ الْحُكْمَ، وَاسْتَنَابَ
الْقَاضِي عِمَادَ الدِّينِ ابْنَ الْعِزِّ، وَدَرَّسَ بِالنُّورِيَّةِ مَعَ
الْقَضَاءِ، وَشُكِرَتْ سِيرَتُهُ.
وَفِي رَمَضَانَ قَدِمَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُسَارَى مَعَ تُجَّارِ الْفِرَنْجِ،
فَأُنْزِلُوا بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَاسْتَفَكُّوا مِنْ
دِيوَانِ الْأَسْرَى بِنَحْوٍ مَنْ سِتِّينَ أَلْفًا، وَكَثُرَتِ الْأَدْعِيَةُ
لِمَنْ كَانَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ.
وَفِي ثَامِنِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ إِلَى الْحِجَازِ،
وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ الْمُحَمَّدِيُّ، وَقَاضِيهِ بَدْرُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاضِي حَرَّانَ.
وَفِي شَوَّالٍ وَصَلَ تَقْلِيدُ
قَضَاءِ الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ لِبَدْرِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ
عِزِّ الدِّينِ بْنِ الصَّائِغِ، وَالْخِلْعَةُ مَعَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ
ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَصَمَّمَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ فَلَمْ
يَقْبَلْ، وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ، وَتَغَيَّرَ مِزَاجُهُ وَاغْتَاظَ، فَلَمَّا
أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ رَاجَعَ تَنْكِزُ السُّلْطَانَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ
شَهْرُ ذِي الْقَعْدَةِ اشْتَهَرَ تَوْلِيَةُ عَلَاءِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الْقُونَوِيِّ قَضَاءَ الشَّامِ، فَسَارَ إِلَيْهَا مِنْ مِصْرَ،
وَزَارَ الْقُدْسَ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ بُكْرَةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَاجْتَمَعَ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدَارِ
السَّعَادَةِ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ مِنْ هُنَالِكَ، وَرَكِبَ مَعَهُ الْحُجَّابُ
وَالدَّوْلَةُ إِلَى الْعَادِلِيَّةِ، فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِهَا، وَحَكَمَ بِهَا
عَلَى الْعَادَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ وَبِحُسْنِ سَمْتِهِ، وَطِيبِ لَفْظِهِ،
وَمَلَاحَةِ شَمَائِلِهِ، وَتَوَدُّدِهِ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ
بِدِيَارِ مِصْرَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ الصُّوفِيُّ شَيْخُ
سِرْيَاقُوسَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ عِشْرِينَ ذِي الْقَعْدَةِ لَبِسَ الْقَاضِي
مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ الْخِلْعَةَ بِكِتَابَةِ السِّرِّ عِوَضًا
عَنْ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ، وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهُ شَرَفُ
الدِّينِ فِي كِتَابَةِ الدَّسْتِ. وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَوَلَّى قَضَاءَ
حَلَبَ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ
الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْبَارِزِيِّ. وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ كَمَلَ تَرْخِيمُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ - أَعْنِي: حَائِطَهُ
الشَّمَالِيَّ - وَجَاءَ تَنْكِزُ حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ،
وَشَكَرَ نَاظِرَهُ تَقِيَّ الدِّينِ بْنَ مَرَاجِلَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَضْحَى جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ إِلَى مَدِينَةِ بُلْبَيْسَ،
فَهَرَبَ أَهْلُهَا مِنْهَا، وَتَعَطَّلَتِ الصَّلَاةُ وَالْأَضَاحِي فِيهَا،
وَلَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ، وَخَرَّبَ شَيْئًا كَثِيرًا
مِنْ حَوَاصِلِهَا وَبَسَاتِينِهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَمِيرُ أَبُو يَحْيَى زَكَرِيَّا بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي حَفْصٍ الْهِنْتَاتِيُّ اللِّحْيَانِيُّ الْمَغْرِبِيُّ،
أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وُلِدَ بِتُونُسَ قَبْلَ سَنَةِ خَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْفِقْهَ وَالْعَرَبِيَّةَ، وَكَانَ مُلُوكُ تُونُسَ
تُعَظِّمُهُ وَتُكْرِمُهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ
وَالْوِزَارَةِ، ثُمَّ بَايَعَهُ أَهْلُ تُونُسَ عَلَى الْمُلْكِ فِي سَنَةِ
إِحْدَى عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ،
وَكَانَ شُجَاعًا مِقْدَامًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَبْطَلَ ذِكْرَ ابْنِ
التُّومَرْتِ مِنَ الْخُطْبَةِ، مَعَ أَنَّ جَدَّهُ أَبَا حَفْصٍ الْهِنْتَاتِيَّ
كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِ ابْنِ التُّومَرْتِ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْفِدَاءِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِزِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ رَضِيِّ الدِّينِ أَبِي الْفَضْلِ
الْمُسَلَّمِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ نَصْرٍ الدِّمَشْقِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْحَمَوِيِّ، كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ مِنَ الْكُتَّابِ الْمَشْهُورِينَ
الْمَشْكُورِينَ، وَكَانَ هُوَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ،
وَالْبِرِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ،
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ لَهُ الْبِرْزَالِيُّ مَشْيَخَةً سَمِعْنَاهَا عَلَيْهِ،
وَكَانَ مِنْ صُدُورِ أَهْلِ دِمَشْقَ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ رَابِعَ
عَشَرَ صَفَرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ضَحْوَةَ يَوْمِ السَّبْتِ، وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَحَجَّ وَجَاوَرَ وَأَقَامَ بِالْقُدْسِ مُدَّةً، مَاتَ وَلَهُ
ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ
وَالِدَهُ حِينَ وُلِدَ لَهُ، فَتَحَ الْمُصْحَفَ يَتَفَاءَلُ فَإِذَا قَوْلُهُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ [
إِبْرَاهِيمَ: 39 ] فَسَمَّاهُ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ آخَرُ فَسَمَّاهُ
إِسْحَاقَ، وَهَذَا مِنَ الِاتِّفَاقِ الْحَسَنِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمُجَارِفِيُّ، عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هُوسٍ
الْهِلَالِيُّ، أَصْلُ جَدِّهِ مِنْ
قَرْيَةِ آبِلِ السُّوقِ، وَأَقَامَ
وَالِدُهُ بِالْقُدْسِ، وَحَجَّ هُوَ مَرَّةً، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ سَنَةً ثُمَّ
حَجَّ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مَشْهُورًا، وَيُعْرَفُ بِالْمُجَارِفِيِّ؛
لِأَنَّهُ كَانَ يَجْرُفُ الْأَزِقَّةَ وَيُصْلِحُ الرِّصْفَانَ لِلَّهِ تَعَالَى،
وَكَانَ يُكْثِرُ التَّهْلِيلَ وَالذِّكْرَ جَهْرَةً، وَكَانَ عَلَيْهِ هَيْبَةٌ
وَوَقَارٌ، وَيَتَكَلَّمُ كَلَامًا فِيهِ تَخْوِيفٌ وَتَحْذِيرٌ مِنَ النَّارِ
وَعَوَاقِبِ الرَّدَى، وَكَانَ مُلَازِمًا لِمَجَالِسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ مُوَفَّقِ الدِّينِ بِالسَّفْحِ، وَكَانَتْ
جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَلِكُ الْكَامِلُ نَاصِرُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي مُحَمَّدُ بْنُ
الْمَلِكِ السَّعِيدِ فَتْحِ الدِّينِ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ أَبِي الْجَيْشِ بْنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، أَحَدُ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَبْنَاءِ
الْمُلُوكِ، كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْبَلَدِ ذَكَاءً، وَفِطْنَةً، وَحُسْنَ
عِشْرَةٍ، وَلَطَافَةِ كَلَامٍ، بِحَيْثُ يَسْرُدُ كَثِيرًا مِنَ الْكَلَامِ
بِمَنْزِلَةِ الْأَمْثَالِ مِنْ قُوَّةِ ذِهْنِهِ وَحَذَاقَةِ فَهْمِهِ، وَكَانَ
رَئِيسًا مَنْ أَجْوَادِ النَّاسِ، تُوُفِّيَ عَشِيَّةَ الْأَرْبِعَاءِ عِشْرِينَ
جُمَادَى الْأُولَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ظُهْرَ الْخَمِيسِ بِصَحْنِ الْجَامِعِ
تَحْتَ النَّسْرِ، ثُمَّ أَرَادُوا دَفْنَهُ عِنْدَ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الْمَلِكِ
الْكَامِلِ فَلَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ، فَدُفِنَ بِتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ،
سَامَحَهُ اللَّهُ، وَكَانَ لَهُ سَمَاعٌ كَثِيرٌ، سَمِعْنَا عَلَيْهِ مِنْهُ،
وَكَانَ يَحْفَظُ تَارِيخًا جَيِّدًا، وَقَامَ وَلَدُهُ الْأَمِيرُ صَلَاحُ
الدِّينِ مَكَانَهُ فِي إِمْرَةِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَجُعِلَ أَخُوهُ فِي
عَشَرَتِهِ، وَلَبِسَا الْخِلَعَ السُّلْطَانِيَّةَ بِذَلِكَ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ نَجْمُ الدِّينِ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْحَزْمِ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ
الْقَمُولِيُّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الشَّافِعِيَّةِ، وَشَرَحَ " الْوَسِيطَ
"، وَشَرَحَ " الْحَاجِبِيَّةَ " فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَدَرَّسَ،
وَحَكَمَ بِمِصْرَ، وَكَانَ مُحْتَسِبًا بِهَا أَيْضًا، وَكَانَ مَشْكُورَ
السِّيرَةِ فِيهَا، وَقَدْ تَوَلَّى بَعْدَهُ الْحُكْمَ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
عَقِيلٍ، وَالْحِسْبَةَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ فَارِ السُّقُوفِ، تُوُفِّيَ فِي
رَجَبٍ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُوسَى بْنِ
خَلَفٍ الْحِزَامِيُّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الصَّالِحِينَ بِمِصْرَ، تُوُفِّيَ
بِالرَّوْضَةِ فِي مُنْتَصَفِ رَجَبٍ، وَحُمِلَ إِلَى شَاطِئِ النِّيلِ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ، وَحُمِلَ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْأَصَابِعِ، وَدُفِنَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي
حَمْزَةَ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُقْصَدُ لِلزِّيَارَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْقَاضِي عِزُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
عِيسَى بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَضِرِ الْهَكَّارِيُّ الشَّافِعِيُّ، قَاضِي
الْمَحَلَّةِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ، وَلَهُ تَصْنِيفٌ عَلَى حَدِيثِ
الْمُجَامِعِ فِي رَمَضَانَ، يُقَالُ: إِنَّهُ اسْتَنْبَطَ فِيهِ أَلْفَ حُكْمٍ.
تُوُفِّيَ فِي
رَمَضَانَ، وَقَدْ كَانَ حَصَّلَ
كُتُبًا كَثِيرَةً جَيِّدَةً، مِنْهَا " التَّهْذِيبُ " لِشَيْخِنَا
الْمِزِّيِّ.
الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزَّمْلَكَانِيِّ شَيْخُنَا الْإِمَامُ
الْعَلَّامَةُ كَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي بْنُ الشَّيْخِ عَلَاءِ
الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ خَطِيبِ زَمْلَكَا عَبْدِ
الْكَرِيمِ بْنِ خَلَفِ بْنِ نَبْهَانَ الْأَنْصَارِيُّ الشَّافِعِيُّ، ابْنُ
الزَّمْلَكَانِيِّ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ بِالشَّامِ وَغَيْرِهَا، انْتَهَتْ
إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْمَذْهَبِ تَدْرِيسًا، وَإِفْتَاءً، وَمُنَاظَرَةً، وَيُقَالُ
فِي نَسَبِهِ: السِّمَاكِيُّ، نِسْبَةً إِلَى أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ
خَرَشَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وُلِدَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ شَوَّالٍ
سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى
الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَفِي الْأُصُولِ عَلَى الْقَاضِي
بَهَاءِ الدِّينِ بْنِ الزَّكِيِّ، وَفِي النَّحْوِ عَلَى بَدْرِ الدِّينِ بْنِ
مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ، وَبَرَعَ، وَحَصَّلَ، وَسَادَ أَقْرَانَهُ مِنْ أَهْلِ
مَذْهَبِهِ، وَحَازَ قَصَبَ السَّبْقِ عَلَيْهِمْ بِذِهْنِهِ الْوَقَّادِ فِي
تَحْصِيلِ الْعِلْمِ الَّذِي أَسْهَرَهُ وَمَنْعَهُ الرُّقَادَ، وَعِبَارَتِهِ
الَّتِي هِيَ أَشْهَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مُعْتَادٍ، وَخَطِّهِ الَّذِي هُوَ
أَنْضَرُ مِنْ أَزَاهِيرِ الْوِهَادِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِعِدَّةِ مَدَارِسَ
بِمَدِينَةِ دِمَشْقَ، وَبَاشَرَ عِدَّةَ جِهَاتٍ كِبَارٍ كَنَظَرِ الْخِزَانَةِ،
وَنَظَرِ الْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ، وَدِيوَانِ الْمَلِكِ السَّعِيدِ،
وَوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَهُ تَعَالِيقُ مُفِيدَةٌ، وَاخْتِيَارَاتٌ
حَمِيدَةٌ سَدِيدَةٌ، وَمُنَاظَرَاتٌ سَعِيدَةٌ، وَمِمَّا عَلَّقَهُ قِطْعَةٌ
كَبِيرَةٌ مِنْ " شَرْحِ الْمِنْهَاجِ " لِلنَّوَوِيِّ، وَمُجَلَّدٌ
كَبِيرٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ فِي
مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ،
وَأَمَّا دُرُوسُهُ فِي الْمَحَافِلِ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ دَرَّسَ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَلَا أَجْلَى مِنْ عِبَارَتِهِ، وَحُسْنِ تَقْرِيرِهِ، وَجَوْدَةِ احْتِرَازَاتِهِ، وَصِحَّةِ ذِهْنِهِ، وَقُوَّةِ قَرِيحَتِهِ، وَحُسْنِ نَظْمِهِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَالْعَذْرَاوِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالْجَوَّانِيَّةِ، وَالرَّوَاحِيَّةِ، وَالْمَسْرُورِيَّةِ، فَكَانَ يُعْطِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقَّهَا، بِحَيْثُ كَانَ يَكَادُ يَنْسَخُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الدُّرُوسِ مَا قَبْلَهُ مَنْ حُسْنِهِ وَفَصَاحَتِهِ، وَلَا يَهُولُهُ تَعْدَادُ الدُّرُوسِ وَكَثْرَةُ الْفُقَهَاءِ وَالْفُضَلَاءِ، بَلْ كُلَّمَا كَانَ الْجَمْعُ أَكْثَرَ وَالْفُضَلَاءُ أَكْبَرَ كَانَ الدَّرْسُ أَنْضَرَ وَأَنْظَرَ، وَأَجْلَى وَأَنْصَحَ وَأَفْصَحَ. ثُمَّ لَمَّا انْتَقَلَ إِلَى قَضَاءِ حَلَبَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْمَدَارِسِ الْعَدِيدَةِ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ مِثْلِهَا، وَأَوْسَعَ فِي الْفَضِيلَةِ جَمِيعَ أَهْلِهَا، وَسَمِعُوا مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يَسْمَعُوا هُمْ وَلَا آبَاؤُهُمْ، ثُمَّ طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِيُوَلَّى الشَّامِيَّةَ دَارَ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، فَعَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا، فَمَرِضَ وَهُوَ سَائِرٌ عَلَى الْبَرِيدِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ عَقَبَ الْمَرَضَ بُحْرَانُ الْحِمَامِ، فَقَبَضَهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الشَّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ،وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ وَكَانَ مِنْ نِيَّتِهِ الْخَبِيثَةِ إِذَا
رَجَعَ إِلَى الشَّامِ مُتَوَلِّيًا
أَنْ يُؤْذِيَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ، فَدَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ
يَبْلُغْ أَمَلَهُ وَمُرَادَهُ، فَتُوُفِّيَ فِي سَحَرِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ
سَادِسَ عَشَرَ شَهْرِ رَمَضَانَ بِمَدِينَةِ بُلْبَيْسَ، وَحُمِلَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ جِوَارَ قُبَّةِ
الشَّافِعِيِّ، تَغَمَّدَهُمَا اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ.
الْحَاجُّ عَلِيٌّ الْمُؤَذِّنُ الْمَشْهُورُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
الْحَاجُّ عَلِيُّ بْنُ نُوحِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ الْكَتَّانِيُّ، كَانَ أَبُوهُ
مِنْ خِيَارِ الْمُؤَذِّنِينَ، فِيهِ صَلَاحٌ وَدِينٌ، وَلَهُ قَبُولٌ عِنْدَ
النَّاسِ، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ جَهْوَرَهُ، وَفِيهِ تَوَدُّدٌ وَخِدْمَةٌ
وَكَرَمٌ، وَحَجَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ وَغَيْرِهِ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
غُدْوَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ فَضْلُ ابْنُ الشَّيْخِ الرَّجِيحِيِّ
التُّونُسِيُّ، وَأُجْلِسَ أَخُوهُ يُوسُفُ مَكَانَهُ بِالزَّاوِيَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى نَائِبِ مِصْرَ، وَقَاضِي حَلَبَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي الْمُحَرَّمِ دَرَّسَ بِحَلْقَةِ صَاحِبِ
حِمْصَ الشَّيْخُ الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا
شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ وَالْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَذَكَرَ دَرْسًا حَسَنًا مُفِيدًا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
رَابِعِ الْمُحَرَّمِ حَضَرَ قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءُ الدِّينِ الْقُونَوِيُّ
مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي
الْمَالِكِيِّ شَرَفِ الدِّينِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْفُقَهَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ
عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ دَرَّسَ بِالْمَسْرُورِيَّةِ
تَقِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ
الزَّمْلَكَانِيِّ عِوَضًا عَنْ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشَّرِيشِيِّ بِحُكْمِ
انْتِقَالِهِ إِلَى قَضَاءِ حِمْصَ، وَحَضَرَ النَّاسُ عِنْدَهُ وَتَرَحَّمُوا
عَلَى وَالِدِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسِ عِشْرِينَ صَفَرٍ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ صَاحِبُ بِلَادِ الرُّومِ تَمُرْتَاشُ بْنُ جُوبَانَ
قَاصِدًا إِلَى مِصْرَ، فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ
لِتَلَقِّيهِ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنُ
الصُّورَةِ، تَامُّ الشَّكْلِ، مَلِيحُ الْوَجْهِ. وَلَمَّا انْتَهَى إِلَى
السُّلْطَانِ بِمِصْرَ أَكْرَمَهُ، وَأَعْطَاهُ تَقْدِمَةَ أَلْفٍ، وَفَرَّقَ
أَصْحَابَهُ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَأُكْرِمُوا إِكْرَامًا زَائِدًا، وَكَانَ
سَبَبَ قُدُومِهِ إِلَى مِصْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْعِرَاقِ الْمَلِكُ بُو سَعِيدٍ
كَانَ قَدْ قَتَلَ أَخَاهُ خَوَاجَا دِمَشْقَ فِي شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ، فَهَمَّ وَالِدُهُ جُوبَانُ بِمُحَارَبَةِ السُّلْطَانِ بُو
سَعِيدٍ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ جُوبَانُ إِذْ ذَاكَ مُدَبِّرَ
الْمَمَالِكِ، فَخَافَ تَمُرْتَاشُ هَذَا عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ السُّلْطَانِ،
فَفَرَّ هَارِبًا بِدَمِهِ إِلَى السُّلْطَانِ النَّاصِرِ بِمِصْرَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تَوَجَّهَ نَائِبُ الشَّامِ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِزِيَارَةِ السُّلْطَانِ، فَأَكْرَمَهُ،
وَاحْتَرَمَهُ، وَاشْتَرَى فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ دَارَ الْفُلُوسِ الَّتِي
بِالْقُرْبِ مِنَ الْبُزُورِيِّينَ وَالْجَوْزِيَّةِ، وَهِيَ شَرْقِيِّهِمَا،
وَقَدْ كَانَ سُوقُ الْبُزُورِيَّةِ الْيَوْمَ يُسَمَّى سُوقَ الْقَمْحِ،
فَاشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ، وَعَمَرَهَا دَارًا هَائِلَةً لَيْسَبِدِمَشْقَ دَارٌ
أَحْسَنَ مِنْهَا، وَسَمَّاهَا دَارَ الذَّهَبِ، وَهَدَمَ حَمَّامَ سُوَيْدٍ
تِلْقَاءَهَا، وَجَعَلَهُ دَارَ قُرْآنٍ وَحَدِيثٍ، وَجَاءَتْ فِي غَايَةِ
الْحُسْنِ أَيْضًا، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَمَاكِنَ، وَرَتَّبَ فِيهَا الْمَشَايِخَ
وَالطَّلَبَةَ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَاجْتَازَ
بِرُجُوعِهِ مِنْ مِصْرَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَزَارَهُ، وَأَمَرَ بِبِنَاءِ
حَمَّامٍ بِهِ، وَبِبِنَاءِ دَارِ حَدِيثٍ أَيْضًا وَخَانَقَاهْ، كَمَا يَأْتِي
بَيَانُهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَصَلَتِ الْقَنَاةُ إِلَى الْقُدْسِ
الشَّرِيفِ الَّتِي أَمَرَ بِعِمَارَتِهَا
وَتَجْدِيدِهَا سَيْفُ الدِّينِ
قُطْلُبَكَّ، فَقَامَ بِعِمَارَتِهَا مَعَ وُلَاةِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ بِهَا، وَدَخَلَتْ حَتَّى إِلَى وَسَطِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى،
وَعُمِلَ بِهِ بِرْكَةٌ هَائِلَةٌ، وَهِيَ مُرَخَّمَةٌ مَا بَيْنَ الصَّخْرَةِ
وَالْأَقْصَى، وَكَانَ ابْتِدَاءُ عَمَلِهَا مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عُمِّرَ سُقُوفُ رُوَاقَاتِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
بِمَكَّةَ وَأَبْوَابُهُ، وَعُمِّرَتْ بِمَكَّةَ طَهَّارَةٌ مِمَّا يَلِي بَابَ
بَنِي شَيْبَةَ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْحَمَّامِ
الَّذِي بِسُوقِ بَابِ تُومَاءَ، وَلَهُ بَابَانِ.
قَالَ: وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ نُقِضَ التَّرْخِيمُ الَّذِي بِحَائِطِ جَامِعِ
دِمَشْقَ الْقِبْلِيِّ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ مِمَّا يَلِي بَابَ الزِّيَادَةِ،
فَوَجَدُوا الْحَائِطَ مُتَجَافِيًا، فَخِيفَ مِنْ أَمْرِهِ، وَحَضَرَ تَنْكِزُ
بِنَفْسِهِ وَمَعَهُ الْقُضَاةُ وَأَرْبَابُ الْخِبْرَةِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ
عَلَى نَقْضِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
سَابِعِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَكَتَبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى
السُّلْطَانِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَأْذِنُهُ فِي عِمَارَتِهِ، فَجَاءَ
الْمَرْسُومُ بِالْإِذْنِ فِي ذَلِكَ، فَشَرَعَ فِي نَقْضِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
خَامِسِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى، وَشَرَعُوا فِي عِمَارَتِهِ يَوْمَ
الْأَحَدِ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعُمِلَ مِحْرَابٌ فِيمَا بَيْنَ
بَابِ الزِّيَادَةِ وَمَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ يُضَاهِي مِحْرَابَ الصَّحَابَةِ،
ثُمَّ
جَدُّوا وَلَازَمُوا فِي عِمَارَتِهِ،
وَتَبَرَّعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالْعَمَلِ فِيهِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ،
فَكَانَ يَعْمَلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ أَزْيَدُ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، حَتَّى
كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْجِدَارِ، وَأُعِيدَتْ طَاقَاتُهُ وَسُقُوفُهُ فِي
الْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَذَلِكَ بِهِمَّةِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ مَرَاجِلَ،
وَهَذَا مِنَ الْعَجَبِ، فَإِنَّهُ نُقِضَ الْجِدَارُ وَمَا يُسَامِتُهُ مِنَ
السَّقْفِ، وَأُعِيدَ فِي مُدَّةٍ لَا يَتَخَيَّلُ إِلَى أَحَدٍ أَنَّ عَمَلَهُ
يَفْرُغُ فِيمَا يُقَارِبُ هَذِهِ الْمُدَّةِ جَزْمًا، وَسَاعَدَهُمْ عَلَى
سُرْعَةِ الْإِعَادَةِ حِجَارَةٌ وَجَدُوهَا فِي أَسَاسِ الصَّوْمَعَةِ
الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي عِنْدَ الْغَزَّالِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ فِي كُلِّ
زَاوِيَةٍ مِنْ هَذَا الْمَعْبَدِ صَوْمَعَةٌ كَمَا فِي الْغَرْبِيَّةِ
وَالشَّرْقِيَّةِ الْقِبْلِيَّتَيْنِ مِنْهُ، فَأُبِيدَتِ الشَّمَالِيَّتَانِ
قَدِيمًا، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمَا مِنْ مُدَّةِ أُلُوفٍ مِنَ السِّنِينَ سِوَى
أُسِّ هَذِهِ الْمِئْذَنَةِ الْغَرْبِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ، فَكَانَتْ مِنْ
أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى إِعَادَةِ هَذَا الْجِدَارِ سَرِيعًا، وَمِنَ الْعَجَبِ
أَنَّ نَاظِرَ الْجَامِعِ ابْنَ مَرَاجِلَ لَمْ يَنْقُصْ أَحَدًا مِنْ أَرْبَابِ
الْمُرَتَّبَاتِ عَلَى الْجَامِعِ شَيْئًا مَعَ هَذِهِ الْعِمَارَةِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ
بِالْفَرَّائِينَ، وَاتَّصَلَ بِالرَّمَّاحِينَ، وَاحْتَرَقَتِ الْقَيْسَارِيَّةُ
وَالْمَسْجِدُ الَّذِي هُنَاكَ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْفِرَاءِ وَالْجُوخِ وَالْأَقْمِشَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَاشَرِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ صُلِّيَ عَلَى الْقَاضِي
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْحَرِيرِيِّ قَاضِي قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ بِمِصْرَ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْغَائِبِ بِدِمَشْقَ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَدِمَ
الْبَرِيدُ بِطَلَبِ بُرْهَانِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ الْحَقِّ الْحَنَفِيِّ إِلَى
مِصْرَ لِيَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا
بَعْدَ ابْنِ الْحَرِيرِيِّ، فَخَرَجَ
مُسَافِرًا إِلَيْهَا، وَدَخَلَ مَصْرَ فِي خَامِسِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى،
وَاجْتَمَعَ بِالسُّلْطَانِ، فَوَلَّاهُ الْقَضَاءَ، وَأَكْرَمَهُ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ بَغْلَةً بِزُنَّارِيٍّ، وَحَكَمَ بِالْمَدْرَسَةِ
الصَّالِحِيَّةِ بِحَضْرَةٍ الْقُضَاةِ وَالْحُجَّابِ، وَرُسِمَ لَهُ بِجَمِيعِ
جِهَاتِ ابْنِ الْحَرِيرِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ أُخْرِجَ مَا كَانَ عِنْدَ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْأَوْرَاقِ،
وَالدَّوَاةِ، وَالْقَلَمِ، وَمُنِعَ مِنَ الْكُتُبِ وَالْمُطَالَعَةِ، وَحُمِلَتْ
كُتُبُهُ فِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ إِلَى خِزَانَةِ الْكُتُبِ بِالْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ، قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَكَانَتْ نَحْوَ سِتِّينَ مُجَلَّدًا،
وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ رَبْطَةَ كَرَارِيسَ، فَنَظَرَ الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ
فِيهَا وَتَفَرَّقُوهَا بَيْنَهُمْ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَجَابَ لِمَا
كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ التَّقِيُّ بْنُ الْأَخْنَائِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي
مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ
وَاسْتَجْهَلَهُ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ فِي الْعِلْمِ،
فَطَلَعَ الْأَخْنَائِيُّ إِلَى السُّلْطَانِ وَشَكَاهُ، فَرَسَمَ السُّلْطَانُ
عِنْدَ ذَلِكَ بِإِخْرَاجِ مَا عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ مَا كَانَ، كَمَا
ذَكَرْنَا.
وَفِي أَوَاخِرِهِ رُسِمَ لِعَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ فِي الدَّسْتِ
مَكَانَ أَخِيهِ جَمَالِ الدِّينِ تَوْقِيرًا لِخَاطِرِهِ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ،
وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومُهُ عَلَى قَضَاءِ الْعَسَاكِرِ وَالْوَكَالَةِ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَجَبٍ رُسِمَ لِلْأَئِمَّةِ
الثَّلَاثَةِ الْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ
وَالْحَنْبَلِيِّ بِالصَّلَاةِ فِي الْحَائِطِ
الْقِبْلِيِّ مِنَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، فَعُيِّنَ الْمِحْرَابُ الْجَدِيدُ
الَّذِي بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالْمَقْصُورَةِ لِلْإِمَامِ الْحَنَفِيِّ،
وَعُيِّنَ مِحْرَابُ الصَّحَابَةِ لِلْمَالِكِيِّ، وَعُيِّنَ مِحْرَابُ
مَقْصُورَةِ الْخَضِرِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ الْمَالِكِيُّ
لِلْحَنْبَلِيِّ، وَعُوِّضَ إِمَامُ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ بِالْكَلَّاسَةِ،
وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعِمَارَةِ قَدْ بَلَغَ مِحْرَابَ
الْحَنَفِيَّةِ مِنَ الْمَقْصُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِهِمْ، وَمِحْرَابَ الْحَنَابِلَةِ
مِنْ خَلْفِهِمْ فِي الرُّوَاقِ الثَّالِثِ الْغَرْبِيِّ - وَكَانَا بَيْنَ
الْأَعْمِدَةِ - فَنُقِلَتْ تِلْكَ الْمَحَارِيبُ، وَعُوِّضُوا بِالْمَحَارِيبِ
الْمُسْتَقِرَّةِ بِالْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مُسِكَ الْأَمِيرُ تَمُرْتَاشُ بْنُ جُوبَانَ
الَّذِي أَتَى هَارِبًا إِلَى السُّلْطَانِ النَّاصِرِ بِمِصْرَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، وَحُبِسُوا بِقَلْعَةِ مِصْرَ، فَلَمَّا كَانَ ثَانِي شَوَّالٍ
أُظْهِرَ مَوْتُهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَهُ السُّلْطَانُ، وَأَرْسَلَ رَأْسَهُ
إِلَى بُو سَعِيدٍ صَاحِبِ الْعِرَاقِ ابْنِ خَرْبَنْدَا مَلِكِ التَّتَارِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِي شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ
وَأَمِيرُهُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ لُؤْلُؤٍ
الْحَلَبِيُّ أَحَدُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ، وَقَاضِيهِ قَاضِي قُضَاةِ
الْحَنَابِلَةِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ التَّقِيِّ سُلَيْمَانَ.
وَمِمَّنْ حَجَّ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ الْبَشْمَقْدَارُ، وَالْأَمِيرُ
قَبْجَقُ، وَالْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ بْنُ النَّجِيبِيِّ، وَتَقِيُّ الدِّينِ
بْنُ السَّلْعُوسِ، وَبَدْرُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ، وَابْنَا
جَهْبَلٍ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ،
وَالشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ.
وَقَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ حَكَمَ الْقَاضِي الْمَنْفَلُوطِيُّ الَّذِي كَانَ
حَاكِمًا بِبَعْلَبَكَّ بِدِمَشْقَ نِيَابَةً عَنْ شَيْخِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ
عَلَاءِ الدِّينِ الْقُونَوِيِّ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، تَأَلَّمَ أَهْلُ
بَعْلَبَكَّ لِفَقْدِهِ، فَحَكَمَ بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنِ الْقُونَوِيِّ بِسَبَبِ
عَزْمِهِ عَلَى الْحَجِّ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ الْفَخْرُ مِنَ الْحَجِّ عَادَ
إِلَى الْحُكْمِ، وَاسْتَمَرَّ الْمَنْفَلُوطِيُّ يَحْكَمُ أَيْضًا، فَصَارُوا
ثَلَاثَةَ نُوَّابٍ: ابْنُ جُمْلَةَ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ،
وَالْمَنْفَلُوطِيُّ.
وَسَافَرَ الْقَاضِي مُعِينُ الدِّينِ بْنُ الْحَشِيشِ فِي ثَانِي عِشْرِينَ
شَوَّالٍ إِلَى الْقَاهِرَةِ لِيَنُوبَ عَنِ الْقَاضِي فَخْرِ الدِّينِ كَاتِبِ
الْمَمَالِيكِ إِلَى حِينِ رُجُوعِهِ مِنَ الْحِجَازِ، فَلَمَّا وَصَلَ وَلِيَ
حِجَابَةَ دِيوَانِ الْجَيْشِ، وَاسْتَمَرَّ هُنَاكَ، وَاسْتَقَلَّ قُطْبُ
الدِّينِ ابْنُ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ بِنَظَرِ الْجَيْشِ بِدِمَشْقَ عَلَى
عَادَتِهِ.
وَفِي شَوَّالٍ خُلِعَ عَلَى أَمِينِ الْمُلْكِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَوُلِّيَ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ، فَبَاشَرَهُ شَهْرًا وَيَوْمَيْنِ، وَعُزِلَ
عَنْهُ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
قَالَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ":
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ الْمُفْتِي شِهَابِ الدِّينِ أَبِي الْمَحَاسِنِ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مَجْدِ الدِّينِ أَبِي الْبَرَكَاتِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، ابْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ بِالْقَاعَةِ الَّتِي كَانَ مَحْبُوسًا فِيهَا، وَحَضَرَ جَمْعٌ كَثِيرٌ إِلَى الْغَايَةِ إِلَى الْقَلْعَةِ، فَأُذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ جَمَاعَةٌ عِنْدَهُ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ، وَتَبَرَّكُوا بِرُؤْيَتِهِ وَتَقْبِيلِهِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ فَفَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَاقْتُصِرَ عَلَى مَنْ يُغَسِّلُهُ، فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ ذَلِكَ أُخْرِجَ وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِالْقَلْعَةِ وَالطَّرِيقِ إِلَى الْجَامِعِ، وَامْتَلَأَ الْجَامِعُ وَصَحْنُهُ، وَالْكَلَّاسَةُ، وَبَابُ الْبَرِيدِ، وَبَابُ السَّاعَاتِ، إِلَى اللَّبَّادِينَ وَالْفَوَّارَةِ، وَحَضَرَتِ الْجِنَازَةُ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ مِنَ النَّهَارِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَوُضِعَتْ فِي الْجَامِعِ وَالْجُنْدُ يَحْفَظُونَهَا مِنَ النَّاسِ مِنْ شِدَّةِ الزِّحَامِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ أَوَّلًا بِالْقَلْعَةِ، تَقَدَّمَ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ تَمَّامٍ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ عَقِيبَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَحُمِلَ مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ، وَاشْتَدَّ الزِّحَامُ، وَأَلْقَى النَّاسُ عَلَى نَعْشِهِ مَنَادِيلَهُمْ وَعَمَائِمَهُمْ لِلتَّبَرُّكِ، وَصَارَ النَّعْشُ عَلَى الرُّءُوسِ، تَارَةً يَتَقَدَّمُ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ، وَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ أَبْوَابِهِ كُلِّهَا مِنْ شِدَّةِ الزِّحَامِ، وَكَانَ الْمُعْظَمُ مِنَ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ بَابِ الْفَرَجِ الَّذِي أُخْرِجَتْ مِنْهُ الْجِنَازَةُ، وَبَابِ الْفَرَادِيسِ، وَبَابِ النَّصْرِ، وَبَابِ الْجَابِيَةِ، وَعَظُمَ الْأَمْرُ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَتَقَدَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ هُنَاكَ أَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَحُمِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ الصُّوفِيَّةِ، فَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَخِيهِ شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ،
وَكَانَ دَفْنُهُ وَقْتَ الْعَصْرِ
أَوْ قَبْلَهَا بِيَسِيرٍ، وَغَلَّقَ النَّاسُ حَوَانِيتَهُمْ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ
عَنِ الْحُضُورِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ أَوْ مَنْ عَجَزَ لِأَجْلِ
الزِّحَامِ، وَحَضَرَهَا نِسَاءٌ كَثِيرٌ بِحَيْثُ حُزِرْنَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفًا، وَأَمَّا الرِّجَالُ فَحُزِرُوا بِسِتِّينَ أَلْفًا وَأَكْثَرَ إِلَى
مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَشَرِبَ جَمَاعَةٌ الْمَاءَ الَّذِي فَضَلَ مِنْ غُسْلِهِ،
وَاقْتَسَمَ جَمَاعَةٌ بَقِيَّةَ السِّدْرِ الَّذِي غُسِّلَ بِهِ، وَقِيلَ: إِنَّ
الطَّاقِيَّةَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ دُفِعَ فِيهَا خَمْسُمِائَةِ
دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخَيْطَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الزِّئْبَقُ الَّذِي
كَانَ فِي عُنُقِهِ بِسَبَبِ الْقَمْلِ، دُفِعَ فِيهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ
دِرْهَمًا، وَحَصَلَ فِي الْجِنَازَةِ ضَجِيجٌ وَبُكَاءٌ وَتَضَرُّعٌ، وَخُتِمَتْ
لَهُ خَتَمَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالصَّالِحِيَّةِ وَالْبَلَدِ، وَتَرَدَّدَ النَّاسُ
إِلَى قَبْرِهِ أَيَّامًا كَثِيرَةً لَيْلًا وَنَهَارًا، وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ
كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ، وَرَثَاهُ جَمَاعَةٌ بِقَصَائِدَ جَمَّةٍ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بِحَرَّانَ
سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدِمَ مَعَ وَالِدِهِ وَأَهْلِهِ
إِلَى دِمَشْقَ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ عَبْدِ
الدَّائِمِ، وَابْنِ أَبِي الْيُسْرِ، وَابْنِ عَبْدٍ، وَالشَّيْخِ شَمْسِ
الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ، وَالْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ عَطَاءٍ الْحَنَفِيِّ،
وَالشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الصَّيْرَفِيِّ، وَمَجْدِ الدِّينِ بْنِ
عَسَاكِرَ، وَالشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْبَغْدَادِيِّ، وَالنَّجِيبِ بْنِ
الْمِقْدَادِ، وَابْنِ أَبِي الْخَيْرِ، وَابْنِ عَلَّانَ، وَابْنِ أَبِي بَكْرٍ
الْهَرَوِيِّ، وَالْكَمَالِ عَبْدِ الرَّحِيمِ،
وَالْفَخْرِ عَلِيٍّ، وَابْنِ
شَيْبَانَ، وَالشَّرَفِ بْنِ الْقَوَّاسِ، وَزَيْنَبَ بِنْتِ مَكِّيٍّ، وَخَلْقٍ
كَثِيرٍ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ الْكَثِيرَ، وَطَلَبَ الْحَدِيثَ، وَكَتَبَ
الطِّبَاقَ وَالْأَثْبَاتَ، وَلَازَمَ السَّمَاعَ بِنَفْسِهِ مُدَّةَ سِنِينَ،
ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْعُلُومِ، وَكَانَ ذَكِيًّا كَثِيرَ الْمَحْفُوظِ، فَصَارَ
إِمَامًا فِي التَّفْسِيرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، عَارِفًا بِالْفِقْهِ
وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ، وَالْأَصْلَيْنِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَمَا تَكَلَّمَ مَعَهُ
فَاضِلٌ فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ الْعِلْمِيَّةِ إِلَّا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ
الْفَنَّ فَنُّهُ، وَرَآهُ عَارِفًا بِهِ مُتْقِنًا لَهُ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ
فَكَانَ حَافِظًا لَهُ مَتْنًا وَإِسْنَادًا، مُمَيِّزًا بَيْنَ صَحِيحِهِ
وَسَقِيمِهِ، عَارِفًا بِرِجَالِهِ مُتَضَلِّعًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ
كَثِيرَةٌ وَتَعَالِيقُ مُفِيدَةٌ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَمَّلَ مِنْهَا
جُمْلَةً وَبُيِّضَتْ وَكُتِبَتْ عَنْهُ، وَجُمْلَةٌ كَبِيرَةٌ لَمْ يُكْمِلْهَا،
وَجُمْلَةٌ كَمَّلَهَا وَلَكِنْ لَمْ تُبَيَّضْ.
وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى فَضَائِلِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ عَصْرِهِ،
مِثْلُ الْقَاضِي الْخُوِيِّيِّ، وَابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَابْنِ النَّحَّاسِ،
وَابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَوُجِدَتْ بِخَطِّ ابْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ أَنَّهُ اجْتَمَعَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ
عَلَى وَجْهِهَا، وَأَنَّ لَهُ الْيَدَ الطُّولَى فِي حُسْنِ التَّصْنِيفِ،
وَجَوْدَةِ الْعِبَارَةِ، وَالتَّرْتِيبِ وَالتَّقْسِيمِ وَالتَّبْيِينِ، وَكَتَبَ
عَلَى مُصَنَّفٍ لَهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ:
مَاذَا يَقُولُ الْوَاصِفُونَ لَهُ وَصِفَاتُهُ جَلَّتْ عَنِ الْحَصْرِ هُوَ
حُجَّةٌ لِلَّهِ قَاهِرَةٌ
هُوَ بَيْنَنَا أُعْجُوبَةُ الدَّهْرِ هُوَ آيَةٌ فِي الْخَلْقِ ظَاهِرَةٌ
أَنْوَارُهَا أَرْبَتْ عَلَى الْفَجْرِ
وَهَذَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ وَكَانَ عُمْرُهُ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً،
وَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ
وَصُحْبَةٌ مِنَ الصِّغَرِ، وَسَمَاعُ
الْحَدِيثِ وَالطَّلَبُ مِنْ نَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَهُ فَضَائِلُ
كَثِيرَةٌ، وَأَسْمَاءُ مُصَنَّفَاتِهِ وَسِيرَتُهُ وَمَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْفُقَهَاءِ وَالدَّوْلَةِ، وَحَبْسُهُ مَرَّاتٍ، وَأَحْوَالُهُ، لَا يَحْتَمِلُ
ذِكْرَ جَمِيعِهَا هَذَا الْمَوْضِعُ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
وَلَمَّا مَاتَ كُنْتُ غَائِبًا عَنْ دِمَشْقَ بِطَرِيقِ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ،
وَبَلَغَنَا خَبَرُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ يَوْمًا لَمَّا
وَصَلْنَا إِلَى تَبُوكَ، وَحَصَلَ التَّأَسُّفُ لِفَقْدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، هَذَا لَفْظُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ " تَارِيخِهِ ".
ثُمَّ ذَكَرَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ فِي " تَارِيخِهِ " بَعْدَ
إِيرَادِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ جِنَازَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ
وَعِظَمَهَا، وَجِنَازَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بِبَغْدَادَ وَشُهْرَتَهَا،
وَقَوْلَهُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَهْلِ الْبِدَعِ يَوْمُ الْجَنَائِزِ. وَلَا
شَكَّ أَنَّ جِنَازَةَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كَانَتْ هَائِلَةً
عَظِيمَةً بِسَبَبِ كَثْرَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَاجْتِمَاعِهِمْ لِذَلِكَ،
وَالشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُوُفِّيَ
بِبَلَدِهِ دِمَشْقَ، وَأَهْلُهَا لَا يَعْشُرُونَ أَهْلَ بَغْدَادَ كَثْرَةً،
وَلَكِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا لِجِنَازَتِهِ اجْتِمَاعًا لَوْ جَمَعَهُمْ سُلْطَانٌ
قَاهِرٌ وَدِيوَانٌ حَاصِرٌ لَمَا بَلَغُوا هَذِهِ الْكَثْرَةَ الَّتِي انْتَهَوْا
إِلَيْهَا، هَذَا مَعَ أَنَّهُ مَاتَ بِالْقَلْعَةِ مَحْبُوسًا مِنْ جِهَةِ
السُّلْطَانِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَذْكُرُونَ عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً
مِمَّا يَنْفِرُ مِنْهَا أَهْلُ الْأَدْيَانِ، وَاتَّفَقَ وَفَاتُهُ فِي سَحَرِ
لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْمَذْكُورِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ مُؤَذِّنُ الْقَلْعَةِ عَلَى
الْمَنَارَةِ بِهَا، وَتَكَلَّمَ بِهِ الْحُرَّاسُ عَلَى الْأَبْرِجَةِ، فَمَا
أَصْبَحَ النَّاسُ إِلَّا وَقَدْ تَسَامَعُوا بِهَذَا الْخَطْبِ الْعَظِيمِ
وَالْأَمْرِ الْجَسِيمِ، فَبَادَرَ النَّاسُ عَلَى الْفَوْرِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ
حَوْلَ الْقَلْعَةِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَمْكَنَهُمُ الْمَجِيءُ مِنْهُ، حَتَّى
مِنَ الْغُوطَةِ وَالْمَرْجِ، وَلَمْ يَطْبُخْ أَهْلُ
الْأَسْوَاقِ شَيْئًا، وَلَا فَتَحُوا
كَثِيرًا مِنَ الدَّكَاكِينِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُفْتَحَ أَوَائِلَ
النَّهَارِ عَلَى الْعَادَةِ، وَكَانَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ
تَنْكِزُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ يَتَصَيَّدُ، فَحَارَتِ الدَّوْلَةُ مَاذَا
يَصْنَعُونَ، وَجَاءَ الصَّاحِبُ شَمْسُ الدِّينِ غِبْرِيَالُ إِلَى نَائِبِ
الْقَلْعَةِ، فَعَزَّاهُ فِيهِ، وَجَلَسَ عِنْدَهُ، وَفَتَحَ بَابَ الْقَلْعَةِ
وَبَابَ الْقَاعَةِ لِمَنْ يَدْخُلُ مِنَ الْخَوَاصِّ وَالْأَصْحَابِ
وَالْأَحْبَابِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَ الشَّيْخِ فِي قَاعَتِهِ خَلْقٌ مِنْ
أَخِصَّاءِ أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَلَدِ وَالصَّالِحِيَّةِ، وَجَلَسُوا حَوْلَهُ
وَهُمْ يَبْكُونَ وَيُثْنُونَ، وَكُنْتُ فِي مَنْ حَضَرَ هُنَاكَ مَعَ شَيْخِنَا
الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَشَفْتُ عَنْ
وَجْهِ الشَّيْخِ وَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ بِعَذَبَةٍ
مَغْرُوزَةٍ، وَقَدْ عَلَاهُ الشَّيْبُ أَكْثَرَ مِمَّا فَارَقْنَاهُ. وَأَخْبَرَ
الْحَاضِرِينَ أَخُوهُ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَرَأَ هُوَ
وَالشَّيْخُ مُنْذُ دَخَلَا الْقَلْعَةَ ثَمَانِينَ خَتْمَةً، وَشَرَعَا فِي
الْحَادِيَةِ وَالثَّمَانِينَ، فَانْتَهَيْنَا فِيهَا إِلَى آخِرِ "
اقْتَرَبَتْ " فَشَرَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الشَّيْخَانِ الصَّالِحَانِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الْمُحِبِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ الزُّرَعِيُّ الضَّرِيرُ - وَكَانَ
الشَّيْخُ يُحِبُّ قِرَاءَتَهُمَا - فَابْتَدَآ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ "
الرَّحْمَنِ " حَتَّى خَتَمُوا الْقُرْآنَ وَأَنَا حَاضِرٌ أَسْمَعُ وَأَرَى.
ثُمَّ شَرَعُوا فِي غُسْلِ الشَّيْخِ - وَخَرَجْتُ إِلَى مَسْجِدٍ هُنَاكَ -
وَلَمْ يَمْكُثْ عِنْدَهُ إِلَّا مِنْ سَاعَدَ فِي تَغْسِيلِهِ، وَفِيهِمْ
شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، فَمَا
فُرِغَ مِنْهُ حَتَّى امْتَلَأَتِ الْقَلْعَةُ بِالرِّجَالِ، وَكَذَلِكَ مَا
حَوْلَهَا إِلَى الْجَامِعِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدَرَكَاتِ الْقَلْعَةِ، وَضَجَّ
النَّاسُ بِالْبُكَاءِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ، ثُمَّ سَارُوا
بِهِ إِلَى الْجَامِعِ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْعِمَادِيَّةِ عَلَى الْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ، ثُمَّ عَطَفُوا إِلَى بَابِ الْبَرِيدِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ
سُوَيْقَةَ بَابِ الْبَرِيدِ كَانَتْ قَدْ
هُدِمَتْ لِتُصْلَحَ، وَدَخَلُوا
بِالْجِنَازَةِ إِلَى الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَالْخَلَائِقُ فِيهِ لَا يَعْلَمُ
عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَصَرَخَ صَارِخٌ: هَكَذَا تَكُونُ
جَنَائِزُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، فَتَبَاكَى النَّاسُ عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ
الصَّارِخِ، وَوُضِعَ الشَّيْخُ فِي مَوْضِعِ الْجَنَائِزِ مِمَّا يَلِي
الْمَقْصُورَةَ، وَجَلَسَ النَّاسُ عَلَى غَيْرِ صُفُوفٍ، بَلْ مَرْصُوصِينَ لَا
يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنَ السُّجُودِ إِلَّا بِكُلْفَةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَذَانِ
الظُّهْرِ بِقَلِيلٍ، وَجَاءَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَكَثُرُوا كَثْرَةً
لَا تُوصَفُ، فَلَمَّا أُذِّنَ الظُّهْرُ وَفُرِغَ مِنَ الْأَذَانِ أُقِيمَتِ
الصَّلَاةُ عَلَى السُّدَّةِ بِخِلَافِ الْعَادَةِ لِيُسْرِعُوا بِالنَّاسِ،
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ خَرَجَ نَائِبُ الْخَطِيبِ لِغَيْبَتِهِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ إِمَامًا، وَهُوَ الشَّيْخُ
عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْخَرَّاطِ، ثُمَّ خَرَجَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
مِنْ أَبْوَابِ الْجَامِعِ وَالْبَلَدِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَاجْتَمَعُوا بِسُوقِ
الْخَيْلِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ تَعَجَّلَ إِلَى مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ،
وَالنَّاسُ فِي بُكَاءٍ وَتَهْلِيلٍ، وَدُعَاءٍ وَثَنَاءٍ وَتَأَسُّفٍ،
وَالنِّسَاءُ فَوْقَ الْأَسْطِحَةِ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ يَبْكِينَ
وَيَدْعِينَ.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ بِدِمَشْقَ،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ بَنِي أُمَيَّةَ حِينَ كَانَ النَّاسُ
بِهَا كَثِيرًا جِدًّا، ثُمَّ دُفِنَ عِنْدَ أَخِيهِ قَرِيبًا مِنْ أَذَانِ
الْعَصْرِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ الضُّعَفَاءِ
وَالْمُخَدَّرَاتِ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ تَخَلَّفَ عَنِ
الْحُضُورِ فِي جَنَازَتِهِ إِلَّا النَّفَرَ الْيَسِيرَ، وَتَرَدَّدَ شَيْخُنَا
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ إِلَى الْمَقْبَرَةِ
فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَكُلَّ يَوْمٍ بُكْرَةَ النَّهَارِ، وَيَعُودُ
وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارِهِ، وَعَلَيْهِ الْجَلَالَةُ وَالْوَقَارُ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَعُمِلَتْ لَهُ خَتَمَاتٌ كَثِيرَةٌ،
وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ عَجِيبَةٌ، وَرُثِيَ بِأَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ
جِدًّا. وَقَدْ أُفْرِدَتْ لَهُ تَرَاجِمُ كَثِيرَةٌ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ وَغَيْرُهُمْ، وَسَنَحْصُرُ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ
تَرْجَمَةً وَجِيزَةً فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِهِ، وَفَضَائِلِهِ، وَشَجَاعَتِهِ،
وَكَرَمِهِ، وَنُصْحِهِ، وَزَهَادَتِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَعُلُومِهِ الْكَثِيرَةِ
الْمُحَرَّرَةِ، وَمُصَنَّفَاتِهِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ فِي الْعُلُومِ،
وَمُفْرَدَاتِهِ فِي الِاخْتِيَارَاتِ الَّتِي نَصَرَهَا وَأَفْتَى بِهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَمِمَّنْ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ،
وَقَدْ صَحَّ فِي الْبُخَارِيِّ:إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ
أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا
صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ.
وَفِي السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ نَقَلَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ مِنْ دَارِ
الذَّهَبِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ إِلَى الدَّارِ الَّتِي أَنْشَأَهَا،
وَكَانَتْ تُعْرَفُ بِدَارِ فُلُوسٍ، فَسُمِّيَتْ دَارَ الذَّهَبِ، وَعَزَلَ
خَزِنْدَارَهُ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدَ بْنَ عِيسَى، وَوَلَّى مَكَانَهُ
مَمْلُوكَهُ أَبَاجِي.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، جَاءَ إِلَى مَدِينَةِ
عَجْلُونَ سَيْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، فَهَدَمَ مِنْ
جَامِعِهَا وَأَسْوَاقِهَا وَرِبَاعِهَا وَدُورِهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَغَرِقَ
سَبْعَةُ نَفَرٍ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْغَلَّاتِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْمَوَاشِي مَا يُقَارِبُ قِيمَتُهُ أَلْفَ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ
ذِي الْحِجَّةِ أَلْزَمَ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ
الْقُونَوِيُّ جَمَاعَةَ الشُّهُودِ بِسَائِرِ الْمَرَاكِزِ أَنْ يُرْسِلُوا فِي
عَمَائِمِهِمُ الْعَذَبَاتِ لِيَتَمَيَّزُوا بِذَلِكَ عَنْ عَوَامِّ النَّاسِ،
فَفَعَلُوا ذَلِكَ أَيَّامًا ثُمَّ تَضَرَّرُوا مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْخَصَ لَهُمْ فِي
تَرْكِهَا، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَمَرَّ بِهَا.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ أُفْرِجَ عَنِ الشَّيْخِ
الْإِمَامِ الْعَالِمِ الْعَلَّامَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ
قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، وَكَانَ مُعْتَقَلًا بِالْقَلْعَةِ أَيْضًا، مِنْ بَعْدِ
اعْتِقَالِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بِأَيَّامٍ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ.
وَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ السُّلْطَانَ أَفْرَجَ عَنِ الْجَاوِلِيِّ،
وَالْأَمِيرِ فَرَجِ بْنِ قَرَاسُنْقُرَ، وَلَاجِينَ الْمَنْصُورِيِّ،
وَأُحْضِرُوا بَعْدَ الْعِيدِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ.
وَفِيهِ وَصَلَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الْأَمِيرِ الْكَبِيرِ جُوبَانَ نَائِبِ
السُّلْطَانِ بُو سَعِيدٍ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَفَاةِ قَرَاسُنْقُرَ
الْمَنْصُورِيِّ أَيْضًا، كِلَاهُمَا فِي ذِي الْقِعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَجُوبَانُ هَذَا هُوَ الَّذِي سَاقَ الْقَنَاةَ الْوَاصِلَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، وَقَدْ غَرِمَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً، وَلَهُ
تُرْبَةٌ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَمَدْرَسَتُهُ مَشْهُورَةٌ، وَلَهُ
آثَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ جَيِّدَ الْإِسْلَامِ، لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَقَدْ
دَبَّرَ الْمَمَالِكَ فِي أَيَّامِ بُو سَعِيدٍ مُدَّةً طَوِيلَةً عَلَى
السَّدَادِ، ثُمَّ أَرَادَ بُو سَعِيدٍ مَسْكَهُ فَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا سَلَفَ، ثُمَّ إِنَّ بُو سَعِيدٍ قَتَلَ ابْنَهُ خَوَاجَا
دِمَشْقَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَفَرَّ ابْنُهُ الْآخَرُ تَمُرْتَاشُ
هَارِبًا إِلَى سُلْطَانِ مِصْرَ، فَآوَاهُ شَهْرًا، ثُمَّ تَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ
بَيْنَ
الْمَلِكَيْنِ فِي قَتْلِهِ، فَقَتَلَهُ
صَاحِبُ مِصْرَ فِيمَا قِيلَ، وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ
أَبُوهُ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ.
وَأَمَّا قَرَاسُنْقُرُ الْمَنْصُورِيُّ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ كِبَارِ أُمَرَاءِ
مِصْرَ وَالشَّامِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَ الْأَشْرَفَ خَلِيلَ بْنَ
الْمَنْصُورِ، كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ وَلِيَ نِيَابَةَ مِصْرَ مُدَّةً، ثُمَّ
صَارَ إِلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ، ثُمَّ فَرَّ إِلَى
التَّتَارِ هُوَ وَالْأَفْرَمُ وَالزَّرَدْكَاشُ، فَآوَاهُمْ مَلِكُ التَّتَارِ
خَرْبَنْدَا وَأَكْرَمَهُمْ، وَأَقْطَعَهُمْ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَتَزَوَّجَ
قَرَاسُنْقُرُ بِنْتَ هُولَاكُو، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَرَاغَةَ، بَلَدِهِ
الَّتِي كَانَ حَاكِمًا بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ نَحْوُ تِسْعِينَ سَنَةً،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ، كَمَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي الْحَوَادِثِ، وَسَنُفْرِدُ لَهُ تَرْجَمَةً عَلَى
حِدَةٍ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرِيفُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ الْمُحَدِّثُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْمُحْسِنِ الْعَلَوِيُّ الْحُسَيْنِيُّ الْغَرَّافِيُّ
الْإِسْكَنْدَرِيُّ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَفِظَ " الْوَجِيزَ
" فِي الْفِقْهِ، وَ " الْإِيضَاحَ " فِي النَّحْوِ، وَكَانَ
زَاهِدًا مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، وَبَلَغَ تِسْعِينَ سَنَةً وَعَقْلُهُ
وَعِلْمُهُ وَذِهْنُهُ ثَابِتٌ مُتَيَقِّظٌ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَامِسِ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بَيْنَ
الْمَاوِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّمْسُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى التَّدْمُرِيُّ، كَانَتْ فِيهِ شَهَامَةٌ
وَصَرَامَةٌ، وَكَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَةَ كَالْمُنَفِّذِ لِمَا يُأْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ، وَيُرْسِلُهُ
إِلَى الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ
وَمُرُوءَةٌ، يُبَلِّغُ رِسَالَتَهُ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ، تُوُفِّيَ فِي
الْخَامِسِ مِنْ صَفَرٍ بِالْقُبَيْبَاتِ، وَدُفِنَ عِنْدَ الْجَامِعِ
الْكَرِيمِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ أَبُو بَكْرِ بْنُ شَرَفِ بْنِ مُحْسِنِ بْنِ مَعْنِ بْنِ
عَمَّارٍ الصَّالِحِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ صُحْبَةَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ
وَالْمِزِّيِّ، وَكَانَ مِمَّنْ يُحِبُّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ، وَكَانَ
مَعَهُمَا كَالْخَادِمِ لَهُمَا، وَكَانَ فَقِيرًا ذَا عِيَالٍ، يَتَنَاوَلُ مِنَ
الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ مَا يَقُومُ بِأَوَدِهِ، وَأَقَامَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ
بِحِمْصَ، وَكَانَ فَصِيحًا مُفَوَّهًا، لَهُ تَعَالِيقُ وَتَصَانِيفُ فِي
الْأُصُولِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ لَهُ عِبَادَةٌ وَفِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ،
وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَى الْعَصْرِ
مِنْ حِفْظِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ صُحْبَةَ شَيْخِنَا
الْمِزِّيِّ حِينَ قَدِمَ مِنْ حِمْصَ، فَكَانَ قَوِيَّ الْعِبَارَةِ فَصِيحَهَا،
مُتَوَسِّطًا فِي الْعِلْمِ، لَهُ مَيْلٌ إِلَى التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ فِي
الْأَحْوَالِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْقُلُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ يُكْثِرُ
ذِكْرَ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، تُوُفِّيَ بِحِمْصَ فِي الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ
يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُعْطِيهِ وَيَرْفِدُهُ.
ابْنُ الدَّوَالِيبِيِّ الْبَغْدَادِيُّ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَالِمُ
الْعَابِدُ الرُّحْلَةُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمِّرُ عَفِيفُ الدِّينِ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُحْسِنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ
الْغَفَّارِ الْبَغْدَادِيُّ الْأَزَجِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الدَّوَالِيبِيِّ، شَيْخُ دَارِ الْحَدِيثِ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ، وُلِدَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَلَهُ إِجَازَاتٌ عَالِيَةٌ، وَاشْتَغَلَ بِحِفْظِ "
الْخِرَقِيِّ "، وَكَانَ فَاضِلًا فِي النَّحْوِ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ شِعْرٌ
حَسَنٌ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَصَارَ رُحْلَةَ
الْعِرَاقِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعَ عِشْرِينَ جُمَادَى الْأُولَى،
وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ أَجَازَنِي فِيمَنْ أَجَازَ مِنْ مَشَايِخِ بَغْدَادَ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْحَرِيرِيِّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ صَفِيِّ الدِّينِ أَبِي عَمْرٍو عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ
بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْأَنْصَارِيُّ الْحَنَفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ، وَقَرَأَ==
ج34. البداية والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
"
الْهِدَايَةَ "، وَكَانَ فَقِيهًا جَيِّدًا، وَدَرَّسَ بِأَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ
بِدِمَشْقَ، ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا، ثُمَّ خُطِبَ إِلَى قَضَاءِ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَبَاشَرَ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، مَحْفُوظَ
الْعِرْضِ، لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ هَدِيَّةً، وَلَا تَأْخُذُهُ فِي الْحُكْمِ
لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ ابْنُ تَيْمِيَةَ شَيْخَ
الْإِسْلَامِ فَمَنْ ؟ وَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: أَتُحِبُّ الشَّيْخَ تَقِيَّ
الدِّينِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَحْبَبْتَ شَيْئًا مَلِيحًا.
تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَوْمَ السَّبْتِ رَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ
وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَ قَدْ عَيَّنَ لِمَنْصِبِهِ الْقَاضِيَ بُرْهَانَ
الدِّينِ بْنَ عَبْدِ الْحَقِّ، فَنُفِّذَتْ وَصِيَّتُهُ بِذَلِكَ، وَأُرْسِلَ
إِلَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ فَأُحْضِرَ، فَبَاشَرَ الْحُكْمَ بَعْدَهُ وَجَمِيعَ
جِهَاتِهِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْمُقْرِئُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَارَةَ
بْنِ عَبْدِ الْوَلِيِّ بْنِ جُبَارَةَ الْمَقْدِسِيُّ الْمَرْدَاوِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، شَارِحُ " الشَّاطِبِيَّةِ "، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعُنِيَ بِفَنِّ
الْقِرَاءَاتِ فَبَرَزَ فِيهِ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَقَدْ أَقَامَ
بِمِصْرَ مُدَّةً، وَاشْتَغَلَ بِهَا عَلَى الْقَرَافِيِّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ،
وَتُوُفِّيَ بِالْقُدْسِ رَابِعَ رَجَبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ يُعَدُّ مِنَ
الصُّلَحَاءِ الْأَخْيَارِ، سَمِعَ عَنْ خَطِيبِ مَرْدَى وَغَيْرِهِ.
ابْنُ الْعَاقُولِيِّ الْبَغْدَادِيُّ، الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ
جَمَالُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادِ بْنِ
ثَابِتٍ الْوَاسِطِيُّ الْعَاقُولِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ الشَّافِعِيُّ،
مُدَرِّسُ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ مُدَّةً طَوِيلَةً، نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَبَاشَرَ نَظَرَ الْأَوْقَافِ، وَعُيِّنَ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ فِي
وَقْتٍ، وُلِدَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ عَاشِرَ رَجَبٍ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَبَرَعَ، وَاشْتَغَلَ، وَأَفْتَى مِنْ
سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَذَلِكَ مُدَّةَ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَهَذَا شَيْءٌ غَرِيبٌ جِدًّا، وَكَانَ قَوِيَّ النَّفْسِ،
لَهُ وَجَاهَةٌ فِي الدَّوْلَةِ، فَكَمْ كَشَفَ كُرْبَةً عَنِ النَّاسِ بِسَعْيِهِ
وَقَصْدِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ،
وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ، وَقَدْ كَانَ قَدْ
أَوْقَفَهَا عَلَى شَيْخٍ وَعَشَرَةِ صِبْيَانٍ يُسَمِّعُونَ الْقُرْآنَ
وَيَحْفَظُونَهُ، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا أَمْلَاكَهُ كُلَّهَا، تَقَبَّلَ اللَّهُ
مِنْهُ وَرَحِمَهُ، وَدَرَّسَ بَعْدَهُ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ
قُطْبُ الدِّينِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ التَّاجِرُ الْبَارُّ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُنْتَابٍ السَّلَامِيُّ
الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ ذَوِي الْيَسَارِ، وَلَهُ بِرٌّ تَامٌّ بِأَهْلِ
الْعِلْمِ، وَلَا سِيَّمَا أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ، وَقَدْ أَوْقَفَ
كُتُبًا كَثِيرَةً، وَحَجَّ مَرَّاتٍ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ تُوُفِّيَتِ الْوَالِدَةُ مَرْيَمُ بِنْتُ فَرَجِ بْنِ
مُفَرِّجِ بْنِ عَلِيٍّ، مِنْ قَرْيَةٍ كَانَ الْوَالِدُ خَطِيبًا بِهَا - وَهِيَ
مَجِيدَلُ الْقَرْيَةِ - سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهَا
بَعْدَ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَتْ بِالصُّوفِيَّةِ شَرْقِيَّ قَبْرِ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْخَلِيفَةُ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمُبَاشِرُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ قُطْبَ الدِّينِ ابْنَ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ اشْتَغَلَ
بِنَظَرِ الْجَيْشِ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ طُلِبَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ
كَاتِبُ سِرِّ دِمَشْقَ، وَوَلَدُهُ الصَّدْرُ شِهَابُ الدِّينِ، وَشَرَفُ
الدِّينِ بْنُ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ - إِلَى مِصْرَ عَلَى
الْبَرِيدِ، فَبَاشَرَ الْقَاضِي الصَّدْرُ الْكَبِيرُ مُحْيِي الدِّينِ
الْمَذْكُورُ كِتَابَةَ السِّرِّ بِهَا عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ
الْأَثِيرِ; لِمَرَضٍ اعْتَرَاهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ وَلَدُهُ شِهَابُ الدِّينِ،
وَأَقْبَلَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى
كِتَابَةِ السِّرِّ عِوَضًا عَنِ ابْنِ فَضْلِ اللَّهِ. وَفِيهِ ذَهَبَ نَاصِرُ الدِّينِ
مُشِدُّ الْأَوْقَافِ نَاظِرًا عَلَى الْقُدْسِ وَالْخَلِيلِ، فَعَمَرَ هُنَاكَ
عِمَارَاتٍ كَثِيرَةً لِمَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَفَتَحَ فِي الْأَقْصَى
شُبَّاكَيْنِ عَنْ يَمِينِ الْمِحْرَابِ وَشِمَالِهِ، وَجَاءَ الْأَمِيرُ نَجْمُ
الدِّينِ دَاوُدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ
بْنِ الزَّيْبَقِ مِنْ شَدِّ الدَّوَاوِينِ بِحِمْصَ إِلَى شَدِّهَا بِدِمَشْقَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ كَمُلَ تَرْخِيمُ
الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ
مِنْ جَامِعِ دِمَشْقَ، وَبُسِطَ الْجَامِعُ جَمِيعُهُ،
وَصَلَّى النَّاسُ الْجُمُعَةَ بِهِ مِنَ الْغَدِ، وَفُتِحَ بَابُ الزِّيَادَةِ،
وَكَانَ لَهُ أَيَّامًا مُغْلَقًا، وَذَلِكَ فِي مُبَاشَرَةِ الصَّدْرِ تَقِيِّ
الدِّينِ بْنِ مَرَاجِلَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ أَوْلَادُ الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ
قَرَاسُنْقُرَ إِلَى دِمَشْقَ، فَسَكَنُوا فِي دَارِ أَبِيهِمْ دَاخِلَ بَابِ
الْفَرَادِيسِ فِي دِهْلِيزِ الْمُقَدِّمِيَّةِ، وَأُعِيدَتْ عَلَيْهِمْ
أَمْلَاكُهُمُ الْمُخَلَّفَةُ عَنْ أَبِيهِمْ، وَكَانَتْ تَحْتَ الْحَوْطَةِ،
فَلَمَّا مَاتَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أُفْرِجَ عَنْهَا أَوْ أَكْثَرِهَا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ آخِرَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُنْزِلَ الْأَمِيرُ
جُوبَانُ وَوَلَدُهُ مِنْ قَلْعَةِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَهُمَا
مَيِّتَانِ مُصَبَّرَانِ فِي تَوَابِيتِهِمَا، فَصُلِّيَ عَلَيْهِمَا
بِالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، ثُمَّ دُفِنَا بِالْبَقِيعِ عَنْ مَرْسُومِ
السُّلْطَانِ، وَكَانَ مُرَادُ جُوبَانَ أَنْ يُدْفَنَ فِي مَدْرَسَتِهِ، فَلَمْ
يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا الْيَوْمِ صُلِّيَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ
عَلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَى
الْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ الْبَالِسِيِّ الْمِصْرِيِّ - صَلَاةُ الْغَائِبِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مُنْتَصَفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ دَرَّسَ الْقَاضِي
شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ جَهْبَلٍ بِالْمَدْرَسَةِ الْبَادَرَائِيَّةِ،
عِوَضًا عَنْ شَيْخِنَا بُرْهَانِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، تُوُفِّيَ إِلَى
رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَخَذَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ مِنْهُ حِينَ
وَلِيَ الْبَادَرَائِيَّةَ - الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ،
وَحَضَرَهَا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشْرَهُ، وَنَزَلَ عَنْ خَطَابَةِ
كَفْرِ بَطْنَى لِلشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِسَلَّاتِيِّ الْمَالِكِيِّ،
فَخَطَبَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَاسِعَ عَشْرِهِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ قَدِمَ نَائِبُ حَلَبَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُوَنُ إِلَى دِمَشْقَ قَاصِدًا بَابَ
السُّلْطَانِ، فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ دِمَشْقَ، وَأَنْزَلَهُ بِدَارِهِ الَّتِي
عِنْدَ جَامِعِهِ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ مِصْرَ، فَغَابَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ.
وَفِي عَاشِرِ رَجَبٍ طُلِبَ الصَّاحِبُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ عُمَرَ ابْنِ
الْوَزِيرِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ السَّلْعُوسِ إِلَى مِصْرَ، فَوَلِيَ نَظَرَ
الدَّوَاوِينِ بِهَا حَتَّى مَاتَ عَنْ قَرِيبٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ سَيْفُ
الدِّينِ بُلْطِيٌّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الْقَيْمُرِيُّ، وَفِي
الْحُجَّاجِ زَوْجَةُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَفِي خِدْمَتِهَا
الطَّوَاشِيُّ شِبْلُ الدَّوْلَةِ كَافُورُ، وَصَدْرُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ،
وَصَلَاحُ الدِّينِ ابْنُ أَخِي الصَّاحِبِ تَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ، وَأَخُوهُ
شَرَفُ الدِّينِ، وَالشَّيْخُ عَلِيٌّ الْمَغْرِبِيُّ، وَالشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ
الضَّرِيرُ، وَجَمَاعَةٌ.
وَفِي بُكْرَةِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ شَوَّالٍ جَلَسَ الْقَاضِي ضِيَاءُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ رَبِيعَةَ لِلْحُكْمِ بِالْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ نِيَابَةً عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ الْقُونَوِيِّ، وَعِوَضًا عَنِ
الْفَخْرِ الْمِصْرِيِّ; بِحُكْمِ نُزُولِهِ عَنْ ذَلِكَ وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُ
تَاسِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ ذِي الْقِعْدَةِ بَعْدَ
أَذَانِ الْجُمُعَةِ صَعِدَ إِلَى مِنْبَرِ جَامِعِ الْحَاكِمِ بِمِصْرَ شَخْصٌ
مِنْ مَمَالِيكِ الْجَاوِلِيِّ يُقَالُ لَهُ: أَرْضَى، فَادَّعَى أَنَّهُ
الْمُهْدِيُّ، وَسَجَعَ سَجَعَاتٍ يَسِيرَةً عَلَى رَأْيِ الْكُهَّانِ، فَأُنْزِلَ
فِي شَرِّ خَيْبَةٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ حُضُورِ الْخَطِيبِ بِالْجَامِعِ
الْمَذْكُورِ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ وَمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَوَاخِرِ هَذِهِ
السَّنَةِ وَأَوَائِلِ الْأُخْرَى وُسِّعَتِ الطُّرُقَاتُ وَالْأَسْوَاقُ دَاخِلَ
دِمَشْقَ وَخَارِجَهَا، مِثْلَ سُوقِ السِّلَاحِ وَالرَّصِيفِ، وَالسُّوقِ
الْكَبِيرِ، وَبَابِ الْبَرِيدِ، وَمَسْجِدِ الْقَصَبِ إِلَى الزَّنْجِيلِيَّةِ،
وَخَارِجِ بَابِ الْجَابِيَةِ إِلَى مَسْجِدِ الذِّبَّانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَانَتْ تَضِيقُ عَنْ سُلُوكِ النَّاسِ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ
تَنْكِزَ، وَأَمَرَ بِإِصْلَاحِ الْقَنَوَاتِ، وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ
تَرْشِيشِ الْمَاءِ عَلَيْهِمْ بِالنَّجَاسَاتِ.
ثُمَّ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ رُسِمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ،
فَقُتِلَ مِنْهُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، ثُمَّ جُمِعُوا خَارِجَ بَابِ
الصَّغِيرِ مِمَّا يَلِي بَابَ كَيْسَانَ فِي الْخَنْدَقِ، وَفُرِّقَ بَيْنَ
الذُّكُورِ مِنْهُمْ وَالْإِنَاثِ; لِيَمُوتُوا سَرِيعًا وَلَا يَتَوَالَدُوا،
وَكَانَتِ الْجِيَفُ وَالْمَيْتَاتُ تُنْقَلُ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَرَاحَ النَّاسُ
مِنَ النَّجَاسَةِ مِنَ الْمَاءِ وَالْكِلَابِ، وَتَوَسَّعَتْ لَهُمُ
الطُّرُقَاتُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ حَضَرَ مَشْيَخَةَ
الشُّيُوخِ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
الْمَالِكِيُّ بَعْدَ وَفَاةِ قَاضِي الْقُضَاةِ الشَّافِعِيِّ الْقُونَوِيِّ،
وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِالْمَشْيَخَةِ بِهَا، وَحَضَرَهُ الْأَعْيَانُ، وَأُعِيدَ
إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ، مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ، نَجْمُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ
عَقِيلٍ الْبَالِسِيُّ الشَّافِعِيُّ، شَارِحُ " التَّنْبِيهِ "، وُلِدَ
سَنَةَ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ
وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، فَبَرَعَ فِيهَا، وَلَازَمَ ابْنَ دَقِيقِ
الْعِيدِ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ، وَدَرَّسَ بِالْمُعِزِّيَّةِ،
وَالطَّيْبَرِسِيَّةِ، وَجَامِعِ مِصْرَ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالْفَضِيلَةِ،
وَالدِّيَانَةِ، وَمُلَازَمَةِ الِاشْتِغَالِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ
رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبَكُ الشَّشْنَكِيرُ الرُّومِيُّ، كَانَ مِنْ
أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ، وَوَلِيَ الْحُجُوبِيَّةَ فِي وَقْتٍ، وَهُوَ الَّذِي
عَمَرَ الْقَنَاةَ بِالْقُدْسِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ شَمَالِيَّ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ
حَسَنَةٌ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ بِسُوقِ الْخَيْلِ النَّائِبُ وَالْأُمَرَاءُ.
مُحَدِّثُ الْيَمَنِ شَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ فَقِيهِ زَبِيدَ أَبِي
الْخَيْرِ بْنِ مَنْصُورٍ الشَّمَاخِيُّ الْمَذْحِجِيُّ، رَوَى عَنِ
الْمَكِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَبَلَغَتْ شُيُوخُهُ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَزْيَدَ،
وَكَانَ رُحْلَةَ تِلْكَ الْبِلَادِ وَمُفِيدَهَا الْخَيْرَ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي
صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
نَجْمُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَلَّمِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ هِلَالِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأَزْدِيُّ، أَحَدُ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ الْمَشْهُورِينَ، لَهُ بَيْتٌ كَبِيرٌ،
وَنَسَبٌ عَرِيقٌ، وَرِيَاسَةٌ بَاذِخَةٌ، وَكَرَمٌ زَائِدٌ، بَاشَرَ نَظَرَ
الْأَيْتَامِ مُدَّةً، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَتْ لَهُ فَضَائِلُ
وَفَوَائِدُ، وَلَهُ الثَّرْوَةُ الْكَثِيرَةُ. وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَمَاتَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضَحْوَةَ خَامِسِ رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ بِتُرْبَةٍ أَعَدَّهَا لِنَفْسِهِ، وَقَبْرٍ أَرْصَدَهُ،
وَكَتَبَ عَلَى قَبْرِهِ: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا الْآيَةَ [ الزُّمَرِ: 53 ] وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ "
الْمُوَطَّأَ " وَغَيْرَهُ.
الْأَمِيرُ بَكْتَمُرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَاجِبُ، صَاحِبُ الْحَمَّامِ
الْمَشْهُورِ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ فِي طَرِيقِ مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ مِنْ
نَاحِيَةِ الْمَيْدَانِ، كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْقَاهِرَةِ فِي عِشْرِينَ رَبِيعٍ
الْآخِرِ، وَدُفِنَ بِمَدْرَسَتِهِ الَّتِي أَنْشَاهَا إِلَى جَانِبِ دَارِهِ
هُنَاكَ.
الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ عِيسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَرَاجَى بْنِ سُلَيْمَانَ
السُّهْرَوَرْدِيُّ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ، لَهُ شِعْرٌ وَمَعْرِفَةٌ
بِالْأَلْحَانِ وَالْأَنْغَامِ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
بُشْرَاكَ يَا سَعْدُ هَذَا الْحَيُّ قَدْ بَانَا فَحِلَّهَا
تَسْتَظِلَّ الْأَيْكَ وَالْبَانَا مَنَازِلُ مَا وَرَدْنَا طِيبَ مَوْرِدِهَا
حَتَّى شَرِبْنَا كُئُوسَ الْمَوْتِ أَلْوَانًا مِتْنَا غَرَامًا وَشَوْقًا فِي
الْمَسِيرِ فَمُذْ
وَافَى نَسِيمُ اللِّقَا وَالْقُرْبِ أَحْيَانًا
تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ.
شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ بُرْهَانُ الدِّينِ الْفَزَارِيُّ، هُوَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ، شَيْخُ الْمَذْهَبِ وَعَلَمُهُ، وَمُفِيدُ
أَهْلِهِ، شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مُفْتِي الْفِرَقِ، بَقِيَّةُ السَّلَفِ،
بُرْهَانُ الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ
تَاجِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ
الْمُقْرِئِ الْمُفْتِي بُرْهَانِ الدِّينِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
سِبَاعِ بْنِ ضِيَاءٍ الْفَزَارِيُّ الْبَدْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِيهِ، وَأَعَادَ فِي حَلْقَتِهِ، وَبَرَعَ وَسَادَ
أَقْرَانَهُ وَسَائِرَ أَهْلِ زَمَانِهِ فِي دِرَايَةِ الْمَذْهَبِ وَنَقْلِهِ وَتَحْرِيرِهِ،
ثُمَّ كَانَ فِي مَنْصِبِ أَبِيهِ فِي التَّدْرِيسِ بِالْبَادَرَائِيَّةِ،
وَأَشْغَلَ الطَّلَبَةَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، فَانْتَفَعَ بِهِ
الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْمَنَاصِبُ الْكِبَارُ فَأَبَاهَا،
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاشَرَ الْخَطَابَةَ بَعْدَ عَمِّهِ الْعَلَّامَةِ شَرَفِ
الدِّينِ مُدَّةً، ثُمَّ تَرَكَهَا وَعَادَ إِلَى الْبَادَرَائِيَّةِ، وَعُرِضَ
عَلَيْهِ
قَضَاءُ الشَّامِ بَعْدَ ابْنِ صَصْرَى، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ
نَائِبُ الشَّامِ بِنَفْسِهِ وَأَعْوَانِهِ مِنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَقْبَلْ،
وَصَمَّمَ وَامْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ،
عَارِفًا بِزَمَانِهِ، مُسْتَغْرِقًا أَوْقَاتَهُ فِي الِاشْتِغَالِ
وَالْعِبَادَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا، كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ وَإِسْمَاعِ
الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَمَّعْنَا عَلَيْهِ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ "،
وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يُدَرِّسُ بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَهُ تَعْلِيقٌ
كَبِيرٌ عَلَى " التَّنْبِيهِ "، فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ مَا لَيْسَ
يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَلَهُ تَعْلِيقٌ عَلَى " مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ
" فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كِبَارٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ أَرَ شَافِعِيًّا مِنْ مَشَايِخِنَا مِثْلَهُ.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنَ الشَّكْلِ، عَلَيْهِ الْبَهَاءُ، وَالْجَلَالَةُ،
وَالْوَقَارُ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فِيهِ حِدَّةٌ ثُمَّ يَعُودُ قَرِيبًا،
وَكَرَمُهُ زَائِدٌ، وَإِحْسَانُهُ إِلَى الطَّلَبَةِ كَثِيرٌ، وَكَانَ لَا
يَقْتَنِي شَيْئًا، بَلْ يَصْرِفُ مُرَتَّبَهُ وَجَامِكِيَّةَ مَدْرَسَتِهِ فِي
مَصَالِحِهِ، وَقَدْ دَرَّسَ بِالْبَادَرَائِيَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ إِلَى عَامِهِ هَذَا، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
سَابِعِ جُمَادَى الْأُولَى بِالْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
عَقِبَ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ، وَحُمِلَتْ جَنَازَتُهُ عَلَى الرُّءُوسِ
وَأَطْرَافِ الْأَنَامِلِ، وَكَانَتْ حَافِلَةً، وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
وَعَمِّهِ وَذَوِيهِ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ مَجْدُ الدِّينِ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْحَرَّانِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ
سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ فِي دِمَشْقَ حِينَ انْتَقَلَ مَعَ
أَهْلِهِ إِلَيْهَا سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَلَازَمَهُ، وَانْتَفَعَ بِهِ، وَبَرَعَ فِي
الْفِقْهِ، وَصِحَّةِ النَّقْلِ، وَكَثْرَةِ الصَّمْتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ،
وَلَمْ يَزَلْ مُوَاظِبًا عَلَى جِهَاتِهِ وَوَظَائِفِهِ، لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا
- إِلَّا مِنْ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ - إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ تَاسِعِ
جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي هَذَا الْحِينِ تُوُفِّيَ الصَّاحِبُ شَرَفُ الدِّينِ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ
الْكَرِيمِ، الَّذِي كَانَ نَاظِرَ الدَّوَاوِينِ بِحَلَبَ ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى
نَظَرِهَا بِطَرَابُلُسَ، تُوُفِّيَ بِحَمَاةَ، وَكَانَ مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ
وَأَهْلِ الْخَيْرِ، وَفِيهِ كَرَمٌ وَإِحْسَانٌ، وَهُوَ وَالِدُ الْقَاضِي
نَاصِرِ الدِّينِ كَاتِبِ السِّرِّ بِدِمَشْقَ، وَقَاضِي الْعَسَاكِرِ
الْحَلَبِيَّةِ، وَالشَّيْخُ بِالسُّمَيْسَاطِيَّةِ، وَمُدَرِّسُ الْأَسْدِيَةِ
بِحَلَبَ، وَالنَّاصِرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ بِدِمَشْقَ.
الْقَاضِي مُعِينُ الدِّينِ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلَمِ الدِّينِ مَسْعُودِ بْنِ
أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ الْحَشِيشِ،
الْكَاتِبُ وَنَاظِرُ الْجَيْشِ بِمِصْرَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، ثُمَّ
بِدِمَشْقَ مُدَّةً طَوِيلَةً، مُسْتَقِلًّا وَمُشَارِكًا لِقُطْبِ الدِّينِ ابْنِ
شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ، وَكَانَ خَبِيرًا بِدِيوَانِ الْجَيْشِ
يَحْفَظُهُ عَلَى ذِهْنِهِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ جَيِّدَةٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ
وَالْأَدَبِ وَالْحِسَابِ، وَلَهُ نَظْمٌ جَيِّدٌ، وَفِيهِ تَوَدُّدٌ وَتَوَاضُعٌ،
تُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي نِصْفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ
الْفَخْرِ كَاتِبِ الْمَمَالِيكِ.
قَاضِي الْقُضَاةِ وَشَيْخُ الشُّيُوخِ عَلَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ الْقُونَوِيُّ التِّبْرِيزِيُّ الشَّافِعِيُّ،
وُلِدَ بِمَدِينَةِ قُونِيَّةَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ
تَقْرِيبًا، وَاشْتَغَلَ هُنَاكَ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ،
وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ، فَازْدَادَ بِهَا اشْتِغَالًا، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَتَصَدَّرَ لِلِاشْتِغَالِ بِجَامِعِهَا، وَدَرَّسَ
بِالْإِقْبَالِيَّةِ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَى مِصْرَ فَدَرَّسَ بِهَا فِي عِدَّةِ
مَدَارِسَ كِبَارٍ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الشُّيُوخِ بِهَا وَبِدِمَشْقَ، وَلَمْ
يَزَلْ يَشْتَغِلُ بِهَا وَيَنْفَعُ الطَّلَبَةَ إِلَى أَنْ قَدِمَ دِمَشْقَ
قَاضِيًا عَلَيْهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي
الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ يُحْرِزُ عُلُومًا كَثِيرَةً، مِنْهَا النَّحْوُ
وَالتَّصْرِيفُ، وَالْأَصْلَانِ، وَالْفِقْهُ، وَلَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِ
" كَشَّافِ الزَّمَخْشَرِيِّ "، وَفَهْمِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ إِنْصَافٌ
كَثِيرٌ، وَأَوْصَافُ حَسَنَةٌ، وَتَعْظِيمٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَخُرِّجَتْ لَهُ
مَشْيَخَةٌ سَمَّعْنَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ يَتَوَاضَعُ لِشَيْخِنَا الْمِزِّيِّ
كَثِيرًا، تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ بِالسَّهْمِ يَوْمَ سَبْتٍ بَعْدَ الْعَصْرِ
رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَدُفِنَ
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ لَاجِينُ الْمَنْصُورِيُّ الْحُسَامِيُّ، وَيُعْرَفُ
بِلَاجِينَ
الصَّغِيرِ، وَلِيَ الْبَرَّ بِدِمَشْقَ مُدَّةً، ثُمَّ
نِيَابَةَ غَزَّةَ، ثُمَّ نِيَابَةَ الْبِيرَةِ وَبِهَا مَاتَ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، وَكَانَ ابْتَنَى تُرْبَةً لِزَوْجَتِهِ ظَاهِرَ
بَابِ شَرْقِيٍّ فَلَمْ يَتَّفِقْ دَفْنُهُ بِهَا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ
أَرْضٍ تَمُوتُ [ لُقْمَانَ: 34 ].
الصَّاحِبُ عِزُّ الدِّينِ أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ مُؤَيَّدِ الدِّينِ أَبِي
الْمَعَالِي أَسْعَدَ بْنِ عِزِّ الدِّينِ أَبِي غَالِبٍ الْمُظَفَّرِ ابْنِ
الْوَزِيرِ مُؤَيَّدِ الدِّينِ أَبِي الْمَعَالِي بْنِ أَسْعَدَ ابْنِ الْعَمِيدِ
أَبِي يَعْلَى بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
التَّمِيمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ، أَحَدُ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ الْكِبَارِ،
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ
جَمَاعَةٍ، وَرَوَاهُ، وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ، وَلَهُ رِيَاسَةٌ بَاذِخَةٌ،
وَأَصَالَةٌ كَثِيرَةٌ، وَأَمْلَاكٌ هَائِلَةٌ كَافِيَةٌ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ
مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَزَلْ مَعَهُ صِنَاعَةُ الْوَظَائِفِ إِلَى أَنْ
أُلْزِمَ بِوَكَالَةِ بَيْتِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ بِالْوِزَارَةِ فِي سَنَةِ
عَشْرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ عُزِلَ، وَقَدْ صُودِرَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ،
وَكَانَتْ لَهُ مَكَارِمُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْكِبَارِ، وَلَهُ إِحْسَانٌ إِلَى
الْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَلَمْ يَزَلْ مُعَظَّمًا وَجِيهًا عِنْدَ
الدَّوْلَةِ مِنَ النُّوَّابِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ سَادِسَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
وَلَهُ فِي الصَّالِحِيَّةِ رِبَاطٌ حَسَنٌ بِمِئْذَنَةٍ، وَفِيهِ دَارُ حَدِيثٍ،
وَبِرٌّ وَصَدَقَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِالْأَرْبِعَاءِ، وَالْحُكَّامُ بِالْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
بِالَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ، وَوَلِيَ
مَكَانَهُ فِي رَابِعِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَلَمُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عِيسَى بْنِ بَدْرَانَ السَّعْدِيُّ الْأَخْنَائِيُّ الشَّافِعِيُّ،
وَقَدِمَ دِمَشْقَ فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ صُحْبَةَ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ تَنْكِزَ، وَقَدْ زَارَ الْقُدْسَ، وَحَضَرَ مَعَهُ تَدْرِيسَ
التَّنْكِزِيَّةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا، وَلَمَّا قَدِمَ دِمَشْقَ نَزَلَ
بِالْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ عَلَى الْعَادَةِ، وَدَرَّسَ بِهَا
وَبِالْغَزَّالِيَّةِ، وَاسْتَمَرَّ بِنِيَابَةِ الْمَنْفَلُوطِيِّ، ثُمَّ
اسْتَنَابَ زَيْنَ الدِّينِ بْنَ الْمُرَحِّلِ.
وَفِي صَفَرٍ بَاشَرَ شَرَفُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ الْخَطِيرِ شَدَّ
الْأَوْقَافِ، وَانْفَصَلَ عَنْهَا نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الزَّيْبَقِ إِلَى
وِلَايَةِ نَابُلُسَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ حَكَمَ الشَّيْخُ
زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلَمِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الشَّيْخِ
زَيْنِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ الْمُرَحِّلِ، نِيَابَةً عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ
عَلَمِ الدِّينِ الْأَخْنَائِيِّ بِالْعَادِلِيَّةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ شَرَعَ بِتَرْخِيمِ الْجَانِبِ
الشَّرْقِيِّ مِنَ الْأُمَوِيِّ لِيُشْبِهَ الْجَانِبَ الْغَرْبِيِّ، وَشَاوَرَ
ابْنُ مَرَاجِلٍ النَّائِبَ وَالْقَاضِيَ عَلَى جَمْعِ الْفُصُوصِ مِنْ سَائِرِ
الْجَامِعِ فِي الْحَائِطِ الْقِبْلِيِّ، فَرَسَمَا لَهُ بِذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
أَقُيِمَتِ الْجُمُعَةُ فِي إِيوَانِ الشَّافِعِيَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ
الصَّالِحِيَّةِبِمِصْرَ، وَكَانَ الَّذِي أَنْشَأَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ جَمَالُ
الدِّينِ نَائِبُ الْكَرَكِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي ذَلِكَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِحَلَبَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
النَّقِيبِ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ بْنِ الْبَارِزِيِّ، تُوُفِّيَ،
وَوَلِيَ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْمَجْدِ الْبَعْلَبَكِّيُّ قَضَاءَ طَرَابُلُسَ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ النَّقِيبِ.
وَفِي آخِرِ جُمَادَى الْأُولَى بَاشَرَ نِيَابَةَ الْحُكْمِ عَنِ الْأَخْنَائِيِّ
مُحْيِي الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ عِوَضًا عَنِ الْمَنْفَلُوطِيِّ، تُوُفِّيَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَقَفَ الْأَمِيرُ الْوَزِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ مُغْلَطَايْ
النَّاصِرِيُّ مَدْرَسَةً عَلَى الْحَنَفِيَّةِ، وَفِيهَا صُوفِيَّةٌ أَيْضًا،
وَدَرَّسَ بِهَا الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ التُّرْكُمَانِيِّ، وَسَكَنَهَا
الْفُقَهَاءُ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ زُيِّنَتِ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ،
وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِسَبَبِ
عَافِيَةِ السُّلْطَانِ مِنْ وَقْعَةٍ انْصَدَعَتْ مِنْهَا
يَدُهُ، وَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالْأَطِبَّاءِ بِمِصْرَ، وَأُطْلِقَتِ
الْحُبُوسُ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ عَلَى السُّلْطَانِ رُسُلٌ مِنَ الْفِرِنْجِ
يَطْلُبُونَ مِنْهُ بَعْضَ بِلَادِ السَّوَاحِلِ، فَقَالَ لَهُمْ: لَوْلَا أَنَّ
الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ. ثُمَّ سَيَّرَهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ
خَاسِئِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسِ رَجَبٍ حَضَرَ الدَّرْسَ الَّذِي أَنْشَأَهُ
الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ
بِمِحْرَابِهِمْ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدَرَّسَ بِهِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ
ابْنُ قَاضِي الْحِصْنِ، أَخُو قَاضِي الْقُضَاةِ بُرْهَانِ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ
الْحَقِّ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَانْصَرَفُوا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى عِنْدِ ابْنِ أَخِيهِ صَلَاحِ
الدِّينِ بِالْجَوْهَرِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا عِوَضًا عَنْ حَمِيهِ شَمْسِ
الدِّينِ ابْنِ الزَّكِيِّ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا.
وَفِي آخِرِ رَجَبٍ خُطِبَ بِالْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَلْمَاسُ الْحَاجِبُ، ظَاهِرَ الْقَاهِرَةِ بِالشَّارِعِ. وَخُطِبَ بِالْجَامِعِ
الَّذِي أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
قُوصُونُ بَيْنَ جَامِعِ طُولُونَ وَالصَّالِحِيَّةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ رَمَضَانَ، وَحَضَرَ السُّلْطَانُ وَأَعْيَانُ
الْأُمَرَاءِ، وَتَوَلَّى الْخُطْبَةَ يَوْمَئِذٍ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ
الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً،
وَبَغْلَةً، وَاسْتَقَرَّ فِي خَطَابَتِهِ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ شُكْرٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ السَّبْتِ حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ الْمُوسَاوِيُّ صِهْرُ بِلَبَانَ الْبِيرِيِّ،
وَقَاضِيهِ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمَجْدِ عَبْدِ اللَّهِ مُدَرِّسُ
الْإِقْبَالِيَّةِ، ثُمَّ تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَمِمَّنْ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ; رَضِيُّ الدِّينِ الْمِنْطِيقِيُّ
الْحَنَفِيُّ، وَالشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ الْأَرْدُبِيلِيُّ شَيْخُ
الْجَارُوخِيَّةِ، وَصَفِيُّ الدِّينِ بْنُ الْحَرِيرِيِّ، وَشَمْسُ الدِّينِ
ابْنُ خَطِيبِ يَبْرُودَ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ النَّيْرَبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمْ،
فَلَمَّا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمْ رَجَعُوا إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ،
فَبَيْنَمَا هُمْ فِي وَقْتِ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ إِذْ سَمِعُوا جَلَبَةَ
الْخَيْلِ مِنْ بَنِي حَسَنٍ وَعَبِيدِهِمْ، يَحْطِمُونَ النَّاسَ وَهُمْ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَثَارَ إِلَى قِتَالِهِمُ الْأَتْرَاكُ، فَاقْتَتَلُوا،
فَقُتِلَ أَمِيرٌ مِنَ الطَّبْلَخَانَاهْ بِمِصْرَ، يُقَالُ لَهُ: سَيْفُ
الدِّينِ أَلْدَمُرُ أَمِيرُ جَنْدَارَ، وَابْنُهُ خَلِيلٌ،
وَمَمْلُوكٌ لَهُ، وَأَمِيرُ عَشَرَةٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ التَّاجِيِّ،
وَجَمَاعَةٌ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ،
وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ فِي النَّاسِ، وَتَهَارَبُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ
بِأَبْيَارِ الزَّاهِرِ، وَمَا كَادُوا يَصِلُونَ إِلَيْهَا وَمَا أُكْمِلَتِ
الْجُمُعَةُ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَرَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى الرَّجْعَةِ إِلَى مَكَّةَ ;
لِلْأَخْذِ بِالثَّأْرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ كَرُّوا رَاجِعِينَ، وَتَبِعَهُمُ
الْعَبِيدُ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مُخَيَّمِ الْحَجِيجِ، وَكَادُوا يَنْهَبُونَ
النَّاسَ عَامَّةً جَهْرَةً، وَصَارَ أَهْلُ الْبَيْتِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ
يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَبَنُو الْأَتْرَاكِ هُمُ
الَّذِينَ يَنْصُرُونَ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ، وَيَكُفُّونَ الْأَذِيَّةَ
عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنْ
أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [ الْأَنْفَالِ: 34 ].
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْأَثِيرِ، كَاتِبُ السِّرِّ بِمِصْرَ، عَلِيُّ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَثِيرِ، الْحَلَبِيُّ الْأَصْلِ
ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، كَانَتْ لَهُ حُرْمَةٌ، وَوَجَاهَةٌ، وَأَمْوَالٌ،
وَثَرْوَةٌ، وَمَكَانَةٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، حَتَّى ضَرَبَهُ
الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَانْعَزَلَ عَنِ الْوَظِيفَةِ، وَبَاشَرَهَا
ابْنُ فَضْلِ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ. تُوُفِّيَ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ.
الْوَزِيرُ الْعَالِمُ أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَزْدِيُّ الْغِرْنَاطِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ، مِنْ
بَيْتِ الرِّيَاسَةِ وَالْحِشْمَةِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، قَدِمَ عَلَيْنَا إِلَى
دِمَشْقَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَهُوَ فِي
الْحَجِّ، سَمِعْتُ بِقِرَاءَتِهِ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " فِي تِسْعَةِ
مَجَالِسَ عَلَى الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ بْنِ الْعَسْقَلَانِيِّ، قِرَاءَةً
صَحِيحَةً، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَاهِرَةِ فِي ثَانِي عِشْرِينَ
الْمُحَرَّمِ، وَكَانَتْ لَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ،
وَالتَّارِيخِ، وَالْأُصُولِ، وَكَانَ عَالِيَ الْهِمَّةِ، شَرِيفَ النَّفْسِ،
مُحْتَرَمًا بِبِلَادِهِ جِدًّا، بِحَيْثُ إِنَّهُ يُوَلِّي الْمُلُوكَ
وَيَعْزِلُهُمْ، وَلَمْ يَلِ مُبَاشَرَةً وَلَا أَهْلُ بَيْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ
يُلَقَّبُ بِالْوَزِيرِ مَجَازًا.
شَيْخُنَا الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ الْخَاشِعُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ الصَّالِحِ الْعَابِدِ شَرَفِ الدِّينِ
أَبِي الْحَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ غَيْلَانَ الْبَعْلَبَكِّيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
إِمَامُ مَسْجِدِ السَّلَالِينِ بِدَارِ الْبِطِّيخِ الْعَتِيقَةِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ طَرَفَيِ النَّهَارِ،
وَعَلَيْهِ خَتَمْتُ الْقُرْآنَ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشَرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ،
وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ، وَالْعُبَّادِ الْأَخْيَارِ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسِ صَفَرٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ - أَعْنِي صَفَرًا - كَانَتْ وَفَاةُ
وَالِي الْقَاهِرَةِ قُدَيْدَارُ، وَلَهُ آثَارٌ غَرِيبَةٌ وَمَشْهُورَةٌ.
بَهَادُرُآصْ، الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ، رَأْسُ مَيْمَنَةِ الشَّامِ، سَيْفُ
الدِّينِ بَهَادُرُآصِ الْمَنْصُورِيُّ، أَكْبَرُ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ، وَمِمَّنْ
طَالَ عُمُرُهُ فِي الْحِشْمَةِ وَالثَّرْوَةِ، وَهُوَ مِمَّنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ
الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 14 ].
وَقَدْ كَانَ مُحَبَّبًا إِلَى الْعَامَّةِ، وَلَهُ بِرٌّ وَصَدَقَةٌ وَإِحْسَانٌ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعَ عَشَرَ صَفَرٍ بِدَارِهِ دَاخِلَ بَابِ
تُومَاءَ الْمَشْهُورَةِ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ
جَنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَهِيَ
مَشْهُورَةٌ أَيْضًا.
الْحَجَّارُ ابْنُ الشِّحْنَةِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْمُسْنِدُ الْمُعَمَّرُ
الرُّحْلَةُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ
نِعْمَةَ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَيَانٍ الدَّيْرُمَقْرَنِيُّ ثُمَّ
الصَّالِحِيُّ الْحَجَّارُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الشِّحْنَةِ، سَمَّعَ "
الْبُخَارِيَّ " عَلَى الزُّبَيْدِيِّ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
بِقَاسِيُونَ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ سَمَاعُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِمِائَةٍ،
فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَأَكْثَرُوا السَّمَاعَ عَلَيْهِ، فَقُرِئَ
" الْبُخَارِيُّ " عَلَيْهِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ
مَرَّةً، وَغَيْرَهُ، وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ فِي أَيَّامِ الشِّتْوِيَّاتِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ جُزْءٍ بِالْإِجَازَاتِ وَالسَّمَاعِ، وَسَمَاعُهُ مِنَ الزُّبَيْدِيِّ وَابْنِ اللَّتِّيِّ، وَلَهُ إِجَازَةٌ مِنْ بَغْدَادَ فِيهَا مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ شَيْخًا مِنَ الْعَوَالِي الْمُسْنِدِينِ، وَقَدْ مَكَثَ مُدَّةً مُقَدَّمَ الْحَجَّارِينَ نَحْوًا مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ كَانَ يَخْبِطُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ جَامَكِيَّتُهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَمَّعَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَلْبَسَهُ الْخِلْعَةَ بِيَدِهِ، وَسَمَّعَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ أُمَمٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ شَيْخًا حَسَنًا، بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، سَلِيمَ الصَّدْرِ، مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ وَقُوَاهُ، فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ مُحَقِّقًا وَزَادَ عَلَيْهَا; لِأَنَّهُ سَمِعَ " الْبُخَارِيَّ " مِنَ الزُّبَيْدِيِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَسْمَعَهُ هُوَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي تَاسِعِ صَفَرٍ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَسَمَّعْنَا عَلَيْهِ يَوْمَئِذٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَدْرَكَ مَوْتَ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ لَمَّا تُوُفِّيَ، وَالنَّاسُ يَسْمَعُهُمْ يَقُولُونَ: مَاتَ الْمُعَظَّمُ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعَظَّمِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ الْحَجَّارُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عِشْرِينَ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ عِنْدَ زَاوِيَةِ الرُّومِيِّ، بِجِوَارِ جَامِعِ الْأَفْرَمِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَبُو نَصْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الشَّحَّامِ،
اشْتَغَلَ بِبَلَدِهِ، ثُمَّ سَافَرَ وَأَقَامَ بِمَدِينَةِ سَرَايَ مِنْ
مَمْلَكَةِ أَزْبَكَ، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ،
فَدَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ ثُمَّ بِالْجَارُوخِيَّةِ،
وَأُضِيفَ إِلَيْهِ مَشْيَخَةُ رِبَاطِ الْقَصْرِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ
لِزَوْجِ ابْنَتِهِ نُورِ الدِّينِ الْأَرْدُبِيلِيِّ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَكَانَ يَعْرِفُ طَرَفًا مِنَ الْفِقْهِ وَالطِّبِّ.
الشَّيْخُ إِبْرَاهِيمُ الْهُدْمَةُ، أَصْلُهُ كُرْدِيٌّ مِنْ بِلَادِ
الْمَشْرِقِ، فَقَدِمَ الشَّامَ، وَأَقَامَ بَيْنَ الْقُدْسِ وَالْخَلِيلِ، فِي
أَرْضٍ كَانَتْ مَوَاتًا، فَأَحْيَاهَا وَغَرَسَهَا وَزَرَعَ فِيهَا أَنْوَاعًا،
وَكَانَ يُقْصَدُ لِلزِّيَارَةِ، وَيَحْكِي النَّاسُ عَنْهُ كَرَامَاتٍ صَالِحَةٍ،
وَقَدْ بَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَتَزَوَّجَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَرُزِقَ أَوْلَادًا
صَالِحِينَ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
السِّتُّ صَاحِبَةُ التُّرْبَةِ بِبَابِ الْخَوَّاصِينَ الْخُونْدَةُ
الْمُعَظَّمَةُ الْمُحَجَّبَةُ الْمُحْتَرَمَةُ، سُتَيْتَةُ بِنْتُ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ كُوكَايْ الْمَنْصُورِيِّ، زَوْجَةُ نَائِبِ الشَّامِ تَنْكِزَ،
تُوُفِّيَتْ بِدَارِ الذَّهَبِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهَا بِالْجَامِعِ ثَالِثَ رَجَبٍ،
وَدُفِنَتْ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي أَمَرَتْ بِإِنْشَائِهَا عِنْدَ بَابِ
الْخَوَّاصِينَ، وَفِيهَا مَسْجِدٌ، وَإِلَى جَانِبِهَا رِبَاطٌ لِلنِّسَاءِ
وَمَكْتَبٌ لِلْأَيْتَامِ، وَفِيهَا صَدَقَاتٌ، وَبِرٌّ،
وَصِلَاتٌ، وَقُرَّاءٌ عَلَيْهَا، كُلُّ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِهِ، وَكَانَتْ قَدْ
حَجَّتْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، رَحِمَهَا اللَّهُ.
قَاضِي قُضَاةِ طَرَابُلُسَ، شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَحْمُودٍ
الْبَعْلَبَكِّيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَجْدِ الشَّافِعِيِّ، اشْتَغَلَ
بِبَلَدِهِ، وَبَرَعَ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً
يُدَرِّسُ بِالْقُوصِيَّةِ بِالْجَامِعِ، وَيَؤُمُّ بِمَدْرَسَةِ أُمِّ
الصَّالِحِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى قَضَاءِ طَرَابُلُسَ، فَأَقَامَ بِهَا
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي سَادِسِ رَمَضَانَ، وَتَوَلَّاهَا
بَعْدَهُ وَلَدُهُ تَقِيُّ الدِّينِ، وَهُوَ أَحَدُ الْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ،
وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ بَعْدَهُ حَتَّى عُزِلَ عَنْهَا وَأُخْرِجَ مِنْهَا.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
أَبِي الْقَاسِمِ الْحُوَّارِيُّ، شَيْخُ طَائِفَتِهِمْ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُ
زَاوِيَتِهِمْ بِحُوَّارَ، كَانَ عِنْدَهُ تَفَقُّهٌ وَزَهَادَةٌ، وَيُزَارُ،
وَلَهُ أَصْحَابٌ يَخْدِمُونَهُ، وَبَلَغَ السَّبْعِينَ سَنَةً، وَخَرَجَ
لِتَوْدِيعِ بَعْضِ أَهْلِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكَرَكِ مِنْ نَاحِيَةِ الْحِجَازِ
فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ هُنَاكَ، فَمَاتَ فِي أَوَّلِ ذِي الْقِعْدَةِ.
الشَّيْخُ حَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْأَنْصَارِيُّ الضَّرِيرُ، كَانَ
بِفَرْدِ عَيْنٍ أَوَّلًا،
ثُمَّ عَمِيَ جُمْلَةً، وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُكْثِرُ
التِّلَاوَةَ، ثُمَّ انْقَطَعَ إِلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ، وَكَانَ
يَحْضُرُ السَّمَاعَاتِ وَيَسْتَمِعُ وَيَتَوَاجَدُ، وَلِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ
فِيهِ اعْتِقَادٌ عَلَى ذَلِكَ; لِمُجَاوَرَتِهِ فِي الْجَامِعِ، وَكَثْرَةِ
تِلَاوَتِهِ وَصَلَاتِهِ، وَاللَّهُ يُسَامِحُهُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ فِي
الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِالْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
مُحْيِي الدِّينِ أَبُو الثَّنَاءِ مَحْمُودُ ابْنُ الصَّدْرِ شَرَفِ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيُّ، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ بِبُسْتَانِهِ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَهُوَ جَدُّ الصَّدْرِ جَلَالِ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَأَخِيهِ عَلَاءِ الدِّينِ، وَهُمْ ثَلَاثَتُهُمْ
رُؤَسَاءُ.
الشَّابُّ الرَّئِيسُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ الْقَاضِي قُطْبِ الدِّينِ
مُوسَى ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ، نَاظِرُ الْجَيْشِ أَبُوهُ، نَشَأَ هَذَا
الشَّابُّ فِي نِعْمَةٍ، وَحِشْمَةٍ، وَتَرَفُّهٍ، وَعِشْرَةٍ، وَاجْتِمَاعٍ
بِالْأَصْحَابِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ،
فَاسْتَرَاحَ مِنْ حِشْمَتِهِ وَعِشْرَتِهِ إِنْ لَمْ تَكُنْ وَبَالًا عَلَيْهِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ تُجَاهَ النَّاصِرِيَّةِ بِالسَّفْحِ، وَتَأَسَّفَ
عَلَيْهِ أَبَوَاهُ وَمَعَارِفُهُ، وَأَصْحَابُهُ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَدْ
ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ عَبِيدِ مَكَّةَ إِلَى الْحُجَّاجِ، وَأَنَّهُ قُتِلَ
مِنَ الْمِصْرِيِّينَ أَمِيرَانِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ السُّلْطَانَ عَظُمَ
عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَامْتَنَعَ مِنَ الْأَكْلِ عَلَى السِّمَاطِ - فِيمَا يُقَالُ -
أَيَّامًا، ثُمَّ جَرَّدَ سِتَّمِائَةِ فَارِسٍ، وَقِيلَ: أَلْفًا، وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ، وَأَرْسَلَ إِلَى الشَّامِ أَنْ يُجَرَّدَ مُقَدَّمٌ آخَرُ، فَجُرِّدَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ، وَخَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ
يَوْمَ دَخَلَهَا الرَّكْبُ فِي سَادِسِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ، وَأُمِرَ أَنْ
يَسِيرَ إِلَى أَيْلَةَ لِيَجْتَمِعَ مَعَ الْمِصْرِيِّينَ، وَأَنْ يَسِيرُوا
جَمِيعًا إِلَى الْحِجَازِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعِ صَفَرٍ وَصَلَ نَهْرُ السَّاجُورِ إِلَى
مَدِينَةِ حَلَبَ، وَخَرَجَ نَائِبُ حَلَبَ أَرْغُونُ، وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ
مُشَاةً إِلَيْهِ فِي تَهْلِيلٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَحْمِيدٍ، يَلْتَقُونَ هَذَا
النَّهْرَ، وَلَمْ يُمَكِّنْ أَحَدًا مِنَ الْمَغَانِي وَلَا غَيْرِهِمْ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفَرِحَ النَّاسُ بِوُصُولِهِ
إِلَيْهِمْ فَرَحًا شَدِيدًا، وَكَانُوا قَدْ سَعَوْا فِي تَخْلِيصِهِ مِنْ
أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ احْتَاجُوا فِيهَا إِلَى نَقْبِ بَعْضِ الْجِبَالِ، وَفِيهَا
صُخُورٌ ضِخَامٌ صُمٌّ، وَعَقَدُوا لَهُ قَنَاطِرَ عَلَى الْأَوْدِيَةِ، وَمَا
وَصَلَ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ، وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَحِينَ رَجَعَ نَائِبُ حَلَبَ أَرْغُونُ مَرِضَ
مَرَضًا شَدِيدًا وَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ وَسَّعَ تَنْكِزُ الطُّرُقَاتِ
بِالشَّامِ ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَخَرَّبَ كُلَّ مَا يُضَيِّقُ
الطُّرُقَاتِ.
وَفِي ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيُّ
خِلْعَةً سَنِيَّةً، لِمُبَاشَرَةِ نَظَرِ دِيوَانِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ،
وَدِيوَانِ نَظَرِ الْمَارَسْتَانِ، عِوَضًا عَنْ أَمِينِ الدِّينِ بْنِ الْعَسَّالِ،
وَرَجَعَ ابْنُ الْعَسَّالِ إِلَى حِجَابَةِ الدِّيوَانِ الْكَبِيرِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ
الشِّيرَازِيِّ خِلْعَةَ نَظَرِ الْأُمَوِيِّ عِوَضًا عَنِ ابْنِ مَرَاجِلٍ;
عُزِلَ عَنْهُ لَا إِلَى بَدَلٍ، وَبَاشَرَ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ الْفُوَيْرِهِ
نَظَرَ الْأَسْرَى بَدَلًا عَنِ ابْنِ الشِّيرَازِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ الْقَاضِي شَرَفُ
الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ حَسَنٍ ابْنِ الْحَافِظِ أَبِي
مُوسَى عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ -
خِلْعَةَ قَضَاءِ الْحَنَابِلَةِ، عِوَضًا عَنْ عِزِّ الدِّينِ بْنِ التَّقِيِّ
سُلَيْمَانَ، تُوُفِّيَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَرَكِبَ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ إِلَى
الْجَامِعِ، فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ تَحْتَ النَّسْرِ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ
وَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى الْجَوْزِيَّةِ فَحَكَمَ بِهَا، ثُمَّ إِلَى
الصَّالِحِيَّةِ وَهُوَ لَابِسٌ الْخِلْعَةَ، وَاسْتَنَابَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ
أَخِيهِ التَّقِيَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ.
وَفِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ اجْتَازَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا بِدِمَشْقَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ نَائِبًا
عَلَيْهَا، عِوَضًا عَنْ أَرْغُونَ - تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ - وَقَدْ
تَلَقَّاهُ النَّاسُ وَالْجَيْشُ.
وَفِي مُسْتَهَلٍّ جُمَادَى الْأُولَى حَضَرَ الْأَمِيرُ الشَّرِيفُ رُمَيْثَةُ
بْنُ أَبِي نُمِيٍّ إِلَى مَكَّةَ، فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِإِمْرَةِ مَكَّةَ مِنْ
جِهَةِ السُّلْطَانِ صُحْبَةَ التَّجْرِيدَةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ، وَبَايَعَهُ
الْأُمَرَاءُ الْمُجَرَّدُونَ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ
كَانَ وَصُولُ التَّجَارِيدِ إِلَى مَكَّةَ فِي سَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
فَأَقَامُوا بِبَابِ الْمُعَلَّى، وَحَصَلَ لَهُمْ خَيْرٌ كَثِيرٌ مِنَ الصَّلَاةِ
وَالطَّوَافِ، وَكَانَتِ الْأَسْعَارُ رَخِيصَةً مَعَهُمْ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ سَادِسِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي
عِزِّ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ
بِوِكَالَةِ السُّلْطَانِ، وَنَظَرِ جَامِعِ طُولُونَ، وَنَظَرِ النَّاصِرِيَّةِ،
وَهَنَّأَهُ النَّاسُ - عِوَضًا عَنِ التَّاجِ أَبِي إِسْحَاقَ عَبْدِ
الْوَهَّابِ، تُوُفِّيَ وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تَوَلَّى
عِمَادُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ الْأَخْنَائِيُّ تَدْرِيسَ
الصَّارِمِيَّةِ وَهُوَ صَغِيرٌ، بَعْدَ وَفَاةِ النَّجْمِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْبَعْلَبَكِّيِّ الشَّافِعِيِّ، وَحَضَرَهَا فِي رَجَبٍ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ النَّاسُ خِدْمَةً لِأَبِيهِ.
وَفِي حَادِي عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ رَجَعَتِ التَّجْرِيدَةِ مِنَ
الْحِجَازِ صُحْبَةَ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا، وَكَانَتْ
غَيْبَتُهُمْ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَأَيَّامًا، وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ شَهْرًا
وَاحِدًا وَيَوْمًا وَاحِدًا، وَحَصَلَ لِلْعَرَبِ مِنْهُمْ رُعْبٌ شَدِيدٌ
وَخَوْفٌ أَكِيدٌ، وَعَزَلُوا عَنْ مَكَّةَ عُطَيْفَةَ، وَوَلَّوْا أَخَاهُ
رُمَيْثَةَ، وَصَلَّوْا وَطَافُوا وَاعْتَمَرُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ هُنَاكَ
لِيَحُجَّ.
وَفِي ثَانِي رَجَبٍ خُلِعَ عَلَى ابْنِ أَبِي الطَّيِّبِ بِنَظَرِ دِيوَانِ
بَيْتِ الْمَالِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ السَّابِقِ، تُوُفِّيَ.
وَفِي أَوَائِلِ شَعْبَانَ حَصَلَ بِدِمَشْقَ هَوَاءٌ شَدِيدٌ مُزْعِجٌ، كَسَرَ
كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ وَالْأَغْصَانِ، وَأَلْقَى بَعْضَ الْجُدْرَانِ
وَالْحِيطَانِ، وَسَكَنَ بَعْدَ سَاعَةٍ بِإِذْنِ اللَّهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
تَاسِعِهِ سَقَطَ بَرَدٌ كِبَارٌ مِقْدَارَ بَيْضِ الْحَمَامِ، وَكَسَرَ بَعْضَ
جَامَاتِ الْحَمَامِ. وَفِي شَهْرِ شَعْبَانَ هَذَا خُطِبَ بِالْمَدْرَسَةِ
الْمُعِزِّيَةِ عَلَى شَاطِئِ النِّيلِ، أَنْشَأَهَا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طُقُزْدَمُرَ أَمِيرُ مَجْلِسِ النَّاصِرِيِّ، وَكَانَ الْخَطِيبُ بِهَا عِزَّ
الدِّينِ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ الْفُرَاتِ الْحَنَفِيَّ.
وَفِي نِصْفِ رَمَضَانَ قَدِمَ الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
سَالِمٍ اللَّخْمِيُّ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ الْمَالِكِيُّ، نَزَلَ عِنْدَ
الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ، وَسَمَّعَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ مُصَنَّفَاتِهِ،
وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ عَامَئِذٍ مَعَ الشَّامِيِّينَ، وَزَارَ الْقُدْسَ قَبْلَ
وُصُولِهِ إِلَى دِمَشْقَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وُطِّئَ سُوقُ الْخَيْلِ، وَرُكِّبَتْ
فِيهِ حَصْبَاءُ كَثِيرَةٌ، وَعَمِلَ فِيهِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ نَفْسٍ
فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ حَتَّى سَاوَوْهُ وَأَصْلَحُوهُ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ
ذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ وَمُلْقَاتٌ. وَفِيهِ أُصْلِحَ سُوقُ
الدَّقِيقِ ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ إِلَى الثَّابِتِيَّةِ، وَسُقِفَ عَلَيْهِ
السُّقُوفُ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ عِزُّ الدِّينِ أَيْبَكُ أَمِيرُ عَلَمَ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ
الظَّاهِرِيُّ. وَمِمَّنْ حَجَّ فِيهِ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ، وَابْنُ
أَبِي الْيُسْرِ، وَابْنُ جُمْلَةَ، وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ، وَالصَّدْرُ
الْمَالِكِيُّ، وَشَرَفُ الدِّينِ الْكَفْرِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَالْبَهَاءُ بْنُ
إِمَامِ الْمَشْهَدِ، وَجَلَالُ الدِّينِ الْأَعْيَالِيُّ نَاظِرُ الْأَيْتَامِ،
وَشَمْسُ الدِّينِ الْكُرْدِيُّ، وَفَخْرُ الدِّينِ الْبَعْلَبَكِّيُّ، وَمَجْدُ
الدِّينِ بْنُ أَبِي الْمَجْدِ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ،
وَشَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَطِيبِ يَبْرُودَ، وَشَرَفُ الدِّينِ قَاسِمٌ
الْعَجْلُونِيُّ، وَتَاجُ الدِّينِ بْنُ الْفَاكِهَانِيِّ، وَالشَّيْخُ عُمَرُ
السَّلَامِيُّ، وَكَاتِبُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ كَثِيرٍ، وَآخَرُونَ مِنْ سَائِرِ
الْمَذَاهِبِ، حَتَّى كَانَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ يَقُولُ: اجْتَمَعَ فِي
رَكْبِنَا هَذَا أَرْبَعُمِائَةِ فَقِيهٍ، وَأَرْبَعُ مَدَارِسَ، وَخَانِقَاهْ،
وَدَارُ حَدِيثٍ. وَقَدْ كَانَ مَعَنَا مِنَ الْمُفْتِينَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَفْسًا،
وَكَانَ فِي الْمِصْرِيِّينَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ،
مِنْهُمْ; قَاضِي الْمَالِكِيَّةِ تَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ، وَفَخْرُ
الدِّينِ النُّوَيْرِيُّ، وَشَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْحَارِثِيِّ، وَمَجْدُ
الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَالشَّيْخُ مُحَمَّدٌ
الْمُرْشِدِيُّ، وَفِي رَكْبِ الْعِرَاقِ الشَّيْخُ أَسَدٌ الْمَرَاوِحِيُّ
وَكَانَ مِنَ الْمَشَاهِيرِ، وَفِي الشَّامِيِّينَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ
الْوَاسِطِيُّ صُحْبَةَ ابْنِ التُّرْكُمَانِيِّ، وَأَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ
مُغْلَطَايْ الْجَمَّالِيُّ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا فِي وَقْتٍ، وَكَانَ إِذْ
ذَاكَ مَرِيضًا. وَمَرَرْنَا بِعَيْنِ تَبُوكَ وَقَدْ أُصْلِحَتْ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَصِينَتْ مِنْ دَوْسِ الْجِمَالِ وَالْجَمَّالِينَ، وَصَارَ مَاؤُهَا
فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالصَّفَاءِ وَالطِّيبِ، وَكَانَتِ الْوَقْفَةُ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، وَمُطِرْنَا بِالطَّوَافِ، وَكَانَتْ سَنَةً مُرْخَصَةً آمِنَةً.
وَفِي نِصْفِ ذِي الْحِجَّةِ رَجَعَ تَنْكِزُ مِنْ نَاحِيَةِ قَلْعَةِ جَعْبَرٍ،
وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ أَكْثَرُ الْجَيْشِ الشَّامِيِّ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْمُقَدَّمِينَ
الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَأَظْهَرَ أُبَّهَةً عَظِيمَةً فِي تِلْكَ النَّوَاحِي.
وَفِي سَادِسِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَ تَوْقِيعُ الْقَاضِي عَلَاءِ
الدِّينِ بْنِ الْقَلَانِسِيِّ بِجَمِيعِ جِهَاتِ أَخِيهِ جَمَالِ الدِّينِ،
بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، مُضَافًا إِلَى جِهَاتِهِ، فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ
الْمَنَاصِبِ الْكِبَارِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ مِنَ الرُّؤَسَاءِ فِي
هَذِهِ الْأَعْصَارِ، فَمِنْ ذَلِكَ وَكَالَةُ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَضَاءُ
الْعَسْكَرِ، وَكِتَابَةُ الدَّسْتِ، وَوَكَالَةُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ، وَنَظَرُ
الْمَارَسْتَانِ، وَنَظَرُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَظَرُ دِيوَانِ السَّعِيدِ،
وَتَدْرِيسُ الْأَمِينِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَالْعَصْرُونِيَّةِ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
قَاضِي الْقُضَاةِ عِزُّ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ
سُلَيْمَانَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ ابْنِ الشَّيْخِ أَبِي
عُمَرَ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ عَلَى وَالِدِهِ،
وَاسْتَنَابَهُ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ، فَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ مُسَلَّمٍ لَزِمَ
بَيْتَهُ يَحْضُرُ دَرْسَ الْجَوْزِيَّةِ وَدَارَ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةَ
بِالْجَبَلِ وَيَأْوِي إِلَى بَيْتِهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ مُسَلَّمٍ وَلِيَ
قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ بَعْدَهُ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَكَانَ فِيهِ
تَوَاضُعٌ وَتَوَدُّدٌ، وَقَضَاءٌ لِحَوَائِجِ النَّاسِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ صَفَرٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَطِيرًا، وَمَعَ هَذَا
شَهِدَ النَّاسُ جَنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ،
وَوَلِيَ بَعْدَهُ نَائِبُهُ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ الْحَافِظِ، وَقَدْ قَارَبَ
الثَّمَانِينَ.
وَفِي نِصْفِ صَفَرٍ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قِجْلِيسُ سَيْفُ
النِّقْمَةِ، وَقَدْ كَانَ سَمَّعَ عَلَى الْحَجَّارِ وَوَزِيرَةَ بِالْقُدْسِ
الشَّرِيفِ.
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُرْغُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الدَّوَدَارُ النَّاصِرِيُّ، وَقَدْ عَمِلَ عَلَى نِيَابَةِ مِصْرَ مُدَّةً
طَوِيلَةً، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى نِيَابَةِ
حَلَبَ، فَمَكَثَ بِهَا مُدَّةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ بِهَا فِي سَابِعَ عَشَرَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ
اشْتَرَاهَا بِحَلَبَ وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ فَهْمٌ وَفِقْهٌ،
وَفِيهِ دِيَانَةٌ وَاتِّبَاعٌ لِلشَّرِيعَةِ، وَقَدْ سَمَّعَ "
الْبُخَارِيَّ " عَلَى الْحَجَّارِ، وَكَتَبَهُ جَمِيعَهُ بِخَطِّهِ،
وَأَذِنَ لَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْإِفْتَاءِ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ وَهُوَ بِمِصْرَ، تُوُفِّيَ وَلَمْ
يُكْمِلِ الْخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَكْرَهُ اللَّهْوَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَلَمَّا خَرَجَ يَلْتَقِي نَهْرَ السَّاجُورِ خَرَجَ فِي ذُلٍّ وَمَسْكَنَةٍ،
وَخَرَجَ مَعَهُ الْأُمَرَاءُ كَذَلِكَ مُشَاةً فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ
وَتَحْمِيدٍ، وَمَنَعَ الْمَغَانِيَ مِنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ فِي ذَلِكَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ سَلِيمِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَذْرَعِيُّ الشَّافِعِيُّ، تَنَقَّلَ فِي وِلَايَةِ
الْأَقْضِيَةِ بِمَدَارِسَ كَثِيرَةٍ مُدَّةَ سِتِّينَ سَنَةً، وَحَكَمَ
بِطَرَابُلُسَ، وَنَابُلُسَ، وَعَجْلُونَ، وَحِمْصَ، وَزُرَعَ، وَغَيْرِهَا،
وَحَكَمَ بِدِمَشْقَ نِيَابَةً عَنِ الْقُونَوِيِّ نَحْوًا مِنْ شَهْرٍ، وَكَانَ
عِنْدَهُ فَضِيلَةٌ، وَلَهُ نَظْمٌ كَثِيرٌ، نَظَمَ " التَّنْبِيهَ "
فِي نَحْوِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ بَيْتٍ، وَتَصْحِيحَهُ فِي أَلْفٍ وَثَلَاثِمِائَةِ
بَيْتٍ، وَلَهُ مَدَائِحُ، وَمُوَالِيَا، وَأَزْجَالٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ
كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالرَّمْلَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَهُ عِدَّةُ
أَوْلَادٍ مِنْهُمْ; عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَحَدُ الْفُضَلَاءِ، وَهُوَ مِمَّنْ
جَمَعَ بَيْنَ عِلْمَيِ الشَّرِيعَةِ وَالطَّبِيعَةِ.
أَبُو دَبُّوسٍ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَغْرِبِيُّ،
تَمَلَّكَ فِي وَقْتٍ بِلَادَ قَابِسَ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
فَانْتَزَعُوهَا مِنْهُ، فَقَصَدَ مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا، وَأُقْطِعَ إِقْطَاعًا،
وَكَانَ يَرْكَبُ مَعَ الْجُنْدِ فِي زِيِّ الْمَغَارِبَةِ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا،
وَكَانَ حَسَنَ الْهَيْئَةِ، يُوَاظِبُ عَلَى الْخِدْمَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
فِي جُمَادَى الْأُولَى.
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ضِيَاءُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ
قُطْبِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ
السُّنْبَاطِيُّ الشَّافِعِيُّ، مُدَرِّسُ الْحُسَامِيَّةِ، وَنَائِبُ الْحُكْمِ
بِمِصْرَ، وَأَعَادَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ، وَتَفَقَّهَ عَلَى وَالِدِهِ،
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَتَوَلَّى الْحُسَامِيَّةَ بَعْدَهُ نَاصِرُ
الدِّينِ التَّبْرِيزِيُّ.
الصَّدْرُ الْكَبِيرُ تَاجُ الدِّينِ الْكَارِمِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الدَّمَامِينِيِّ، كَانَ مِنْ أَكَابِرِ التُّجَّارِ الْكَارِمِيَّةِ بِمِصْرَ،
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، يُقَالُ: إِنَّهُ خَلَفَ مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ، غَيْرَ الْبَضَائِعِ، وَالْأَثَاثِ، وَالْأَمْلَاكِ.
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
مُصْطَفَى بْنِ سُلَيْمَانَ
بْنِ الْمَارْدِينِيِّ التُّرْكُمَانِيُّ الْحَنَفِيُّ، شَرَحَ
فَخْرُ الدِّينِ هَذَا " الْجَامِعَ الْكَبِيرَ "، وَأَلْقَاهُ دُرُوسًا
فِي مِائَةِ كَرَّاسٍ، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ وَلَهُ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً،
كَانَ شَيْخًا عَالِمًا فَاضِلًا، مُوَقَّرًا فَصِيحًا، حَسَنَ الْمُفَاكَهَةِ،
وَلَهُ نَظْمٌ حَسَنٌ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْمَنْصُورِيَّةَ وَلَدُهُ تَاجُ
الدِّينِ.
تَقِيُّ الدِّينِ عُمَرُ بْنُ الْوَزِيرِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ السَّلْعُوسِ، كَانَ صَغِيرًا لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ،
ثُمَّ نَشَأَ فِي الْخَدَمِ، ثُمَّ طَلَبَهُ السُّلْطَانُ فِي آخِرِ وَقْتٍ
فَوَلَّاهُ نَظَرَ الدَّوَاوِينِ بِمِصْرَ، فَبَاشَرَهُ يَوْمًا وَاحِدًا،
وَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ يَوْمَ الْخَمِيسِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
عِنْدِهِ وَقَدِ اضْطَرَبَ حَالُهُ، فَمَا وَصَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ إِلَّا فِي
مِحَفَّةٍ، وَمَاتَ بُكْرَةَ يَوْمِ السَّبْتِ سَادِسِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدِهِ
بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً.
جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ جَمَالِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرِ اللَّهِ بْنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ
أَسَدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ، ابْنُ الْقَلَانِسِيِّ، قَاضِي الْعَسَاكِرِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ
الْمَالِ، وَمُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ وَغَيْرِهَا، حَفِظَ " التَّنْبِيهَ
"، ثُمَّ " الْمُحَرَّرَ " لِلرَّافِعِيِّ، وَكَانَ
يَسْتَحْضِرُهُ، وَاشْتَغَلَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ،
وَتَقَدَّمَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ
وَالرِّئَاسَةِ، وَبَاشَرَ جِهَاتٍ كِبَارًا، وَدَرَّسَ فِي أَمَاكِنَ، وَتَفَرَّدَ فِي وَقْتِهِ بِالرِّئَاسَةِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَانَ فِيهِ تَوَاضُعٌ، وَحُسْنُ سَمْتٍ، وَتَوَدُّدٌ، وَإِحْسَانٌ، وَبِرٌّ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَهُوَ مِمَّنْ أُذِنَ لَهُ فِي الْإِفْتَاءِ، وَكَتَبَ إِنْشَاءَ ذَلِكَ وَأَنَا حَاضِرٌ عَلَى الْبَدِيهَةِ، فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ التَّعْبِيرَ، وَعَظُمَ فِي عَيْنِي، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِالسَّفْحِ، وَقَدْ سَمَّعَ الْحَدِيثَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَخَرَّجَ لَهُ فَخْرُ الدِّينِ الْبَعْلَبَكِّيُّ مَشْيَخَةً سَمَّعْنَاهَا عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ.
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمْ هُمْ. وَفِي أَوَّلِهَا فُتِحَتِ
الْقَيْسَارِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ مَسْبِكَ الْفُولَاذِ جَوَّا بَابِ الصَّغِيرِ،
حَوَّلَهَا تَنْكِزُ قَيْسَارِيَّةً بِبِرْكَةٍ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ذَكَرَ الدَّرْسَ بِالْأَمِينِيَّةِ
وَالظَّاهِرِيَّةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ
جَمَالِ الدِّينِ، وَذَكَرَ ابْنُ أَخِيهِ أَمِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
جَمَالِ الدِّينِ الدَّرْسَ بِالْعَصْرُونِيَّةِ، تَرَكَهَا لَهُ عَمُّهُ،
وَحَضَرَ عِنْدَهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ.
وَفِي تَاسِعِ الْمُحَرَّمِ جَاءَ إِلَى حِمْصَ سَيْلٌ عَظِيمٌ غَرِقَ بِسَبَبِهِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ،
وَمِمَّنْ مَاتَ فِيهِ نَحْوُ مِائَتَيِ امْرَأَةٍ بِحَمَّامِ النَّائِبِ، كُنْ
مُجْتَمِعَاتٍ عَلَى عَرُوسٍ أَوْ عَرُوسَيْنِ فَهَلَكْنَ جَمِيعًا.
وَفِي صَفَرٍ أَمَرَ تَنْكِزُ بِبَيَاضِ الْجُدْرَانِ الْمُقَابِلَةِ لِسُوقِ
الْخَيْلِ إِلَى بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ خَانِ الظَّاهِرِ،
فَغَرِمَ عَلَيْهِ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَصَلَ
تَابُوتُ لَاجِينَ الصَّغِيرِ مِنَ الْبِيرَةِ، فَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ خَارِجَ
بَابِ شَرْقِيٍّ.
وَفِي تَاسِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ حَضَرَ الدَّرْسَ
بِالْقَيْمَازِيَّةِ عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ الْحَنَفِيُّ، عِوَضًا عَنِ
الشَّيْخِ رَضِيِّ الدِّينِ الْمَنْطِيقِيِّ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي أَوَّلِ رَبِيعٍ الْآخِرِ خُلِعَ عَلَى الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ عَلَيٍّ ابْنِ
الْمَلِكِ الْمُؤَيِّدِ صَاحِبِ حَمَاةَ، وَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مَكَانَ أَبِيهِ بِحُكْمِ وَفَاتِهِ، وَرَكِبَ بِمِصْرَ
بِالْعَصَائِبِ، وَالشَّبَّابَةُ وَالْغَاشِيَةُ أَمَامَهُ. وَفِي نِصْفِ هَذَا
الشَّهْرِ سَافَرَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيُّ شَارِحُ "
الْمُخْتَصَرِ "، وَمُدَرِّسُ الرَّوَاحِيَّةِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ، وَفَارَقَ دِمَشْقَ وَأَهْلَهَا،
وَاسْتَوْطَنَ الْقَاهِرَةَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِ جُمَادَى الْأُولَى خَطَبَ بِالْجَامِعِ الَّذِي
أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَلْمَلِكُ، وَاسْتَقَرَّ فِيهِ خَطِيبًا -
نُورُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَبِيبٍ الْحَنْبَلِيُّ. وَفِيهِ أَرْسَلَ
السُّلْطَانُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الصَّعِيدِ، فَأَحَاطُوا عَلَى
نَحْوٍ مِنْ سِتِّمِائَةِ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، فَأُتْلِفُ
بَعْضُهُمْ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تَوَلَّى شَدَّ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ نُورُ
الدِّينِ بْنُ الْخَشَّابِ عِوَضًا عَنِ الطَّرْقَشِيِّ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عَشَرَ رَجَبٍ خُلِعَ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ
عَلَاءِ الدِّينِ ابْنَ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا بِقَضَاءِ
الْحَنَابِلَةِ، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ بْنِ الْحَافِظِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ بِالْجَامِعِ، وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَفِي الْيَوْمِ
الثَّانِي اسْتَنَابَ بُرْهَانَ الدِّينِ الزُّرَعِيَّ.
وَفِي رَجَبٍ بَاشَرَ شَمْسُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ التَّاجِ
أَبِي إِسْحَاقَ نَظَرَ الْجُيُوشِ بِمِصْرَ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الدِّينِ
كَاتِبِ الْمَمَالِيكِ، تُوُفِّيَ، وَبَاشَرَ النَّشْوَ مَكَانَهُ فِي نَظَرِ
الْخَاصِّ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِطَرْحَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي شَعْبَانَ عُزِلَ
هُوَ وَأَخُوهُ الْعَلَمُ نَاظِرُ الدَّوَاوِينِ، وَصُودِرَا، وَضُرِبَا ضَرْبًا
شَدِيدًا، وَتَوَلَّى نَظَرَ الْجَيْشِ الْمَكِينُ بْنُ قَرَوِينَةَ، وَنَظَرَ
الدَّوَاوِينِ أَخُوهُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَرَوِينَةَ.
وَفِي شَعْبَانَ كَانَ عُرْسُ آنُوكَ - وَيُقَالُ: اسْمُهُ مُحَمَّدٌ - ابْنِ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ عَلَى بِنْتِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
بَكْتَمُرَ السَّاقِيِّ، وَكَانَ جِهَازُهَا بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَذُبِحَ
فِي هَذَا الْعُرْسِ مِنَ الْأَغْنَامِ، وَالدَّجَاجِ، وَالْإِوَزِّ، وَالْخَيْلِ،
وَالْبَقَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَعُمِلَتْ حَلْوَى
بِنَحْوِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفِ قِنْطَارٍ، وَحُمِلَ لَهُ مِنَ الشَّمْعِ
ثَلَاثَةُ آلَافِ قِنْطَارٍ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّحْبِيُّ،
وَكَانَ هَذَا الْعُرْسُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ.
وَفِي شَعْبَانَ هَذَا حُوِّلَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ
مِنْ كِتَابَةِ السِّرِّ بِمِصْرَ إِلَى كِتَابَةِ السِّرِّ بِالشَّامِ، وَنُقِلَ
شَرَفُ بْنُ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ إِلَى كِتَابَةِ السِّرِّ
بِمِصْرَ. وَأُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ بِالشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ فِي خَامِسِ
عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَحَضَرَهَا الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَخَطَبَ بِهَا
الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ
عَبْدُ النُّورِ الْمَغْرِبِيُّ، وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ
الْأَمِيرِ حُسَامِ الدِّينِ الْبَشْمَقْدَارِ الْحَاجِبُ بِالشَّامِ، ثُمَّ
خَطَبَ عَنْهُ كَمَالُ الدَّيْنِ بْنُ الزَّكِيِّ. وَفِيهِ أَمَرَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ بِتَبْيِيضِ الْبُيُوتِ مِنْ سُوقِ الْخَيْلِ إِلَى مَيْدَانِ
الْحَصَا، فَفُعِلَ ذَلِكَ.
وَفِيهِ زَادَتِ الْفُرَاتُ زِيَادَةً عَظِيمَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا،
وَاسْتَمَرَّتْ نَحْوًا مِنَ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، فَأَتْلَفَتْ بِالرُّحْبَةِ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَكَسَرَتِ الْجِسْرَ الَّذِي عِنْدَ دَيْرِ بِشْرٍ،
وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ هُنَاكَ، فَشَرَعُوا فِي إِصْلَاحِ الْجِسْرِ، ثُمَّ
انْكَسَرَ مَرَّةً ثَانِيَةً لَطِيفَةً.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ شَوَّالٍ خَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ،
وَأَمِيرُهُ سَيْفُ الدِّينِ أَوْرَانُ، وَقَاضِيهِ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
الشَّرِيشِيِّ، وَهُوَ قَاضِي حِمْصَ الْآنَ، وَحَجَّ السُّلْطَانُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَفِي صُحْبَتِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ الْقَزْوِينِيُّ، وَعِزُّ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ، وَمُوَفَّقِ الدِّينِ الْحَنْبَلِيُّ، وَسَبْعُونَ أَمِيرًا.
وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ حَادِي عِشْرِينَ شَوَّالٍ رُسِمَ عَلَى الصَّاحِبِ
شَمْسِ الدِّينِ غِبْرِيَالَ بِالْمَدْرَسَةِ النَّجِيبِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ،
وَصُودِرَ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَأُفْرِجَ عَنْهُ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ سُلْطَانَ الْقَرَامِزِيُّ، أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ بِالْعِبَادَةِ
وَالزَّهَادَةِ، وَمُلَازِمَةِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَكَثْرَةِ التِّلَاوَةِ
وَالذِّكْرِ، وَلَهُ أَصْحَابٌ يَجْلِسُونَ إِلَيْهِ، وَلَهُ مَعَ هَذَا ثَرْوَةٌ
وَأَمْلَاكٌ، تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ عَنْ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ قَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَاشْتَغَلَ
بِالْعِبَادَةِ إِلَى أَنْ مَاتَ.
الْمَلِكُ الْمُؤَيَّدُ صَاحِبُ حَمَاةَ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ
الْمَلِكِ الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ عَلِيٍّ ابْنِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ
تَقِيِّ الدِّينِ مَحْمُودٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ نَاصِرِ الدِّينِ
مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ تَقِيِّ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ
شَاهِنْشَاهِ بْنِ أَيُّوبَ، كَانَتْ لَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ فِي عُلُومٍ
مُتَعَدِّدَةٍ مِنَ الْفِقْهِ، وَالْهَيْئَةِ، وَالطِّبِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ، مِنْهَا تَارِيخٌ حَافِلٌ حَسَنٌ مُخْتَصَرٌ فِي
مُجَلَّدَيْنِ، وَلَهُ الْعُرُوضُ وَالْأَطْوَالُ وَالْكَلَامُ عَلَى الْبُلْدَانِ
فِي مُجَلَّدٍ كَبِيرٍ، وَلَهُ نَظْمُ " الْحَاوِي "، وَغَيْرُ ذَلِكَ،
وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ وَيُشَاكِلُهُمْ، وَيُشَارِكُهُمْ فِي فُنُونٍ
كَثِيرَةٍ، وَكَانَ مِنْ فُضَلَاءِ بَنِي أَيُّوبَ، وَوَلِيَ مُلْكَ حَمَاةَ مِنْ
سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ إِلَى هَذَا الْحِينِ، وَكَانَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ فِي الْمُلْكِ وَلَدُهُ الْأَفْضَلُ
عَلِيٌّ، تُوُفِّيَ سَحَرَ يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ عِشْرِينَ الْمُحَرَّمِ،
وَدُفِنَ ضَحْوَةً عِنْدَ وَالِدَيْهِ بِظَاهِرِ حَمَاةَ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ تَاجُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْكَافِي بْنِ عَوَضِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
السَّعْدِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَخَرَّجَ لِنَفْسِهِ
مُعْجَمًا فِي ثَلَاثِ مُجَلَّدَاتٍ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ
الْخَطَّ الْجَيِّدَ، وَكَانَ مُتْقِنًا عَارِفًا بِهَذَا الشَّأْنِ، يُقَالُ:
إِنَّهُ كَتَبَ بِخَطِّهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ مُجَلَّدٍ، وَقَدْ كَانَ
شَافِعِيًّا مُفْتِيًا، وَمَعَ هَذَا نَابَ فِي وَقْتٍ عَنِ الْقَاضِي
الْحَنْبَلِيِّ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ بِالْمَدْرَسَةِ الصَّاحِبِيَّةِ،
وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَنْ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ رَضِيُّ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَنْطِيقِيُّ
الْحَنَفِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ آبْ كَرْمٍ مِنْ بِلَادِ قُونِيَةَ، وَأَقَامَ
بِحَمَاةَ ثُمَّ بِدِمَشْقَ، وَدَرَّسَ بِالْقَيْمَازِيَّةِ، وَكَانَ فَاضِلًا فِي
الْمَنْطِقِ وَالْجَدَلِ، وَاشْتَغَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فِي ذَلِكَ، وَبَلَغَ
مِنَ الْعُمُرِ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَحَجَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبُغَا،
وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
دُولَاتُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ أَيْضًا.
قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَاشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ فِي اللُّغَةِ
وَالْحَدِيثِ، وَبَاشَرَ نِيَابَةَ ابْنِ مُسَلَّمٍ مُدَّةً، ثُمَّ وَلِيَ
الْقَضَاءَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فَجْأَةً فِي
مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْأُولَى لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ
بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ.
الشَّيْخُ يَاقُوتٌ الْحَبَشِيُّ الشَّاذِلِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ، بَلَغَ
الثَّمَانِينَ، وَكَانَ لَهُ أَتْبَاعٌ وَأَصْحَابٌ مِنْهُمْ; شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
اللَّبَّانِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَكَانَ يُعَظِّمُهُ وَيُطْرِيهِ،
وَيَنْسُبُ إِلَيْهِ مُبَالَغَاتٍ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا وَكَذِبِهَا،
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا.
النَّقِيبُ نَاصِحُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ قَاسِمِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الدِّمَشْقِيُّ، نَقِيبُ الْمُتَعَمِّمِينَ، تَتَلْمَذَ أَوَّلًا
لِلشِّهَابِ الْمُقْرِئِ ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ فِي الْمَحَافِلِ لِلْعَزَاءِ
وَالْهَنَاءِ، وَكَانَ يَعْرِفُ هَذَا الْفَنَّ جَيِّدًا، وَكَانَ كَثِيرَ
الطَّلَبِ مِنَ النَّاسِ، وَيَطْلُبُهُ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا مَاتَ
وَعَلَيْهِ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ، تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ.
الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ كَاتِبُ الْمَمَالِيكِ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ نَاظِرُ
الْجُيُوشِ بِمِصْرَ، أَصْلُهُ قِبْطِيٌّ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ
إِسْلَامُهُ، وَكَانَتْ لَهُ أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ، وَبِرٌّ وَإِحْسَانٌ إِلَى
أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ صَدْرًا مُعَظَّمًا، حَصَلَ لَهُ مِنَ السُّلْطَانِ
حَظٌّ وَافِرٌ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْفَخْرِيَّةُ
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، تُوُفِّيَ فِي نِصْفِ رَجَبٍ، وَاحْتِيطَ عَلَى
أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَايُ الدَّوَدَارُ الْمَلَكِيُّ النَّاصِرِيُّ،
كَانَ فَقِيهًا حَنَفِيًّا فَاضِلًا، كَتَبَ بِخَطِّهِ رَبْعَةً، وَحَصَّلَ
كُتُبًا كَثِيرَةً مُعْتَبَرَةً، وَكَانَ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ
الْعِلْمِ، تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ رَجَبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الطَّبِيبُ الْمَاهِرُ الْحَاذِقُ الْفَاضِلُ أَمِينُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، كَانَ رَئِيسَ الْأَطِبَّاءِ بِدِمَشْقَ،
وَمُدَرِّسَهُمْ مُدَّةً، ثُمَّ عُزِلَ بِجَمَالِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ
الْكَحَّالِ مُدَّةً قَبْلِ مَوْتِهِ; لِأَمْرٍ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ فِيهِ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ سَادِسِ عِشْرِينَ شَوَّالٍ، وَدُفِنَ
بِالْقُبَيْبَاتِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْمُقْرِئُ شَيْخُ الْقُرَّاءِ بُرْهَانُ
الدِّينِ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
خَلِيلٍ الْجَعْبَرِيُّ ثُمَّ الْخَلِيلِيُّ الشَّافِعِيُّ، صَاحِبُ
الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ فِي الْقِرَاءَاتِ وَغَيْرِهَا، وُلِدَ سَنَةَ
أَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِقَلْعَةِ جَعْبَرٍ، وَاشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ
قَدِمَ دِمَشْقَ، وَأَقَامَ بِبَلَدِ الْخَلِيلِ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يُقْرِئُ
النَّاسَ، وَشَرَحَ " الشَّاطِبِيَّةَ "، وَسَمَّعَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَتْ لَهُ إِجَازَةٌ مِنْ يُوسُفَ بْنِ خَلِيلٍ الْحَافِظِ،
وَصَنَّفَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَالْعَرُوضِ، وَالْقِرَاءَاتِ، نَظْمًا وَنَثْرًا،
وَكَانَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْمَشْهُورِينَ بِالْفَضَائِلِ وَالرِّيَاسَةِ،
وَالْخَيْرِ، وَالدِّيَانَةِ، وَالْعِفَّةِ، وَالصِّيَانَةِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الْأَحَدِ خَامِسِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِبَلَدِ الْخَلِيلِ تَحْتَ
الزَّيْتُونَةِ، وَلَهُ ثِنْتَانِ وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ
الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عِيسَى بْنِ بَدْرَانَ بْنِ رَحْمَةَ
الْأَخْنَائِيُّ السَّعْدِيُّ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ، الْحَاكِمُ بِدِمَشْقَ
وَأَعْمَالِهَا، كَانَ عَفِيفًا نَزِهًا ذَكِيًّا، سَادَّ الْعِبَارَةِ، مُحِبًّا
لِلْفَضَائِلِ، مُعَظِّمًا لِأَهْلِهَا، كَثِيرًا لِإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ فِي
الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي
الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ تُجَاهَ تُرْبَةِ
الْعَادِلِ كَتْبُغَا مِنْ نَاحِيَةِ الْجَبَلِ.
قُطْبُ الدِّينِ مُوسَى بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ ابْنِ شَيْخِ
السَّلَامِيَّةِ، نَاظِرُ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ، كَانَتْ لَهُ ثَرْوَةٌ
وَأَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَلَهُ فَضْلٌ وَإِفْضَالٌ، وَكَرَمٌ وَإِحْسَانٌ إِلَى
أَهْلِ الْخَيْرِ، وَكَانَ مَقْصِدًا فِي الْمُهِمَّاتِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ تُجَاهَ النَّاصِرِيَّةِ بِقَاسِيُونَ، وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ
الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ عِزِّ الدِّينِ حَمْزَةَ مُدَرِّسِ الْحَنْبَلِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ قَاضٍ، وَقَاضِي الْحَنَفِيَّةِ
عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ، وَقَاضِي الْمَالِكِيَّةِ شَرَفُ الدِّينِ
الْهَمْدَانِيُّ، وَقَاضِي الْحَنَابِلَةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا،
وَكَاتِبُ السِّرِّ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ
عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ.
وَفِي ثَامِنِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ الْبَشِيرُ بِسَلَامَةِ السُّلْطَانِ مِنَ
الْحِجَازِ، وَاقْتِرَابِ وُصُولِهِ إِلَى الْبِلَادِ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ،
وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَأَخْبَرَ الْبَشِيرُ بِوَفَاةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ بَكْتَمُرَ السَّاقِي وَوَلَدِهِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ وَهُمَا
رَاجِعَانِ فِي الطَّرِيقِ، بَعْدَ أَنْ حَجَّا قَرِيبًا مِنْ مِصْرَ; الْوَلَدُ
أَوَّلًا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَبُوهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِعُيُونِ الْقَصَبِ،
ثُمَّ نُقِلَا إِلَى تُرْبَتِهِمَا بِالْقَرَافَةِ، وَوُجِدَ لِبَكْتُمَرَ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَالْجَوَاهِرِ، وَاللَّآلِئِ، وَالْقُمَاشِ، وَالْأَمْتِعَةِ،
وَالْحَوَاصِلِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ وَلَا يَنْضَبِطُ.
وَأُفْرِجُ عَنِ الصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ غِبْرِيَالَ فِي الْمُحَرَّمِ،
وَطُلِبَ فِي صَفَرٍ إِلَى مِصْرَ، فَتَوَجَّهَ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ،
وَاحْتِيطَ عَلَى أَهْلِهِ بَعْدَ مَسِيرِهِ، وَأُخِذَتْ مِنْهُمْ أَمْوَالٌ
كَثِيرَةٌ لِبَيْتِ الْمَالِ.
وَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ قَدِمَ الصَّاحِبُ أَمِينُ الْمَلِكِ
عَلَى نَظَرِ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنْ غِبْرِيَالَ. وَبَعْدَهُ
بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ قَدِمَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْحِلِّيِّ عَلَى
نَظَرِ الْجَيْشِ بَعْدَ وَفَاةِ قُطْبِ الدِّينِ ابْنِ شَيْخِ السَّلَامِيَّةِ.
وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لَبِسَ ابْنُ جُمْلَةَ خِلْعَةَ الْقَضَاءِ
لِلشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ، بِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْجَامِعِ
وَهِيَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ إِلَى الْعَادِلِيَّةِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِهَا
بِحَضْرَةِ الْأَعْيَانِ، وَدَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ وَالْغَزَّالِيَّةِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ ثَانِيَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عِشْرِينِهِ حَضَرَ ابْنُ أَخِيهِ جَمَالُ الدِّينِ
مَحْمُودٌ إِعَادَةَ الْقَيْمَرِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا، ثُمَّ اسْتَنَابَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ، وَخَرَجَ إِلَى الْعَادِلِيَّةِ فَحَكَمَ بِهَا،
ثُمَّ لَمْ يَسْتَمِرَّ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ عُزِلَ عَنِ النِّيَابَةِ
بِيَوْمِهِ، وَاسْتَنَابَ بَعْدَهُ جَمَالَ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ شَمْسِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْحُسْبَانِيَّ، وَلَهُ هِمَّةٌ، وَعِنْدَهُ
نَزَاهَةٌ وَخِبْرَةٌ بِالْأَحْكَامِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَلِيَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ قُرْطَايُ نِيَابَةَ
طَرَابُلُسَ، وَعُزِلَ عَنْهَا طَيْنَالُ إِلَى نِيَابَةِ غَزَّةَ، وَتَوَلَّى
نَائِبُ غَزَّةَ نِيَابَةَ حِمْصَ، وَحَصَلَ لِلَّذِي جَاءَ بِتَقْلِيدِهِمْ
مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْهُمْ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ أُعِيدَ الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ
وَوَلَدُهُ إِلَى كِتَابَةِ سِرِّ مِصْرَ، وَرَجَعَ شَرَفُ الدِّينِ بْنُ
الشِّهَابِ مَحْمُودٍ إِلَى كِتَابَةِ سِرِّ الشَّامِ كَمَا كَانَ.
وَفِي مُنْتَصَفِ هَذَا الشَّهْرِ وَلِيَ نِقَابَةَ
الْأَشْرَافِ عِمَادُ الدِّينِ مُوسَى الْحُسَيْنِيُّ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ شَرَفِ
الدِّينِ عَدْنَانَ، تُوُفِّيَ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ
عِنْدَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ، وَفِيهِ دَرَّسَ الْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ
بِالدَّوْلَعِيَّةِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ جُمْلَةَ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ الْقَضَاءَ.
وَفِي خَامِسِ عِشْرِينَ رَجَبٍ دَرَّسَ بِالْبَادَرَائِيَّةِ الْقَاضِي عَلَاءُ
الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَرِيفٍ - وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْوَحِيدِ - عِوَضًا عَنِ
ابْنِ جَهْبَلٍ، تُوُفِّيَ فِي الشَّهْرِ الْمَاضِي، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ بِالْقُدْسِ أَنَا وَالشَّيْخُ شَمْسُ
الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْهَادِي وَآخَرُونَ. وَفِيهِ رَسَمَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ بِالْمَنْعِ مِنْ رَمْيِ الْبُنْدُقِ، وَأَنْ لَا تُبَاعَ قِسِيِّهُ
وَلَا تُعْمَلَ; وَذَلِكَ لِإِفْسَادِ رُمَاةِ الْبُنْدُقِ أَوْلَادَ النَّاسِ،
وَأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى مَنْ تَعَانَاهُ اللِّوَاطُ، وَالْفِسْقُ، وَقِلَّةُ
الدِّينِ، وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ.
قَالَ الْبِرْزَالِيُّ: وَفِي نِصْفِ شَعْبَانَ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِتَسْلِيمِ
الْمُنَجِّمِينَ إِلَى وَالِي الْقَاهِرَةِ، فَضُرِبُوا، وَحُبِسُوا، ثُمَّ
نُفُوا; لِإِفْسَادِهِمْ حَالَ النِّسَاءِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ تَحْتَ
الْعُقُوبَةِ; ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَنَصْرَانِيٌّ. كَتَبَ بِذَلِكَ
إِلَيَّ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّحْبِيُّ.
وَفِي أَوَّلِ رَمَضَانَ وَصَلَ الْبَرِيدُ بِتَوْلِيَةِ الْأَمِيرِ فَخْرِ
الدِّينِ بْنِ الشَّمْسِ لُؤْلُؤٍ وِلَايَةَ الْبَرِّ بِدِمَشْقَ، بَعْدَ وَفَاةِ
شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَرْوَانِيِّ، وَوَصَلَ كِتَابٌ مِنْ مَكَّةَ إِلَى
دِمَشْقَ فِي رَمَضَانَ يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ وَقَعَتْ
صَوَاعِقُ بِبِلَادِ الْحِجَازِ، فَقَتَلَتْ جَمَاعَةً مُتَفَرِّقِينَ فِي
أَمَاكِنَ شَتَّى، وَأَمْطَارٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَجَاءَ الْبَرِيدُ فِي رَابِعِ رَمَضَانَ بِتَوْلِيَةِ الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ بْنِ جَهْبَلٍ قَضَاءَ طَرَابُلُسَ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا، وَدَرَّسَ ابْنُ
الْمَجْدِ عَبْدُ اللَّهِ بِالرَّوَاحِيَّةِ عِوَضًا عَنِ الْأَصْبِهَانِيِّ
بِحُكْمِ إِقَامَتِهِ بِمِصْرَ. وَفِي آخِرِ رَمَضَانَ أُفْرِجَ عَنِ الصَّاحِبِ
عَلَمِ الدِّينِ وَأَخِيهِ شَمْسِ الدِّينِ مُوسَى ابْنَيِ التَّاجِ أَبِي
إِسْحَاقَ، بَعْدَ سَجْنِهِمَا سَنَةً وَنِصْفًا.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَاشِرَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَعْبَدٍ، وَقَاضِيهِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مَنْصُورٍ
مُدَرِّسُ الْحَنَفِيَّةِ بِالْقُدْسِ بِمَدْرَسَةِ تَنْكِزَ، وَفِي الْحُجَّاجِ
صَدْرُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ، وَشِهَابُ الدِّينِ الظَّهِيرِيُّ، وَمُحْيِي الدِّينِ
بْنُ الْأَعْقَفِ، وَآخَرُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشْرَهُ دَرَّسَ بِالْأَتَابِكِيَّةِ ابْنُ
جُمْلَةَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ جَمِيلٍ، تَوَلَّى قَضَاءَ طَرَابُلُسَ. وَفِي يَوْمِ
الْأَحَدِ عِشْرِينِهِ حَكَمَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ كَامِلٍ
التَّدْمُرِيُّ، الَّذِي كَانَ فِي خَطَابَةِ الْخَلِيلِ بِدِمَشْقَ نِيَابَةً
عَنِ ابْنِ جُمْلَةَ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِدِينِهِ وَفَضِيلَتِهِ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ مَسَكَ تَنْكِزُ دَوَادَارَهُ نَاصِرَ الدِّينِ مُحَمَّدًا،
وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا، وَضَرَبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَاسْتَخْلَصَ مِنْهُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، ثُمَّ حَبَسَهُ
بِالْقَلْعَةِ، ثُمَّ نَفَاهُ إِلَى الْقُدْسِ، وَضَرَبَ جَمَاعَةً مِنْ
أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُقَلَّدٍ حَاجِبُ الْعَرَبِ،
وَقَطَعَ لِسَانَهُ مَرَّتَيْنِ، وَمَاتَ، وَتَغَيَّرَتِ الدَّوْلَةُ، وَجَاءَتْ
دَوْلَةٌ أُخْرَى مُقَدَّمُهَا عِنْدَهُ حَمْزَةُ الَّذِي كَانَ سِمِيرَهُ
وَعَشِيرَهُ فِي هَذِهِ
الْمَرَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَانْزَاحَتِ النِّعْمَةُ عَنِ
الدَّوَدَارِ نَاصِرِ الدِّينِ وَذَوِيهِ وَمَنْ يَلِيهِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ رُكِّبَ عَلَى
الْكَعْبَةِ بَابٌ جَدِيدٌ أَرْسَلَهُ السُّلْطَانُ، مُرَصَّعًا مِنَ السَّنْطِ
الْأَحْمَرِ كَأَنَّهُ آبِنُوسٌ، مُرَكَّبٌ عَلَيْهِ صَفَائِحُ مِنْ فِضَّةٍ
زِنَتُهَا خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفًا وَثَلَاثُمِائَةٍ وَكَسْرٍ، وَقُلِعَ
الْبَابُ الْعَتِيقُ، وَهُوَ مِنْ خَشَبِ السَّاسَمِ، وَعَلَيْهِ صَفَائِحُ
تَسَلَّمَهَا بَنُو شَيْبَةَ، وَكَانَ زِنَتُهَا سِتِّينَ رَطْلًا، فَبَاعُوهَا
كُلُّ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ; لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ، وَهَذَا خَطَأٌ، وَهُوَ
رِبًا، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعُوهَا بِالذَّهَبِ، لِئَلَّا يَحْصُلَ رِبًا
فِي ذَلِكَ، وَتُرِكَ خَشَبُ الْبَابِ الْعَتِيقِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، وَعَلَيْهِ
اسْمُ صَاحِبِ الْيَمَنِ فِي الْفَرْدَتَيْنِ، وَاحِدَةٌ عَلَيْهَا: اللَّهُمَّ
يَا وَلِيُّ، يَا عَلِيُّ، اغْفِرْ لِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْعَالِمُ تَقِيُّ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَحْمُودِ
بْنِ مُقْبِلٍ الدَّقُوقِيُّ أَبُو الثَّنَاءِ الْبَغْدَادِيُّ، مُحَدِّثُ
بَغْدَادَ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، يَقْرَأُ لَهُمُ الْحَدِيثَ، وَقَدْ وَلِيَ
مَشْيَخَةَ الْمُسْتَنْصِرِيَّةِ، وَكَانَ ضَابِطًا مُحَصِّلًا بَارِعًا، وَكَانَ
يَعِظُ وَيَتَكَلَّمُ فِي الْأَعْزِيَةِ وَالْأَهْنِيَةِ، وَكَانَ فَرْدًا فِي
زَمَانِهِ وَبِلَادِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ
وَلَهُ قَرِيبُ السَّبْعِينَ سَنَةً، وَشَهِدَ جَنَازَتَهُ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَلَمْ يُخَلِّفْ
دِرْهَمًا وَاحِدًا، وَلَهُ قَصِيدَتَانِ رَثَى بِهِمَا الشَّيْخَ تَقِيَّ
الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَةَ، كَتَبَ بِهِمَا إِلَى الشَّيْخِ الْحَافِظِ
الْبِرْزَالِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عِزُّ الْقُضَاةِ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنِيرِ
الْمَالِكِيُّ الْإِسْكَنْدَرِيُّ، أَحَدُ الْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ، لَهُ
تَفْسِيرٌ فِي سِتِّ مُجَلَّدَاتٍ، وَقَصَائِدُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَنَةٌ، وَلَهُ فِي " كَانَ وَكَانَ "،
وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ وَرَوَى، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى عَنْ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
ابْنُ جَمَاعَةَ قَاضِي الْقُضَاةِ الْعَالِمُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَدْرُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الزَّاهِدِ
أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ اللَّهِ بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ جَمَاعَةَ بْنِ حَازِمِ بْنِ صَخْرٍ الْكِنَانِيُّ الْحَمَوِيُّ الْأَصْلِ،
وُلِدَ لَيْلَةَ السَّبْتِ رَابِعَ رَبِيعٍ الْآخِرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ بِحَمَاةَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ
فَحَصَّلَ فُنُونًا مُتَعَدِّدَةً، وَتَقَدَّمَ وَسَادَ أَقْرَانَهُ، وَبَاشَرَ
تَدْرِيسَ الْقَيْمَرِيَّةِ، ثُمَّ وَلِيَ الْحُكْمَ وَالْخَطَابَةَ بِالْقُدْسِ
الشَّرِيفِ، ثُمَّ نُقِلَ مِنْهُ إِلَى قَضَاءِ مِصْرَ فِي الْأَيَّامِ
الْأَشْرَفِيَّةِ، مَعَ تَدَارِيسَ كَبَارٍ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، ثُمَّ
وَلِيَ قَضَاءَ
الشَّامِ، وَجُمِعَ لَهُ مَعَهُ الْخَطَابَةُ وَمَشْيَخَةُ
الشُّيُوخِ، وَتَدْرِيسُ الْعَادِلِيَّةِ، وَغَيْرُهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، كُلُّ
هَذَا مَعَ الرِّيَاسَةِ، وَالدِّيَانَةِ، وَالصِّيَانَةِ، وَالْوَرَعِ، وَكَفِّ
الْأَذَى، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْفَائِقَةُ النَّافِعَةُ، وَجَمَعَ خُطُبًا
كَانَ يَخْطُبُ بِهَا بِطِيبِ صَوْتٍ فِيهَا، وَفِي قِرَاءَتِهِ فِي الْمِحْرَابِ
وَغَيْرِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى قَضَاءِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ وَفَاةِ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَلَمْ يَزَلْ حَاكِمًا بِهَا
إِلَى أَنْ أَضَرَّ وَكَبِرَ وَضَعُفَتْ أَحْوَالُهُ، فَاسْتَقَالَ فَأُقِيلَ،
وَتَوَلَّى مَكَانَهُ الْقَزْوِينِيُّ، وَبَقِيَتْ مَعَهُ بَعْضُ الْجِهَاتِ،
وَرُتِّبَتْ لَهُ الرَّوَاتِبُ الْكَثِيرَةُ الدَّارَّةُ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ عَشَاءِ الْآخِرَةِ حَادِيَ عِشْرِينَ جُمَادَى
الْأُولَى، وَقَدْ أَكْمَلَ أَرْبَعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَأَيَّامًا،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ قَبْلَ الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ النَّاصِرِيِّ
بِمِصْرَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً هَائِلَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ الزَّاهِدُ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ شِهَابُ
الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ يَحْيَى بْنِ تَاجِ
الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ طَاهِرِ بْنِ نَصْرِ اللَّهِ بْنِ جَهْبَلٍ
الْحَلَبِيُّ الْأَصْلِ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، كَانَ مِنْ أَعْيَانِ
الْفُقَهَاءِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ،
وَلَزِمَ الْمَشَايِخَ، وَلَازَمَ الشَّيْخَ الصَّدْرَ بْنَ الْوَكِيلِ، وَدَرَّسَ
بِالصَّلَاحِيَّةِ بِالْقُدْسِ، ثُمَّ تَرَكَهَا وَتَحَوَّلَ إِلَى دِمَشْقَ،
فَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الظَّاهِرِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ وَلِيَ
مَشْيَخَةَ الْبَادَرَائِيَّةِ فَتَرَكَ الظَّاهِرِيَّةَ وَأَقَامَ فِي تَدْرِيسِ
الْبَادَرَائِيَّةِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَعْلُومًا مِنْ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ بَعْدَ الْعَصْرِ تَاسِعَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ،
وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً.
تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَيُّوبَ، مُغَسِّلُ
الْمَوْتَى فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، يُقَالُ: إِنَّهُ غَسَّلَ
سِتِّينَ أَلْفِ مَيِّتٍ، وَتُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ السَّقَطِيِّ الشَّافِعِيُّ، كَانَ مُبَاشِرًا شَهَادَةَ
الْخِزَانَةِ، وَنَابَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ بَابِ النَّصْرِ بِمِصْرَ، وَجَمَعَ
مَنْسَكًا كَبِيرًا، وَيُقَالُ: إِنَّهُ شَرَحَ " التَّنْبِيهَ "
أَيْضًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ.
الْإِمَامُ الْفَاضِلُ مَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبِكْرِيُّ، نِسْبَةً إِلَى أَبِي بَكْرٍ
الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ لَطِيفَ الْمَعَانِي، نَاسِخًا
مُطْبِقًا، يَكْتُبُ فِي الْيَوْمِ ثَلَاثَ كَرَارِيسَ، وَكَتَبَ " الْبُخَارِيَّ
" ثَمَانِيَ مَرَّاتٍ، وَيُقَابِلُهُ، وَيُجَلِّدُهُ، وَيَبِيعُ النُّسْخَةَ
مِنْ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَنَحْوِهُ، وَقَدْ جَمَعَ تَارِيخًا فِي ثَلَاثِينَ
مُجَلَّدًا، وَكَانَ يَنْسَخُهُ وَيَبِيعُهُ أَيْضًا بِأَزْيَدَ مِنْ أَلْفٍ،
وَذُكِرَ أَنَّ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ " مُنْتَهَى الْأَرَبِ فِي عِلْمِ
الْأَدَبِ " فِي ثَلَاثِينَ مُجَلَّدًا أَيْضًا، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ
نَادِرًا فِي وَقْتِهِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ، الْعَابِدُ الزَّاهِدُ النَّاسِكُ، الْكَثِيرُ
الْحَجِّ، عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْوَاسِطِيُّ، الْمَشْهُورُ
بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْحَجِّ،
يُقَالُ: إِنَّهُ حَجَّ أَزْيَدَ مِنْ أَرْبَعِينَ حِجَّةً، وَكَانَتْ عَلَيْهِ
مَهَابَةٌ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ، تُوُفِّيَ وَهُوَ مُحْرِمٌ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
ثَامِنَ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَوَّاسِ، كَانَ مُبَاشِرًا الشَّدَّ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ
السُّلْطَانِيَّةِ، وَلَهُ دَارٌ حَسَنَةٌ بِالْعُقَيْبَةِ الصَّغِيرَةِ، فَلَمَّا
جَاءَتِ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ تُجْعَلَ مَدْرَسَةً، وَوَقَفَ عَلَيْهَا
أَوْقَافًا، وَجَعَلَ تَدْرِيسَهَا لِلشَّيْخِ عِمَادِ الدِّينِ الْكُرْدِيِّ
الشَّافِعِيِّ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَحَدِ، وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أُقِيمَتِ
الْجُمْعَةُ بِالْخَاتُونِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَخَطَبَ بِهَا شَمْسُ الدِّينِ
النَّجَّارُ الْمُؤَذِّنُ الْمُؤَقَّتُ بِالْأُمَوِيِّ، وَتَرَكَ خَطَابَةَ
جَامِعِ الْقَابُونِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ سَافَرَ الْأَمِيرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ
التَّدْمُرِيُّ إِلَى الْقُدْسِ حَاكِمًا بِهِ، وَعُزِلَ عَنْ نِيَابَةِ الْحُكْمِ
بِدِمَشْقَ. وَفِي ثَالِثِهِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ
الرَّحِيمِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ بِخَطَابَةِ
الْقُدْسِ، فَخُلِعَ عَلَيْهِ مِنْ دِمَشْقَ، ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا.
وَفِي آخِرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَاشَرَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ
بُكْتَاشَ الْحُسَامِيُّ شَدَّ الْأَوْقَافِ، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ الدِّينِ
مَحْمُودِ بْنِ الْخَطِيرِيِّ، سَافَرَ بِأَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ أَمِيرًا بِهَا
عِنْدَ أَخِيهِ بَدْرِ الدِّينِ مَسْعُودٍ، وَعُزِلَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَسَائِرُ الدَّوَاوِينِ وَالْمُبَاشِرِينَ الَّذِينَ فِي
بَابِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ، وَصُودِرُوا بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَاسْتُدْعِيَ مِنْ غَزَّةَ نَاظِرُهَا جَمَالُ الدِّينِ يُوسُفُ صِهْرُ
السُّنِّيِّ الْمُسْتَوْفِي، فَبَاشَرَ نَظَرَ دِيوَانِ النَّائِبِ، وَنَظَرَ
الْمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ أَيْضًا عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَمَرَ تَنْكِزُ بِإِصْلَاحِ
بَابِ تُومَا، فَشُرِعَ فِيهِ فَرُفِعَ بَابُهُ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، وَجُدِّدَتْ
حِجَارَتُهُ وَحَدِيدُهُ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ حَصَلَ
بِدِمَشْقَ سَيْلٌ خَرَّبَ بَعْضَ الْجُدْرَانِ ثُمَّ تَنَاقَصَ. وَفِي أَوَائِلِ
رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ جَمَالُ الدِّينِ آقُّوشُ نَائِبُ الْكَرَكِ
مُجْتَازًا إِلَى طَرَابُلُسَ نَائِبًا، عِوَضًا عَنِ الْأَمِيرِ شِهَابِ الدِّينِ
قَرَطَايَ، تُوُفِّيَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى طُلِبَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْمَجْدِ
عَبْدِ اللَّهِ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَوَلِيَ وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ
عِوَضًا عَنِ ابْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَوَصَلَ تَقْلِيدُهُ مِنْ مِصْرَ بِذَلِكَ،
وَهَنَّأَهُ النَّاسُ. وَفِيهِ طُلِبَ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ
الزَّيْبَقِ مِنْ وِلَايَةِ نَابُلُسَ، فَوَلِيَ شَدَّ الدَّوَاوِينِ بِدِمَشْقَ،
وَقَدْ شَغَرَ مَنْصِبُهُ شُهُورًا بَعْدَ ابْنِ الْخَشَّابِ.
وَفِي رَمَضَانَ خَطَبَ الشَّيْخُ بَدْرُ الدِّينِ أَبُو الْيُسْرِ بْنُ
الصَّائِغِ بِالْقُدْسِ عِوَضًا عَنْ زَيْنِ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ ;
لِإِعْرَاضِهِ عَنْهَا، وَاخْتِيَارِهِ الْعَوْدَ إِلَى بَلَدِهِ.
قَضِيَّةُ الْقَاضِي ابْنِ جُمْلَةَ
لَمَّا كَانَ فِي الْعَشْرِ الْأُخَرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقَعَ بَيْنَ الْقَاضِي
ابْنِ جُمْلَةَ وَبَيْنَ الشَّيْخِ الظَّهِيرِ شَيْخِ مَلَكِ الْأُمَرَاءِ -
وَكَانَ هُوَ السَّفِيرُ فِي تَوْلِيَةِ ابْنِ جُمْلَةَ الْقَضَاءَ - فَوَقَعَ
بَيْنَهُمَا مُنَافَسَةٌ وَمُحَاقَقَةٌ فِي أُمُورٍ كَانَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّوَدَارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ نَاصِرِ الدِّينِ،
فَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِلَافِ مَا حَلَفَ الْآخَرُ عَلَيْهِ،
وَتَفَاصَلَا مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا رَجَعَ الْقَاضِي
إِلَى مَنْزِلِهِ بِالْعَادِلِيَّةِ أَرْسَلَ إِلَى الشَّيْخِ الظَّهِيرِ
لِيَحْكُمَ فِيهِ بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَذَلِكَ عَنْ مَرْسُومِ النَّائِبِ،
وَكَأَنَّهُ كَانَ خَدِيعَةً فِي الْبَاطِنِ وَإِظْهَارًا لِنُصْرَةِ الْقَاضِي
عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ، فَبَدَرَ بِهِ الْقَاضِي بَادِيَ الرَّأْيِ فَعَزَّرَهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ فَتَسَلَّمَهُ أَعْوَانُ ابْنِ
جُمْلَةَ، فَطَافُوا بِهِ الْبَلَدَ عَلَى حِمَارٍ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ
عِشْرِينَ رَمَضَانَ، وَضَرَبُوهُ ضَرْبًا عَنِيفًا، وَنَادَوْا عَلَيْهِ: هَذَا
جَزَاءُ مَنْ يَكْذِبُ وَيَفْتَاتُ عَلَى الشَّرْعِ، فَتَأَلَّمَ النَّاسُ لَهُ;
لِكَوْنِهِ فِي الصِّيَامِ وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَيَوْمِ
سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ صَائِمٌ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ ضُرِبَ
يَوْمَئِذٍ أَلْفَيْنِ وَمِائَةً وَإِحْدَى وَسَبْعِينَ دِرَّةً، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
فَمَا أَمْسَى حَتَّى اسْتُفْتِيَ عَلَى الْقَاضِي الْمَذْكُورِ وَدَارُوا عَلَى
الْمَشَايِخِ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ مَرْسُومِ النَّائِبِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
تَاسِعِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ عَقَدَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ
بِدَارِ السَّعَادَةِ مَجْلِسًا حَافِلًا بِالْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ الْمُفْتِينَ
مِنْ سَائِرِ الْمَذَاهِبِ، وَأُحْضِرَ ابْنُ جُمْلَةَ قَاضِي الْقُضَاةِ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْمَجْلِسُ قَدِ احْتَفَلَ بِأَهْلِهِ، وَلَمْ يَأْذَنُوا
لِابْنِ جُمْلَةَ فِي الْجُلُوسِ، بَلْ قَامَ قَائِمًا ثُمَّ أُجْلِسَ بَعْدَ
سَاعَةٍ فِي طَرَفِ الْحَلَقَةِ إِلَى جَانِبِ الْمِحَفَّةِ الَّتِي فِيهَا
الشَّيْخُ الظَّهِيرُ، وَادَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ
حَكَمَ فِيهِ لِنَفْسِهِ، وَاعْتَدَى عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ، وَأَفَاضَ
الْحَاضِرُونَ فِي ذَلِكَ، وَانْتَشَرَ
الْكَلَامُ، وَفَهِمُوا مِنْ نَفْسِ النَّائِبِ الْحَطَّ عَلَى
ابْنِ جُمْلَةَ، وَالْمِيلَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ إِلَيْهِ، فَمَا انْفَصَلَ
الْمَجْلِسُ حَتَّى حَكَمَ الْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ الْمَالِكِيُّ بِفِسْقِهِ
وَعَزْلِهِ وَسَجْنِهِ، فَانْفَضَّ الْمَجْلِسُ عَلَى ذَلِكَ، وَرُسِمَ عَلَى
ابْنِ جُمْلَةَ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى الْقَلْعَةِ جَزَاءً
وِفَاقًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَكَانَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ سَنَةٌ
وَنِصْفٌ إِلَّا أَيَّامًا، وَكَانَ يُبَاشِرُ الْأَحْكَامَ جَيِّدًا، وَكَذَا الْأَوْقَافَ
الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ، وَفِيهِ نَزَاهَةٌ وَتَمْيِيزُ الْأَوْقَافِ بَيْنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَفِيهِ صَرَامَةٌ وَشَهَامَةٌ وَإِقْدَامٌ،
لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَتَعَدَّى فِيهَا، فَآلَ أَمْرُهُ
إِلَى هَذَا.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهْ
أُلْجَيْبُغَا، وَقَاضِيهِ مَجْدُ الدِّينِ بْنُ حَيَّانَ الْمِصْرِيُّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ دَرَّسَ بِالْإِقْبَالِيَّةِ
الْحَنَفِيَّةِ نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادِ الدِّينِ
الطَّرَسُوسِيُّ الْحَنَفِيِّ عِوَضًا عَنْ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَصْبَهَانِيِّ بْنِ الْعَجَمِيِّ الْحَبَطِيِّ،
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْحَنْبَلِيِّ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا مُتَقَشِّفًا،
كَثِيرَ الْوَسْوَسَةِ فِي الْمَاءِ جِدًّا، وَأَمَّا الْمُدَرِّسُ مَكَانَهُ
وَهُوَ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الْحَنَفِيِّ، فَإِنَّهُ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَهُوَ فِي النَّبَاهَةِ، وَالْفَهْمِ، وَحُسْنِ الِاشْتِغَالِ،
وَالشَّكْلِ، وَالْوَقَارِ، بِحَيْثُ غَبَطَ الْحَاضِرُونَ كُلُّهُمْ أَبَاهُ
عَلَى ذَلِكَ; وَلِهَذَا آلَ أَمْرُهُ أَنْ تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ فِي
حَيَاةِ أَبِيهِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهُ، وَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ وَأَحْكَامُهُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أُثْبِتَ مَحْضَرٌ فِي حَقِّ الصَّاحِبِ شَمْسِ الدِّينِ
غِبْرِيَالَ الْمُتَوَفَّى هَذِهِ السَّنَةَ - أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي أَمْلَاكًا
مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَيُوقِفُهَا، وَيَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ
الْمُلَّاكِ لِنَفْسِهِ، وَشَهِدَ بِذَلِكَ كَمَالُ الدِّينِ
الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ أَخِيهِ عِمَادُ الدِّينِ، وَعَلَاءُ الدِّينِ
الْقَلَانِسِيُّ، وَابْنُ خَالِهِ عِمَادُ الدِّينِ الْقَلَانِسِيُّ، وَعِزُّ
الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا، وَتَقِيُّ الدِّينِ بْنُ مَرَاجِلٍ، وَجَمَالُ
الدِّينِ بْنُ الْفُوَيْرِهِ، وَأُثْبِتَ عَلَى الْقَاضِي بُرْهَانِ الدِّينِ
الزُّرَعِيِّ الْحَنْبَلِيِّ، وَنَفَّذَهُ بَقِيَّةُ الْقُضَاةِ، وَامْتَنَعَ
الْمُحْتَسِبُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَرُسِمَ
عَلَيْهِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ،
وَعُزِلَ عَنِ الْحِسْبَةِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى نَظَرِ الْخِزَانَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ حُمِلَتْ خِلْعَةُ
الْقَضَاءِ إِلَى الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَجْدِ وَكِيلِ بَيْتِ
الْمَالِ يَوْمَئِذٍ، فَلَبِسَهَا، وَرَكِبَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
مَدْرَسَتِهِ الْإِقْبَالِيَّةِ، فَقُرِئَ بِهَا أَيْضًا، وَحَكَمَ بَيْنَ
خَصْمَيْنِ، وَكَتَبَ عَلَى أَوْرَاقِ السَّائِلِينَ، وَدَرَّسَ
بِالْعَادِلِيَّةِ، وَالْغَزَّالِيَّةِ، وَالْأَتَابِكِيَّةِ، مَعَ تَدْرِيسِ
الْإِقْبَالِيَّةِ، وَذَلِكَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ جُمْلَةَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ الْحِجَّةِ حَضَرَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ
مُهَنَّا بْنُ عِيسَى، وَفِي صُحْبَتِهِ صَاحِبُ حَمَاةَ الْأَفْضَلُ بْنُ
الْمُؤَيَّدِ، فَتَلَقَّاهُمَا تَنْكِزُ وَأَكْرَمَهُمَا، وَصَلَّيَا الْجُمُعَةَ
عِنْدَ النَّائِبِ، ثُمَّ تَوَجَّهَا إِلَى مِصْرَ، فَتَلَقَّاهُمَا أَعْيَانُ
الْأُمَرَاءِ، وَأَكْرَمَ السُّلْطَانُ مُهَنَّا بْنَ عِيسَى، وَأَطْلَقَ لَهُ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْقُمَاشِ،
وَأَقْطَعُهُ عِدَّةَ قُرَى، وَرَسَمَ لَهُ بِالْعَوْدِ إِلَى أَهْلِهِ، فَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ. قَالُوا: وَكَانَ
جَمِيعُ مَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ بِهِ قِيمَةَ
مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ مِائَةٌ
وَسَبْعُونَ خِلْعَةً.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسِ الْحِجَّةِ حَضَرَ دَرْسَ الرَّوَاحِيَّةِ
الْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ الْمَجْدِ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَعْيَانُ الْفُضَلَاءِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ خُلِعَ عَلَى نَجْمِ الدِّينِ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ
بِوَكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ، عِوَضًا عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ الْمَجْدِ،
وَعَلَى الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ مُنَجَّا بِنَظَرِ الْجَامِعِ، وَعَلَى
عِمَادِ الدِّينِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ بِالْحِسْبَةِ عِوَضًا عَنْ عِزِّ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيِّ، وَخَرَجَ الثَّلَاثَةُ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ
بِالطَّرَحَاتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الْأَجَلُّ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ بَدْرُ الدِّينِ لُؤْلُؤُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، عَتِيقُ النَّقِيبِ شُجَاعِ الدِّينِ إِدْرِيسَ، وَكَانَ رَجُلًا حَسَنًا
يَتَّجِرُ فِي الْجَوْخِ، مَاتَ فَجْأَةً عَصْرَ يَوْمِ الْخَمِيسِ خَامِسَ
الْمُحَرَّمِ، وَخَلَّفَ أَوْلَادًا وَثَرْوَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ،
وَلَهُ بِرٌّ وَصَدَقَةٌ وَمَعْرُوفٌ، وَسَبَّعَ بِمَسْجِدِ ابْنِ هِشَامٍ.
الصَّدْرُ أَمِينُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ فَخْرِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي
الْعَيْشِ الْأَنْصَارِيُّ الدِّمَشْقِيُّ،
بَانِي الْمَسْجِدِ الْمَشْهُورِ بِهِ بِالرَّبْوَةِ، عَلَى
حَافَّةِ بَرَدَى، وَالطَّهَارَةِ الْحِجَارَةِ إِلَى جَانِبِهِ، وَالسُّوقِ
الَّذِي هُنَاكَ، وَلَهُ بِجَامِعِ النَّيْرَبِ مِيعَادٌ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ " الْبُخَارِيَّ "، وَحَدَّثَ
بِهِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ التُّجَّارِ ذَوِي الْيَسَارِ، تُوُفِّيَ بُكْرَةَ
الْجُمُعَةِ سَادِسَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْخَطِيبُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ عِمَادُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ
الْخَطِيبِ ظَهِيِرُ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ
الزُهْرِيُّ النَّابُلُسِيُّ، خَطِيبُ الْقُدْسِ، وَقَاضِي نَابُلُسَ مُدَّةً
طَوِيلَةً، ثُمَّ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ خَطَابَةِ الْقُدْسِ وَقَضَائِهَا، وَلَهُ
اشْتِغَالٌ، وَفِيهِ فَضِيلَةٌ، وَشَرَحَ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " فِي
مُجَلَّدَاتٍ، وَكَانَ سَرِيعَ الْحِفْظِ، سَرِيعَ الْكِتَابَةِ، تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِمَامِلَّا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الصَّدْرُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ، التَّاجِرُ
بِقَيْسَارِيَّةَ الشُّرْبِ، كَتَبَ الْمَنْسُوبَ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ،
وَوَلِيَ سَمْسَرَةَ التُّجَّارِ; لِأَمَانَتِهِ، وَدِيَانَتِهِ، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ وَمُطَالَعَةٌ فِي الْكُتُبِ، تُوُفِّيَ تَاسِعَ صَفَرٍ عَنْ نَحْوِ
سِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَمَالُ الدِّينِ قَاضِي الْقُضَاةِ الزُّرَعِيُّ، هُوَ أَبُو
الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ ابْنُ الْخَطِيبِ مَجْدِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ سَالِمِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْأَذْرَعِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِأَذْرِعَاتٍ، وَاشْتَغَلَ بِدِمَشْقَ فَحَصَّلَ،
وَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِزُرَعَ مُدَّةً، فَعُرِفَ بِالزُّرَعِيِّ لِذَلِكَ،
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَذْرِعَاتٍ، وَأَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ
نَابَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ، فَنَابَ فِي الْحُكْمِ بِهَا،
ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِهَا نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ، ثُمَّ وَلِيَ
قَضَاءَ الشَّامِ مُدَّةً مَعَ مَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ نَحْوًا مِنْ سَنَةٍ
أَيْضًا، ثُمَّ عُزِلَ وَبَقِيَ عَلَى مَشْيَخَةِ الشُّيُوخِ مَعَ تَدْرِيسِ
الْأَتَابِكِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى مِصْرَ فَوَلِيَ بِهَا
التَّدْرِيسَ وَقَضَاءَ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ تُوُفِّيَ بِهَا يَوْمَ الْأَحَدِ
سَادِسَ صَفَرٍ، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ خَرَّجَ
لَهُ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ الْبِرْزَالِيُّ مَشْيَخَةً، سَمَّعْنَاهَا
عَلَيْهِ وَهُوَ بِدِمَشْقَ عَنِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَيْخًا.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الزَّاهِدُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ عُبَيْدَانَ الْبَعْلَبَكِّيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، أَحَدُ فُضَلَاءِ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ صَنَّفَ فِي الْحَدِيثِ،
وَالْفِقْهِ، وَالتَّصَوُّفِ، وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كَانَ
فَاضِلًا لَهُ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ،
وَقَدْ وَقَعَتْ لَهُ كَائِنَةٌ فِي أَيَّامِ الظَّاهِرِ،
أَنَّهُ أُصِيبَ فِي عَقْلِهِ أَوْ زَوَالِ فِكْرِهِ، أَوْ قَدْ عَمِلَ عَلَى
الرِّيَاضَةِ فَاحْتَرَقَ بَاطِنُهُ مِنَ الْجُوعِ، فَرَأَى خَيَالَاتٍ لَا
حَقِيقَةَ لَهَا، فَاعْتَقَدَ أَنَّهَا أَمْرٌ خَارِجِيٌّ، وَإِنَّمَا هُوَ
خَيَالٌ فِكْرِيٌّ فَاسِدٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي نِصْفِ صَفَرٍ بِبَعْلَبَكَّ،
وَدُفِنَ بِبَابِ سَطْحَا، وَلَمْ يُكْمِلِ السِّتِّينَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِدِمَشْقَ صَلَاةُ الْغَائِبِ، وَعَلَى الْقَاضِي الزُّرَعِيِّ مَعًا.
الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ قَرَطَايُ، نَائِبُ طَرَابُلُسَ، لَهُ أَوْقَافٌ
وَصَدَقَاتٌ، وَبِرٌّ، وَصِلَاتٌ، تُوُفِّيَ بِطَرَابُلُسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْعِرْدِيُّ
الْمُؤَقِّتُ، كَانَ فَاضِلًا فِي صِنَاعَةِ الْمِيقَاتِ وَعِلْمِ
الْأَصْطُرْلَابِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ، بَارِعًا فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ; لِسُوءِ أَخْلَاقِهِ وَشَرَاسَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ ضَعُفَ
بَصَرُهُ، فَسَقَطَ مِنْ قَيْسَارِيَّةَ بِحِسْيٍ، فَمَاتَ عَشِيَّةَ السَّبْتِ
عَاشِرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ.
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَلَبَانُ طُرْنَا بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ النَّاصِرِيِّ، كَانَ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ بِدِمَشْقَ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ
يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ تُوُفِّيَ بِدَارِهِ عِنْدَ مِئْذَنَةِ فَيْرُوزٍ
لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَةٍ اتَّخَذَهَا إِلَى جَانِبِ دَارِهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا مُقْرِئِينَ،
وَرَتَّبَ عِنْدَهَا مَسْجِدًا بِإِمَامٍ وَمُؤَذِّنٍ.
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاضِي حَرَّانَ،
نَاظِرُ الْأَوْقَافِ بِدِمَشْقَ، مَاتَ اللَّيْلَةَ الَّتِي مَاتَ فِيهَا الَّذِي
قَبْلَهُ، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ عِمَادُ الدِّينِ الشِّيرَازِيُّ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ ذُو الْفُنُونِ تَاجُ الدِّينِ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ الْإِسْكَنْدَرَانِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَاكِهَانِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ
الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَبَرَعَ، وَتَقَدَّمَ فِي مَعْرِفَةِ النَّحْوِ وَغَيْرِهِ،
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةٍ، قَدِمَ دِمَشْقَ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ فِي أَيَّامِ الْأَخْنَائِيِّ، فَأَنْزَلَهُ
بِالْعَادِلِيَّةِ، وَسَمَّعْنَا
عَلَيْهِ وَمَعَهُ، وَحَجَّ مِنْ دِمَشْقَ عَامَئِذٍ، وَسُمِّعَ
عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ، وَرَجَعَ إِلَى بِلَادِهِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ
الْجُمُعَةِ سَابِعَ جُمَادَى الْأُولَى، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِدِمَشْقَ حِينَ
بَلَغَهُمْ خَبَرُ مَوْتِهِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ أَمِينُ الدِّينِ أَيْمَنُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ اسْمَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
مُحَمَّدٍ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا، كُلُّهُمُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَقَدْ
جَاوَرَ بِالْمَدِينَةِ مُدَّةَ سِنِينَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ
ثَامِنَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِدِمَشْقَ صَلَاةُ الْغَائِبِ.
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ الْقِبَابِيُّ الْحَمَوِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى اللَّخْمِيُّ - الْقِبَابُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى أُشْمُونِ
الرُّمَّانِ - أَقَامَ بِحَمَاةَ فِي زَاوِيَةٍ يُزَارُ وَيُلْتَمَسُ دُعَاؤُهُ،
كَانَ عَابِدًا وَرِعًا زَاهِدًا، أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ،
حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بِهَا آخِرَ نَهَارِ الِاثْنَيْنِ
رَابِعَ عَشَرَ رَجَبٍ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
حَافِلَةً هَائِلَةً جِدًّا، وَدُفِنَ شَمَالِيَّ حَمَاةَ، كَانَ عِنْدَهُ
فَضِيلَةٌ، وَاشْتَغَلَ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَهُ
كَلَامٌ حَسَنٌ يُؤْثَرُ عَنْهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ سَيِّدِ النَّاسِ، الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ الْبَارِعُ فَتْحُ الدِّينِ أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْإِمَامِ أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدٍ ابْنِ الْإِمَامِ الْحَافِظِ الْخَطِيبِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ابْنُ سَيِّدِ النَّاسِ الرَّبَعِيُّ الْيَعْمُرِيُّ الْأَنْدَلُسِيُّ الْإِشْبِيلِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، وُلِدَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِالْقَاهِرَةِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَجَازَ لَهُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ سَنَةَ تِسْعِينَ، وَسَمِعَ مِنْ أَصْحَابِ الْكِنْدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، فَبَرَعَ وَسَادَ أَقْرَانَهُ فِي عُلُومٍ شَتَّى مِنَ الْحَدِيثِ، وَالْفِقْهِ، وَالنَّحْوِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَعِلْمِ السِّيَرِ، وَالتَّوَارِيخِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفُنُونِ، وَقَدْ جَمَعَ سِيرَةً حَسَنَةً فِي مُجَلَّدَيْنِ، وَشَرَحَ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ أَوَّلِ " جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ " رَأَيْتُ مِنْهَا مُجَلَّدًا بِخَطِّهِ الْحَسَنِ، وَقَدْ حُرِّرَ وَحُبِّرَ، وَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ بَعْضِ الِانْتِقَادِ، وَلَهُ الشِّعْرُ الرَّائِقُ الْفَائِقُ، وَالنَّثْرُ الْمُوَافِقُ، وَالْبَلَاغَةُ التَّامَّةُ، وَحُسْنُ التَّرْصِيفِ وَالتَّصْنِيفِ، وَجَوْدَةُ الْبَدِيهَةِ، وَحُسْنُ
الطَّوِيَّةِ، وَلَهُ الْعَقِيدَةُ السَّلَفِيَّةُ
الْمَوْضُوعَةُ عَلَى الْآيِ وَالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ، وَالِاقْتِفَاءِ بِالْآثَارِ
النَّبَوِيَّةِ، وَيُذْكَرُ عَنْهُ سُوءُ أَدَبٍ فِي أَشْيَاءَ أُخَرَ، اللَّهُ
يَتَوَلَّاهُ فِيهَا، وَلَهُ مَدَائِحُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِسَانٌ، وَكَانَ شَيْخَ الْحَدِيثِ بِالظَّاهِرِيَّةِ
بِمِصْرَ، وَخَطِيبَ جَامِعِ الْخَنْدَقِ، وَلَمْ يَكُنْ بِمِصْرَ فِي مَجْمُوعِهِ
مِثْلُهُ فِي حِفْظِ الْأَسَانِيدِ، وَالْمُتُونِ، وَالْعِلَلِ، وَالْفِقْهِ،
وَالْمُلَحِ، وَالْأَشْعَارِ، وَالْحِكَايَاتِ، تُوُفِّيَ فَجْأَةً يَوْمَ
السَّبْتِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَكَانَتْ
جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَدُفِنَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَمْزَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَثْوَاهُ.
الْقَاضِي مَجْدُ الدِّينِ حَرَمِيُّ بْنُ قَاسِمِ بْنِ يُوسُفَ الْعَامِرِيُّ
الْفَاقُوسِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَمُدَرِّسُ
الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ وَنَهْضَةٌ، وَعَلَتْ سِنُّهُ
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَحْفَظُ وَيَشْتَغِلُ، وَيُلْقِي الدُّرُوسَ مِنْ حِفْظِهِ
إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ ثَانِيَ ذِي الْحِجَّةِ، وَوَلِيَ تَدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ
بَعْدَهُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَمَّاحِ، وَالْمَدْرَسَةِ الْقُطْبِيَّةِ
بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ عَقِيلٍ، وَوَلِيَ الْوِكَالَةَ نَجْمُ الدِّينِ
الْإِسْعِرْدِيُّ الْمُحْتَسِبُ، وَهُوَ كَانَ وَكِيلَ بَيْتِ الظَّاهِرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَحُكَّامُ الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَنَاظِرُ الْجَامِعِ عِزُّ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا، وَالْمُحْتَسِبُ عِمَادُ
الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَغَيْرُهُمْ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ يَوْمَ الْخَمِيسِ حَضَرَ الدَّرْسَ بِأُمِّ
الصَّالِحِ الشَّيْخُ الصَّالِحُ شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَطِيبِ يَبْرُودَ عِوَضًا
عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَجْدِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ رَجَعَ مُهَنَّا بْنُ عِيسَى مِنْ عِنْدِ
السُّلْطَانِ، فَتَلَقَّاهُ النَّائِبُ وَالْجَيْشُ، وَعَادَ إِلَى أَهْلِهِ فِي
عِزٍّ وَعَافِيَةٍ.
وَفِيهِ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِعِمَارَةِ جَامِعِ الْقَلْعَةِ وَتَوْسِيعِهِ،
وَعِمَارَةِ جَامِعِ مِصْرَ الْعَتِيقِ.
وَقَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَمَالِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ تَاجِ الدِّينِ بْنِ
الْأَثِيرِ كَاتِبَ سِرٍّ بِهَا، عِوَضًا عَنْ شَرَفِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ.
وَوَقَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَالَّذِي بَعْدَهُ مَوْتٌ كَثِيرٌ فِي
النَّاسِ بِالْخَانُوقِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مُسِكَ الْأَمِيرُ نَجْمُ الدِّينِ بْنُ الزَّيْبَقِ
مُشِدُّ الدَّوَاوِينِ، وَصُودِرَ، وَبِيعَتْ خُيُولُهُ وَحَوَاصِلُهُ،
وَتَوَلَّاهُ بَعْدَهُ سَيْفُ الدِّينِ تَمُرٌ مَمْلُوكُ بَكْتَمُرَ الْحَاجِبِ،
وَهُوَ مُشِدُّ الزَّكَاةِ.
وَفِيهِ كَمَلَتْ عِمَارَةُ حَمَّامِ الْأَمِيرِ شَمْسِ الدِّينِ حَمْزَةَ الَّذِي
كَانَ قَدْ تَمَكَّنَ عِنْدَ تَنْكِزَ بَعْدَ نَاصِرِ الدِّينِ الدَّوَادَارِ،
ثُمَّ وَقَعَتِ الشَّنَاعَةُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِ فِي عِمَارَةِ هَذَا
الْحَمَّامِ، فَقَابَلَهُ النَّائِبُ عَلَى ذَلِكَ، وَانْتَصَفَ لِلنَّاسِ مِنْهُ،
وَضَرَبَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَمَاهُ بِالْبُنْدُقِ بِيَدِهِ فِي وَجْهِهِ
وَسَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ الْقَلْعَةَ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى بُحَيْرَةِ
طَبَرِيَّةَ فَغَرَّقَهُ فِيهَا.
وَعُزِلَ الْأَمِيرُ جَمَالُ الدِّينِ نَائِبُ الْكَرَكِ عَنْ نِيَابَةِ
طَرَابُلُسَ حَسَبَ سُؤَالِهِ فِي ذَلِكَ، وَرَاحَ إِلَيْهَا طَيْنَالُ، وَقَدِمَ
نَائِبُ الْكَرَكِ إِلَى دِمَشْقَ، وَقَدْ رُسِمَ لَهُ بِالْإِقَامَةِ فِي
صَرْخَدَ، فَلَمَّا تَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْجَيْشُ نَزَلَ بِدَارِ
السَّعَادَةِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ بِهَا، وَنُقِلَ إِلَى الْقَلْعَةِ، ثُمَّ نُقِلَ
إِلَى صَفَدَ، ثُمَّ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، ثُمَّ كَانَ آخِرُ الْعَهْدِ
بِهِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى احْتِيطَ عَلَى دَارِ الْأَمِيرِ 7 بَكْتَمُرَ
الْحَاجِبِ الْحُسَامِيِّ بِالْقَاهِرَةِ، وَنُبِشَتْ، وَأُخِذَ مِنْهَا شَيْءٌ
كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ جَدُّ أَوْلَادِهِ نَائِبَ الْكَرَكِ الْمَذْكُورَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ بَاشَرَ
حُسَامُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ ابْنُ الْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ أَيْبَكَ
النَّجِيبِيُّ شَدَّ الْأَوْقَافِ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ بَكْتَاشَ، اعْتُقِلَ،
وَخُلِعَ عَلَى الْمُتَوَلِّي، وَهَنَّأَهُ النَّاسُ.
وَفِي مُنْتَصَفِ هَذَا الشَّهْرِ عُلِّقَ السِّتْرُ الْجَدِيدُ عَلَى خِزَانَةِ
الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَهُوَ مِنْ خَزٍّ، طُولُهُ ثَمَانِيَةُ أَذْرُعٍ،
وَعَرْضُهُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ، غُرِمَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ
وَخَمْسُمِائَةٍ، وَعُمِلَ فِي مُدَّةِ سَنَةٍ وَنِصْفٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الْخَمِيسِ تَاسِعَ شَوَّالٍ، وَأَمِيرُهُ
عَلَاءُ الدِّينِ الْمُرْسِيُّ، وَقَاضِيهِ شِهَابُ الدِّينِ الظَّاهِرِيُّ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ رَجَعَ جَيْشُ حَلَبَ إِلَيْهَا، وَكَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ
سِوَى مَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ التُّرْكُمَانِ، وَكَانُوا فِي بِلَادِ أَذَنَةَ،
وَطَرَسُوسَ، وَآيَاسَ، وَقَدْ خَرَّبُوا وَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَأَسَرُوا خَلْقًا
كَثِيرًا، وَلَمْ يُعْدَمْ مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ غَرِقَ بِنَهْرِ
جَاهَانَ، وَلَكِنْ قَتَلَ الْكُفَّارُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْ رَجُلٍ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ - مِنَ التُّجَّارِ
وَغَيْرِهِمْ - فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِحَمَاةَ، احْتَرَقَتْ مِنْهُ أَسْوَاقٌ
كَثِيرَةٌ وَأَمْلَاكٌ وَأَوْقَافٌ، وَهَلَكَتْ أَمْوَالٌ لَا تُحْصَرُ،
وَكَذَلِكَ احْتَرَقَ أَكْثَرُ مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ، فَتَأَلَّمَ
الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ خُرِّبَ الْمَسْجِدُ الَّذِي كَانَ فِي
وَسَطِ الطَّرِيقِ بَيْنَ بَابِ النَّصْرِ وَبَابِ الْجَابِيَةِ، عَنْ حُكْمِ
الْقُضَاةِ بِأَمْرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَبُنِيَ غَرْبِيَّهُ مَسْجِدٌ حَسَنُ
الشَّكْلِ، أَحْسَنُ وَأَنْفَعُ مِنَ الْأَوَّلِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْمُعَمَّرُ رَئِيسُ الْمُؤَذِّنِينَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ،
بُرْهَانُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْوَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ وَرَوَى، وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ وَالشَّكْلِ، مُحَبَّبًا إِلَى
الْعَوَامِّ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ سَادِسَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِبَابِ
الصَّغِيرِ، وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ فِي الرِّيَاسَةِ وَلَدُهُ أَمِينُ الدِّينِ
مُحَمَّدٌ الْوَانِيُّ، الْمُحَدِّثُ الْمُفِيدُ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَهُ بِبِضْعٍ
وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
الْكَاتِبُ الْمُطْبِقُ الْمُجَوِّدُ الْمُحَرِّرُ، بَهَاءُ الدِّينِ مَحْمُودُ
بْنُ خَطِيبِ بَعْلَبَكَّ مُحْيِي الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ السُّلَمِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَاعْتَنَى بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَبَرَعَ فِيهَا، وَتَقَدَّمَ
عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ قَاطِبَةً فِي النَّسْخِ وَبَقِيَّةِ الْأَقْلَامِ،
وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ، طَيِّبَ الْأَخْلَاقِ، طَيِّبَ الصَّوْتِ،
حَسَنَ التَّوَدُّدِ، تُوُفِّيَ فِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَدُفِنَ بِتُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلَاءُ الدِّينِ السِّنْجَارِيُّ - وَاقِفُ دَارِ الْقُرْآنِ عِنْدَ بَابِ
النَّاطْفَانِيِّينَ شَمَالِيَّ الْأُمَوِيِّ بِدِمَشْقَ - عَلِيُّ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَحْمُودٍ، كَانَ أَحَدَ التُّجَّارِ الصُّدُقِ الْأَخْيَارِ
ذَوِي الْيَسَارِ، الْمُسَارِعِينَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، تُوُفِّيَ بِالْقَاهِرَةِ
لَيْلَةَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ
الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الْحَرِيرِيِّ.
الْعَدْلُ نَجْمُ الدِّينِ التَّاجِرُ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّحْبِيُّ، بَانِي التُّرْبَةِ الْمَشْهُورَةِ
بِالْمِزَّةِ، وَقَدْ جَعَلَ فِيهَا مَسْجِدًا، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا
دَارَّةً، وَصَدَقَاتٍ هُنَاكَ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، عَدْلٌ
مَرْضِيٌّ عِنْدَ جَمِيعِ الْحُكَّامِ، وَتَرَكَ أَوْلَادًا وَأَمْوَالًا جَمَّةً،
وَدَارًا هَائِلَةً، وَبَسَاتِينَ بِالْمِزَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ
الْمَذْكُورَةِ بِالْمِزَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الْكَرِيمِ بْنُ عَبْدِ النُّورِ بْنِ مُنِيرِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ النُّورِ،
الْحَلَبِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْمُحَدِّثِينَ
بِهَا، وَالْقَائِمِينَ بِحِفْظِ الْحَدِيثِ، وَرِوَايَتِهِ، وَتَدْوِينِهِ،
وَشَرْحِهِ، وَالْكَلَامِ عَلَيْهِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
وَسِتِّمِائَةٍ بِحَلَبَ،
وَقَرَأَ الْقُرْآنَ بِالرِّوَايَاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَقَرَأَ " الشَّاطِبِيَّةَ " وَ " الْأَلْفِيَّةَ "،
وَبَرَعَ فِي فَنِّ الْحَدِيثِ، وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَتَبَ
كَثِيرًا، وَصَنَّفَ شَرْحًا لِأَكْثَرِ " الْبُخَارِيِّ "، وَجَمَعَ
تَارِيخًا لِمِصْرَ، وَلَمْ يُكْمِلْهُمَا، وَتَكَلَّمَ عَلَى السِّيرَةِ الَّتِي
جَمَعَهَا الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ، وَخَرَّجَ لِنَفْسِهِ أَرْبَعِينَ
حَدِيثًا مُتَبَايِنَةَ الْإِسْنَادِ، وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، مُطَّرِحًا
لِلْكُلْفَةِ، طَاهِرَ اللِّسَانِ، كَثِيرَ الْمُطَالَعَةِ وَالِاشْتِغَالَ، إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَحَدِ سَلْخَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ
مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ عِنْدَ خَالِهِ نَصْرٍ الْمَنْبِجِيِّ، وَخَلَّفَ تِسْعَةَ
أَوْلَادٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي الْإِمَامُ زَيْنُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْكَافِي بْنُ
عَلِيِّ بْنِ تَمَّامِ بْنِ يُوسُفَ السُّبْكِيُّ، قَاضِي الْمَحَلَّةِ، وَوَالِدُ
الْعَلَّامَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ،
سَمِعَ مِنِ ابْنِ الْأَنْمَاطِيِّ، وَابْنِ خَطِيبِ الْمِزَّةِ، وَحَدَّثَ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي تَاسِعِ شَعْبَانَ، وَتَبِعَتْهُ زَوْجَتُهُ نَاصِرِيَّةُ
بِنْتُ الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ السُّبْكِيِّ،
وَدُفِنَتْ بِالْقَرَافَةِ، وَقَدْ سَمِعَتْ مِنِ ابْنِ الصَّابُونِيِّ شَيْئًا
مِنْ " سُنَنِ النَّسَائِيِّ "، وَكَذَلِكَ ابْنَتُهَا مُحَمَّدِيَّةُ،
وَقَدْ تُوُفِّيَتْ قَبْلَهَا.
تَاجُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْمِصْرِيُّ،
وَيُعْرَفُ بِكَاتِبِ
قَطْلُوبَكَ، وَهُوَ وَالِدُ الْعَلَّامَةِ فَخْرِ الدِّينِ
شَيْخِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَمُدَرِّسِهِمْ فِي عِدَّةِ مَدَارِسَ،
وَوَالِدُهُ هَذَا لَمْ يَزَلْ فِي الْخِدْمَةِ وَالْكِتَابَةِ إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ عِنْدَهُ بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ
ثَالِثَ عِشْرِينَ شَعْبَانَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِالْجَامِعِ،
وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ عَبْدُ الْكَافِي، وَيُعْرَفُ بِعُبَيْدِ بْنِ أَبِي
الرِّجَالِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ سُلْطَانَ بْنِ خَلِيفَةَ الْمَنِينِيِّ،
وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْأَزْرَقِ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بَقَرِيَّةٍ مِنْ بِلَادِ بِعْلَبَكَّ، ثُمَّ
أَقَامَ بِقَرْيَةِ مَنِينَ، وَكَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنَ الْحَدِيثِ، وَجَاوَزَ التِّسْعِينَ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بْنِ شَعْبَانَ بْنِ عَلِيٍّ
الْأَنْصَارِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالشَّيَّاخِ، لَهُ زَاوِيَةٌ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ
بِالْوَادِي الشَّمَالِيِّ، مَشْهُورَةٌ بِهِ، وَكَانَ قَدْ بَلَغَ التِّسْعِينَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ وَأَسْمَعُهُ، كَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْأُمُورِ، وَعِنْدَهُ
بَعْضُ مُكَاشَفَةٍ، وَهُوَ رَجُلٌ حَسَنٌ، تُوُفِّيَ أَوَاخِرَ شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأَمِيرُ سُلْطَانُ الْعَرَبِ حُسَامُ الدِّينِ مُهَنَّا بْنُ عِيسَى بْنِ
مُهَنَّا، أَمِيرُ الْعَرَبِ بِالشَّامِ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ
سُلَالَةِ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ، مِنْ ذُرِّيَّةِ
الْوَلَدِ الَّذِي جَاءَ مِنَ الْعَبَّاسَةِ أُخْتِ الرَّشِيدِ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ، مُحْتَرَمًا عِنْدَ الْمُلُوكِ
كُلِّهِمْ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ، وَكَانَ دَيِّنًا خَيِّرًا،
مُتَحَرِّيًا لِلْحَقِّ، وَخَلَّفَ أَوْلَادًا وَوَرَثَةً وَأَمْوَالًا كَثِيرَةً،
وَقَدْ بَلَغَ سِنًّا عَالِيَةً، وَكَانَ يُحِبُّ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ
ابْنَ تَيْمِيَةَ حُبًّا زَائِدًا، هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ وَعَرَبُهُ، وَلَهُ عِنْدَهُمْ
مَنْزِلَةٌ وَحُرْمَةٌ وَإِكْرَامٌ، يَسْمَعُونَ قَوْلَهُ وَيَمْتَثِلُونَهُ،
وَهُوَ الَّذِي نَهَاهُمْ أَنْ يُغِيرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعَرَّفَهُمْ
أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ جَلِيلٌ، وَكَانَ وَفَاةُ
مُهَنَّا هَذَا بِبِلَادِ سَلَمِيَّةَ فِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ،
وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الزَّاهِدُ فَضْلُ بْنُ عِيسَى بْنِ قِنْدِيلٍ
الْعَجْلُونِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْمُقِيمُ بِالْمِسْمَارِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنْ
بِلَادِ خَيْرَانَ، كَانَ مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا، يَلْبَسُ ثِيَابًا
طِوَالًا، وَعِمَامَةً هَائِلَةً وَهِيَ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، وَكَانَ
يَعْرِفُ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا، وَيُقْصَدُ لِذَلِكَ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنْ
أَحَدٍ شَيْئًا، وَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ وَظَائِفُ بِجَوَامِكَ كَثِيرَةٍ
وَأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَيَرْضَى بِالرَّغِيدِ الْهَنِيِّ
مِنَ الْعَيْشِ الْحَسَنِ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَهُ
نَحْوُ تِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ، وَالْحُكَّامُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا رَكِبَ تَنْكِزُ إِلَى قَلْعَةِ
جَعْبَرَ، وَمَعَهُ الْجَيْشُ وَالْمَجَانِيقُ، فَغَابُوا شَهْرًا وَخَمْسَةَ
أَيَّامٍ ثُمَّ عَادُوا سَالِمِينَ.
وَفِي ثَامِنِ صَفَرٍ فُتِحَتِ الْخَانَقَاهْ الَّتِي أَنْشَأَهَا سَيْفُ الدِّينِ
قُوصُونُ النَّاصِرِيُّ خَارِجَ بَابِ الْقَرَافَةِ، وَتَوَلَّى مَشْيَخَتَهَا
الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الْأَصْبِهَانِيُّ الْمُتَكَلِّمُ.
وَفِي عَاشِرِ صَفَرٍ خَرَجَ ابْنُ جُمْلَةَ مِنَ السِّجْنِ بِالْقَلْعَةِ.
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِمَوْتِ مَلِكِ التَّتَارِ بُو سَعِيدِ بْنِ خَرْبَنْدَا
بْنِ أَرْغُونَ بْنِ أَبْغَا بْنِ هُولَاكُو بْنِ تُولَى بْنِ جَنْكِزْخَانَ فِي
يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ بِدَارِ السَّلْطَنَةِ
بِقُرَّابَاغَ، وَهُوَ مَنْزِلُهُمْ فِي الشِّتَاءِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى
تُرْبَتِهِ بِمَدِينَتِهِ الَّتِي
أَنْشَأَهَا قَرِيبًا مِنَ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي
أَنْشَأَهَا أَبُوهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ خِيَارِ مُلُوكِ التَّتَارِ،
وَأَحْسَنِهِمْ طَرِيقَةً، وَأَثْبَتِهِمْ عَلَى السُّنَّةِ، وَأُقَوَمِهِمْ
بِهَا، وَقَدْ عَزَّ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَذَلَّتِ الرَّافِضَةُ -
بِخِلَافِ دَوْلَةِ أَبِيهِ - ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لَمْ يَقُمْ لِلتَّتَارِ
قَائِمَةٌ، بَلِ اخْتَلَفُوا فَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا،
وَكَانَ الْقَائِمُ مِنْ بَعْدِهِ بِالْأَمْرِ أَرْبَا كَاوُونَ مِنْ ذُرِّيَّةِ
أَبْغَا، وَلَمْ يَسْتَمِرَّ لَهُ الْأَمْرُ إِلَّا قَلِيلًا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى دَرَّسَ
بِالنَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ الْأَرْدُبِيلِيُّ
عِوَضًا عَنْ كَمَالِ الدَّيْنِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَفِيهِ دَرَّسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْمُقْرِئُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ الْحَرِيرِيُّ
عِوَضًا عَنْ نُورِ الدِّينِ الْأَرْدُبِيلِيِّ; تَرَكَهَا لَمَّا حَصَلَتْ لَهُ
النَّاصِرِيَّةُ الْجَوَّانِيَّةُ.
وَبَعْدَهُ بِيَوْمٍ دَرَّسَ بِالنَّجِيبِيَّةِ كَاتِبُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
كَثِيرٍ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الزَّبَدَانِيِّ;
تَرَكَهَا حِينَ تَعَيَّنَ لَهُ تَدْرِيسُ الظَّاهِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ،
وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَ دَرْسًا حَافِلًا أَثْنَى
عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ جَمْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، وَكَانَ
ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ [ فَاطِرٍ: 28 ]. وَانْسَاقَ الْكَلَامُ إِلَى مَسْأَلَةِ رِبَا
الْفَضْلِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرَهُ ذَكَرَ الدَّرْسَ بِالظَّاهِرِيَّةِ
الْمَذْكُورَةِ ابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيُّ، عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ
الْقَلَانِسِيِّ ; تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَطِيرًا.
وَفِي أَوَّلِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
بِدِيَارِ مِصْرَ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ إِلَى شَهْرِ شَعْبَانَ.
وَتَوَجَّهَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي رَجَبٍ إِلَى مَكَّةَ نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْنِ
وَخَمْسِمِائَةٍ، مِنْهُمْ; عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ، وَفَخْرُ الدِّينِ
النُّوَيْرِيُّ، وَحُسَيْنٌ السَّلَامِيُّ، وَأَبُو الْفَتْحِ السَّلَامِيُّ،
وَخَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِي رَجَبٍ كَمَلَتْ عِمَارَةُ جِسْرِ بَابِ الْفَرَجِ، وَعُمِلَ عَلَيْهِ
بَاشُورَةٌ، وَرُسِمَ بِاسْتِمْرَارِ فَتْحِهِ إِلَى بَعْدِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ
كَبَقِيَّةِ الْأَبْوَابِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُغْلَقُ مِنَ الْمَغْرِبِ.
وَفِي سَلْخِ رَجَبٍ أُقُيِمَتِ الْجُمُعَةُ بِالْجَامِعِ الَّذِي أَنْشَاهُ
نَجْمُ الدِّينِ بْنُ خَيْلَخَانَ تُجَاهَ بَابِ كَيْسَانَ مِنَ الْقِبْلَةِ،
وَخَطَبَ فِيهِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ
الْجَوْزِيَّةِ.
وَفِي ثَانِي شَعْبَانَ بَاشَرَ كِتَابَةَ السِّرِّ بِدِمَشْقَ الْقَاضِي عَلَمُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ قُطْبِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ مُفَضَّلٍ، عِوَضًا عَنْ
جَمَالِ الدِّينِ بْنِ الْأَثِيرِ، عُزِلَ وَرَاحَ إِلَى مِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ رَمَضَانَ ذَكَرَ الدَّرْسَ
بِالْأَمِينِيَّةِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ بَهَاءُ
الدِّينِ ابْنُ إِمَامِ الْمَشْهَدِ، عِوَضًا عَنْ عَلَاءِ الدِّينِ
بْنِ الْقَلَانِسِيِّ. وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْهُ خُلِعَ عَلَى الصَّدْرِ نَجْمِ
الدِّينِ بْنِ أَبِي الطَّيِّبِ بِنَظَرِ الْخِزَانَةِ مُضَافًا إِلَى مَا
بِيَدِهِ مِنْ وِكَالَةِ بَيْتِ الْمَالِ بَعْدَ وَفَاةِ ابْنِ الْقَلَانِسِيِّ
بِشُهُورٍ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ قَطْلُودَمُرُ الْخَلِيلِيُّ.
وَمِمَّنْ حَجَّ فِيهِ; قَاضِي طَرَابُلُسَ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ جَهْبَلٍ،
وَالْفَخْرُ الْمِصْرِيُّ، وَابْنُ قَاضِي الزَّبَدَانِيُّ، وَابْنُ الْعِزِّ
الْحَنَفِيُّ، وَابْنُ غَانِمٍ، وَالسَّخَاوِيُّ، وَابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ،
وَنَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الرَّبْوَةِ الْحَنَفِيُّ.
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِوَقْعَةٍ جَرَتْ بَيْنَ التَّتَارِ فِي نِصْفِ رَمَضَانَ
قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَانْتَصَرَ عَلِيُّ بَاشَا وَسُلْطَانُهُ
الَّذِي كَانَ قَدْ أَقَامَهُ - وَهُوَ مُوسَى كَاوُونُ - عَلَى أَرْبَاكَاوُونَ
وَأَصْحَابُهُ، فَقُتِلَ هُوَ وَوَزِيرُهُ ابْنُ رَشِيدِ الدَّوْلَةِ، وَجَرَتْ
خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ، وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ.
وَفِي رَابِعِ ذِي الْقِعْدَةِ خُلِعَ عَلَى نَاظِرِ الْجَامِعِ الشَّيْخِ عِزِّ
الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا; بِسَبَبِ إِكْمَالِهِ الْبَطَائِنَ فِي الرِّوَاقِ
الشَّمَالِيِّ وَالْغَرْبِيِّ وَالشَّرْقِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ لَهُ
بَطَائِنُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ ذَكَرَ الدَّرْسَ
بِالشِّبْلِيَّةِ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ عِمَادِ
الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً،
وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَشَكَرُوا مِنْ فَضِيلَتِهِ
وَنَبَاهَتِهِ، وَفَرِحُوا لِأَبِيهِ بِهِ.
وَفِيهَا عُزِلَ ابْنُ النَّقِيبِ عَنْ قَضَاءِ حَلَبَ، وَوَلِيَهَا ابْنُ خَطِيبِ
جِبْرِينَ، وَوَلِيَ الْحِسْبَةَ بِالْقَاهِرَةِ ضِيَاءُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ابْنِ خَطِيبِ بَيْتِ الْآبَارِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
السُّلْطَانُ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِاعْتِقَالِ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنْ يُمْنَعُوا مِنَ الِاجْتِمَاعِ،
فَآلَ أَمْرُهُمْ كَمَا كَانَ فِي أَيَّامِ الظَّاهِرِ وَالْمَنْصُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السُّلْطَانُ بُو سَعِيدِ بْنُ خَرْبَنْدَا، وَكَانَ آخِرَ مَنِ اجْتَمَعَ شَمْلُ
التَّتَارِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِهِ.
الشَّيْخُ الْمُعَمَّرُ الرُّحْلَةُ، الْبَنْدَنِيجِيُّ شَمْسُ الدِّينِ عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَمْدُودِ بْنِ عِيسَى الْبَنْدَنِيجِيُّ الصُّوفِيُّ، قَدِمَ
عَلَيْنَا مِنْ بَغْدَادَ شَيْخًا كَبِيرًا رَاوِيًا لِأَشْيَاءَ كَثِيرَةً،
مِنْهَا; " صَحِيحُ مُسْلِمٍ "، وَ " التِّرْمِذِيُّ "،
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَعِنْدَهُ فَوَائِدُ، وُلِدَ
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَ
وَالِدُهُ مُحَدِّثًا، فَأَسْمَعَهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً عَلَى مَشَايِخَ عِدَّةٍ،
وَكَانَ مَوْتُهُ بِدِمَشْقَ فِي سَابِعِ الْمُحَرَّمِ.
قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ قُطْبُ الدِّينِ أَبُو الْفَضَائِلِ مُحَمَّدُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ الْفَضْلِ التِّبْرِيزِيُّ الشَّافِعِيُّ، الْمَعْرُوفُ
بِالْأَخَوَيْنِ، سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ، وَاشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ،
وَالْأُصُولِ، وَالْمَنْطِقِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالْمَعَانِي، وَالْبَيَانِ،
وَكَانَ بَارِعًا فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ، وَدَرَّسَ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ بَعْدَ
الْعَاقُولِيِّ، وَفِي مَدَارِسَ كِبَارٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ، كَثِيرَ
الْحُنُوِّ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، مُتَوَاضِعًا، يَكْتُبُ حَسَنًا
أَيْضًا، تُوُفِّيَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ عِنْدَ
دَارِهِ بِبَغْدَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ
بْنِ أَبِي الزَّهْرِ، الْمَعْرُوفُ بِالْغَزَّالِ، كَانَتْ لَهُ مُطَالَعَةٌ،
وَعِنْدَهُ شَيْءٌ مِنَ التَّارِيخِ، وَيُحَاضِرُ جَيِّدًا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الصَّلَاةِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ دُفِنَ بِتُرْبَةٍ لَهُ عِنْدَ حَمَّامِ الْعَدِيمِ.
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ مُغْلَطَايْ الْخَازِنُ، نَائِبُ الْقَلْعَةِ،
وَصَاحِبُ التُّرْبَةِ تُجَاهَ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ مِنَ الْغَرْبِ، كَانَ
رَجُلًا جَيِّدًا، لَهُ أَوْقَافٌ وَبِرٌّ وَصَدَقَاتٌ، تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُكْرَةَ عَاشِرِ صَفَرٍ، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ الْمَذْكُورَةِ.
الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ بْنِ
الشِّيرَازِيِّ الدِّمَشْقِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ الْفَزَارِيِّ، وَالشَّيْخِ زَيْنِ
الدِّينِ الْفَارِقِيِّ، وَحَفِظَ " مُخْتَصَرَ الْمُزَنِيِّ "،
وَدَرَّسَ فِي وَقْتٍ بِالْبَادَرَائِيَّةِ، وَفِي وَقْتٍ آخَرَ بِالشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، ثُمَّ وَلِيَ تَدْرِيسَ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ
مُدَّةَ سِنِينَ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ، وَكَانَ صَدْرًا كَبِيرًا، ذُكِرَ
لِقَضَاءِ قُضَاةِ دِمَشْقَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْمُبَاشَرَةِ
وَالشَّكْلِ، تُوُفِّيَ فِي ثَالِثِ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ الْمَسْعُودِ جَلَالِ
الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْعَادِلِ، كَانَ شَيْخًا مُسِنًّا قَدِ اعْتَنَى بِ " صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ " يَخْتَصِرُهُ، وَلَهُ فَهْمٌ جَيِّدٌ، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ،
وَكَانَ يَسْكُنُ الْمِزَّةَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ لَيْلَةَ السَّبْتِ خَامِسَ
عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَلَهُ أَرْبَعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ
بِالْمِزَّةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْقَلَانِسِيِّ، قَاضِي الْعَسْكَرِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَمُوَقِّعُ
الدَّسْتِ، وَمُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ
مِنَ الْمَنَاصِبِ، ثُمَّ سُلِبَهَا كُلَّهَا سِوَى التَّدْرِيسِ،
وَبَقِيَ مَعْزُولًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ بُكْرَةَ السَّبْتِ
خَامِسِ عِشْرِينَ صَفَرٍ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ.
عِزُّ الدِّينِ أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ مَحْمُودٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْقَلَانِسِيِّ، مُحْتَسِبُ
دِمَشْقَ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ، كَانَ مَحْمُودَ الْمُبَاشَرَةِ، ثُمَّ عُزِلَ
عَنِ الْحِسْبَةِ، وَاسْتَمَرَّ بِالْخِزَانَةِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ.
الشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْمَجْدِ بْنِ شَرَفِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَحْمَدَ
الْحِمْصِيُّ ثُمَّ الدِّمَشْقِيُّ، مُؤَذِّنَ الرَّبْوَةِ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ وَتَعَالِيقُ، وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِمَّا
يُنْكَرُ أَمْرُهَا، وَكَانَ مَحْلُولًا فِي دِينِهِ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى أَيْضًا.
الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ بَرْقٍ، مُتَوَلِّي دِمَشْقَ، شَهِدَ
جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، تُوُفِّيَ فِي ثَانِي شَعْبَانَ، وَدُفِنَ
بِالصَّالِحِيَّةِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ النَّاسُ.
الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الشَّمْسِ لُؤْلُؤٍ، مُتَوَلِّي الْبَرِّ، كَانَ
مَشْكُورًا أَيْضًا، تُوُفِّيَ رَابِعَ رَمَضَانَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا،
تُوُفِّيَ بِبُسْتَانِهِ بِبَيْتِ لَهْيَا، وَدُفِنَ
بِتُرْبَتِهِ هُنَاكَ، وَتَرَكَ ذَرِّيَّةً كَثِيرَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَزِيرِ
فَتْحِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدِ بْنِ
نَصْرِ بْنِ صَغِيرِ بْنِ الْقَيْسَرَانِيِّ، أَحَدُ كُتَّابِ الدَّسْتِ، وَكَانَ
مِنْ خِيَارِ النَّاسِ، مُحِبًّا لِلْفُقَرَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَفِيهِ
مُرُوءَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَتَبَ بِمِصْرَ، ثُمَّ صَارَ إِلَى حَلَبَ كَاتِبَ
سِرِّهَا، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ
الْغَدِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ
سَنَةً، وَقَدْ سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى الْأَبَرْقُوهِيِّ
وَغَيْرِهِ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ تُوُفِّيَ شِهَابُ الدِّينِ ابْنُ الْقِدِّيسَةِ
الْمُحَدِّثُ، بِطَرِيقِ الْحِجَازِ الشَّرِيفِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ الشَّمْسُ مُحَمَّدٌ الْمُؤَذِّنُ، الْمَعْرُوفُ
بِالنَّجَّارِ، وَيُعْرَفُ بِالْبَتِّيِّ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ وَيُنْشِدُ فِي
الْمَحَافِلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ قَدِ
اعْتَقَلَهُ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ، وَمَنَعَهُ مِنَ الِاجْتِمَاعِ
بِالنَّاسِ، وَنَائِبُ الشَّامِ تَنْكِزُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيُّ،
وَالْقُضَاةُ وَالْمُبَاشِرُونَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
سِوَى كَاتِبِ السِّرِّ، فَإِنَّهُ عَلَمُ الدِّينِ بْنُ الْقُطْبِ، وَوَالِي
الْبَرِّ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ قَطْلُوبَكَ بْنِ شَشْنَكِيرَ، وَوَالِي
الْمَدِينَةِ حُسَامُ الدِّينِ طُرُنْطَايُ الْجُوكَنْدَارِيُّ.
وَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ
عَلِيَّ بَاشَا كُسِرَ جَيْشُهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قُتِلَ.
وَوَصَلَتْ كُتُبُ الْحُجَّاجِ فِي الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
تَصِفُ مَشَقَّةً كَثِيرَةً حَصَلَتْ لِلْحُجَّاجِ; مِنْ مَوْتِ الْجِمَالِ،
وَإِلْقَاءِ الْأَحْمَالِ، وَمَشْيِ كَثِيرٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ
حَالٍ.
وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْقَاضِي حُسَامُ الدِّينِ
حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغُورِيُّ قَاضِي بَغْدَادَ، وَالْوَزِيرُ نَجْمُ
الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شِرْوَانَ الْكُرْدِيُّ، وَشَرَفُ الدِّينِ
عُثْمَانُ بْنُ حَسَنٍ الْبَلَدِيُّ، فَأَقَامُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ
تَوَجَّهُوا إِلَى مِصْرَ، فَحَصَلَ لَهُمْ قَبُولٌ تَامٌّ مِنَ السُّلْطَانِ،
فَاسْتَقْضَى الْأَوَّلَ عَلَى الْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَيَأْتِي،
وَاسْتَوْزَرَ الثَّانِيَ، وَأَمَّرَ الثَّالِثَ.
وَفِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أُحْضِرَ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ
شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ اللَّبَّانِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ - إِلَى
مَجْلِسِ الْحُكْمِ الْجَلَالِيِّ، وَحَضَرَ مَعَهُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ، وَمَجْدُ الدِّينِ الْأَقْصُرَائِيُّ شَيْخُ الشُّيُوخِ، وَشَمْسُ
الدِّينِ الْأَصْبِهَانِيُّ، فَادُّعِيَ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ مِنَ
الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَالْغُلُوِّ فِي الْقَرْمَطَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَأَقَرَّ بِبَعْضِهَا، فَحُكِمَ بِحَقْنِ دَمِهِ، ثُمَّ تُوُسِّطَ فِي أَمْرِهِ،
وَأُبْقِيَتْ عَلَيْهِ جِهَاتُهُ، وَمُنِعَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النَّاسِ، وَقَامَ
فِي صَفِّهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِي صَفَرٍ احْتَرَقَ بِقَصْرِ حَجَّاجٍ حَرِيقٌ عَظِيمٌ، أَتْلَفَ دُورًا
وَدَكَاكِينَ عَدِيدَةً.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وُلِدَ لِلسُّلْطَانِ وَلَدٌ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ،
وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ أَيَّامًا. وَفِي مُنْتَصَفِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُمِّرَ
الْأَمِيرُ صَارِمُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ الْحَاجِبُ السَّاكِنُ تُجَاهَ جَامِعِ
كَرِيمِ الدِّينِ طَبْلَخَانَاهْ، وَهُوَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَهُ مَقَاصِدُ حَسَنَةٌ
صَالِحَةٌ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ رَجُلٌ جَيِّدٌ. وَأُفْرِجُ عَنِ الْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، وَأُطْلِقَ مِنَ الْبُرْجِ فِي حَادِي عِشْرِينَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ عِشْرِينَ جُمَادَى الْآخِرَةِ أُقِيمَتِ الْجُمُعَةُ
فِي جَامِعَيْنِ بِمِصْرَ، أَحَدِهِمَا أَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ
أَيْدَمُرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطِيرِيُّ، مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ
بِاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالْآخَرِ
أَنْشَأَتْهُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا: السِّتُّ حَدَقُ - دَادَةُ السُّلْطَانِ
النَّاصِرِ - عِنْدَ قَنْطَرَةِ السِّبَاعِ.
وَفِي شَعْبَانَ سَافَرَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ شَرَفِ بْنِ
مَنْصُورٍ النَّائِبُ فِي الْحُكْمِ بِدِمَشْقَ إِلَى قَضَاءِ طَرَابُلُسَ، وَنَابَ
بَعْدَهُ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ النَّقِيبِ الْبَعْلَبَكِّيُّ.
وَفِيهِ خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عِزِّ الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ بِوِكَالَةِ بَيْتِ
الْمَالِ بِمِصْرَ، وَعَلَى ضِيَاءِ الدِّينِ ابْنِ خَطِيبِ بَيْتِ الْآبَارِ
بِالْحِسْبَةِ بِالْقَاهِرَةِ، مَعَ مَا بِيَدِهِ مِنْ نَظَرِ الْأَوْقَافِ
وَغَيْرِهِ. وَفِيهِ أُمِّرَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ نَاظِرُ الْقُدْسِ
بِطَبْلَخَانَاهْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقُدْسِ.
وَفِي عَاشِرِ رَمَضَانَ قَدِمَتْ مِنْ مِصْرَ مُقَدَّمَتَانِ أَلْفَانِ إِلَى دِمَشْقَ،
سَائِرَتَانِ إِلَى بِلَادِ سِيسٍ، وَفِيهِمْ عَلَاءُ الدِّينِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ
أَهْلُ الْعِلْمِ، وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي
الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ شَوَّالٍ،
وَأَمِيرُهُ بِهَادِرُ قَبْجَقُ، وَقَاضِيهِ مُحْيِي الدِّينِ الطَّرَابُلُسِيُّ
مُدَرِّسُ الْحِمْصِيَّةِ، وَفِي الرَّكْبِ تَقِيُّ الدِّينِ شَيْخُ الشُّيُوخِ،
وَعِمَادُ الدِّينِ بْنُ الشِّيرَازِيِّ، وَنَجْمُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ،
وَجَمَالُ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيُّ، وَصَاحِبُهُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ مُفْلِحٍ،
وَالصَّدْرُ الْمَالِكِيُّ، وَالشَّرَفُ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ، وَالشَّيْخُ
خَالِدٌ الْمُقِيمُ عِنْدَ دَارِ الطُّعْمِ، وَجَمَالُ الدِّينِ بْنُ الشِّهَابِ
مَحْمُودٍ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ وَصَلَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْجَيْشَ
تَسَلَّمُوا مِنْ بِلَادِ سِيسٍ سَبْعَ قِلَاعٍ، وَحَصَلَ لَهُمْ خَيْرٌ كَثِيرٌ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَفِيهِ كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ التَّتَارِ، انْتَصَرَ فِيهَا
الشَّيْخُ حَسَنٌ وَذَوُوهُ.
وَفِي التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَفَى السُّلْطَانُ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مُحَمَّدُ بْنُ قَلَاوُونَ الْخَلِيفَةَ وَأَهْلَهُ وَذَوِيهِ -
وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ نَفْسٍ - إِلَى بِلَادِ قُوصَ، وَرَتَّبَ لَهُمْ
هُنَاكَ مَا يَقُومُ بِمَصَالِحِهِمْ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ غَانِمٍ، أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَمَائِلَ بْنِ عَلِيٍّ الْمَقْدِسِيُّ، أَحَدُ الْكُتَّابِ
الْمَشْهُورِينَ بِالْفَضَائِلِ، وَحُسْنِ التَّرَسُّلِ، وَكَثْرَةِ الْأَدَبِ
وَالْأَشْعَارِ، وَالْمُرُوءَةِ التَّامَّةِ، مَوْلِدُهُ سِنَةَ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَحَفِظَ
الْقُرْآنَ، وَ " التَّنْبِيهَ "، وَبَاشَرَ الْجِهَاتِ، وَقَصَدَهُ
النَّاسُ فِي الْأُمُورِ الْمُهِمَّاتِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْإِحْسَانِ إِلَى
الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، تُوُفِّيَ مَرْجِعَهُ فِي الْحَجِّ فِي مَنْزِلَةِ تَبُوكَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، ثُمَّ تَبِعَهُ أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ،
وَكَانَ أَصْغَرَ
مِنْهُ سِنًّا بِسَنَةٍ، وَكَانَ فَاضِلًا أَيْضًا، بَارِعًا،
كَثِيرَ الدِّيَانَةِ.
الشَّرَفُ مَحْمُودٌ الْحَرِيرِيُّ، الْمُؤَذِّنُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
بَنَى حَمَّامًا بِالنَّيْرَبِ، وَمَاتَ فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِعْضَادِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ مَاجِدِ بْنِ مَالِكٍ
الْجَعْبَرِيُّ ثُمَّ الْمِصْرِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ
بِقَلْعَةِ جَعْبَرَ، وَسَمِعَ " صَحِيحَ مُسْلِمٍ " وَغَيْرَهُ،
وَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ وَيَعِظُهُمْ، وَيَسْتَحْضِرُ أَشْيَاءَ
كَثِيرَةً مِنَ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ وَعِبَادَةٌ، تُوُفِّيَ
فِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِمْ
عِنْدَ وَالِدِهِ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ.
الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ الْحَنَفِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ قَاضِي الْحِصْنِ،
وَيُعْرَفُ بِابْنِ عَبْدِ الْحَقِّ الْحَنَفِيِّ، شَيْخُ الْمَذْهَبِ وَمُدَرِّسُ
الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا دَيِّنًا، تُوُفِّيَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ نِعْمَةَ
الْمَقْدِسِيُّ النَّابُلُسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، الْإِمَامُ
الْعَالِمُ الْعَابِدُ، شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ بِهَا، وَمُفْتِيهِمْ مِنْ مُدَّةٍ
طَوِيلَةٍ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ مُحِبُّ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ الْمُحِبِّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَنْصُورٍ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ الطِّبَاقَ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَتْ
لَهُ مَجَالِسُ وَعْظٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
وَغَيْرِهِ، وَلَهُ صَوْتٌ طَيِّبٌ بِالْقِرَاءَةِ جِدًّا، وَعَلَيْهِ رُوحٌ
وَسَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، وَكَانَتْ مَوَاعِيدُهُ مُفِيدَةً يَنْتَفِعُ بِهَا
النَّاسُ، وَكَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ
يُحِبُّهُ وَيُحِبُّ قِرَاءَتَهُ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَدُفِنَ بِقَاسِيُونَ، وَشَهِدَ
النَّاسُ لَهُ بِالْخَيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَلَغَ خَمْسًا
وَخَمْسِينَ سَنَةً.
الْمُحَدِّثُ الْبَارِعُ الْمُحَصِّلُ الْمُفِيدُ الْمُخَرِّجُ الْمَجِيدُ،
نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْرِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْرَفِيُّ
أَبُوهُ، الْخَوَارِزْمِيُّ الْأَصْلِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ،
وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، قَرَأَ الْكُتُبَ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ،
وَجَمَعَ وَخَرَّجَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ
بَارِعًا فِي هَذَا الشَّأْنِ، رَحَلَ فَأَدْرَكَتْهُ
مَنِيَّتُهُ بِحَمَاةَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،
وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِمَقَابِرِ طَيْبَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَفِيفِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْعِمِ بْنِ نِعْمَةَ الْمَقْدِسِيُّ النَّابُلُسِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدِ الْحَنَابِلَةِ بِهَا، وُلِدَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ،
حَسَنَ الصَّوْتِ، عَلَيْهِ الْبَهَاءُ وَالْوَقَارُ وَحُسْنُ الشَّكْلِ
وَالسَّمْتِ، قَرَأْتُ عَلَيْهِ عَامَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ -
مَرْجِعَنَا مِنَ الْقُدْسِ الشَّرِيفِ - كَثِيرًا مِنَ الْأَجْزَاءِ
وَالْفَوَائِدِ، وَهُوَ وَالِدُ صَاحِبِنَا الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ
أَحَدِ مُفْتِي الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمَشْهُورِينَ بِالْخَيْرِ
وَالصَّلَاحِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْآخِرِ،
وَدُفِنَ هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَجْدِ إِبْرَاهِيمَ
الْمُرْشِدِيُّ، الْمُقِيمُ بِمُنْيَةِ مُرْشِدٍ، يَقْصِدُهُ النَّاسُ
لِلزِّيَارَةِ، وَيُضِيفُ النَّاسَ عَلَى حَسَبِ مَرَاتِبِهِمْ، وَيُنْفِقُ
نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً جِدًّا، وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا فِيمَا
يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ
دُهْرُوطَ، وَأَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ مُدَّةً، وَاشْتَغَلَ بِهَا، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ قَرَأَ " التَّنْبِيهَ " فِي الْفِقْهِ، ثُمَّ انْقَطَعَ
بِمُنْيَةِ مُرْشِدٍ، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ فِي
النَّاسِ، وَحَجَّ مَرَّاتٍ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ الْقَاهِرَةَ
يَزْدَحِمُ عَلَيْهِ النَّاسُ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَامِنَ
رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِزَاوِيَتِهِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ وَدِمَشْقَ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ.
الْأَمِيرُ أَسَدُ الدِّينِ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ الْمُغِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ عِيسَى بْنِ الْعَادِلِ، وُلِدَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ وَأَسْمَعَ، وَكَانَ يَأْتِي
كُلَّ سَنَةٍ مِنْ مِصْرَ إِلَى دِمَشْقَ، وَيُكْرِمُ أَهْلَ الْحَدِيثِ، وَلَمْ
يَبْقَ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ بَنِي أَيُّوبَ أَعْلَى سَنًّا مِنْهُ، تُوُفِّيَ
بِالرَّمْلَةِ فِي سَلْخِ رَمَضَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْفَاضِلُ حُسَيْنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُسَيْنٍ
الْجَاكِيُّ الْحِكْرِيُّ، إِمَامُ مَسْجِدٍ هُنَاكَ، وَمُذَكِّرُ النَّاسِ فِي
كُلِّ جُمُعَةٍ، وَلَدَيْهِ فَضَائِلُ، وَفِي كَلَامِهِ نَفْعٌ كَثِيرٌ، إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ، وَلَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَ
جَنَازَتِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَالْخَلِيفَةُ الْمُسْتَكْفِي مَنْفِيٌّ
بِبِلَادِ قُوصَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وَذَوُوهُ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ، وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ، وَلَا نَائِبَ
بِدِيَارِ مِصْرَ وَلَا وَزِيرَ، وَنَائِبُهُ بِدِمَشْقَ تَنْكِزُ، وَقُضَاةُ
الْبِلَادِ وَنُوَّابُهَا وَمُبَاشِرُوهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا.
وَفِي ثَالِثِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِتَسْفِيرِ عَلِيٍّ
وَمُحَمَّدٍ ابْنَيْ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْعَاضِدِ آخَرِ
خُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ إِلَى الْفَيُّومِ يُقِيمُونَ بِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ عُزِلَ الْقَاضِي
عَلَمُ الدِّينِ بْنُ الْقُطْبِ مِنْ كِتَابَةِ السِّرِّ، وَضُرِبَ وَصُودِرَ،
وَنُكِبَ بِسَبَبِهِ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ الْمِصْرِيُّ، وَعُزِلَ عَنْ
مَدْرَسَتِهِ الدَّوْلَعِيَّةِ، وَأَخَذَهَا ابْنُ جُمْلَةَ، وَالْعَادِلِيَّةِ
الصَّغِيرَةِ، وَبَاشَرَهَا ابْنُ النَّقِيبِ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ
بِالْعَذْرَاوِيَّةِ مِائَةُ يَوْمٍ، وَأُخِذَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ ثَالِثِ عِشْرِينَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَعْدَ
الْمَغْرِبِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِمِصْرَ وَأَعْقَبَهَا رَعْدٌ وَبَرْقٌ
وَبَرَدٌ بِقَدْرِ الْجَوْزِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُشَاهِدُوا مِثْلَهُ مِنْ
أَعْصَارٍ مُتَطَاوِلَةٍ بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِي عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى اسْتَهَلَّ الْغَيْثُ
بِمَكَّةَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَ سَيْلٌ
عَظِيمٌ هَائِلٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ مِنْ دَهْرٍ طَوِيلٍ، فَخَرَّبَ دُورًا
كَثِيرَةً نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَكْثَرَ، وَغَرَّقَ جَمَاعَةً، وَكَسَرَ
أَبْوَابَ الْمَسْجِدِ، وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، وَارْتَفَعَ فِيهَا نَحْوًا مِنْ
ذِرَاعٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَجَرَى أَمْرٌ عَظِيمٌ، حَكَاهُ الشَّيْخُ عَفِيفُ
الدِّينِ الْمَطَرِيُّ.
وَفِي سَابِعِ عِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى عُزِلَ الْقَاضِي جَلَالُ
الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ عَنْ قَضَاءِ مِصْرَ، وَاتَّفَقَ وَصُولُ خَبَرِ مَوْتِ
قَاضِي الشَّامِ ابْنِ الْمَجْدِ بَعْدَ أَنْ عُزِلَ بِيَسِيرٍ، فَوَلَّاهُ
السُّلْطَانُ قَضَاءَ الشَّامِ، فَسَارَ إِلَيْهَا رَاجِعًا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ،
ثُمَّ عَزَلَ السُّلْطَانُ بُرْهَانَ الدِّينِ بْنَ عَبْدِ الْحَقِّ قَاضِيَ
الْحَنَفِيَّةِ، وَعَزَلَ قَاضِيَ الْحَنَابِلَةِ تَقِيَّ الدِّينِ، وَرَسَمَ
عَلَى وَلَدِهِ صَدْرِ الدِّينِ بِأَدَاءِ دُيُونِ النَّاسِ إِلَيْهِمْ، وَكَانَتْ
قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ
عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ بَعْدَ سَفَرِ جَلَالِ الدِّينِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ طَلَبَ
السُّلْطَانُ أَعْيَانَ الْفُقَهَاءِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، فَسَأَلَهُمْ عَمَّنْ
يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ بِمِصْرَ، فَوَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَى الْقَاضِي عِزِّ
الدِّينِ بْنِ جَمَاعَةَ، فَوَلَّاهُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، وَوَلَّى
قَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ لِحُسَامِ الدِّينِ حَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغُورِيِّ
الْبَغْدَادِيِّ قَاضِي بَغْدَادَ، وَخَرَجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ إِلَى
الْمَدْرَسَةِ الصَّالِحِيَّةِ، وَعَلَيْهِمَا الْخُلَعُ، وَنَزَلَ عِزُّ الدِّينِ
بْنُ جَمَاعَةَ عَنْ دَارِ الْحَدِيثِ الْكَامِلِيَّةِ لِصَاحِبِهِ الشَّيْخِ
عِمَادِ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيِّ، فَدَرَّسَ فِيهَا، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ:إِنَّمَا
الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ بِسَنَدِهِ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَعَزَلَ
نُوَّابَ الْحُكْمِ، وَاسْتَمَرَّ بِالْمُنَاوِيِّ الَّذِي أَشَارَ
بِتَوْلِيَتِهِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَامِسِ عِشْرِينَ مِنْهُ وَلِيَ قَضَاءَ الْحَنَابِلَةِ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَقْدِسِيُّ، عِوَضًا عَنِ الْمَعْزُولِ،
وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْقُضَاةِ سِوَى الْأَخْنَائِيِّ الْمَالِكِيِّ.
وَفِي رَمَضَانَ فُتِحَتِ الصَّبَّابِيَّةُ الَّتِي أَنْشَأَهَا شَمْسُ الدِّينِ
بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّبَّابِ التَّاجِرُ دَارَ قُرْآنٍ وَدَارَ
حَدِيثٍ، وَقَدْ كَانَتْ خَرِبَةً شَنِيعَةً قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِي رَمَضَانَ بَاشَرَ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيٌّ ابْنُ الْقَاضِي مُحْيِي
الدِّينِ بْنِ فَضْلِ اللَّهِ كِتَابَةَ السِّرِّ بِمِصْرَ، بَعْدَ وَفَاةِ
أَبِيهِ، كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ بَدْرِ
الدِّينِ، وَرُسِمَ لَهُمَا أَنْ يَحْضُرَا مَجْلِسَ السُّلْطَانِ، وَذَهَبَ
أَخُوهُ شِهَابُ الدِّينِ إِلَى الْحَجِّ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ سَقَطَ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ مِصْرَ بَرَدٌ
كَالْبَيْضِ وَكَالرُّمَّانِ، فَأَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا. ذَكَرَ ذَلِكَ
الْبِرْزَالِيُّ، وَنَقَلَهُ مِنْ كِتَابِ الشِّهَابِ الدِّمْيَاطِيِّ.
وَفِي ثَالِثِ عِشْرِينَ رَمَضَانَ دَرَّسَ بِالْقُبَّةِ الْمَنْصُورِيَّةِ
بِمَشْيَخَةِ الْحَدِيثِ شِهَابُ الدِّينِ الْعَسْجَدِيُّ، عِوَضًا عَنْ زَيْنِ
الدِّينِ الْكَتَّانِيِّ، تُوُفِّيَ، فَأَوْرَدَ حَدِيثًا مِنْ
" مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ " بِرِوَايَتِهِ عَنِ
الْجَاوِلِيِّ بِسَنَدِهِ، ثُمَّ صُرِفَ عَنْهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ بِالشَّيْخِ
أَثِيرِ الدِّينِ أَبِي حَيَّانَ، فَسَاقَ حَدِيثًا عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَدَعَا لِلسُّلْطَانِ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَ
مَجْلِسًا حَافِلًا.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ حَضَرَ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ قَاضِي
الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقِيبِ، عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي جَمَالِ
الدِّينِ بْنِ جُمْلَةَ، تُوُفِّيَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْأَعْيَانِ.
وَفِي ثَانِي ذِي الْحِجَّةِ دَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ تَاجُ
الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيِّ، عِوَضًا عَنِ ابْنِ النَّقِيبِ بِحُكْمِ وِلَايَتِهِ
الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَرَّسَ صَدْرُ الدِّينِ ابْنُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ
بِالْأَتَابَكِيَّةِ، وَأَخُوهُمَا الْخَطِيبُ بَدْرُ الدِّينِ بِالْغَزَّالِيَّةِ
وَالْعَادِلِيَّةِ نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ فَخْرِ الدِّينِ عِيسَى
بْنِ التُّرْكُمَانِ بَانِي جَامِعِ الْمِقْيَاسِ بِدِيَارِ مِصْرَ فِي أَيَّامِ
وِزَارَتِهِ بِهَا، ثُمَّ عُزِلَ عَنْهَا أَمِيرًا إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى مِصْرَ فَتُوُفِّيَ بِهَا فِي خَامِسِ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَدُفِنَ
بِالْحُسَيْنِيَّةِ، وَكَانَ مَشْكُورًا.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ
بْنُ الْبُرْهَانِ، شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ بِحَلَبَ، شَارِحُ " الْجَامِعِ
الْكَبِيرِ "، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُنْقَطِعًا عَنِ النَّاسِ،
وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْقُرْآنِ،
وَالْقِرَاءَاتِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَمُشَارَكَاتٍ فِي عُلُومٍ أُخَرَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
قَاضِي الْقُضَاةِ شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَجْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ الزُّرْزَارِيُّ الْإِرْبِلِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ الشَّافِعِيُّ، قَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وُلِدَ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ، وَبَرَعَ، وَحَصَّلَ،
وَأَفْتَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَدَرَّسَ بِالْإِقْبَالِيَّةِ، ثُمَّ
الرَّوَاحِيَّةِ، وَتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ، وَوَلِيَ وِكَالَةَ بَيْتِ الْمَالِ،
ثُمَّ صَارَ قَاضِيَ قُضَاةِ الشَّامِ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي مُسْتَهَلٍّ
جُمَادَى الْأُولَى بِالْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ
الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ زَيْنُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ عُمَرَ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
الْمُرَحَّلِ، مُدَرِّسُ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ وَالْعَذْرَاوِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَكَانَ فَاضِلًا
بَارِعًا، فَقِيهًا أُصُولِيًّا
مُنَاظِرًا، حَسَنَ الشَّكْلِ، طَيِّبَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ
التَّدْرِيسِ، دَيِّنًا صَيِّنًا، وَنَابَ فِي وَقْتٍ عَنِ الْأَخْنَائِيِّ فِي
الْحُكْمِ، فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ
عَشَرَ رَجَبٍ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ عِنْدَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ فِي تُرْبَةٍ
لَهُمْ هُنَاكَ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَالْقَاضِي جَلَالُ
الدِّينِ، وَكَانَ قَدِمَ مِنْ مِصْرَ لَهُ يَوْمَانِ، وَقَدِمَ بَعْدَهُ ابْنُ
عَبْدِ الْحَقِّ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ هُوَ وَأَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَبَاشَرَ
بَعْدَهُ تَدْرِيسَ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ ابْنُ جُمْلَةَ، تُوُفِّيَ
بَعْدَهُ بِشُهُورٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ;
وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ فِي تَارِيخِ الشَّيْخِ عَلَمِ الدِّينِ الْبِرْزَالِيِّ.
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ
أَبُو الْمَحَاسِنِ يُوسُفُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جُمْلَةَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ
تَمَّامِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ يُوسُفَ الصَّالِحِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمَحَجِّيُّ
وَالِدِهِ - بِالْمَدْرَسَةِ الْمَسْرُورِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ عُقَيْبَ
الظُّهْرِ يَوْمَ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَ ذِي الْقِعْدَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ، وَمَوْلِدُهُ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ مِنِ ابْنِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَحَدَّثَ،
وَكَانَ رَجُلًا فَاضِلًا فِي فُنُونٍ، اشْتَغَلَ، وَحَصَّلَ، وَأَفْتَى،
وَأَعَادَ، وَدَرَّسَ، وَلَهُ فَضَائِلُ جَمَّةٌ وَمَبَاحِثُ
وَفَوَائِدُ، وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَحُرْمَةٌ وَافِرَةٌ،
وَفِيهِ تَوَدُّدٌ وَإِحْسَانٌ وَقَضَاءٌ لِلْحُقُوقِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ
بِدِمَشْقَ نِيَابَةً وَاسْتِقْلَالًا، وَدَرَّسَ بِمَدَارِسَ كِبَارٍ، وَمَاتَ
وَهُوَ مُدَرِّسُ الشَّامِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
أَبُو الْقَاسِمِ هِبَةُ اللَّهِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ ابْنِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ أَبِي الطَّاهِرِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
هِبَةِ اللَّهِ بْنِ الْمُسَلِّمِ بْنِ هِبَةِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ الْحَمَوِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْبَارِزِيِّ، قَاضِي الْقُضَاةِ بِحَمَاةَ، صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ الْمُفِيدَةِ فِي الْفُنُونِ الْعَدِيدَةِ، وُلِدَ فِي
خَامِسِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَحَصَّلَ فُنُونًا كَثِيرَةً، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً جَمَّةً،
وَكَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، كَرِيمَ الْمُحَاضَرَةِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ فِي
الصَّالِحِينَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَذِنَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ
الطَّلَبَةِ فِي الْإِفْتَاءِ، وَعَمِيَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَهُوَ يَحْكُمُ مَعَ
ذَلِكَ مُدَّةً، ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمَنْصِبِ لِحَفِيدِهِ نَجْمِ الدِّينِ
عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ نَظَرَهُ
عَنِ الْمَنْصِبِ، تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقِعْدَةِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعَشَاءَ وَالْوَتْرَ، فَلَمْ تَفُتْهُ
فَرِيضَةٌ وَلَا نَافِلَةٌ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ، وَدُفِنَ
بِعَقَبَةِ بَعْرِينَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ
وَتِسْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْقَاضِي مُحْيِي الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ كَاتِبُ السِّرِّ، هُوَ أَبُو
الْمَعَالِي يَحْيَى بْنُ فَضْلِ اللَّهِ بْنِ الْمُجَلِّي بْنِ دَعْجَانَ بْنِ
خَلَفٍ الْعَدَوِيُّ الْعُمَرِيُّ، وُلِدَ فِي حَادِيَ عَشَرَ شَوَّالٍ سَنَةَ
خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ بِالْكَرَكَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
وَأَسْمَعَهُ، وَكَانَ صَدْرًا كَبِيرًا مُعَظَّمًا فِي الدَّوْلَةِ فِي حَيَاةِ
أَخِيهِ شَرَفِ الدِّينِ وَبَعْدَهُ، وَكَتَبَ السِّرَّ بِالشَّامِ وَبِمِصْرَ،
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ رَمَضَانَ بِمِصْرَ، وَدُفِنَ مِنَ
الْغَدِ بِالْقَرَافَةِ، وَتَوَلَّى الْمَنْصِبَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ الْقَاضِي
عَلَاءُ الدِّينِ، وَهُوَ أَصْغَرُ أَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ الْمُعَيَّنِينَ
بِهَذَا الْمَنْصِبِ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ زَيْنُ الدِّينِ بْنُ الْكَتَّانِيِّ، شَيْخُ
الشَّافِعِيَّةِ بِمِصْرَ، وَهُوَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَبِي الْحَرَمِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُونُسَ الدِّمَشْقِيُّ الْأَصْلِ، وُلِدَ بِالْقَاهِرَةِ
فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَاشْتَغَلَ
بِدِمَشْقَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى مِصْرَ وَاسْتَوْطَنَهَا،
وَتَوَلَّى بِهَا بَعْضَ الْأَقْضِيَةِ بِالْحُكْرِ، ثُمَّ نَابَ عَنِ الشَّيْخِ
تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ، فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ، وَدَرَّسَ
بِمَدَارِسَ كِبَارٍ، وَوَلِيَ مَشْيَخَةَ دَارِ حَدِيثٍ بِالْقُبَّةِ
الْمَنْصُورِيَّةِ، وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا، عِنْدَهُ فَوَائِدُ جَمَّةٌ
كَثِيرَةٌ جِدًّا، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ سَيِّئَ الْأَخْلَاقِ، مُنْقَبِضًا عَنِ
النَّاسِ، لَمْ يَتَزَوَّجْ قَطُّ، وَكَانَ حَسَنَ الشَّكْلِ، بَهِيَّ
الْمَنْظَرِ، يَأْكُلُ الطَّيِّبَاتِ، وَيَلْبَسُ اللَّيِّنَ مِنَ الثِّيَابِ،
وَلَهُ فَوَائِدُ وَزَوَائِدُ عَلَى " الرَّوْضَةِ " وَغَيْرِهَا،
وَكَانَ فِيهِ اسْتِهْتَارٌ بِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَاللَّهُ يُسَامِحُهُ،
تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ نِصْفَ رَمَضَانَ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ رُكْنُ الدِّينِ بْنُ الْقَوْبَعِ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَلِيلِ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
الْجَعْفَرِيُّ التُّونِسِيُّ الْمَالِكِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَوْبَعِ،
كَانَ مِنْ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ وِسَادَةِ الْأَذْكِيَاءِ، وَمِمَّنْ جَمَعَ
الْفُنُونَ الْكَثِيرَةَ، وَالْعُلُومَ الْغَزِيرَةَ الدِّينِيَّةَ الشَّرْعِيَّةَ
وَالطِّبِّيَّةَ، وَكَانَ مُدَرِّسًا بِالْمَنْكُوتَمُرِيَّةِ وَ لَهُ وَظِيفَةٌ
فِي الْمَارَسْتَانِ
الْمَنْصُورِيِّ، وَبِهَا تُوُفِّيَ فِي بُكْرَةِ السَّابِعَ
عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَتَرَكَ مَالًا وَأَثَاثًا
كَثِيرًا وَرِثَهُ بَيْتُ الْمَالِ.
قُلْتُ: فَهَذَا آخِرُ مَا أَرَّخَهُ شَيْخُنَا الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ
الْبِرْزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذَيَّلَ بِهِ عَلَى " تَارِيخِ
الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ أَبِي شَامَةَ "، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ
الْبِرْزَالِيِّ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِمَنْزِلَةِ خُلَيْصٍ،
وَقَدْ ذَيَّلْتُ عَلَى " تَارِيخِهِ " رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى
زَمَانِنَا هَذَا، وَكَانَ فَرَاغِي مِنَ الِانْتِقَاءِ مِنْ تَارِيخِهِ فِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، أَحْسَنَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا، آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ - بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا، وَالدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا،
وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَلَا نَائِبَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ أَيْضًا بِمِصْرَ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ; أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَاضِي الْقُضَاةِ عِزُّ الدِّينِ ابْنُ
قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَمَاعَةَ،
وَأَمَّا الْحَنَفِيُّ فَقَاضِي الْقُضَاةِ حُسَامُ الدِّينِ الْغُورِيُّ حَسَنُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَمَّا الْمَالِكِيُّ فَتَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ،
وَأَمَّا الْحَنْبَلِيُّ فَمُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ نَجَا الْمَقْدِسِيُّ، وَنَائِبُ
الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَنْكِزُ، وَقُضَاتُهُ; جَلَالُ الدِّينِ
الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمَعْزُولُ عَنِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالْحَنَفِيُّ عِمَادُ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ شَرَفُ
الدِّينِ الْهَمْدَانِيُّ، وَالْحَنْبَلِيُّ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا
التَّنُوخِيُّ.
وَمِمَّا حَدَثَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِكْمَالُ دَارِ الْحَدِيثِ
السُّكَّرِيَّةِ، وَبَاشَرَ مَشْيَخَةَ الْحَدِيثِ بِهَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ
الْحَافِظُ مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الذَّهَبِيُّ،
وَقَرَّرَ فِيهَا ثَلَاثُونَ مُحَدِّثًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ جِرَايَةٌ
وَجَامَكِيَّةٌ، كُلُّ شَهْرٍ سَبْعَةُ دَرَاهِمَ وَنِصْفُ رَطْلِ خُبْزٍ،
وَقُرِّرَ لِلشَّيْخِ ثَلَاثُونَ وَرَطْلُ خُبْزٍ، وَقُرِّرَ فِيهَا ثَلَاثُونَ
نَفَرًا
يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لِكُلِّ عَشَرَةٍ شَيْخٌ، وَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنَ الْقُرَّاءِ نَظِيرُ مَا لِلْمُحَدِّثِينَ، وَرُتِّبَ لَهَا إِمَامٌ
وَقَارِئُ حَدِيثٍ وَنُوَّابٌ، وَلِقَارِئِ الْحَدِيثِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا
وَثَمَانِ أَوَاقٍ خُبْزٍ، وَجَاءَتْ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فِي شَكَالَتِهَا
وَبِنَائِهَا، وَهِيَ تُجَاهَ دَارِ الذَّهَبِ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْوَاقِفُ
الْأَمِيرُ تَنْكِزُ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا عِدَّةَ أَمَاكِنَ مِنْهَا: سُوقُ
الْقَشَّاشِينَ بِبَابِ الْفَرَجِ، طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا شَرْقًا وَغَرْبًا،
سَمَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ، وَبَنْدَرُ زَبْدِينَ، وَحَمَّامٌ بِحِمْصَ
وَهُوَ الْحَمَّامُ الْقَدِيمُ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا حِصَصًا فِي قَرَايَا أُخَرَ،
وَلَكِنَّهُ تَغَلَّبَ عَلَى مَا عَدَا الْقَشَّاشِينَ، وَبَنْدَرَ زَبْدِينَ،
وَحَمَّامَ حِمْصَ.
وَفِيهَا قَدِمَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْكَافِي
السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حَاكِمًا عَلَى
دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ، وَدَخَلَ النَّاسُ يُسَلِّمُونَ
عَلَيْهِ; لِعِلْمِهِ وَدِيَانَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَنَزَلَ بِالْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ، وَدَرَّسَ بِالْغَزَّالِيَّةِ
وَالْأَتَابَكِيَّةِ، وَاسْتَنَابَ ابْنَ عَمِّهِ الْقَاضِيَ بَهَاءَ الدِّينِ
أَبَا الْبَقَاءِ، ثُمَّ اسْتَنَابَ ابْنَ عَمِّهِ أَبَا الْفَتْحِ. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
الشَّامَ بَعْدَ وَفَاةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَزْوِينِيِّ الشَّافِعِيِّ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي الْوَفَيَاتِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ فِي الْمُحَرَّمِ
سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ:
الْعَلَّامَةُ قَاضِي الْقُضَاةِ فَخْرُ الدِّينِ عُثْمَانُ بْنُ الزَّيْنِ
عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ الْحَلَبِيُّ، ابْنُ خَطِيبِ جِبْرِينَ الشَّافِعِيُّ،
وَلِيَ قَضَاءَ حَلَبَ مُدَّةً، وَكَانَ إِمَامًا عَلَّامَةً، صَنَّفَ "
شَرْحَ مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ " فِي الْفِقْهِ، وَ " شَرْحَ
الْبَدِيعِ " لِابْنِ السَّاعَاتِيِّ، وَلَهُ فَوَائِدُ غَزِيرَةٌ
وَمُصَنَّفَاتٌ جَلِيلَةٌ، تَوَلَّى حَلَبَ بَعْدَ عَزْلِ الشَّيْخِ ابْنِ
النَّقِيبِ، ثُمَّ طَلَبَهُ السُّلْطَانُ فَمَاتَ هُوَ وَوَلَدُهُ الْكَمَالُ،
وَلَهُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
قَاضِي الْقُضَاةِ جَلَالُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْقَزْوِينِيُّ الشَّافِعِيُّ، قَدِمَ هُوَ وَأَخُوهُ أَيَّامَ التَّتَرِ مِنْ
بِلَادِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ - وَهُمَا فَاضِلَانِ - بَعْدَ التِّسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، فَدَّرَسَ إِمَامُ الدِّينِ فِي تُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ،
وَأَعَادَ جَلَالَ الدِّينِ بِالْبَادَرَائِيَّةِ عِنْدَ الشَّيْخِ بُرْهَانِ
الدِّينِ ابْنِ الشَّيْخِ تَاجِ الدِّينِ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ، ثُمَّ
تَنَقَّلَتْ بِهِمَا الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ وَلِيَ إِمَامُ الدِّينِ قَضَاءَ
الشَّافِعِيَّةِ بِدِمَشْقَ ; انْتُزِعَ لَهُ مِنْ يَدِ الْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ
بْنِ جَمَاعَةَ، ثُمَّ هَرَبَ سَنَةَ قَازَانَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَعَ
النَّاسِ فَمَاتَ هُنَالِكَ، وَأُعِيدَ ابْنُ جَمَاعَةَ إِلَى الْقَضَاءِ،
وَخَلَتْ خَطَابَةُ الْبَلَدِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَوَلِيَهَا
جَلَالُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ مَعَ الْخَطَابَةِ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، بَعْدَ
أَنَّ عَجَزَ قَاضِي الْقُضَاةِ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ
بِسَبَبِ الضَّرَرِ فِي عَيْنَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَثَلَاثِينَ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ بِسَبَبِ
أُمُورٍ يَطُولُ شَرْحُهَا، وَنَفَاهُ إِلَى الشَّامِ، وَاتَّفَقَ مَوْتُ قَاضِي
الْقُضَاةِ شِهَابِ الدِّينِ بْنِ الْمَجْدِ عَبْدِ اللَّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ،
فَوَلَّاهُ السُّلْطَانُ قَضَاءَ الشَّامِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، فَاسْتَنَابَ
وَلَدَهُ بَدْرَ الدِّينِ عَلَى نِيَابَةِ الْقَضَاءِ، الَّذِي هُوَ خَطِيبُ
دِمَشْقَ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِالصُّوفِيَّةِ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ،
وَيُفْتِي كَثِيرًا، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْمَعَانِي، وَمُصَنَّفٌ مَشْهُورٌ
اخْتَصَرَ فِيهِ " الْمِفْتَاحَ " لِلسَّكَّاكِيِّ، وَكَانَ مَجْمُوعَ
الْفَضَائِلِ، مَاتَ وَكَانَ عُمُرُهُ قَرِيبًا مِنَ السَّبْعِينَ أَوْ
جَاوَزَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا رَابِعَ الْحِجَّةِ يَوْمَ الْأَحَدِ: الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ عَلَمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْبِرْزَالِيِّ، مُؤَرِّخُ الشَّامِ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ
سَنَةَ وَفَاةِ الشَّيْخِ أَبِي شَامَةَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَسِتِّمِائَةٍ،
وَقَدْ كَتَبَ تَارِيخًا ذَيَّلَ بِهِ عَلَى الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ، مِنْ
حِينِ وَفَاتِهِ وَمَوْلِدِ الْبِرْزَالِيِّ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ، وَلَمْ تُسْتَرْ رَأْسُهُ،
وَحَمَلَهُ النَّاسُ عَلَى نَعْشِهِ وَهُمْ يُلَبُّونَ حَوْلَهُ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا، سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ أَزِيدَ مِنْ أَلْفِ
شَيْخٍ، وَخَرَّجَ لَهُ الْمُحَدِّثُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ سَعْدٍ مَشْيَخَةً لَمْ
يُكْمِلْهَا، وَقَرَأَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَسْمَعَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ
لَهُ خَطٌّ حَسَنٌ، وَخُلُقٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مَشْكُورٌ عِنْدَ الْقُضَاةِ
وَمَشَايِخِ أَهْلِ الْعِلْمِ، سَمِعْتُ الْعَلَّامَةَ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَقُولُ:
نَقْلُ الْبِرْزَالِيِّ نَقْرٌ فِي حَجَرٍ. وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْ كُلِّ
الطَّوَائِفِ يُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ، وَكَانَ لَهُ أَوْلَادٌ مَاتُوا
قَبْلَهُ، وَكَتَبَتِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ " الْبُخَارِيَّ " فِي
ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُجَلَّدًا، فَقَابَلَهُ لَهَا، وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهِ عَلَى
الْحَافِظِ الْمِزِّيِّ تَحْتَ الْقُبَّةِ، حَتَّى صَارَتْ نُسْخَتُهَا أَصْلًا
مُعْتَمَدًا يَكْتُبُ مِنْهَا النَّاسُ، وَكَانَ شَيْخَ حَدِيثٍ بِالنُّورِيَّةِ -
وَفِيهَا وَقَفَ كُتُبَهُ - وَبِدَارِ الْحَدِيثِ النَّفِيسِيَّةِ، وَبِدَارِ
الْحَدِيثِ الْقُوصِيَّةِ، وَكَانَ قَارِئَ الْحَدِيثِ بِدَارِ الْحَدِيثِ
الْأَشْرَفِيَّةِ عَلَى الْمِزِّيِّ، وَمَنْ قَبْلَهُ كَابْنِ الشَّرِيشِيِّ،
وَكَانَ يُعِيدُ فِي الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ وَعَلَى كَرَاسِيِّ الْحَدِيثِ،
وَكَانَ مُتَوَاضِعًا مُحَبَّبًا إِلَى النَّاسِ، مُتَوَدِّدًا إِلَيْهِمْ.
تُوُفِّيَ عَنْ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْمُؤَرِّخُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْجَزَرِيُّ، جَمَعَ
تَارِيخًا حَافِلًا كَتَبَ فِيهِ أَشْيَاءَ يَسْتَفِيدُ مِنْهَا الْحَافِظُ;
كَالْمِزِّيِّ، وَالذَّهَبِيِّ، وَالْبِرْزَالِيِّ، يَكْتُبُونَ عَنْهُ
وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى نَقْلِهِ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ
وَثَقُلَ سَمْعُهُ وَضَعُفَ خَطُّهُ، وَهُوَ وَالِدُ الشَّيْخِ نَاصِرِ الدِّينِ
مُحَمَّدٍ وَأَخُوهُ مَجْدُ الدِّينِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ،
وَوُلَاتُهُ وَقُضَاتُهُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا
الشَّافِعِيَّ بِالشَّامِ فَتُوُفِّيَ الْقَزْوِينِيُّ، وَتَوَلَّى الْعَلَّامَةُ
السُّبْكِيُّ.
وَمِمَّا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ الْهَائِلَةِ أَنَّ جَمَاعَةً
مِنْ رُءُوسِ النَّصَارَى اجْتَمَعُوا فِي كَنِيسَتِهِمْ، وَجَمَعُوا مِنْ
بَيْنِهِمْ مَالًا جَزِيلًا، فَدَفَعُوهُ إِلَى رَاهِبَيْنِ قَدِمَا عَلَيْهَا
مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، يُحْسِنَانِ صَنْعَةَ النِّفْطِ، اسْمُ أَحَدِهِمَا
مِيلَانِيُّ، وَالْآخَرُ عَازِرُ، فَعَمِلَا كَعْكًا مِنْ نِفْطٍ، وَتَلَطَّفَا
حَتَّى عَمِلَاهُ لَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ
وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَوَضَعَا فِي شُقُوقِ دَكَاكِينِ التُّجَّارِ فِي سُوقِ
الرِّجَالِ عِنْدَ الدَّهْشَةِ فِي عِدَّةِ دَكَاكِينٍ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ،
بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ بِهِمَا، وَهُمَا فِي زِيِّ الْمُسْلِمِينَ،
فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ لَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ إِلَّا وَالنَّارُ
قَدْ عَمِلَتْ فِي تِلْكَ الدَّكَاكِينِ حَتَّى تَعَلَّقَتْ فِي دَرَابْزِينَاتِ
الْمِئْذَنَةِ الشَّرْقِيَّةِ الْمُتَّجِهَةِ لِلسُّوقِ الْمَذْكُورِ،
وَاحْتَرَقَتِ الدَّرَابْزِينَاتُ، وَجَاءَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ تَنْكِزُ
وَالْأُمَرَاءُ أُمَرَاءُ الْأُلُوفِ،
وَصَعِدُوا الْمَنَارَةَ وَهِيَ تَشْتَعِلُ نَارًا،
وَاحْتَرَسُوا عَنِ الْجَامِعِ فَلَمْ يَنَلْهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِيقِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَأَمَّا الْمِئْذَنَةُ فَإِنَّهَا تَفَجَّرَتْ
أَحْجَارُهَا، وَاحْتَرَقَتِ السِّقَالَاتُ الَّتِي بَدَلُ السَّلَالِمِ،
فَهُدِّمَتْ وَأُعِيدَ بِنَاؤُهَا بِحِجَارَةٍ جُدُدٍ، وَهِيَ الْمَنَارَةُ
الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهَا عِيسَى
بْنُ مَرْيَمَ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - وَالْبَلَدُ مُحَاصَرٌ بِالدَّجَّالِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّصَارَى بَعْدَ لَيَالٍ عَمَدُوا إِلَى نَاحِيَةِ
الْجَامِعِ مِنَ الْغَرْبِ إِلَى الْقَيْسَارِيَّةِ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا
سِلَاحُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَقْوَاسِ، فَأَلْقَوْا فِيهَا النِّفْطَ،
فَاحْتَرَقَتِ الْقَيْسَارِيَّةُ بِكَمَالِهَا وَبِمَا فِيهَا مِنَ الْأَقْوَاسِ
وَالْعُدَدِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَتَطَايَرَ شَرَرُ
النَّارِ إِلَى مَا حَوْلَ الْقَيْسَارِيَّةِ مِنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ
وَالْمَدَارِسِ، وَاحْتَرَقَ جَانِبٌ مِنَ الْمَدْرَسَةِ الْأَمِينِيَّةِ إِلَى
جَانِبِ الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا كَانَ مَقْصُودُهُمْ إِلَّا وَصُولَ
النَّارِ إِلَى مَعْبَدِ الْمُسْلِمِينَ، فَحَالَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا
يَرُومُونَ، وَجَاءَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ وَحَالُوا بَيْنَ
الْحَرِيقِ وَالْمَسْجِدِ، جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَلِمَا تَحَقَّقَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِهِمْ، أَمَرَ
بِمَسْكِ رُءُوسِ النَّصَارَى، فَأَمْسَكَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ
رَجُلًا، فَأُخَذُوا بِالْمُصَادَرَاتِ، وَالضَّرْبِ، وَالْعُقُوبَاتِ،
وَأَنْوَاعِ الْمَثُلَاتِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ صَلَبَ مِنْهُمْ أَزِيدَ مِنْ
عَشَرَةٍ عَلَى الْجِمَالِ، وَطَافَ بِهِمْ فِي أَرْجَاءِ الْبِلَادِ، وَجَعَلُوا
يَتَمَاوَتُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ أُحْرِقُوا بِالنَّارِ حَتَّى
صَارُوا رَمَادًا، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
سَبَبُ مَسْكِ تَنْكِزَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
جَاءَ الْأَمِيرُ طَشْتَمُرَ مِنْ صَفَدَ مُسْرِعًا، وَرَكِبَ جَيْشَ دِمَشْقَ
مُلَبَّسًا، وَدَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِنْ قَصْرِهِ مُسْرِعًا إِلَى دَارِ
السَّعَادَةِ، وَجَاءَ الْجَيْشُ فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ النَّصْرِ، وَكَانَ
أَرَادَ أَنْ يَلْبَسَ وَيُقَاتِلَ، فَعَذَلُوهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا:
الْمَصْلَحَةُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى السُّلْطَانِ سَامِعًا مُطِيعًا، فَخَرَجَ
بِلَا سِلَاحٍ، فَلَمَّا بَرَزَ إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، الْتَفَّ عَلَيْهِ
الْفَخْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَخَذُوهُ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى نَاحِيَةِ
الْكُسْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ قُبَّةِ يَلْبُغَا نَزَلُوا وَقَيَّدُوهُ
وَحَظَايَاهُ مِنْ قَصْرِهِ، ثُمَّ رَكِبَ الْبَرِيدَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ، وَسَارُوا
بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمَرَ بِمَسِيرِهِ إِلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَسَأَلُوا عَنْ وَدَائِعِهِ فَأَقَرَّ بِبَعْضٍ، ثُمَّ
عُوقِبَ حَتَّى أَقَرَّ بِالْبَاقِي، ثُمَّ قَتَلُوهُ وَدَفَنُوهُ
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، ثُمَّ نَقَلُوهُ إِلَى تُرْبَتِهِ بِدِمَشْقَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ، وَكَانَ عَادِلًا مَهِيبًا، عَفِيفَ
الْفَرْجِ وَالْيَدِ، وَالنَّاسُ فِي أَيَّامِهِ فِي غَايَةِ الرُّخْصِ
وَالْأَمْنِ وَالصِّيَانَةِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ.
وَلَهُ أَوْقَافٌ كَثِيرَةٌ; مِنْ ذَلِكَ مَرَسْتَانُ بِصَفَدَ، وَجَامِعٌ
بِنَابُلُسَ وَعَجْلُونَ، وَجَامِعٌ بِدِمَشْقَ، وَدَارُ حَدِيثٍ بِالْقُدْسِ
وَدِمَشْقَ، وَمَدْرَسَةٌ وَخَانَقَاهْ بِالْقُدْسِ، وَرِبَاطٌ وَسُوقٌ مَوْقُوفٌ
عَلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَفَتَحَ شُبَّاكًا فِي الْمَسْجِدِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ
ابْنُ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ
الْحَسَنِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَرْشِدِ بِاللَّهِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ، الْبَغْدَادِيُّ
الْأَصْلِ، الْمِصْرِيُّ الْمَوْلِدِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، أَوْ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَقَرَأَ وَاشْتَغَلَ قَلِيلًا،
وَعَهِدَ إِلَيْهِ أَبُوهُ بِالْأَمْرِ، وَخُطِبَ لَهُ عِنْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ
سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِمِائَةٍ، وَفَوَّضَ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ
الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِلَى السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَسَارَ إِلَى
غَزْوِ التَّتَرِ، فَشَهِدَ مَصَافَّ شَقْحَبَ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي شَعْبَانَ
سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَهُوَ رَاكِبٌ مَعَ السُّلْطَانِ، وَجَمِيعُ
كُبَرَاءِ الْجَيْشِ مُشَاةٌ، وَلَمَّا أَعْرَضَ السُّلْطَانُ عَنِ الْأَمْرِ
وَانْعَزَلَ بِالْكَرَكِ، الْتَمَسَ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُسْتَكْفِي أَنْ
يُسَلْطِنَ مَنْ يَنْهَضُ بِالْمُلْكِ، فَقَلَّدَ الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ رُكْنَ
الدِّينِ بِيبَرْسَ الْجَاشْنَكِيرَ، وَعَقَدَ لَهُ اللِّوَاءَ، وَأَلْبَسُهُ
خِلْعَةَ السَّلْطَنَةِ، ثُمَّ عَادَ النَّاصِرُ إِلَى مِصْرَ، وَعَزَّرَ
الْخَلِيفَةَ فِي فِعْلِهِ، ثُمَّ غَضِبَ عَلَيْهِ وَسَيَّرَهُ إِلَى قُوصَ،
فَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِقُوصَ فِي مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَقُضَاتُهُ
بِمِصْرَ هَمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَلَيْسَ فِي دِمَشْقَ
نَائِبُ سَلْطَنَةٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسُدُّ الْأُمُورَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ طَشْتَمُرُ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ، الَّذِي جَاءَ
بِالْقَبْضِ عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ، ثُمَّ جَاءَهُ
الْمَرْسُومُ بِالرُّجُوعِ إِلَى صَفَدَ، فَرَكِبَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ
وَتَوَجَّهَ إِلَى بَلَدِهِ، وَحَوَاصِلُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ
تَحْتَ الْحَوْطَةِ كَمَا هِيَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ رَابِعِ الْمُحَرَّمِ مِنَ السَّنَةِ
الْمَذْكُورَةِ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ خَمْسَةُ أُمَرَاءٍ;
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَشْتَكُ النَّاصِرِيُّ، وَمَعَهُ بَرَسْبُغَا
الْحَاجِبُ، وَطَاشَارُ الدَّوِيدَارُ، وَبَيْغَرَا، وَبُكَّا، فَنَزَلَ بَشْتَكُ
بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ وَالْمَيَادِينِ، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ مَمَالِيكِهِ
إِلَّا الْقَلِيلُ، وَإِنَّمَا جَاءَ لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِلسُّلْطَانِ
لَمَّا تَوَهَّمُوا مِنْ مُمَالَأَةِ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ لِنَائِبِ الشَّامِ
الْمُنْفَصِلِ، وَلِلْحَوْطَةِ عَلَى حَوَاصِلِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
تَنْكِزَ الْمُنْفَصِلِ عَنْ نِيَابَةِ الشَّامِ وَتَجْهِيزِهَا لِلدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسِهِ دَخَلَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا إِلَى
دِمَشْقَ نَائِبًا، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ وَبَشْتَكُ
وَالْأُمَرَاءُ الْمِصْرِيُّونَ، وَنَزَلُوا إِلَى عَتَبَتِهِ فَقَبَّلُوا
الْعَتَبَةَ الشَّرِيفَةَ، وَرَجَعُوا مَعَهُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَهُ مُسِكَ مِنَ الْأُمَرَاءِ
الْمُقَدَّمَيْنِ أَمِيرَانِ كَبِيرَانِ; أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ،
وَطَيْبُغَا حَاجِّي، وَرُفِعَا إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَاحْتِيطَ
عَلَى حَوَاصِلِهِمَا.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَحَمَّلُوا بَيْتَ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ سَيْفِ
الدِّينِ تَنْكِزَ وَأَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَهُ رَكِبَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَشْتَكُ النَّاصِرِيُّ، وَالْحَاجُّ أَرُقْطَايُ، وَسَيْفُ
الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
الْمُقَدَّمِينَ، وَاجْتَمَعُوا بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَاسْتَدْعَوْا بِمَمْلُوكَيِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ; وَهُمَا جَنْغَايُ وَطَغَايُ، فَأُمِرَ
بِتَوْسِيطِهِمَا، فَوُسِّطَا، وَعُلِّقَا عَلَى الْخَشَبِ، وَنُودِيَ
عَلَيْهِمَا: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَخَامَرَ عَلَى السُّلْطَانِ النَّاصِرِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ
كَانَتْ وَفَاةُ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ تَنْكِزَ نَائِبِ الشَّامِ بِقَلْعَةِ
إِسْكَنْدَرِيَّةَ; قِيلَ: مَخْنُوقًا. وَقِيلَ: مَسْمُومًا، وَهُوَ الْأَصَحُّ،
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَطَالَ
حُزْنُهُمْ عَلَيْهِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَتَذَكَّرُونَ مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ
الْهَيْبَةِ، وَالصِّيَانَةِ، وَالْغَيْرَةِ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ
وَمَحَارِمِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ إِقَامَتِهِ عَلَى ذَوِي الْجَاهَاتِ
وَغَيْرِهِمْ، وَيَشْتَدُّ تَأَسُّفُهُمْ عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ أَخْبَرَ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - شَيْخَنَا الْحَافِظَ الْعَلَّامَةَ عِمَادَ الدِّينِ بْنَ كَثِيرٍ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ تَنْكِزَ مُسِكَ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ، وَدَخَلَ مِصْرَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَدَخَلَ
الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَتِهَا فِي
الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ
الْقَبَّارِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ جَنَازَةٌ جَيِّدَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِ شَهْرِ صَفَرٍ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طَشْتَمُرُ الَّذِي مَسَكَ تَنْكِزَ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَ بِوَطْأَةِ بُرْزَةَ
بِجَيْشِهِ وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَى حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ نَائِبًا
بِهَا عِوَضًا عَنْ أُلْطُنْبُغَا الْمُنْفَصِلِ عَنْهَا.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نُودِيَ فِي
الْبَلَدِ بِجِنَازَةِ الشَّيْخِ الصَّالِحِ الْعَابِدِ النَّاسِكِ الْقُدْوَةِ
الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ تَمَّامٍ، تُوُفِّيَ
بِالصَّالِحِيَّةِ، فَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى جَنَازَتِهِ إِلَى
الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ، فَضَاقَ
الْجَامِعُ الْمَذْكُورُ عَنْ أَنْ يَسَعَهُمْ، وَصَلَّى النَّاسُ فِي
الطُّرُقَاتِ وَأَرْجَاءِ الصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا
لَمْ يَشْهَدِ النَّاسُ جِنَازَةً بَعْدَ جِنَازَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
ابْنِ تَيْمِيَةَ مِثْلَهَا; لِكَثْرَةِ مَنْ حَضَرَهَا مِنَ النَّاسِ رِجَالًا
وَنِسَاءً، وَفِيهِمُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ وَالْأُمَرَاءُ وَجُمْهُورُ
النَّاسِ، يُقَارِبُونَ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَانْتَظَرَ النَّاسُ نَائِبَ
السَّلْطَنَةِ، فَاشْتَغَلَ بِكِتَابٍ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَصُلِّيَ عَلَى الشَّيْخِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ
الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ عِنْدَ أَخِيهِ فِي تُرْبَةٍ بَيْنَ تُرْبَةِ
الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ تُرْبَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَإِيَّانَا.
وَفِي أَوَّلِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَتِ الشَّيْخَةُ الْعَابِدَةُ
الصَّالِحَةُ الْعَالِمَةُ قَارِئَةُ الْقُرْآنِ، أُمُّ فَاطِمَةَ عَائِشَةُ
بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صِدِّيقٍ، زَوْجَةُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ جَمَالِ
الدِّينِ الْمِزِّيِّ عَشِيَّةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ مُسْتَهَلِّ هَذَا
الشَّهْرِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهَا بِالْجَامِعِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ،
وَدُفِنَتْ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ غَرْبِيِّ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، كَانَتْ عَدِيمَةَ النَّظِيرِ فِي
نِسَاءِ زَمَانِهَا; لِكَثْرَةِ عِبَادَتِهَا، وَتِلَاوَتِهَا، وَإِقْرَائِهَا
الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِفَصَاحَةٍ وَبَلَاغَةٍ، وَأَدَاءٍ صَحِيحٍ يَعْجِزُ
كَثِيرٌ مِنَ الرِّجَالِ عَنْ تَجْوِيدِهِ، وَخَتَّمَتْ نِسَاءً كَثِيرًا،
وَقَرَأَ عَلَيْهَا مِنَ النِّسَاءِ خَلْقٌ وَانْتَفَعْنَ بِهَا وَبِصَلَاحِهَا
وَدِينِهَا وَزُهْدِهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُقَلُّلِهَا مِنْهَا مَعَ طُولِ
الْعُمُرِ، بَلَغَتْ ثَمَانِينَ سَنَةً، أَنْفَقَتْهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهَا
صَلَاةً وَتِلَاوَةً، وَكَانَ الشَّيْخُ مُحْسِنًا إِلَيْهَا مُطِيعًا، لَا
يَكَادُ يُخَالِفُهَا; لِحُبِّهِ لَهَا طَبْعًا وَشَرْعًا، فَرَحِمَهَا اللَّهُ
وَقَدَّسَ رُوحَهَا، وَنَوَّرَ مَضْجَعَهَا بِالرَّحْمَةِ، آمِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ
دَرَّسَ بِمَدْرَسَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي
الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، فِي التَّدْرِيسِ الْبَكْتَمُرِيِّ، عِوَضًا عَنِ
الْقَاضِي بُرْهَانِ الدِّينِ الزُّرَعِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْمَقَادِسَةُ
وَكِبَارُ الْحَنَابِلَةِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنَ
الْحُضُورِ; لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ وَالْوَحْلِ يَوْمَئِذٍ.
وَتَكَامَلَ عِمَارَةُ الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فِي
الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ بِنَاءَهَا
وَإِتْقَانَهَا، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يُبْنَ فِي الْإِسْلَامِ
مَنَارَةٌ مِثْلَهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَوَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي
غَالِبِ ظُنُونِهِمْ أَنَّهَا الْمَنَارَةُ الْبَيْضَاءُ الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي
ذُكِرَتْ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فِي نُزُولِ عِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ فِي شَرْقِيِّ دِمَشْقَ، فَلَعَلَّ
لَفْظَ الْحَدِيثِ انْقَلَبَ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى
الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ بِدِمَشْقَ، وَهَذِهِ الْمَنَارَةُ مَشْهُورَةٌ
بِالشَّرْقِيَّةِ لِمُقَابَلَتِهَا أُخْتَهَا الْغَرْبِيَّةَ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ شَهْرِ شَوَّالٍ عُقِدَ مَجْلِسٌ فِي دَارِ
الْعَدْلِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَحَضَرْتُهُ يَوْمَئِذٍ، وَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ عَلَى الْعَادَةِ، وَأُحْضِرَ يَوْمَئِذٍ عُثْمَانُ الدُّوكَالِيُّ
- قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَادُّعِيَ عَلَيْهِ بِعَظَائِمَ مِنَ الْقَوْلِ
لَمْ يُؤْثَرْ مِثْلُهَا عَنِ الْحَلَّاجِ، وَلَا عَنِ ابْنِ أَبِي الْعَزَاقِرِ
الشَّلْمَغَانِيِّ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِدَعْوَى
الْإِلَهِيَّةِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَأَشْيَاءَ أُخَرَ مِنَ التَّنْقِيصِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَمُخَالَطَتِهِ أَرْبَابَ الرَّيْبِ مِنَ الْبَاجُرْبَقِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ، وَوَقَعَ مِنْهُ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ عَلَى الْقَاضِي الْحَنْبَلِيِّ، وَتَضَمَّنَ ذَلِكَ تَكْفِيرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا، فَادَّعَى أَنَّ لَهُ دَوَافِعَ وَقَوَادِحَ فِي بَعْضِ الشُّهُودِ، فَرُدَّ إِلَى السِّجْنِ مُقَيَّدًا مَغْلُولًا مَقْبُوحًا، أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِقُوَّتِهِ وَتَأْيِيدِهِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ أُحْضِرَ عُثْمَانُ الدُّوكَالِيُّ الْمَذْكُورُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَأُقِيمَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ، وَسُئِلَ عَنِ الْقَوَادِحِ فِي الشُّهُودِ فَعَجَزَ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، فَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَسُئِلَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ حَكَمَ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ وَإِنْ تَابَ، فَأُخِذَ الْمَذْكُورُ فَضُرِبَتْ رَقَبَتُهُ بِدِمَشْقَ بِسُوقِ الْخَيْلِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَكُونُ عَلَى مَذْهَبِ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا بِدَارِ السَّعَادَةِ، حَضَرَ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَايِخِ، وَحَضَرَ شَيْخُنَا جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ الْحَافِظُ، وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ، وَتَكَلَّمَا، وَحَرَّضَا فِي الْقَضِيَّةِ جِدًّا، وَشَهِدَا بِزَنْدَقَةِ الْمَذْكُورِ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَكَذَا الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَخُو الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَةَ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ; الْمَالِكِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَالْحَنْبَلِيُّ، وَهُمْ نَفَّذُوا حُكْمَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَحَضَرُوا قَتْلَ الْمَذْكُورِ، وَكُنْتُ مُبَاشِرًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي
الْقِعْدَةِ أُفْرِجَ عَنِ الْأَمِيرَيْنِ الْمُعْتَقَلَيْنِ بِالْقَلْعَةِ;
وَهُمَا طَيْبُغَا حَاجِّي، وَأُلْجَيْبُغَا، وَكَذَلِكَ أُفْرِجَ عَنْ
خَزَانْدَارِيَّةِ تَنْكِزَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا بِالْقَلْعَةِ، وَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمْدِ بْنِ قَلَاوُونَ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
قَدِمَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ،
فَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَعَامَّةُ الْأُمَرَاءِ لِتَلَقِّيهِ، وَكَانَ
قُدُومُهُ عَلَى خَيْلِ الْبَرِيدِ، فَأَخْبَرَ بِوَفَاةِ السُّلْطَانِ الْمَلَكِ
النَّاصِرِ - كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ آخِرَهُ - وَأَنَّهُ
صُلِّيَ عَلَيْهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَدُفِنَ مَعَ أَبِيهِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ عَلَى وَلَدِهِ آنُوكَ، وَكَانَ قَبْلَ مَوْتِهِ أَخَذَ
الْعَهْدَ لِابْنِهِ سَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ وَلَقَّبَهُ بِالْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ، فَلَمَّا دُفِنَ السُّلْطَانُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ حَضَرَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ قَلِيلٌ، وَكَانَ قَدْ وُلِّيَ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ
الْجَاوِلِيُّ، وَرَجُلٌ آخَرُ مَنْسُوبٌ إِلَى الصَّلَاحِ يُقَالُ لَهُ: الشَّيْخُ
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَعْبَرِيُّ، وَشَخْصٌ آخَرُ مِنَ
الْجَبَابِرِيَّةِ، وَدُفِنَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَحْضُرْ
وَلَدُهُ وَلِيُّ عَهْدِهِ دَفْنَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ
الْقَلْعَةِ لَيْلَتَئِذٍ عَنْ مَشُورَةِ الْأُمَرَاءِ; لِئَلَّا يَتَخَبَّطَ
النَّاسُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ إِمَامًا،
وَالْجَاوِلِيُّ، وَأَيْدُغْمُشُ أَمِيرُ آخُورَ، وَالْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ
أَبُو حَامِدٍ ابْنِ قَاضِي دِمَشْقَ السُّبْكِيِّ، وَجَلَسَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ
سَيْفُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى سَرِيرِ
الْمَمْلَكَةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بَايَعَهُ الْجَيْشُ الْمِصْرِيُّ،
وَقَدِمَ الْفَخْرِيُّ لِأَخْذِ الْبَيْعَةِ مِنَ الشَّامِيِّينَ، وَنَزَلَ
بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَبَايَعَ النَّاسُ لِلْمَلِكِ الْمَنْصُورِ ابْنِ
النَّاصِرِ ابْنِ الْمَنْصُورِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ بِدِمَشْقَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِالْمَلِكِ الْجَدِيدِ، وَتَرَحَّمُوا عَلَى
الْمَلِكِ، وَدَعَوْا لَهُ، وَتَأَسَّفُوا عَلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ بِيَوْمِ الْأَحَدِ، وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا الْمَلِكُ
الْمَنْصُورُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، وَقُضَاةُ الشَّامِ وَمِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَكَذَا الْمُبَاشِرُونَ سِوَى الْوُلَاةِ.
شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ: وِلَايَةُ الْخَلِيفَةِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ: وَفِي هَذَا الْيَوْمِ بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
أَبُو الْقَاسِمِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ
سُلَيْمَانَ الْعَبَّاسِيُّ، وَلَبِسَ السَّوَادَ، وَجَلَسَ مَعَ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَلْبَسُهُ خِلْعَةً سَوْدَاءَ
أَيْضًا، فَجَلَسَا وَعَلَيْهِمَا السَّوَادُ، وَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ
خُطْبَةً بَلِيغَةً فَصِيحَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى أَشْيَاءَ مِنَ الْمَوَاعِظِ،
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَخَلَعَ يَوْمَئِذٍ
عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا،
وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ هَذَا قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ أَبُوهُ بِالْخِلَافَةِ،
وَلَكِنْ لَمْ يُمَكِّنْهُ النَّاصِرُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَلَّى أَبَا إِسْحَاقَ
إِبْرَاهِيمَ ابْنَ أَخِي أَبِي الرَّبِيعِ، وَلَقَّبَهُ الْوَاثِقَ بِاللَّهِ،
وَخُطِبَ لَهُ بِالْقَاهِرَةِ جُمْعَةً وَاحِدَةً، فَعَزَلَهُ الْمَنْصُورُ،
وَقَرَّرَ أَبَا الْقَاسِمِ هَذَا، وَأَمْضَى الْعَهْدَ، وَلَقَّبَهُ الْمُسْتَنْصِرَ
بِاللَّهِ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنِ الْمُحَرَّمِ مُسِكَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَشْتَكُ النَّاصِرِيُّ آخِرَ النَّهَارِ، وَكَانَ قَدْ كُتِبَ
تَقْلِيدُهُ بِنِيَابَةِ الشَّامِ وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَبَرَزَ ثَقَلُهُ،
ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ لِيُوَدِّعَهُ، فَرَحَّبَ بِهِ،
وَأَجْلَسَهُ، وَأَحْضَرَ طَعَامًا وَأَكَلًا، وَتَأَسَّفَ السُّلْطَانُ عَلَى
فِرَاقِهِ، وَقَالَ: تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنِي وَحْدِي ؟ ثُمَّ قَامَ لِتَوْدِيعِهِ،
وَذَهَبَ بَشْتَكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ثَمَانِيَ خُطُوَاتٍ أَوْ نَحْوَهَا،
ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَقَطَعَ أَحَدُهُمْ سَيْفَهُ مِنْ
سَوْطِهِ بِسِكِّينٍ، وَوَضَعَ الْآخَرُ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ، وَكَتَّفَهُ
الْآخَرُ، وَقَيَّدُوهُ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحَضْرَةِ السُّلْطَانِ، ثُمَّ غُيِّبَ
فَلَمْ يَدْرِ أَحَدٌ إِلَى أَيْنَ صَارَ، ثُمَّ قَالُوا لِمَمَالِيكِهِ:
اذْهَبُوا أَنْتُمْ فَائْتُوا بِمَرْكُوبِ الْأَمِيرِ غَدًا، فَهُوَ بَائِتٌ
عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَأَصْبَحَ السُّلْطَانُ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ
الْمَمْلَكَةِ، وَأَمَرَ بِمَسْكِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَتِسْعَةٍ مِنَ
الْكِبَارِ، وَاحْتَاطُوا عَلَى حَوَاصِلِهِ، وَأَمْوَالِهِ، وَأَمْلَاكِهِ،
فَيُقَالُ: إِنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ مِنَ الذَّهَبِ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ
وَسَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفَاةُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ: تَمَرَّضَ أَيَّامًا
يَسِيرَةً مَرَضًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ شُهُودِ الْجَمَاعَةِ، وَحُضُورِ
الدُّرُوسِ، وَإِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ حَادِيَ
عَشَرَ صَفَرٍ أَسْمَعَ الْحَدِيثَ إِلَى قَرِيبِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ دَخَلَ
مَنْزِلَهُ لِيَتَوَضَّأَ وَيَذْهَبَ لِلصَّلَاةِ، فَاعْتَرَضَهُ فِي بَاطِنِهِ
مَغَصٌ عَظِيمٌ، ظَنَنَّا أَنَّهُ قُولَنْجُ، وَمَا كَانَ إِلَّا طَاعُونًا،
فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ
أُخْبِرْتُ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ
فَإِذَا هُوَ يَرْتَعِدُ رِعْدَةً
شَدِيدَةً مِنْ قُوَّةِ الْأَلَمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَالِهِ فَجَعَلَ يُكَرِّرُ: الْحَمْدُ اللَّهِ، ثُمَّ أَخْبَرَنِي بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَغَصِ الشَّدِيدِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِنَفْسِهِ، وَدَخَلَ إِلَى الطَّهَارَةِ، وَتَوَضَّأَ عَلَى حَافَّةِ الْبِرْكَةِ وَهُوَ فِي قُوَّةِ الْوَجَعِ، ثُمَّ اتَّصَلَ بِهِ هَذَا الْحَالُ إِلَى الْغَدِ مِنْ يَوْمِ السَّبْتِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الظُّهْرِ لَمْ أَكُنْ حَاضِرَهُ إِذْ ذَاكَ، لَكِنْ أَخْبَرَتْنِي ابْنَتُهُ زَيْنَبُ زَوْجَتِي أَنَّهُ لَمَّا أَذَّنَ الظُّهْرُ تَغَيَّرَ ذِهْنُهُ قَلِيلًا، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ، أَذَّنَ الظُّهْرُ، فَذَكَرَ اللَّهَ، وَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ. فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَجَعَلَ يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ حَتَّى جَعَلَ لَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ، ثُمَّ قُبِضَتْ رُوحُهُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَ صَفَرٍ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَجْهِيزُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ، غُسِّلَ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكُفِّنَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَخُرِجَ بِجَنَازَتِهِ مِنْ بَابِ النَّصْرِ، وَخَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا وَمَعَهُ دِيوَانُ السُّلْطَانِ، وَالصَّاحِبُ، وَكَاتِبُ السِّرِّ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ، أَمَّهُمْ عَلَيْهِ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ، فَدُفِنَ هُنَاكَ إِلَى جَانِبِ زَوْجَتِهِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ الْحَافِظَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ، عَائِشَةَ بِنْتِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ صِدِّيقٍ، غَرْبِيَّ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ، وَقَدْ تَرْجَمْتُهُ فِي أَوَّلِ شَرْحِ " الْبُخَارِيِّ ".
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
قَدِمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الثَّلَاثِينَ مِنْ صَفَرٍ أَمِيرٌ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ الْأَمْرُ بِالْبَيْعَةِ لِلْمَلِكِ الْأَشْرَفِ عَلَاءِ
الدِّينِ كُجُكَ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَذَلِكَ بَعْدَ عَزْلِ
أَخِيهِ الْمَنْصُورِ; لِمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي ذُكِرَ
أَنَّهُ تَعَاطَاهَا مِنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَغِشْيَانِ الْمُنْكَرَاتِ،
وَتَعَاطِي مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمُعَاشَرَةِ الْخَاصِّكِيَّةِ مِنَ
الْمُرْدَانِ وَغَيْرِهِمْ، فَتَمَالَأَ عَلَى خَلْعِهِ كِبَارُ الْأُمَرَاءِ
لَمَّا رَأَوُا الْأَمْرَ تَفَاقَمَ إِلَى الْفَسَادِ الْعَرِيضِ، فَأَحْضَرُوا
الْخَلِيفَةَ الْحَاكِمَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ،
فَأُثْبِتَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا نُسِبَ إِلَى الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ الْمَذْكُورِ
مِنَ الْأُمُورِ، فَحِينَئِذٍ خَلَعَهُ، وَخَلَعَهُ الْأُمَرَاءُ الْكِبَارُ
وَغَيْرُهُمْ، وَاسْتَبْدَلُوا مَكَانَهُ أَخَاهُ هَذَا الْمَذْكُورَ،
وَسَيَّرُوهُ إِذْ ذَاكَ إِلَى قُوصَ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ وَمَعَهُ إِخْوَةٌ لَهُ
ثَلَاثَةٌ - وَقِيلَ أَكْثَرُ - وَأَجْلَسُوا الْمَلِكَ الْأَشْرَفَ هَذَا عَلَى
السَّرِيرِ، وَنَابَ لَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُوصُونُ النَّاصِرِيُّ،
وَاسْتَمَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى السَّدَادِ، وَجَاءَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى
الشَّامِ، فَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورِ، وَضُرِبَتِ
الْبَشَائِرُ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَخُطِبَ لَهُ
بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ
وَالْأَعْيَانِ وَالْأُمَرَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَضَرَ الدَّرْسَ
بِدَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ
السُّبْكِيُّ، عِوَضًا عَنْ شَيْخِنَا الْحَافِظِ جَمَالِ الدِّينِ
الْمِزِّيِّ، وَمَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ
عِوَضًا عَنِ ابْنِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى اشْتُهِرَ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ الْأَمِيرَ
سَيْفَ الدِّينِ طَشْتَمُرَ الْمُلَقَّبَ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ قَائِمٌ فِي
نُصْرَةِ ابْنِ السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ الَّذِي بِالْكَرَكِ، وَأَنَّهُ
يَسْتَخْدِمُ لِذَلِكَ وَيَجْمَعُ الْجُمُوعَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي
الْعَشْرِ الثَّانِي مِنْهُ وَصَلَتِ الْجُيُوشُ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيِّ إِلَى الْكَرَكِ فِي طَلَبِ ابْنِ
السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَثُرَ الْكَلَامُ فِي أَمْرِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ
النَّاصِرِ الَّذِي بِالْكَرَكِ; بِسَبَبِ مُحَاصَرَةِ الْجَيْشِ الَّذِي صُحْبَةُ
الْفَخْرِيِّ لَهُ، وَاشْتَهَرَ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ
طَشْتَمُرَ الْمُلَقَّبَ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ قَائِمٌ بِجَنْبِ أَوْلَادِ
السُّلْطَانِ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى
الصَّعِيدِ، وَفِي الْقِيَامِ بِالْمُدَافَعَةِ عَنِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ،
لِيَصْرِفَ عَنْهُ الْجَيْشَ، وَتَرَكَ حِصَارَهُ وَعَزَمَ بِالذَّهَابِ إِلَى
الْكَرَكِ لِنُصْرَةِ أَحْمَدَ ابْنِ أُسْتَاذِهِ، وَتَهَيَّأَ لَهُ نَائِبُ
الشَّامِ بِدِمَشْقَ، وَنَادَى فِي الْجَيْشِ لِمُلْتَقَاهُ وَمُدَافَعَتِهِ
عَمَّا يُرِيدُ مِنْ إِقَامَةِ الْفِتْنَةِ وَشَقِّ الْعَصَا، وَاهْتَمَّ
الْجُنْدُ لِذَلِكَ، وَتَأَهَّبُوا وَاسْتَعَدُّوا، وَلَحِقَهُمْ فِي ذَلِكَ
كُلْفَةٌ كَثِيرَةٌ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَتَخَوَّفُوا أَنْ
تَكُونَ فِتْنَةً، وَحَسِبُوا إِنْ وَقَعَ قِتَالٌ بَيْنِهِمْ أَنْ تَقُومَ
الْعَشِيرَاتُ فِي الْجِبَالِ وَحَوْرَانَ، وَتَتَعَطَّلَ مَصَالِحُ الزِّرَاعَاتِ
وَغَيْرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمَ مِنْ حَلَبَ حَاجِبُ السُّلْطَانِ فِي
الرَّسْلِيَّةِ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا
وَمَعَهُ مُشَافَهَةٌ فَاسْتَمَعَ لَهَا، فَبَعَثَ مَعَهُ صَاحِبَ الْمَيْسَرَةِ
أَيَّانَ السَّاقِيَ، فَذَهَبَا إِلَى حَلَبَ ثُمَّ
رَجَعَا فِي أَوَاخِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَتَوَجَّهَا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ
حَتَّى تَوَافَقَ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ رُجُوعِ أَوْلَادِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
إِلَى مِصْرَ مَا عَدَا الْمَنْصُورَ، وَأَنْ يُخَلَّى عَنْ مُحَاصَرَةِ
الْكَرَكِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ مُظَفَّرُ الدِّينِ
مُوسَى بْنُ مُهَنَّا مَلِكُ الْعَرَبِ، وَدُفِنَ بِتَدْمُرَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ عِنْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ تُوُفِّيَ الْخَطِيبُ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الْقَاضِي
جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ، بِدَارِ الْخَطَابَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَخَطَبَ جُمْعَةً وَاحِدَةً،
وَصَلَّى بِالنَّاسِ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، ثُمَّ مَرِضَ،
فَخَطَبَ عَنْهُ أَخُوهُ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ عَلَى الْعَادَةِ
ثَلَاثَ جُمَعٍ وَهُوَ مَرِيضٌ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَئِذٍ، وَتَأَسَّفَ
النَّاسُ عَلَيْهِ; لِحُسْنِ شَكْلِهِ، وَصَبَاحَةِ وَجْهِهِ، وَحُسْنِ
مُلْتَقَاهُ، وَتَوَاضُعِهِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ
الظُّهْرَ، فَتَأَخَّرَ تَجْهِيزُهُ إِلَى الْعَصْرِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ، وَخَرَجَ بِهِ
النَّاسُ إِلَى الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَتْ جِنَازَتُهُ حَافِلَةً جِدًّا، فَدُفِنَ
عِنْدَ أَبِيهِ بِالتُّرْبَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا الْخَطِيبُ بَدْرُ الدِّينِ
هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَامِسِ الشَّهْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ خَرَجَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا هُوَ وَجَمِيعُ
الْجَيْشِ قَاصِدِينَ الْبِلَادَ الْحَلَبِيَّةَ; لِلْقَبْضِ عَلَى نَائِبِ حَلَبَ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَشْتَمُرَ; لِأَجْلِ مَا أَظْهَرَ
مِنَ الْقِيَامِ مَعَ ابْنِ السُّلْطَانِ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ الَّذِي فِي
الْكَرَكِ، وَخَرَجَ النَّاسُ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْمَطَرِ كَثِيرِ الْوَحْلِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا عَصِيبًا، أَحْسَنَ اللَّهُ الْعَاقِبَةَ.
وَأَمَرَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الْخَطِيبَ وَالْمُؤَذِّنِينَ
بِزِيَادَةِ أَذْكَارٍ عَلَى الَّذِي كَانَ سَنَّهُ فِيهِمُ الْخَطِيبُ بَدْرُ
الدِّينِ، مِنَ التَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّهْلِيلِ الْكَثِيرِ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ، فَزَادَهُمُ السُّبْكِيُّ قَبْلَ ذَلِكَ:أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
الْعَظِيمَ - ثَلَاثًا - اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ،
تَبَارَكَتْ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ ". وَبَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ
وَالْمَغْرِبِ - بَعْدَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ -: اللَّهُمَّ
أَجِرْنَا مِنَ النَّارِ سَبْعًا،أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ
شَرِّ مَا خَلَقَ ثَلَاثًا، وَكَانُوا قَبْلَ تِلْكَ السَّنَوَاتِ قَدْ زَادُوا
بَعْدَ التَّأْذِينِ الْآيَةَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَالتَّسْلِيمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْتَدِئُ الرَّئِيسُ مُنْفَرِدًا
ثُمَّ يُعِيدُ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ بِطَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَصَارَ ذَلِكَ
سَبَبًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ لِاسْتِمَاعِ ذَلِكَ،
وَكُلَّمَا كَانَ الْمُبْتَدِئُ حَسَنَ الصَّوْتِ كَانَتِ الْجَمَاعَةُ أَكْثَرَ
اجْتِمَاعًا، وَلَكِنْ طَالَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفَصْلُ، وَتَأَخَّرَتِ الصَّلَاةُ
عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهَا.
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
وَفِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ عَشِيَّةَ السَّبْتِ نَزَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ بِظَاهِرِ دِمَشْقَ، بَيْنَ الْجُسُورَةِ وَمَيْدَانِ
الْحَصَا، بِالْأَطْلَابِ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهُ مِنَ الْبِلَادِ
الْمِصْرِيَّةِ لِمُحَاصَرَةِ الْكَرَكِ ; لِلْقَبْضِ عَلَى ابْنِ السُّلْطَانِ
الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ، فَمَكَثُوا عَلَى الثَّنِيَّةِ مُحَاصِرِينَ
مُضَيِّقِينَ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ تَوَجَّهَ نَائِبُ الشَّامِ إِلَى حَلَبَ،
وَمَضَتْ هَذِهِ الْأَيَّامُ الْمَذْكُورَةُ، فَمَا دَرَى النَّاسُ إِلَّا وَقَدْ
جَاءَ الْفَخْرِيُّ وَجُمُوعُهُ، وَقَدْ بَايَعُوا الْأَمِيرَ أَحْمَدَ،
وَسَمَّوْهُ النَّاصِرَ ابْنَ النَّاصِرِ، وَخَلَعُوا بَيْعَةَ أَخِيهِ الْمَلِكِ
الْأَشْرَفِ عَلَاءِ الدِّينِ كُجُكَ، وَاعْتَلُّوا بِصِغَرِهِ، وَذَكَرُوا أَنَّ
أَتَابَكَهُ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ قُوصُونَ النَّاصِرِيَّ قَدْ عَدَى عَلَى
ابْنَيِ السُّلْطَانِ فَقَتَلَهُمَا خَنْقًا بِبِلَادِ الصَّعِيدِ، وَجَهَّزَ
إِلَيْهِمَا مَنْ تَوَلَّى ذَلِكَ، وَهُمَا الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ أَبُو بَكْرٍ،
وَرَمَضَانُ، فَتَنَكَّرَ الْأَمِيرُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، قَالُوا: هَذَا يُرِيدُ
أَنَّ يَجْتَاحَ هَذَا الْبَيْتَ لِيَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْ أَخْذِ الْمَمْلَكَةِ.
فَحَمُوا لِذَلِكَ، وَبَايَعُوا ابْنَ أُسْتَاذِهِمْ، وَجَدُّوا فِي الذَّهَابِ
خَلْفَ الْجَيْشِ لِيَكُونُوا عَوْنًا لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَشْتَمُرَ
نَائِبِ حَلَبَ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَدْ كَتَبُوا إِلَى الْأُمَرَاءِ
يَسْتَمِيلُونَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا نَزَلُوا بِظَاهِرِ دِمَشْقَ خَرَجَ
إِلَيْهِمْ مَنْ بِدِمَشْقَ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْمُبَاشِرِينَ،
مِثْلُ: وَالِي الْبَرِّ، وَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَالْمَهْمَنْدَارِ،
وَغَيْرُهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ خَرَجَ أَهْلُ دِمَشْقَ عَنْ بَكْرَةِ
أَبِيهِمْ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي
قُدُومِ السَّلَاطِينِ وَدُخُولِ الْحُجَّاجِ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَخَرَجَ الْقُضَاةُ، وَالصَّاحِبُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْوُلَاةُ، وَغَيْرُهُمْ، وَدَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا فِي دَسْتِ نِيَابَةِ السَّلْطَنَةِ الَّتِي فَوَّضَهَا إِلَيْهِ الْمَلِكُ النَّاصِرُ الْجَدِيدُ، وَعَنْ يَمِينِهِ الشَّافِعِيُّ، وَعَنْ شَمَالِهِ الْحَنَفِيُّ عَلَى الْعَادَةِ، وَالْجَيْشُ كُلُّهُ مُحْدِقٌ بِهِ فِي الْحَدِيدِ. وَالنُّقَّارَاتُ، وَالْبُوقَاتُ، وَالشَّبَّابَةُ السُّلْطَانِيَّةُ، وَالسَّنَاجِقُ الْخَلِيفَتِيَّةُ وَالسُّلْطَانِيَّةُ تَخْفِقُ، وَالنَّاسُ فِي الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ لِلْفَخْرِيِّ، وَهُمْ فِي غَايَةِ الِاسْتِبْشَارِ وَالْفَرَحِ، وَرُبَّمَا نَالَ بَعْضُ جَهَلَةِ النَّاسِ مِنَ النَّائِبِ الْآخَرِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَى حَلَبَ، وَدَخَلَتِ الْأَطْلَابُ بَعْدَهُ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَنَزَلَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ قَرِيبًا مِنْ خَانِ لَاجِينَ، وَبَعَثَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَرَسَمَ عَلَى الْقُضَاةِ وَالصَّاحِبِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَغَيْرِهَا خَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ، وَعَوَّضَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَرْيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ سِجِلَّاتٍ، وَاسْتَخْدَمَ جُنْدًا، وَانْضَافَ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ تَخَلَّفُوا بِدِمَشْقَ جَمَاعَةٌ; مِنْهُمْ تَمُرُ السَّاقِي مُقَدَّمٌ، وَابْنُ قَرَاسُنْقُرَ، وَابْنُ الْكَامِلِ، وَابْنُ الْمُعَظَّمِ، وَابْنُ الْبَلَدِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَبَايَعَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَعَ مُبَاشِرِي دِمَشْقَ لِلْمَلِكِ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ، وَأَقَامَ الْفَخْرِيُّ عَلَى خَانِ لَاجِينَ، وَخَرَجَ الْمُتَعَيِّشُونَ بِالصَّنَائِعِ إِلَى عِنْدِهِمْ، وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ الشَّهْرِ، وَنُودِيَ بِالْبَلَدِ: إِنَّ سُلْطَانَكُمُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ أَحْمَدُ بْنُ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبَكُمْ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ، وَفَرِحَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ نَائِبُ صَفَدَ، وَبَايَعَهُ نَائِبُ بَعْلَبَكَّ، وَاسْتَخْدَمُوا لَهُ رِجَالًا
وَجُنْدًا، وَرَجَعَ إِلَيْهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
سَنْجَرُ الْجُمَقْدَارُ رَأْسُ الْمَيْمَنَةِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ تَأَخَّرَ
فِي السَّفَرِ عَنْ نَائِبِ دِمَشْقَ عَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا; بِسَبَبِ
مَرَضٍ عَرَضَ لَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْفَخْرِيُّ رَجَعَ إِلَيْهِ وَبَايَعَ
النَّاصِرَ ابْنَ النَّاصِرِ، ثُمَّ كَاتَبَ نَائِبَ حَمَاةَ طُقُزْدَمُرَ -
الَّذِي نَابَ بِمِصْرَ لِلْمَلِكِ الْمَنْصُورِ - فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ،
وَقَدِمَ عَلَى الْعَسْكَرِ يَوْمَ السَّبْتِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَخَزَائِنَ كَثِيرَةٍ، وَثَقَلٍ
هَائِلٍ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ
الْمَذْكُورِ كَسَفَتِ الشَّمْسُ قَبْلَ الظُّهْرِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ قَدِمَ نَائِبُ غَزَّةَ الْأَمِيرُ آقْ سُنْقُرُ فِي جَيْشٍ، وَهُوَ
قَرِيبٌ مِنْ أَلْفَيْنِ، فَدَخَلُوا دِمَشْقَ وَقْتَ الْفَجْرِ، وَغَدَوْا إِلَى
مُعَسْكَرِ الْفَخْرِيِّ، فَانْضَافُوا إِلَيْهِمْ، فَفَرِحُوا بِهِمْ كَثِيرًا،
وَصَارَ فِي قَرِيبٍ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ أَوْ يَزِيدُونَ.
اسْتَهَلَّ شَهْرُ رَجَبٍ، الْفَرْدُ وَالْجَمَاعَةُ مِنْ أَكَابِرِ التُّجَّارِ
مَطْلُوبُونَ بِسَبَبِ أَمْوَالٍ طَلَبَهَا مِنْهُمُ الْفَخْرِيُّ; يُقَوِّي بِهَا
جَيْشَهُ الَّذِي مَعَهُ، وَمَبْلَغُ الْمَالِ الَّذِي أَرَادَهُ مِنْهُمْ أَلْفُ
أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَعَهُ مَرْسُومُ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ بِبَيْعِ
أَمْلَاكِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قُوصُونَ أَتَابَكِ الْمَلِكِ الْأَشْرَفِ
عَلَاءِ الدِّينِ كُجُكَ بْنِ النَّاصِرِ الَّتِي بِالشَّامِ; بِسَبَبِ إِبَائِهِ
عَنْ مُبَايَعَةِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ، فَأَشَارَ عَلَى الْفَخْرِيِّ مَنْ
أَشَارَ بِأَنْ يُبَاعَ لِلتُّجَّارِ شَيْءٌ مِنْ أَمْلَاكِ الْخَاصِّ، وَيُجْعَلَ
مَالُ قُوصُونَ مِنَ الْخَاصِّ، فَرَسَمَ
بِذَلِكَ، وَأَنْ يُبَاعَ لِلتُّجَّارِ قَرْيَةُ دُومَةَ، قُوِّمَتْ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ، ثُمَّ لَطَفَ اللَّهُ وَأُفْرِجَ عَنْهُمْ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَتَعَوَّضُوا عَنْ ذَلِكَ بِحَوَاصِلِ قُوصُونَ، وَاسْتَمَرَّ الْفَخْرِيُّ بِمَنْ مَعَهُ وَمَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ مُقِيمِينَ بِثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، وَاسْتَخْدَمَ مِنْ رِجَالِ الْبِقَاعِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ رَامٍ، وَأَمِيرُهُمْ يَحْفَظُ أَفْوَاهَ الطُّرُقِ، وَأَزِفَ قُدُومُ الْأَمِيرِعَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا بِمَنْ مَعَهُ مِنْ عَسَاكِرِ دِمَشْقَ، وَجُمْهُورُ الْحَلَبِيِّينَ، وَطَائِفَةٌ مِنَ الطَّرَابُلُسِيِّينَ، وَتَأَهَّبَ هَؤُلَاءِ لَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ الْحَادِي مِنْ هَذَا الشَّهْرِ اشْتُهِرَ أَنَّ أُلْطُنْبُغَا وَصَلَ إِلَى الْقَسْطَلِ وَبَعَثَ طَلَائِعَهُ، فَالْتَقَتْ بِطَلَائِعِ الْفَخْرِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَأَرْسَلَ الْفَخْرِيُّ إِلَى الْقُضَاةِ وَنُوَّابِهِمْ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَخَرَجُوا، وَرَجَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا وَصَلُوا أَمْرَهُمْ بِالسَّعْيِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُلْطُنْبُغَا فِي الصُّلْحِ، وَأَنْ يُوَافِقَ الْفَخْرِيَّ فِي أَمْرِهِ، وَأَنْ يُبَايِعَ النَّاصِرَ ابْنَ النَّاصِرِ، فَأَبَى ذَلِكَ، فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عَشَرَهُ عِنْدَ الْعَصْرِ جَاءَ بَرِيدٌ إِلَى مُتَوَلِّي الْبَلَدِ عِنْدَ الْعَصْرِ مِنْ جِهَةِ الْفَخْرِيِّ يَأْمُرُهُ بِغَلْقِ أَبْوَابِ الْبَلَدِ، فَغُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَسَاكِرَ تَوَجَّهُوا وَتَوَاقَفُوا لِلْقِتَالِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ أُلْطُنْبُغَا لَمَّا عَلِمَ أَنَّ جَمَاعَةَ قُطْلُوبُغَا عَلَى ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ، دَارَ الدَّوْرَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُعَيْصِرَةِ، وَجَاءَ بِالْجُيُوشِ مِنْ هُنَالِكَ، فَاسْتَدَارَ لَهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا الْفَخْرِيُّ بِجَمَاعَتِهِ إِلَى نَاحِيَتِهِ، وَوَقَفَ لَهُ فِي طَرِيقِهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَلَدِ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ انْزِعَاجًا عَظِيمًا،
وَغُلِّقَتِ الْقَيَاسِرُ وَالْأَسْوَاقُ، وَخَافَ النَّاسُ
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ يَكُونَ نَهْبًا، فَرَكِبَ مُتَوَلِّي الْبَلَدِ
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ بَكْتَاشَ وَمَعَهُ أَوْلَادُهُ وَنُوَّابُهُ
وَالرَّجَّالَةُ، فَسَارَ فِي الْبَلَدِ، وَسَكَّنَ النَّاسَ، وَدَعَوْا لَهُ،
فَلَمَّا كَانَ قُرَيْبُ الْمَغْرِبِ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْجَابِيَةِ لِيَدْخُلَ
مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَدَخَلَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ،
فَجَرَتْ فِي الْبَابِ - عَلَى مَا قِيلَ - زَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَتَسَخَّطَ الْجُنْدُ
عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاتُّفِقَ أَنَّهَا لَيْلَةُ
الْمِيلَادِ، وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ مَهْمُومِينَ بِسَبَبِ الْعَسْكَرِ
وَاخْتِلَافِهِمْ، فَأَصْبَحَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ مُغْلَقَةً فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ سِوَى بَابِ الْجَابِيَةِ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ،
فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةُ هَذَا الْيَوْمِ تَقَارَبَ الْجَيْشَانِ، وَاجْتَمَعَ
أُلْطُنْبُغَا وَأُمَرَاؤُهُ، وَاتَّفَقَ أُمَرَاءُ دِمَشْقَ أَوْ جُمْهُورُهُمُ
الَّذِينَ هُمْ مَعَهُ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوا مُسْلِمًا، وَلَا يَسُلُّوا فِي
وَجْهِ الْفَخْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ سَيْفًا، وَكَانَ قُضَاةُ الشَّامِ قَدْ
ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِرَارًا لِلصُّلْحِ فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا
الِاسْتِمْرَارَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
عَجِيبَةٌ مِنْ عَجَائِبِ الدَّهْرِ
فَبَاتَ النَّاسُ مُتَقَابِلِينَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ
الْجَيْشَيْنِ إِلَّا مِقْدَارُ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَكَانَتْ لَيْلَةً
مَطِيرَةً، فَمَا أَصْبَحَ الصُّبْحُ إِلَّا وَقَدْ ذَهَبَ مِنْ جَمَاعَةِ
أُلْطُنْبُغَا إِلَى الْفَخْرِيِّ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَجْنَادِ الْحَلْقَةِ
وَمِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَطَلَعَتِ
الشَّمْسُ وَارْتَفَعَتْ قَلِيلًا، فَنَفَّذَ أُلْطُنْبُغَا الْقُضَاةَ وَبَعْضَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْفَخْرِيِّ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ وَيُقَوِّي نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَمَا سَارُوا عَنْهُ قَلِيلًا حَتَّى سَاقَتِ الْعَسَاكِرُ مِنَ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَيْسَرَةِ وَمِنَ الْقَلْبِ وَمِنْ كُلِّ جَانِبٍ مُقْفِرِينَ إِلَى الْفَخْرِيِّ، وَذَلِكَ لِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، وَقِلَّةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَعَلَفِ الدَّوَابِّ، وَكَثْرَةِ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْكَلَفِ، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا حَالٌ يَطُولُ عَلَيْهِمْ، وَمَقَتُوا أَمْرَهُمْ غَايَةَ الْمَقْتِ، وَتَطَايَبَتْ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ أُولَئِكَ مَعَ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى كَرَاهَتِهِ، لِقُوَّةِ نَفْسِهِ فِيمَا لَا يُجْدِي عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَبَايَعُوا عَلَى الْمُخَامَرَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى حَاشِيَتِهِ فِي أَقَلِّ مِنْ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمَّا رَأَى الْحَالَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كَرَّ رَاجِعًا هَارِبًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ، وَصُحْبَتُهُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرُقْطَايُ نَائِبُ طَرَابُلُسَ وَأَمِيرَانِ آخَرَانِ، وَالْتَقَتِ الْعَسَاكِرُ وَالْأُمَرَاءُ، وَجَاءَتِ الْبِشَارَةُ إِلَى دِمَشْقَ قَبْلَ الظُّهْرِ، فَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا شَدِيدًا جِدًّا; الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ، حَتَّى مَنْ لَا نَوْبَةَ لَهُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَأَرْسَلُوا فِي طَلَبِ مَنْ هَرَبَ، وَجَلَسَ الْفَخْرِيُّ هُنَالِكَ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ يُحَلِّفُ الْأُمَرَاءَ عَلَى أَمْرِهِ الَّذِي جَاءَ لَهُ، فَحَلَفُوا لَهُ، وَدَخَلَ دِمَشْقَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ، وَنَزَلَ الْأَمِيرُ طُقُزْدَمُرُ بِالْمَيْدَانِ الْكَبِيرِ، وَنَزَلَ قُمَارِيُّ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَأَخْرَجُوا الْمُوسَاوِيَّ الَّذِي كَانَ مُعْتَقَلًا بِالْقَلْعَةِ، وَجَعَلُوهُ مُشِدًّا عَلَى حَوْطَاتِ حَوَاصِلِ أُلْطُنْبُغَا، وَكَانَ قَدْ تَغَضَّبَ الْفَخْرِيُّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ; مِنْهُمُ الْأَمِيرُ
حُسَامُ الدِّينِ الْبَشْمَقْدَارُ أَمِيرُ حَاجِبٍ; بِسَبَبِ
أَنَّهُ صَاحِبٌ لِعَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، فَلَّمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ
هَرَبَ فِيمَنْ هَرَبَ، وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ الْفَخْرِيَّ، بَلْ دَخَلَ الْبَلَدَ
فَتَوَسَّطَ فِي الْأَمْرِ، لَمْ يَذْهَبْ مَعَ ذَاكَ وَلَا جَاءَ مَعَ هَذَا،
ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فَرَجَعَ مِنَ الْبَادِ إِلَى
الْفَخْرِيِّ، وَقِيلَ: بَلْ رَسَمَ عَلَيْهِ حِينَ جَاءُوا وَهُوَ مَهْمُومٌ
جِدًّا، ثُمَّ إِنَّهُ أُعْطِيَ مِنْدِيلَ الْأَمَانِ. وَكَانَ مَعَهُمْ كَاتِبُ
السِّرِّ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُفْرِجَ
عَنْهُمْ، وَمِنْهُمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ حَفْطِيَّةُ، كَانَ شَدِيدَ
الْحَنَقِ عَلَيْهِ، فَأَطْلَقَهُ مِنْ يَوْمِهِ وَأَعَادَهُ إِلَى
الْحُجُوبِيَّةِ، وَأَظْهَرَ مَكَارِمَ أَخْلَاقٍ عَظِيمَةٍ، وَرِيَاسَةٍ
كَبِيرَةٍ، وَكَانَ لِلْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ الْمُنَجَّا قَاضِي قُضَاةِ
الْحَنَابِلَةِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ سَعْيٌ مَشْكُورٌ، وَمُرَاجَعَةٌ
كَبِيرَةٌ لِلْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا، حَتَّى خِيفَ عَلَيْهِ
مِنْهُ، وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ مَعَهُ، فَأَنْجَحَ اللَّهُ مَقْصِدَهُ وَسَلَّمَهُ
مِنْهُ، وَكَبَتَ عَدُّوَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُلِّدَ قَضَاءَ
الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ، عِوَضًا
عَنِ الْقَاضِي الْحَنَفِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَ النَّائِبِ الْمُنْفَصِلِ;
وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ نَقَمُوا عَلَيْهِ إِفْتَاءَهُ أُلْطُنْبُغَا بِقِتَالِ
الْفَخْرِيِّ، وَفَرِحَ بِوِلَايَتِهِ أَصْحَابُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ أَخَصِّ مَنْ صَحِبَهُ
قَدِيمًا، وَأَخَذَ عَنْهُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً وَعُلُومًا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخِ رَجَبٍ آخِرِ النَّهَارِ قَدِمَ الْأَمِيرُ
قُمَارِيُّ مِنْ عِنْدِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ مِنَ الْكَرَكِ،
وَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ أُلْطُنْبُغَا، فَفَرِحَ
بِذَلِكَ، وَأَخْبَرَ قُمَارِيُّ بِقُدُومِ السُّلْطَانِ،
فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَاسْتَعَدُّوا لَهُ بِآلَاتِ الْمَمْلَكَةِ،
وَكَثُرَتْ مُطَالَبَتُهُ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ وَالذِّمَّةِ بِالْجِزْيَةِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ الْفَخْرِيُّ فِي دَسْتِ
النِّيَابَةِ بِالْمَوْكِبِ الْمَنْصُورِ - وَهُوَ أَوَّلُ رُكُوبِهِ فِيهِ -
وَإِلَى جَانِبِهِ قُمَارِيُّ، وَعَلَى قُمَارِيِّ خِلْعَةٌ هَائِلَةٌ، وَكَثُرَ
دُعَاءُ النَّاسِ لِلْفَخْرِيِّ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا. وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ خَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ الْأُلُوفِ إِلَى
الْكَرَكِ بِإِخْبَارِ ابْنِ السُّلْطَانِ بِمَا جَرَى، مِنْهُمْ طُقُزْدَمُرُ،
وَأَقْبُغَا عَبْدُ الْوَاحِدِ - وَهُوَ السَّاقِي - وَمَنْكَلِي بُغَا،
وَغَيْرُهُمْ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِهِ اسْتَدْعَى الْفَخْرِيُّ
الْقَاضِيَ الشَّافِعِيَّ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي إِحْضَارِ الْكُتُبِ
الْمُعْتَقَلَةِ فِي سَلَّةِ الْحُكْمِ الَّتِي كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ عِنْدِ
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ فِي أَيَّامِ جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ،
فَأَحْضَرَهَا الْقَاضِي بَعْدَ جَهْدٍ وَمُدَافَعَةٍ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْهُ، فَقَبَضَهَا مِنْهُ الْفَخْرِيُّ بِالْقَصْرِ، وَأَذِنَ لَهُ فِي
الِانْصِرَافِ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَغَضِّبٌ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا هَمَّ
بِعَزْلِهِ لِمُمَانَعَتِهِ إِيَّاهَا، وَرُبَّمَا قَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ فِيهَا
كَلَامٌ يَتَعَلَّقُ بِمَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ، فَقَالَ الْفَخْرِيُّ: كَانَ
الشَّيْخُ أَعْلَمَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مِنْكُمْ. وَاسْتَبْشَرَ الْفَخْرِيُّ
بِإِحْضَارِهَا إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى بِأَخِي الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَبِالشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ
- وَكَانَ لَهُ سَعْيٌ مَشْكُورٌ فِيهَا - فَهَنَّأَهُمَا بِإِحْضَارِهِ
الْكُتُبَ، وَبَيَّتَ الْكُتُبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي خِزَانَتِهِ
لِلتَّبَرُّكِ، وَصَلَّى بِهِ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ أَخُو الشَّيْخِ صَلَاةَ
الْمَغْرِبِ بِالْقَصْرِ، وَأَكْرَمَهُ الْفَخْرِيُّ إِكْرَامًا زَائِدًا;
لِمَحَبَّتِهِ الشَّيْخَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعِهِ دَقَّتِ الْبَشَائِرُ
بِالْقَلْعَةِ وَفِي بَابِ الْمَيْدَانِ; لِقُدُومِ بَشِيرٍ بِالْقَبْضِ عَلَى
قُوصُونَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ لِذَلِكَ،
وَاسْتَبْشَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَأَقْبَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
إِلَى الْكَرَكِ لِطَاعَةِ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ، وَاجْتَمَعُوا مَعَ
الْأُمَرَاءِ الشَّامِيِّينَ عِنْدَ الْكَرَكِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنَّ يَنْزِلَ
إِلَيْهِمْ فَأَبَى، وَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ كُلَّهَا مَكِيدَةٌ
لِيَقْبِضُوهُ وَيُسَلِّمُوهُ إِلَى قُوصُونَ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَنْظُرَ
فِي أَمْرِهِ، وَرَدَّهُمْ إِلَى دِمَشْقَ. وَفِي هَذِهِ الْأَيَّامِ وَمَا
قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا أَخَذَ الْفَخْرِيُّ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التُّجَّارِ
بِالْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ سَنَةً، فَتَحَصَّلَ مِنْ
ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعَةِ آلَافٍ، وَصُودِرَ أَهْلُ
الذِّمَّةِ بِقَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى الْجِزْيَةِ الَّتِي أُخِذَتْ
مِنْهُمْ عَنْ ثَلَاثِ سِنِينَ سَلَفًا وَتَعْجِيلًا، ثُمَّ نُودِيَ فِي الْبَلَدِ
يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ مُنَادَاةٌ
صَادِرَةٌ مِنَ الْفَخْرِيِّ بِرَفْعِ الظُّلَامَاتِ وَالطَّلَبَاتِ، وَإِسْقَاطِ
مَا تَبَقَّى مِنَ الزَّكَاةِ وَالْمُصَادَرَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ احْتَاطُوا
عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُشَاةِ الْمُكْثِرِينَ لِيَشْتَرُوا مِنْهُمْ بَعْضَ
أَمْلَاكِ الْخَاصِّ، وَالْبُرْهَانُ بْنُ بِشَارَةَ الْحَنَفِيُّ تَحْتَ
الْمُصَادَرَةِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَى طَلَبِ الْمَالِ الَّذِي وَجَدَهُ فِي
طُمَيْرَةٍ وَجَدَهَا فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ
دَخَلَ الْأُمَرَاءُ السِّتَّةُ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَرَكِ لِطَلَبِ
السُّلْطَانِ أَنْ إِلَى دِمَشْقَ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ،
وَوَعَدَهُمْ وَقْتًا آخَرَ فَرَجَعُوا، وَخَرَجَ الْفَخْرِيُّ لِتَلَقِّيهِمْ،
فَاجْتَمَعُوا قِبْلِيَّ جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ الْكَرِيمِيِّ، وَدَخَلُوا
كُلُّهُمْ إِلَى دِمَشْقَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ الْأُمَرَاءِ
وَالْجُنْدِ، وَعَلَيْهِمْ خَمْدَةٌ لِعَدَمِ قُدُومِ السُّلْطَانِ، أَيَّدَهُ
اللَّهُ. وَفِي يَوْمِ
الْأَحَدِ قَدِمَ الْبَرِيدُ خَلْفَ قُمَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ
الْأُمَرَاءِ يَطْلُبُهُمْ إِلَى الْكَرَكِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّ السُّلْطَانَ رَأَى
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ وَهُوَ
يَأْمُرُهُ بِالنُّزُولِ مِنَ الْكَرَكِ وَقُبُولِ الْمَمْلَكَةِ، فَانْشَرَحَ
النَّاسُ لِذَلِكَ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَيْهِينِيِّ الْبَسْطِيِّ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا،
كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَحُضُورِ مَجَالِسِ
الذِّكْرِ وَالْحَدِيثِ، لَهُ هِمَّةٌ وَصَوْلَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ
الْمُتَشَبِّهِينَ بِالصَّالِحِينَ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ
الشَّيْخِ فَخْرِ الدِّينِ بْنِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَرَأْتُ عَلَيْهِ
عَنِ ابْنِ الْبُخَارِيِّ " مُخْتَصَرَ الْمَشْيَخَةِ "، وَلَازَمَ
مَجَالِسَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَانْتَفَعَ بِهِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ - أَوَّلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - كَانَ قَدْ
نُودِيَ فِي الْجَيْشِ: آنَ الرَّحِيلُ لِمُلْتَقَى السُّلْطَانِ فِي سَابِعِ
الشَّهْرِ. ثُمَّ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى بَعْدِ الْعَشْرِ، ثُمَّ جَاءَ كِتَابٌ
مِنَ السُّلْطَانِ بِتَأَخُّرِ ذَلِكَ إِلَى بَعْدِ الْعِيدِ. وَقَدِمَ فِي
عَاشِرِ الشَّهْرِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ تَقِيِّ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَمَعَهُ
وِلَايَةٌ مِنَ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ ابْنِ النَّاصِرِ بِنَظَرِ
الْبِيمَارَسْتَانِ النُّورِيِّ وَمَشْيَخَةِ الرَّبْوَةِ، وَرُتِّبَ عَلَى
الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ قَبْلَهُ الْقَاضِي شِهَابُ
الدِّينِ بْنُ الْبَارِزَيِّ بِقَضَاءِ حِمْصَ مِنَ السُّلْطَانِ - أَيَّدَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ حَيْثُ تَكَلَّمَ السُّلْطَانُ فِي
الْمَمْلَكَةِ، وَبَاشَرَ، وَأَمَّرَ، وَوَلَّى، وَوَقَّعَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَهُ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طَشْتَمُرُ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَّصِ الْأَخْضَرِ مِنَ الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ
إِلَى دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ، وَتَلَقَّاهُ
الْفَخْرِيُّ وَالْأُمَرَاءُ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، وَدَخَلَ
فِي أُبَّهَةٍ حَسَنَةٍ، وَدَعَا لَهُ النَّاسُ، وَفَرِحُوا بِقُدُومِهِ بَعْدَ
شَتَاتِهِ فِي الْبِلَادِ وَهَرَبِهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ أُلْطُنْبُغَا حِينَ
قَصَدَهُ إِلَى حَلَبَ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعَ عَشَرَهُ خَرَجَتِ الْجُيُوشُ مِنْ دِمَشْقَ
قَاصِدِينَ إِلَى غَزَّةَ لِنَظْرَةِ السُّلْطَانِ حِينَ يَخْرُجُ مِنَ الْكَرَكِ
السَّعِيدِ، فَخَرَجَ يَوْمَئِذٍ مُقَدَّمَانِ; طُقُزْدَمُرُ، وَأَقْبُغَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ، فَبَرَزَا إِلَى الْكُسْوَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَرَجَ
الْفَخْرِيُّ وَمَعَهُ طَشْتَمُرُ وَجُمْهُورُ الْأُمَرَاءِ، وَلَمْ يَقُمْ
بَعْدَهُ بِدِمَشْقَ إِلَّا مَنِ احْتِيجَ لِمَقَامِهِمْ لِمُهِمَّاتِ
الْمَمْلَكَةِ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ، وَقَاضِي
الْعَسَاكِرِ، وَالْمُوَقِّعِينَ، وَالصَّاحِبِ، وَكَاتِبِ الْجَيْشِ، وَخَلْقٍ
كَثِيرٍ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ أَحْمَدُ الْمُلَقَّبُ
بِالْعَصِيدَةِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ تَنْكِزَ، وَدُفِنَ بِالصُّوفِيَّةِ قَرِيبًا مِنْ
قَبْرِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ - تَغَمَّدَهُمَا اللَّهُ
بِرَحْمَتِهِ - وَكَانَ فِيهِ صَلَاحٌ كَثِيرٌ، وَمُوَاظَبَةٌ عَلَى الصَّلَاةِ
فِي جَمَاعَةٍ، وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، مَشْهُورًا عِنْدَ
النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ يُكْثِرُ مِنْ خِدْمَةِ الْمَرْضَى
بِالْمَارَسْتَانِ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ إِيثَارٌ وَقَنَاعَةٌ وَتَزَهُّدٌ كَثِيرٌ،
وَلَهُ أَحْوَالٌ مَشْهُورَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ أَنَّ السُّلْطَانَ الْمَلِكَ
النَّاصِرَ شِهَابَ الدِّينِ أَحْمَدَ خَرَجَ مِنَ الْكَرَكَ الْمَحْرُوسِ
صُحْبَةَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعَرَبِ وَالْأَتْرَاكِ قَاصِدًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ تَحَرَّرَ خُرُوجُهُ مِنْهَا
فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، فَدَخَلَ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ بَعْدَ أَيَّامٍ، هَذَا وَالْجَيْشُ صَامِدُونَ
إِلَيْهِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ دُخُولُهُ مِصْرَ حَثُّوا فِي السَّيْرِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَعَثَ يَسْتَحِثُّهُمْ أَيْضًا، وَاشْتَهَرَ
أَنَّهُ لَمْ يَجْلِسْ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ حَتَّى يَقْدَمَ الْأُمَرَاءُ
الشَّامِيُّونَ صُحْبَةَ نَائِبِهِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ قُطْلُوبُغَا
الْفَخْرِيِّ; وَلِهَذَا لَمْ تَدُقَّ الْبَشَائِرُ بِالْقِلَاعِ الشَّامِيَّةِ
وَلَا غَيْرِهَا فِيمَا بَلَغَنَا. وَجَاءَتِ الْكُتُبُ وَالْأَخْبَارُ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِأَنَّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ عَاشِرَ شَوَّالٍ كَانَ إِجْلَاسُ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ شِهَابِ الدِّينِ أَحْمَدَ عَلَى سَرِيرِ
الْمَمْلَكَةِ، صَعِدَ هُوَ وَالْخَلِيفَةُ الْحَاكِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُسْتَكْفِي فَوْقَ الْمِنْبَرِ، وَهُمَا لَابِسَانِ
السَّوَادَ، وَالْقُضَاةُ تَحْتَهُمَا عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ بِحَسَبِ
مَنَازِلِهِمْ، فَخَطَبَ الْخَلِيفَةُ، وَخَلَعَ الْأَشْرَفَ كُجُكَ، وَوَلَّى
هَذَا النَّاصِرَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَاشْتَهَى وِلَايَتَهُ
لِطَشْتَمُرَ نِيَابَةَ مِصْرَ، وَالْفَخْرِيِّ دِمَشْقَ، وَأَيْدُغْمُشَ حَلَبَ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِدِمَشْقَ لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ
الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَمَرَّتْ إِلَى
يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ يَوْمَ
الْأَحَدِ ثَالِثَ عِشْرِينَ مِنْهُ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِالزِّينَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْمَذْكُورِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أَلْمَلَكُ - أَحَدُ رُءُوسِ الْمَشُورَةِ بِمِصْرَ - إِلَى دِمَشْقَ فِي طَلَبِ
نِيَابَةِ حَمَاةَ، حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَخْبَرَ أَنَّ طَشْتَمُرَ الْحِمَّصَ
الْأَخْضَرَ مُسِكَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ
الْكَائِنَةِ كَثِيرًا، فَخَرَجَ مَنْ بِدِمَشْقَ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ
إِلَى الْحَاجِّ أَلْمَلَكَ، وَقَدْ خَيَّمَ بِوَطْأَةِ بُرْزَةَ، فَأَخْبَرُوهُ
بِذَلِكَ، وَأَمَّرُوهُ عَنْ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ أَنْ يَنُوبَ بِدِمَشْقَ
حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْسُومُ بِمَا يَعْتَمِدُونَهُ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ،
وَرَكِبَ فِي الْمَوْكِبِ يَوْمَ السَّبْتِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ،
وَأَمَّا الْفَخْرِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا تَنَسَّمَ هَذَا الْخَبَرَ وَتَحَقَّقَهُ
وَهُوَ بِالزَّعْقَةِ، فَرَّ فِي طَائِفَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ قَرِيبٍ مِنْ
سِتِّينَ أَوْ أَكْثَرَ، فَاخْتَرَقَ وَسَاقَ سَوْقًا حَثِيثًا، وَجَاءَهُ
الطَّلَبُ مِنْ وَرَائِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفِ
فَارِسٍ صُحْبَةَ الْأَمِيرَيْنِ أُلْطُنْبُغَا الْمَارْدَانِيِّ وَيَلْبُغَا
الْيَحْيَاوِيِّ، فَفَاتَهُمَا وَسَبَقَ، وَاعْتَرَضَ لَهُ نَائِبُ غَزَّةَ فِي
جُنْدِهِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَسَلَّطُوا عَلَيْهِ الْعَشِيرَاتِ
يَنْهَبُونَهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ إِلَّا فِي شَيْءٍ يَسِيرٍ، وَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا، وَقَصْدَ نَحْوَ صَاحِبِهِ - فِيمَا يَزْعُمُ - الْأَمِيرِ
عَلَاءِ الدِّينِ أَيْدُغْمُشَ نَائِبِ حَلَبَ، رَاجِيًا مِنْهُ أَنْ يَنْصُرَهُ
وَأَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى مَا قَامَ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ
أَكْرَمَهُ، وَأَنْزَلَهُ، وَبَاتَ عِنْدَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَبَضَ عَلَيْهِ
وَقَيَّدَهُ، وَرَدَّهُ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَمَعَهُ التَّرَاسِيمُ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ سَلْخُ ذِي الْقِعْدَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ شِهَابُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ قَاصِدًا إِلَى
الْكَرَكِ الْمَحْرُوسِ، وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ، وَحَوَاصِلُ وَأَشْيَاءُ
كَثِيرَةٌ، فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَصُحْبَتَهُ طَشْتَمُرُ فِي مِحَفَّةٍ مُمَرَّضًا، وَالْفَخْرِيُّ مُقَيَّدًا،
فَاعْتُقِلَا بِالْكَرَكِ الْمَحْرُوسِ، وَطَلَبَ السُّلْطَانُ آلَاتٍ مِنْ
أَخْشَابٍ وَنَحْوِهَا، وَحَدَّادِينَ، وَصُنَّاعًا وَنَحْوَهُمَا; لِإِصْلَاحِ
مُهِمَّاتٍ بِالْكَرَكِ، وَطَلَبَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسِ،
فَحُمِلَتْ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْأَحْمَدِيَّ،
النَّائِبَ بِصَفَدَ الْمَحْرُوسَةِ - رَكِبَ فِي مَمَالِيكِهِ وَخَدَمِهِ وَمَنْ
أَطَاعَهُ، وَخَرَجَ مِنْهَا فَارًّا بِنَفْسِهِ مِنَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ،
وَذَكَرَ أَنَّ نَائِبَ غَزَّةَ قَصَدَهُ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ بِمَرْسُومِ
السُّلْطَانِ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَرَكِ، فَهَرَبَ الْأَحْمَدِيُّ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، وَلَمَّا وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ وَلَيْسَ بِهَا نَائِبٌ،
انْزَعَجَ الْأُمَرَاءُ لِذَلِكَ، وَاجْتَمَعُوا بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَضَرَبُوا
فِي ذَلِكَ مَشُورَةً، ثُمَّ جَرَّدُوا إِلَى نَاحِيَةِ بِعْلَبَكَّ أَمِيرًا
لِيَصُدُّوهُ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ
مِنْ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ فِي نَوَاحِي الْكُسْوَةِ،
وَلَا مَانِعَ مِنْ خَلَاصِهِ، فَرَكِبُوا كُلُّهُمْ، وَنَادَى الْمُنَادِي: مَنْ
تَأَخَّرَ مِنَ الْجُنْدِ عَنْ هَذَا النَّفِيرِ شُنِقَ ! فَاسْتَوْثَقُوا فِي الْخُرُوجِ،
وَقَصَدُوا نَاحِيَةَ الْكُسْوَةِ، وَبَعَثُوا الرُّسُلَ إِلَيْهِ، فَذَكَرَ
اعْتِذَارًا فِي خُرُوجِهِ، وَتَخَلَّصَ مِنْهُمْ، وَذَهَبَ يَوْمَهُ ذَلِكَ،
وَرَجَعُوا وَقَدْ كَانُوا مُلْبِسِينَ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مِنَ
الْأَزْوَادِ مَا يَكْفِيهِمْ سِوَى يَوْمِهِمْ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ
الثُّلَاثَاءِ رَكِبَ الْأُمَرَاءُ فِي طَلَبِهِ مِنْ نَاحِيَةِ ثَنِيَّةِ
الْعُقَابِ، فَرَجَعُوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَهُوَ فِي صُحْبَتِهِمْ،
وَنَزَلَ فِي الْقُصُورِ
الَّتِي بَنَاهَا تَنْكِزُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقِ
دَارَيَّا، فَأَقَامَ بِهَا، وَأَجْرَوْا عَلَيْهِ مُرَتَّبًا كَامِلًا مِنَ
الشَّعِيرِ وَالْغَنَمِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَمَعَهُ مَمَالِيكُهُ
وَخَدَمُهُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ سَادِسُ الْمُحَرَّمِ، وَرَدَ
كِتَابٌ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ فَقُرِئَ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِدَارِ
السَّعَادَةِ يَتَضَمَّنُ إِكْرَامَهُ وَاحْتِرَامَهُ وَالصَّفْحَ عَنْهُ;
لِتَقَدُّمِ خَدَمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ وَابْنِهِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعُ الْمُحَرَّمِ وَرَدَ الْبَرِيدُ
مِنَ الْكَرَكِ إِلَى الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْحَاجِبِ نَائِبِ
الْغَيْبَةِ وَالْحَاجِبِ أَلِلْمِشَ بِالْقَبْضِ عَلَى الْأَحْمَدِيِّ، فَرَكِبَ
الْجَيْشَ مُلْبِسِينَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَوْكَبُوا بِسُوقِ الْخَيْلِ،
وَرَاسَلُوهُ - وَقَدْ رَكِبَ فِي مَمَالِيكِهِ بِالْعُدَدِ وَأَظْهَرَ
الِامْتِنَاعَ - فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ لَا أَسْمَعَ وَلَا أُطِيعَ إِلَّا لِمَنْ
هُوَ مَلِكُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَمَّا مَنْ هُوَ مُقِيمٌ بِالْكَرَكِ
وَيَصْدُرُ عَنْهُ مَا يُقَالُ عَنْهُ مِنَ الْأَفَاعِيلِ الَّتِي قَدْ سَارَتْ
بِهَا الرُّكْبَانُ، فَلَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْأُمَرَاءَ هَذَا تَوَقَّفُوا فِي
أَمْرِهِ، وَسَكَنُوا، وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَرَجَعَ هُوَ إِلَى
قَصْرِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَّةُ الْمُبَارَكَةُ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ
الْمَلِكُ النَّاصِرُ أَحْمَدُ ابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْكَرَكِ، قَدْ حَازَ الْحَوَاصِلَ
السُّلْطَانِيَّةَ مِنْ قَلْعَةِ الْجَبَلِ إِلَى قَلْعَةِ الْكَرَكِ، وَنَائِبُهُ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ آقْ سُنْقُرُ
السَّلَارِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا بِغَزَّةَ، وَقُضَاةُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، سِوَى الْقَاضِي
الْحَنَفِيِّ. وَأَمَّا دِمَشْقُ فَلَيْسَ لَهَا نَائِبٌ إِلَى حِينِئِذٍ، غَيْرَ
أَنَّ الْأَمِيرَ رُكْنَ الدِّينِ بِيبَرْسَ الْحَاجِبَ كَانَ اسْتَنَابَهُ
الْفَخْرِيُّ بِدِمَشْقَ نَائِبَ غَيْبَةٍ، فَهُوَ الَّذِي يَسُدُّ الْأُمُورَ
مَعَ الْحَاجِبِ أَلِلْمِشَ، وَتَمُرَ الْمَهْمَنْدَارِ، وَالْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ الْمُلَقَّبِ بِحَلَاوَةَ - وَالِي الْبَرِّ - وَالْأَمِيرِ نَاصِرِ
الدِّينِ بْنِ بَكْتَاشَ مُتَوَلِّي الْبَلَدِ، هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ
يَسُدُّونَ الْأَشْغَالَ وَالْأُمُورَ السُّلْطَانِيَّةَ، وَالْقُضَاةُ هُمُ
الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ تَاجُ
الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ الْقَاضِي جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ،
وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمِيرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْأَحْمَدِيُّ نَازِلٌ بِقَصْرِ تَنْكِزَ بِطَرِيقِ دَارَيَّا، وَكُتُبُ السُّلْطَانِ وَارِدَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِ وَالْقَبْضِ، وَأَنَّ يُمْسَكَ وَيُرْسَلَ إِلَى الْكَرَكِ، هَذَا وَالْأُمَرَاءُ يَتَوَانَوْنَ فِي أَمْرِهِ وَيُسَوِّفُونَ الْمَرَاسِيمَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ، وَحِينًا بَعْدَ حِينٍ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْمَدِيَّ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَمَتَى مَسَكَهُ تَطَرَّقَ إِلَى غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ السُّلْطَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ أَحْوَالٌ لَا تُرْضِيهِمْ مِنَ اللَّعِبِ وَالِاجْتِمَاعِ مَعَ الْأَرَاذِلِ وَالْأَطْرَافِ بِبَلَدِ الْكَرَكِ، مَعَ قَتْلِهِ الْفَخْرِيَّ وَطَشْتَمُرَ قَتْلًا فَظِيعًا، وَسَلْبِهِ أَهْلَهُمَا، وَسَلْبِهِ لِمَا عَلَى الْحَرِيمِ مِنَ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ، وَإِخْرَاجِهِمْ فِي أَسْوَأِ حَالٍ مِنَ الْكَرَكِ، وَتَقْرِيبِهِ النَّصَارَى وَحُضُورِهِمْ عِنْدَهُ، فَحَمَلَ الْأُمَرَاءَ هَذِهِ الصِّفَاتُ عَلَى أَنْ بَعَثُوا أَحَدَهُمْ يَكْشِفُ أَمْرَهُ، فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ هَارِبًا خَائِفًا، فَلَمَّا رَجَعَ وَأَخْبَرَ الْأُمَرَاءَ بِذَلِكَ انْزَعَجُوا وَتَشَوَّشُوا كَثِيرًا، وَاجْتَمَعُوا بِسُوقِ الْخَيْلِ مِرَارًا، وَضَرَبُوا مَشُورَةً بَيْنِهِمْ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَخْلَعُوهُ، فَكَتَبُوا إِلَى الْمِصْرِيِّينَ بِذَلِكَ، وَأَعْلَمُوا نَائِبَ حَلَبَ أَيْدُغْمُشَ وَنُوَّابَ الْبِلَادِ، وَبَقَوْا مُتَوَهِّمِينَ مِنْ هَذَا الْحَالِ كَثِيرًا وَمُتَرَدِّدِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَانِعُ فِي الظَّاهِرِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي الْبَاطِنِ، وَقَالُوا: لَا سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ. وَجَاءَ كِتَابُهُ إِلَيْهِمْ يَعِيبُهُمْ وَيُعَنِّفُهُمْ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يُفِدْ، وَرَكِبَ الْأَحْمَدِيُّ فِي الْمَوْكِبِ وَرَكِبُوا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَرَاحُوا إِلَيْهِ إِلَى الْقَصْرِ، فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَخَدَمُوهُ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَعَظُمَ الْخُطَبُ، وَحَمَلُوا هُمُومًا عَظِيمَةً خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَيُلَفَّ عَلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ، فَيُتْلِفَ الشَّامِيِّينَ، فَحَمَلَ النَّاسُ هَمَّهُمْ، فَاللَّهُ هُوَ الْمَسْئُولُ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ
مِنَ الْمُحَرَّمِ وَرَدَ مُقَدَّمُ الْبَرِيدِيَّةِ وَمَعَهُ كُتُبُ الْمِصْرِيِّينَ
بِأَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُمْ خَبَرُ الشَّامِيِّينَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْرِ
السُّلْطَانِ أَضْعَافُ مَا حَصَلَ عِنْدَ الشَّامِيِّينَ، فَبَادَرُوا إِلَى مَا
كَانُوا عَزَمُوا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تَرَدَّدُوا خَوْفًا مِنَ الشَّامِيِّينَ
أَنْ يُخَالِفُوهُمْ فِيهِ وَيَتَقَدَّمُوا فِي صُحْبَةِ السُّلْطَانِ
لِقِتَالِهِمْ، فَلَمَّا اطْمَأَنُّوا مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ صَمَّمُوا عَلَى
عَزْمِهِمْ، فَخَلَعُوا النَّاصِرَ أَحْمَدَ وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أَخَاهُ
الْمَلِكَ الصَّالِحَ إِسْمَاعِيلَ ابْنَ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَنْصُورِ،
جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَجْلَسُوهُ عَلَى
السَّرِيرِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ الْمَذْكُورِ،
وَجَاءَ كِتَابُهُ مُسَلِّمًا عَلَى أُمَرَاءَ الشَّامِ وَمُقَدَّمِيهِ، وَجَاءَتْ
كُتُبُ الْأُمَرَاءِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالسَّلَامِ وَالْأَخْبَارِ بِذَلِكَ،
فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ وَأُمَرَاءُ الشَّامِ وَالْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ
بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ
يَوْمَئِذٍ، وَرُسِمَ بِتَزْيِينِ الْبَلَدِ، فَزَيَّنَ النَّاسُ صَبِيحَةَ
الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ سَلْخُ الْمُحَرَّمِ خُطِبَ بِدِمَشْقَ لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ عِمَادِ
الدُّنْيَا وَالدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسِ صَفَرٍ دَرَّسَ بِالصَّدْرِيَّةِ صَاحِبُنَا
الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَيُّوبَ الزُّرَعِيُّ إِمَامُ الْجَوْزِيَّةِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الشَّيْخُ عِزُّ
الدِّينِ بْنُ الْمُنَجَّا - الَّذِي نَزَلَ لَهُ عَنْهَا - وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْفُضَلَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى دِمَشْقَ ذَاهِبًا
إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ، فَنَزَلَ بِالْقَابُونِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنَ عَشَرَ صَفَرٍ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الزَّاهِدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
الْوَلِيدِ الْمُقْرِئُ الْمَالِكِيُّ، إِمَامُ الْمَالِكِيَّةِ، هُوَ وَأَخُوهُ
أَبُو عَمْرٍو، بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِمِحْرَابِ الصَّحَابَةِ، تُوُفِّيَ
بِبُسْتَانٍ بِقُبَّةِ الْمُسَجِّفِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْمُصَلَّى، وَدُفِنَ
عِنْدَ أَبِيهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَحَضَرَ
جَنَازَتَهُ الْأَعْيَانُ، وَالْفُقَهَاءُ، وَالْقُضَاةُ، وَكَانَ رَجُلًا
صَالِحًا مُجْمَعًا عَلَى دِيَانَتِهِ وَجَلَالَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ دَخَلَ الْأَمِيرُ أَيْدُغْمُشُ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ، وَدَخَلَ إِلَيْهَا مِنْ نَاحِيَةِ الْقَابُونِ
قَادِمًا مِنْ حَلَبَ، وَتَلَقَّاهُ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، وَعَلَيْهِ خِلْعَةُ
النِّيَابَةِ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ لَهُ، وَأَشْعَلُوا الشُّمُوعَ، وَخَرَجَ
أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَدْعُونَ لَهُ وَمَعَهُمُ الشُّمُوعُ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَصَلَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْمَقْصُورَةِ مِنَ
الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ هُنَاكَ عَلَى السُّدَّةِ وَعَلَيْهِ خِلْعَتَهُ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ مَلِكْتَمُرُ السَّرْجَوَانِيُّ، وَعَلَيْهِ خِلْعَةٌ أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ دَخَلَ
الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ الْجَاوِلِيُّ دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ ذَاهِبًا إِلَى
نِيَابَةِ حَمَاةَ الْمَحْرُوسَةِ، وَتَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
وَالْأُمَرَاءُ إِلَى مَسْجِدِ الْقَدَمِ، وَرَاحَ فَنَزَلَ بِالْقَابُونِ،
وَخَرَجَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ إِلَيْهِ، وَسُمِّعَ عَلَيْهِ مِنْ "
مُسْنَدِ الشَّافِعِيِّ " فَإِنَّهُ يَرْوِيهِ، وَلَهُ فِيهِ عَمَلٌ،
وَرَتَّبَهُ تَرْتِيبًا حَسَنًا رَأَيْتُهُ، وَشَرَحَهُ أَيْضًا، وَلَهُ أَوْقَافٌ
عَلَى الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ عُقِدَ مَجْلِسٌ
بَعْدَ الصَّلَاةِ بِالشُّبَّاكِ
الْكَمَالِيِّ مِنْ مَشْهَدِ عُثْمَانَ بِسَبَبِ الْقَاضِي فَخْرِ
الدِّينِ الْمِصْرِيِّ، وَصَدْرِ الدِّينِ عَبْدِ الْكَرِيِمِ ابْنِ الْقَاضِي
جَلَالِ الدِّينِ الْقَزْوِينِيِّ; بِسَبَبِ الْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ،
فَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ نَزَلَ صَدْرُ الدِّينِ عَنْ تَدْرِيسِهَا،
وَنَزَلَ الْقَاضِي فَخْرُ الدِّينِ عَنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَلَى الْجَامِعِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَلْخِ الشَّهْرِ الْمَذْكُورِ حَضَرَ الْقَاضِي فَخْرُ
الدِّينِ الْمِصْرِيُّ، وَدَرَّسَ بِالْعَادِلِيَّةِ الصَّغِيرَةِ، وَحَضَرَ
النَّاسُ عِنْدَهُ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذِهِ
بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا [ يُوسُفَ: 65 ].
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ جَاءَ الْمَرْسُومُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِأَنْ تَخْرُجَ تَجْرِيدَةٌ مِنْ دِمَشْقَ بِصُحْبَةِ الْأَمِيرِ
حُسَامِ الدِّينِ الْبَشْمَقْدَارِ لِحِصَارِ الْكَرَكِ الَّذِي تَحَصَّنَ فِيهِ
ابْنُ السُّلْطَانِ أَحْمَدُ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
الَّتِي أَخَذَهَا مِنَ الْخَزَائِنِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، وَبَرَزَ
الْمَنْجَنِيقُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى قِبْلِيِّ جَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ،
فَنُصِبَ هُنَاكَ، وَخَرَجَ النَّاسُ لِلتَّفَرُّجِ عَلَيْهِ وَرُمِيَ بِهِ،
وَمِنْ نِيَّتِهِمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوهُ مَعَهُمْ لِلْحِصَارِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أُلْطُنْبُغَا الْمَارِدَانِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى
خَيْلِ الْبَرِيدِ ذَاهِبًا إِلَى حَمَاةَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَرُسِمَ بِعَوْدِ
الْجَاوِلِيِّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى قَاعِدَتِهِ وَعَادَتِهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِهِ دَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ الْأَمِيرَانِ
الْكَبِيرَانِ; رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ الْأَحْمَدِيُّ مِنْ طَرَابُلُسَ،
وَعَلَمُ الدِّينِ الْجَاوِلِيُّ مِنْ حَمَاةَ - سَحَرًا، وَحَضَرَا الْمَوْكِبَ،
وَوَقَفَا مُكْتَنِفِينَ لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ، الْأَحْمَدِيُّ عَنْ يَمِينِهِ،
وَالْجَاوِلِيُّ عَنْ يَسَارِهِ، وَنَزَلَا ظَاهِرَ الْبَلَدِ، ثُمَّ بَعْدَ
أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ تَوَجَّهَ الْأَحْمَدِيُّ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
عَلَى عَادَتِهِ وَقَاعِدَتِهِ رَأْسِ مَشُورَةٍ، وَتَوَجَّهَ
الْجَاوِلِيُّ إِلَى غَزَّةَ الْمَحْرُوسَةَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَكَانَ
الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ مَسْعُودُ بْنُ الْخَطِيرِ عَلَى إِمْرَةِ
طَبْلَخَانَاهْ بِدِمَشْقَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِهِ خَرَجَتِ التَّجْرِيدَةُ مِنْ دِمَشْقَ سَحَرًا
إِلَى مَدِينَةِ الْكَرَكِ، وَالْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ وَالِي
الْوُلَاةِ بِحَوْرَانَ مُشِدُّ الْمَجَانِيقِ، وَخَرَجَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بِهَادِرُ الشَّمْسِ الْمُلَقَّبُ بِحَلَاوَةَ وَالِي الْبَرِّ
بِدِمَشْقَ إِلَى وِلَايَةِ الْوُلَاةِ بِحَوْرَانَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَهُ وَقَعَ بَيْنَ النَّائِبِ وَالْقَاضِي
الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ كِتَابٍ وَرَدَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِيهِ
الْوَصَاةُ بِالْقَاضِي السُّبْكِيِّ الْمَذْكُورِ، وَمَعَهُ التَّوْقِيعُ
بِالْخَطَابَةِ لَهُ، مُضَافًا إِلَى الْقَضَاءِ وَخِلْعَةً مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّائِبُ لِأَجْلِ أَوْلَادِ الْجَلَالِ; لِأَنَّهُمْ
عِنْدَهُمْ عَائِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُمْ فُقَرَاءُ، وَقَدْ نَهَاهُ عَنِ السَّعْيِ
فِي ذَلِكَ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عِنْدَهُ فِي
الشُّبَّاكِ الْكَمَالِيِّ، فَنَهَضَ مِنْ هُنَاكَ وَصَلَّى فِي الْغَزَّالِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ دَخَلَ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أُرُنْبُغَا زَوْجُ ابْنَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
مُجْتَازًا ذَاهِبًا إِلَى طَرَابُلُسَ نَائِبًا بِهَا - فِي تَجَمُّلٍ
وَأُبَّهَةٍ، وَنَجَائِبَ وَجَنَائِبَ كَثِيرَةٍ، وَعِدَّةٍ وَسَرْكٍ كَامِلٍ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ
دَخَلَ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ مَعْزُولًا عَنْ نِيَابَةِ
غَزَّةَ الْمَحْرُوسَةِ، فَأَصْبَحَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَرَكِبَ فِي الْمَوْكِبِ
وَسُيِّرَ مَعَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَنَزَلَ فِي دَارِهِ، وَرَاحَ النَّاسُ
لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَالِثَ عَشَرَ
زُيِّنَتِ الْبَلَدُ لِعَافِيَةِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ لِمَرَضٍ
أَصَابَهُ، ثُمَّ شُفِيَ مِنْهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ عَشَرَهُ قَبْلَ الْعَصْرِ وَرَدَ الْبَرِيدُ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِطَلَبِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ
السُّبْكِيِّ إِلَيْهَا حَاكِمًا بِهَا، فَذَهَبَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ
وَلِتَوْدِيعِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَرْجَفَ النَّاسُ بِهِ كَثِيرًا،
وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ سَيَنْعَقِدُ لَهُ مَجْلِسٌ لِلدَّعْوَى عَلَيْهِ بِمَا
دَفَعَهُ مِنْ مَالِ الْأَيْتَامِ إِلَى أُلْطُنْبُغَا وَإِلَى الْفَخْرِيِّ،
وَكُتِبَتْ فَتْوَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي تَغْرِيمِهِ، وَدَارُوا بِهَا عَلَى
الْمُفْتِينَ، فَلَمْ يَكْتُبْ لَهُمْ أَحَدٌ فِيهَا غَيْرَ الْقَاضِي جَلَالِ
الدِّينِ بْنِ حُسَامِ الدِّينِ الْحَنَفِيِّ، رَأَيْتُ خَطَّهُ عَلَيْهَا
وَحْدَهُ يَوْمَئِذٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَسُئِلْتُ فِي الْإِفْتَاءِ عَلَيْهَا
فَامْتَنَعْتُ; لِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْوِيشِ عَلَى الْحُكَّامِ، وَفِي أَوَّلِ
مَرْسُومِ نَائِبِ السُّلْطَانِ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْمُفْتُونَ هَذَا السُّؤَالَ
وَيُفْتُوا بِمَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَكَانُوا لَهُ فِي
نِيَّةٍ عَجِيبَةٍ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِطَلَبِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا صُحْبَةَ الْبَرِيدِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ،
وَخَرَجَ الْكُبَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ لِتَوْدِيعِهِ وَفِي خِدْمَتِهِ.
اسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةُ وَالتَّجْرِيدَةُ عَمَّالَةٌ إِلَى الْكَرَكِ،
وَالْجَيْشُ الْمُجَرَّدُونَ مِنَ الْحَلْقَةِ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفٍ أَوْ
يَزِيدُونَ، وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ رَابِعُهُ بَعْدَ الظُّهْرِ
مَاتَ الْأَمِيرُ
عَلَاءُ الدِّينِ أَيْدُغْمُشُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
بِالشَّامِ الْمَحْرُوسِ فَجْأَةً فِي دَارٍ وَحْدَهُ، بِدَارِ السَّعَادَةِ،
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَشَفُوا أَمْرَهُ، وَأُحْصِرُوا، وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ
اعْتَرَاهُ سَكْتَةٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ شُفِيَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَانْتَظَرُوا
بِهِ إِلَى الْغَدِ احْتِيَاطًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ اجْتَمِعُوا
لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ حَيْثُ
يُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى نَحْوِ الْقِبْلَةِ، وَرَامَ
بَعْضُ أَهْلِهِ أَنْ يُدْفَنَ فِي تُرْبَةِ غِبْرِيَالَ إِلَى جَانِبِ جَامِعِ
الْقُبَيْبَاتِ، فَلَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، فَدُفِنَ قِبْلِيَّ الْجَامِعِ عَلَى
حَافَّةِ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَتَهَيَّأْ دَفْنُهُ إِلَى بَعْدِ الظُّهْرِ مِنْ
يَوْمِئِذٍ، وَعَمِلُوا عِنْدَهُ خَتْمَةً لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَسَامَحَهُ.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الشَّهْرِ أَنَّ الْحِصَارَ عَمَّالٌ عَلَى
الْكَرَكِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكَرَكِ خَرَجَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَقُتِلَ
مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقُتِلَ مِنَ الْجَيْشِ وَاحِدٌ فِي الْحِصَارِ،
فَنَزَلَ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ وَمَعَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْجَوْهَرِ، وَتَرَاضَوْا
عَلَى أَنْ يُسَلِّمُوا الْبَلَدَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ الْحِصْنِ
تَحَصَّنُوا، وَنَصَبُوا الْمَجَانِيقَ، وَاسْتَعَدُّوا، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ
أَيَّامٍ رَمَوْا مَنْجَنِيقَ الْجَيْشِ فَكَسَرُوا السَّهْمَ الَّذِي لَهُ،
وَعَجَزُوا عَنْ نَقْلِهِ، فَحَرَقُوهُ بِرَأْيِ أُمَرَاءَ الْمُقَدَّمِينَ،
وَجَرَتْ أُمُورٌ فَظِيعَةٌ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
ثُمَّ وَقَعَتْ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ بَيْنَ الْجَيْشِ وَأَهْلِ
الْكَرَكِ وَقْعَةٌ أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ رِجَالِ الْكَرَكِ
خَرَجُوا إِلَى الْجَيْشِ وَرَمَوْهُمْ بِالنُّشَّابِ، فَخَرَجَ الْجَيْشُ لَهُمْ
مِنَ الْخِيَامِ، وَرَجَعُوا مُشَاةً مُلْبِسِينَ بِالسِّلَاحِ، فَقَتَلُوا
مِنْأَهْلِ الْكَرَكِ جَمَاعَةً مِنَ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ، وَجُرِحَ مِنَ
الْعَسْكَرِ خَلْقٌ، وَقُتِلَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ، وَأُسِرَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ بَهَادُرَآصْ، وَقُتِلَ أَمِيرُ الْعَرَبِ، وَأُسِرَ
آخَرُونَ فَاعْتُقِلُوا
بِالْكَرَكِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ، ثُمَّ بَعْدَهَا
تَعَرَّضَ الْعَسْكَرُ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ لَمْ يَنَالُوا مُرَادَهُمْ
مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ دَقَّهُمُ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ وَقِلَّةُ الزَّادِ،
وَحَاصَرُوا أُولَئِكَ شَدِيدًا بِلَا فَائِدَةٍ، فَإِنَّ الْبَلَدَ بَرِيدٌ
مُتَطَاوَلَةٌ وَمَجَانِيقُ، وَيَشُقُّ عَلَى الْجَيْشِ الْإِقَامَةُ هُنَاكَ فِي
زَمَانِ كَوَانِينَ، وَالْمَنْجَنِيقُ الَّذِي حَمَلُوهُ مَعَهُمْ كُسِرَ،
فَرَجَعُوا لِيَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ
قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ الْقَاضِي بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ كَاتِبًا عَلَى السِّرِّ عِوَضًا عَنْ أَخِيهِ
الْقَاضِي شِهَابِ الدِّينِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى حَوَاصِلِ
أَخِيهِ شِهَابِ الدِّينِ، وَعَلَى حَوَاصِلِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ بْنِ
الشِّيرَازِيِّ الْمُحْتَسِبِ، فَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمَا، وَأُخْرِجَ مَنْ
فِي دِيَارِهِمَا مِنَ الْحُرَمِ، وَضُرِبَتِ الْأَخْشَابُ عَلَى الْأَبْوَابِ،
وَرُسِمَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ، فَسَأَلَ أَنْ يُحَوَّلَ إِلَى
دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ فَحُوِّلَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا الْقَاضِي
شِهَابُ الدِّينِ، فَكَانَ قَدْ خَرَجَ لِيَلْتَقِيَ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ
طُقُزْدَمُرَ الْحَمَوِيَّ الَّذِي جَاءَ تَقْلِيدُهُ بِنِيَابَةِ الشَّامِ
بِدِمَشْقَ وَكَانَ بِحَلَبَ، وَجَاءَ هَذَا الْأَمْرُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ، فَرُسِمَ بِرَجْعَتِهِ لِيُصَادَرَ هُوَ وَالْمُحْتَسِبُ، وَلَمْ
يَدْرِ النَّاسُ مَا ذَنْبُهُمَا.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَامِنِ شَهْرِ رَجَبٍ آخِرِ النَّهَارِ رَجَعَ قَاضِي
الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ إِلَى دِمَشْقَ عَلَى الْقَضَاءِ،
وَمَعَهُ تَقْلِيدٌ بِالْخَطَابَةِ أَيْضًا، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَيْهِ
لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَدَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طُقُزْدَمُرُ الْحَمَوِيُّ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ بَعْدَ الْعَصْرِ الْخَامِسَ
عَشَرَ مِنْ حَلَبَ، فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ إِلَى طَرِيقِ الْقَابُونِ،
وَدَعَا لَهُ النَّاسُ دُعَاءً كَثِيرًا، وَأَحَبُّوهُ لِبُغْضِهِمُ النَّائِبَ
الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ،
وَهُوَ عَلَاءُ الدِّينِ أَيْدُغْمُشُ، سَامَحَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَحَضَرَ الْمَوْكِبَ صَبِيحَةَ يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ، وَاجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ وَسَأَلُوهُ أَنْ لَا
يُغَيِّرَ عَلَيْهِمْ خَطِيبَهُمْ تَاجَ الدِّينِ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ جَلَالِ الدِّينِ،
فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، بَلْ عَمِلَ عَلَى تَقْلِيدِ الْقَاضِي تَقِيِّ
الدِّينِ السُّبْكِيِّ الْخَطَابَةَ، وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ، وَأَكْثَرَ
الْعَوَامُّ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ الْكَلَامَ وَالْغَوْغَاءَ، وَصَارُوا
يَجْتَمِعُونَ حِلَقًا حِلَقًا بَعْدَ الصَّلَوَاتِ وَيُكْثِرُونَ الْفَرَحَ فِي
ذَلِكَ لَمَّا مُنِعَ ابْنُ الْجَلَالِ، وَلَكِنْ بَقِيَ هَذَا لَمْ يُبَاشِرِ
السُّبْكِيُّ فِي الْمِحْرَابِ، وَاشْتَهَرَ عَنِ الْعَوَامِّ كَلَامٌ كَثِيرٌ،
وَتَوَعَّدُوا السُّبْكِيَّ بِالسَّفَاهَةِ عَلَيْهِ إِنْ خَطَبَ، وَضَاقَ
بِذَلِكَ ذَرْعًا، وَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَقِيلَ لَهُمْ
وَلِكَثِيرٍ مِنْهُمْ: الْوَاجِبُ عَلَيْكُمُ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِأُولِي
الْأَمْرِ، وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ. فَلَمْ يَرْعَوُوا،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ اشْتُهِرَ بَيْنَ
الْعَامَّةِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ نَزَلَ عَنِ الْخَطَابَةِ لِابْنِ الْجَلَالِ،
فَفَرِحَ الْعَوَامُّ بِذَلِكَ، وَحَشَدُوا فِي الْجَامِعِ، وَجَاءَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ إِلَى الْمَقْصُورَةِ وَالْأُمَرَاءُ مَعَهُ، وَخَطَبَ ابْنُ
الْجَلَالِ عَلَى الْعَادَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ وَأَكْثَرُوا مِنَ
الْكَلَامِ وَالْهَرْجِ، وَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْخَطِيبُ حِينَ صَعِدَ،
رَدُّوا عَلَيْهِ رَدًّا بَلِيغًا، وَتَكَلَّفُوا فِي ذَلِكَ وَأَظْهَرُوا بِغْضَةَ
الْقَاضِي السُّبْكِيِّ، وَتَجَاهَرُوا بِذَلِكَ، وَأَسْمَعُوهُ كَلَامًا
كَثِيرًا، وَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قُرِئَ تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ عَلَى
السُّدَّةِ، وَخَرَجَ النَّاسُ فَرْحَى بِخَطِيبِهِمْ لِكَوْنِهِ اسْتَمَرَّ
عَلَيْهِمْ، وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ يُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ لَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ شَعْبَانَ دَرَّسَ الْقَاضِي بُرْهَانُ
الدِّينِ بْنُ عَبْدِ الْحَقِّ بِالْمَدْرَسَةِ الْعَذْرَاوِيَّةِ بِمَرْسُومٍ
سُلْطَانِيٍّ بِتَوْلِيَتِهِ، وَعُزِلَ الْقَحْفَازِيُّ، وَعُقِدَ لَهُمَا مَجْلِسٌ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ بِدَارِ الْعَدْلِ، فَرَجَحَ جَانِبُ الْقَاضِي بُرْهَانِ
الدِّينِ لِحَاجَتِهِ وَكَوْنِهِ لَا وَظِيفَةَ لَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَامِسِهِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ
الصَّالِحُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْجَزَرِيِّ أَحَدُ الْمُسْنِدِينَ
الْمُكْثِرِينَ الصَّالِحِينَ، مَاتَ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ،
وَدُفِنَ بِالرَّوْضَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ الصَّالِحُ الشَّيْخُ شَمْسُ
الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ خَطِيبُ الْجَامِعِ الْكَرِيمِيِّ
بِالْقُبَيْبَاتِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ بِالْجَامِعِ
الْمَذْكُورِ، وَدُفِنَ قِبْلِيَّ الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، إِلَى جَانِبِ
الطَّرِيقِ مِنَ الشَّرْقِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّ مَوْلُودًا وُلِدَ لَهُ
رَأْسَانِ وَأَرْبَعُ أَيْدٍ، وَأُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ فِي مَحَلَّةٍ ظَاهِرِ
بَابِ الْفَرَادِيسِ، يُقَالُ لَهَا: حِكْرُ الْوَزِيرِ، وَكُنْتُ فِي مَنْ ذَهَبَ
إِلَيْهِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ الشَّهْرِ
الْمَذْكُورِ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَأَحْضَرَهُ أَبُوهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ:
سَعَادَةُ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَبَلِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا
هُمَا وَلَدَانِ مُسْتَقِلَّانِ، فَكُلٌّ قَدِ اشْتَبَكَتْ أَفْخَاذُهُمَا
بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ، وَرُكِّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَدَخَلَ فِي الْآخَرِ،
وَالْتَحَمَتْ فَصَارَتْ جُثَّةً وَاحِدَةً، وَهُمَا مَيِّتَانِ، فَقَالُوا:
أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى، وَهُمَا مَيِّتَانِ حَالَ رُؤْيَتِي
إِلَيْهِمَا، وَقَالُوا: إِنَّهُ تَأَخَّرَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ
بِيَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا. وَكُتِبَ بِذَلِكَ مَحْضَرَ جَمَاعَةٍ مِنَ
الشُّهُودِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ احْتِيطَ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ; وَهُمْ أَبْنَاءُ الْكَامِلِ، صَلَاحُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ - أَمِيرُ
طَبْلَخَانَاهْ - وَغَيَّاثُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ أَمِيرُ عَشَرَةٍ، وَعَلَاءُ
الدِّينِ عَلِيٌّ، وَابْنُ أَيْبَكَ الطَّوِيلُ - طَبْلَخَانَاهْ أَيْضًا،
وَصَلَاحُ الدِّينِ خَلِيلُ بْنُ بَلَبَانَ طُرْنَا - طَبْلَخَانَاهْ أَيْضًا;
وَذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمُ اتُّهِمُوا عَلَى مُمَالَأَةِ الْمَلِكِ أَحْمَدَ
بْنِ النَّاصِرِ الَّذِي فِي الْكَرَكِ وَمُكَاتَبَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِحَالِهِمْ، فَقُيِّدُوا وَحُمِلُوا إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ مِنْ بَابِ
السِّرِّ مُقَابِلَ بَابِ دَارِ السَّعَادَةِ - الثَّلَاثَةُ الطَّبْلَخَانَاهْ -
وَالْغَيَّاثُ مِنْ بَابِهَا الْكَبِيرِ، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْأَمَاكِنِ.
وَخَرَجَ الْمَحْمَلُ يَوْمَ الْخَمِيسِ خَامِسَ عَشَرَهُ، وَلَبِسَ الْخَطِيبُ
ابْنُ الْجَلَالِ خِلْعَةَ اسْتِقْرَارِ الْخَطَابَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ،
وَرَكِبَ بِهَا مَعَ الْقُضَاةِ عَلَى عَادَةِ الْخُطَبَاءِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ نُصِبَ الْمَنْجَنِيقُ الْكَبِيرُ عَلَى بَابِ
الْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَطُولُ أَكْتَافِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا،
وَطُولُ سَهْمِهِ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْفُرْجَةِ
عَلَيْهِ، وَرُمِيَ بِهِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ
حَجَرًا زِنَتُهُ سِتُّونَ رَطْلًا، فَبَلَغَ إِلَى مُقَابَلَةِ الْقَصْرِ مِنَ
الْمَيْدَانِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرَ مُعَلِّمُ الْمَجَانِيقِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
حُصُونِ الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، وَأَنَّهُ عَمَلَهُ الْحَاجُّ مُحَمَّدٌ الصَّالِحِيُّ
لِيَكُونَ بِالْكَرَكِ، فَقَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ خَرَجَ لِيُحَاصَرَ بِهِ
الْكَرَكُ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي أَوَاخِرِهِ أَيْضًا مُسِكَ أَرْبَعَةُ أُمَرَاءَ وَهُمْ; أَقْبُغَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ الَّذِي كَانَ مُبَاشِرًا الْأُسْتَادَارِيَّةَ لِلْمَلِكِ النَّاصِرِ
الْكَبِيرِ، فَصُودِرَ فِي أَيَّامِ ابْنِهِ الْمَنْصُورِ، وَأُخْرِجَ إِلَى
الشَّامِ فَنَابَ بِحِمْصَ، فَسَارَ سِيرَةً غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ، وَذَمَّهُ
النَّاسُ، وَعُزِلَ عَنْهَا، وَأُعْطِيَ تَقْدِمَةَ
أَلْفٍ بِدِمَشْقَ، وَجُعِلَ رَأْسَ الْمَيْمَنَةِ، فَلَمَّا
كَانَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ اتُّهِمَ بِمُمَالَأَةِ السُّلْطَانِ أَحْمَدَ بْنِ
النَّاصِرِ الَّذِي بِالْكَرَكِ، فَمُسِكَ، وَحُمِلَ إِلَى الْقَلْعَةِ وَمَعَهُ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بِلَوُ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ حَطِيَّةُ
الَّذِي كَانَ مُبَاشِرًا الْحَجُوبِيَّةَ فِي أَيَّامِ أُلْطُنْبُغَا،
وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ سَلَامِشُ، وَكُلُّهُمْ بِطَبْلَخَانَاهْ،
فَرُفِعُوا إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ خَرَجَ قَضَاءُ حِمْصَ عَنْ نِيَابَةِ دِمَشْقَ بِمَرْسُومٍ
سُلْطَانِيٍّ مُجَدَّدٍ لِلْقَاضِي شِهَابِ الدِّينِ الْبَارِزِيِّ، وَذَلِكَ
بَعْدَ مُنَاقَشَةٍ كَثِيرَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَانْتَصَرَ لَهُ بَعْضُ الدَّوْلَةِ،
وَاسْتَخْرَجَ لَهُ الْمَرْسُومَ الْمَذْكُورَ. وَفِيهِ أَيْضًا أُفْرِدَ قَضَاءُ
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ أَيْضًا بِاسْمِ الْقَاضِي شَمْسِ الدِّينِ بْنِ سَالِمٍ
الَّذِي كَانَ مُبَاشِرَهَا مُدَّةً طَوِيلَةً قَبْلَ ذَلِكَ نِيَابَةً، ثُمَّ
عُزِلَ عَنْهَا وَبَقِيَ مُقِيمًا بِبَلَدِهِ غَزَّةَ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَيْهَا
مُسْتَقِلًّا بِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ رَجَعَ الْقَاضِي
شِهَابُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَعَهُ
تَوْقِيعٌ بِالْمُرَتَّبِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَوَّلًا; كُلُّ شَهْرٍ أَلْفُ
دِرْهَمٍ، وَأَقَامَ بِعِمَارَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِسَفْحِ قَاسِيُونَ
شَرْقِيَّ الصَّالِحِيَّةِ بِقُرْبِ حَمَّامِ النَّحَاسِ.
وَفِي صَبِيحَةِ مُسْتَهَلِّ ذِي الْقِعْدَةِ خَرَجَ الْمَنْجَنِيقُ قَاصِدًا
إِلَى الْكَرَكِ عَلَى الْجِمَالِ وَالْعَجَلِ، وَصُحْبَتَهُ الْأَمِيرُ صَارِمُ
الدِّينِ إِبْرَاهِيمُ الْمُسَبَّقِيُّ أَمِيرُ حَاجِبٍ كَانَ فِي الدَّوْلَةِ
السُّكَّرِيَّةِ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِ، يَحُوطُهُ وَيَحْفَظُهُ،
وَيَتَوَلَّى تَسْيِيرَهُ بِطَلَبِهِ
وَأَصْحَابِهِ، وَتَجَهَّزَ الْجَيْشُ لِلذَّهَابِ إِلَى
الْكَرَكِ، وَتَأَهَّبُوا أَتَمَّ الْجِهَازِ، وَبَرَزَتْ أَثْقَالُهُمْ إِلَى
ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَضُرِبَتِ الْخِيَامُ، فَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعِهِ تُوُفِّيَ الطَّوَاشِيُّ شِبْلُ الدَّوْلَةِ
كَافُورٌ السُّكَّرِيُّ، وَدُفِنَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَهُ
بِتُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَاهَا قَدِيمًا ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ، تُجَاهَ
تُرْبَةِ الطَّوَاشِيِّ ظَهِيرِ الدِّينِ الْخَازِنِ بِالْقَلْعَةِ - كَانَ -
قُبَيْلَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ قَدِيمًا لِلصَّاحِبِ
تَقِيِّ الدِّينِ تَوْبَةَ التِّكْرِيتِيِّ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ تَنْكِزُ بَعْدَ
مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنِ ابْنَيْ أَخِيهِ; صَلَاحِ الدِّينِ، وَشَرَفِ الدِّينِ -
بِمَبْلَغٍ جَيِّدٍ، وَعَوَّضَهُمَا إِقْطَاعًا زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ
بِأَيْدِيهِمَا; وَذَلِكَ رَغْبَةً فِي أَمْوَالِهِ الَّتِي حَصَّلَهَا مِنْ
أَبْوَابِ السَّلْطَنَةِ، وَقَدْ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ أُسْتَاذُهُ تَنْكِزُ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي وَقْتٍ، وَصُودِرَ، وَجَرَتْ عَلَيْهِ فُصُولٌ، ثُمَّ
سَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمَّا مَاتَ تَرَكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَأَوْقَافًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَخَرَجَتِ التَّجْرِيدَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَهُ، وَالْمُقَدَّمُ
عَلَيْهَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ، وَمَعَهُ مُقَدَّمٌ آخَرُ
وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ قَرَاسُنْقُرَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ سَلْخِ هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الشَّابُّ الْحَسَنُ
شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ، الْمُؤَذِّنُ بِمِئْذَنَةِ الْعَرُوسِ،
وَكَانَ شَهِيرًا بِحُسْنِ الصَّوْتِ، ذَا حُظْوَةٍ عَظِيمَةٍ عِنْدَ أَهْلِ
الْبَلَدِ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي النَّفْسِ وَزِيَادَةٍ، فِي حُسْنِ
الصَّوْتِ الرَّخِيمِ الْمُطْرِبِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرَّاءِ وَلَا فِي
الْمُؤَذِّنِينَ قَرِيبٌ مِنْهُ وَلَا مَنْ يُدَانِيهِ فِي وَقْتِهِ، وَكَانَ فِي
آخِرِ وَقْتِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ، وَعَمَلٍ صَالِحٍ، وَانْقِطَاعٍ
عَنِ النَّاسِ، وَإِقْبَالٍ عَلَى شَأْنِ نَفْسِهِ، فَرَحِمَهُ
اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ،
وَدُفِنَ عِنْدَ أَخِيهِ بِمَقْبَرَةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ خَامِسِ ذِي الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ بَدْرُ
الدِّينِ بْنُ بَصْخَانَ، شَيْخُ الْقُرَّاءِ السَّبْعِ فِي الْبَلَدِ، الشَّهِيرُ
بِذَلِكَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ
بِمَقَابِرِ بَابِ الْفَرَادِيسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ تَاسِعِهِ - وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ - حَضَرَ الْإِقْرَاءَ
بِتُرْبَةِ أُمِّ الصَّالِحِ عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ بَدْرِ الدِّينِ بْنِ
بَصْخَانَ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ النَّقِيبِ
الْبَعْلَبَكِّيُّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ وَبَعْضُ
الْقُضَاةِ، وَكَانَ حُضُورُهُ بَغْتَةً، وَكَانَ مُتَمَرِّضًا، فَأَلْقَى شَيْئًا
مِنَ الْقِرَاءَاتِ وَالْإِعْرَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ [ آلِ
عِمْرَانَ: 178 ].
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ غَلَا السِّعْرُ جِدًّا، وَقَلَّ الْخُبْزُ،
وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الْأَفْرَانِ زَحْمَةً عَظِيمَةً، وَبِيعَ خُبْزُ
الشَّعِيرِ الْمَخْلُوطِ بِالزُّوَانِ وَالنُّقَارَةِ، وَبَلَغَتِ الْغِرَارَةُ
مِائَةً وَسِتَّةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا، وَتَقَلَّصَ السِّعْرُ جِدًّا حَتَّى
بِيعَ الْخُبْزُ كُلُّ رَطْلٍ بِدِرْهَمٍ، وَفَوْقَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ وَدُونَهُ،
بِحَسَبِ طِيبِهِ وَرَدَاءَتِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَكَثُرَ السُّؤَالُ وَجَاعَ الْعِيَالُ، وَضَعُفَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ
وَالْأَحْوَالِ، وَلَكِنَّ لُطْفَ اللَّهِ عَظِيمٌ، فَإِنَّ النَّاسَ مُتَرَقِّبُونَ مَغَلًّا هَائِلًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ مِنْ مُدَّةِ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَقَدِ اقْتَرَبَ أَوَانُهُ، وَشَرَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْبِلَادِ فِي حَصَادِ الشَّعِيرِ وَبَعْضِ الْقَمْحِ، مَعَ كَثْرَةِ الْفُولِ وَبَوَادِرِ التُّوتِ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَطَفَ اللَّهُ بِعِبَادِهِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ
عِمَادُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ إِسْمَاعِيلُ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ نَاصِرِ
الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ سَيْفِ الدِّينِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُهُ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ
الْحَمَوِيُّ، وَقُضَاتُهُ بِهَا هُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ
الصَّاحِبُ، وَالْخَطِيبُ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ وَالْخِزَانَةِ، وَشَدُّ
الْأَوْقَافِ، وَوِلَايَةُ الْمَدِينَةِ.
وَاسْتَهَلَّتْ وَالْجُيُوشُ الْمِصْرِيَّةُ وَالشَّامِيَّةُ مُحِيطَةٌ بِحِصْنِ
الْكَرَكِ يُحَاصِرُونَهُ، وَيُبَالِغُونَ فِي أَمْرِهِ، وَالْمَنْجَنِيقُ
مَنْصُوبٌ، وَأَنْوَاعُ آلَاتِ الْحِصَارِ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ رُسِمَ بِتَجْرِيدَةٍ
مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ أَيْضًا تَخْرُجُ إِلَيْهَا. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
عَاشِرِ صَفَرٍ دَخَلَتِ التَّجْرِيدَةُ مِنَ الْكَرَكِ إِلَى دِمَشْقَ،
وَاسْتَمَرَّتِ التَّجْرِيدَةُ الْجَدِيدَةُ عَلَى الْكَرَكِ ; أَلْفَانِ مِنْ
مِصْرَ وَأَلْفَانِ مِنَ الشَّامِ، وَالْمَنْجَنِيقُ مَنْقُوضٌ مَوْضُوعٌ عِنْدَ
الْجَيْشِ خَارِجَ الْكَرَكِ، وَالْأُمُورُ مُتَوَقِّفَةٌ، وَبَرَدَ الْحِصَارُ
بَعْدَ رُجُوعِ الْأَحْمَدِيِّ إِلَى مِصْرَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تُوُفِّيَ السَّيِّدُ
الشَّرِيفُ عِمَادُ الدِّينِ
الْخَشَّابُ بِالْكُوشَكِ فِي دَرْبِ السِّيرْجِيِّ جِوَارَ
الْمَدْرَسَةِ الْعِزِّيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ضُحًى بِالْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ رَجُلًا شَهْمًا،
كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا، مِمَّنْ وَاظَبَ
الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَانْتَفَعَ
بِهِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَنْصَارِهِ وَأَعْوَانِهِ عَلَى الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَى
صَيْدَنَايَا مَعَ بَعْضِ الْقِسِّيسِينَ، فَلَوَّثَ يَدَهُ بِالْعَذِرَةِ
وَضَرَبَ اللَّحْمَةَ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا هُنَاكَ، وَأَهَانَهَا غَايَةَ
الْإِهَانَةِ لِقُوَّةِ إِيمَانِهِ وَشَجَاعَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَابِعِهِ اجْتَمَعَ الصَّاحِبُ، وَمُشِدُّ
الدَّوَاوِينِ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَمُشِدُّ الْأَوْقَافِ، وَمُبَاشِرُو
الْجَامِعِ، وَمَعَهُمُ الْعَمَّالُونَ بِالنَّوْلِ وَالْمَعَاوِلِ; يَحْفُرُونَ
إِلَى جَانِبِ السَّارِيَةِ عِنْدَ بَابِ مَشْهَدِ عَلِيٍّ تَحْتَ تِلْكَ
الصَّخْرَةِ الَّتِي كَانَتْ هُنَاكَ، وَذَلِكَ عَنْ قَوْلِ رَجُلٍ جَاهِلٍ زَعَمَ
أَنَّ هُنَاكَ مَالًا مَدْفُونًا، فَشَاوَرُوا نَائِبَ السَّلْطَنَةِ،
فَأَمَرَهُمْ بِالْحَفْرِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَالْعَامَّةُ، فَأَمَرَهُمْ
فَأُخْرِجُوا، وَأُغْلِقَتْ أَبْوَابُ الْجَامِعِ كُلُّهَا لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ
الْحَفْرِ، ثُمَّ حَفَرُوا ثَانِيًا، وَثَالِثًا، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا إِلَّا
التُّرَابَ الْمَحْضَ، وَاشْتَهَرَ هَذَا الْحَفِيرُ فِي الْبَلَدِ، وَقَصَدَهُ
النَّاسُ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَالتَّعَجُّبِ مِنْ أَمْرِهِ، وَانْفَصَلَ
الْحَالُ عَلَى أَنْ حُبِسَ هَذَا الزَّاعِمُ لِهَذَا الْمُحَالِ، وَطُمَّ
الْحَفِيرُ كَمَا كَانَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ قَدِمَ قَاضِي
حَلَبَ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْخَشَّابِ عَلَى الْبَرِيدِ مُجْتَازًا إِلَى
دِمَشْقَ، فَنَزَلَ بِالْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ صَلَّى
عَلَى الْمُحَدِّثِ الْبَارِعِ الْفَاضِلِ الْحَافِظِ شَمْسِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَيْبَكَ السَّرُوجِيِّ الْمِصْرِيِّ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ ثَامِنَ هَذَا الشَّهْرِ بِحَلَبَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَوْلِدُهُ
سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَكَانَ قَدْ أَتْقَنَ طَرَفًا جَيِّدًا
فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ، وَحَفِظَ أَسْمَاءَ الرِّجَالِ، وَجَمَعَ وَخَرَّجَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
احْتَرَقَ بِهِ سُوقُ الصَّالِحِيَّةِ الَّذِي بِالْقُرْبِ مِنْ جَامِعِ
الْمُظَفَّرِيِّ، وَكَانَتْ جُمْلَةُ الدَّكَاكِينِ الَّتِي احْتَرَقَتْ قَرِيبًا
مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ دُكَّانًا، وَلَمْ يُرَ حَرِيقٌ مِنْ زَمَانٍ أَكْبَرُ
مِنْهُ وَلَا أَعْظَمُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِهِ رُسِمَ بِأَنْ يُذَكَّرَ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ فِي سَائِرِ مَآذِنِ الْبَلَدِ، كَمَا يُذَكَّرُ فِي مَآذِنِ
الْجَامِعِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِهِ طُلِبَ مِنَ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ
السُّبْكِيِّ قَاضِي قُضَاةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنْ يُقْرِضَ دِيوَانَ السُّلْطَانِ
شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْغُيَّابِ الَّتِي تَحْتَ يَدِهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ
ذَلِكَ امْتِنَاعًا كَثِيرًا، فَجَاءَ شَادُّ الدَّوَاوِينِ وَبَعْضُ حَاشِيَةِ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَفَتَحُوا مَخْزَنَ الْأَيْتَامِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ
خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَهْرًا، وَدَفَعُوهَا إِلَى بَعْضِ الْعَرَبِ عَمَّا
كَانَ تَأَخَّرَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ السُّلْطَانِيِّ، وَوَقَعَ أَمْرٌ كَبِيرٌ
لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى تُوُفِّيَ صَاحِبُنَا
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ النَّاقِدُ الْبَارِعُ فِي فُنُونِ
الْعُلُومِ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ ابْنُ الشَّيْخِ عِمَادِ
الدِّينِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْهَادِي الْمَقْدِسِيُّ
الْحَنْبَلِيُّ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ بُحْبُوحَةَ
جَنَّتِهِ، مَرِضَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِقُرْحَةٍ وَحُمَّى سُلٍّ،
ثُمَّ تَفَاقَمَ أَمْرُهُ، وَأَفْرَطَ بِهِ إِسْهَالٌ، وَتَزَايَدَ ضَعْفُهُ إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ أَذَانِ الْعَصْرِ، فَأَخْبَرَنِي وَالِدُهُ
أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ أَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ
التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ، فَصُلِّيَ عَلَيْهِ
صَبِيحَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ
قُضَاةُ الْبَلَدِ وَأَعْيَانُ النَّاسِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْأُمَرَاءِ،
وَالتُّجَّارِ، وَالْعَامَّةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً مَلِيحَةً،
عَلَيْهَا ضَوْءٌ وَنُورٌ، وَدُفِنَ بِالرَّوْضَةِ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ السَّيْفِ
بْنِ الْمَجْدِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ
سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَلَمْ يَبْلُغِ الْأَرْبَعِينَ، وَحَصَّلَ مِنَ
الْعُلُومِ مَا لَا يَبْلُغُهُ الشُّيُوخُ الْكِبَارُ، وَتَفَنَّنَ فِي
الْحَدِيثِ، وَالنَّحْوِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَالْفِقْهِ، وَالتَّفْسِيرِ،
وَالْأَصْلَيْنِ، وَالتَّارِيخِ، وَالْقِرَاءَاتِ، وَلَهُ مَجَامِيعُ وَتَعَالِيقُ
مُفِيدَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ حَافِظًا جَيِّدًا لِأَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَطُرُقِ
الْحَدِيثِ، عَارِفًا بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، بَصِيرًا بِعِلَلِ الْحَدِيثِ،
حَسَنَ الْفَهْمِ لَهُ، جَيِّدَ الْمُذَاكَرَةِ، صَحِيحَ الذِّهْنِ، مُسْتَقِيمًا
عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ، وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُثَابِرًا
عَلَى فِعْلِ الْخَيِّرَاتِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَلْخِهِ دَرَّسَ بِمِحْرَابِ الْحَنَابِلَةِ
شَيْخُنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ
شَرَفُ الدِّينِ ابْنُ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ
الْحَنْبَلِيُّ فِي حَلْقَةِ الثُّلَاثَاءِ، عِوَضًا عَنِ الْقَاضِي تَقِيِّ
الدِّينِ بْنِ الْحَافِظِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ
وَالْفُضَلَاءُ، وَكَانَ دَرْسًا حَسَنًا، أَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [ سُورَةُ النَّحْلِ: 90 ] وَخَرَجَ
إِلَى مَسْأَلَةِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَتِ
التَّجْرِيدَةُ إِلَى الْكَرَكِ، مُقَدَّمَانِ مِنَ الْأُمَرَاءِ; وَهُمَا الْأَمِيرُ
شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قَلَاوُونُ، فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ، وَجُيُوشٍ، وَنَقَّارَاتٍ، وَإِزْعَاجٍ
كَثِيرَةٍ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُتِلَ
بِسُوقِ الْخَيْلِ حَسَنٌ ابْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ السَّكَاكِينِيِّ، عَلَى مَا
ظَهَرَ مِنْهُ مِنَ الرَّفْضِ الدَّالِّ عَلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ، شُهِدَ
عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ الْمَالِكِيِّ بِشَهَادَاتٍ كَثِيرَةٍ
تَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ، وَأَنَّهُ رَافِضِيٌّ جَلْدٌ، فَمِنْ ذَلِكَ تَكْفِيرُ
الشَّيْخَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَذْفُهُ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ;
عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَزَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ
غَلِطَ فَأَوْحَى إِلَى مُحَمَّدٍ وَإِنَّمَا كَانَ مُرْسَلًا إِلَى عَلِيٍّ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْقَبِيحَةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ،
وَقَدْ فَعَلَ.
وَكَانَ وَالِدُهُ الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ السَّكَاكِينِيُّ يَعْرِفُ مَذْهَبَ
الرَّافِضَةِ وَالشِّيعَةِ جَيِّدًا، وَكَانَتْ لَهُ أَسْئِلَةٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ
الْجَبْرِ، وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ قَصِيدَةً أَجَابَهُ
فِيهَا شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
ابْنُ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّيْخِ أَنَّ السَّكَاكِينِيَّ مَا مَاتَ حَتَّى رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ
وَصَارَ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأُخْبِرْتُ أَنَّ
وَلَدَهُ حَسَنًا هَذَا الْقَبِيحَ - كَانَ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ أَبِيهِ لَمَّا
أَظْهَرَ السُّنَّةَ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ خَامِسِ شَهْرِ رَجَبٍ وَصَلَ بَدَنُ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ نَائِبِ الشَّامِ، كَانَ إِلَى تُرْبَتِهِ الَّتِي إِلَى
جَانِبِ جَامِعِهِ الَّذِي أَنْشَأَهُ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ بِدِمَشْقَ، نُقِلَ
مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ،
بِشَفَاعَةِ ابْنَتِهِ زَوْجَةِ النَّاصِرِ عِنْدَ وَلَدِهِ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَأُذِنَ فِي ذَلِكَ، وَأَرَادُوا أَنْ يُدْفَنَ
بِمَدْرَسَتِهِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، فَلَمْ يُمْكِنْ، فَجِيءَ بِهِ إِلَى
تُرْبَتِهِ بِدِمَشْقَ، وَعُمِلَتْ لَهُ الْخِتَمُ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ الْمُبَارَكِ تُوُفِّيَ
صَاحِبُنَا الْأَمِيرُ صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ التِّكْرِيتِيُّ ابْنُ أَخِي
الصَّاحِبِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَوْبَةَ الْوَزِيرِ - بِمَنْزِلِهِ
بِالْقَصَّاعِينَ - كَانَ شَابًّا مِنْ أَبْنَاءِ الْأَرْبَعِينَ، ذَا ذَكَاءٍ
وَفِطْنَةٍ، وَكَلَامٍ وَبَصِيرَةٍ جَيِّدَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَحَبَّةِ إِلَى
الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَلِأَصْحَابِهِ خُصُوصًا، وَلِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
عُمُومًا، وَكَانَ فِيهِ إِيثَارٌ وَإِحْسَانٌ، وَمَحَبَّةُ الْفُقَرَاءِ
وَالصَّالِحِينَ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ قَبْلَ الظُّهْرِ
جَاءَتْ زَلْزَلَةٌ بِدِمَشْقَ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ;
لِخِفَّتِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ تَوَاتَرَتِ
الْأَخْبَارُ بِأَنَّهَا شَعَّثَتْ فِي بِلَادِ حَلَبَ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنَ الْعُمْرَانِ حَتَّى سَقَطَ بَعْضُ الْأَبْرَاجِ بِقَلْعَةِ حَلَبَ،
وَكَثِيرٌ مِنْ دُورِهَا، وَمَسَاجِدِهَا، وَمَشَاهِدِهَا، وَجُدْرَانِهَا،
وَأَمَّا فِي الْقِلَاعِ حَوْلَهَا فَكَثِيرٌ جِدًّا، وَذَكَرُوا أَنَّ مَدِينَةَ
مَنْبِجَ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، وَأَنَّ عَامَّةَ السَّاكِنِينَ
بِهَا هَلَكُوا تَحْتَ الرَّدْمِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ شَوَّالٍ خَرَجَتِ التَّجَارِيدُ إِلَى الْكَرَكِ، وَهُمَا
أَمِيرَانِ مُقَدَّمَانِ; الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ قَرَاسُنْقُرُ،
وَالْأَمِيرُ الْحَاجُّ بَيْدَمُرُ، وَاشْتَهَرَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَنَّ
أَمْرَ الْكَرَكِ قَدْ ضَعُفَ، وَتَفَاقَمَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، وَضَاقَتِ
الْأَرْزَاقُ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَنَزَلَ مِنْهَا جَمَاعَاتٌ مِنْ رُؤَسَائِهَا،
وَخَاصِّكِيَّةُ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ مُخَامِرِينَ عَلَيْهِ،
فَسُيِّرَا مِنَ الصُّبْحِ، وَقَلَاوُونُ صُحْبَتَهُمْ، مُقْدِمِينَ مِنَ
الْحَلْقَةِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَخْبَرُوا أَنَّ الْحَوَاصِلَ
عِنْدَ أَحْمَدَ قَدْ قَلَّتْ جِدًّا، فَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُحْسِنَ
الْعَاقِبَةَ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ ذِي
الْحِجَّةِ تُوُفِّيَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ بُرْهَانُ الدِّينِ بْنُ
عَبْدِ الْحَقِّ، شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ مُدَّةً طَوِيلَةً - بَعْدَ ابْنِ الْحَرِيرِيِّ - ثُمَّ عُزِلَ،
وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ، وَدَرَّسَ فِي أَيَّامِ طُقُزْدَمُرَ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ
لِوَلَدِهِ الْقَاضِي أَمِينِ الدِّينِ، فَذَكَرَ بِهَا الدَّرْسَ يَوْمَ
الْأَحَدِ قَبْلَ وَفَاةِ وَالِدِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ مَوْتُ
بُرْهَانِ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِبُسْتَانِهِ مِنْ أَرَاضِي الْأَرْزَةِ
بِطَرِيقِ الصَّالِحِيَّةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ
بِمَقْبَرَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَحَضَرَ جَنَازَتَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ،
وَالْأَكَابِرُ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالدِّيَارِ الشَّامِيَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ
إِسْمَاعِيلُ ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَقُضَاتُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَنَائِبُهُ
بِمِصْرَ الْحَاجُّ سَيْفُ الدِّينِ أَلْمَلِكُ، وَوَزِيرُهُ الْمُتَقَدِّمُ
ذِكْرُهُ، وَنَاظِرُ الْخَاصِّ الْقَاضِي مَكِينُ الدِّينِ بْنُ قَرَوِينَةَ،
وَنَاظِرُ الْجُيُوشِ الْقَاضِي عَلَمُ الدِّينِ بْنُ الْقُطْبِ، وَالْمُحْتَسِبُ
الْمُتَقَدِّمُ، وَشَادُّ الدَّوَاوِينِ عَلَمُ الدِّينِ النَّاصِرِيُّ، وَشَادُّ
الْأَوْقَافِ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدِّينِ بْنُ النَّجِيبِيِّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ
الْمَالِ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ شَمَرْنُوخَ، وَنَاظِرُ الْخِزَانَةِ
الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، وَبَقِيَّةُ الْمُبَاشِرِينَ
وَالنُّظَّارِ هُمُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ، وَكَاتِبُ الدَّسْتِ الْقَاضِي
بَدْرُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ كَاتِبِ السِّرِّ، وَالْقَاضِي أَمِينُ
الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَالْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الْقَيْسَرَانِيِّ،
وَالْقَاضِي شَرَفُ الدِّينِ بْنُ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ الشِّهَابِ مَحْمُودٍ،
وَالْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ شَمَرْنُوخَ.
شَهْرُ الْمُحَرَّمِ أَوَّلُهُ السَّبْتُ، اسْتَهَلَّ
وَالْحِصَارُ وَاقِعٌ بِقَلْعَةِ الْكَرَكِ، وَأَمَّا الْبَلَدُ فَأُخِذَ،
وَاسْتُنِيبَ فِيهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْلَايْ، قَدِمَ إِلَيْهَا مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالتَّجَارِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَمِنْ دِمَشْقَ مُحِيطُونَ بِالْقَلْعَةِ، وَالنَّاصِرُ أَحْمَدُ بْنُ النَّاصِرِ
مُمْتَنِعٌ مِنَ التَّسْلِيمِ، وَمِنَ الْإِجَابَةِ إِلَى الْإِنَابَةِ، وَمِنَ
الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ أَخِيهِ، وَقَدْ تَفَاقَمَتِ الْأُمُورُ، وَطَالَتِ
الْحُرُوبُ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْجُيُوشِ وَمِنْ
أَهْلِ الْكَرَكِ، وَقَدْ تَوَجَّهَتِ الْقَضِيَّةُ إِلَى خَيْرٍ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ، وَقَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ يَسِيرَةٍ هَرَبَ مِنْ قَلْعَةِ الْكَرَكِ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ بَهَادُرَآصْ الَّذِي كَانَ أُسِرَ
فِي أَوَائِلِ حِصَارِ الْكَرَكِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَمَالِيكِ النَّاصِرِ أَحْمَدَ،
كَانَ اتَّهَمَهُمْ بِقَتْلِ الشَّهِيبِ، الَّذِي كَانَ يَعْتَنِي بِهِ
وَيُحِبُّهُ، وَاسْتَبْشَرَ الْجُيُوشُ بِنُزُولِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عِنْدِهِ
وَسَلَامَتِهِ مِنْ يَدِهِ، وَجَهَّزَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى
الْبَرِيدِ مُعَظَّمًا.
هَذَا وَالْمَجَانِيقُ الثَّلَاثَةُ مُسَلَّطَةٌ عَلَى الْقَلْعَةِ مِنَ
الْبَلَدِ، تَضْرِبُ عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَتُدَمِّرُ فِي بِنَائِهَا
مِنْ دَاخِلٍ; فَإِنَّ سُورَهَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ،
ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّ الْحِصَارَ فَتَرَ، وَلَكِنْ مَعَ الِاحْتِيَاطِ عَلَى أَنْ
لَا يَدْخُلَ إِلَى الْقَلْعَةِ مِيرَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَعِينُونَ بِهِ
عَلَى الْمُقَامِ فِيهَا، فَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ
الْبَرِيدُ مُسْرِعًا مِنَ الْكَرَكِ، فَأَخْبَرَ بِفَتْحِ الْقَلْعَةِ، وَأَنَّ
بَابَهَا أُحْرِقَ، وَأَنَّ جَمَاعَةَ الْأَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ النَّاصِرِ
اسْتَغَاثُوا
بِالْأَمَانِ فَفُتِحَتْ، وَخَرَجَ أَحْمَدُ مُقَيَّدًا،
وَسُيِّرَ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ،
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ دَقَّتِ
الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ عَنْ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ; سُرُورًا بِفَتْحِ الْبَلَدِ، وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ
عَلَيْهِ، وَاسْتَمَرَّتِ الزِّينَةُ إِلَى يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعِهِ،
فَرُسِمَ بِرَفْعِهَا بَعْدَ الظُّهْرِ، فَتَشَوَّشَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ،
وَأَرْجَفَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ أَحْمَدَ قَدْ ظَهَرَ أَمْرُهُ، وَبَايَعَهُ
الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَقِيقَةٌ. وَدَخَلَتِ
الْأَطْلَابُ مِنَ الْكَرَكِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ بِالطَّبْلَخَانَاهْ وَالْجُيُوشِ، وَاشْتَهَرَ إِعْدَامُ أَحْمَدَ
بْنِ النَّاصِرِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ حَادِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ صُلِّيَ بِالْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ عَلَى الشَّيْخِ أَثِيرِ الدِّينِ أَبِي حَيَّانَ النَّحْوِيِّ،
شَيْخِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِمِصْرَ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ.
ثُمَّ اشْتَهَرَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ قَتْلُ السُّلْطَانِ أَحْمَدَ، وَحَزُّ
رَأْسِهِ، وَدَفْنُ جُثَّتِهِ بِالْكَرَكِ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى أَخِيهِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ، وَحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الرَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ
الشَّيْخُ أَحْمَدُ الزُّرَعِيُّ عَلَى السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ،
فَطَلَبَ مِنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ تَبْطِيلِ مَظَالِمَ وَمُكُوسَاتٍ،
وَإِطْلَاقِ طَبْلَخَانَاهْ لِلْأَمِيرِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ بَكْنَاشَ،
وَإِطْلَاقِ أُمَرَاءَ مَحْبُوسِينَ بِقَلْعَةِ دِمَشْقَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
فَأَجَابَهُ إِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، فَكَانَ جُمْلَةَ
الْمَرَاسِيمِ الَّتِي أُجِيبُ فِيهَا - بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ
مَرْسُومًا. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَتِ الْمَرَاسِيمُ
الَّتِي سَأَلَهَا الشَّيْخُ أَحْمَدُ مِنَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ،
فَأُمْضِيَتْ كُلُّهَا أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا، وَأُفْرِجَ عَنْ صَلَاحِ الدِّينِ
ابْنِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ، وَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بِلَوٍ فِي يَوْمِ
الْخَمِيسِ سَلْخِ هَذَا الشَّهْرِ، ثُمَّ رُوجِعَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا،
فَتَوَقَّفَ حَالُهَا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ عُمِلَتْ مَنَارَةٌ خَارِجَ بَابِ الْفَرَجِ، وَفُتِحَتْ
مَدْرَسَةٌ كَانَتْ دَارًا قَدِيمَةً فَجُعِلَتْ مَدْرَسَةً لِلْحَنَفِيَّةِ
وَمَسْجِدًا، وَعُمِلَتْ طَهَّارَةٌ عَامَّةٌ، وَمُصَلًّى لِلنَّاسِ، وَكُلُّ
ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَقْتَمُرُ الْخَلِيلِيُّ -
أَمِيرُ حَاجِبٍ كَانَ، وَهُوَ الَّذِي جَدَّدَ الدَّارَ الْمَعْرُوفَةَ بِهِ
الْيَوْمَ بِالْقَصَّاعِينَ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ عَاشِرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ تُوُفِّيَ صَاحِبُنَا
الْمُحَدِّثُ تَقِيُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ صَدْرِ الدِّينِ سُلَيْمَانَ
الْجَعْبَرِيُّ، زَوْجُ بِنْتِ الشَّيْخِ جَمَالِ الدِّينِ الْمِزِّيِّ، وَوَالِدُ
شَرَفِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَمَالِ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ، وَغَيْرِهِمْ،
وَكَانَ فَقِيهًا بِالْمَدَارِسِ، وَشَاهِدًا تَحْتَ السَّاعَاتِ وَغَيْرِهَا،
وَعِنْدَهُ فَضِيلَةٌ جَيِّدَةٌ فِي قِرَاءَةِ الْحَدِيثِ، وَشَيْءٌ مِنَ
الْعَرَبِيَّةِ، وَلَهُ نَظْمٌ مُسْتَحْسَنٌ، انْقَطَعَ يَوْمَيْنِ وَبَعْضَ
الثَّالِثِ، وَتُوُفِّيَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ،
وَكُنْتُ عِنْدَهُ وَقْتَ الْعَشَاءِ الْآخِرَةِ لَيْلَتَئِذٍ، وَحَدَّثَنِي
وَضَاحَكَنِي، وَكَانَ خَفِيفَ الرُّوحِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ
تُوُفِّيَ فِي بَقِيَّةِ لَيْلَتِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَانَ أَشْهَدَنِي
عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ،
وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى تَرْكِ الشُّهُودِ أَيْضًا، رَحِمَهُ اللَّهُ، صُلِّيَ
عَلَيْهِ ظُهْرَ يَوْمِ
الِاثْنَيْنِ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ عِنْدَ
أَبَوَيْهِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيَ عِشْرِينَ شَهْرِ رَجَبٍ خَطَبَ الْقَاضِي
عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ بِجَامِعِ تَنْكِزَ
خَارِجَ بَابِ النَّصْرِ، عَنْ نُزُولِ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ
دَاوُدَ الْقَحْفَازِيِّ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَيْضًا نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طُقُزْدَمُرَ، وَحُضُورِهِ عِنْدَهُ فِي الْجَامِعِ
الْمَذْكُورِ يَوْمَئِذٍ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَاسِعِ عِشْرِينَ رَجَبٍ تُوُفِّيَ الْقَاضِي
الْإِمَامُ الْعَالِمُ جَلَالُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ ابْنُ قَاضِي
الْقُضَاةِ حُسَامِ الدِّينِ الرُّومِيُّ الْحَنَفِيُّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
صَلَاةِ الْجُمْعَةِ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ، وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ،
وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا إِلَى جَانِبِ الزَّرْدَكَاشِ
قَرِيبًا مِنَ الْخَاتُونِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ
قُضَاةِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَيَّامِ وِلَايَةِ أَبِيهِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَأَفْتَى فِي
سَنَةِ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَقَدِمُوا الشَّامَ مَعَ أَبِيهِ فَأَقَامُوا
بِهَا، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ لَاجِينُ وَلَّى أَبَاهُ
قَضَاءَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَوَلَدَهُ هَذَا قَضَاءَ الشَّامِ، ثُمَّ
إِنَّهُ عُزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى ثَلَاثِ مَدَارِسَ مِنْ خِيَارِ
مَدَارِسِ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ صَمَمٌ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ
مُمَتَّعًا بِحَوَاسِّهِ - سِوَاهُ - وَقُوَاهُ، وَكَانَ يُذْكَرُ فِي الْعِلْمِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ دَاوُدَ الْقَحْفَازِيُّ، خَطِيبُ جَامِعِ
تَنْكِزَ، وَمُدَرِّسُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ نَزَلَ عَنْهَا قَبْلَ
وَفَاتِهِ بِقَلِيلٍ لِلْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ الْعِزِّ الْحَنَفِيِّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْمَذْكُورِ بَعْدَ
صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ، وَعِنْدَ بَابِ النَّصْرِ، وَعِنْدَ جَامِعِ
جَرَّاحٍ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ ابْنِ الشَّيْرَجِيِّ عِنْدَ وَالِدِهِ،
وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَكَانَ أُسْتَاذًا فِي النَّحْوِ، وَلَهُ
عُلُومٌ أُخَرُ، لَكِنْ كَانَ نِهَايَةً فِي النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ الْعَابِدُ النَّاسِكُ
الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ الضَّرِيرُ الزُّرَعِيُّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ
الظُّهْرِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَبِبَابِ النَّصْرِ، وَعِنْدَ مَقَابِرِ
الصُّوفِيَّةِ، وَدُفِنَ بِهَا قَرِيبًا مِنَ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ حَسَنَهَا
وَصَحِيحَهَا، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، يُقْرِئُ النَّاسَ مِنْ دَهْرٍ طَوِيلٍ،
وَيَقُومُ بِهِمُ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ فِي مِحْرَابِ
الْحَنَابِلَةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ الْوَرِعُ
أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْوَلِيدِ الْمَالِكِيُّ، إِمَامُ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ
الَّذِي لِلْمَالِكِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَحَضَرَ
جَنَازَتَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ
وَعَلَى صَلَاحِهِ وَفَتَاوِيهِ النَّافِعَةِ الْكَثِيرَةِ، وَدُفِنَ إِلَى
جَانِبِ قَبْرِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ، إِلَى جَانِبِ قَبْرِ أَبِي الْحَجَّاجِ
الْفِنْدَلَاوِيِّ الْمَالِكِيِّ، قَرِيبًا مِنْ مَسْجِدِ النَّارَنْجِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ فِي الْمِحْرَابِ وَلَدُهُ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ،
فَاسْتُنِيبَ لَهُ إِلَى حِينِ صَلَاحِيَّتِهِ، جَبَرَهُ اللَّهُ وَرَحِمَ
أَبَاهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ رَمَضَانَ
وَقَعَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ بِدِمَشْقَ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ،
وَكَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ إِلَى مَطَرٍ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَتَكَاثَفَ الثَّلْجُ عَلَى الْأَسْطِحَةِ، وَتَرَاكَمَ حَتَّى أَعْيَا النَّاسَ
أَمْرُهُ، وَنَقَلُوهُ عَنِ الْأَسْطِحَةِ إِلَى الْأَزِقَّةِ، يُحْمَلُ، ثُمَّ
نُودِيَ بِالْأَمْرِ بِإِزَالَتِهِ مِنَ الطُّرُقَاتِ; فَإِنَّهُ سَدَّهَا
وَتَعَطَّلَتْ مَعَايِشُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَعَوَّضَ اللَّهُ الضُّعَفَاءَ
بِعَمَلِهِمْ فِي الثَّلْجِ، وَلَحِقَ النَّاسَ كُلْفَةٌ كَبِيرَةٌ، وَغَرَامَةٌ
كَثِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صُلِّيَ
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ عَلَى غَائِبٍ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
الْجَاوِلِيُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي أَوَّلِ شَوَّالٍ يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ وَقَعَ فِيهِ ثَلْجٌ عَظِيمٌ
بِحَيْثُ لَمْ يُمَكِّنِ الْخَطِيبَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمُصَلَّى، وَلَا
خَرَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، بَلِ اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةُ بِدَارِ
السَّعَادَةِ، وَحَضَرَ الْخَطِيبُ فَصَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ، وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ صَلَّوُا الْعِيدَ فِي الْبُيُوتِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ دَرَّسَ
قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ بِالشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، عَنِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ النَّقِيبِ رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالْأُمَرَاءُ، وَخَلْقٌ
مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ [ ص: 35 ]
وَمَا بَعْدَهَا.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ اسْتُفْتِيَ فِي قَتْلِ كِلَابِ الْبَلَدِ، فَكَتَبَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ، فَرُسِمَ بِإِخْرَاجِهِمْ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ مِنَ الْبَلَدِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، لَكِنْ إِلَى
الْخَنْدَقِ ظَاهِرَ بَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ الْأَوْلَى قَتْلَهُمْ
بِالْكُلِّيَّةِ وَإِحْرَاقَهُمْ، لِئَلَّا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِنَتْنِ
رَيِحِهِمْ، عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ الْإِمَامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ جَوَازِ
قَتْلِ الْكِلَابِ بِبَلْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ، إِذَا رَأَى الْإِمَامُ
ذَلِكَ، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ أُمَّةِ الْكِلَابِ;
وَلِهَذَا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَأْمُرُ فِي خُطْبَتِهِ بِقَتْلِ
الْكِلَابِ وَذَبْحِ الْحَمَامِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَرَمَيْنِ، وَالْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ،
وَأَعْمَالِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ الصَّالِحُ عِمَادُ الدِّينِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَقُضَاتُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَنُوَّابُهُ
فِي الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ أَيْضًا. وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ
شَهْرِ مُحَرَّمٍ كَمَلَتْ عِمَارَةُ الْجَامِعِ الَّذِي بِالْمِزَّةِ
الْفَوْقَانِيَّةِ، الَّذِي جَدَّدَهُ وَأَنْشَأَهُ الْأَمِيرُ بَهَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْمَرْجَانِيِّ، الَّذِي بَنَى وَالِدُهُ مَسْجِدَ الْخَيْفِ بِمِنًى،
وَهُوَ جَامِعٌ حَسَنٌ مُتَّسِعٌ فِيهِ رُوحٌ وَانْشِرَاحٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ
مِنْ بَانِيهِ، وَعُقِدَتْ فِيهِ الْجُمْعَةُ بِجَمْعٍ كَثِيرٍ وَجَمٍّ غَفِيرٍ مِنْ
أَهْلِ الْمِزَّةِ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَكُنْتُ أَنَا
الْخَطِيبَ - يَعْنِي: الشَّيْخَ عِمَادَ الدِّينِ الْمُصَنَّفَ تَغَمَّدَهُ
اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَوَقَعَ كَلَامٌ
وَبَحْثٌ فِي اشْتِرَاطِ الْمُحَلِّلِ فِي الْمُسَابَقَةِ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ
الشَّيْخَ شَمْسَ الدِّينِ ابْنَ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ صَنَّفَ فِيهِ مُصَنَّفًا
مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَنَصَرَ فِيهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ
الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ صَارَ يُفْتَى بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ
التُّرْكِ، وَلَا يَعْزُوهُ إِلَى الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، فَاعْتَقَدَ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ
قَوْلُهُ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَحَصَلَ عَلَيْهِ
إِنْكَارٌ فِي ذَلِكَ، وَطَلَبَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، وَحَصَلَ كَلَامٌ فِي
ذَلِكَ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى أَنْ أَظْهَرَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ
قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةَ الْمُوَافَقَةَ لِلْجُمْهُورِ.
وَفَاةُ الْمَلَكِ الصَّالِحِ إِسْمَاعِيلَ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
أُظْهِرَ مَوْتُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ آخِرَ النَّهَارِ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ
بِالْأَمْرِ إِلَى أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ سَيْفِ الدِّينِ
أَبِي الْفُتُوحِ شَعْبَانَ، فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ الْمَمْلَكَةِ يَوْمَ
الْخَمِيسِ رَابِعِهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، ثُمَّ قَدِمَ الْخَبَرُ إِلَى
دِمَشْقَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ،
وَكَانَ الْبَرِيدُ قَدِ انْقَطَعَ عَنِ الشَّامِ نَحْوَ عِشْرِينَ يَوْمًا
لِلشُّغْلِ بِمَرَضِ السُّلْطَانِ، فَقَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْغَرَا
لِلْبَيْعَةِ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ، فَرَكِبَ عِلْيَةُ الْجَيْشِ لِتَلَقِّيهِ،
فَلَمَّا كَانَ صَبِيحَةُ الْجُمُعَةِ أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ مِنَ النَّائِبِ،
وَالْمُقَدَّمِينَ، وَبَقِيَّةِ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنْدِ - لِلسُّلْطَانِ
الْمَلِكِ الْكَامِلِ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَ
الْبَلَدُ، وَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ يَوْمَئِذٍ لِلْمَلِكِ الْكَامِلِ، جَعَلَهُ
اللَّهُ وَجْهًا مُبَارَكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ دَرَّسَ الْقَاضِي جَمَالُ الدِّينِ حُسَيْنٌ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ بِالْمَدْرَسَةِ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ أَبَوْهُ عَنْهَا، وَاسْتَخْرَجَ لَهُ مَرْسُومًا
سُلْطَانِيًّا بِذَلِكَ، فَحَضَرَ عِنْدَهُ
الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَالْفُقَهَاءِ، وَجَلَسَ بَيْنَ أَبِيهِ وَالْقَاضِي الْحَنَفِيِّ، وَأَخَذَ
الدَّرْسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ
عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [ النَّمْلِ: 15 ] الْآيَاتِ. وَتَكَلَّمَ الشَّرِيفُ
مَجْدُ الدِّينِ الْمُتَكَلِّمُ فِي الدَّرْسِ بِكَلَامٍ فِيهِ نَكَارَةٌ
وَبَشَاعَةٌ، فَشَنَّعَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، فَاسْتُتِيبَ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الدَّرْسِ، وَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَقَدْ طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ نَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ وَهُوَ
مُتَمَرِّضٌ، انْقَطَعَ عَنِ الْجُمُعَةِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ مَرَّاتٍ،
وَالْبَرِيدُ يَذْهَبُ إِلَى حَلَبَ لِمَجِيءِ نَائِبِهَا الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ يَلْبُغَا لِنِيَابَةِ دِمَشْقَ، وَذَكَرَ أَنَّ الْحَاجَّ أَرُقْطَايَ
تَعَيَّنَ لِنِيَابَةِ حَلَبَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَتْ أَثْقَالُ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طُقُزْدَمُرَ النَّائِبِ، وَخُيُولُهُ، وَهُجُنُهُ،
وَمَرَاكِبُهُ، وَحَوَاصِلُهُ، وَطَبْلَخَانَاتُهْ، وَأَوْلَادُهُ فِي تَجَمُّلٍ
عَظِيمٍ، وَأُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ جِدًّا، وَخَرَجَتِ الْمَحَافِلُ وَالْكَحَّارَاتُ
وَالْمِحَفَّاتُ لِنِسَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَأَهْلِهِ فِي هَيْبَةٍ عَجِيبَةٍ،
هَذَا كُلُّهُ وَهُوَ بِدَارِ السَّعَادَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ
فِي يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِهِ خَرَجَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طُقُزْدَمُرُ
بِنَفْسِهِ إِلَى الْكُسْوَةِ فِي مِحَفَّةٍ; لِمَرَضِهِ، مَصْحُوبًا
بِالسَّلَامَةِ، فَلَمَّا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِئِذٍ قَدِمَ مِنْ حَلَبَ
أُسْتَادَارُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيُّ، فَتَسَلَّمَ
دَارَ السَّعَادَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِهِمْ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلتَّهْنِئَةِ
وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِمْ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى
خَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ لِتَلَقِّي نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ يَلْبُغَا، فَدَخَلَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، ثُمَّ جَاءَ فَنَزَلَ عِنْدَ
بَابِ السِّرِّ، وَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ عَلَى الْعَادَةِ ثُمَّ مَشَى إِلَى دَارِ
السَّعَادَةِ.
وَفِي عَشِيَّةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عَشَرَهِ قَطَعَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِمَّنْ وَجَبَ قَطْعُهُ مِنْ أَهَلِ الْحَبْسِ ثَلَاثَةَ
عَشَرَ رَجُلًا، وَأَضَافَ إِلَى قَطْعِ الْيَدِ قَطْعَ الرِّجْلِ مِنْ كُلٍّ
مِنْهُمْ; لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ تَكَرَّرَتْ جِنَايَاتُهُمْ، وَصُلِبَ
ثَلَاثَةٌ بِالْمَسَامِيرِ مِمَّنْ وَجَبَ قَتْلُهُ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ
لِقَمْعِهِ الْمُفْسِدِينَ، وَأَهْلَ الشُّرُورِ، وَالْعَبَثِ، وَالْفَسَادِ.
وَاشْتَهَرَ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَفَاةُ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طُقُزْدَمُرَ بَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِأَيَّامٍ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ هَذَا
الشَّهْرِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ رُسِمَ عَلَى وَلَدِهِ وَأُسْتَادَارِهِ
وَدَوَادَارِهِ، وَطُلِبَ مِنْهُمْ مَالٌ جَزِيلٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَهُ تُوُفِّيَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْعِزِّ الْحَنَفِيُّ، نَائِبُ الْحُكْمِ بِبُسْتَانِهِ بِالصَّالِحِيَّةِ
وَدُفِنَ بِهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ عَوْدِ الْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّةِ إِلَيْهِ،
وَأَخْذِهِ إِيَّاهَا مِنْ عَمِّهِ الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ،
كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يُدَرِّسْ فِيهَا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ
مُتَمَرِّضٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ، فَتَمَادَى بِهِ مَرَضُهُ إِلَى
أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَخَرَجَ الرَّكْبُ إِلَى الْحِجَازِ الشَّرِيفِ يَوْمَ السَّبْتِ حَادِيَ عَشَرَ
شَوَّالٍ، وَخَرَجَ نَاسٌ وَتُجَّارٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ قَلِيلُ
مَطَرٍ، فَلَمَّا بَرَزُوا إِلَى الْكُسْوَةِ
وَنَحْوِهَا وَدُونِهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَلَدِ، وَوَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَطَرَ كَانَ قَلِيلًا جِدًّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ كَانُونُ الْأَصَمُّ، فَلَمَّا وَقَعَ هَذَا اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَخَافُوا عَلَى الْحُجَّاجِ ضَرَرَهُ، ثُمَّ تَدَارَكَ الْمَطَرُ وَتَتَابَعَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، لَكِنْ تَرَحَّلَ الْحُجَّاجُ فِي أَوْحَالٍ كَثِيرَةٍ وَزَلَقٍ كَثِيرٍ، وَاللَّهُ الْمُسَلِّمُ وَالْمُعِينُ وَالْحَامِي. وَلَمَّا اسْتَقَلَّ الْحَجِيجُ ذَاهِبِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مَطَرٌ شَدِيدٌ بِالصَّنَمَيْنِ، فَعَوَّقَهُمْ أَيَّامًا بِهَا، ثُمَّ تَحَامَلُوا إِلَى زُرَعَ، فَلَمْ يَصِلُوهَا إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ عَظِيمَةً حَصَلَتْ لَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَقُوَّةِ الْأَمْطَارِ وَكَثْرَةِ الْأَوْحَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ تَقَدَّمَ إِلَى أَرْضِ بُصْرَى، فَحَصَلَ لَهُمْ رِفْقٌ بِذَلِكَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. وَذُكِرَ أَنَّ نِسَاءً كَثِيرَةً مِنَ الْمُخَدَّرَاتِ مَشَيْنَ حُفَاةً فِيمَا بَيْنَ زُرَعَ وَالصَّنَمَيْنِ وَبَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ الْحَاجِّ سَيْفَ الدِّينِ مَلِكَ آصْ، وَقَاضِيهِ شِهَابَ بْنَ الشَّجَرَةِ الْحَاكِمَ بِمَدِينَةِ بِعْلَبَكَّ يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. انْتَهَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ
الْكَامِلُ سَيْفُ الدِّينِ شَعْبَانُ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، وَلَيْسَ لَهُ بِمِصْرَ نَائِبٌ، وَقُضَاةُ مِصْرَ
هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيُّ، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنَّ قَاضِيَ الْقُضَاةِ عِمَادَ
الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ الْحَنَفِيَّ نَزَلَ عَنِ الْقَضَاءِ لِوَلَدِهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ، وَاسْتَقَلَّ بِالْوِلَايَةِ وَتَدْرِيسِ
النُّورِيَّةِ، وَبَقِيَ وَالِدُهُ عَلَى تَدْرِيسِ الرَّيْحَانِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
تُوُفِّيَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ، الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُحَمَّدٌ ابْنُ
الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ قَوَامٍ بِزَاوِيَتِهِمْ بِالسَّفْحِ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِجَامِعِ الْأَفْرَمِ، ثُمَّ دُفِنَ بِالزَّاوِيَةِ،
وَحَضَرَهُ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَخِيهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ
ذَلِكَ.
وَفُتِحَتْ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْقَيْسَارِيَّةُ الَّتِي
أَنْشَأَهَا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ ظَاهِرَ
بَابِ الْفَرَجِ، وَضُمِنَتْ ضَمَانًا بَاهِرًا بِنَحْوٍ مِنْ سَبْعَةِ آلَافٍ
كُلَّ شَهْرٍ، وَدَاخِلَهَا قَيْسَارِيَّةُ تِجَارَةٍ فِي وَسَطِهَا بِرْكَةٌ
وَمَسْجِدٌ، وَظَاهِرَهَا دَكَاكِينُ، وَأَعَالِيهَا بُيُوتٌ لِلسَّكَنِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُقِدَ
مَجْلِسٌ بِمَشْهَدِ عُثْمَانَ لِلنُّورِ الْخُرَاسَانِيِّ، وَكَانَ يُقْرِئُ
الْقُرْآنَ فِي جَامِعِ تَنْكِزَ، وَيُعَلِّمُ النَّاسَ أَشْيَاءَ مِنْ فَرَائِضِ
الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، ادُّعِيَ عَلَيْهِ فِيهِ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي بَعْضِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعَقَائِدِ،
وَيُطْلِقُ عِبَارَاتٍ زَائِدَةً عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَشَهِدَ
عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّهُودِ بِأَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنَّ
عُزِّرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ رُدَّ إِلَى
السِّجْنِ مُعْتَقَلًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الثَّانِي عِشْرِينَ
مِنْهُ شَفَعَ فِيهِ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ بْنُ مُهَنَّا مَلِكُ الْعَرَبِ عِنْدَ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَاسْتَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَطْلَقَهُ إِلَى
أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ.
وَلَمَّا كَانَ تَارِيخُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَالِثَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى
صَلَّى نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا
الْيَحْيَاوِيُّ النَّاصِرِيُّ بِجَامِعِ تَنْكِزَ ظَاهِرَ دِمَشْقَ بَرَّا بَابِ
النَّصْرِ، وَصَلَّى عِنْدَهُ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيُّ وَكِبَارُ
الْأُمَرَاءِ، وَلَمَّا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ صَلَّى وَقَعَدَ بَعْضُ مَمَالِيكِهِ
عَنِ الصَّلَاةِ وَمَعَهُ السِّلَاحُ; حِرَاسَةً لَهُ، ثُمَّ لَمَّا انْصَرَفَ
مِنَ الصَّلَاةِ اجْتَمَعَ بِالْأُمَرَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَتَشَاوَرُوا
طَوِيلًا، ثُمَّ نَهَضَ النَّائِبُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَلَمَّا كَانَ
آخِرُ النَّهَارِ بَرَزَ بِخَدَمِهِ، وَمَمَالِيكِهِ، وَحَشَمِهِ، وَوِطَاقِهِ،
وَسِلَاحِهِ، وَحَوَاصِلِهِ، وَنَزَلَ قِبْلِيَّ مَسْجِدِ الْقَدَمِ، وَخَرَجَ
الْجُنْدُ وَالْأُمَرَاءُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَانْزَعَجَ
النَّاسُ، وَاتَّفَقَ طُلُوعُ الْقَمَرِ خَاسِفًا، ثُمَّ خَرَجَ الْجَيْشُ مُلْبِسًا تَحْتَ الثِّيَابِ، وَعَلَيْهِمُ التَّرَاكِيشُ بِالنُّشَّابِ وَالْخُيُولِ الْجَنَابَاتِ، وَلَا يَدْرِي النَّاسُ مَا الْخَبَرُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ بَلَغَهُ أَنَّ نَائِبَ صَفَدَ قَدْ رَكِبَ إِلَيْهِ لِيَقْبِضَ عَلَيْهِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ، وَقَالَ: لَا أَمُوتُ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ أَفْرَاسِي، لَا عَلَى فِرَاشِي. وَخَرَجَ الْجُنْدُ وَالْأُمَرَاءُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَفُوتَهُمْ بِالْفِرَارِ، فَنَزَلُوا يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْ تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ بَلِ اسْتَمَرَّ بِهَا يَعْمَلُ النِّيَابَةَ، وَيَجْتَمِعُ بِالْأُمَرَاءِ جَمَاعَةً وَفُرَادَى، وَيَسْتَمِيلُهُمْ إِلَى مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الرَّأْيِ، وَهُوَ خَلْعُ الْمَلِكِ الْكَامِلِ شَعْبَانَ ; لِأَنَّهُ يُكْثِرُ مِنْ مَسْكِ الْأُمَرَاءِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَيَفْعَلُ أَفْعَالًا لَا تَلِيقُ بِمِثْلِهِ، وَذَكَرُوا أُمُورًا كَثِيرَةً، وَأَنْ يُوَلُّوا أَخَاهُ أَمِيرَ حَاجِّي بْنَ النَّاصِرِ; لِحُسْنِ شَكَالَتِهِ، وَجَمِيلِ فِعْلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ يَفْتِلُ لَهُمْ فِي الذِّرْوَةِ وَالْغَارِبِ حَتَّى أَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمُوا لَهُ مَا يَدَّعِيهِ، وَبَايَعُوهُ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَابَعُوهُ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الْبَعْثِ إِلَى نُوَّابِ الْبِلَادِ يَسْتَمِيلُهُمْ إِلَى مَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ الدِّمَشْقِيُّونَ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَشَرَعَ أَيْضًا فِي التَّصَرُّفِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ، وَأَخْرَجَ بَعْضَ مَنْ كَانَ الْمَلَكُ الْكَامِلُ اعْتَقَلَهُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ إِقْطَاعَهُ بَعْدَ مَا بَعَثَ الْمَلِكُ الْكَامِلُ إِلَى مَنْ أَقْطَعَهُ مَنْشُورَهُ، وَعَزَلَ وَوَلَّى، وَأَخَذَ وَأَعْطَى، وَطَلَبَ التُّجَّارَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنَ عَشَرَهُ لِيُبَاعَ عَلَيْهِمْ غِلَالُ الْحَوَاصِلِ السُّلْطَانِيَّةِ، فَيَدْفَعُوا أَثْمَانَهَا فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَذْهَبُوا
فَيَتَسَلَّمُوهَا مِنَ الْبِلَادِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ الْقُضَاةُ عَلَى الْعَادَةِ وَالْأُمَرَاءُ وَالسَّادَةُ، وَهَذَا
كُلُّهُ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ، لَا يَحْصُرُهُ بَلَدٌ وَلَا
يَحْوِيهِ سُورٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ خَرَجَتْ تَجْرِيدَةٌ نَحْوُ
عَشَرَةٍ طَلِيعَةً لِتَلَقِّي مَنْ يَقْدُمُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
إِمَّا مُقَاتِلًا أَوْ مُخَامِرًا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ أَلْفَانِ بِمُقَدَّمَيْنِ،
هَذَا كُلُّهُ وَالْأَخْبَارُ تَقْدُمُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
بِاخْتِلَافِ الْأُمَرَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ، وَأَنَّ الْأُمَرَاءَ مُبَايِعُونَ
لِلشَّامِيِّينَ، وَتَقْدُمُ التَّجَارِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ بِبَقَاءِ الْأَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَلَمْ
يُصَدِّقْهُمُ النَّائِبُ، وَرُبَّمَا عَاقَبَ بَعْضَهُمْ، ثُمَّ رَفَعَهُمْ إِلَى
الْقَلْعَةِ، وَأَهِلُ دِمَشْقَ مَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ بِاخْتِلَافِ
الْمِصْرِيِّينَ، وَمَا بَيْنَ قَائِلٍ: السُّلْطَانُ الْكَامِلُ قَائِمُ
الصُّورَةِ، مُسْتَمِرٌّ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَالتَّجَارِيدُ
الْمِصْرِيَّةُ وَاصِلَةٌ قَرِيبًا، وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ خَبْطَةٍ عَظِيمَةٍ.
وَتَشَوَّشَتْ أَذْهَانُ النَّاسِ وَأَحْوَالُهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ
الْمَسْئُولُ أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
وَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّ الْعَامَّةَ مَا بَيْنَ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ،
وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَوَاصُّهُ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ عَلَى ثِقَةٍ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ الْأُمَرَاءَ عَلَى خُلْفٍ شَدِيدٍ فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَيْنَ السُّلْطَانِ الْكَامِلِ شَعْبَانَ وَبَيْنَ أَخِيهِ
أَمِيرِ حَاجِّي، وَالْجُمْهُورُ مَعَ أَخِيهِ أَمِيرِ حَاجِّي، ثُمَّ جَاءَتِ
الْأَخْبَارُ إِلَى النَّائِبِ بِأَنَّ التَّجَارِيدَ الْمِصْرِيَّةَ خَرَجَتْ
تَقْصِدُ الشَّامَ وَمَنْ فِيهِ مِنَ الْجُنْدِ لِتُوَطِّدَ الْأَمْرَ، ثُمَّ
إِنَّهُ تَرَاجَعَتْ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي اللَّيْلِ إِلَى مِصْرَ،
وَاجْتَمَعُوا إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِمَّنْ هُوَ مُمَالِئٌ لَهُمْ عَلَى
السُّلْطَانِ، فَاجْتَمَعُوا وَدَعَوْا إِلَى سَلْطَنَةِ أَمِيرِ حَاجِّي،
وَضُرِبَتِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَصَارَتْ بَاقِي النُّفُوسِ مُتَجَاهِرَةً عَلَى
نِيَّةِ تَأْيِيدِهِ، وَنَابَذُوا السُّلْطَانَ الْكَامِلَ، وَعَدُّوا
عَلَيْهِ مَسَاوِئَهُ، وَقُتِلَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ، وَفَرَّ
الْكَامِلُ وَأَنْصَارُهُ فَاحْتِيطَ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ أَرْغُونُ الْعَلَائِيُّ
زَوْجُ ابْنَتِهِ وَاسْتَظْهَرَ أَيْضًا أَمِيرَ حَاجِّي، فَأَجْلَسُوهُ عَلَى
السَّرِيرِ، وَلَقَّبُوهُ بِالْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى
النَّائِبِ بِذَلِكَ، فَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ عِنْدَهُ، وَبُعِثَ إِلَى نَائِبِ
الْقَلْعَةِ فَامْتَنَعَ مِنْ ضَرْبِهَا، وَكَانَ قَدْ طُلِبَ إِلَى الْوِطَاقِ
فَامْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ، وَأَغْلَقَ بَابَ الْقَلْعَةِ، فَانْزَعَجَ
النَّاسُ، وَاخْتَبَطَ الْبَلَدُ، وَتَقَلَّصَ وُجُودُ الْخَيْرِ، وَحُصِّنَتِ
الْقَلْعَةُ، وَدَعَوْا لِلْكَامِلِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً عَلَى الْعَادَةِ،
وَأَرْجَفَ الْعَامَّةُ بِالْجَيْشِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي كَثْرَةِ فُضُولِهِمْ،
فَحَصَلَ لِبَعْضِهِمْ أَذِيَّةٌ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَامِنِ
الشَّهْرِ قَدِمَ نَائِبُ حَمَاةَ إِلَى دِمَشْقَ مُطِيعًا لِنَائِبِ
السَّلْطَنَةِ فِي تَجَمُّلٍ وَأُبَّهَةٍ، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَمْثَالِهِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ وُقِّعَتْ بِطَاقَةٌ بِقُدُومِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
بَيْغَرَا حَاجِبِ الْحُجَّابِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ; لِأَجْلِ الْبَيْعَةِ
لِلسُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرَ بِالْوِطَاقِ،
وَأُمِرَ بِتَزْيِينِ الْبَلَدِ، فَزَيَّنَ النَّاسُ وَلَيْسُوا مُنْشَرِحِينَ،
وَأَكْثَرُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ، وَأَنَّ التَّجَارِيدَ
الْمِصْرِيَّةَ وَاصِلَةٌ قَرِيبًا، وَامْتَنَعَ نَائِبُ الْقَلْعَةِ مِنْ دَقِّ
الْبَشَائِرِ، وَبَالَغَ فِي تَحْصِينِ الْقَلْعَةِ، وَغَلْقِ بَابِهَا، فَلَا يُفْتَحُ
إِلَّا الْخَوْخَةُ الْبَرَّانِيَّةُ وَالْجَوَّانِيَّةُ، وَهَذَا الصَّنِيعُ هُوَ
الَّذِي يُشَوِّشُ خَوَاطِرَ الْعَامَّةِ، يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ
لَهُ صِحَّةٌ كَانَ نَائِبُ الْقَلْعَةِ يَطَّلِعُ عَلَى هَذَا قَبْلَ الْوِطَاقِ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بَيْغَرَا إِلَى الْوِطَاقِ، وَقَدْ تَلَقَّوْهُ وَعَظَّمُوهُ، وَمَعَهُ
تَقْلِيدُ النِّيَابَةِ
مِنَ الْمُظَفَّرِ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَكِتَابٌ إِلَى الْأُمَرَاءِ بِالسَّلَامِ، فَفَرِحُوا
بِذَلِكَ وَبَايَعُوهُ، وَانْتَظَمَتِ الْكَلِمَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَرَكِبَ
بَيْغَرَا إِلَى الْقَلْعَةِ، فَتَرَجَّلَ وَسَلَّ سَيْفَهُ، وَدَخَلَ إِلَى
نَائِبِ الْقَلْعَةِ، فَبَايَعَهُ سَرِيعًا، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ فِي
الْقَلْعَةِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَطَابَتْ أَنْفُسُ
النَّاسِ، ثُمَّ أَصْبَحَتِ الْقَلْعَةُ فِي الزِّينَةِ وَزَادَتِ الزِّينَةُ فِي
الْبَلَدِ، وَفَرِحَ النَّاسُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ حَادِيَ عَشَرَ
الشَّهْرِ دَخَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مِنَ الْوِطَاقِ إِلَى الْبَلَدِ،
وَالْأَطْلَابُ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي تَجَمُّلٍ وَطَبْلَخَانَاهْ عَلَى عَادَةِ
الْعَرْضِ، وَقَدْ خَرَجَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِلْفُرْجَةِ، وَخَرَجَ أَهْلُ
الذِّمَّةِ بِالتَّوْرَاةِ، وَأُشْعِلَتِ الشُّمُوعُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَقَدْ صَلَّى فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ صَبِيٌّ عُمُرُهُ سِتُّ سِنِينَ، وَقَدْ رَأَيْتُهُ
وَامْتَحَنْتُهُ فَإِذَا هُوَ يُجِيدُ الْحِفْظَ وَالْأَدَاءَ، وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ
مَا يَكُونُ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ فُرِغَ مِنْ بِنَاءِ
الْحَمَّامَيْنِ الَّذِينَ بَنَاهُمَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِالْقُرْبِ مِنِ
الثَّابِتِيَّةِ فِي خَانِ السُّلْطَانِ الْعَتِيقِ، وَمَا حَوْلَهَا مِنَ
الرِّبَاعِ وَالْقِرَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ حَادِيَ عَشَرَهُ اجْتَمَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ،
وَالْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَالدَّوْلَةِ عِنْدَ
تَلِّ الْمُشْنِقِينَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ قَدْ عَزَمَ عَلَى
بِنَاءِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ جَامِعًا بِقَدْرِ جَامِعِ
تَنْكِزَ، فَاشْتَوَرُوا هُنَالِكَ، ثُمَّ انْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى أَنْ
يُعْمَلَ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ ذِي الْقِعْدَةِ صُلِّيَ عَلَى الشَّيْخِ زَيْنِ
الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، أَخِي الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ
- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَانِيَ عَشَرَهُ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ
الْقَطَنَانِيُّ بِقَطَنَا، وَكَانَ قَدِ اشْتَهَرَ أَمْرُهُ فِي هَذِهِ
السِّنِينَ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفَلَّاحِينَ وَالشَّبَابِ
الْمُنْتَمِينَ إِلَى طَرِيقَةِ أَحْمَدَ بْنِ الرِّفَاعِيِّ، وَعَظُمَ أَمْرُهُ
وَسَارَ ذِكْرُهُ، وَقَصَدَهُ الْأَكَابِرُ إِلَى بَلَدِهِ لِلزِّيَارَةِ
مَرَّاتٍ، وَكَانَ يُقِيمُ السَّمَاعَاتِ عَلَى عَادَةِ أَمْثَالِهِ، وَلَهُ
أَصْحَابٌ يُظْهِرُونَ إِشَارَاتٍ بَاطِلَةً، وَأَحْوَالًا مُفْتَعَلَةً، وَهَذَا
مِمَّا كَانَ يُنْقَمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ
بِحَالِهِمْ فَجَاهِلٌ، وَإِنْ كَانَ يُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِثْلُهُمْ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ - أَعْنِي: ذَا الْحِجَّةِ مِنَ الْعِيدِ وَمَا
بَعْدَهُ - اهْتَمَّ مَلِكُ
الْأُمَرَاءِ فِي بِنَاءِ الْجَامِعِ الَّذِي بَنَاهُ تَحْتَ الْقَلْعَةِ مَكَانَ تَلِّ الْمُشْنِقِينَ، وَهَدْمِ مَا كَانَ هُنَاكَ مِنْ أَبْنِيَةٍ، وَعُمِلَتِ الْعَجَلُ، وَأُخِذَتْ أَحْجَارٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَأَكْثَرُ مَا أُخِذَتِ الْأَحْجَارُ مِنَ الرَّحْبَةِ الَّتِي لِلْحَضَرِيِّينَ، مِنْ تَحْتِ الْمِئْذَنَةِ الَّتِي فِي رَأْسِ عَقَبَةِ الْكَتَّانِ، تَيَسَّرَ مِنْهَا أَحْجَارٌ كَثِيرَةٌ، وَالْأَحْجَارُ أَيْضًا مِنْ جَبَلِ قَاسِيُونَ، وَحُمِلَ عَلَى الْجَمَالِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ سَلْخَ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي: سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ - قَدْ بَلَغَتْ غِرَارَةُ الْقَمْحِ إِلَى مِائَتَيْنِ فَمَا دُونَهَا، وَرُبَّمَا بِيعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ
أَمِيرُ حَاجِّي ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ،
وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرُقْطَايُ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَاضِيَةِ بِأَعْيَانِهِمْ،
وَنَائِبُهُ بِالشَّامِ الْمَحْرُوسَةِ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا النَّاصِرِيُّ،
وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا بِأَعْيَانِهِمْ،
غَيْرَ أَنَّ الْقَاضِيَ عِمَادَ الدِّينِ الْحَنَفِيَّ نَزَلَ لِوَلَدِهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ، فَبَاشَرَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَحَاجِبُ
الْحُجَّابِ فَخْرُ الدِّينِ أَيَاسُ.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ فِي هِمَّةٍ عَالِيَةٍ
فِي عِمَارَةِ الْجَامِعِ الَّذِي قَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ غَرْبِيَّ سُوقِ
الْخَيْلِ، بِالْمَكَانِ الَّذِي كَانَ يُعْرَفُ بِتَلِّ الْمُشْنِقِينَ.
وَفِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْهَمْدَانِيُّ الْمَالِكِيُّ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالْجَامِعِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَيْدَانِ الْحَصَا، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ لِرِيَاسَتِهِ وَدِيَاثَةِ أَخْلَاقِهِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَى كَثِيرٍ
مِنَ النَّاسِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَصَلَ
تَقْلِيدُ قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلْقَاضِي
جَمَالِ الدِّينِ الْمِسَلَّاتِيِّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا
لِلْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ قَبْلَهُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَخَذُوا لِبِنَاءِ الْجَامِعِ الْمُجَدَّدِ
بِسُوقِ الْخَيْلِ أَعْمِدَةً كَثِيرَةً مِنَ الْبَلَدِ وَظَاهِرِ الْبَلَدِ،
يُعَلِّقُونَ مَا فَوْقَهُ مِنَ الْبِنَاءِ وَيَأْخُذُونَهُ ثُمَّ يُقِيمُونَ
بَدَلَهُ دِعَامَةً، وَأَخَذُوا مِنْ دَرْبِ الصَّيْقَلِ، وَأَخَذُوا الْعَمُودَ
الَّذِي كَانَ بِسُوقِ الْعِلْبِيِّينَ الَّذِي فِي تِلْكَ الدَّخْلَةِ عَلَى
رَأْسِهِ مِثْلُ الْكُرَةِ فِيهَا حَدِيدٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ طَلْسَمٌ لِعُسْرِ بَوْلِ الْحَيَوَانِ إِذَا
دَارُوا حَوْلَهُ بِالدَّابَّةِ يَنْحَلُّ أَرَاقِيهَا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ
السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
خَلَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ، بَعْدَ مَا كَانَ لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَحْوًا
مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي هَذَا
الْيَوْمِ وَهُوَ مَمْدُودٌ فِي سُوقِ الْعِلْبِيِّينَ عَلَى الْأَخْشَابِ
لِيَجُرُّوهُ إِلَى الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ مِنَ السُّوقِ الْكَبِيرِ،
وَيَخْرُجُوا بِهِ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ الْكَبِيرِ، فَلَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ ارْتَفَعَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الَّذِي
أَنْشَأَهُ النَّائِبُ، وَجَفَّتِ الْعَيْنُ الَّتِي كَانَتْ تَحْتَ جِدَارِهِ
حِينَ أَسَّسُوهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي سَلْخِ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِمِسْكِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْأُمَرَاءِ; كَالْحِجَازِيِّ،
وَآقْ سُنْقُرُ النَّاصِرِيُّ، وَمَنْ لَفَّ لَفَّهُمَا، فَتَحَرَّكَ الْجُنْدُ
بِالشَّامِ، وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ. ثُمَّ اسْتَهَلَّ شَهْرُ جُمَادَى الْأُولَى
وَالْجُنْدُ فِي حَرَكَةٍ
شَدِيدَةٍ، وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ يَسْتَدْعِي الْأُمَرَاءَ
إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَتَعَاهَدَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنْ لَا يُؤْذِيَ أَحَدًا أَبَدًا، وَأَنْ يَكُونُوا
يَدًا وَاحِدَةً.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَحَوَّلَ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ
إِلَى الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَاحْتَرَزَ لِنَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ حَاشِيَتُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْهُ قَدِمَ أَمِيرٌ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ، وَمَعَهُ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ
فِيهِ التَّصْرِيحُ بِعَزْلِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ يَلْبُغَا نَائِبِ الشَّامِ،
فَقُرِئَ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الْأُمَرَاءِ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، فَتَغَمَّمَ
لِذَلِكَ وَسَاءَهُ، وَفِيهِ طَلَبُهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَلَى
الْبَرِيدِ لِيُوَلَّى نِيَابَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ
ذَلِكَ خَدِيعَةً لَهُ، فَأَظْهَرَ الِامْتِنَاعَ، وَأَنَّهُ لَا يَذْهَبُ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَبَدًا، وَقَالَ: إِنْ كَانَ السُّلْطَانُ قَدِ
اسْتَكْثَرَ عَلَيَّ وِلَايَةَ دِمَشْقَ، فَيُوَلِّينِي أَيَّ الْبِلَادِ شَاءَ،
فَأَنَا رَاضٍ بِهَا. وَرَدَّ الْجَوَابَ بِذَلِكَ.
وَلَمَّا أَصْبَحَ مِنَ الْغَدِ وَهُوَ يَوْمُ الْخَمِيسِ وَهُوَ خَامِسَ
عَشَرَهُ، رَكِبَ فَخَيَّمَ قَرِيبًا مِنَ الْجُسُورَةِ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
خَيَّمَ فِيهِ عَامَ أَوَّلٍ، وَفِي الشَّهْرِ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَبَاتَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَأَمَرَ الْأُمَرَاءَ بِنَصْبِ الْخِيَامِ هُنَالِكَ عَلَى
عَادَتِهِمْ عَامَ أَوَّلٍ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشَرَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَا شَعَرَ
النَّاسُ إِلَّا وَالْأُمَرَاءُ قَدِ اجْتَمَعُوا تَحْتَ الْقَلْعَةِ،
وَأَحْضَرُوا مِنَ الْقَلْعَةِ سَنْجَقَيْنِ سُلْطَانِيَّيْنِ أَصْفَرَيْنِ،
وَضَرَبُوا الطُّبُولَ حَرْبِيًّا، فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ تَحْتَ السَّنْجَقِ
السُّلْطَانِيِّ، وَلَمْ يَتَأَخَّرْ مِنْهُمْ سِوَى النَّائِبِ وَذَوِيهِ; كَابْنَيْهِ،
وَإِخْوَتِهِ، وَحَاشِيَتِهِ، وَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
قَلَاوُونَ أَحَدِ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ، وَخُبْزُهُ أَكْبَرُ
أَخْبَازِ الْأُمَرَاءِ بَعْدَ النِّيَابَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ أَنْ
هَلُمَّ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلسُّلْطَانِ، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ،
وَتَكَرَّرَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَسَارُوا
إِلَيْهِ فِي الطَّبْلَخَانَاهِ وَالْبُوقَاتِ مَلْبِسِينَ لَأْمَةَ الْحَرْبِ،
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ، وَجَدُوهُ قَدْ رَكِبَ خُيُولَهُ مُلْبِسًا وَاسْتَعَدَّ
لِلْهَرَبِ، فَلَمَّا وَاجَهَهُمْ هَرَبَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ، وَفَرُّوا فِرَارَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَسَاقَ الْجُنْدَ وَرَاءَهُ فَلَمْ يَكْتَنِفُوا لَهُ غُبَارًا،
وَأَقْبَلَ الْعَامَّةُ وَتَرْكُمَانُ الْقُبَيْبَاتِ، فَانْتَهَبُوا مَا بَقِيَ
فِي مُعَسْكَرِهِ مِنَ الشَّعِيرِ، وَالْأَغْنَامِ، وَالْخِيَامِ، حَتَّى جَعَلُوا
يُقَطِّعُونَ الْخِيَامَ وَالْأَطْنَابَ قِطَعًا قِطَعًا، فَعُدِمَ لَهُ
وَلِأَصْحَابِهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ مَا يُسَاوِي أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَانْتُدِبَ لِطَلَبِهِ وَالْمَسِيرِ وَرَاءَهُ الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ الَّذِي
قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَرِيبًا، وَالْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ
بْنُ صُبْحٍ أَحَدُ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ، فَسَارَ عَلَى طَرِيقِ
الْأَشْرَفِيَّةِ ثُمَّ عَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ الْقَرْيَتَيْنِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ قَدِمَ الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ إِيَاسُ
نَائِبُ صَفَدَ مِنْهَا، فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ وَالْمُقَدَّمُونَ، ثُمَّ
جَاءَ فَنَزَلَ الْقَصْرَ، وَرَكِبَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ فِي الْجَحَافِلِ،
وَلَمْ يَتْرُكْ بِدِمَشْقَ أَحَدًا مِنَ الْجُنْدِ إِلَّا رَكِبَ مَعَهُ، وَسَاقَ
وَرَاءَ يَلْبُغَا وَمَنْ مَعَهُ، وَأَتْبَعَهُمُ الْأَزْوَادَ وَالْأَثْقَالَ،
وَسَاقَ يَلْبُغَا فَابْتَدَأَ نَحْوَ الْبَرِّيَّةِ، فَجَعَلَتِ الْأَعْرَابُ
يَعْتَرِضُونَهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَمَا زَالُوا يَكُفُّونَهُ حَتَّى سَارَ نَحْوَ
حَمَاةَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُهَا وَقَدْ ضَعُفَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَكَلَّ
هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ كَثْرَةِ السَّوْقِ وَمُصَاوَلَةِ الْأَعْدَاءِ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، فَأَلْقَى بِيَدِهِ، وَأَخَذَ سَيْفَهُ وَسُيُوفَ مَنْ مَعَهُ،
وَاعْتُقِلُوا بِحَمَاةَ، وَبُعِثَ بِالسُّيُوفِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ صَبِيحَةَ يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ هَذَا الشَّهْرِ، فَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ وَعَلَى بَابِ الْمَيَادِينِ عَلَى الْعَادَةِ، وَأَحْدَقَتِ الْعَسَاكِرُبِحَمَاةَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَنْتَظِرُونَ مَا رَسَمَ بِهِ السُّلْطَانُ مِنْ شَأْنِهِ، وَقَامَ إِيَاسُ بِجَيْشِ دِمَشْقَ عَلَى حِمْصَ، وَكَذَلِكَ جَيْشُ طَرَابُلُسَ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْعَسَاكِرُ رَاجِعَةً إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَقَدِمَ يَلْبُغَا مُقَيَّدًا عَلَى كَدِيشٍ هُوَ وَأَبُوهُ، وَحَوْلَهُ الْأُمَرَاءُ الْمُوَكَّلُونَ بِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ، فَدَخَلُوا بِهِ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَاجْتَازُوا بِهِ فِي سُوقِ السَّبْقَةِ بَعْدَ مَا غُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَطُفِئَتِ السُّرُجُ، وَغُلِّقَتِ الطَّاقَاتُ، ثُمَّ مَرُّوا عَلَى الشَّيْخِ رَسْلَانَ وَالْبَابِ الشَّرْقِيِّ عَلَى بَابِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ مِنْ عِنْدِ مَسْجِدِ الذَّبَانِ عَلَى الْمُصَلَّى، وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَوَاتَرَتِ الْبَرِيدِيَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ بِمَا رَسَمَ بِهِ فِي أَمْرِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ; مِنَ الِاحْتِيَاطِ عَلَى حَوَاصِلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَمْلَاكِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدِمَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ بِقَتْلِ يَلْبُغَا فِيمَا بَيْنَ قَاقُونَ وَغَزَّةَ، وَأُخِذَتْ رُءُوسُهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ قُتِلَ بِغَزَّةَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ، وَهُمُ الْوَزِيرُ ابْنُ سَرْدِ بْنِ الْبَغْدَادِيِّ، وَالدَّوَادَارُ طُغَيْتَمُرَ، وَبَيْدَمُرُ الْبَدْرِيُّ أَحَدُ الْمُقَدَّمِينَ، كَانَ قَدْ نَقَمَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ مُمَالَأَةَ يَلْبُغَا، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ مَسْلُوبِينَ جَمِيعَ أَمْوَالِهِمْ، وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّامِ، فَلَمَّا كَانُوا بِغَزَّةَ لَحِقَهُمُ الْبَرِيدُ بِقَتْلِهِمْ حَيْثُ وَجَدَهُمْ،
وَكَذَلِكَ رُسِمَ بِقَتْلِ يَلْبُغَا حَيْثُ الْتَقَاهُ مِنَ
الطَّرِيقِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ الْبَرِيدُ مِنْ غَزَّةَ، الْتَقَى يَلْبُغَا فِي
طَرِيقِ وَادِي فَحْمَةَ، فَخَنَقَهُ ثُمَّ احْتَزَّ رَأْسَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى
السُّلْطَانِ، وَقَدِمَ أَمِيرَانِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْحَوْطَةِ
عَلَى حَوَاصِلِ يَلْبُغَا وَطَوَاشِيٍّ مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، فَتَسَلَّمَ
مَصَاغًا وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً جِدًّا، وَرُسِمَ بِبَيْعِ أَمْلَاكِهِ وَمَا
كَانَ وَقَفَهُ عَلَى الْجَامِعِ الَّذِي كَانَ قَدْ شَرَعَ بِعِمَارَتِهِ بِسُوقِ
الْخَيْلِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَهَرَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ الْقَيْسَارِيَّةَ
الَّتِي كَانَ أَنْشَأَهَا ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ، وَالْحَمَّامَيْنِ
الْمُتَجَاوِرَيْنِ ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ غَرْبِيَّ خَانِ السُّلْطَانِ
الْعَتِيقِ، وَخُصَصًا فِي قَرَايَا أُخَرَ كَانَ قَدِ اسْتَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ
بِذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ طُلِبَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ
مِنْ حَمَاةَ، فَحُمِلُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَعُدِمَ خَبَرُهُمْ،
فَلَا يُدْرَى عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هَلَكُوا.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ شَاهْ
دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَكَانَ قُدُومُهُ مِنْ حَلَبَ،
انْفَصَلَ عَنْهَا، وَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ إِيَاسُ
الْحَاجِبُ، فَدَخَلَهَا أَرْغُونُ شَاهْ فِي أُبَّهَةِ النِّيَابَةِ، وَعَلَيْهِ
خِلْعَةٌ وَعِمَامَةٌ بِطَرَفَيْنِ، وَهُوَ قَرِيبُ الشَّكْلِ مِنْ تَنْكِزَ
رَحِمَهُ اللَّهُ، فَنَزَلَ دَارَ السَّعَادَةِ وَحَكَمَ بِهَا، وَفِيهِ صَرَامَةٌ
وَشَهَامَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْآخِرِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ صُلِّيَ عَلَى
الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ قَرَاسُنْقُرَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
وَظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ، وَحَضَرَ الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ،
وَالْأُمَرَاءُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ بِمَيْدَانِ الْحَصَا
بِالْقُرْبِ مِنَ الْجَامِعِ الْكَرِيمِيِّ.
وَعُمِلَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ عَلَى الْعَادَةِ مِنْ إِشْعَالِ الْقَنَادِيلِ،
وَلَمْ يَشْتَغِلِ النَّاسُ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْغَلَاءِ، وَتَأَخُّرِ
الْمَطَرِ، وَقِلَّةِ الْغَلَّةِ، وَغَلَاءِ السِّعْرِ، كُلُّ رَطْلٍ إِلَّا
وُقِيَّةً بِدِرْهَمٍ، وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ غَالِيَةٌ،
وَالزَّيْتُ كُلُّ رَطْلٍ بِأَرْبَعَةٍ وَنِصْفٍ، وَمَثْلُهُ الشَّيْرَجُ،
وَالصَّابُونُ، وَالْأُرْزُ، وَالْعَنْبَرِيسُ، كُلُّ رَطْلٍ بِثَلَاثَةٍ،
وَسَائِرُ الْأَطْعِمَاتِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ قَرِيبَ
الْحَالِ سِوَى اللَّحْمِ بِدِرْهَمَيْنِ وَرُبْعٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَغَالِبُ
أَهْلِ حَوْرَانَ يَرِدُونَ مِنَ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ، وَيَجْلِبُونَ
الْقَمْحَ لِلْمُؤْنَةِ وَالْبِدَارِ مِنْ دِمَشْقَ، وَبِيعَ عِنْدَهُمُ الْقَمْحُ
الْمُغَرْبَلُ كُلُّ مُدٍّ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، وَهُمْ فِي جَهْدٍ شَدِيدٍ،
وَاللَّهُ هُوَ الْمَأْمُولُ الْمَسْئُولُ، وَإِذَا سَافَرَ أَحَدٌ شَقَّ عَلَيْهِ
تَحْصِيلُ الْمَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِفَرَسِهِ وَدَابَّتِهِ; لِأَنَّ الْمِيَاهَ
الَّتِي فِي الدَّرْبِ كُلَّهَا نَفِدَتْ، وَأَمَّا الْقُدْسُ فَأَشَدُّ حَالًا
وَأَبْلَغُ فِي ذَلِكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَنَّ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ عَلَى عِبَادِهِ
بِإِرْسَالِ الْغَيْثِ الْمُتَدَارَكِ الَّذِي أَحْيَا الْعِبَادَ وَالْبِلَادَ،
وَتَرَاجَعَ النَّاسُ إِلَى أَوْطَانِهِمْ; لِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْأَوْدِيَةِ
وَالْغُدْرَانِ، وَامْتَلَأَتْ بِرْكَةُ زُرَعَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا
قَطْرَةٌ، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ الْبَشَائِرُ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَذُكِرَ
أَنَّ الْمَاءَ عَمَّ الْبِلَادَ كُلَّهَا، وَأَنَّ الثَّلْجَ عَلَى جَبَلِ بَنِي
هِلَالٍ كَثِيرٌ، وَأَمَّا الْجِبَالُ الَّتِي حَوْلَ
دِمَشْقَ فَعَلَيْهَا ثُلُوجٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَاطْمَأَنَّتِ
الْقُلُوبُ، وَحَصَلَ فَرَحٌ شَدِيدٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَذَلِكَ
فِي آخِرِ يَوْمٍ بَقِيَ مِنْ تِشْرِينَ الثَّانِي.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ تُوُفِّيَ
الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدٌ الْحَنْبَلِيُّ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَهُوَ
خَطِيبُ الْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَشْهُورِينَ
رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُلَقِّنُ الْأَمْوَاتَ بَعْدَ
دَفْنِهِمْ، فَلَقَّنَهُ اللَّهُ حُجَّتَهُ، وَثَبَّتَهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
مَقْتَلُ الْمُظَفَّرِ وَتَوْلِيَةُ النَّاصِرِ حَسَنِ بْنِ النَّاصِرِ
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ الْبَرِيدُ مِنْ نَائِبِ غَزَّةَ
إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ بِقَتْلِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ حَاجِّي
بْنِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ، وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَرَاءِ فَتَحَيَّزُوا
عَنْهُ إِلَى قُبَّةِ النَّسْرِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي طَائِفَةٍ قَلِيلَةٍ
فَقُتِلَ فِي الْحَالِ، وَسُحِبَ إِلَى مَقْبَرَةٍ هُنَاكَ، وَيُقَالُ: قُطِّعَ
قِطَعًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ آخِرَ النَّهَارِ وَرَدَ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَمِيرٌ لِلْبَيْعَةِ لِأَخِيهِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ حَسَنٍ
ابْنِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ
فِي الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَزَيَّنَ الْبَلَدَ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ
مَنْ أَمْكَنَ مِنَ النَّاسِ، وَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى
زُيِّنَ الْبَلَدُ بِكَمَالِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ عَلَى انْتِظَامِ
الْكَلِمَةِ، وَاجْتِمَاعِ الْأُلْفَةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ قَدِمَ
الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ إِيَاسُ نَائِبُ حَلَبَ مُحْتَاطًا عَلَيْهِ،
فَاجْتَمَعَ بِالنَّائِبِ فِي دَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْقَلْعَةَ
مُضَيَّقًا عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ فُوِّضَ أَمْرُهُ إِلَى نَائِبِ
دِمَشْقَ، فَمَهْمَا فَعَلَ فِيهِ فَقَدْ أُمْضِيَ لَهُ. فَأَقَامَ بِالْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ نَحْوًا مِنْ جُمُعَةٍ، ثُمَّ أُرْكِبَ عَلَى الْبَرِيدِ لِيُسَارَ
بِهِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمْ يُدْرَ مَا فُعِلَ بِهِ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ، وَشَيْخُ الْمُحَدِّثِينَ، شَمْسُ
الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الذَّهَبِيُّ، بِتُرْبَةِ
أُمِّ الصَّالِحِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ صَلَاةَ الظُّهْرِ فِي
جَامِعِ دِمَشْقَ، وَدُفِنَ بِبَابِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ خُتِمَ بِهِ شُيُوخُ
الْحَدِيثِ وَحُفَّاظُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ حَضَرْتُ تُرْبَةَ أُمِّ
الصَّالِحِ - رَحِمَ اللَّهُ وَاقِفَهَا - عِوَضًا عَنِ الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ
الذَّهَبِيِّ، وَحَضَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَبَعْضُ
الْقُضَاةِ، وَكَانَ دَرْسًا مَشْهُودًا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ -
أَوْرَدْتُ فِيهِ حَدِيثَ أَحْمَدَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ:إِنَّمَا نَسَمَةُ
الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يَعْلَقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعَ عَشَرَهُ أَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِجَمَاعَةٍ انْتَهَبُوا شَيْئًا مِنَ الْبَاعَةِ، فَقَطَعَ أَيْدِي أَحَدَ عَشَرَ مِنْهُمْ، وَسَمَّرَ سَبْعَةَ عَشَرَ تَسْمِيرًا; تَعْزِيرًا وَتَأْدِيبًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ الْمَلِكُ
النَّاصِرُ نَاصِرُ الدِّينِ حَسَنُ بْنُ النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ،
وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا،
وَوَزِيرُهُ مَنْجَكْ، وَقُضَاتُهُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ،
وَتَقِيُّ الدِّينِ الْأَخْنَائِيُّ الْمَالِكِيُّ، وَعَلَاءُ الدِّينِ بْنُ
التُّرْكُمَانِيِّ الْحَنَفِيُّ، وَمُوَفَّقُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ الْحَنْبَلِيُّ،
وَكَاتِبُ سِرِّهِ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ فَضْلِ
اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، وَنَائِبُ الشَّامِ الْمَحْرُوسِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ شَاهْ النَّاصِرِيُّ، وَحَاجِبُ الْحُجَّابِ الْأَمِيرُ
طَيْدَمُرُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، وَالْقُضَاةُ بِدِمَشْقَ; قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ
الدِّينِ الْحَنَفِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ
الْمَالِكِيُّ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُنَجَّا
الْحَنْبَلِيُّ، وَكَاتِبُ سِرِّهِ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ الْحَلَبِيُّ
الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ قَاضِي الْعَسَاكِرِ بِحَلَبَ، وَمُدَرِّسُ الْأَسَدِيَّةِ
بِهَا أَيْضًا، مَعَ إِقَامَتِهِ بِدِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ.
وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِوُقُوعِ الْوَبَاءِ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ،
فَذُكِرَ عَنْ بِلَادِ الْقِرْمِ أَمْرٌ هَائِلٌ، وَمَوْتَانٌ فِيهِمْ كَثِيرٌ،
ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى بِلَادِ الْفِرَنْجِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّ
أَهْلَ
قُبْرُصَ مَاتَ أَكْثَرُهُمْ أَوْ مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ،
وَكَذَا وَقَعَ بِغَزَّةَ أَمْرٌ عَظِيمٌ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ
جَاءَتْ مُطَالَعَةُ نَائِبِ غَزَّةَ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ
يَوْمِ عَاشُورَاءَ إِلَى مِثْلِهِ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ نَحْوٌ مِنْ بِضْعَةِ عَشَرَ
أَلْفًا، وَقُرِئَ " الْبُخَارِيُّ " فِي رَبْعَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
بَعْدَ الصَّلَاةِ سَابِعَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ
الْقُضَاةُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَقَرَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُقْرِئُونَ،
وَدَعَا النَّاسُ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ عَنِ الْبِلَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ
لِمَا بَلَغَهُمْ مِنْ حُلُولِ هَذَا الْمَرَضِ فِي السَّوَاحِلِ، وَغَيْرِهَا
مِنْ أَرْجَاءِ الْبِلَادِ - يَتَوَهَّمُونَ وَيَخَافُونَ مِنْ وُقُوعِهِ
بِمَدِينَةِ دِمَشْقَ حَمَاهَا اللَّهُ وَسَلَّمَهَا، مَعَ أَنَّهُ قَدْ
بَلَغَهُمْ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهَا بِهَذَا الدَّاءِ. وَفِي
صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ تَاسِعِهِ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِمِحْرَابِ
الصَّحَابَةِ، وَقَرَءُوا مُتَوَزِّعِينَ " سُورَةَ نُوحٍ " ثَلَاثَةَ
آلَافِ مَرَّةٍ، وَثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَسِتِّينَ مَرَّةً، عَنْ رُؤْيَا
رَجُلٍ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يُرْشِدُهُ إِلَى قِرَاءَةِ ذَلِكَ كَذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا كَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ بِأَمْرَاضِ
الطَّوَاعِينِ، وَزَادَ الْأَمْوَاتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الْمِائَةِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَإِذَا وَقَعَ فِي أَهْلِ بَيْتٍ لَا
يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ أَكْثَرُهُمْ، وَلَكِنَّهُ بِالنَّظَرِ
إِلَى كَثْرَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ قَلِيلٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
الْأَيَّامِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَلَا
سِيَّمَا مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَوْتَ فِيهِنَّ أَكْثَرُ مِنَ الرِّجَالِ
بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ، وَشَرَعَ الْخَطِيبُ فِي الْقُنُوتِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ،
وَالدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْوَبَاءِ مِنَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ سَادِسَ
شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ بِذَلِكَ
خُضُوعٌ، وَخُشُوعٌ، وَتَضَرُّعٌ، وَإِنَابَةٌ، وَكَثُرَتِ
الْأَمْوَاتُ فِي هَذَا الشَّهْرِ جِدًّا، وَزَادُوا عَلَى
الْمِائَتَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَتَضَاعَفَ عَدَدُ الْمَوْتَى مِنْهُمْ، وَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ النَّاسِ،
وَتَأَخَّرَتِ الْمَوْتَى عَنْ إِخْرَاجِهِمْ، وَزَادَ ضَمَانُ الْمَوْتَى جِدًّا،
فَتَضَرَّرَ النَّاسُ وَلَا سِيَّمَا الصَّعَالِيكُ; فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ عَلَى
الْمَيِّتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَرَسَمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِإِبْطَالِ
ضَمَانِ النُّعُوشِ، وَالْمُغَسِّلِينَ، وَالْحَمَّالِينَ، وَنُودِيَ بِإِبْطَالِ
ذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَوُقِفَتْ
نُعُوشٌ كَثِيرَةٌ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَاتَّسَعَ النَّاسَ بِذَلِكَ،
وَلَكِنْ كَثُرَتِ الْمَوْتَى، فَاللَّهُ الْمُتْسِعَانُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ نُودِيَ فِي
الْبَلَدِ أَنْ يَصُومَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَنْ يَخْرُجُوا فِي
الْيَوْمِ الرَّابِعِ، وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ إِلَى عِنْدِ مَسْجِدِ الْقَدْمِ
يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ، وَيَسْأَلُونَهُ فِي رَفْعِ الْوَبَاءِ عَنْهُمْ،
فَصَامَ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَنَامَ النَّاسُ فِي الْجَامِعِ، وَأَحْيَوُا
اللَّيْلَ كَمَا يَفْعَلُونَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، خَرَجَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ إِلَى الصَّحْرَاءِ، وَالْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى، وَالسَّامِرَةُ،
وَالشُّيُوخُ، وَالْعَجَائِزُ، وَالصِّبْيَانُ، وَالْفُقَرَاءُ، وَالْأُمَرَاءُ،
وَالْكُبَرَاءُ، وَالْقُضَاةُ، مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَمَا زَالُوا
هُنَالِكَ يَدْعُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَعَالَى النَّهَارُ جِدًّا، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ عَاشِرِ جُمَادَى الْأُولَى صَلَّى الْخَطِيبُ بَعْدَ
صَلَاةِ الظُّهْرِ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ مَيِّتًا جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَتَهَوَّلَ
النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَانْذَعَرُوا، وَكَانَ الْمَوْتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرًا،
رُبَّمَا يُقَارِبُ الثَّلَاثَمِائَةٍ بِالْبَلَدِ وَحَوَاضِرِهِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَصُلِّيَ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى
خَمْسَةَ عَشَرَ مَيِّتًا بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَصُلِّيَ بِجَامِعِ الْخَيْلِ
عَلَى إِحْدَى عَشَرَةَ نَفْسًا، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ
رَسَمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِقَتْلِ الْكِلَابِ مِنَ الْبَلَدِ، وَقَدْ كَانَتْ
كَثِيرَةً بِأَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَرُبَّمَا ضَرَّتِ النَّاسَ، وَقَطَعَتْ
عَلَيْهِمُ الطُّرُقَاتِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، أَمَّا تَنْجِيسُهَا
الْأَمَاكِنَ فَكَثِيرٌ قَدْ عَمَّ الِابْتِلَاءُ بِهِ، وَشَقَّ الِاحْتِرَازُ
مِنْهُ، وَقَدْ جَمَعْتُ جُزْءًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي قَتْلِهِمْ،
وَاخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي نَسْخِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - يَأْمُرُ فِي خُطْبَتِهِ بِذَبْحِ الْحَمَامِ، وَقَتْلِ الْكِلَابِ.
وَنَصَّ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ كِلَابِ
بَلْدَةٍ بِعَيْنِهَا، إِذَا أَذِنَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ تُوُفِّيَ زَيْنُ
الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ شَيْخِنَا الْحَافِظِ الْمُزِّيِّ، بِدَارِ
الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ، وَهُوَ شَيْخُهَا، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ
مَعَ وَالِدِهِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي مُنْتَصَفِ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ قَوِيَ الْمَوْتُ وَتَزَايَدَ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَمَاتَ خَلَائِقُ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ
مِمَّنْ نَعْرِفُهُمْ، وَغَيْرِهِمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَأَدْخَلَهُمْ
جَنَّتَهُ، وَكَانَ يُصَلَّى فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ فِي الْجَامِعِ عَلَى
أَزْيَدَ مِنْ مِائَةِ مَيِّتٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
وَبَعْضُ الْمَوْتَى لَا يُؤْتَى بِهِمْ إِلَى الْجَامِعِ، وَأَمَّا حَوْلَ
الْبَلَدِ وَأَرْجَائِهَا فَلَا يَعْلَمُ عَدَدَ مَنْ يَمُوتُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ تُوُفِّيَ الصَّدْرُ
شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّبَابِ التَّاجِرُ السَّفَّارُ، بَانِي الْمَدْرَسَةِ
الصَّابِيَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ قُرْآنٍ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّةِ،
وَهِيَ قِبْلِيُّ الْعَادِلِيَّةِ الْكَبِيرَةِ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ
بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ خَرِبَةً
شَنِيعَةً، فَعَمَرَهَا هَذَا الرَّجُلُ، وَجَعَلَهَا دَارَ
قُرْآنٍ وَدَارَ حَدِيثٍ لِلْحَنَابِلَةِ، وَوَقَفَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَيْهَا أَوْقَافًا
جَيِّدَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي شَهْرِ رَجَبٍ صُلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ عَلَى غَائِبٍ; وَهُوَ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ
ابْنُ قَاضِي شُهْبَةَ، ثُمَّ صُلِّي عَلَى إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ نَفْسًا
جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَلَمْ يَتَّسِعْ دَاخِلُ الْجَامِعِ لِصَفِّهِمْ بَلْ
خَرَجُوا بِبَعْضِ الْمَوْتَى إِلَى ظَاهِرِ بَابِ السِّرِّ، وَخَرَجَ الْخَطِيبُ
وَالنَّقِيبُ فَصَلَّى عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ هُنَاكَ، وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا،
وَعِبْرَةً عَظِيمَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ التَّاجِرُ الْمُسَمَّى بِأَفْرِيدُونَ، الَّذِي
بَنَى الْمَدْرَسَةَ الَّتِي بِظَاهِرِ بَابِ الْجَابِيَةِ تُجَاهَ تُرْبَةِ
بَهَادُرَآصْ، حَائِطُهَا مِنْ حِجَارَةٍ مُلَوَّنَهٍ، وَجَعَلَهَا دَارًا
لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا جَيِّدَةً، وَكَانَ
مَشْهُورًا مَشْكُورًا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ رَجَبٍ صُلِّيَ عَلَى الشَّيْخِ عَلِيٍّ
الْمَغْرِبِيِّ، أَحَدِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ
بِالْجَامِعِ الْأَفْرِمِيِّ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَكَانَتْ لَهُ عِبَادَةٌ، وَزَهَادَةٌ، وَتَقَشُّفٌ، وَوَرَعٌ، وَلَمْ
يَتَوَلَّ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَظِيفَةً بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
مَالٌ، بَلْ كَانَ يُؤْتَى بِشَيْءٍ مِنَ الْفُتُوحِ يَسْتَنْفِقُهُ قَلِيلًا
قَلِيلًا، وَكَانَ يُعَانِي التَّصَوُّفَ، وَتَرَكَ زَوْجَةً وَثَلَاثَةَ
أَوْلَادٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ رَجَبٍ صُلِّيَ عَلَى الْقَاضِي
زَيْنِ الدِّينِ بْنِ النَّجِيحِ نَائِبِ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيِّ - بِالْجَامِعِ
الْمُظَفَّرِيِّ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ،
وَكَانَ مَشْكُورًا فِي الْقَضَاءِ، لَدَيْهِ فَضَائِلُ
كَثِيرَةٌ، وَدِيَانَةٌ، وَعِبَادَةٌ، وَكَانَ مِنَ اصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ
الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَاضِي
الشَّافِعِيِّ مُشَاجَرَاتٌ بِسَبَبِ أُمُورٍ، ثُمَّ اصْطَلَحَا فِيمَا بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَهُ بَعْدَ أَذَانِ الظُّهْرِ حَصَلَ
بِدِمَشْقَ، وَمَا حَوْلَهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ أَثَارَتْ غُبَارًا شَدِيدًا
اصْفَرَّ الْجَوُّ مِنْهُ، ثُمَّ اسْوَدَّ حَتَّى أَظْلَمَتِ الدُّنْيَا، وَبَقِيَ
النَّاسُ فِي ذَلِكَ نَحْوًا مِنْ رُبْعِ سَاعَةٍ يَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَيَسْتَغْفِرُونَ، وَيَبْكُونَ، مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ
الْمَوْتِ الذَّرِيعِ، وَرَجَا النَّاسُ أَنَّ هَذَا الْحَالَ يَكُونُ خِتَامَ مَا
هُمْ فِيهِ مِنَ الطَّاعُونِ، فَلَمْ يَزْدَدِ الْأَمْرُ إِلَّا شِدَّةً،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَبَلَغَ الْمُصَلَّى عَلَيْهِمْ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ إِلَى نَحْوِ
الْمِائَةِ وَخَمْسِينَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، خَارِجًا عَمَّنْ لَا يُؤْتَى
بِهِمْ إِلَيْهِ مِنْ أَرْجَاءِ الْبَلَدِ وَمِمَّنْ يَمُوتُ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ، وَأَمَّا حَوَاضِرُ الْبَلَدِ وَمَا حَوْلَهَا فَأَمْرٌ كَثِيرٌ،
يُقَالُ: إِنَّهُ بَلَغَ أَلْفًا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَيَّامِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَصَلَّى بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ
بِالْجَامِعِ الْمُظَفَّرِيِّ عَلَى الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمِ بْنِ الْمُحِبِّ، الَّذِي
كَانَ يُحَدِّثُ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ وَجَامِعِ تَنْكِزَ، وَكَانَ
مَجْلِسُهُ كَثِيرَ الْجَمْعِ; لِصَلَاحِهِ، وَحُسْنِ مَا كَانَ يُؤَدِّيهِ مِنَ
الْمَوَاعِيدِ النَّافِعَةِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
حَافِلَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعُمِلَتِ الْمَوَاعِيدُ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
مِنْ رَجَبٍ، يَقُولُونَ: لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَلَمْ يَجْتَمِعِ النَّاسُ
فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ; لِكَثْرَةِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ; وَلِشُغْلِ
كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِمَرْضَاهُمْ وَمَوْتَاهُمْ.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّهُ تَأَخَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ فِي
الْخِيَمِ ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَجَاءُوا لِيَدْخُلُوا مِنْ بَابِ النَّصْرِ عَلَى
عَادَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ اجْتَمَعَ خَلْقٌ مِنْهُمْ بَيْنَ
الْبَابَيْنِ، فَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَنَحْوِ مَا يَهْلَكُ النَّاسُ فِي
هَذَا الْحِينِ عَلَى الْجَنَائِزِ، فَانْزَعَجَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، فَخَرَجَ
فَوَجَدَهُمْ، فَأَمَرَ بِجَمْعِهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ أَمَرَ
بِتَسْمِيرِهِمْ ثُمَّ عَفَا عَنْهُمْ، وَضَرَبَ مُتَوَلِّيَ الْبَلَدِ ضَرْبًا
شَدِيدًا، وَسَمَّرَ نَائِبَهُ فِي اللَّيْلِ، وَسَمَّرَ الْبَوَّابَ بِبَابِ
النَّصْرِ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَمْشِيَ أَحَدٌ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ
سَمَحَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ.
وَاسْتَهَلَّ شَهْرُ شَعْبَانَ وَالْفَنَاءُ فِي النَّاسِ كَثِيرٌ جِدًّا،
وَرُبَّمَا أَنْتَنَتِ الْبَلَدُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّلَاحِ مُدَرِّسُ
الْقَيْمَرِيَّةِ الْكَبِيرَةِ بِالْمُطْرَزِيِّينَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَالِثَ
عَشَرَ شَعْبَانَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ صُلِّي بَعْدَ الصَّلَاةِ
عَلَى جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ; مِنْهُمُ الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ بْنُ
الشِّيرَازِيِّ مُحْتَسِبُ الْبَلَدِ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ رُؤَسَاءِ دِمَشْقَ،
وَوَلِيَ نَظَرَ الْجَامِعِ مُدَّةً، وَفِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ نَظَرَ
الْأَوْقَافِ، وَجُمِعَ لَهُ فِي وَقْتٍ بَيْنَهُمَا، وَدُفِنَ بِسَفْحِ
قَاسِيُونَ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ شَوَّالٍ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ قَرَابُغَا دُوَادَارَ النَّائِبُ بِدَارِهِ غَرْبِيَّ حِكْرِ
السُّمَاقِ، وَقَدْ أَنْشَأَ لَهُ إِلَى جَانِبِهَا تُرْبَةً وَمَسْجِدًا،
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ السَّوِيقَةَ الْمُجَدَّدَةَ عِنْدَ
دَارِهِ، وَعَمِلَ لَهَا بَابَيْنِ شَرْقِيًّا وَغَرْبِيًّا، وَضُمِّنَتْ
بِقِيمَةٍ كَثِيرَةٍ بِسَبَبِ جَاهِهِ، ثُمَّ بَارَتْ وَهُجِرَتْ; لِقِلَّةِ
الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَحَضَرَ الْأُمَرَاءُ، وَالْقُضَاةُ، وَالْأَكَابِرُ
جَنَازَتَهُ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ هُنَاكَ، وَتَرَكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَحَوَاصِلَ كَثِيرَةً جِدًّا، أَخَذَهَا مَخْدُومُهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ خَطِيبُ
الْجَامِعِ، الْخَطِيبُ تَاجُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحِيمِ ابْنِ الْقَاضِي جَلَالِ
الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَزْوِينِيِّ، بِدَارِ الْخَطَابَةِ،
مَرِضَ يَوْمَيْنِ، وَأَصَابَهُ مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الطَّاعُونِ،
وَكَذَلِكَ عَامَّةُ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ جَوَارِيهِ، وَأَوْلَادِهِ، وَتَبِعَهُ
أَخُوهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ صَدْرُ الدِّينِ عَبْدُ الْكَرِيمِ، وَصُلِّي عَلَى
الْخَطِيبِ تَاجِ الدِّينِ بَعْدَ الظُّهْرِ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ بَابِ
الْخَطَابَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِمْ بِالصُّوفِيَّةِ عِنْدَ أَبِيهِ،
وَأَخَوَيْهِ بَدْرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَجَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعِهِ اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ عِنْدَ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِسَبَبِ الْخَطَابَةِ،
فَطُلِبَ إِلَى الْمَجْلِسِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
جُمْلَةَ، فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَانْتُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ
وَظَائِفُ كَانَ يُبَاشِرُهَا، فَفُرِّقَتْ عَلَى النَّاسِ، فَوَلِيَ الْقَاضِي
بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ تَدْرِيسَ الظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ،
وَتَوَزَّعَ النَّاسُ بَقِيَّةَ جِهَاتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ سِوَى
الْخَطَابَةِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ الظُّهْرَ، ثُمَّ خُلِعَ عَلَيْهِ
فِي بُكْرَةِ نَهَارِ الْجُمُعَةِ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ وَخَطَبَهُمْ
عَلَى قَاعِدَةِ الْخُطَبَاءِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ - وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ - تُوُفِّيَ الْقَاضِي شِهَابُ
الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، كَاتِبُ الْأَسْرَارِ الشَّرِيفَةِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، ثُمَّ عُزِلَ عَنْ ذَلِكَ، وَمَاتَ،
وَلَيْسَ يُبَاشِرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ رِيَاسَةٍ، وَسَعَادَةٍ، وَأَمْوَالٍ
جَزِيلَةٍ، وَأَمْلَاكٍ، وَمُرَتَّبَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَعَمَرَ دَارًا هَائِلَةً
بِسَفْحِ قَاسِيُونَ بِالْقُرْبِ مِنَ الرُّكْنِيَّةِ شَرْقِيَّهَا، لَيْسَ
بِالسَّفْحِ مِثْلُهَا، وَقَدِ انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْإِنْشَاءِ،
وَكَانَ يُشَبَّهُ بِالْقَاضِي الْفَاضِلِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ عَدِيدَةٌ
بِعِبَارَاتٍ سَعِيدَةٍ، وَكَانَ حَسَنَ الْمُذَاكَرَةِ، سَرِيعَ الِاسْتِحْضَارِ،
جَيِّدَ الْحِفْظِ، فَصِيحَ اللِّسَانِ، جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ، يُحِبُّ
الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ، وَلَمْ يُجَاوِزِ الْخَمْسِينَ، تُوفِي بِدَارِهِمْ
دَاخِلَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
وَدُفِنَ بِالسَّفْحِ مَعَ أَبِيهِ وَأَخِيهِ بِالْقُرْبِ مِنَ الْيَغْمُورِيَّةِ
سَامَحَهُ اللَّهُ، وَغَفَرَ لَهُ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ تُوُفِّيَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ رَشِيقٍ
الْمَغْرِبِيُّ، كَاتِبُ مُصَنَّفَاتِ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ،
كَانَ أَبْصَرَ بِخَطِّ الشَّيْخِ مِنْهُ، إِذَا عَزَبَ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى
الشَّيْخِ اسْتَخْرَجَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ هَذَا، وَكَانَ سَرِيعَ
الْكِتَابَةِ لَا بَأْسَ بِهِ، دَيِّنًا عَابِدًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، حَسَنَ
الصَّلَاةِ، لَهُ عِيَالٌ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ،
آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ - الْمَلِكُ
النَّاصِرُ حَسَنُ بْنُ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمُدَبِّرُ مَمَالِكِهِ وَالْأَتَابِكُ - سَيْفُ
الدِّينِ يَلْبُغَا، وَقُضَاةُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
فِي الَّتِي قَبِلَهَا، وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونَ
شَاهْ النَّاصِرِيُّ، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ الْوَظَائِفِ - سِوَى الْخَطِيبِ، وَسِوَى
الْمُحْتَسِبِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - تَقَاصَرَ أَمْرُ الطَّاعُونِ
جِدًّا، وَنَزَلَ دِيوَانُ الْمَوَارِيثِ إِلَى الْعِشْرِينَ وَمَا حَوْلَهَا
بَعْدَ أَنْ بَلَغَ الْخَمْسَمِائَةٍ فِي أَثْنَاءِ سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ
كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ; فَإِنَّ فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ تُوُفِّيَ الْفَقِيهُ شِهَابُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الثِّقَةِ، هُوَ وَابْنُهُ وَأَخُوهُ فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ بِهَذَا الْمَرَضِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَدُفِنُوا فِي
قَبْرٍ، وَاحِدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
تُوُفِّيَ صَاحِبُنَا الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَابِدُ الزَّاهِدُ
النَّاسِكُ الْخَاشِعُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ الصَّائِغِ الشَّافِعِيُّ،
مُدَرِّسُ الْعِمَادِيَّةِ، كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَدَيْهِ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ
عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَفِيهِ عِبَادَةٌ كَثِيرَةٌ، وَتِلَاوَةٌ،
وَقِيَامُ لَيْلٍ، وَسُكُونٌ حَسَنٌ، وَخُلُقٌ حَسَنٌ، جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ
بِنَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ صَفَرٍ بَاشَرَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ
رَافِعٍ الْمُحَدِّثُ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ النُّورِيَّةِ، وَحَضَرَ
عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْأَعْيَانِ.
مِسْكُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَرْغُونَ شَاهْ
وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مُسِكَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ
شَاهْ، وَكَانَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ بِأَهْلِهِ، فَمَا
شَعَرَ وَسَطَ اللَّيْلِ إِلَّا وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيُّ النَّاصِرِيُّ رَكِبَ إِلَيْهِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ الْأُلُوفِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَحَاطُوا بِهِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ
دَخَلَ وَهُوَ مَعَ جَوَارِيهِ نَائِمٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَقَبَضُوا عَلَيْهِ
وَقَيَّدُوهُ، وَرَسَمُوا عَلَيْهِ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ أَكْثَرُهُمْ لَا يَشْعُرُ
بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ، فَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَاجْتَمَعَتِ
الْأَتْرَاكُ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْمَذْكُورِ،
وَنَزَلَ بِظَاهِرِ
الْبَلَدِ، وَاحْتِيطَ عَلَى حَوَاصِلِ أَرْغُونَ شَاهْ،
فَبَاتَ عَزِيزًا وَأَصْبَحَ ذَلِيلًا، وَأَمْسَى عَلَيْنَا نَائِبَ
السَّلْطَنَةِ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ،
فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ الْأَمْرُ مَالِكِ الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ،
وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ
أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ
الْخَاسِرُونَ [ الْأَعْرَافِ: 97 ]. ثُمَّ لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
الرَّابِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَصْبَحَ مَذْبُوحًا،
فَأُثْبِتَ مَحْضَرٌ بِأَنَّهُ ذَبَحَ نَفْسَهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
كَائِنَةٌ عَجِيبَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
ثُمَّ لَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، وَقَعَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ جَيْشِ
دِمَشْقَ وَبَيْنَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا نَائِبِ طَرَابُلُسَ،
الَّذِي جَاءَ فَأَمْسَكَ نَائِبَ دِمَشْقَ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ أَرْغُونَ
شَاهْ النَّاصِرِيَّ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، وَقَتَلَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ، وَأَقَامَ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ يَسْتَخْلِصُ أَمْوَالَهُ،
وَحَوَاصِلَهُ، وَيَجْمَعُهَا عِنْدَهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءُ
الْكِبَارُ، وَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْمِلَ الْأَمْوَالَ إِلَى قَلْعَةِ السُّلْطَانِ،
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، فَاتَّهَمُوهُ فِي أَمْرِهِ، وَشَكُّوا فِي الْكِتَابِ
الَّذِي عَلَى يَدِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِمَسْكِهِ وَقَتْلِهِ، وَرَكِبُوا
مُلْبِسِينَ تَحْتَ الْقَلْعَةِ وَأَبْوَابِ الْمَيَادِينِ، وَرَكِبَ هُوَ فِي
أَصْحَابِهِ وَهُمْ فِي دُونِ الْمِائَةِ، وَقَائِلٌ
يَقُولُ: هُمْ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ
وَالتِّسْعِينَ. جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَى الْجَيْشِ حَمْلَ الْمُسْتَقْبِلِينَ،
إِنَّمَا يُدَافِعُهُمْ مُدَافَعَةَ الْمُتَبَرِّمِينَ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ
مَرْسُومٌ بِقَتْلِهِمْ وَلَا قِتَالِهِمْ; فَلِهَذَا وَلَّى أَكْثَرُهُمْ
مُنْهَزِمِينَ، فَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَيْشِ حَتَّى بَعْضُ الْأُمَرَاءِ
الْمُقَدَّمِينَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا
الْعَادِلِيُّ، فَقُطِعَتْ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ،
وَقُتِلَ آخَرُونَ مِنْ أَجْنَادِ الْحَلْقَةِ وَالْمُسْتَخْدَمِينَ، ثُمَّ
انْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى أَنْ أَخَذَ أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيُّ مِنْ خُيُولِ
أَرْغُونَ شَاهْ الْمُرْتَبِطَةِ فِي إِسْطَبْلِهِ مَا أَرَادَ، ثُمَّ انْصَرَفَ
مِنْ نَاحِيَةِ الْمِزَّةِ صَاعِدًا عَلَى عَقَبَتِهَا، وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ
الَّتِي جَمَعَهَا مِنْ حَوَاصِلِ أَرْغُونَ شَاهْ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا، وَلَمْ
يَتْبَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْجَيْشِ، وَصُحْبَتُهُ الْأَمِيرُ فَخْرُ الدِّينِ
إِيَاسُ الَّذِي كَانَ حَاجِبًا، وَنَابَ فِي حَلَبَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي،
فَذَهَبَا بِمَنْ مَعَهُمَا إِلَى طَرَابُلُسَ، وَكَتَبَ أُمَرَاءُ الشَّامِ إِلَى
السُّلْطَانِ يُعْلِمُونَهُ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ، فَجَاءَ الْبَرِيدُ بِأَنَّهُ
لَيْسَ عِنْدَ السُّلْطَانِ عَلْمٌ بِمَا وَقَعَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّ
الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ عَلَى يَدَيْهِ مُفْتَعِلٌ، وَجَاءَ الْأَمْرُ
لِأَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنْ جَيْشِ دِمَشْقَ أَنْ يَسِيرُوا وَرَاءَهُ
لِيُمْسِكُوهُ، ثُمَّ أُضِيفَ نَائِبُ صَفَدَ مُقَدَّمًا عَلَى الْجَمِيعِ،
فَخَرَجُوا فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْآخِرِ خَرَجَتِ الْعَسَاكِرُ فِي
طَلَبِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الَّذِي فَعَلَ الْأَفَاعِيلَ، وَخَرَجَ
مِنْ دِمَشْقَ بِالسَّالِمِيِّ بَعْدَ مَا قَتَلَ نَائِبَ
سَلْطَنَتِهَا وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا، وَجَرَحَ خَلْقًا
مِنْ أَجْنَادِهَا، وَقُطِعَتْ يَدُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا
الْعَادِلِي فِي الْمَعْرَكَةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْأُلُوفِ
الْمُقَدَّمِينَ.
وَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ سَابِعُهُ نُودِيَ بِالْبَلَدِ عَلَى مَنْ
يَقْرَبُهَا مِنَ الْأَجْنَادِ أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ أَحَدٌ عَنِ الْخُرُوجِ بِالْغَدِ،
فَأَصْبَحُوا فِي سُرْعَةٍ عَظِيمَةٍ، وَاسْتُنِيبَ فِي الْبَلَدِ نِيَابَةً عَنِ
النَّائِبِ الرَّاتِبِ الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ، فَحَكَمَ
بِدَارِ السَّعَادَةِ عَلَى عَادَةِ النُّوَّابِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ سَادِسَ عَشَرَهُ دَخَلَ
الْجَيْشُ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيِّ، وَهُوَ
مَعَهُمْ أَسِيرٌ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، وَكَذَلِكَ الْفَخْرُ إِيَاسُ الْحَاجِبُ
مَأْسُورٌ مَعَهُمْ، فَأُودِعَا فِي الْقَلْعَةِ مُهَانَيْنِ مِنْ جِسْرِ بَابِ
النَّصْرِ الَّذِي تُجَاهَ دَارِ السَّعَادَةِ، وَذَلِكَ بِحُضُورِ الْأَمِيرِ
بَدْرِ الدِّينِ الْخَطِيرِ فِي دَارِ السَّعَادَةِ وَهُوَ نَائِبُ الْغَيْبَةِ،
فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْهُ خَرَجَا مِنَ
الْقَلْعَةِ إِلَى سُوقِ الْخَيْلِ، فَوُسِّطَا بِحَضْرَةِ الْجَيْشِ، وَعُلِّقَتْ
جُثَّتُهُمَا عَلَى الْخُشُبِ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ، فَمَكَثَا أَيَّامًا ثُمَّ
أُنْزِلَا فَدُفِنَا بِمَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ نَائِبِ
حَلَبَ سَيْفِ الدِّينِ قُطْلِيشَا، فَفَرِحُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِمَوْتِهِ،
وَذَلِكَ لِسُوءِ أَعْمَالِهِ فِي مَدِينَةِ حَمَاةَ فِي
زَمَنِ الطَّاعُونِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَحْتَاطُ عَلَى
التَّرِكَةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَأْخُذُ مِنْ
أَمْوَالِ النَّاسِ جَهْرَةً، حَتَّى حَصَلَ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ
نُقِلَ إِلَى حَلَبَ بَعْدَ نَائِبِهَا الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرُقْطَايَ
الَّذِي كَانَ عُيِّنَ لِنِيَابَةِ دِمَشْقَ بَعْدَ مَوْتِ أَرْغُونَ شَاهْ،
وَخَرَجَ النَّاسُ لِتَلِّقِيهِ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ بَرَزَ مَنْزِلَةً
وَاحِدَةً مِنْ حَلَبَ فَمَاتَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، فَلَمَّا صَارَ
قُطْلَيْشَا إِلَى حَلَبَ لَمْ يَقُمْ بِهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ
يَنْتَفِعْ بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ حَصَّلَهَا، لَا فِي دُنْيَاهُ
وَلَا فِي أُخْرَاهُ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيْتَمُشُ النَّاصِرِيُّ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ إِلَى دِمَشْقَ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْجَيْشُ
عَلَى الْعَادَةِ، فَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ، وَلَبِسَ الْحِيَاصَةَ وَالسَّيْفَ،
وَأُعْطِيَ تَقْلِيدَهُ وَمَنْشُورَهُ هُنَالِكَ، ثُمَّ وَقَفَ فِي الْمَوْكِبِ عَلَى
عَادَةِ النُّوَّابِ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَحَكَمَ، وَفَرِحَ
النَّاسُ بِهِ، وَهُوَ حَسَنُ الشَّكْلِ، تَامُّ الْخِلْقَةِ، وَكَانَ الشَّامُ
بِلَا نَائِبٍ مُسْتَقِلٍّ قَرِيبًا مِنْ شَهْرَيْنِ وَنِصْفٍ، وَفِي يَوْمِ
دُخُولِهِ حَبَسَ أَرْبَعَةً مِنْ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ; وَهُمُ
الْقَاسِمِيُّ، وَأَوْلَادُ الْأَبُوبَكْرِيِّ الثَّلَاثَةُ، اعْتَقَلَهُمْ فِي
الْقَلْعَةِ لِمُمَالَأَتِهِمْ أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيَّ عَلَى أَرْغُونَ
شَاهْ نَائِبِ الشَّامِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ خَامِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَكَمَ الْقَاضِي
نَجْمُ الدِّينِ ابْنُ
الْقَاضِي عِمَادِ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيِّ الْحَنَفِيِّ،
وَذَلِكَ بِتَوْقِيعٍ سُلْطَانِيٍّ، وَخِلْعَةٍ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَصَلَ الصُّلْحُ
بَيْنَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَبَيْنَ الشَّيْخِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ سَيْفِ
الدِّينِ بْنِ فَضْلٍ مَلِكِ الْعَرَبِ، فِي بُسْتَانِ قَاضِي الْقُضَاةِ، وَكَانَ
قَدْ نَقَمَ عَلَيْهِ إِكْثَارَهُ مِنَ الْفُتْيَا بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ نُقِلَتْ جُثَّةُ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُونَ شَاهْ مِنْ مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ إِلَى
تُرْبَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا تَحْتَ الطَّارِمَةِ، وَشَرَعَ فِي تَكْمِيلِ
التُّرْبَةِ وَالْمَسْجِدِ الَّذِي قِبَلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَاجَلَتْهُ
الْمَنِيَّةُ عَلَى يَدَيْ أُلْجَيْبُغَا الْمُظَفَّرِيِّ قَبْلَ إِتْمَامِهِمَا،
وَحِينَ قَتَلُوهُ ذَبْحًا دَفَنُوهُ لَيْلًا فِي مَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ
قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ الصَّلَاحِ، ثُمَّ حُوِّلَ
إِلَى تُرْبَتِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ تَاسِعَ عَشَرَ رَجَبٍ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ لِلْفَجْرِ
قَبْلَ الْوَقْتِ بِقَرِيبٍ مِنْ سَاعَةٍ، فَصَلَّى النَّاسُ فِي الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي تَرْتِيبِ الْأَئِمَّةِ، ثُمَّ رَأَوُا
الْوَقْتَ بَاقِيًا، فَأَعَادَ الْخَطِيبُ الْفَجْرَ بَعْدَ صَلَاةِ الْأَئِمَّةِ
كُلِّهِمْ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ ثَانِيًا، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ
مِثْلُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَامِنِ شَهْرِ شَعْبَانَ تُوُفِّيَ
قَاضِي الْقُضَاةِ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ مُنَجَّا الْحَنْبَلِيُّ
بِالْمِسْمَارِيَّةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ الظُّهْرَ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
ثُمَّ بِظَاهِرِ بَابِ النَّصْرِ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ بُكْرَةَ النَّهَارِ اسْتُدْعِيَ
الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ الْمَرْدَاوِيُّ مِنَ الصَّالِحِيَّةِ إِلَى دَارِ
السَّعَادَةِ، وَكَانَ تَقْلِيدُ الْقَضَاءِ لِمَذْهَبِهِ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ
قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، فَأُحْضِرَتِ الْخِلْعَةُ بَيْنَ يَدَيِ النَّائِبِ
وَالْقُضَاةِ الْبَاقِينَ، وَأُرِيدَ عَلَى لُبْسِهَا وَقَبُولِ الْوِلَايَةِ،
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَصَمَّمَ، وَبَالَغَ فِي
الِامْتِنَاعِ جِدًّا، وَخَرَجَ وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَرَاحَ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ
فَبَالَغَ النَّاسُ فِي تَعْظِيمِهِ، وَبَقِيَ الْقُضَاةُ يَوْمَ ذَلِكَ فِي دَارِ
السَّعَادَةِ، ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَحَضَرَ مِنَ
الصَّالِحِيَّةِ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَبِلَ وَلَبِسَ الْخِلْعَةَ،
وَخَرَجَ إِلَى الْجَامِعِ فَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاجْتَمَعَ
مَعَهُ الْقُضَاةُ وَهَنَّأَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِهِ;
لِدِيَانَتِهِ، وَصِيَانَتِهِ، وَفَضِيلَتِهِ، وَأَمَانَتِهِ.
وَبَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ بِأَيَّامٍ حَكَمَ الْفَقِيهُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ مُفْلِحٍ الْحَنْبَلِيُّ نِيَابَةً عَنْ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالِ الدِّينِ
الْمَرْدَاوِيِّ الْمَقْدِسِيِّ، وَابْنُ مُفْلِحٍ زَوْجُ ابْنَتِهِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ حَضَرَ الْفَقِيهُ
الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ الْمُفِيدُ أَمِينُ الدِّينِ الْإِيجِيُّ الْمَالِكِيُّ
مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ بِالْمَدْرَسَةِ النَّاصِرِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ،
نَزَلَ لَهُ عَنْهَا الصَّدْرُ أَمِينُ الدِّينِ بْنُ الْقَلَانِسِيِّ وَكَيْلُ
بَيْتِ الْمَالِ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْأَكَابِرُ وَالْأَعْيَانُ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ تَكَامَلَ بِنَاءُ التُّرْبَةِ الَّتِي تَحْتَ
الطَّارِمَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُونَ شَاهْ،
الَّذِي كَانَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ، وَكَذَلِكَ الْقِبْلِيُّ
مِنْهَا، وَصَلَّى فِيهَا النَّاسُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَسْجِدًا صَغِيرًا
فَعَمَرَهُ، وَكَبَّرَهُ، وَجَاءَ كَأَنَّهُ جَامِعٌ، تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الشَّامِ وَمِصْرَ النَّاصِرُ حَسَنُ بْنُ النَّاصِرِ
مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَنَائِبُهُ بِمِصْرَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بَيْبُغَا، وَأَخُوهُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ الْوَزِيرُ، وَالْمُشَاوِرُونَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَقُضَاةُ مِصْرَ وَكَاتِبُ
السِّرِّ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَنَائِبُ
الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيْتَمُشُ النَّاصِرِيُّ، وَالْقُضَاةُ هُمُ
الْقُضَاةُ سِوَى الْحَنْبَلِيِّ، فَإِنَّهُ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ يُوسُفُ
الْمَرْدَاوِيُّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ، وَشَيْخُ الشُّيُوخِ تَاجُ الدِّينِ،
وَكُتَّابُ الدَّسْتِ - هُمُ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَأُضِيفَ إِلَيْهِمْ شَرَفُ
الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ الْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ شَمْرَنُوخَ،
وَالْمُحْتَسِبُ الْقَاضِي عِمَادُ الدِّينِ بْنُ الْفُرْفُورِ، وَشَادُّ
الْأَوْقَافِ الشَّرِيفُ، وَنَاظِرُ الْجَامِعِ فَخْرُ الدِّينِ بْنُ الْعَفِيفِ،
وَخَطِيبُ الْبَلَدِ جَمَالُ الدِّينِ مَحْمُودُ بْنُ جُمْلَةَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ نُودِيَ بِالْبَلَدِ مِنْ جِهَةِ
نَائِبِ السُّلْطَانِ عَنْ كِتَابٍ
جَاءَهُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَنْ لَا تَلْبَسَ
النِّسَاءُ الْأَكْمَامَ الطِّوَالَ الْعِرَاضَ، وَلَا الْبُرَدَ الْحَرِيرَ،
وَلَا شَيْئًا مِنَ اللِّبَاسَاتِ وَالثِّيَابِ الثَّمِينَةِ، وَلَا الْأَقْمِشَةِ
الْقِصَارِ، وَبَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ شَدَّدُوا فِي
ذَلِكَ جِدًّا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ غَرَّقُوا بَعْضَ النِّسَاءِ بِسَبَبِ
ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجُدِّدَتْ وَأُكْمِلَتْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ دَارُ قُرْآنٍ قِبْلِيَّ
تُرْبَةِ امْرَأَةِ تَنْكِزَ، بِمَحَلَّةِ بَابِ الْخَوَّاصِينَ، حَوَّلَهَا -
وَكَانَتْ صُورَةَ مَدْرَسَةٍ - الطَّوَاشِيُّ صَفِيُّ الدِّينِ عَنْبَرٌ، مَوْلَى
ابْنِ حَمْزَةَ، وَهُوَ أَحَدُ الْكِبَارِ الْأَجْوَادِ، تَقَبَّلَ اللَّهُ
مِنْهُ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى فُتِحَتِ الْمَدْرَسَةُ
الطَّيَبَانِيَّةُ الَّتِي كَانَتْ دَارًا لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْبَانَ
بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّامِيَّةِ الْجَوَّانِيَّةِ - بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُمِّ
الصَّالِحِ - اشْتُرِيَتْ مِنْ ثُلْثِهِ الَّذِي وَصَّى بِهِ، وَفُتِحَتْ
مَدْرَسَةً، وَحُوِّلَ لَهَا شُبَّاكٌ إِلَى الطَّرِيقِ فِي ضَفَّتِهَا
الْقِبْلِيَّةِ مِنْهَا، وَحَضَرَ الدَّرْسَ بِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّيْخُ
عِمَادُ الدِّينِ بْنُ شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ عَمِّ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ
بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ بِوَصِيَّةِ الْوَاقِفِ لَهُ بِذَلِكَ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ
قَاضِي الْقُضَاةِ السُّبْكِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ،
وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ
فَلَا مُمْسِكَ لَهَا [ فَاطِرٍ: 2 ] الْآيَةَ.
وَاتَّفَقَ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى السُّدَّةِ
فِي جَامِعِ دِمَشْقَ وَقْتَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِلْمَغْرِبِ سِوَى
مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ، فَانْتَظَرَ مَنْ يُقِيمُ مَعَهُ الصَّلَاةَ
فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ غَيْرَهُ بِمِقْدَارِ دَرَجَةٍ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهَا، ثُمَّ
أَقَامَ هُوَ الصَّلَاةَ وَحْدَهُ، فَلَمَّا أَحْرَمَ الْإِمَامُ بِالصَّلَاةِ
تَلَاحَقَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ حَتَّى بَلَغُوا دُونَ
الْعَشَرَةِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَرِيبٌ مِنْ عِدَّةِ ثَلَاثِينَ مُؤَذِّنٍ أَوْ
أَكْثَرَ، لَمْ يَحْضُرْ سِوَى مُؤَذِّنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ أَخْبَرَ خَلْقٌ مِنَ
الْمَشَايِخِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا نَظِيرَ هَذِهِ الْكَائِنَةِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ جُمَادَى الْآخِرَةِ اجْتَمَعَ
الْقُضَاةُ بِمَشْهَدِ عُثْمَانَ، وَكَانَ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ قَدْ حَكَمَ
فِي دَارِ الْمُعْتَمِدِ الْمُلَاصِقَةِ لِمَدْرَسَةِ الشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ
بِنَقْضِهَا، وَكَانَتْ وَقْفًا; لِتُضَافَ إِلَى دَارِ الْقُرْآنِ، وَوَقَفَ
عَلَيْهَا أَوْقَافًا لِلْفُقَرَاءِ، فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ ذَلِكَ; مِنْ
أَجْلِ أَنَّهُ يَئُولُ أَمْرُهَا أَنْ تَكُونَ دَارَ حَدِيثٍ، ثُمَّ فَتَحُوا
بَابًا آخَرَ، وَقَالُوا: هَذِهِ الدَّارُ لَمْ يُسْتَهْدَمْ جَمِيعُهَا، وَمَا
صَادَفَ الْحُكْمُ مَحِلًّا; لِأَنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ
الْوَقْفَ يُبَاعُ إِذَا اسْتُهْدِمَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ مَا
يُنْتَفَعُ بِهِ.
فَحَكَمَ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ بِإِثْبَاتِهَا وَقْفًا كَمَا كَانَتْ،
وَنَفَّذَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيُّ، وَانْفَصَلَ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ،
وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ، وَأَشْيَاءُ عَجِيبَةٌ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
أَصْبَحَ بَوَّابُ الْمَدْرَسَةِ الْمُسْتَجَدَّةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا:
الطَّيِّبَانِيَّةُ - إِلَى جَانِبِ أُمِّ الصَّالِحِ مَقْتُولًا مَذْبُوحًا،
وَقَدْ أُخِذَتْ مِنْ عِنْدِهِ أَمْوَالٌ مِنَ الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ،
وَلَمْ يُطَّلَعْ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْبَوَّابُ رَجُلًا صَالِحًا
مَشْكُورًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
تَرْجَمَةُ الشَّيْخِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ قَيِّمِ
الْجَوْزِيَّةِ
وَفِي لَيْلَةِ الْخَمِيسِ ثَالِثَ عَشَرَ رَجَبٍ، وَقْتَ أَذَانِ الْعِشَاءِ
تُوُفِّيَ صَاحِبُنَا الْإِمَامُ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ الزُّرَعِيُّ، إِمَامُ الْجَوْزِيَّةِ،
وَابْنُ قَيِّمِهَا، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنَ الْغَدِ
بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَدُفِنَ عِنْدَ وَالِدَتِهِ بِمَقَابِرِ الْبَابِ
الصَّغِيرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وُلِدَ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، فَبَرَعَ فِي
عُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ، لَا سِيَّمَا عِلْمُ التَّفْسِيرِ، وَالْحَدِيثِ
وَالْأَصْلَيْنِ، وَلَمَّا عَادَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَسَبْعِمِائَةٍ
لَازَمَهُ إِلَى أَنْ مَاتَ الشَّيْخُ، فَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمًا جَمًّا مَعَ مَا
سَلَفَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ، فَصَارَ فَرِيدًا فِي بَابِهِ فِي فُنُونٍ
كَثِيرَةٍ، مَعَ كَثْرَةِ الطَّلَبِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكَثْرَةِ الصَّلَاةِ
وَالِابْتِهَالِ، وَكَانَ حَسَنَ الْقِرَاءَةِ وَالْخُلُقِ، كَثِيرَ التَّوَدُّدِ،
لَا يَحْسُدُ أَحَدًا، وَلَا يُؤْذِيهِ، وَلَا يَسْتَعِيبُهُ، وَلَا يَحْقِدُ
عَلَى أَحَدٍ، وَكُنْتُ مِنْ أَصْحَبِ النَّاسِ لَهُ، وَأَحَبِّ النَّاسِ
إِلَيْهِ، وَلَا أَعْرِفُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا أَكْثَرَ
عِبَادَةً مِنْهُ، وَكَانَتْ لَهُ طَرِيقَةٌ فِي الصَّلَاةِ يُطِيلُهَا جِدًّا،
وَيَمُدُّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا، وَيَلُومُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي
بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَلَا يَرْجِعُ،
وَلَا يَنْزِعُ عَنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَهُ مِنَ
التَّصَانِيفِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَكَتَبَ بِخَطِّهِ
الْحَسَنِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَاقْتَنَى مِنَ الْكُتُبِ مَا لَا يَتَهَيَّأُ
لِغَيْرِهِ تَحْصِيلُ عُشْرِهِ مِنْ كُتُبِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ،
وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ قَلِيلَ النَّظِيرِ، بَلْ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي
مَجْمُوعِهِ، وَأُمُورِهِ، وَأَحْوَالِهِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ الْخَيْرُ
وَالْأَخْلَاقُ الصَّالِحَةُ، سَامَحَهُ اللَّهُ وَرَحِمَهُ، وَقَدْ كَانَ
مُتَصَدِّيًا لِلْإِفْتَاءِ بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ الَّتِي اخْتَارَهَا
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَجَرَتْ لَهُ بِسَبَبِهَا فُصُولٌ
يَطُولُ بَسْطُهَا مَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ
وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً رَحِمَهُ اللَّهُ، شَهِدَهَا
الْقُضَاةُ، وَالْأَعْيَانُ، وَالصَّالِحُونَ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ،
وَتَزَاحَمَ النَّاسُ عَلَى حَمْلِ نَعْشِهِ، وَكَمَلَ لَهُ مِنَ الْعُمْرِ
سِتُّونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ عَشَرَ شَهْرِ شَعْبَانَ ذَكَرَ الدَّرْسَ
بِالصَّدْرِيَّةِ شَرَفُ الدِّينِ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ
الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، عِوَضًا عَنْ أَبِيهِ
- رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأَفَادَ، وَأَجَادَ، وَسَرَدَ طَرَفًا صَالِحًا فِي فَضْلِ
الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ.
وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ الَّتِي لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهَا، وَلَمْ
يَقَعْ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَأَكْثَرَ، أَنَّهُ بَطَلَ الْوَقِيدُ
بِجَامِعِ دِمَشْقَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمْ يَزِدْ فِي
وَقَيْدِهِ قِنْدِيلٌ وَاحِدٌ عَلَى عَادَةِ لَيَالِيهِ فِي سَائِرِ السَّنَةِ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَفَرِحَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَأَهْلُ
الدِّيَانَةِ، وَشَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى تَبْطِيلِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ
الشَّنِيعَةِ،
الَّتِي كَانَ يَتَوَلَّدُ بِسَبَبِهَا شُرُورٌ كَثِيرَةٌ
بِالْبَلَدِ، وَلَا سِيَّمَا بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَكَانَ ذَلِكَ
بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ حَسَنِ ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ - خَلَّدَ اللَّهُ سُلْطَانَهُ، وَشَيَّدَ أَرْكَانَهُ
- وَكَانَ السَّاعِيَ فِي ذَلِكَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ حُسَامُ
الدِّينِ أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّجِيبِيِّ - بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَقَدْ
كَانَ مُقِيمًا فِي هَذَا الْحِينِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ كُنْتُ
رَأَيْتُ عِنْدَهُ فُتْيَا عَلَيْهَا خَطُّ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ، وَالشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ بْنِ الزَّمْلَكَانِيِّ، وَغَيْرِهِمَا
فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، فَأَنْفَذَ اللَّهُ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ قَدِ اسْتَقَرَّتْ
بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ مِنْ نَحْوِ سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَكَمْ سَعَى فِيهَا مِنْ فَقِيهٍ، وَقَاضٍ، وَمُفْتٍ،
وَعَالَمٍ، وَعَابِدٍ، وَأَمِيرٍ، وَزَاهِدٍ، وَنَائِبِ سَلْطَنَةٍ، وَغَيْرِهِمْ،
وَلَمْ يُيَسِّرِ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي عَامِنَا هَذَا، وَالْمَسْئُولُ مِنَ
اللَّهِ تَعَالَى إِطَالَةُ عُمْرِ هَذَا السُّلْطَانِ; لِيَعْلَمَ الْجَهَلَةُ
الَّذِينَ اسْتَقَرَّ فِي أَذْهَانِهِمْ مِنَ انَّهُ إِذَا أَبْطَلَ هَذَا
الْوَقِيدُ فِي عَامٍ يَمُوتُ سُلْطَانُ الْوَقْتِ، وَكَانَ هَذَا لَا حَقِيقَةَ
لَهُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ اتَّفَقَ أَمْرٌ غَرِيبٌ لَمْ يَتَّفِقْ
مِثْلُهُ مِنْ مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ - فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُقَهَاءِ
وَالْمَدَارِسِ - وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ تُوُفِّيَ ابْنُ النَّاصِحِ
الْحَنْبَلِيُّ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَكَانَ بِيَدِهِ نِصْفُ الصَّاحِبِيَّةِ
الَّتِي لِلْحَنَابِلَةِ بِالصَّالِحِيَّةِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلشَّيْخِ
شَرَفِ الدِّينِ ابْنِ الْقَاضِي شَرَفِ الدِّينِ الْحَنْبَلِيِّ شَيْخِ
الْحَنَابِلَةِ بِدِمَشْقَ،
فَاسْتَنْجَزَ مَرْسُومًا بِالنِّصْفِ الْآخَرِ، وَكَانَتْ
بِيَدِهِ وِلَايَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ مِنَ الْقَاضِي عَلَاءِ الدِّينِ بْنِ
الْمُنَجَّا الْحَنْبَلِيِّ، فَعَارَضَهُ فِي ذَلِكَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ
الدِّينِ الْمَرْدَاوِيُّ الْحَنْبَلِيُّ، وَوَلَّيَ فِيهَا نَائِبَهُ الْقَاضِيَ
شَمْسَ الدِّينِ بْنَ مُفْلِحٍ، وَدَرَّسَ بِهَا فِي صَدْرِ هَذَا الْيَوْمِ،
فَدَخَلَ الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقُونَ وَمَعَهُمُ الشَّيْخُ شَرَفُ
الدِّينِ الْمَذْكُورُ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَأَنْهُوا إِلَيْهِ صُورَةَ
الْحَالِ، فَرَسَمَ لَهُ بِالتَّدْرِيسِ، فَرَكِبَ الْقُضَاةُ الْمَذْكُورُونَ
وَبَعْضُ الْحُجَّابِ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ،
وَاجْتَمَعَ الْفُضَلَاءُ، وَالْأَعْيَانُ، وَدَرَّسَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ
الْمَذْكُورُ، وَبَثَّ فَضَائِلَ كَثِيرَةً، وَفَرِحَ النَّاسُ.
وَفِي شَوَّالٍ كَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذَا
الْعَامِ نَائِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمُدَبِّرُ مَمَالِكِهَا الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا النَّاصِرِيُّ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ،
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ النَّاسُ ذَاهِبِينَ نَهَضَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
عَلَى أَخِيهِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ مَنْجَكْ، وَهُوَ وَزِيرُ
الْمَمْلَكَةِ، وَأُسْتَادَارُ الْأُسْتَادَارِيَّةِ، وَهُوَ بَابُ الْحَوَائِجِ
فِي دَوْلَتِهِمْ، وَإِلَيْهِ يَرْحَلُ ذَوُو الْحَاجَاتِ بِالذَّهَبِ
وَالْهَدَايَا، فَأَمْسَكُوهُ، وَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ إِلَى نَائِبِ الشَّامِ
فِي أَوَاخِرَ هَذَا الشَّهْرِ بِذَلِكَ، وَبَعْدَ أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ وَصَلَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ - وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الدَّوْلَةِ
الْمِصْرِيَّةِ - تَحْتَ التَّرْسِيمِ، فَأُدْخِلَ إِلَى قَلْعَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ
أُخِذَ مِنْهَا بَعْدَ لَيْلَةٍ، فَذُهِبَ بِهِ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَجَاءَ الْبَرِيدُ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى دِيوَانِهِ
وَدِيوَانِ مَنْجَكَ بِالشَّامِ، وَأُيِسَ مِنْ
سَلَامَتِهِمَا، وَكَذَلِكَ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِمَسْكِ
بَيْبُغَا فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَأُرْسِلَ سَيْفَهُ إِلَى السُّلْطَانِ،
وَقَدِمَ أَمِيرٌ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَحَلَّفَ الْأُمَرَاءَ
بِالطَّاعَةِ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ، وَسَارَ إِلَى حَلَبَ
فَحَلَّفَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأُمَرَاءِ ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ، ثُمَّ عَادَ
رَاجِعًا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ النُّوَّابِ وَالْأُمَرَاءِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مُسِكَ الْأَمِيرَانِ
الْكَبِيرَانِ الْمُقَدَّمَانِ الشَّامِيَّانِ، شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ
صُبْحٍ، وَمَلِكُ آصْ، مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
وَالْأُمَرَاءِ، وَرُفِعَا إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، سِيرَ بِهِمَا
مَاشِيَيْنِ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ إِلَى بَابِ الْقَلْعَةِ مِنْ نَاحِيَةِ
دَارِ الْحَدِيثِ، وَقُيِّدَا وَسُجِنَا بِهَا. وَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ
السُّلْطَانَ اسْتَوْزَرَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْقَاضِيَ عَلَمَ الدِّينِ
بْنَ زُنْبُورٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِّيَّةً لَمْ يَسْمَعْ بِمِثْلِهَا
مِنْ أَعْصَارٍ مُتَقَادِمَةٍ، وَبَاشَرَ، وَخَلَعَ عَلَى الْأُمَرَاءِ
وَالْمُقَدَّمِينَ، وَكَذَلِكَ خَلَعَ عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
طَشْبُغَا، وَأُعِيدَ إِلَى مُبَاشَرَةِ الدُّوَيْدَارِيَّةِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَجُعِلَ مُقَدَّمًا.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ اشْتَهَرَ أَنَّ نَائِبَ صَفَدَ شِهَابَ
الدِّينِ أَحْمَدَ ابْنِ مُشِدِّ الشُّرْبَخَانَاهْ طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَامْتَنَعَ مِنْ إِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَقَضَ
الْعَهْدَ، وَحَصَّنَ قَلْعَتَهَا، وَحَصَلَ فِيهَا عِدَدًا
وَمَدَدًا، وَادَّخَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً بِسَبَبِ الْإِقَامَةِ بِهَا
وَالِامْتِنَاعِ فِيهَا، فَجَاءَتِ الْبَرِيدِيَّةُ إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ بِأَنْ
يَرْكَبَ هُوَ وَجَمِيعُ جَيْشِ دِمَشْقَ إِلَيْهِ، فَتَجَهَّزَ الْجَيْشُ
لِذَلِكَ وَتَأَهَّبُوا، ثُمَّ خَرَجَتِ الْأَطْلَابُ عَلَى رَايَاتِهَا، فَلَمَّا
بَرَزَ مِنْهَا بَعْضٌ بَدَا لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ فَرَدَّهُمْ، وَكَانَ لَهُ
خِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَالُ عَلَى تَجْرِيدِ أَرْبَعَةِ
مُقَدَّمِينَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ إِلَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَهُ، وَقَعَتْ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ بِمِنًى،
وَذَلِكَ أَنَّهُ اخْتَلَفَ الْأُمَرَاءُ الْمِصْرِيُّونَ وَالشَّامِيُّونَ مَعَ
صَاحِبِ الْيَمَنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا
قَرِيبًا مِنْ وَادِي مُحَسِّرٍ، ثُمَّ انْجَلَتِ الْوَقْعَةُ عَنْ أَسْرِ صَاحِبِ
الْيَمَنِ الْمُجَاهِدِ، فَحُمِلَ مُقَيَّدًا إِلَى مِصْرَ، كَذَلِكَ جَاءَتْ
بِهَا كُتُبُ الْحُجَّاجِ، وَهُمْ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ.
وَاشْتَهَرَ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ الْأَمِيرَ سَيْفَ
الدِّينِ أَرْغُونَ شَاهْ الْكَامِلِيَّ قَدْ خَرَجَ عَنْهَا بِمَمَالِيكِهِ
وَأَصْحَابِهِ، فَرَامَ الْجَيْشُ الْحَلَبِيُّ رَدَّهُ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا
ذَلِكَ، وَجُرِحَ مِنْهُمْ جِرَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا، وَكَانَ فِي
أَمَلِهِ - فِيمَا ذُكِرَ - أَنْ يَتَلَقَّى سَيْفَ الدِّينِ بَيْبُغَا فِي
أَثْنَاءِ طَرِيقِ الْحِجَازِ فَيَقَدَمَ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَإِنْ كَانَ
نَائِبُ دِمَشْقَ قَدِ اشْتَغَلَ فِي حِصَارِ صَفَدَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهَا
بَغْتَةً فَيَأْخُذَهَا، فَلَمَّا سَارَ بِمَنْ مَعَهُ، وَأَخَذَتْهُ الْقُطَّاعُ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ، وَنُهِبَتْ حَوَاصِلُهُ، وَبَقِيَ تَجْرِيدَةٌ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ
مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَاجْتَازَ بِحَمَاةَ لِيُهَرِّبَهُ نَائِبُهَا فَأَبَى
عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِحِمْصَ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى
السُّلْطَانِ بِنَفْسِهِ، فَقَدِمَ بِهِ نَائِبُ حِمْصَ وَتَلْقَاهُ بَعْضُ
الْحُجَّابِ وَبَعْضُ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ،
وَدَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ سَابِعَ عِشْرِينَ الشَّهْرِ، وَهُوَ فِي أُبَّهَةٍ، فَنَزَلَ بِدَارِ السَّعَادَةِ فِي بَعْضِ قَاعَاتِ الدُّوَيْدَارِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ،
وَالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا يُلْحَقُ
بِذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنُ ابْنُ
السُّلْطَانِ الْمَلِكِ مُحَمَّدِ ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ
قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا الْمُلَقَّبُ بِحَارِسِ الطَّيْرِ، وَهُوَ عِوَضٌ عَنِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْبُغَا آرُوسَ الَّذِي رَاحَ إِلَى بِلَادِ
الْحِجَازِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِقَصْدِ الْحَجِّ الشَّرِيفِ،
فَعَزَلَهُ السُّلْطَانُ فِي غَيْبَتِهِ، وَأَمْسَكَ عَلَى شَيْخُونَ
وَاعْتَقَلَهُ، وَأَخَذَ مَنْجَكَ الْوَزِيرَ - وَهُوَ أُسْتَادَارُ وَمُقَدَّمُ
أَلْفٍ - وَاصْطَفَى أَمْوَالَهُ، وَاعْتَاضَ عَنْهُ، وَوَلَّى مَكَانَهُ فِي
الْوِزَارَةِ الْقَاضِي عَلَمَ الدِّينِ بْنَ زُيْنُورٍ، وَاسْتَرْجَعَ إِلَى
وَظِيفَةِ الدُّوَيْدَارِيَّةِ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ طَشْبُغَا
النَّاصِرِيَّ، وَكَانَ أَمِيرًا بِالشَّامِ مُقِيمًا مُنْذُ عُزِلَ إِلَى أَنْ
أُعِيدَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَا كَاتِبُ السِّرِّ
بِمِصْرَ وَقُضَاتُهَا فَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَنَائِبُ صَفَدَ قَدْ حَصَّنَ الْقَلْعَةَ،
وَأَعَدَّ فِيهَا عُدَّتَهَا وَمَا يَنْبَغِي لَهَا مِنَ الْأَطْعِمَاتِ،
وَالذَّخَائِرِ، وَالْعُدَدِ، وَالرِّجَالِ، وَقَدْ نَابِذَ الْمَمْلَكَةَ
وَحَارَبَ،
وَقَدْ قَصَدَتْهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَدِمَشْقَ، وَطَرَابُلُسَ، وَغَيْرِهَا،
وَالْأَخْبَارُ قَدْ ضَمِنَتْ عَنْ بَيْبُغَا، وَمَنْ مَعَهُ بِبِلَادِ الْحِجَازِ
مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ فِي احْتِرَازٍ وَخَوْفٍ مِنْ أَنْ
يَأْتِيَ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ فَيَدْهَمَهَا بِمَنْ مَعَهُ، وَالْقُلُوبُ
وَجِلَةٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّ صَاحِبَ الْيَمَنِ حَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ مَكَّةَ عَجْلَانَ; بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرَادَ
أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهَا أَخَاهُ ثَقَبَةَ، فَاشْتَكَى عَجْلَانُ ذَلِكَ إِلَى
أُمَرَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَكَبِيرُهُمْ إِذْ ذَاكَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
طَازْ، وَأَمِيرُ حَجَّتِهِمْ وَأَمِيرُ حَجِيجِهِمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بُزْلَارُ، وَمَعَهُمْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَمْسَكُوا أَخَاهُمْ
بَيْبُغَا، وَقَيَّدُوهُ فَقَوِيَ رَأْسُهُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَخَفَّ بِهِمْ،
فَصَبَرُوا حَتَّى قُضِيَ الْحَجُّ، وَفَرَغَ النَّاسُ مِنَ الْمَنَاسِكِ،
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ يَوْمُ الْخَمِيسِ تَوَاقَفُوا هُمْ
وَهُوَ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَالْأَكْثَرُ مِنَ
الْيَمَنِيِّينَ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ قَرِيبَةً مِنْ وَادِي مُحَسِّرٍ،
وَبَقِيَ الْحَجِيجُ خَائِفِينَ أَنْ تَكُونَ الدَّائِرَةُ عَلَى الْأَتْرَاكِ فَتَنْهَبَ
الْأَعْرَابُ أَمْوَالَهُمْ، وَرُبَّمَا قَتَلُوهُمْ، فَفَرَّجَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَنَصَرَ الْأَتْرَاكَ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلَجَأَ الْمَلِكُ الْمُجَاهِدُ
إِلَى جَبَلٍ فَلَمْ يَعْصِمْهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ، بَلْ أَسَرُوهُ ذَلِيلًا
حَقِيرًا، وَأَخَذُوهُ مُقَيَّدًا أَسِيرًا، وَعَاثَ عَوَامُّ النَّاسِ فِي
الْيَمَنِيِّينَ، فَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا لَهُمْ جَلِيلًا
وَلَا حَقِيرًا، وَلَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، وَاحْتَاطَ الْأُمَرَاءُ عَلَى
حَوَاصِلِ الْمَلِكِ، وَأَمْوَالِهِ، وَأَمْتِعَتِهِ، وَأَثْقَالِهِ، وَسَارُوا
بِخَيْلِهِ وَجِمَالِهِ، وَأَدْنَوْا إِلَى
صِنْدِيدٍ مَنْ رَحَّلَهُ وَرِجَالَهُ، وَاسْتَصْحَبُوا
مَعَهُمْ طُفَيْلًا الَّذِي كَانَ حَاصَرَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ فِي
الْعَامِ الْمَاضِي، وَقَيَّدُوهُ أَيْضًا، وَجَعَلُوا الْغُلَّ فِي عُنُقِهِ،
وَاسْتَاقُوهُ كَمَا يُسْتَاقُ الْأَسِيرُ فِي وَثَاقِهِ مَصْحُوبًا بِهَمِّهِ،
وَحَتْفِهِ، وَانْشَمَرُوا عَنْ تِلْكَ الْبِلَادِ إِلَى دِيَارِهِمْ رَاجِعِينَ،
وَقَدْ فَعَلُوا فَعْلَةً تُذْكَرُ بَعْدَهُمْ إِلَى حِينٍ.
وَدَخَلَ الرَّكْبُ الشَّامِيُّ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثِ
وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْعَادَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ،
وَالْقَاعِدَةِ الْمُسْتَقِرَّةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ قَدِمَتِ الْبَرِيدِيَّةُ مِنْ تِلْقَاءِ مَدِينَةِ صَفَدَ
مُخْبِرَةً بِأَنَّ الْأَمِيرَ شِهَابَ الدِّينِ أَحْمَدَ بْنَ مُشِدِّ
الشُّرْبَخَانَاهْ، الَّذِي كَانَ قَدْ تَمَرَّدَ بِهَا، وَطَغَى، وَبَغَى حَتَّى
اسْتَحْوَزَ عَلَيْهَا، وَقَطَعَ سُبُلَهَا، وَقَتَلَ الْفُرْسَانَ
وَالرَّجَّالَةَ، وَمَلَأَهَا أَطْعِمَةً وَأَسْلِحَةً، وَمَمَالِيكَهُ
وَرِجَالَهُ، فَعِنْدَمَا تَحَقَّقَ مَسْكُ بَيْبُغَا آرُوسَ خَضَعَتْ تِلْكَ
النُّفُوسُ، وَخَمَدَتْ نَارُهُ، وَسَكَنَ شَرَارُهُ، وَأُخِذَ بِنَارِهِ،
وَوَضَحَ قَرَارُهُ، وَأَنَابَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ، وَرَغِبَ إِلَى
السَّلَامَةِ وَالْإِخْلَاصِ، وَخَضَعَ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ، وَأَرْسَلَ
سَيْفَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى
حَضْرَةِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُحَنِّنَهُ
عَلَيْهِ، وَأَنْ يُقْبِلَ بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسِ صَفَرٍ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ الْكَامِلِيُّ مُعَادًا إِلَى نِيَابَةِ
حَلَبَ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَشْبُغَا الدَّوَادَارِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ زَوْجُ ابْنَةِ نَائِبِ الشَّامِ،
فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ الشَّامِ وَأَعْيَانُ
الْأُمَرَاءِ، وَنَزَلَ طَشْبُغَا الدَّوَادَارُ عِنْدَ
زَوْجَتِهِ بِدَارِ مُنَجَّا فِي مَحِلَّةِ مَسْجِدِ الْقَصَبِ الَّتِي كَانَتْ
تُعْرَفُ بِدَارِ حُنَيْنِ بْنِ حَيْدَرٍ، وَقَدْ جُدِّدَتْ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ، وَتَوَجَّهَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قُدُومِهِمَا إِلَى
حَلَبَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ اجْتَمَعَ
الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ، وَطَلَبُوا الْحَنْبَلِيَّ لِيَتَكَلَّمُوا مَعَهُ
فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدَارِ الْمُعْتَمِدِ الَّتِي بِجِوَارِ مَدْرَسَةِ الشَّيْخِ
أَبِي عُمَرَ الَّتِي حَكَمَ بِنَقْضِ وَقْفِهَا، وَهَدْمِ بَابِهَا،
وَإِضَافَتِهَا إِلَى دَارِ الْقُرْآنِ الْمَذْكُورَةِ، وَجَاءَ مَرْسُومُ
السُّلْطَانِ بِوَقْفِ ذَلِكَ، وَكَانَ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ قَدْ أَرَادَ
مَنْعَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ اجْتَمَعُوا
لِذَلِكَ، فَلَمْ يَحْضُرِ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ، وَقَالَ: حَتَّى يَجِيءَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حَضَرَ
الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَلَدُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ عَنْ
أَبِيهِ مَشْيَخَةَ دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
كَانَ قَدْ خَرَّجَهُ لَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، وَشَاعَ فِي الْبَلَدِ أَنَّهُ
نَزَلَ لَهُ عَنْهَا، وَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ كَلَامًا كَثِيرًا، وَانْتَشَرَ
الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ نَزَلَ لَهُ عَنِ
الْغَزَالِيَّةِ، وَالْعَادِلِيَّةِ، وَاسْتَخْلَفَهُ فِي ذَلِكَ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِي سَحَرِ لَيْلَةِ الْخَمِيسِ خَامِسِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى، وَقَعَ
حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي الْحَرَّانِيِّينَ فِي السُّوقِ الْكَبِيرِ، وَاحْتَرَقَتْ
دَكَاكِينُ الْفَوَاخِرَةِ وَالْمَنَاخِلِيِّينَ، وَفُرْجَةُ الْغَرَابِيلِ،
وَإِلَى دَرْبِ الْقَلْيِ، ثُمَّ إِلَى قَرِيبِ دَرْبِ الْعَمِيدِ، وَصَارَتْ
تِلْكَ
النَّاحِيَةُ دَكَّا بَلْقَعًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَجَاءَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بَعْدَ الْأَذَانِ إِلَى
هُنَاكَ، وَرَسَمَ بِطَفْيِ النَّارِ، وَجَاءَ الْمُتَوَلِّي، وَالْقَاضِي
الشَّافِعِيُّ، وَالْحُجَّابُ، وَشَرَعَ النَّاسُ فِي طَفْيِ النَّارِ، وَلَوْ
تَرَكُوهَا لَأَحْرَقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَمْ يُفْقَدْ - فِيمَا بَلَغْنَا -
أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ هَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمَتَاعِ،
وَالْأَثَاثِ، وَالْأَمْلَاكِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَاحْتَرَقَ لِلْجَامِعِ مِنَ
الرِّبَاعِ فِي هَذَا الْحَرِيقِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ خَامِسَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى اسْتَسْلَمَ الْقَاضِي
الْحَنْبَلِيُّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْهُمْ نَوْعُ
اسْتِهْزَاءٍ بِالْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ -
صِفَةَ أَنَّهُ مَيِّتٌ عَلَى نَعْشٍ - وَيُهَلِّلُونَ كَتَهْلِيلِ الْمُسْلِمِينَ
أَمَامَ الْمَيِّتِ، وَيَقْرَءُونَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ الْإِخْلَاصِ: 1
- 4 ] فَسَمِعَ بِهِمْ مَنْ بِحَارَتِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَخَذُوهُمْ
إِلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَدَفَعَهُمْ إِلَى
الْحَنْبَلِيِّ، فَاقْتَضَى الْحَالُ اسْتِسْلَامَهُمْ، فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ
مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ، وَتَبِعَ أَحَدَهُمْ ثَلَاثَةُ أَطْفَالٍ، وَأَسْلَمَ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي ثَمَانِيَةٌ آخَرُونَ، فَأَخَذَهُمُ الْمُسْلِمُونَ،
وَطَافُوا بِهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ يُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ، وَأَعْطَاهُمْ
أَهْلُ الْأَسْوَاقِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَاحُوا بِهِمْ إِلَى الْجَامِعِ
فَصَلُّوا، ثُمَّ أَخَذُوهُمْ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَاسْتَطْلَقُوا لَهُمْ
شَيْئًا، وَرَجَعُوا وَهُمْ فِي ضَجِيجٍ وَتَهْلِيلٍ وَتَقْدِيسٍ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
مَمْلَكَةُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ صَلَاحِ الدِّينِ
صَالِحِ بْنِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيِّ
فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ الْفَرْدِ وَرَدَتِ الْبَرِيدِيَّةُ
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِعَزْلِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ
حَسَنِ بْنِ النَّاصِرِ بْنِ قَلَاوُونَ; لِاخْتِلَافِ الْأُمَرَاءِ عَلَيْهِ،
وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَخِيهِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ صَالِحٍ، وَأُمُّهُ بِنْتُ
مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ مُدَّةً طَوِيلَةً -
وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً - وَجَاءَتِ الْأُمَرَاءُ لِلْحَلِفِ،
فَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَ الْبَلَدُ عَلَى الْعَادَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ
الْمَلِكَ النَّاصِرَ حَسَنَ خُنِقَ. وَرَجَعَتِ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِثْلَ شَيْخُونَ وَمَنْجَكَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَرْسَلُوا
إِلَى بَيْبُغَا فَجِيءَ بِهِ مِنَ الْكَرْكِ، وَكَانَ مَسْجُونًا بِهَا مِنْ
مَرْجِعِهِ مِنَ الْحَجِّ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ شَفَعَ
فِي صَاحِبِ الْيَمَنِ الْمَلِكِ الْمُجَاهِدِ الَّذِي كَانَ مَسْجُونًا فِي
الْكَرْكِ، فَأُخْرِجَ، وَعَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَمَّا
الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ نَاحِيَةِ السُّلْطَانِ حِينَ مُسِكَ
مُغْلَطَايْ أَمِيرُ آخُورَ، وَمُنَكَلِي بُغَا الْفَخْرِيُّ، وَغَيْرُهُمَا،
فَاحْتِيطَ عَلَيْهِمْ، وَأُرْسِلُوا إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَخُطِبَ
لِلْمَلِكِ الصَّالِحِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعَ عَشَرَ
مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَالْأُمَرَاءُ وَالْقُضَاةِ;
لِلدُّعَاءِ لَهُ بِالْمَقْصُورَةِ عَلَى الْعَادَةِ.
وَفِي أَثْنَاءِ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَجَبٍ عُزِلَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ أَيْتَمُشُ عَنْ دِمَشْقَ مَطْلُوبًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَسَارَ إِلَيْهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَرْغُونُ الْكَامِلِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى الدِّيَارِ
الْحَلَبِيَّةِ مِنْ هُنَاكَ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي
أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَخَرَجَ الْأُمَرَاءُ، وَالْمُقَدَّمُونَ، وَأَرْبَابُ
الْوَظَائِفِ; لِتَلَقِّيهِ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، مِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ
إِلَى حَلَبَ وَحَمَاةَ وَحِمْصَ، وَجَرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ عَجَائِبُ لَمْ
تُرَ مِنْ دُهُورٍ، وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِهِ; لِصَرَامَتِهِ، وَشَهَامَتِهِ،
وَحِدَّتِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ لِينِ الَّذِي قَبْلَهُ وَرَخَاوَتِهِ، فَنَزَلَ
دَارَ السَّعَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ. وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ وَقَفَ فِي مَوْكِبٍ
هَائِلٍ، قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُرَ مِثْلَهُ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ. وَلَمَّا
سِيرَ إِلَى نَاحِيَةِ بَابِ الْفَرَجِ اشْتَكَى إِلَيْهِ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ عَلَى
أَمِيرٍ كَبِيرٍ يُقَالُ لَهُ: الطَّرْخَانِيُّ. فَأَمَرَ بِإِنْزَالِهِ عَنْ
فَرَسِهِ، فَأُنْزِلَ وَأُوقِفَ مَعَهُنَّ فِي الْحُكُومَةِ.
وَاسْتَمَرَّ بُطْلَانُ الْوَقِيدِ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ فِي هَذَا
الْعَامِ أَيْضًا كَالَّذِي قَبْلَهُ حَسَبَ مَرْسُومِ السُّلْطَانِ النَّاصِرِ
حَسَنٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَفَرِحَ أَهْلُ الْخَيْرِ بِذَلِكَ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنْ نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ
سَنَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَنُودِيَ فِي الْبَلَدِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَالَّذِي بَعْدَهُ عَنِ النَّائِبِ:
مَنْ وَجَدَ جُنْدِيًّا سَكْرَانَ فَلْيُنْزِلْهُ عَنْ فَرَسِهِ، وَلِيَأْخُذْ
ثِيَابَهُ، وَمَنْ أَحْضَرَهُ مِنَ الْجُنْدِ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ فَلَهُ
خُبْزُهُ. فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَاحْتَجَرَ عَنِ الْخَمَّارِينَ
وَالْعَطَّارِينَ وَالْعَصَّارِينَ،
وَرَخَصَتِ الْأَعْنَابُ، وَجَادَتِ الْأَخْبَازُ وَاللَّحْمُ
بَعْدَ أَنْ كَانَ بَلَغَ كُلُّ رِطْلٍ أَرْبَعَةً وَنِصْفًا، فَصَارَ بِدِرْهَمَيْنِ
وَنِصْفٍ وَأَقَلَّ، وَأُصْلِحَتِ الْمَعَايِشُ مِنْ هَيْبَةِ النَّائِبِ، وَصَارَ
لَهُ صِيتٌ حَسَنٌ، وَذِكْرٌ جَمِيلٌ فِي النَّاسِ بِالْعَدْلِ، وَجَوْدَةِ
الْقَصْدِ، وَصِحَّةِ الْفَهْمِ، وَقُوَّةِ الْعَدْلِ، وَالْإِدْرَاكِ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَ شَعْبَانَ وَصَلَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ
بْنُ شَادِّ الشُّرْبَخَانَاهْ - الَّذِي كَانَ قَدْ عَصَى فِي صَفَدَ - وَكَانَ
مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَاعْتُقِلَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي
هَذِهِ الدَّوْلَةِ وَأُعْطِيَ نِيَابَةَ حَمَاةَ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي هَذَا
الْيَوْمِ سَائِرًا إِلَى حَمَاةَ، فَرَكِبَ مَعَ النَّائِبِ فِي الْمَوْكِبِ،
وَسِيرَ عَنْ يَمِينِهِ وَنَزَلَ فِي خِدْمَتِهِ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ،
وَتَرَجَّلَ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَخَلَ الْأَمِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا الَّذِي كَانَ نَائِبًا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
ثُمَّ مُسِكَ بِالْحِجَازِ وَأُودِعَ الْكَرَكَ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي هَذِهِ
الدَّوْلَةِ وَأُعْطِيَ نِيَابَةَ حَلَبَ، فَتَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ،
وَأُنْزِلَ دَارَ السَّعَادَةِ حَتَّى أُضِيفَ، وَنَزَلَ وِطَاقُهُ بِوَطْأَةِ
بَرْزَةَ، وَضُرِبَتْ لَهُ خَيْمَةٌ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا يَتْبَعُ
ذَلِكَ - الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَلَاحُ الدِّينِ صَالِحُ ابْنُ السُّلْطَانِ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ،
وَالْخَلِيفَةُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ الْمُعْتَضِدُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَنَائِبُ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْلَايْ، وَقُضَاةُ
مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْوَزِيرُ الْقَاضِي ابْنُ
زُنْبُورٍ، وَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ الْمَمْلَكَةَ فَلَا
تَصْدُرُ الْأُمُورُ إِلَّا عَنْ آرَائِهِمْ لِصِغَرِ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ -
جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِهِمْ ثَلَاثَةٌ; سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ، وَطَازْ،
وَصَرْغَتْمُشُ، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ
الْكَامِلِيُّ، وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَنَائِبُ الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا
آرُوسُ، وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَكْلَمُشُ، وَنَائِبُ
حَمَاةَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ مُشِدِّ الشُّرْبَخَانَةُ.
وَوَصْلَ بَعْضُ الْحُجَّاجِ إِلَى دِمَشْقَ فِي تَاسِعِ الشَّهْرِ - وَهَذَا
نَادِرٌ - وَأَخْبَرَ بِمَوْتِ الْمُؤَذِّنِ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ سَعِيدٍ بَعْدَ
مَنْزِلَةِ الْعُلَا فِي الْمَطَالِعِ.
وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ صَفَرٍ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ عِنْدَ بَابِ جَيْرُونَ شَرْقِيَّهُ، فَأَحْرَقَ
دُكَّانَ الْفَقَّاعِيِّ الْكَبِيرَةَ الْمُزَخْرَفَةَ وَمَا حَوْلَهَا،
وَاتَّسَعَ اتِّسَاعًا فَظِيعًا، وَاتَّصَلَ الْحَرِيقُ بِالْبَابِ الْأَصْفَرِ
مِنَ النُّحَاسِ، فَبَادَرَ دِيوَانُ الْجَامِعِ إِلَيْهِ، فَكَشَطُوا مَا
عَلَيْهِ مِنَ النُّحَاسِ، وَنَقَلُوهُ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى خِزَانَةِ الْحَاصِلِ
بِمَقْصُورَتِهِ الْحَلَبِيَّةِ بِجِوَارِ مَشْهَدِ عَلَيٍّ، ثُمَّ غَدَوْا
عَلَيْهِ يَكْسِرُونَ خَشَبَهُ بِالْفُئُوسِ الْحِدَادِ، وَالسَّوَاعِدِ
الشِّدَادِ، وَإِذَا هُوَ مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ الَّذِي فِي غَايَةِ مَا
يَكُونُ مِنَ الْقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ; لِكَوْنِهِ
كَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْبَلَدِ وَمَعَالِمِهِ، وَلَهُ فِي الْوُجُودِ مَا
يُنَيِّفُ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ.
تَرْجَمَةُ بَابِ جَيْرُونَ الْمَشْهُورِ بِدِمَشْقَ
الَّذِي كَانَ هَلَاكُهُ وَذَهَابُهُ وَكَسْرُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ
بَابُ شَرْقِيِّ جَامِعِ دِمَشْقَ، لَمْ يُرَ بَابٌ أَوْسَعُ وَلَا أَعْلَى مِنْهُ
فِيمَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَبْنِيَةِ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُ غَلَقَانِ مِنْ
نُحَاسٍ أَصْفَرَ بِمَسَامِيرَ مِنْ نُحَاسٍ أَصْفَرَ أَيْضًا بَارِزَةٍ، مِنْ
عَجَائِبِ الدُّنْيَا وَمَحَاسِنِ دِمَشْقَ وَمَعَالِمِهَا، وَقَدْ تَمَّ
بِنَاؤُهَا، وَقَدْ ذَكَرَتْهُ الْعَرَبُ فِي أَشْعَارِهَا وَالنَّاسُ، وَهُوَ
مَنْسُوبٌ إِلَى مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ: جَيْرُونُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عَادِ بْنِ
عَوْصَ
بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَهُوَ الَّذِي بَنَاهُ، وَكَانَ بِنَاؤُهُ لَهُ قَبْلَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ قَبْلَ ثَمُودَ وَهُودٍ أَيْضًا، عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " وَغَيْرُهُ، وَكَانَ فَوْقَهُ حِصْنٌ عَظِيمٌ، وَقَصْرٌ مُنِيفٌ، وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى اسْمِ الْمَارِدِ الَّذِي بَنَاهُ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَارِدِ جَيْرُونَ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ لِهَذَا الْبَابِ مِنَ الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ مَا يُقَارِبُ خَمْسَةَ آلَافِ سَنَةٍ، ثُمَّ كَانَ انْجِعَافُ هَذَا الْبَابِ لَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ بِالْأَيْدِي الْعَادِيَةِ عَلَيْهِ; بِسَبَبِ مَا نَالَهُ مِنْ شَوْظِ حَرِيقٍ اتَّصَلَ إِلَيْهِ مِنْ حَرِيقٍ وَقَعَ إِلَى جَانِبِهِ فِي صَبِيحَةِ لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَتَبَادَرَ دِيوَانُ الْجَامِعِ فَفَرَّقُوا شَمْلَهُ، وَقَضَمُوا ثَمْلَهُ، وَعَرَّوْا جِلْدَهُ النُّحَاسَ عَنْ بَدَنِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ الَّذِي كَأَنَّ الصَّانِعَ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، وَقَدْ شَاهَدْتُ الْفُئُوسَ تَعْمَلُ فِيهِ وَلَا تَكَادُ تُحِيلُ فِيهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، فَسُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الَّذِينَ بَنَوْهُ أَوَّلًا، ثُمَّ قَدَّرَ أَهْلَ هَذَا الزَّمَانِ عَلَى أَنْ هَدَمُوهُ آخِرًا بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَدِ الْمُتَطَاوِلَةِ، وَالْأُمَمِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَلَكِنْ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [ الرَّعْدِ: 38 ]
وَلَا إِلَهَ إِلَّا رَبُّ الْعِبَادِ.
بَيَانُ تَقَدُّمِ مُدَّةِ هَذَا الْبَابِ وَزِيَادَتِهَا عَلَى مُدَّةِ
أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ بَلْ يُقَارِبُ الْخَمْسَةَ
ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَوَّلِ " تَارِيخِهِ " بَابُ
بِنَاءِ دِمَشْقَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْقَاضِي يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ الْبَتَلْهِيِّ
الْحَاكِمِ بِهَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ - وَقَدْ كَانَ هَذَا الْقَاضِي
مِنْ تَلَامِيذِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ - قَالَ: لَمَّا فَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَلِيٍّ دِمَشْقَ بَعْدَ حِصَارِهَا - يَعْنِي: وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي
بَنِي أُمَيَّةَ، وَسَلَبَهُمْ مُلْكَهُمْ - هَدَمُوا سُورَ دِمَشْقَ، فَوَجَدُوا
حَجَرًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ بِالْيُونَانِيَّةِ، فَجَاءُوا بِرَاهِبٍ فَقَرَأَهُ
لَهُمْ، فَإِذَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: وَيَكُ إِرَمَ الْجَبَابِرَ، مَنْ
رَامَكِ بِسُوءٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، إِذَا وَهَى مِنْكِ جَيْرُونُ الْغَرْبِيُّ
مِنْ بَابِ الْبَرِيدِ، وَيْلَكِ مِنْ خَمْسَةِ أَعْيُنٍ، نَقْضُ سُورِكِ عَلَى
يَدَيْهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ آلَافِ سَنَةٍ تَعِيشِينَ رَغَدًا، فَإِذَا وَهَى
مِنْكِ جَيْرُونُ الشَّرْقِيُّ أُدِيلَ لَكِ مِمَّنْ يَعْرِضُ لَكِ. قَالَ:
فَوَجَدْنَا الْخَمْسَةَ أَعْيُنٍ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمَطْلَبِ، عَيْنُ بْنُ عَيْنِ بْنِ عَيْنِ بْنِ عَيْنِ بْنِ عَيْنٍ. فَهَذَا
يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ بِسُورِهَا سِنِينًا إِلَى حِينِ إِخْرَابِهِ عَلَى يَدِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ أَرْبَعَةَ آلَافِ سَنَةٍ، وَقَدْ كَانَ إِخْرَابُهُ
لَهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي "
التَّارِيخِ الْكَبِيرِ " فَعَلَى هَذَا يَكُونُ لِهَذَا الْبَابِ إِلَى
يَوْمِ خَرِبَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ - أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ
سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - هُوَ الَّذِي أَسَّسَ دِمَشْقَ بَعْدَ حَرَّانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ
مُضِيِّ الطُّوفَانِ. وَقِيلَ: بَنَاهَا دَمَسْقَسُ غُلَامُ ذِي الْقَرْنَيْنِ
عَنْ إِشَارَتِهِ. وَقِيلَ: الْعَازَرُ الْمُلَقَّبُ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ غُلَامُ
الْخَلِيلِ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ
الْيُونَانِ; لِأَنَّ مَحَارِيبَ مَعَابِدِهَا كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَى
الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُمُ النَّصَارَى فَصَلَّوْا فِيهَا
إِلَى الشَّرْقِ، ثُمَّ كَانَ فِيهَا بَعْدَهُمْ أَجْمَعِينَ أُمَّةُ
الْمُسْلِمِينَ فَصَلَّوْا إِلَى الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَبْوَابَهَا كَانَتْ سَبْعَةً، كُلٌّ
مِنْهَا يُتَّخَذُ عِنْدَهُ عِيدٌ لِهَيْكَلٍ مِنَ الْهَيَاكِلِ السَّبْعَةِ،
فَبَابُ الْقَمَرِ بَابُ السَّلَامَةِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهُ بَابَ
الْفَرَادِيسِ الْمَسْدُودَ، وَلِعُطَارِدَ بَابُ الْفَرَادِيسِ
الْكَبِيرِ، وَلِلزُّهْرَةِ بَابُ تُومَاءَ، وَلِلشَّمْسِ الْبَابُ الشَّرْقِيُّ،
وَلِلْمِرِّيخِ بَابُ الْجَابِيَةِ، وَلِلْمُشْتَرِي بَابُ الْجَابِيَةِ
الصَّغِيرِ، وَلِزُحَلَ بَابُ كَيْسَانَ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَجَبٍ الْفَرْدِ اشْتَهَرَ أَنَّ نَائِبَ حَلَبَ
بَيْبُغَا آرُوسَ اتَّفَقَ مَعَ نَائِبِ طَرَابُلُسَ بَكْلَمُشْ، وَنَائِبِ
حَمَاةَ أَمِيرِ أَحْمَدَ بْنِ مُشِدِّ الشُّرْبَخَانَهْ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ
طَاعَةِ السُّلْطَانِ حَتَّى يُمْسِكَ شَيْخُونُ وَطَازْ، وَهُمَا عَضُدَا
الدَّوْلَةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَعَثُوا إِلَى نَائِبِ دِمَشْقَ
وَهُوَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ الْكَامِلِيُّ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ
ذَلِكَ، وَكَاتَبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ،
وَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَخَافُوا مِنْ غَائِلَةِ هَذَا الْأَمْرِ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَامِنُ
الشَّهْرِ جَمَعَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأُمَرَاءَ عِنْدَهُ بِالْقَصْرِ
الْأَبْلَقِ، وَاسْتَحْلَفَهُمْ بَيْعَةً أُخْرَى لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ
الْمَلِكِ الصَّالِحِ، فَحَلَفُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعَ عَشَرَ
رَجَبٍ جَاءَتِ الْجَبَلِيَّةُ الَّذِينَ جَمَعُوهُمْ مِنَ الْبِقَاعِ لِأَجْلِ
حِفْظِ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ مِنْ قُدُومِ الْعَسَاكِرِ الْحَلَبِيَّةِ، وَمَنْ
مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ طَرَابُلُسَ وَحَمَاةَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْجَبَلِيَّةُ
قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَحَصَلَ بِسَبَبِهِمْ ضَرَرٌ كَثِيرٌ عَلَى
أَهْلِ بِرْزَةَ وَمَا جَاوَرَهُمْ مِنَ الثِّمَارِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي بُكْرَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ رَكِبَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ، وَمَعَهُ الْجُيُوشُ الدِّمَشْقِيَّةُ
قَاصِدِينَ نَاحِيَةَ الْكُسْوَةِ لِئَلَّا يُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ
يَبْقَ فِي الْبَلَدِ مِنَ الْجُنْدِ أَحَدٌ، وَأَصْبَحَ
النَّاسُ وَلَيْسَ لَهُمْ نَائِبٌ وَلَا عَسْكَرٌ، وَخَلَتِ الدِّيَارُ مِنْهُمْ،
وَنَائِبُ الْغَيْبَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ،
وَانْتَقَلَ النَّاسُ مِنَ الْبَسَاتِينِ وَمِنْ أَطْرَافِ الْعُقَيْبَةِ
وَغَيْرِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ نُقِلَتْ حَوَاصِلُهُمْ
وَأَهَالِيهُمْ إِلَى الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَلَمَّا اقْتَرَبَ دُخُولُ الْأَمِيرِ بَيْبُغَا بِمَنْ
مَعَهُ انْزَعَجَ النَّاسُ، وَانْتَقَلَ أَهْلُ الْقُرَى الَّذِينَ فِي طَرِيقِهِ،
وَسَرَى ذَلِكَ إِلَى أَطْرَافِ الصَّالِحِيَّةِ وَالْبَسَاتِينِ وَحَوَاضِرِ
الْبَلَدِ، وَغُلِقَتْ أَبْوَابُ الْبَلَدِ إِلَى مَا يَلِي الْقَلْعَةَ; كَبَابِ
النَّصْرِ، وَبَابِ الْفَرَجِ، وَكَذَا بَابُ الْفَرَادِيسِ، وَخَلَتْ أَكْثَرُ
الْمَحَالِّ مِنْ أَهَالِيهِمْ، وَنَقَلُوا حَوَائِجَهُمْ، وَحَوَاصِلَهُمْ،
وَأَنْعَامَهُمْ إِلَى الْبَلَدِ عَلَى الدَّوَابِّ وَالْحَمَّالِينَ،
وَبَلَغَهُمْ أَنَّ أَطْرَافَ الْجَيْشِ انْتَهَبُوا مَا فِي الْقَرَايَا فِي
طَرِيقِهِمْ مِنَ الشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَبَعْضِ الْأَنْعَامِ لِلْأَكْلِ،
وَرُبَّمَا وَقَعَ فَسَادٌ غَيْرُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ، فَخَافَ
النَّاسُ كَثِيرًا، وَتَشَوَّشَتْ خَوَاطِرُهُمْ.
دُخُولُ بَيْبُغَا آرُوسَ إِلَى دِمَشْقَ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْبُغَا آرُوسَ - نَائِبُ حَلَبَ - إِلَى
دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْحَلَبِيَّةِ،
وَغَيْرِهِمْ، وَفِي صُحْبَتِهِ نَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بَكْلَمُشْ، وَنَائِبُ حَمَاةَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ أَحْمَدُ، وَنَائِبُ صَفَدَ
الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ طَيْبُغَا - يُلَقَّبُ
بُرْنَاقُ - وَكَانَ قَدْ تُوَجَّهُ قَبْلَهُ قِيلَ: بِيَوْمٍ. وَمَعَهُ نُوَّابُ قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ وَغَيْرِهَا، فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَالتُّرْكُمَانِ، فَوَقَفَ فِي سُوقِ الْخَيْلِ مَكَانَ نُوَّابِ السُّلْطَانِ تَحْتَ الْقَلْعَةِ، وَاسْتَعْرَضَ الْجُيُوشَ الَّذِينَ وَفَدُوا مَعَهُ هُنَاكَ، فَدَخَلُوا فِي تَجَمُّلٍ كَثِيرٍ مُلْبَسِينَ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ قَرِيبًا مِنْ سِتِّينَ أَمِيرًا، يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ، عَلَى مَا اسْتَفَاضَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِمَّنْ شَاهَدَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ قَرِيبًا مِنَ الزَّوَالِ إِلَى الْمُخَيَّمِ الَّذِي ضُرِبَ لَهُ قَبْلَ مَسْجِدِ الْقَدْمِ عِنْدَ قُبَّةِ بَيْبُغَا عِنْدَ الْجَدْوَلِ الَّذِي هُنَاكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا هَائِلًا; لِمَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ كَثْرَةِ الْجُيُوشِ وَالْعُدَدِ، وَعَذَرَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ صَاحِبَ دِمَشْقَ فِي ذَهَابِهِ بِمَنْ مَعَهُ لِئَلَّا يُقَاتِلَ هَؤُلَاءِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيَاجِي - يَطْلُبُ مِنْهُ حَوَاصِلَ أَرْغُونَ الَّتِي عِنْدَهُ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَقَدْ حَصَّنَ الْقَلْعَةَ، وَسَتَرَهَا، وَأَرْصَدَ فِيهَا الرِّجَالَ، وَالرُّمَاةَ، وَالْعُدَدَ، وَهَيَّأَ بَعْضَ الْمَجَانِيقِ لِيَبْعُدَ بِهَا فَوْقَ الْأَبْرِجَةِ، وَأَمَرَ أَهْلَ الْبَلَدِ أَنْ لَا يَفْتَحُوا الدَّكَاكِينَ، وَيُغْلِقُوا الْأَسْوَاقَ، وَجَعَلَ
يُغْلِقُ أَبْوَابَ الْبَلَدِ إِلَّا بَابًا أَوْ بَابَيْنِ
مِنْهَا، وَاشْتَدَّ حَنَقُ الْعَسْكَرِ عَلَيْهِ، وَهَمُّوا بِأَشْيَاءَ
كَثِيرَةٍ مِنَ الشَّرِّ، ثُمَّ يَرَعَوُونَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ
الْمُسْلِمُ، غَيْرَ أَنَّ أَقْيَالَ الْعَسْكَرِ وَأَطْرَافَهُ قَدْ عَاثُوا
فِيمَا جَاوَرُوهُ مِنَ الْقَرَايَا، وَالْبَسَاتِينِ، وَالْكُرُومِ،
وَالزُّرُوعِ، فَيَأْخُذُونَ مَا يَأْكُلُونَ وَتَأْكُلُ دَوَابُّهُمْ، وَأَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَنُهِبَتْ قَرَايَا
كَثِيرَةٌ، وَفَجَرُوا بِنِسَاءٍ وَبَنَاتٍ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ، وَأَمَّا
التُّجَّارُ وَمَنْ يُذْكَرُ بِكَثْرَةِ مَالٍ فَأَكْثَرُهُمْ مُخْتَفٍ لَا
يَظْهَرُ لِمَا يَخْشَى مِنَ الْمُصَادَرَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُحْسِنَ
عَاقِبَتَهُمْ.
وَاسْتَهَلَّ شَهْرُ شَعْبَانَ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَأَهْلُ
الْقَرَايَا وَالْحَوَاضِرِ فِي نَقْلَةِ أَثَاثِهِمْ، وَأَبْقَارِهِمْ،
وَدَوَابِّهِمْ، وَأَبْنَائِهِمْ، وَنِسَائِهِمْ، وَأَكْثَرُ أَبْوَابِ الْبَلَدِ
مُغْلَقَةٌ سِوَى بَابِي الْفَرَادِيسِ، وَالْجَابِيَةِ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ
نَسْمَعُ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنَ النَّهْبِ لِلْقَرَايَا، وَالْحَوَاضِرِ،
حَتَّى انْتَقَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الصَّالِحِيَّةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ،
وَكَذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعُقَيْبَةِ، وَسَائِرِ حَوَاضِرِ الْبَلَدِ، فَنَزَلُوا
عِنْدَ مَعَارِفِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَلَ عَلَى قَارِعَةِ
الطَّرِيقِ بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ
أَدْرَكُوا زَمَنَ قَازَانَ: إِنَّ هَذَا الْوَقْتَ كَانَ أَصْعَبَ مِنْ ذَلِكَ;
لِمَا تَرَكَ النَّاسُ مِنْ وَرَائِهِمْ مِنَ الْغَلَّاتِ، وَالثِّمَارِ الَّتِي
هِيَ عُمْدَةُ قُوتِهِمْ فِي سَنَتِهِمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْبَلَدِ فَفِي قَلَقٍ
شَدِيدٍ أَيْضًا لِمَا يَبْلُغُهُمْ
فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَرَاجِيفِ أَنَّهُمْ عَلَى عَزْمِ نَهْبِ الْبَلَدِ، فَجَعَلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُودِعُونَ عَزِيزَ مَا يَمْلِكُونَ عِنْدَ مَنْ يَأْمَنُونَ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ جَدَّا، وَخَافَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْعَارِ; لِمَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ مِنَ الْفُجُورِ بِالنِّسَاءِ، وَجَعَلُوا يَدْعُونَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ عَلَيْهِمْ، يُصَرِّحُونَ بِأَسْمَائِهِمْ، وَيُعَقِّبُونَ بِأَسْمَاءِ أُمَرَائِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَنَائِبُ الْقَلْعَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَيَاجِي النَّاصِرِيُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُسَكِّنُ جَأْشَ النَّاسِ، وَيُقَوِّي عَزْمَهُمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِخُرُوجِ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ صُحْبَةَ السُّلْطَانِ إِلَى بِلَادِ غَزَّةَ حَيْثُ الْجَيْشُ الدِّمَشْقِيُّ، لِيَجِيئُوا كُلُّهُمْ فِي خِدْمَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَدُقُّ الْبَشَائِرُ فَيَفْرَحُ النَّاسُ، ثُمَّ تَسْكُنُ الْأَخْبَارُ، وَتَبْطُلُ الرِّوَايَاتُ فَتَقْلَقُ، وَيَخْرُجُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَسَاعَةٍ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَوَعْدٍ، وَهَيْئَاتٍ حَسَنَةٍ، ثُمَّ جَاءَ السُّلْطَانُ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ تَرَجَّلَ الْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ حِينِ بُسِطَ لَهُ عِنْدَ مَسْجِدِ الذِّبَّانِ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَهُوَ لَابِسٌ قَبَاءً أَحْمَرَ لَهُ قِيمَتُهُ، عَلَى فَرَسٍ أَصِيلَةٍ مُؤَدَّبَةٍ مُعَلَّمَةٍ الْمَشْيَ عَلَى الْقَوْسِ لَا تَحِيدُ عَنْهُ، وَهُوَ حَسَنُ الصُّورَةِ، مَقْبُولُ الطَّلْعَةِ، عَلَيْهِ بَهَاءُ الْمَمْلَكَةِ وَالرِّيَاسَةِ، وَالْخَزُّ فَوْقَ رَأْسِهِ يَحْمِلُهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الْأَكَابِرِ، وَكُلَّمَا عَايَنَهُ مَنْ عَايَنَهُ مِنَ النَّاسِ يَبْتَلِهُونَ بِالدُّعَاءِ بِأَصْوَاتٍ عَالِيَةٍ، وَالنِّسَاءُ بِالزَّغْرَطَةِ، وَفَرِحَ النَّاسُ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَأَمْرًا حَمِيدًا،
جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَارَكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَنَزَلَ بِالْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ، وَقَدْ قَدِمَ مَعَهُ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ أَبُو الْفَتْحِ
بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ
بْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، وَكَانَ رَاكِبًا
إِلَى جَانِبِهِ مِنْ نَاحِيَةِ الْيَسَارِ، وَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ
الدِّمَاغِيَّةِ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الْيَوْمِ سَائِرُ الْأُمَرَاءِ مَعَ نَائِبِ
الشَّامِ، وَمُقَدَّمُهُمْ طَازْ، وَشَيْخُونُ - فِي طَلَبِ بَيْبُغَا، وَمِنْ
مَعَهُ مِنَ الْبُغَاةِ الْمُفْسِدِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِيهِ حَضَرَ السُّلْطَانُ - أَيَّدَهُ اللَّهُ -
إِلَى الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَصَلَّى فِيهِ الْجُمُعَةَ بِالْمَشْهَدِ الَّذِي
يُصَلِّي فِيهِ نُوَّابُ السُّلْطَانِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - فَكَثُرَ الدُّعَاءُ
وَالْمَحَبَّةُ لَهُ ذَاهِبًا وَآيِبًا - تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُ - وَكَذَلِكَ
فَعَلَ فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَهِيَ تَاسِعُ الشَّهْرِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِهِ اجْتَمَعْنَا - يَقُولُ الشَّيْخُ عِمَادُ
الدِّينِ بْنُ كَثِيرٍ الْمُصَنِّفُ، رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْخَلِيفَةِ
الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَبِي الْفَتْحِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُسْتَكْفِي
بِاللَّهِ أَبِي الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَاكِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، وَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْمَدْرَسَةِ
الدِّمَاغِيَّةِ دَاخِلَ بَابِ الْفَرَجِ، وَقَرَأَتُ عِنْدَهُ جُزْءًا فِيهِ مَا
رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ فِي
" مُسْنَدِهِ "، وَذَلِكَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ
الضِّيَاءِ الْحَمَوِيِّ بِسَمَاعِهِ مِنَ ابْنِ الْبُخَارِيِّ وَزَيْنَبَ بِنْتِ
مَكِّيٍّ، عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنِ ابْنِ الْمُذْهَبِ، عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ -
فَذَكَرَهُمَا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ شَابٌّ حَسَنُ الشَّكْلِ، مَلِيحُ
الْكَلَامِ، مُتَوَاضِعٌ، جَيِّدُ الْفَهْمِ، حُلْوُ الْعِبَارَةِ، رَحِمَ اللَّهُ
سَلَفَهُ.
وَفِي رَابِعَ عَشَرَهُ قَدِمَ الْبَرِيدُ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ بِسُيُوفِ
الْأُمَرَاءِ الْمَمْسُوكِينَ مِنْ أَصْحَابِ بَيْبُغَا. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
خَامِسَ عَشَرَهُ وَقْتَ الْعَصْرِ نَزَلَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ الصَّالِحُ مِنَ
الطَّارِمَةِ إِلَى الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ فِي أُبَّهَةِ الْمَمْلَكَةِ، وَلَمْ
يَحْضُرْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى الصَّلَاةِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ
بِالْقَصْرِ الْمَذْكُورِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَاكِرِ النَّهَارِ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ،
وَطَازْ بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْعَسَاكِرِ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ، وَقَدْ فَاتَ
تَدَارُكُ بَيْبُغَا وَأَصْحَابِهِ; لِدُخُولِهِمْ بِلَادَ ابْنِ دُلْغَادِرِ
التُّرْكُمَانِيِّ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُمْ، وَهُمُ الْقَلِيلُ، وَقَدْ أُسِرَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ، وَهُمْ فِي الْقُيُودِ
وَالسَّلَاسِلِ صُحْبَةَ الْأَمِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَدَخَلَا عَلَى
السُّلْطَانِ - وَهُوَ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ - فَسَلَّمَا عَلَيْهِ، وَقَبَّلَا
الْأَرْضَ، وَهَنَّآهُ بِالْعِيدِ، وَنَزَلَ طَازْ بِدَارِ أَيْتَمُشْ بِالشَّرْقِ
الشَّمَالِيِّ، وَنَزَلَ شَيْخُونُ بِدَارِ إِيَاسٍ الْحَاجِبِ بِالْقُرْبِ مِنَ
الظَّاهِرِيَّةِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَنَزَلَ بَقِيَّةُ الْجَيْشِ فِي أَرْجَاءِ
الْبَلَدِ، وَأَمَّا الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ فَأَقَامَ بِحَلَبَ
نَائِبًا بِهَا عَنْ سُؤَالِهِ إِلَى مَا ذَكَرَ، وَخُوطِبَ فِي تَقْلِيدِهِ
بِأَلْقَابٍ هَائِلَةٍ، وَلَبِسَ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَعُظِّمَ تَعْظِيمًا
زَائِدًا; لِيَكُونَ هُنَاكَ أَلْبًا عَلَى بَيْبُغَا وَأَصْحَابِهِ لِشِدَّةِ مَا
بَيْنَهُمَا
مِنَ الْعَدَاوَةِ، ثُمَّ صَلَّى السُّلْطَانُ بِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْمِصْرِيِّينَ، وَمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ مِنَ الشَّامِيِّينَ صَلَاةَ
عِيدِ الْفِطْرِ بِالْمَيْدَانِ الْأَخْضَرِ، وَخَطَبَ بِهِمُ الْقَاضِي تَاجُ
الدِّينِ الْمُنَاوِيُّ الْمِصْرِيُّ - قَاضِي الْعَسْكَرِ الْمِصْرِيِّ -
بِمَرْسُومِ السُّلْطَانِ وَذَوِيهِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ.
قَتْلُ الْأُمَرَاءِ السَّبْعَةِ مِنْ أَصْحَابِ بَيْبُغَا
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ شَوَّالٍ قَبْلَ الْعَصْرِ رَكِبَ السُّلْطَانُ
مِنَ الْقَصْرِ إِلَى الطَّارِمَةِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْقُبَّةُ وَالْجِتْرُ،
يَحْمِلُهُمَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ، فَجَلَسَ فِي
الطَّارِمَةِ، وَوَقَفَ الْجَيْشُ بَيْنَ يَدَيْهِ تَحْتَ الْقَلْعَةِ،
وَأَحْضَرُوا الْأُمَرَاءَ الَّذِينَ قَدِمُوا بِهِمْ مِنْ بِلَادِ حَلَبَ،
فَجَعَلُوا يُوقِفُونَ الْأَمِيرَ مِنْهُمْ، ثُمَّ يُشَاوِرُونَ عَلَيْهِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ يُشْفَعُ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمَرُ بِتَوْسِيطِهِ،
فَوُسِّطَ سَبْعَةٌ: خَمْسُ طَبْلَخَانَاهْ وَمُقَدَّمَا أَلْفٍ، مِنْهُمْ نَائِبُ
صَفَدَ بُرْنَاقُ، وَشُفِعَ فِي الْبَاقِينَ، فَرُدُّوا إِلَى السِّجْنِ،
وَكَانُوا خَمْسَةَ آخُورٍ. وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسِهِ مُسِكَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ دِمَشْقَ ; سَبْعَةٌ، وَتَحَوَّلَتْ دُوَلٌ كَثِيرَةٌ،
وَتَأَمَّرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَجْنَادِ وَغَيْرِهِمْ.
خُرُوجُ السُّلْطَانِ مِنْ دِمَشْقَ مُتَوَجِّهًا إِلَى بِلَادِ
مِصْرَ
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَابِعِ شَوَّالٍ رَكِبَ السُّلْطَانُ فِي جَيْشِهِ مِنَ
الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ قَاصِدًا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ،
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابِ النَّصْرِ تَرَجَّلَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ بَيْنَ
يَدَيْهِ مُشَاةً، وَذَلِكَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ كَثِيرِ الْوَحْلِ، فَصَلَّى
بِالْمَقْصُورَةِ إِلَى جَانِبِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ، وَلَيْسَ مَعَهُ فِي
الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَحَدٌ، بَلْ بَقِيَّةُ الْأُمَرَاءِ خَلْفَهُ صُفُوفٌ، فَسَمِعَ
خُطْبَةَ الْخَطِيبِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قُرِئَ كِتَابٌ بِإِطْلَاقِ
أَعْشَارِ الْأَوْقَافِ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ بَابِ
النَّصْرِ، فَرَكِبَ الْجَيْشُ، وَاسْتَقَلَّ ذَاهِبًا نَحْوَ الْكُسْوَةِ بِمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ الْمَنْصُورَةِ، مَصْحُوبِينَ بِالسَّلَامَةِ
وَالْعَافِيَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ وَلَيْسَ بِدِمَشْقَ
نَائِبُ سَلْطَنَةٍ، وَبِهَا الْأَمِيرُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْخَطِيرِ هُوَ
الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ نَائِبَ غَيْبَةٍ، حَتَّى يَقْدَمَ إِلَيْهَا
نَائِبُهَا وَيَتَعَيَّنَ لَهَا، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِوُصُولِ السُّلْطَانِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ سَالِمًا، وَدَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
فِي أَوَائِلِ شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَخَلَعَ عَلَى
الْأُمَرَاءِ كُلِّهِمْ، وَلَبِسَ خِلْعَةَ نِيَابَةِ الشَّامِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ الْمَارِدَانِيُّ، وَمُسِكَ الْأَمِيرُ عَلَمُ الدِّينِ بْنُ زُنْبُورٍ،
وَتَوْلِيَةِ الْوِزَارَةِ الصَّاحِبَ مُوَفَّقَ الدِّينِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِ ذِي الْحِجَّةِ دَخَلَ الْأَمِيرُ
عَلَاءُ الدِّينِ عَلَى الْجَمَدَارِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى
دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ فِي أُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ، وَمَوْكِبٍ حَافِلٍ
مُسْتَوْلِيًا نِيَابَةً بِهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأُمَرَاءُ عَلَى الْعَادَةِ،
فَوَقَفَ عِنْدَ تُرْبَةِ بَهَادُرَآصْ حَتَّى اسْتَعْرَضَ عَلَيْهِ الْجَيْشُ،
فَلَحِقَهُمْ، فَدَخَلَ دَارَ السَّعَادَةِ فَنَزَلَهَا عَلَى عَادَةِ النُّوَّابِ
قَبْلَهُ،
جَعَلَهُ اللَّهُ وَجْهًا مُبَارَكًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثَ عَشَرَهُ قَدِمَ دَوَادَارُ السُّلْطَانِ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فَنَزَلَ
الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ، وَمِنْ عَزْمِهِ الذَّهَابُ إِلَى الْبِلَادِ
الْحَلَبِيَّةِ لِيُجَهِّزَ الْجُيُوشَ نَحْوَ بَيْبُغَا وَأَصْحَابِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَالْمَمْلَكَةِ الْحَلَبِيَّةِ،
وَمَا وَالَاهَا، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَلَاحُ
الدِّينِ صَالِحٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْلَايْ، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِمْ فِي تَدْبِيرِ
الْمَمْلَكَةِ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ; سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ، وَسَيْفُ
الدِّينِ طَازْ، وَسَيْفُ الدِّينِ صَرْغَتْمُشُ النَّاصِرِيُّونَ، وَقُضَاةُ
الْقُضَاةِ، وَكَاتِبُ السِّرِّ هُنَاكَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ، وَنَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَرْغُونُ
الْكَامِلِيُّ ; لِأَجْلِ مُقَاتَلَةِ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ;
بَيْبُغَا، وَأَمِيرُ أَحْمَدَ، وَبَكْلَمُشُ، الَّذِينَ فَعَلُوا مَا ذَكَرْنَا
فِي رَجَبٍ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ لَجَئُوا إِلَى بِلَادِ الْأَبُلُسْتَيْنِ
فِي خَفَارَةِ ابْنِ دُلْغَادِرِ التُّرْكُمَانِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ احْتَالَ
عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفِهِ مِنْ صَاحِبِ مِصْرَ، وَأَسْلَمَهُمْ إِلَى قَبْضَةِ
نَائِبِ حَلَبَ الْمَذْكُورِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَيْتَمُشُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ كَمَا
ذَكَرْنَا، ثُمَّ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى اسْتُنِيبَ فِي
طَرَابُلُسَ حِينَ كَانَ السُّلْطَانُ بِدِمَشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ
الْأُمَرَاءَ الثَّلَاثَةَ بَيْبُغَا وَبَكْلَمُشَ وَأَمِيرَ أَحْمَدَ قَدْ
حَصَلُوا فِي قَبْضَةِ نَائِبِ حَلَبَ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَرْغُونَ،
وَهُمْ مَسْجُونُونَ بِقَلْعَتِهَا، يُنْتَظَرُ مَا يُرْسَمُ بِهِ فِيهِمْ، وَقَدْ
فَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ
الْأَمِيرُ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ الدَّوَادَارَ عَائِدًا مِنَ الْبِلَادِ
الْحَلَبِيَّةِ، وَفِي صُحْبَتِهِ رَأْسُ بَيْبُغَا الْبَاغِي، أَمْكَنَ اللَّهُ
مِنْهُ بَعْدَ وُصُولِ صَاحِبَيْهِ بَكْلَمُشِ الَّذِي كَانَ نَائِبًا
بِطَرَابُلُسَ، وَأَمِيرَ أَحْمَدَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ حَمَاةَ، فَقُطِعَتْ
رُءُوسُهُمَا بِحَلَبَ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِهَا الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
أَرْغُونَ الْكَامِلِيِّ، وَسُيِّرَتْ إِلَى مِصْرَ، وَلَمَّا وَصَلَ بَيْبُغَا
بَعْدَهُمَا فُعِلَ بِهِ كَفِعْلِهِمَا جَهْرَةً بَعْدَ الْعَصْرِ بِسُوقِ
الْخَيْلِ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَالْجَيْشِ بِرُمَّتِهِ
وَالْعَامَّةِ عَلَى الْأَحَاجِيرِ يَتَفَرَّجُونَ، وَيَفْرَحُونَ بِمَصْرَعِهِ،
وَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ أُقِيمَتْ جُمُعَةٌ جَدِيدَةٌ بِمَحَلَّةِ الشَّاغُورِ بِمَسْجِدٍ
هُنَاكَ يُقَالُ لَهُ: مَسْجِدُ الْمَزَازِ، وَخَطَبَ فِيهِ جَمَالُ الدِّينِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الشَّيْخِ شَمْسُ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ
الْجَوْزِيَّةِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ، فَأَفْضَى الْحَالُ أَنَّ
أَهْلَ الْمَحَلَّةِ ذَهَبُوا إِلَى سُوقِ الْخَيْلِ يَوْمَ مَوْكِبٍ، وَحَمَلُوا
سَنَاجِقَ خَلِيفَتِيَّةً مِنْ جَامِعِهِمْ وَمَصَاحِفَ، وَاشْتَمَلُوا إِلَى
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَسَأَلُوا مِنْهُ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْخُطْبَةُ
عِنْدَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، ثُمَّ
وَقَعَ نِزَاعٌ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، ثُمَّ حَكَمَ الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ لَهُمْ
بِالِاسْتِمْرَارِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعِ رَبِيعٍ الْآخِرِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ
سَيْفُ الدِّينِ أُلْجَيْبُغَا الْعَادِلِيُّ، وَدُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الَّتِي
كَانَ أَنْشَأَهَا قَدِيمًا ظَاهِرَ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ
تُعْرَفُ بِهِ، وَكَانَ لَهُ فِي الْإِمْرَةِ قَرِيبًا مِنْ سِتِّينَ سَنَةً،
وَقَدْ كَانَ أَصَابَهُ فِي نَوْبَةِ أَرْغُونَ شَاهْ وَقَضِيَّتِهِ ضَرْبَةٌ
أَصَابَتْ يَدَهُ الْيُمْنَى، وَاسْتَمَرَّ مَعَ ذَلِكَ عَلَى إِمْرَتِهِ
وَتَقْدِمَتِهُ مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ذِكْرُ أَمْرٍ غَرِيبٍ جِدًّا
لَمَّا ذَهَبْتُ لِتَهْنِئَةِ الْأَمِيرِ نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ الْأَقْوَشِ
بِنِيَابَةِ بِعْلَبَكَّ وَجَدْتُ هُنَالِكَ
شَابًّا، فَذَكَرَ لِي مَنْ حَضَرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي كَانَ أُنْثَى ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ ذَكَرٌ، وَقَدْ كَانَ أَمْرُهُ اشْتَهَرَ بِبِلَادِ طَرَابُلُسَ، وَشَاعَ بَيْنَ النَّاسِ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَعَلَيْهِ قُبَّعَةٌ تُرْكِيَّةٌ اسْتَدْعَيْتُهُ إِلَيَّ، وَسَأَلْتُهُ بِحَضْرَةِ مَنْ حَضَرَ، فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ كَانَ أَمْرُكَ ؟ فَاسْتَحْيَى وَعَلَاهُ خَجَلٌ يُشْبِهُ النِّسَاءَ، فَقَالَ: كُنْتُ امْرَأَةً مُدَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَزَوَّجُونِي بِثَلَاثَةِ أَزْوَاجٍ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيَّ، وَكُلُّهُمْ يُطَلِّقُ، ثُمَّ اعْتَرَضَنِي حَالٌ غَرِيبٌ، فَغَارَتْ ثَدْيَايَ وَصَغُرَتْ، وَجَعَلَ النَّوْمُ يَعْتَرِينِي لَيْلًا وَنَهَارًا، ثُمَّ جَعَلَ يَخْرُجُ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْجِ شَيْءٌ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَيَتَزَايَدُ حَتَّى بَرَزَ شِبْهُ ذَكَرٍ وَأُنْثَيَانِ. فَسَأَلَتْهُ: أَهْوَ كَبِيرٌ أَمْ صَغِيرٌ ؟ فَاسْتَحْيَى ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَغِيرٌ بِقَدْرِ الْأُصْبُعِ. فَسَأَلَتْهُ: هَلِ احْتَلَمَ ؟ فَذَكَرَ أَنَّهُ احْتَلَمَ مَرَّتَيْنِ مُنْذُ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ. وَكَانَ لَهُ قَرِيبًا مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى حِينِ أَخْبَرَنِي، وَذَكَرَ أَنَّهُ يُحْسِنُ صَنْعَةَ النِّسَاءِ كُلَّهَا مِنَ الْغَزَلِ، وَالتَّطْرِيزِ، وَالزَّرْكَاشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا كَانَ اسْمُكَ وَأَنْتَ عَلَى صِفَةِ النِّسَاءِ ؟ فَقَالَ: نَفِيسَةُ. فَقُلْتُ: وَالْيَوْمَ ؟ فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ لَهُ هَذَا الْحَالُ كَتَمَهُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ عَزَمُوا عَلَى تَزْوِيجِهِ بِرَابِعٍ، فَقَالَ لِأُمِّهِ: إِنَّ الْأَمْرَ مَا صَفَّتْهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَلَمَّا اطَّلَعَ أَهْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَعْلَمُوا بِهِ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ هُنَاكَ، وَكُتِبَ بِذَلِكَ مَحْضَرًا، وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ، فَقَدِمَ دِمَشْقَ، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ بِدِمَشْقَ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ كَمَا أَخْبَرَنِي، فَأَخَذَهُ الْحَاجِبُ سَيْفُ الدِّينِ كُجْكُنُ بْنُ الْأَقْوَشِ عِنْدَهُ، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْأَجْنَادِ، وَهُوَ شَابٌّ حَسَنٌ، عَلَى وَجْهِهِ وَسِمَتِهِ وَمِشْيَتِهِ وَحَدِيثِهِ أُنُوثَةُ النِّسَاءِ، فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يَشَاءُ، فَهَذَا أَمُرٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ فِي الْعَالَمِ إِلَّا قَلِيلًا جِدًّا. وَعِنْدِي أَنَّ ذَكَرَهُ كَانَ
غَائِرًا فِي جُورَةٍ ظَنُّوهَا فَرَجًا، ثُمَّ لَمَّا بَلَغَ
ظَهَرَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى تَكَامَلَ ظُهُورُهُ، فَتَبَيَّنُوا أَنَّهُ
كَانَ ذَكَرًا، وَذَكَرَ لِي أَنَّ ذَكَرَهُ بَرَزَ مَخْتُونًا، فَسُمِّيَ خِتَانَ
الْقَمَرِ، فَهَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا، وَاللَّهَ أَعْلَمُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسِ شَهْرِ رَجَبٍ قَدِمَ الْأَمِيرُ عِزُّ
الدِّينِ طُقْطَايْ الدَّوَادَارَ مِنَ الدِّيَارِ الْحَلَبِيَّةِ، وَخَبَّرَ
عَمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ الْحَلَبِيَّةُ مِنْ ذَهَابِهِمْ مَعَ
نَائِبِهِمْ وَنُوَّابِ تِلْكَ الْحُصُونِ وَعَسَاكِرَ خَلْفَ ابْنِ دُلْغَادِرِ
التُّرْكُمَانِيِّ - الَّذِي كَانَ أَعَانَ بَيْبُغَا وَذَوِيهِ عَلَى خُرُوجِهِ
عَلَى السُّلْطَانِ، وَقَدِمَ مَعَهُ إِلَى دِمَشْقَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا
تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ - وَأَنَّهُمْ نَهَبُوا
أَمْوَالَهُ، وَحَوَاصِلَهُ، وَأَسَرُوا خَلْقًا مِنْ بَنِيهِ وَذَوِيِهِ
وَحَرِيمِهِ، وَأَنَّ الْجَيْشَ أَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَغْنَامِ،
وَالْأَبْقَارِ، وَالرَّقِيقِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَنَّهُ لَجَأَ إِلَى ابْنِ أَرِتْنَا، فَاحْتَاطَ عَلَيْهِ وَاعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ،
وَرَاسَلَ السُّلْطَانَ بِأَمْرِهِ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِرَاحَةِ الْجَيْشِ
الْحَلَبِيِّ وَسَلَامَتِهِ بَعْدَمَا قَاسَوْا شَدِيدًا وَتَعَبًا كَثِيرًا.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثَ عَشَرَهُ كَانَ قُدُومُ الْأُمَرَاءِ
الَّذِينَ كَانُوا مَسْجُونِينَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مِنْ لَدُنْ عَوْدِ
السُّلْطَانِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، مِمَّنْ كَانَ اتَّهَمَ
بِمُوَالَاةِ بَيْبُغَا أَوْ خِدْمَتِهِ، كَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ مَلِكِ
آصْ، وَعَلَاءِ الدِّينِ عَلِيٍّ الْبَشْمَقْدَارِ، وَسَاطَلَمِشَ الْجَلَالِيِّ
وَمَنْ مَعَهُمْ.
وَفِي أَوَّلِ شَهْرِ رَمَضَانَ اتُّفِقَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ
الْمُفْتِينَ أَفْتَوْا بِأَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمَا وَجْهَانِ
لِأَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ جَوَازُ اسْتِعَادَةِ مَا اسْتَهْدَمَ
مِنَ الْكَنَائِسِ، فَتَغَضَّبَ عَلَيْهِمْ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ
السُّبْكِيُّ، فَقَرَّعَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْإِفْتَاءِ،
وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ سَمَّاهُ
" الدَّسَائِسَ فِي الْكَنَائِسِ ".
وَفِي خَامِسَ عَشَرَيْ رَمَضَانَ قُدِمَ بِالْأَمِيرِ ابْنِ دُلْغَادِرَ
التُّرْكُمَانِيِّ الَّذِي كَانَ مُؤَازِرًا بَيْبُغَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي
عَلَى تِلْكَ الْأَفَاعِيلِ الْقَبِيحَةِ، وَهُوَ مُضَيَّقٌ عَلَيْهِ، فَأُحْضِرَ
بَيْنَ يَدَيِ النَّائِبِ، ثُمَّ أَوْدِعَ الْقَلْعَةَ الْمَنْصُورَةَ فِي هَذَا
الْيَوْمِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السُّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَالْحَرَمَيْنِ
الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا وَالَاهُمَا مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا -
الْمَلِكُ الصَّالِحُ صَلَاحُ الدِّينِ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَهُوَ ابْنُ بِنْتِ
تَنْكِزَ نَائِبِ الشَّامِ - وَكَانَ فِي الدَّوْلَةِ النَّاصِرِيَّةِ -
وَنَائِبُهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُبْلَايْ
النَّاصِرِيُّ، وَوَزِيرُهُ الْقَاضِي مُوَفَّقُ الدِّينِ، وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَمِنْهُمْ قَاضِي الْقُضَاةِ عِزُّ
الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ، وَقَدْ جَاوَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي
الْحِجَازِ الشَّرِيفِ، وَالْقَاضِي تَاجُ الدِّينِ الْمَنَاوِيُّ يَسُدُّ
الْمَنْصِبَ عَنْهُ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ
اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، وَمُدَبِّرُوا الْمَمْلَكَةِ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ;
سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ، وَطَازْ، وَصَرْغَتْمُشُ النَّاصِرِيُّونَ،
وَالدَّوَادَارُ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ النَّاصِرِيُّ.
وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ شَيْخُونُ فِي طَلَبِ
الْأَحْدَبِ مِنْ مُدَّةِ
شَهْرٍ أَوْ قَرِيبٍ. وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ
الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيُّ الْمَارِدَانِيُّ، وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَاظِرُ الدَّوَاوِينِ الصَّاحِبُ
شَمْسُ الدِّينِ مُوسَى بْنُ التَّاجِ إِسْحَاقَ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي
نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الشَّرَفِ يَعْقُوبَ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ جَمَالُ الدِّينِ
مَحْمُودُ بْنُ جُمْلَةَ، وَمُحْتَسِبُهُ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ
الْأَنْصَارِيُّ، قَرِيبُ الشَّيْخِ بَهَاءِ الدِّينِ ابْنِ إِمَامِ الْمَشْهَدِ،
وَهُوَ مُدَرِّسُ الْأَمِينِيَّةِ مَكَانَهُ أَيْضًا.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ مُغْلَطَايْ
الَّذِي كَانَ مَسْجُونًا بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ، وَقَدْ
كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ هُوَ الدَّوْلَةَ، وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ إِلَى الشَّامِ
لِيَكُونَ عِنْدَ أَيْتَمُشَ نَائِبَ طَرَابُلُسَ، وَأَمَّا مَنْجَكُ الَّذِي
كَانَ وَزِيرَهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَكَانَ مُعْتَقَلًا
بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَعَ مُغْلَطَايْ - فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى صَفَدَ مُقِيمًا
بِهَا بَطَّالًا، كَمَا أَنَّ مُغْلَطَايْ أُمِرَ بِالْمُقَامِ بِطَرَابُلُسَ
بَطَّالًا أَيْضًا إِلَى حِينِ يَحْكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
نَادِرَةٌ مِنَ الْغَرَائِبِ
فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى اجْتَازَ رَجُلٌ
مِنَ الرَّوَافِضِ مِنْ أَهْلِ الْحِلَّةِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ بَعْدَ صَلَاةِ
الْعَصْرِ، وَهُوَ يَسُبُّ أَوَّلَ مَنْ ظَلَمَ آلَ
مُحَمَّدٍ، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ، وَلَمْ يُصَلِّ
مَعَ النَّاسِ، وَلَا صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ الْحَاضِرَةِ، بَلِ النَّاسُ فِي
الصَّلَاةِ وَهُوَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغْنَا
مِنَ الصَّلَاةِ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ، فَأَخَذُوهُ وَإِذَا قَاضِي
الْقُضَاةِ الشَّافِعِيُّ فِي تِلْكَ الْجِنَازَةِ حَاضِرٌ مَعَ النَّاسِ،
فَجِئْتُ إِلَيْهِ، وَاسْتَنْطَقْتُهُ: مَنِ الَّذِي ظَلَمَ آلَ مُحَمَّدٍ ؟
فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. ثُمَّ قَالَ جَهْرَةً وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ:
لَعَنَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَيَزِيدَ.
فَأَعَادَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَأَمَرَ بِهِ الْحَاكِمُ إِلَى السِّجْنِ، ثُمَّ
اسْتَحْضَرَهُ الْمَالِكِيُّ وَجَلَدَهُ بِالسِّيَاطِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ
يَصْرُخُ بِالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ
شَقِيٍّ، وَاسْمُ هَذَا اللَّعِينِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ حُسَيْنِ بْنِ كَثِيرٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ
يَوْمُ الْخَمِيسِ تَاسِعَ عَشَرَهُ عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ بِدَارِ السَّعَادَةِ،
وَحَضَرَ الْقُضَاةُ الْأَرْبَعَةُ، وَطُلِبَ إِلَى هُنَالِكَ، فَقَدَّرَ اللَّهُ
أَنْ حَكَمَ نَائِبُ الْمَالِكِيِّ بِقَتْلِهِ، فَأُخِذَ سَرِيعًا، فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ تَحْتَ الْقَلْعَةِ، وَحَرَّقَهُ الْعَامَّةُ، وَطَافُوا بِرَأْسِهِ
الْبَلَدَ، وَنَادَوْا عَلَيْهِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَاظَرْتُ هَذَا الْجَاهِلَ
بِدَارِ الْقَاضِي الْمَالِكِيِّ، وَإِذَا عِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُهُ
الرَّافِضَةُ الْغُلَاةُ، وَقَدْ تَلَقَّى عَنْ أَصْحَابِ ابْنِ مُطَهَّرٍ
أَشْيَاءَ فِي الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ.
وَوَرَدَ الْكِتَابُ بِإِلْزَامِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالشُّرُوطِ الْعُمَرِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ عَشَرَ رَجَبٍ الْفَرْدِ قُرِئَ بِجَامِعِ
دِمَشْقَ بِالْمَقْصُورَةِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، وَأُمَرَاءِ
الْأَعْرَابِ، وَكِبَارِ الْأُمَرَاءِ، وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ
وَالْعَامَّةِ، كِتَابُ السُّلْطَانِ بِإِلْزَامِ أَهْلِ
الذِّمَّةِ بِالشُّرُوطِ الْعُمَرِيَّةِ وَزِيَادَاتٍ أُخَرَ;
مِنْهَا أَنْ لَا يُسْتَخْدَمُوا فِي شَيْءٍ مِنَ الدَّوَاوِينِ السُّلْطَانِيَّةِ
وَالْأُمَرَاءِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَأَنْ لَا تَزِيدَ عِمَامَةُ
أَحَدِهِمْ عَلَى عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَلَا يَرْكَبُوا الْخَيْلَ وَلَا
الْبِغَالَ، وَلَكِنَّ الْحَمِيرَ بِالْأُكُفِّ عَرْضًا، وَأَنْ لَا يَدْخُلُوا
إِلَّا بِالْعَلَامَاتِ مِنْ جَرَسٍ، أَوْ بِخَاتَمِ نُحَاسٍ أَصْفَرَ أَوْ
رَصَاصٍ، وَلَا تَدْخُلُ نِسَاؤُهُمْ مَعَ الْمُسَلَّمَاتِ الْحَمَّامَاتِ،
وَلْيَكُنْ لَهُنَّ حَمَّامَاتٌ تَخْتَصُّ بِهِنَّ، وَأَنْ يَكُونَ إِزَارُ
النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ كَتَّانٍ أَزْرَقَ، وَالْيَهُودِيَّةِ مِنْ كَتَّانٍ
أَصْفَرَ، وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ خُفَّيْهَا أَسُودَ وَالْآخَرُ أَبْيَضَ، وَأَنْ
يُحْمَلَ حُكْمُ مَوَارِيثِهِمْ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَاحْتَرَقَتْ بَاشُورَةٌ بِبَابِ الْجَابِيَةِ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ
الْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَعَدِمَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ
الْأُطْعِمَاتِ وَالْحَوَاصِلَ النَّافِعَةَ مِنَ الْبَابِ الْجَوَّانِيِّ إِلَى
الْبَابِ الْبَرَّانِيِّ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ شَهْرِ رَمَضَانَ عَمِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ
الْبَارِعُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ النَّقَّاشِ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ - وَرَدَ
دِمَشْقَ - بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ تُجَاهَ مِحْرَابِ الصَّحَابَةِ - مِيعَادًا
لِلْوَعْظِ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْفُضَلَاءِ
وَالْعَامَّةِ، وَشَكَرُوا كَلَامَهُ وَطَلَاقَهَ عِبَارَتِهِ، مِنْ غَيْرِ
تَلَعْثُمٍ وَلَا تَخْلِيطٍ وَلَا تَوَقُّفٍ، وَطَالَ ذَلِكَ إِلَى قَرِيبِ
الْعَصْرِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ ثَالِثِهِ صُلِّيَ بِجَامِعِ دِمَشْقَ
بِالصَّحْنِ تَحْتَ النَّسْرِ عَلَى
الْقَاضِي جَمَالِ الدِّينِ حُسَيْنٌ ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ
تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ، وَنَائِبِهِ، وَحَضَرَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ عَلِيٌّ، وَقُضَاةُ الْبَلَدِ
وَالْأَعْيَانِ وَالدَّوْلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ
مَحْشُودَةً، وَحَضَرَ وَالِدُهُ قَاضِي الْقُضَاةِ وَهُوَ يُهَادَى بَيْنَ
رَجُلَيْنِ، يَظْهَرُ عَلَيْهِ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، فَصَلَّى عَلَيْهِ
إِمَامًا، وَتَأَسَّفَ النَّاسُ عَلَيْهِ; لِسَمَاحَةِ أَخْلَاقِهِ وَانْجِمَاعِهِ
عَلَى نَفْسِهِ، لَا يَتَعَدَّى شَرُّهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَانَ يَحْكُمُ
جَيِّدًا، نَظِيفَ الْعِرْضِ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ دَرَسَ فِي عِدَّةِ
مَدَارِسَ، مِنْهَا الشَّامِيَّةُ الْبَرَّانِيَّةُ وَالْعَذْرَاوِيَّةُ،
وَأَفْتَى، وَتَصَدَّرَ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ جَيِّدَةٌ بِالنَّحْوِ
وَالْفِقْهِ وَالْفَرَائِضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَدُفِنَ بِسَفْحِ قَاسِيُونَ فِي
تُرْبَةٍ مَعْرُوفَةٍ لَهُمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
عَوْدَةُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ حَسَنٍ ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ
قَلَاوُونَ
وَذَلِكَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِيَ شَهْرِ شَوَّالٍ اتَّفَقَ جُمْهُورُ
الْأُمَرَاءِ مَعَ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ وَصَرْغَتْمُشَ - فِي غَيْبَةِ طَازْ فِي
الصَّيْدِ - عَلَى خَلْعِ الْمَلِكِ الصَّالِحِ صَالِحِ بْنِ النَّاصِرِ،
وَأُمُّهُ بِنْتُ تَنْكِزَ، وَإِعَادَةِ أَخِيهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ حَسَنٍ،
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ، وَأُلْزِمَ الصَّالِحُ بَيْتَهُ مُضَيِّقًا عَلَيْهِ،
وَسُلِّمَ إِلَى أُمِّهِ خُونْدَةَ بِنْتِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ
نَائِبِ الشَّامِ، كَانَ، فَطَلَبُوا طَازْ، وَأُمْسِكَ أَخُوهُ جَنْتَمُرَ،
وَأَخُو السُّلْطَانِ الصَّالِحِ
لِأُمِّهِ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَكْتَمُرَ السَّاقِي،
وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ
يُقْبِلِ الْبَرِيدُ إِلَى الشَّامِ وَخَبَرُ الْبَيْعَةِ إِلَّا يَوْمَ
الْخَمِيسِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ، قَدِمَ بِهِمَا الْأَمِيرُ
عِزُّ الدِّينِ أَيْدَمُرُ الشَّمْسِيُّ، وَبَايَعَ النَّائِبَ بَعْدَ مَا خَلَعَ
عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَالْأُمَرَاءُ بِدَارِ السَّعَادَةِ عَلَى
الْعَادَةِ، وَدَقَّتِ الْبَشَائِرُ، وَزُيِّنَ الْبَلَدُ، وَخَطَبَ لَهُ
الْخَطِيبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِحَضْرَةِ نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ وَالْقُضَاةِ وَالدَّوْلَةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ دَخَلَ دِمَشْقَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ عَلَى نِيَابَةِ طَرَابُلُسَ، وَنَزَلَ
الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ مَعَ الْأَمِيرِ عِزِّ الدِّينِ أَيْدَمُرَ، فَأَقَامَ
أَيَّامًا عَدِيدَةً ثُمَّ سَارَ إِلَى بَلَدِهِ بَعْدَ أَيَّامٍ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ دَخَلَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي جَمَاعَةٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ مُجْتَازًا إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ، فَتَلَقَّاهُ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ جَامِعِ كَرِيمِ الدِّينِ
بِالْقُبَيْبَاتِ، وَشَيَّعَهُ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَسَارَ
وَنَزَلَ بِوَطْأَةِ بَرْزَةَ فَبَاتَ هُنَالِكَ، ثُمَّ أَصْبَحَ غَادِيًا، وَقَدْ
كَانَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَظِيرَ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ، وَلَكِنْ قَوِيَ
عَلَيْهِ فَسَيَّرَهُ إِلَى بِلَادِ حَلَبَ، وَهُوَ مُحَبَّبٌ إِلَى الْعَامَّةِ
لِمَا لَهُ مِنَ السَّعْيِ الْمَشْكُورِ فِي أُمُورٍ كِبَارٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ
السُّلْطَانُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَلَيْسَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ نَائِبٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ دِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ الْمَارِدَانِيُّ،
وَالْقُضَاةُ وَالْحَاجِبُ وَالْخَطِيبُ وَكَاتِبُ السِّرِّ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ،
وَنَائِبُ طَرَابُلُسَ مَنْجَكُ، وَنَائِبُ حَمَاةَ أَسَنْدَمُرَ الْعُمَرِيُّ،
وَنَائِبُ صَفَدَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ، وَنَائِبُ حِمْصَ
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْأَقْوَشِ، وَنَائِبُ بَعْلَبَكَّ الْحَاجُّ
كَامِلٌ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِ صَفَرٍ مُسِكَ الْأَمِيرُ أَرْغُونُ
الْكَامِلِيُّ الَّذِي نَابَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً ثُمَّ بَعْدَهَا بِحَلَبَ، ثُمَّ
طُلِبَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ حِينَ وَلِيَهَا طَازْ، فَقُبِضَ
عَلَيْهِ، وَأُرْسِلَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُعْتَقَلًا. وَفِي يَوْمِ
السَّبْتِ مِنْ شَهْرِ صَفَرٍ قَدِمَ تَقْلِيدُ قَضَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
بِدِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا لِقَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ
ابْنِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، عَلَى قَاعِدَةِ
وَالِدِهِ، وَذَلِكَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، وَذَهَبَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ
عَلَيْهِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخِرِ تَوَجَّهَ قَاضِي
الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ بَعْدَ اسْتِقْلَالِ
وَلَدِهِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي قَضَاءِ الْقُضَاةِ وَمَشْيَخَةِ
دَارِ الْحَدِيثِ الْأَشْرَفِيَّةِ مُسَافِرًا نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
فِي مِحَفَّةٍ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِهِ وَذَوِيِهِ، مِنْهُمْ سِبْطُهُ
الْقَاضِي بَدْرُ الدِّينِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ وَآخَرُونَ، وَقَدْ كَانَ
النَّاسُ وَدَّعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُ ضَعْفٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَخَافُ عَلَيْهِ وَعْثَاءِ السَّفَرِ مَعَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَابِعُ شَهْرِ جُمَادَى الْآخِرَةِ صُلِّيَ
بَعْدَ الْجُمُعَةِ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْكَافِي بْنِ تَمَامٍ السُّبْكِيِّ الْمِصْرِيِّ الشَّافِعِيِّ، تُوُفِّيَ
بِمِصْرَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَهُ، وَدُفِنَ مِنْ صَبِيحَةِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ وَقَدْ أَكْمَلَ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَدَخَلَ فِي
الرَّابِعَةِ أَشْهُرًا، وَوَلِيَ الْحُكْمَ بِدِمَشْقَ نَحْوًا مِنْ سَبْعَ
عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ، ثُمَّ رَحَلَ فِي مِحَفَّةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
كَمَا ذَكَرْنَا. وَلَمَّا وَصَلَ مِصْرَ أَقَامَ دُونَ الشَّهْرِ ثُمَّ تُوُفِّيَ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَجَاءَتِ التَّعْزِيَةُ وَمَرْسُومٌ بِاسْتِقْرَارِ وَلَدِهِ
فِي مَدْرَسَتِهِ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَالْقَيْمَرِيَّةِ، وَبِتَشْرِيفٍ;
تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى تَعْزِيَتِهِ عَلَى الْعَادَةِ.
وَقَدْ سَمِعَ قَاضِي الْقُضَاةِ السُّبْكِيُّ الْحَدِيثَ فِي شَبِيبَتِهِ
بِدِيَارِ مِصْرَ، وَرَحَلَ إِلَى الشَّامِ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ وَكَتَبَ
وَخَرَّجَ، وَلَهُ تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ كَثِيرَةُ الْفَائِدَةِ،
وَمَا زَالَ فِي مُدَّةِ الْقَضَاءِ يُصَنِّفُ وَيَكْتُبُ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ،
وَكَانَ كَثِيرَ التِّلَاوَةِ، وَذُكِرَ لِي أَنَّهُ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
اشْتُهِرَ أَخْذُ الْفِرَنْجِ الْمَخْذُولِينَ لِمَدِينَةِ طَرَابُلُسَ
الْمَغْرِبِ. وَقَرَأَتُ مِنْ كِتَابٍ لِقَاضِي قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ
أَخْذَهُمْ إِيَّاهَا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعْدَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا اسْتَعَادَهَا
الْمُسْلِمُونَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ أَضْعَافَ مَا قَتَلُوا أَوَّلًا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَأَرْسَلَ الدَّوْلَةُ إِلَى
الشَّامِ يَطْلُبُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَوْقَافِ الْأُسَارَى مَا يَسْتَنْقِذُونَ
بِهِ مَنْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ حَادِيَ عَشَرَ رَجَبٍ الْفَرْدِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ حَكَمَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ - وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ
الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ - بِقَتْلِ نَصْرَانِيٍّ مِنْ قَرْيَةِ الرَّأْسِ مِنْ
مُعَامَلَةِ بَعْلَبَكَّ، اسْمُهُ دَاوُدُ بْنُ سَالِمٍ; ثَبَتَ عَلَيْهِ
بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي بَعْلَبَكَّ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِمَا شَهِدَ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ بْنُ نُورِ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ غَازِي - مِنْ قَرْيَةِ اللَّبْوَةِ -
مِنَ الْكَلَامِ السَّيِّئِ الَّذِي نَالَ بِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ - وَسَبَّهُ وَقَذَفَهُ بِكَلَامٍ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهُ،
فَقُتِلَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - يَوْمَئِذٍ بَعْدَ أَذَانِ الْعَصْرِ بِسُوقِ
الْخَيْلِ وَحَرَّقَهُ النَّاسُ، وَشَفَى اللَّهُ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ رَابِعَ عَشَرَ شَعْبَانَ دَرَّسَ الْقَاضِي
بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ السُّبْكِيُّ بِالْمَدْرَسَةِ
الْقَيْمَرِيَّةِ، نَزَلَ لَهُ عَنْهَا ابْنُ عَمِّهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ
الدِّينِ عَبْدُ الْوَهَّابِ ابْنُ قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيِّ الدِّينِ
السُّبْكِيِّ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ عَلَى الْعَادَةِ،
وَأَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ [ الْحَشْرِ: 9 ].
وَصُلِّي بَعْدَ الظُّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الشَّيْخِ الشَّابِّ
الْفَاضِلِ الْمُحَصِّلِ جَمَالِ الدِّينِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْعَلَّامَةِ
شَمْسِ الدِّينِ بْنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ الْحَنْبَلِيِّ،
وَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ بِمَقَابِرَ بَابِ الصَّغِيرِ،
وَكَانَتْ جَنَازَتُهُ حَافِلَةً، وَكَانَتْ لَدَيْهِ عُلُومٌ جَيِّدَةٌ،
وَذِهْنُهُ حَاضِرٌ خَارِقٌ، أَفْتَى، وَدَرَّسَ، وَأَعَادَ، وَنَاظَرَ، وَحَجَّ
مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَبَلَّ بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ تَاسِعَ عَشَرَ شَوَّالٍ وَقَعَ حَرِيقٌ هَائِلٌ فِي
سُوقِ الْقَطَّانِينَ بِالنَّهَارِ، وَذَهَبَ إِلَيْهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَالْحَجَبَةُ،
وَالْقُضَاةُ، حَتَّى اجْتَهَدَ الْفَعُولُ وَالْمُتَبَرِّعُونَ فِي إِخْمَادِهِ
وَطَفْيِهِ، حَتَّى سَكَنَ شَرُّهُ. وَقَدْ ذَهَبَ بِسَبَبِهِ دَكَاكِينُ وَدَوْرٌ
كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ
رَأَيْتُهُ مِنَ الْغَدِ وَالنَّارُ كَمَا هِيَ عَمَّالَةٌ، وَالدُّخَانُ صَاعِدٌ،
وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ يُطْفُونَهُ بِالْمَاءِ الْكَثِيرِ الْغَمْرِ، وَالنَّارُ
لَا تَخْمُدُ، لَكِنْ هَدَّمَتِ الْجُدْرَانَ، وَخَرَّبَتِ الْمَسَاكِنَ،
وَانْتَقَلَ السُّكَّانُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْبِلَادِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ وَالْحَرَمَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ
النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ
الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَلَا نَائِبَ وَلَا وَزِيرَ بِمِصْرَ،
وَإِنَّمَا يَرْجِعُ تَدْبِيرُ الْمَمْلَكَةِ إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
شَيْخُونَ، ثُمَّ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ صَرْغَتْمُشَ، ثُمَّ الْأَمِيرِ
عِزِّ الدِّينِ طُقْطَايْ الدِّوِيدَارِ، وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ
فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ ابْنُ الْمُتَوَفَّى قَاضِي
الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ تَقِيِّ الدِّينِ
السُّبْكِيِّ، وَنَائِبُ حَلَبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ، وَطَرَابُلُسَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ، وَبِصَفَدَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ
بْنُ صُبْحٍ، وَبِحَمَاةَ أَسَنْدَمُرَ الْعُمَرِيُّ، وَبِحِمْصَ عَلَاءُ الدِّينِ
بْنُ الْمُعَظَّمِ، وَبِبَعْلَبَكَّ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الْأَقْوَشِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ تَكَامَلَ إِصْلَاحُ بَلَاطِ
الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَغَسْلُ فُصُوصِ الْمَقْصُورَةِ وَالْقُبَّةِ، وَبُسِطَ
بَسْطًا حَسَنًا، وَبَيِّضَتْ أَطْبَاقُ الْقَنَادِيلِ، وَأَضَاءَ حَالُهُ جِدًّا،
وَكَانَ الْمُسْتَحِثُّ عَلَى ذَلِكَ الْأَمِيرَ عَلَاءَ الدِّينِ أَيْدُغْمُشَ
أَحَدَ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، بِمَرْسُومِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ لَهُ فِي
ذَلِكَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ صُلِّي عَلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
بُرَاقٍ أَمِيرِ آخُورَ بِجَامِعِ تَنْكِزَ، وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ الصُّوفِيَّةِ،
وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، مُحِبًّا
لِلْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ
تَيْمِيَّةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ رُسِمَ لِوَلَدَيْهِ نَاصِرِ
الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَسَيْفِ الدِّينِ أَبِي بَكْرٍ; كُلٍّ مِنْهُمَا بِعَشَرَةِ
أَرْمَاحٍ، وَلِنَاصِرِ الدِّينِ بِمَكَانِ أَبِيهِ فِي الْوَظِيفَةِ بِإِصْطَبْلِ
السُّلْطَانِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ رَابِعِ شَهْرِ جُمَادَى الْأُولَى خُلِعَ عَلَى
الْأَمِيرَيْنِ الْأَخَوَيْنِ; نَاصِرِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ، وَسَيْفِ الدِّينِ
أَبِي بَكْرٍ، وَلَدَيِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بُرَاقٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - بِأَمِيرَيْنِ عَشَرَتَيْنِ.
وَوَقَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْحَنَابِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ
الْمُنَاقَلَةِ، وَكَانَ سَبَبَهَا أَنَّ الْقَاضِيَ الْمَالِكِيَّ - وَهُوَ
قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ - أَذِنَ لِلشَّيْخِ شَرَفِ
الدِّينِ ابْنِ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيِّ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمُنَاقَلَةِ
فِي قَرَارِ دَارِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْدَمُرَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ
حَاجِبِ الْحُجَّابِ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى يَجْعَلُهَا وَقْفًا عَلَى مَا كَانَتْ
قَرَارُ دَارِهِ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِهِ، وَنَفَّذَهُ الْقُضَاةُ
الثَّلَاثَةُ; الشَّافِعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ، فَغَضِبَ
الْقَاضِي الْحَنْبَلِيُّ - وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ
الْمَرْدَاوِيُّ الْمَقْدِسِيُّ - مِنْ ذَلِكَ، وَعَقْدَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
مَجَالِسَ، وَتَطَاوُلَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَادَّعَى
كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي
الْمُنَاقَلَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، وَحَيْثُ لَا يُمْكِنُ
الِانْتِفَاعُ بِالْمَوْقُوفِ، فَأَمَّا الْمُنَاقَلَةُ لِمُجَرَّدِ الْمُصْلَحَةِ
وَالْمَنْفَعَةِ الرَّاجِحَةِ فَلَا، وَامْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِ مَا قَرَّرَهُ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي ذَلِكَ وَنَقَلَهُ عَنِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِهِ صَالِحٍ،
وَحَرْبٍ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهَا تَجُوزُ لِلْمَصْلَحَةِ
الرَّاجِحَةِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ مَسْأَلَةً مُفْرَدَةً، وَقَفْتُ عَلَيْهَا
فَرَأَيْتُهَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْإِفَادَةِ، بِحَيْثُ لَا يَتَخَالَجُ
مَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِمَّنْ يَذُوقُ طَعْمَ الْفِقْهِ أَنَّهَا مَذْهَبُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَدِ احْتَجَّ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ فِي
رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ بِمَا رَوَاهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنِ
الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يُحَوِّلَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ بِالْكُوفَةِ إِلَى
مَوْضِعِ سُوقِ التَّمَارِينَ، وَيَجْعَلَ السُّوقَ فِي مَكَانِ الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ الْعَتِيقِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهَذَا فِيهِ أَوْضَحُ دَلَالَةٍ عَلَى
مَا اسْتَدَلَّ بِهِ فِيهَا مِنَ النَّقْلِ بِمُجَرَّدِ الْمُصْلِحَةِ، فَإِنَّهُ
لَا ضَرُورَةَ إِلَى جَعْلِ الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ سُوقًا، عَلَى أَنَّ
الْإِسْنَادَ فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ الْقَاسِمِ وَبَيْنَ عُمَرَ، وَبَيْنَ
الْقَاسِمِ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَكِنْ قَدْ جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ "
الْمَذْهَبِ "، وَاحْتَجَّ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ،
فَعُقِدَ الْمَجْلِسُ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الشَّهْرِ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى، وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ، احْتَرَقَ بِسَبَبِهِ
قَيَاسِيرُ كَثِيرَةٌ لِطَازْ وَيَلْبُغَا، وَقَيْسَرِيَّةُ الطَّوَاشِيِّ
لِبِنْتِ
تَنْكِزَ، وَأُخَرُ كَثِيرَةٌ، وَدُورٌ، وَدَكَاكِينَ، وَذَهَبَ
لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْتِعَةِ، وَالنُّحَاسِ، وَالْبَضَائِعِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقَاوِمُ أَلْفَ أَلْفٍ وَأَكْثَرَ خَارِجًا عَنِ
الْأَمْوَالِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ ذَكَرَ
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ الْقَيَاسِيرِ شَرٌّ كَثِيرٌ مِنَ
الْفِسْقِ، وَالرِّبَا، وَالزَّغَلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى وَرَدَ الْخَبَرُ
بِأَنَّ الْفِرَنْجَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - اسْتَحْوَذُوا عَلَى مَدِينَةِ
صَيْدًا; قَدِمُوا فِي سَبْعَةِ مَرَاكِبَ، وَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَهْلِهَا،
وَنَهَبُوا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَسَرُوا أَيْضًا، وَهَجَمُوا عَلَى النَّاسِ
وَقْتَ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ قَتَلَ مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَسَرُوا مَرْكَبًا مِنْ مَرَاكِبِهِمْ، وَجَاءَ الْفِرَنْجُ
فِي عَشِيَّةِ السَّبْتِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَقَدِمَ الْوَالِي وَهُوَ جَرِيحٌ
مُثْقَلٌ، فَأَمَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عِنْدَ ذَلِكَ بِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ
إِلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَسَارُوا تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ،
وَتَقَدَّمَهُمْ حَاجِبُ الْحُجَّابِ، وَتَحَدَّرَ إِلَيْهِمْ نَائِبُ صَفَدَ الْأَمِيرُ
شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ، فَسَبَقَ الْجَيْشَ الدِّمَشْقِيَّ، وَوَجَدَ
الْفِرَنْجَ قَدْ بَرَزُوا بِمَا غَنِمُوا مِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْأُسَارَى إِلَى
جَزِيرَةٍ تِلْقَاءَ صَيْدًا فِي الْبَحْرِ، وَقَدْ أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ شَيْخًا وَشَابًّا مِنْ أَبْنَاءِ أَشْرَافِهِمْ،
وَهُوَ الَّذِي عَاقَهُمْ عَنِ الذَّهَابِ، فَرَاسَلَهُمُ الْجَيْشُ فِي
انْفِكَاكِ الْأُسَارَى مِنْ أَيْدِيهِمْ، فَفَادَوْهُمْ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ
بِخَمْسِمِائِةٍ، فَأَخَذُوا مِنْ دِيوَانِ الْأُسَارَى مَبْلَغَ ثَلَاثِينَ
أَلْفًا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - أَحَدٌ.
وَاسْتَمَرَّ الصَّبِيُّ مِنَ الْفِرَنْجِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَسْلَمَ،
وَدُفِعَ إِلَيْهِمُ الشَّيْخُ الْجَرِيحُ، وَعَطِشَ الْفِرَنْجُ عَطَشًا
شَدِيدًا، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْوَوْا مِنْ نَهْرٍ هُنَاكَ، فَبَادَرَهُمُ
الْجَيْشُ إِلَيْهِ،
فَمَنَعُوهُمْ أَنْ يَنَالُوا مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً،
فَرَحَلُوا لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءَ مُنْشَمِرِينَ بِمَا مَعَهُمْ مِنَ
الْغَنَائِمِ، وَبُعِثَتْ رُءُوسُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفِرَنْجِ مِمَّنْ قُتِلَ فِي
الْمَعْرَكَةِ فَنُصِبَتْ عَلَى الْقَلْعَةِ بِدِمَشْقَ، وَجَاءَ الْخَبَرُ فِي
هَذَا الْوَقْتِ بِأَنَّ إِيَاسَ قَدْ أَحَاطَ بِهَا الْفِرَنْجَ، وَقَدْ أَخَذُوا
الرُّبَضَ، وَهُمْ مُحَاصِرُونَ الْقَلْعَةَ، وَفِيهَا نَائِبُ الْبَلَدِ،
وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَذَهَبَ صَاحِبُ حَلَبَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ
نَحْوَهُمْ، وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُظْفِرَهُمْ بِهِمْ بِحَوْلِهِ
وَقُوَّتِهِ، وَشَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَيْضًا أَنَّ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ
مُحَاصَرَةٌ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ إِلَى الْآنِ، وَبِاللَّهِ
الْمُسْتَعَانُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ رَابِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ قَدِمَ رُءُوسٌ مِنْ قَتْلَى
الْفِرَنْجِ عَلَى صَيْدًا، وَهِيَ بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ رَأْسًا، فَنُصِبَتْ عَلَى
شُرُفَاتِ الْقَلْعَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ دَاخِلَ بَابِ الصَّغِيرِ مِنْ مَطْبَخِ السُّكَّرِ
الَّذِي عِنْدَ السَّوِيقَةِ الْمُلَاصِقَةِ لِمَسْجِدِ الشَّنْبَاشِيِّ،
فَاحْتَرَقَ الْمَطْبَخُ وَمَا حَوْلَهُ إِلَى حَمَّامِ أَبِي نَصْرٍ، وَاتَّصَلَ
بِالسَّوِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا هُنَالِكَ مِنَ الْأَمَاكِنِ، فَكَانَ
قَرِيبًا أَوْ أَكْثَرَ مِنَ الْحَرِيقِ ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَلَكِنْ كَانَ الرِّيحُ قَوِيًّا،
وَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ الْحَمَوِيُّ، أَحَدُ مَشَايِخِ الرُّوَاةِ، فِي
لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بَعْدَ الظُّهْرِ،
وَدُفِنَ بِمَقَابِرَ بَابِ الصَّغِيرِ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي ثَانِيَ عَشَرَ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَجَمَعَ الْكَثِيرَ،
وَتَفَرَّدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَانْقَطَعَ
بِمَوْتِهِ سَمَاعُ " السُّنَنِ الْكَبِيرِ " لِلْبَيْهَقِيِّ. رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَوَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ خَامِسَ عَشَرَ رَجَبٍ بِمَحَلَّةِ
الصَّالِحِيَّةِ مِنْ سَفْحِ قَاسِيُونَ، فَاحْتَرَقَ السُّوقُ الْقِبْلِيُّ مِنْ
جَامِعِ الْحَنَابِلَةِ بِكَمَالِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا، وَجَنُوبًا وَشَمَالًا،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَامِسِ شَهْرِ رَمَضَانَ خُطِبَ بِالْجَامِعِ الَّذِي
أَنْشَاهُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا النَّاصِرِيُّ غَرْبِيَّ سُوقِ الْخَيْلِ،
وَفُتِحَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَجَاءَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ،
وَخَطَبَ الشَّيْخُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ الرَّبْوَةِ الْحَنَفِيُّ، وَكَانَ قَدْ
نَازَعَهُ فِيهِ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ الشَّافِعِيُّ الْمَوْصِلَيُّ،
وَأَظْهَرَ وِلَايَةً مِنْ وَاقِفِهِ يَلْبُغَا الْمَذْكُورِ، وَمَرَاسِيمَ
شَرِيفَةً سُلْطَانِيَّةً، وَلَكِنْ قَدْ قَوِيَ عَلَيْهِ ابْنُ الرَّبْوَةِ ;
بِسَبَبِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الشَّيْخِ قَوَامِ الدِّينِ الْإِتْقَانِيِّ
الْحَنَفِيِّ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِمِصْرَ، وَمَعَهُ وِلَايَةٌ مِنَ السُّلْطَانِ
مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وِلَايَةِ الْمَوْصِلِيِّ، فَرُسِمَ لِابْنِ الرَّبْوَةِ،
فَلَبِسَ يَوْمَئِذٍ الْخِلْعَةَ السَّوْدَاءَ مِنْ دَارِ السَّعَادَةِ، وَجَاءُوا
بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسَّنَاجِقِ السُّودِ الْخَلْيِفَتِيَّةِ، وَالْمُؤَذِّنُونَ
يُكَبِّرُونَ عَلَى الْعَادَةِ، وَخَطَبَ يَوْمَئِذٍ خُطْبَةً حَسَنَةً،
أَكْثَرُهَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ فِي
الْمِحْرَابِ بِأَوَّلِ سُورَةِ " طَهَ "، وَحَضَرَ
كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَالْعَامَّةِ، وَالْخَاصَّةِ، وَبَعْضُ الْقُضَاةِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكُنْتُ مِمَّنْ حَضَرَ قَرِيبًا مِنْهُ.
وَالْعَجَبُ أَنِّي وَقَفْتُ فِي شَهْرِ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى كِتَابٍ أَرْسَلَهُ
بَعْضُ النَّاسِ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ مِنْ بِلَادِ طَرَابُلُسَ، وَفِيهِ:
وَالْمَخْدُومُ يُعَرِّفُ الشَّيْخَ عِمَادَ الدِّينِ بِمَا جَرَى فِي بِلَادِ
السَّوَاحِلِ مِنَ الْحَرِيقِ، مِنْ بِلَادِ طَرَابُلُسَ إِلَى آخِرِ مُعَامَلَةِ
بَيْرُوتَ إِلَى جَمِيعِ كَسْرُوانَ، أَحْرَقَ الْجِبَالَ كُلَّهَا، وَمَاتَ
الْوُحُوشُ كُلُّهَا مِثْلَ النُّمُورِ، وَالدُّبِّ، وَالثَّعْلَبِ،
وَالْخِنْزِيرِ; مِنَ الْحَرِيقِ، مَا بَقِيَ لِلْوُحُوشِ مَوْضِعٌ يَهْرُبُونَ
فِيهِ، وَبَقِيَ الْحَرِيقُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَهَرَبَ النَّاسُ إِلَى جَانِبِ
الْبَحْرِ مِنْ خَوْفِ النَّارِ، وَاحْتَرَقَ زَيْتُونٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا نَزَلَ
الْمَطَرُ أَطْفَأَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ وَرَقَةً
مِنْ شَجَرَةٍ سَقَطَتْ فِي بَيْتٍ مِنْ مِدْخَنَتِهِ فَأَحْرَقَتْ جَمِيعَ مَا
فِيهِ مِنَ الْأَثَاثِ، وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْ حَلْيِهِ حَرِيرًا
كَثِيرًا، وَغَالِبُ هَذِهِ الْبِلَادِ لِلدَّرْزِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ.
نَقَلْتُهُ مِنْ خَطِّ كَاتِبِهِ مُحَمَّدِ بْنِ بَلْبَانَ إِلَى صَاحِبِهِ،
وَهُمَا عِنْدِي ثِقَتَانِ، فَيَاللَّهِ لِلْعَجَبِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ - يَعْنِي: ذِي الْقَعْدَةِ - وَقَعَ بَيْنَ الشَّيْخِ
عِمَادِ الدِّينِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعِزِّ الْحَنَفِيِّ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ
مِنَ الْحَنَفِيَّةِ مُنَاقَشَةٌ; بِسَبَبِ اعْتِدَائِهِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ
فِي مُحَاكَمَةٍ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ إِحْضَارَهُ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَثَلِ الْمُتَمَرِّدِ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَحْضُرْ
فِيهَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ الْكُفْرِيُّ - نَائِبُ
الْحَنَفِيِّ - بِإِسْقَاطِ عَدَالَتِهِ، ثُمَّ ظَهَرَ خَبَرُهُ بِأَنَّهُ قَصَدَ
بِلَادَ مِصْرَ، فَأَرْسَلَ النَّائِبُ فِي أَثَرِهِ مَنْ يَرُدُّهُ، فَعَنَّفَهُ،
ثُمَّ أَطْلَقَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَشَفَّعَ فِيهِ قَاضِي الْقُضَاةِ
الْحَنَفِيُّ
فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي
الرَّبِيعِ سُلَيْمَانَ الْعَبَّاسِيُّ، وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا، وَبِالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَمَا وَالَاهَا،
وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ
ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيُّ، وَلَيْسَ لَهُ بِمِصْرَ نَائِبٌ وَلَا وَزِيرٌ، وَإِنَّمَا
تُرْجَعُ الْأُمُورُ إِصْدَارًا، وَإِيرَادًا إِلَى الْأَمِيرَيْنِ
الْكَبِيرَيْنِ; سَيْفِ الدِّينِ شَيْخُونَ، وَصَرْغَتْمُشَ النَّاصِرِيَّيْنِ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُ الشَّامِ
بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيَّ الْمَارِدَانِيُّ،
وَقُضَاةُ دِمَشْقَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ جِدًّا
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ نَهَدَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ مُجَاوِرِي الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ مِنْ
مَشْهَدِ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ، وَاتَّبَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ
وَالْمَغَارِبَةِ، وَجَاءُوا إِلَى أَمَاكِنَ مُتَّهَمَةٍ بِالْخَمْرِ وَبَيْعِ
الْحَشِيشِ، فَكَسَرُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ أَوَانِي الْخَمْرِ، وَأَرَاقُوا
مَا فِيهَا، وَأَتْلَفُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْحَشِيشِ، وَغَيْرِهِ، ثُمَّ
انْتَقَلُوا
إِلَى حِكْرِ السُّمَاقِ وَغَيْرِهِمْ، فَثَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ
الْبَارْذَارِيَّةِ، وَالْكَلَابَرِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّعَاعِ،
فَتَنَاوَشُوا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ ضَرَبَاتٌ بِالْأَيْدِي، وَغَيْرِهَا،
وَرُبَّمَا سَلَّ بَعْضُ الْفُسَّاقِ السُّيُوفَ عَلَيْهِمْ كَمَا ذُكِرَ. وَقَدْ
رَسَمَ مَلِكُ الْأُمَرَاءِ لِوَالِي الْمَدِينَةِ، وَوَالِي الْبَرِّ أَنْ
يَكُونُوا عَضُدًا لَهُمْ، وَعَوْنًا عَلَى الْخَمَّارِينَ وَالْحَشَّاشَةِ،
فَنَصَرُوهُمْ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّهُ كَثُرَ مَعَهُمُ الضَّجِيجُ، وَنَصَبُوا
رَايَةً، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَلَمَّا كَانَ فِي أَوَاخِرِ
النَّهَارِ تَقَدَّمَ جَمَاعَةٌ مِنَ النُّقَبَاءِ وَالْخَزَانْدَارِيَّةِ،
وَمَعَهُمْ جَنَازِيرُ، فَأَخَذُوا جَمَاعَةً مِنْ مُجَاوِرِي الْجَامِعِ
وَغَيْرِهِمْ، وَضُرِبُوا بِالْمَقَارِعِ، وَطِيفَ بِهِمْ فِي الْبَلَدِ،
وَنَادَوْا عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِمَا لَا يَعْنِيهِ
تَحْتَ عِلْمِ السُّلْطَانِ. فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْكَرُوهُ،
حَتَّى إِنَّهُ أَنْكَرَ اثْنَانِ مِنَ الْعَامَّةِ عَلَى الْمُنَادِيَةِ،
فَضَرَبَ بَعْضُ الْجُنْدِ أَحَدَهُمَا بِدَبُّوسٍ فَقَتَلَهُ، وَضَرَبَ الْآخَرَ،
فَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ أَيْضًا. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حُكِيَ عَنْ جَارِيَةٍ مِنْ عَتِيقَاتِ
الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَمُرٍ الْمَهْمَنْدَارِ أَنَّهَا حَمَلَتْ قَرِيبًا
مِنْ سَبْعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ شَرَعَتْ تَطْرَحُ مَا فِي بَطْنِهَا، فَوَضَعَتْ
قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ وَمُتَفَرِّقَةٍ
أَرْبَعَ عَشْرَةَ بِنْتًا، وَصَبِيًّا بَعْدَهُنَّ، كُلُّهُنَّ يَعْرِفُ بِشَكْلِ
الذَّكَرِ مِنَ الْأُنْثَى.
وَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ شَيْخُونَ مُدَبِّرَ
الْمَمَالِكِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، ظَفِرَ عَلَيْهِ
مَمْلُوكٌ مِنْ مَمَالِيكِ السُّلْطَانِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ضَرَبَاتٍ
فَجَرَحَهُ فِي أَمَاكِنَ فِي جَسَدِهِ; مِنْهَا مَا هُوَ فِي وَجْهِهِ، وَمِنْهَا
مَا هُوَ فِي يَدِهِ، فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ صَرِيعًا طَرِيحًا جَرِيحًا،
وَغَضِبَتْ لِذَلِكَ طَوَائِفُ مِنَ الْأُمَرَاءِ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُمْ
رَكِبُوا،
وَدَعَوْا إِلَى الْمُبَارَزَةِ، فَلَمْ يَجِئْ إِلَيْهِمْ،
وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِذَلِكَ جِدًّا، وَاتَّهَمُوا بِهِ الْأَمِيرَ سَيْفَ
الدِّينِ صَرْغَتْمُشَ، وَغَيْرَهُ، وَأَنَّ هَذَا إِنَّمَا فُعِلَ عَنْ
مُمَالَأَةٍ مِنْهُمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفَاةُ أَرْغُونَ الْكَامِلِيُّ بَانِي الْبِيمَارَسْتَانَ بِحَلَبَ
كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِتُرْبَةٍ
أَنْشَأَهَا غَرْبِيَّ الْمَسْجِدِ بِشَمَالِهِ، وَقَدْ نَابَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً
بَعْدَ حَلَبَ، ثُمَّ جَرَتِ الْكَائِنَةُ الَّتِي أَصْلُهَا بَيْبُغَا -
قَبَّحَهُ اللَّهُ - فِي أَيَّامِهِ. ثُمَّ صَارَ إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ، ثُمَّ
سُجِنَ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مُدَّةً، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ فَأَقَامَ
بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ إِلَى أَنْ كَانَتْ وَفَاتُهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي
التَّارِيخِ الْمَذْكُورِ، حَرَّرَهُ الشَّرِيفُ ابْنُ زِيرِكٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفَاةُ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ
وَرَدَ الْخَبَرُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِوَفَاةِ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِتُرْبَتِهِ، وَقَدِ ابْتَنَى مَدْرَسَةً هَائِلَةً، وَجَعَلَ فِيهَا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَدَارًا لِلْحَدِيثِ، وَخَانَقَاهُ لِلصُّوفِيَّةِ، وَأَوْقَفَ عَلَيْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَرَّرَ فِيهَا مَعَالِيمَ وَافِرَةً دَارَّةً، وَتَرَكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَحَوَاصِلَ كَثِيرَةً، وَدَوَاوِينَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ الْمِصْرِيَّةِ وَالشَّامِيَّةِ، وَخَلَّفَ بَنَاتٍ، وَزَوْجَةً، وَوِرْثَ الْبَقِيَّةَ أَوْلَادُ السُّلْطَانِ الْمَذْكُورِ - بِالْوَلَاءِ. وَمُسِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ أُمَرَاءُ كَثِيرُونَ بِمِصْرَ كَانُوا مِنْ حِزْبِهِ، مِنْ أَشْهَرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ طُقْطَايْ الدَّوَادَارُ، وَابْنُ قَوْصُونَ، وَأُمُّهُ أُخْتُ السُّلْطَانِ، خَلَفَ عَلَيْهَا شَيْخُونَ بَعْدَ قَوْصُونَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ بِالْبِلَادِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمَا يَتْبَعُ
ذَلِكَ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ
الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، وَقَدْ
قَوِيَ جَانِبُهُ وَحَاشِيَتُهُ بِمَوْتِ الْأَمِيرِ شَيْخُونَ، كَمَا ذَكَرْنَا
فِي سَادِسِ عِشْرِينَ ذِي الْقِعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَصَارَ
إِلَيْهِ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْخَيْلِ
الْمُسَوَّمَةِ، وَالْأَنْعَامِ، وَالْحَرْثِ، وَكَذَلِكَ مِنَ الْمَمَالِيكِ،
وَالْأَسْلِحَةِ، وَالْعُدَّةِ، وَالْبَرَكِ، وَالْمَتَاجِرِ مَا يَشُقُّ
حَصْرُهُ، وَيَتَعَذَّرُ إِحْصَاؤُهُ هَاهُنَا، وَلَيْسَ فِي الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِيمَا بَلَغَنَا إِلَى الْآنَ نَائِبٌ وَلَا وَزِيرٌ،
وَالْقُضَاةُ بِهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَمَّا دِمَشْقُ
فَنَائِبُهَا وَقُضَاتُهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، سِوَى
الْحَنَفِيِّ، فَإِنَّهُ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ الْكَفْرِيُّ عِوَضًا
عَنْ نَجْمِ الدِّينِ الطَّرَسُوسِيِّ; تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنَ السَّنَةِ
الْمَاضِيَةِ. وَنَائِبُ حَلَبَ سَيْفُ الدِّينِ طَازْ، وَطَرَابُلُسَ مَنْجَكُ،
وَحَمَاةَ أَسَنْدَمُرَ الْعُمَرِيُّ، وَصَفَدَ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ،
وَبِحِمْصَ صَلَاحُ الدِّينِ
خَلِيلُ بْنُ خَاصَ تُرْكَ، وَبِبَعْلَبَكَّ نَاصِرُ الدِّينِ
بْنُ الْأَقْوَشِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ رَابِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ خَرَجَتْ
أَرْبَعَةُ آلَافٍ مَعَ أَرْبَعَةِ مُقَدَّمِينَ إِلَى نَاحِيَةِ حَلَبَ نُصْرَةً
لِجَيْشِ حَلَبَ عَلَى مَسْكِ طَازْ إِنِ امْتَنَعَ مِنَ السَّلْطَنَةِ كَمَا
أُمِرَ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ نَادَى
الْمُنَادِيَ مِنْ جِهَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَنْ يَرْكَبَ مَنْ بَقِيَ مِنَ
الْجُنْدِ فِي الْحَدِيدِ، وَيُوَافُوهُ إِلَى سُوقِ الْخَيْلِ، فَرَكِبَ مَعَهُمْ
قَاصِدًا نَاحِيَةَ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ لِيَمْنَعَ الْأَمِيرَ طَازْ مِنْ
دُخُولِ الْبَلَدِ; لَمَّا تَحَقَّقَ مَجِيئُهُ فِي جَيْشِهِ قَاصِدًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَأُخْلِيَتْ دَارُ
السَّعَادَةِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْحَرِيمِ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَتَحَصَّنَ
كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِدُورِهِمْ دَاخِلَ الْبَلَدِ، وَأُغْلِقَ بَابُ
النَّصْرِ، فَاسْتَوْحَشَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الشَّيْءِ، ثُمَّ غُلِّقَتْ
أَبْوَابُ الْبَلَدِ كُلِّهَا إِلَّا بَابِيَ الْفَرَادِيسِ، وَالْفَرَجِ، وَبَابَ
الْجَابِيَةِ أَيْضًا; لِأَجْلِ دُخُولِ الْحُجَّاجِ.
وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ
مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ; لِشُغْلِهِمْ
بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ طَازْ، وَأَمْرِ الْعَشِيرِ بِحَوْرَانَ، وَجَاءَ
الْخَبَرُ بِمَسْكِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ طَيْدَمُرَ الْحَاجِبِ الْكَبِيرِ
بِأَرْضِ حَوْرَانَ، وَسَجْنِهِ بِقَلْعَةِ صَرْخَدَ، وَجَاءَ سَيْفُهُ صُحْبَةَ
الْأَمِيرِ جَمَالِ الدِّينِ الْحَاجِبِ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْوِطَاقِ عِنْدَ
الثَّنِيَّةِ، وَقَدْ وَصَلَ طَازْ بِجُنُودِهِ إِلَى بَابِ الْقُطَيْفَةِ،
وَتَلَاقَى شَالِيشُهُ بِشَالِيشِ
نَائِبِ الشَّامِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قِتَالٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. ثُمَّ تَرَاسَلَ هُوَ وَالنَّائِبُ فِي الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ طَازْ نَفْسَهُ، وَيَرْكَبُ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ إِلَى السُّلْطَانِ، وَيَنْسَلِخَ مِمَّا هُوَ فِيهِ، وَيُكَاتِبَ فِيهِ النَّائِبِ، وَيَتَلَطَّفُوا بِأَمْرِهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَبِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ يَطْلُبُ مَنْ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْقَاضِيَ شِهَابُ الدِّينِ قَاضِي الْعَسْكَرِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ، فَأَوْصَى لِوَلَدِهِ، وَأُمِّ وَلَدِهِ، وَلِوَالِدِهِ نَفْسِهِ، وَجَعَلَ النَّاظِرَ عَلَى وَصِيَّتِهِ الْأَمِيرَ عَلَاءَ الدِّينِ أَمِيرَ عَلِيَّ الْمَارِدَانِيَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ، وَلِلْأَمِيرِ صَرْغَتْمُشَ، وَرَجَعَ النَّائِبُ مِنَ الثَّنِيَّةِ عَشِيَّةَ يَوْمِ السَّبْتِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، وَتَضَاعَفَتِ الْأَدْعِيَةُ لَهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَدَعَوْا إِلَى الْأَمِيرِ طَازْ بِسَبَبِ إِجَابَتِهِ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَعَدَمِ مُقَاتَلَتِهِ مَعَ كَثْرَةِ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ، وَقُوَّةِ مَنْ كَانَ يُحَرِّضُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِخْوَتِهِ وَذَوِيِهِ، وَقَدِ اجْتَمَعْتُ بِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ عَلَاءِ الدِّينِ أَمِيرِ عَلِيٍّ الْمَارِدَانِيِّ، فَأَخْبَرَنِي بِمُلَخَّصِ مَا وَقَعَ مُنْذُ خَرَجَ إِلَى أَنْ رَجَعَ، وَمَضْمُونُ كَلَامِهِ أَنَّ اللَّهَ لَطَفَ بِالْمُسْلِمِينَ لُطْفًا عَظِيمًا; إِذْ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمَّا وَصَلَ طَازْ إِلَى الْقُطَيِّفَةِ - وَقَدْ نَزَلْنَا نَحْنُ بِالْقُرْبِ مِنْ خَانِ لَاجِينَ - أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ مَمْلُوكًا مِنْ مَمَالِيكِي أَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْمَرْسُومَ الشَّرِيفَ قَدْ وَرَدَ بِذَهَابِكَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ فَقَطْ، فَإِذَا جِئْتَ هَكَذَا فَأَهْلًا وَسَهْلًا، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَنْتَ أَصْلُ الْفِتْنَةِ. وَرَكِبْتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ طُولَ اللَّيْلِ فِي الْجَيْشِ وَهُوَ مُلْبَسٌ، فَرَجَعَ مَمْلُوكِي وَمَعَهُ مَمْلُوكُهُ سَرِيعًا يَقُولُ: إِنَّهُ يَسْأَلُ أَنْ يَدْخُلَ بِطُلْبِهِ كَمَا خَرَجَ بِطُلْبِهِ مِنْ مِصْرَ، فَقُلْتُ: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ كَمَا رَسَمَ السُّلْطَانُ. فَرَجَعَ،
وَجَاءَنِي الْأَمِيرُ الَّذِي جَاءَ مِنْ مِصْرَ بِطُلْبِهِ، فَقَالَ:
إِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ يَدْخُلَ فِي مَمَالِيكِهِ، فَإِذَا جَاوَزَ
دِمَشْقَ إِلَى الْكُسْوَةِ نَزَلَ جَيْشُهُ هُنَاكَ، وَرَكِبَ هُوَ فِي عَشَرَةِ
سُرُوجٍ كَمَا رُسِمَ، فَقُلْتُ: لَا سَبِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ دِمَشْقَ،
وَيَتَجَاوَزَ بِطُلْبِهِ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ خَيْلٌ، وَرِجَالٌ،
وَعُدَّةٌ، فَعِنْدِي أَضْعَافُ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي الْأَمِيرُ: يَا خَوْنَدْ،
لَا تَكُونُ تُنْشِئُ فِتْنَةً، فَقُلْتُ: لَا يَقَعُ إِلَّا مَا تَسْمَعُ.
فَرَجَعَ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَاقَ مِقْدَارَ رَمْيَةِ سَهْمٍ، وَجَاءَ
بَعْضُ الْجَوَاسِيسِ الَّذِينَ لَنَا عِنْدَهُمْ فَقَالَ: يَاخَوْنَدْ، هَا قَدْ
وَصَلَ جَيْشُ حَمَاةَ، وَطَرَابُلُسَ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ جَيْشِ دِمَشْقَ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا بِسَبَبِهِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا هُمْ وَهُوَ. قَالَ:
فَحِينَئِذٍ رَكِبْتُ فِي الْجَيْشِ، وَأَرْسَلْتُ طَلِيعَتَيْنِ أَمَامِي،
وَقُلْتُ: تَرَاءَوْا لِلْجُيُوشِ الَّذِينَ جَاءُوا حَتَّى يَرَوْكُمْ
فَيَعْلَمُوا أَنَّا قَدْ أَحَطْنَا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَحِينَئِذٍ
جَاءَتِ الْبُرُدُ مِنْ جِهَتِهِ بِطَلَبِ الْأَمَانِ، وَيَجْهَرُونَ
بِالْإِجَابَةِ إِلَى أَنْ يَرْكَبَ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ، وَيَتْرُكَ طُلْبَهُ
بِالْقُطَيِّفَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ
رَكِبْتُ أَنَا وَالْجَيْشُ فِي السِّلَاحِ طُولَ اللَّيْلِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ
مَكِيدَةً وَخَدِيعَةً، فَجَاءَتْنَا الْجَوَاسِيسُ، فَأَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ
قَدْ أَوْقَدُوا نُشَّابَهُمْ، وَرِمَاحَهُمْ، وَكَثِيرًا مِنْ سِلَاحِهِمْ،
فَتَحَقَّقْنَا عِنْدَ ذَلِكَ طَاعَتَهُ وَإِجَابَتَهُ لِكُلِّ مَا رُسِمَ بِهِ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَصَّى، وَرَكِبَ فِي عَشَرَةِ سُرُوجٍ،
وَسَارَ نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ صَفَرٍ دَخَلَ حَاجِبُ
الْحُجَّابِ الَّذِي كَانَ سُجِنَ فِي قَلْعَةِ صَرْخَدَ مَعَ الْبَرِيدِيِّ
الَّذِي قَدِمَ بِسَبَبِهِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَلَقَّاهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ
فِي دَارِهِ، وَفَرِحُوا بِهِ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَهُوَ وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ ذَاهِبٌ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا عَلَى تَقْدِمَةِ أَلْفٍ
وَوَظَائِفَ هُنَاكَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْهُ لَمْ يُفْجَأَ النَّاسُ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ الْقَلْعَةَ الْمَنْصُورَةَ
مُعْتَقَلًا بِهَا مُضَيَّقًا عَلَيْهِ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ
التَّرْحَةِ مِنْ تِلْكَ الْفَرْحَةِ، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ رَابِعِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عُقِدَ مَجْلِسٌ بِسَبَبِ
الْحَاجِبِ بِالْمَشْهَدِ مِنَ الْجَامِعِ. وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ أُحْضِرَ
الْحَاجِبُ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى دَارِ الْحَدِيثِ، وَاجْتَمَعَ الْقُضَاةُ
هُنَاكَ بِسَبَبِ دَعَاوِي يَطْلُبُونَ مِنْهُ حَقَّ بَعْضِهِمْ. ثُمَّ لَمَّا
كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ تَاسِعِهِ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
مُقَدَّمُ الْبَرِيدِيَّةِ بِطَلَبِ الْحَاجِبِ الْمَذْكُورِ، فَأُخْرِجَ مِنَ
الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَجَاءَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَقَبَّلَ
قَدَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَرَكِبَ مِنْ يَوْمِهِ قَاصِدًا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةَ مُكَرَّمًا، وَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَلْقٌ مِنَ
الْعَوَامِّ وَالْحَرَافِيشِ يَدْعُونَ لَهُ، وَهَذَا أَغْرَبُ مَا أُرِّخَ،
فَهَذَا الرَّجُلُ نَالَتْهُ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ سَجْنِهِ بِصَرْخَدَ،
ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ، ثُمَّ حُبِسَ فِي قَلْعَةِ دِمَشْقَ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُ،
وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي نَحْوِ شَهْرٍ.
ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى
الْأُولَى بِعَزْلِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ عَنْ دِمَشْقَ، فَلَمْ يَرْكَبْ فِي
الْمَوْكِبِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَلَا حَضَرَ فِي دَارِ الْعَدْلِ، ثُمَّ
تَحَقَّقَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ، وَبِذَهَابِهِ إِلَى نِيَابَةِ حَلَبَ،
وَمَجِيءِ نَائِبِ حَلَبَ إِلَى دِمَشْقَ، فَتَأَسَّفَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
عَلَيْهِ; لِدِيَانَتِهِ، وَجُودِهِ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ،
وَلَكِنَّ حَاشِيَتَهُ لَا يُنَفِّذُونَ أَوَامِرَهُ، فَتَوَلَّدَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
فَسَادٌ عَرِيضٌ، وَحَمَوْا
كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ، فَوَقَعَتِ الْحُرُوبُ بَيْنَ
أَهْلِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَهَاجَتِ الْعَشِيرَاتُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ خَرَجَ الْأَمِيرُ
عَلِيٌّ الْمَارِدَانِيُّ مِنْ دِمَشْقَ فِي طُلْبِهِ مُسْتَجْمِلًا فِي أُبَّهَةِ
النِّيَابَةِ، قَاصِدًا إِلَى حَلَبَ الْمَحْرُوسَةَ، وَقَدْ ضَرَبَ وَطَاقَهَ
بِوَطْأَةِ بَرْزَةَ، فَخَرَجَ النَّاسُ لِلتَّفَرُّجِ عَلَى طُلْبِهِ. وَفِي
هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ خُرُوجِ النَّائِبِ بِقَلِيلٍ دَخَلَ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ طَيْدَمُرُ الْحَاجِبُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ عَائِدًا إِلَى
وَظِيفَةِ الْحُجُوبِيَّةِ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ
بِالشُّمُوعِ، وَدَعَوْا لَهُ، ثُمَّ رَكِبَ مِنْ يَوْمِهِ إِلَى خِدْمَةِ مَلِكِ
الْأُمَرَاءِ إِلَى وَطْأَةِ بَرْزَةَ، فَقَبَّلَ يَدَهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
مَلِكُ الْأُمَرَاءِ، وَاصْطَلَحَا.
دُخُولُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ مَنْجَكَ إِلَى دِمَشْقَ الْمَحْرُوسَةِ
كَانَ ذَلِكَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ، مِنْ نَاحِيَةِ حَلَبَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأُمَرَاءُ
وَالْجَيْشُ عَلَى الْعَادَةِ، وَأُوقِدَتِ الشُّمُوعُ وَخَرَجَ النَّاسُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ بَاتَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى الْأَسْطِحَةِ، وَكَانَ يَوْمًا
هَائِلًا.
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَجَبٍ بَرَزَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى الرَّبْوَةِ،
وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ، وَوُلَاةَ
الْأُمُورِ، وَرَسَمَ بِإِحْضَارِ الْمُفْتِينَ - وَكُنْتُ
فِيمَنْ طُلِبَ يَوْمَئِذٍ إِلَى الرَّبْوَةِ فَرَكِبْتُ إِلَيْهَا - وَكَانَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَزَمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى تَخْرِيبِ الْمَنَازِلِ
الْمَبْنِيَّةِ بِالرَّبْوَةِ، وَغَلْقِ الْحَمَّامِ مِنْ أَجْلِ هَذِهِ، فِيمَا
ذُكِرَ أَنَّهَا بُنِيَتْ لِيُقْضَى فِيهَا، وَهَذَا الْحَمَّامُ أَوْسَاخُهُ
صَائِرَةٌ إِلَى النَّهْرِ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ النَّاسُ، فَاتَّفَقَ الْحَالُ
فِي آخِرِ الْأَمْرِ عَلَى إِبْقَاءِ الْمَسَاكِنِ، وَرَدِّ الْمُرْتَفَقَاتِ
الْمُسَلَّطَةِ عَلَى ثَوْرَا وَبَانَاسَ، وَيَتْرُكُ مَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى
بَرَدَى، فَانْكَفَّ النَّاسُ عَنِ الذَّهَابِ إِلَى الرَّبْوَةِ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَرُسِمَ يَوْمَئِذٍ بِتَضْيِيقِ أَكْمَامِ النِّسَاءِ، وَأَنْ تُزَالَ
الْأَجْرَاسُ وَالرُّكُبُ عَنِ الْحَمِيرِ الَّتِي لِلْمُكَارِيَّةِ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ شَعْبَانَ رَكِبَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقِفَ عَلَى الْحَائِطِ الرُّومِيِّ الَّذِي
بِالرَّحْبَةِ، فَخَافَ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ، وَغَلَّقُوا دَكَاكِينَهُمْ عَنْ
آخِرِهِمْ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ أَمَرَ بِذَلِكَ، فَغَضِبَ
مِنْ ذَلِكَ، وَتَنَصَّلَ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِهَدْمِ الْحَائِطِ
الْمَذْكُورِ، وَأَنْ يَنْقُلَ إِلَى الْعِمَارَةِ الَّتِي اسْتَجَدَّهَا خَارِجَ
بَابِ النَّصْرِ فِي دَارِ الصِّنَاعَةِ الَّتِي إِلَى جَانِبِ دَارِ الْعَدْلِ،
أَمَرَ بِبِنَائِهَا خَانًا، وَنُقِلَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارُ إِلَيْهَا.
عَزْلُ الْقُضَاةِ الثَّلَاثَةِ بِدِمَشْقَ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعُ شَعْبَانَ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَرِيدِيٌّ وَمَعَهُ تَذْكِرَةٌ وَرِقَّةٌ فِيهَا السَّلَامُ عَلَى
الْقُضَاةِ الْمُسْتَجَدِّينَ، وَأَخْبَرَ بِعَزْلِ الْقَاضِي الشَّافِعِيِّ،
وَالْحَنَفِيِّ، وَالْمَالِكِيِّ، وَأَنَّهُ وَلِيَ قَضَاءَ
الشَّافِعِيَّةِ الْقَاضِي بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ السُّبْكِيُّ،
وَقَضَاءَ الْحَنَفِيَّةِ الشَّيْخُ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ السَّرَّاجِ
الْحَنَفِيُّ، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَالتَّهْنِئَةِ
لَهُمْ، وَاحْتَفَلُوا بِذَلِكَ، وَأَخْبَرُوا أَنَّ الْقَاضِي الْمَالِكِيَّ
سَيَقْدَمُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ
السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَصَلَ الْبَرِيدُ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ تَقْلِيدَانِ وَخِلْعَتَانِ لِلْقَاضِي الشَّافِعِيِّ
وَالْقَاضِي الْحَنَفِيِّ، فَلَبِسَا الْخِلْعَتَيْنِ، وَجَاءَا مِنْ دَارِ
السَّعَادَةِ إِلَى الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَجَلَسَا فِي مِحْرَابِ
الْمَقْصُورَةِ، وَقَرَأَ تَقْلِيدَ قَاضِي الْقُضَاةِ بَهَاءِ الدِّينِ أَبِي
الْبَقَاءِ الشَّافِعِيِّ الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ بْنُ الصَّارِمِ الْمُحَدِّثُ
عَلَى السُّدَّةِ تُجَاهَ الْمِحْرَابِ، وَقَرَأَ تَقْلِيدَ قَاضِي الْقُضَاةِ
جَمَالِ الدِّينِ بْنِ السَّرَّاجِ الْحَنَفِيِّ الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ بْنُ
السَّرَّاجِ الْمُحَدِّثُ أَيْضًا عَلَى السُّدَّةِ، ثُمَّ حَكَمَا هُنَالِكَ،
ثُمَّ جَاءَ مَعًا إِلَى الْغَزَّالِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا قَاضِي الْقُضَاةِ
بَهَاءُ الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ، وَجَلَسَ الْحَنَفِيُّ إِلَى جَانِبِهِ عَنْ
يَمِينِهِ، وَحَضَرْتُ عِنْدَهُ، فَأَخَذَ فِي صِيَامِ يَوْمِ الشَّكِّ، ثُمَّ
جَاءَا مَعًا إِلَى الْمَدْرَسَةِ النُّورِيَّةِ، فَدَرَّسَ بِهَا قَاضِي
الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ الْمَذْكُورُ، وَحَضَرَ عِنْدَهُ قَاضِي الْقُضَاةِ
بَهَاءُ الدِّينِ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَخَذَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 135 ]
ثُمَّ انْصَرَفَ بَهَاءُ الدِّينِ إِلَى الْمَدْرَسَةِ الْعَادِلِيَّةِ
الْكَبِيرَةِ، فَدَرَّسَ بِهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ
أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الْآيَةَ [ النِّسَاءِ: 58 ].
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَامِنِ شَهْرِ رَمَضَانَ دَخَلَ الْقَاضِي
الْمَالِكِيُّ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَبِسَ الْخِلْعَةَ يَوْمَئِذٍ،
وَدَخَلَ الْمَقْصُورَةَ مِنَ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَقُرِئَ هُنَالِكَ
تَقْلِيدُهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ - قَرَأَهُ الشَّيْخُ نُورُ
الدِّينِ بْنُ الصَّارِمِ الْمُحَدِّثُ - وَهُوَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ
الدِّينِ أَحْمَدُ ابْنُ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ
الشَّيْخِ شَمْسِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ عَسْكَرٍ
الْعِرَاقِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، قَدِمَ الشَّامَ مِرَارًا، ثُمَّ اسْتَوْطَنَ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ بَعْدَ مَا حَكَمَ بِبَغْدَادَ نِيَابَةً عَنْ قُطْبِ
الدِّينِ الْأَخَوَيْنِ، وَدَرَّسَ بِالْمُسْتَنْصِرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ،
وَحَكَمَ بِدِمْيَاطَ أَيْضًا، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، وَهُوَ شَيْخٌ حَسَنٌ، كَثِيرُ التَّوَدُّدِ، وَمُسَدَّدُ
الْعِبَارَةِ، حَسَنُ الْبِشْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، مَشْكُورٌ، فِي مُبَاشَرَتِهِ
عِفَّةٌ وَنَزَاهَةٌ وَكَرَمٌ، اللَّهُ يُوَفِّقُهُ وَيُسَدِّدُهُ.
مَسْكِ الْأَمِيرِ صَرْغَتْمُشَ أَتَابَكِ الْأُمَرَاءِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَرَدَ الْخَبَرُ إِلَيْنَا بِمَسْكِهِ يَوْمَ السَّبْتِ الْخَامِسَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ هَذَا، وَأَنَّهُ قُبِضَ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ
السُّلْطَانِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ الْعِشْرِينَ مِنْهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتِ
الرِّوَايَةُ فِي قَتْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ احْتِيطَ عَلَى حَوَاصِلِهِ
وَأَمْوَالِهِ، وَصُودِرَ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، فَكَانَ فِيمَنْ ضُرِبَ
وَعُصِرَ تَحْتَ الْمُصَادَرَةِ الْقَاضِي ضِيَاءُ الدِّينِ ابْنُ خَطِيبِ بَيْتِ
الْآبَارِ، وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ مَاتَ تَحْتَ الْعُقُوبَةِ، وَقَدْ كَانَ
مَقْصِدًا لِلْوَارِدِينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، لَا سِيَّمَا أَهْلُ
بَلْدَةِ دِمَشْقَ، وَقَدْ بَاشَرَ عِدَّةَ وَظَائِفَ، وَكَانَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ
قَدْ فُوِّضَ إِلَيْهِ نَظَرُ جَمِيعِ الْأَوْقَافِ بِبِلَادِ السُّلْطَانِ،
وَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ وَغَيْرِهِ، فَحَصَلَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ قَطْعُ أَرْزَاقِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْكَتَبَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَالَأَ
الْأَمِيرَ صَرْغَتْمُشَ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، فَهَلَكَ
بِسَبَبِهِ وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
إِعَادَةُ الْقُضَاةِ
وَقَدْ كَانَ صَرْغَتْمُشُ عَزَلَ الْقُضَاةَ الثَّلَاثَةَ بِدِمَشْقَ; وَهُمُ
الشَّافِعِيُّ، وَالْحَنَفِيُّ، وَالْمَالِكِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَزَلَ
قَبْلَهُمُ ابْنَ جَمَاعَةَ، وَوَلَّى ابْنَ عَقِيلٍ، فَلَمَّا مُسِكَ
صَرْغَتْمُشُ رَسَمَ السُّلْطَانُ بِإِعَادَةِ الْقُضَاةَ عَلَى مَا كَانُوا
عَلَيْهِ، وَلَمَّا وَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِلَى دِمَشْقَ امْتَنَعَ
الْقُضَاةُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْحُكْمِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ حَضَرُوا لَيْلَةَ
الْعِيدِ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ، وَرَكِبُوا مَعَ
النَّائِبِ صَبِيحَةَ الْعِيدَ إِلَى الْمُصَلَّى عَلَى عَادَةِ الْقُضَاةِ،
وَهُمْ عَلَى وَجِلٍ، وَقَدِ انْتَقَلُوا مِنْ مَدَارِسِ الْحُكْمِ، فَرَجَعَ
قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْبَقَاءِ الشَّافِعِيُّ إِلَى بُسْتَانِهِ
بِالزُّعَيْفَرِيَّةِ، وَرَجَعَ قَاضِي الْقُضَاةِ جَمَالُ الدِّينِ بْنُ
السَّرَّاجِ إِلَى دَارِهِ بِالتَّعْدِيلِ. وَارْتَحَلَ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ
الدِّينِ الْمَالِكِيُّ إِلَى الصَّالِحِيَّةِ دَاخِلَ الصِّمْصَامِيَّةِ،
وَتَأَلَّمَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِسَبَبِهِ; لِأَنَّهُ قَدْ قَدِمَ غَرِيبًا
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَتَدَيَّنَ، وَقَدْ بَاشَرَ
الْحُكْمَ جَيِّدًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ بِأَخَرَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُعْزَلْ، وَأَنَّهُ
مُسْتَمِرٌّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، فَفَرِحَ أَصْحَابُهُ وَأَحْبَابُهُ وَكَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ بِذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ رَابِعُ شَوَّالٍ قَدِمَ
الْبَرِيدُ، وَصُحْبَتَهُ تَقْلِيدُ الشَّافِعِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ
الدِّينِ بْنِ السُّبْكِيِّ، وَتَقْلِيدُ الْحَنَفِيِّ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفِ
الدِّينِ الْكَفْرِيِّ، وَاسْتَمَرَّ قَاضِي الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ
الْمَالِكِيُّ الْعِرَاقِيُّ عَلَى قَضَاءِ الْمَالِكِيَّةِ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ
تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ شَافَهَهُ بِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ بِالشَّامِ،
وَسَيَّرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى دِمَشْقَ، فَحُمِدَتْ سِيرَتُهُ كَمَا حَسُنَتْ
سَرِيرَتُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَفَرِحَ النَّاسُ لَهُ بِذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ تُوُفِّيَ الْمُحَدِّثُ شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدِ الدِّينِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ الْحَنْبَلِيُّ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ ثَالِثَهُ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِالسَّفْحِ، وَقَدْ قَارَبَ
السِّتِّينَ، وَكَتَبَ كَثِيرًا وَخَرَّجَ، وَكَانَتْ لَهُ
مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِأَسْمَاءِ الْأَجْزَاءِ وَرُوَاتِهَا مِنَ الشُّيُوخِ
الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ كَتَبَ لِلْحَافِظِ الْبِرْزَالِيِّ قِطْعَةً كَبِيرَةً
مِنْ مَشَايِخِهِ، وَخَرَّجَ لَهُ عَنْ كُلٍّ حَدِيثًا أَوْ أَكْثَرَ، وَأَثْبَتَ
لَهُ مَا سَمِعَهُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتِمَّ حَتَّى تُوُفِّيَ
الْبِرْزَالِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَتُوُفِّيَ بَهَاءُ الدِّينِ بْنُ الْمَرْجَانِيِّ، بَانِي جَامِعِ الْفَوْقَانِيِّ،
وَكَانَ مَسْجِدًا فِي الْأَصْلِ فَبَنَاهُ جَامِعًا، وَجَعَلَ فِيهِ خُطْبَةً،
وَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ خَطَبَ فِيهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ، وَسَمِعَ شَيْئًا مِنَ الْحَدِيثِ.
وَبَلَغَنَا مَقْتَلُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بْنِ فَضْلِ بْنِ عِيسَى بْنِ
مُهَنَّا أَحَدِ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ الْأَجْوَادِ الْأَنْجَادِ، وَقَدْ وَلِيَ
إِمْرَةَ آلِ مُهَنَّا غَيْرَ مَرَّةٍ كَمَا وَلِيَهَا أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ;
عَدَا عَلَيْهِ بَعْضُ بَنِي عَمِّهِ فَقَتَلَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ بِقَتْلِهِ،
كَمَا ذُكِرَ، لَكِنْ لَمَّا حَمَلَ عَلَيْهِ السَّيْفَ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ
عَنْ نَفْسِهِ وَيَتَّقِيَهُ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفٍ فِي رَأْسِهِ فَفَلَقَهُ،
فَلَمْ يَعِشْ بَعْدَهَا غَيْرَ أَيَّامًا قَلَائِلَ وَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
آمِينَ.
عَزْلُ مَنْجَكَ عَنْ دِمَشْقَ
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ ثَامِنُ ذِي الْحِجَّةِ قَدِمَ أَمِيرٌ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَمَعَهُ تَقْلِيدُ نَائِبِ دِمَشْقَ ; وَهُوَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكُ بِنِيَابَةِ صَفَدَ الْمَحْرُوسَةِ،
فَأَصْبَحَ مِنَ
الْغَدِ - وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ - وَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ
دَارِ السَّعَادَةِ إِلَى سَطْحِ الْمِزَّةِ قَاصِدًا إِلَى صَفَدَ
الْمَحْرُوسَةِ، فَعَمِلَ الْعِيدَ بِسَطْحِ الْمِزَّةِ، ثُمَّ تَرْحَلُ نَحْوَ
صَفَدَ، وَطَمِعَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَالْخَمَّارِينِ وَغَيْرِهِمْ،
وَفَرِحُوا بِزَوَالِهِ عَنْهُمْ.
وَفِي يَوْمِ الْعِيدِ قُرِئَ كِتَابُ السُّلْطَانِ بِدَارِ السَّعَادَةِ عَلَى
الْأُمَرَاءِ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِاسْتِنَابَةِ أَمِيرِ عَلِيَّ
الْمَارِدَانِيِّ عَلَيْهِمْ، وُعَوْدِهِ إِلَيْهِ، وَالْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ،
وَتَعْظِيمِهِ، وَاحْتِرَامِهِ، وَالشُّكْرِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ،
وَقَدِمَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ مِنْ نِيَابَةِ صَفَدَ،
وَنَزَلَ بِدَارِهِ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ بِالْقُرْبِ مِنَ الشَّامِيَّةِ
الْبَرَّانِيَّةِ. وَوَصَلَ الْبَرِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ الْحَادِيَ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِنَفْيِ حَاجِبِ الْحُجَّابِ طَيْدَمُرَ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ إِلَى مَدِينَةِ حَمَاةَ بَطَّالًا مِنْ سَرْجَيْنِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَسُلْطَانُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَالشَّامِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْمَمَالِكِ الْإِسْلَامِيَّةِ -
الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ الصَّالِحِيُّ، وَقُضَاتُهُ
بِمِصْرَ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَنَائِبُهُ
بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيٌّ الْمَارِدَانِيُّ،
وَقُضَاةُ الشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا غَيْرَ
الْمَالِكِيِّ، فَإِنَّهُ عُزِلَ جَمَالُ الدِّينِ الْمَسَلَّاتِيُّ بِالْقَاضِي
شَرَفِ الدِّينِ الْعِرَاقِيِّ، وَحَاجِبُ الْحُجَّابِ الْأَمِيرُ شِهَابِ
الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ، وَخَطِيبُ الْبَلَدِ، وَكَاتِبُ سِرِّهَا الْمَذْكُورَانِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ دَخَلَ الْأَمِيرُ
عَلَاءُ الدِّينِ أَمِيرُ عَلِيٌّ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى دِمَشْقَ مِنْ
نِيَابَةِ حَلَبَ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِهِ، وَتَلَقَّوْهُ إِلَى أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ، وَحَمَلَتْ لَهُ الْعَامَّةَ الشُّمُوعَ فِي طُرُقَاتِ الْبَلَدِ،
وَلَبِسَ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ خِلْعَةَ الْحِجَابَةِ
الْكَبِيرَةِ بِدِمَشْقَ عِوَضًا عَنْ نِيَابَةِ صَفَدَ.
، وَوَرَدَتْ كُتُبُ الْحُجَّاجِ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ
مُؤَرَّخَةً سَابِعَ عِشْرِينَ ذِي الْحِجَّةِ مِنَ الْعُلَا - وَذَكَرُوا أَنَّ
صَاحِبَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ عَدَا عَلَيْهِ فِدَاوِيَّانِ عِنْدَ
لُبْسِهِ خِلْعَةَ السُّلْطَانِ، وَقْتَ دُخُولِ الْمَحْمَلِ
إِلَى الْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ، فَقَتْلَاهُ، فَعَدَتْ عَبِيدُهُ عَلَى
الْحَجِيجِ الَّذِينَ هُمْ دَاخِلَ الْمَدِينَةِ، فَنَهَبُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ،
وَقَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَخَرَجُوا، وَكَانُوا قَدْ أَغْلَقُوا أَبْوَابَ
الْمَدِينَةِ دُونَ الْجَيْشِ فَأُحْرِقَ بَعْضُهَا، وَدَخَلَ الْجَيْشُ
السُّلْطَانِيُّ، فَاسْتَنْقَذُوا النَّاسَ مِنْ أَيْدِي الظَّالِمِينَ. وَدَخَلَ
الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ السَّبْتِ الْعِشْرِينَ مِنْ
هَذَا الشَّهْرِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَيْنَ يَدَيِ الْمَحْمَلِ الْفِدَاوِيَّانِ
اللَّذَانِ قَتَلَا صَاحِبَ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ عَنْهُ أُمُورٌ
شَنِيعَةٌ بَشِعَةٌ; مِنْ غُلُوِّهِ فِي الرَّفْضِ الْمُفْرِطِ، وَمِنْ قَوْلِهِ
إِنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ لَأَخْرَجَ الشَّيْخَيْنِ مِنَ الْحُجْرَةِ، وَغَيْرَ
ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتٍ مُؤَدِّيَةٍ لِعَدَمِ إِيمَانِهِ، إِنْ صَحَّ عَنْهُ
ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَادِسِ صَفَرٍ مُسِكَ الْأَمِيرُ شِهَابُ
الدِّينِ بْنُ صُبْحٍ حَاجِبُ الْحُجَّابِ، وَوَلَدَاهُ الْأَمِيرَانِ، وَحُبِسُوا
فِي الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ، ثُمَّ سَافَرَ بِهِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ
بْنُ جَارَبِكَ بَعْدَ أَيَّامٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَفِي رِجْلِ
ابْنِ صُبْحٍ قَيْدٌ، وَذُكِرَ أَنَّهُ فُكَّ مِنْ رِجْلِهِ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ. وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ عَشَرَ صَفَرٍ قَدِمَ نَائِبُ
طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ عَبْدُ الْغَنِيِّ، فَأُدْخِلَ الْقَلْعَةَ،
ثُمَّ سَافَرَ بِهِ الْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُحْتَفِظًا بِهِ مُضَيِّقًا عَلَيْهِ، وَجَاءَ
الْخَبَرُ بِأَنَّ مَنْجَكَ سَافَرَ مِنْ صَفَدَ عَلَى الْبَرِيدِ مَطْلُوبًا
إِلَى السُّلْطَانِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَزَّةَ بَرِيدٌ وَاحِدٌ
دَخَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ خَدَمِهِ التِّيهَ فَارًّا مِنَ السُّلْطَانِ، وَحِينَ
وَصَلَ الْخَبَرُ إِلَى نَائِبِ غَزَّةَ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَأَعْجَزَهُ،
وَتَفَارَطَ الْأَمْرُ.
مَسْكُ الْأَمِيرِ عَلِيٍّ الْمَارِدَانِيِّ نَائِبِ الشَّامِ
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ، رَكِبَ الْجَيْشُ إِلَى تَحْتِ الْقَلْعَةِ
مُلْبِسِينَ، وَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ فِي الْقَلْعَةِ فِي نَاحِيَةِ
الطَّارِمَةِ، وَجَاءَ الْأُمَرَاءُ بِالطَّبْلَخَانَاهْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
وَالْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ الْأَمْرِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ
الْحَاجِبُ، وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ دَاخِلَ دَارِ السَّعَادَةِ، وَالرُّسُلُ
مُرَدَّدَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَيْشِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَحُمِلَ عَلَى سُرُوجٍ
يَسِيرَةٍ مُحْتَاطًا عَلَيْهِ إِلَى نَاحِيَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَاسْتَوْحَشَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ عِنْدَ بَابِ النَّصْرِ، فَتَبَاكَى النَّاسُ
رَحْمَةً لَهُ، وَأَسَفَةً عَلَيْهِ; لِدِيَانَتِهِ، وَقِلَّةِ أَذِيَّتِهِ، وَأَذِيَّةِ
الرَّعِيَّةِ، وَإِحْسَانِهِ إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْقُضَاةِ.
ثُمَّ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ احْتِيطَ
عَلَى الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ; وَهُمُ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ طَيْبُغَا
حَاجِّي أَحَدُ مُقَدَّمِي الْأُلُوفِ، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ قُطْلِيجَا
الدَّوَادَارُ أَحَدُ الْمُقَدَّمَيْنِ أَيْضًا، وَالْأَمِيرُ عَلَاءُ الدِّينِ
أَيْدُغْمُشُ الْمَارِدَانِيُّ أَحَدُ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ، وَكَانَ
هَؤُلَاءِ مِمَّنْ حَضَرَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ الْمَذْكُورَ، وَهُمْ جُلَسَاؤُهُ
وَسُمَّارُهُ، وَالَّذِينَ بِسِفَارَتِهِ أُعْطُوا الْأَخْبَازَ،
وَالطَّبْلَخَانَاهْ، وَالتَّقَادُمَ، فَرُفِعُوا إِلَى الْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ مُعْتَقَلِينَ بِهَا مَعَ مَنْ بِهَا مِنَ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ
وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ عَلِيًّا رُدَّ مِنَ الطَّرِيقِ بَعْدَ
مُجَاوَزَتِهِ غَزَّةَ، وَأُرْسِلَ إِلَيْهِ بِتَقْلِيدِ نِيَابَةِ صَفَدَ
الْمَحْرُوسَةِ، فَتَمَاثَلَ الْحَالُ، وَفَرِحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُهُ
وَأَحْبَابُهُ، وَقَدِمَ مُتَسَلِّمُ نَائِبِ دِمَشْقَ
الَّذِي خُلِعَ عَلَيْهِ بِنِيَابَتِهَا بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ سَادِسَ عَشَرَ شَهْرِ رَجَبٍ بَعْدَ أَنِ
اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ مِرَارًا، وَبَاسَ الْأَرْضَ مِرَارًا، فَلَمْ يُعْفِهِ
السُّلْطَانُ; وَهُوَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ أَخُو يَلْبُغَا
الْيَحْيَاوِيِّ، الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ، وَبِنْتُهُ الْيَوْمَ زَوْجَةُ
السُّلْطَانِ، قَدِمَ مُتَسَلِّمُهُ إِلَى دِمَشْقَ يَوْمَ الْخَمِيسَ سَلْخَ
الشَّهْرِ، فَنَزَلَ فِي دَارِ السَّعَادَةِ، وَرَاحَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ
لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّوَدُّدِ إِلَيْهِ، وَحُمِلَتْ إِلَيْهِ
الضِّيَافَاتُ، وَالتَّقَادُمُ.
كَائِنَةٌ وَقَعَتْ بِقَرْيَةِ حَوْرَانَ فَأَوْقَعَ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسًا
شَدِيدًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَشْهَرُ أَهْلِ قَرْيَةٍ بِحَوْرَانَ، وَهِيَ خَاصٌّ
لِنَائِبِ الشَّامِ وَهُمْ حَلَبِيَّةُ يَمَنٍ، وَيُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لَبْسَهْ،
وَبَنِي نَاشِي، وَهِيَ حَصِينَةٌ مَنِيعَةٌ، يَضْوِي إِلَيْهَا كُلُّ مُفْسِدٍ،
وَقَاطِعٍ، وَمَارِقٍ، وَلَجَأَ إِلَيْهِمْ أَحَدُ شَيَاطِينِ رُوسِ الْعَشِيرِ،
وَهُوَ عُمَرُ الْمَعْرُوفُ بِالدُّنِيطِ، فَأَعَدُّوا عُدَدًا كَثِيرَةً،
وَنَهَبُوا لِيَغْنَمُوا الْعَشِيرَ، وَفِي هَذَا الْحِينِ بَدَرَهُمْ وَالِي
الْوُلَاةِ الْمَعْرُوفُ بِشَنْكَلَ مَنْكَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ لِيَرُدَّهُمْ،
وَيَهْدِيَهُمْ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ عُمَرَ الدُّنِيطَ فَأَبَوْا عَلَيْهِ،
وَرَامُوا مُقَاتَلَتَهُ، وَهُمْ جَمْعٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، فَتَأَخَّرَ
عَنْهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ لِيَمُدَّهُ بِجَيْشٍ عَوْنًا
لَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ، فَجَهَّزَ لَهُ جَمَاعَةً مِنْ أُمَرَاءِ
الطَّبْلَخَانَاهْ، وَالْعَشَرَاوَاتِ وَمِائَةً مِنْ جُنْدِ الْحَلْقَةِ
الرُّمَاةِ، فَلَمَّا بَغَتَهُمْ فِي بَلَدِهِمْ تَجَمَّعُوا لِقِتَالِ
الْعَسْكَرِ، وَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ وَالْمَقَالِيعِ، وَحَجَزُوا
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَلَدِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَمَتْهُمُ
الْأَتْرَاكُ بِالنِّبَالِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ فَوْقَ
الْمِائَةِ، فَفَرُّوا رَاجِعِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ وَالِي
الْوُلَاةِ نَحَّوْا مِنْ سِتِّينَ رَجُلًا، وَأَمَرَ بِقَطْعِ رُءُوسِ الْقَتْلَى
وَتَعْلِيقِهَا فِي أَعْنَاقِ هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى، وَنُهِبَتْ بُيُوتُ
الْفَلَّاحِينَ كُلُّهَا، وَسُلِّمَتْ إِلَى مَمَالِيكِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ;
لَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا مَا يُسَاوِي ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَكَرَّ رَاجِعًا
إِلَى بُصْرَى، وَشُيُوخُ الْعَشِيرَاتِ مَعَهُ، فَأَخْبَرَنِي الْأَمِيرُ صَلَاحُ
الدِّينِ بْنُ خَاصَ تُرْكَ - وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ أُمَرَاءِ الطَّبْلَخَانَاهْ
الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ - بِمَبْسُوطِ مَا يَخُصُّهُ، وَأَنَّهُ كَانَ إِذَا
أَعْيَا بَعْضُ أُولَئِكَ الْأَسْرَى مِنَ الْجَرْحَى أَمَرَ الْمَشَاعِلِيَّ
بِذَبْحِهِ وَتَعْلِيقِ رَأْسِهِ عَلَى بَقِيَّةِ الْأَسْرَى، وَفَعَلَ هَذَا
بِهِمْ غَيْرَ مَرَّةٍ حَتَّى إِنَّهُ قَطَعَ رَأْسَ شَابٍّ مِنْهُمْ، وَعَلَّقَ
رَأَّسَهُ عَلَى أَبِيهِ; شَيْخٍ كَبِيرٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، حَتَّى قَدِمَ بِهِمْ بُصْرَى فَشَكَلَ طَائِفَةً مِنْ أُولَئِكَ
الْمَأْسُورِينَ، وَشَكَلَ آخَرِينَ وَوَسَّطَ الْآخَرِينَ، وَحَبَسَ بَعْضَهُمْ
فِي الْقَلْعَةِ، وَعَلَّقَ الرُّءُوسَ عَلَى أَخْشَابٍ نَصَبَهَا حَوْلَ قَلْعَةِ
بُصْرَى، فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَنْكِيلٌ شَدِيدٌ لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ فِي هَذَا
الْأَوَانِ بِأَهْلِ حَوْرَانَ، وَهَذَا كُلُّهُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ بِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي
بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ الْأَنْعَامِ: 129 ].
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
دُخُولُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَسَنْدَمُرَ
الْيَحْيَاوِيِّ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ كَانَ دُخُولُ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ أَسَنْدَمُرَ الْيَحْيَاوِيِّ نَائِبًا عَلَى
دِمَشْقَ مِنْ جِهَةِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ،
وَاحْتَفَلُوا لَهُ احْتِفَالًا زَائِدًا، وَشَاهَدْتُهُ حِينَ تَرَجَّلَ
لِتَقْبِيلِ الْعَتَبَةِ وَبِعَضُدِهِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ
الَّذِي كَانَ حَاجِبَ الْحُجَّابِ، وَعُيِّنَ لِنِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ،
فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ عَلَى الْعَتَبَةِ، وَقَدْ بُسِطَ لَهُ
عِنْدَهَا مَفَارِشُ وَصَمَدَةٌ هَائِلَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ رَكِبَ فَتَعَضَّدَهُ
بَيْدَمُرُ أَيْضًا، وَسَارَ نَحْوَ الْمَوْكِبِ، فَأَوْكَبَ ثُمَّ عَادَ إِلَى
دَارِ السَّعَادَةِ عَلَى عَادَةِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ النُّوَّابِ، وَجَاءَ
تَقْلِيدُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ
لِنِيَابَةِ حَلَبَ الْمَحْرُوسَةِ.
وَفِي آخِرِ نَهَارِ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَرَدَ الْبَرِيدُ
الْبَشِيرِيُّ، وَعَلَى يَدِهِ مَرْسُومٌ شَرِيفٌ بِنَفْيِ الْقَاضِي بَهَاءِ
الدِّينِ أَبِي الْبَقَاءِ، وَأَوْلَادِهِ، وَأَهْلِهِ إِلَى طَرَابُلُسَ بِلَا
وَظِيفَةٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِيهِ وَمَنْ يَلِيهِ،
وَتَغَمَّمَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَسَافَرَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ
أُذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِنَابَةِ فِي جِهَاتِهِ، فَاسْتَنَابَ، وَلَدَهُ
الْكَبِيرَ وَلِيَّ الدِّينِ.
وَاشْتَهَرَ فِي شَوَّالٍ أَنَّ الْأَمِيرَ سَيْفَ الدِّينِ مَنْجَكَ الَّذِي
كَانَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ بِالشَّامِ وَهَرَبَ، وَلَمْ يُطَّلَعْ لَهُ عَلَى
خَبَرٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْوَقْتِ - ذُكِرَ أَنَّهُ مُسِكَ بِبَلَدٍ
بِحَرَّانَ مِنْ مُعَامَلَةِ مَارِدِينَ فِي زِيِّ فَقِيرٍ، وَأَنَّهُ احْتُفِظَ
عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ فَدَاوَيْهِ، وَعَجِبَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَظْهَرْ لِذَلِكَ حَقِيقَةٌ، وَكَانَ الَّذِينَ رَأَوْهُ
ظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ، فَإِذَا هُوَ فَقِيرٌ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ، يُشْبِهُهُ
مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَاشْتَهَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ أَنَّ الْأَمِيرَ عِزَّ الدِّينِ فَيَّاضَ بْنَ مُهَنَّا مَلِكَ الْعَرَبِ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَوَرَدَتِ الْمَرَاسِيمُ السُّلْطَانِيَّةُ لِمَنْ بِأَرْضِ الرَّحْبَةِ مِنَ الْعَسَاكِرِ الدِّمَشْقِيَّةِ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ مُقَدَّمِينَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، وَكَذَلِكَ جَيَّشُ حَلَبَ، وَغَيْرُهُ - بِتَطَلُّبِهِ، وَإِحْضَارِهِ إِلَى بَيْنِ يَدَيِ السُّلْطَانِ، فَسَعَوْا فِي ذَلِكَ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ، فَعَجَزُوا عَنْ لِحَاقِهِ، وَالدُّخُولِ وَرَاءَهُ إِلَى الْبَرَارِي، وَتَفَارَطَ الْحَالُ، وَخَلَصَ إِلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ، فَضَاقَ النِّطَاقُ، وَتَعَذَّرَ اللِّحَاقُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَسُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ،
وَقُضَاةُ مِصْرَ وَالشَّامِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَنَائِبُ الشَّامِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ أَخُو يَلْبُغَا
الْيَحْيَاوِيِّ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ بْنُ
الْقَلَانِسِيِّ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ الشَّيْخِ صَلَاحِ
الدِّينِ الْعَلَائِيِّ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ
الْمُحَرَّمِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مِنَ الْغَدِ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بَعْدَ
صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَلَهُ مِنَ
الْعُمْرِ سِتٌّ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَكَانَ مُدَّةَ مُقَامِهِ بِالْقُدْسِ
مُدَرِّسًا بِالْمَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيَّةِ وَشَيْخًا بِدَارِ الْحَدِيثِ
السُّكَّرِيَّةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ صَنَّفَ، وَأَلَّفَ، وَجَمَعَ،
وَخَرَّجَ، وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي مَعْرِفَتِهِ الْعَالِيَ،
وَالنَّازِلَ، وَتَخْرِيجِ الْأَجْزَاءِ وَالْفَوَائِدِ، وَلَهُ مُشَارَكَةٌ
قَوِيَّةٌ فِي الْفِقْهِ، وَاللُّغَةِ، وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالْأَدَبِ، وَفِي
كِتَابَتِهِ ضَعْفٌ لَكِنْ مَعَ صِحَّةٍ وَضَبْطٍ لِمَا يُشْكِلُ، وَلَهُ عِدَّةُ
مُصَنَّفَاتٍ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَفَهَا عَلَى الْخَانِقَاهْ
السُّمَيْسَاطِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، وَقَدْ وَلِيَ بَعْدُهُ التَّدْرِيسَ
بِالصَّلَاحِيَّةِ الْخَطِيبُ بُرْهَانُ الدِّينِ بْنُ جَمَاعَةَ وَالنَّظَرَ
بِهَا، وَكَانَ مَعَهُ تَفْوِيضٌ مِنْهُ مُتَقَدِّمُ التَّارِيخِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّادِسِ مِنْ مُحَرَّمٍ احْتِيطَ عَلَى مُتَوَلِّي
الْبَرِّ ابْنِ بَهَادُرَ السَّنْجَرِيِّ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ بِالْعَذْرَاوِيَّةِ;
بِسَبَبِ أَنَّهُ اتُّهِمَ بِأَخْذِ مَطْلَبٍ مِنْ نُعْمَانِ الْبَلْقَاءِ هُوَ
وَكُجْكُنُ الْحَاجِبُ، وَقَاضِي حَسَّانَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ مُرَافَعَةٌ
مِنْ خَصْمٍ عَدُوٍّ لَهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. ثُمَّ ظُهِرَ عَلَى رَجُلٍ يُزَوِّرُ الْمَرَاسِيمَ الشَّرِيفَةَ،
وَأُخِذَ بِسَبَبِهِ مُدَرِّسُ الصَّارِمِيَّةِ; لِأَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ فِي
الْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ،
وَكَذَلِكَ عَلَى الشَّيْخِ زَيْنِ الدِّينِ زَيْدٍ الْمَغْرِبِيِّ الشَّافِعِيِّ،
وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ يَطْلُبُ مَرْسُومًا لِمَدْرَسَةِ الْأَكْزِيَّةِ،
وَضُرِبَ أَيْضًا، وَرُسِمَ عَلَيْهِ فِي حَبْسِ السَّدِّ، وَكَذَلِكَ حُبِسَ
الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ الَّذِي كَانَ مُتَوَلِّيَ الْبَلَدِ; لِأَنَّهُ
كَانَ قَدْ كَتَبَ لَهُ مَرْسُومٌ شَرِيفٌ بِالْوِلَايَةِ، فَلَمَّا فَهِمَ ذَلِكَ
كَاتِبُ السِّرِّ أَطْلَعَ عَلَيْهِ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ، فَانْفَتَحَ عَلَيْهِ
الْبَابُ، وَحُبِسُوا كُلُّهُمْ بِالسَّدِّ، وَجَاءَتْ كُتُبُ الْحُجَّاجِ
لَيْلَةَ السَّبْتِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَأَخْبَرَتْ
بِالْخِصْبِ، وَالرُّخْصِ، وَالْأَمْنِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ السَّبْتِ الثَّانِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ، ثُمَّ دَخَلَ
الْحَجِيجُ بَعْدَهُ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ، وَقَدْ لَقُوا
مِنْ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِ حَوْرَانَ عَنَاءً وَشِدَّةً، وَوَقَعَتْ جِمَالَاتٌ
كَثِيرَةٌ، وَسُبِيَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، وَحَصَلَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ تَعَبٌ شَدِيدٌ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ قُطِعَتْ يَدُ
الَّذِي زَوَّرَ الْمَرَاسِيمَ، وَاسْمُهُ السَّرَّاجُ عُمَرُ الْقِفْطِيُّ
الْمِصْرِيُّ، وَهُوَ شَابٌّ كَاتِبٌ مِنْطِيقٌ - عَلَى مَا ذُكِرَ - وَحُمِلَ فِي
قَفَصٍ عَلَى جَمَلٍ، وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ، وَلَمْ يُحْسَمْ بَعْدُ وَالدَّمُ
يَنْصَبُّ مِنْهَا، وَأُرْكِبَ مَعَهُ الشَّيْخُ زَيْنُ الدِّينِ زِيدٌ عَلَى
جَمَلٍ، وَهُوَ مَنْكُوسٌ وَجْهُهُ إِلَى نَاحِيَةِ دُبُرِ الْجَمَلِ، وَهُوَ
عُرْيَانُ مَكْشُوفُ الرَّأْسِ، وَكَذَلِكَ الْبَدْرُ الْحِمْصِيُّ عَلَى جَمَلٍ
آخَرَ، وَأُرْكِبَ الْوَالِي شِهَابُ الدِّينِ عَلَى جَمَلٍ آخَرَ، وَعَلَيْهِ
تَخْفِيفَةٌ صَغِيرَةٌ، وَخُفٌّ، وَقَبَاءٌ، وَطِيفَ بِهِمْ فِي مَحَالِّ
الْبَلَدِ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يُزَوِّرُ عَلَى
السُّلْطَانِ، ثُمَّ أُوْدِعُوا حَبْسَ الْبَابِ الصَّغِيرِ، وَكَانُوا قَبْلَ
هَذَا التَّعْزِيرِ فِي حَبْسِ السُّدِّ، وَمِنْهُ أُخِذُوا وَأُشْهِرُوا،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
مَسْكُ مَنْجَكَ، وَصِفَةُ الظُّهُورِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مُخْتَفِيًا
بِدِمَشْقَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ.
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
جَاءَ نَاصِحٌ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
أَسَنْدَمُرَ، فَأَخْبَرَهُ بِأَنَّ مَنْجَكَ فِي دَارٍ بِالشَّرَفِ الْأَعْلَى،
فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى ذَلِكَ الْمَنْزِلِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بَعْضَ
الْحَجَبَةِ، وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ
خَوَاصِّهِ - فَأُحْضِرُ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ مُحْتَفَظًا عَلَيْهِ جَدًّا، بِحَيْثُ إِنَّ بَعْضَهُمْ رَدَفَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَاحْتَضَنَهُ، فَلَمَّا وَاجَهَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ أَكْرَمَهُ، وَتَلَقَّاهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى مِقْعَدَتِهِ، وَتَلَطُّفَ بِهِ، وَسَقَاهُ، وَأَضَافَهُ - وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ صَائِمًا فَأَفْطَرَ عِنْدَهُ - وَأَعْطَاهُ مِنْ مَلَابِسِهِ، وَقَيَّدَهُ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ مِنْ لَيْلَتِهِ - لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ - مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْجُنْدِ وَبَعْضِ الْأُمَرَاءِ; مِنْهُمْ حُسَامُ الدِّينِ أَمِيرُ حَاجِبِ، وَقَدْ كَانَ أَرْسَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَلَدَهُ بِسَيْفِ مَنْجَكَ مِنْ أَوَائِلِ النَّهَارِ، وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ جَدًّا، وَمَا كَانَ يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عُدِمَ بِاغْتِيَالٍ أَوْ أَنَّهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَلَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ أَنَّهُ فِي وَسَطِ دِمَشْقَ، وَأَنَّهُ يَمْشِي بَيْنَهُمْ مُتَنَكِّرًا، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ الْجُمُعَاتِ بِجَامِعِ دِمَشْقَ، وَيَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ مُتَنَكِّرًا فِي لُبْسِهِ وَهَيْئَتِهِ، وَمَعَ هَذَا لَنْ يُغْنِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ، وَأُرْسِلَ وَلَدُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ بِالسَّيْفِ وَبِمَلَابِسِهِ الَّتِي كَانَ يَتَنَكَّرُ بِهَا، وَبُعِثَ هُوَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْحَجَبَةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَجَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُقَيَّدًا مُحْتَفَظًا عَلَيْهِ، وَرَجَعَ ابْنُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ بِالتُّحَفِ، وَالْهَدَايَا، وَالْخِلَعِ، وَالْأَنْعَامِ لِوَالِدِهِ، وَلِحَاجِبِ الْحُجَّابِ، وَلَبِسَ ذَلِكَ الْأُمَرَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاحْتَفَلَ النَّاسُ بِالشُّمُوعِ، وَغَيْرِهَا، ثُمَّ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِدُخُولِ مَنْجَكَ إِلَى السُّلْطَانِ، وَعَفْوِهِ عَنْهُ، وَخِلْعَتِهِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ، وَإِطْلَاقِهِ لَهُ الْحُسَامَ، وَالْخُيُولَ الْمُسَوَّمَةَ، وَالْأَلْبِسَةَ الْمُفْتَخَرَةَ، وَالْأَمْوَالَ، وَالْأَمَانَ، وَتَقْدِيمِ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ لَهُ مِنْ سَائِرِ صُنُوفِ التُّحَفِ، وَقَدِمَ الْأَمِيرُ عَلِيٌّ مِنْ صَفَدَ قَاصِدًا إِلَى حَمَاةَ لِنِيَابَتِهَا، فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ رَابِعَ صَفَرٍ،
وَتَوَجَّهَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ سَابِعَهُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ قَدِمَ الْقَاضِي بَهَاءُ
الدِّينِ أَبُو الْبَقَاءِ مِنْ طَرَابُلُسَ بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ أَنْ يَعُودَ
إِلَى دِمَشْقَ عَلَى وَظَائِفِهِ الْمُبْقَاةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ وَلَدُهُ
وَلِيُّ الدِّينِ يَنُوبُ عَنْهُ فِيهَا، فَتَلَقَّاهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَبَرَزَ إِلَيْهِ قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجُ الدِّينِ
إِلَى حَرَسْتَا، وَرَاحَ النَّاسُ إِلَى تَهْنِئَتِهِ إِلَى دَارِهِ، وَفَرِحُوا
بِرُجُوعِهِ إِلَى وَطَنِهِ. وَوَقَعَ مَطَرٌ عَظِيمٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الشَّهْرِ
- وَهُوَ أَثْنَاءُ شَهْرِ شُبَاطَ - وَثَلْجٌ عَظِيمٌ جِدًّا، فَرَوِيَتِ
الْبَسَاتِينُ الَّتِي كَانَتْ لَهَا عَنِ الْمَاءِ عِدَّةُ شُهُورٍ، وَلَا
يَحْصُلُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ سَقْيٌ إِلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ وَمَشَقَّةٍ،
وَمَبْلَغٍ كَثِيرٍ، حَتَّى كَادَ النَّاسُ يَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ بِالْأَيْدِي،
وَالدَّبَابِيسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَذْلِ الْكَثِيرِ، وَذَلِكَ فِي
شُهُورِ كَانُونَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَأَوَّلِ شُبَاطَ; وَذَلِكَ لِقِلَّةِ
مِيَاهِ الْأَنْهَارِ وَضَعْفِهَا، وَكَذَلِكَ بِلَادُ حَوْرَانَ أَكْثَرُهُمْ
يَرْوُونَ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ، ثُمَّ مَنَّ اللَّهُ
تَعَالَى فَجَرَتِ الْأَوْدِيَةُ، وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ، وَالثُّلُوجُ،
وَغَزُرَتِ الْأَنْهَارُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَتَوَالَتِ الْأَمْطَارُ
فَكَأَنَّهُ حَصَلَ السَّيْلُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ كَانُونَ إِلَى شُبَاطَ،
فَكَأَنَّ شُبَاطَ هُوَ كَانُونُ، وَكَانُونَ لَمْ يَسِلْ فِيهِ مِيزَابٌ وَاحِدٌ.
وَوَصَلَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ مَنْجَكَ إِلَى
الْقُدْسِ الشَّرِيفِ; لِيَبْتَنِيَ لِلسُّلْطَانِ مَدْرَسَةً وَخَانَقَاهْ
غَرْبِيَّ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ، وَأُحْضِرَ الطَّرْخَانُ الَّذِي كُتِبَ لَهُ
بِمَاءِ الذَّهَبِ إِلَى دِمَشْقَ، وَشَاهَدَهُ النَّاسُ، وَوَقَعْتُ عَلَى
نُسْخَتِهِ وَفِيهَا تَعْظِيمٌ زَائِدٌ وَمَدْحٌ
وَثَنَاءٌ لَهُ، وَشُكْرٌ عَلَى مُتَقَدَّمِ خِدَمِهِ لِهَذِهِ
الدَّوْلَةِ، وَالْعَفْوُ عَمَّا مَضَى مِنْ زَلَّاتِهِ، وَذِكْرُ سِيرَتِهِ
بِعِبَارَةٍ حَسَنَةٍ.
وَفِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ رُسِمَ عَلَى الْمُعَلِّمِ سَنْجَرَ
مَمْلُوكِ ابْنِ هِلَالٍ صَاحِبِ الْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ بِمَرْسُومٍ شَرِيفٍ
قَدِمَ مَعَ الْبَرِيدِ، وَطُلِبَ مِنْهُ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَاحْتِيطَ عَلَى الْعِمَارَةِ الَّتِي أَنْشَاهَا عِنْدَ بَابِ
النَّاطِفَانِيِّينَ لِيَجْعَلَهَا مَدْرَسَةً، وَرُسِمَ بِأَنْ يُعْمَرَ
مَكَانَهَا مَكْتَبٌ لِلْأَيْتَامِ، وَأَنْ يُوقَفَ عَلَيْهِمْ كِفَايَتُهُمْ
جَارِيَةً عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ رُسِمَ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي كُلِّ مَدْرَسَةٍ
مِنْ مَدَارِسِ الْمَمْلَكَةِ الْكِبَارِ، وَهَذَا مَقْصِدٌ جَيِّدٌ، وَسُلِّمَ
الْمُعَلِّمُ سَنْجَرُ إِلَى شَادِّ الدَّوَاوِينِ يَسْتَخْلِصُ مِنْهُ
الْمَبْلَغَ الْمَذْكُورَ سَرِيعًا، فَعَاجَلَ بِحَمْلِ مِائَتَيْ أَلْفٍ،
وَسُيِّرَتْ مَعَ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
الِاحْتِيَاطُ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالدَّوَاوِينِ
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ خَامِسَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْآخِرِ وَرَدَ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ أَمِيرٌ مَعَهُ مَرْسُومٌ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى
دَوَاوِينِ السُّلْطَانِ; بِسَبَبِ مَا أَكَلُوا مِنَ الْأَمْوَالِ الْمُرَتَّبَةِ
لِلنَّاسِ مِنَ الصَّدَقَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَرُسِمَ
عَلَيْهِمْ بِدَارِ الْعَدْلِ الْبَرَّانِيَّةِ، وَأُلْزِمُوا بِأَمْوَالٍ
جَزِيلَةٍ كَثِيرَةٍ، بِحَيْثُ احْتَاجُوا إِلَى بَيْعِ أَثَاثِهِمْ،
وَأَقْمِشَتِهِمْ، وَفُرُشِهِمْ، وَأَمْتِعَتِهِمْ، وَغَيْرِهَا، حَتَّى ذُكِرَ
أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُعْطِيهِ، فَأَحْضَرَ بَنَاتَهُ
إِلَى الدَّكَّةِ لِيَبِيعَهُنَّ، فَتَابَكَى النَّاسُ وَانْتَحَبُوا; رَحْمَةً
وَرِقَّةً لِأَبِيهِنَّ. ثُمَّ أُطْلِقَ بَعْضُهُمْ، وَهُمُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ
وَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا شَيْءَ مَعَهُمْ، وَبَقِيَتِ الْغَرَامَةُ عَلَى
الْكُبَرَاءِ مِنْهُمْ كَالصَّاحِبِ، وَالْمُسْتَوْفِينَ، ثُمَّ شُدِّدَتْ
عَلَيْهِمُ الْمُطَالَبَةُ، وَضُرِبُوا ضَرْبًا مُبَرِّحًا،
وَأَلْزَمُوا الصَّاحِبَ بِمَالٍ كَثِيرٍ، بِحَيْثُ إِنَّهُ
احْتَاجَ إِلَى أَنْ سَأَلَ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ وَالتُّجَّارِ
بِنَفْسِهِ وَبِأَوْرَاقِهِ، فَأَسْعَفُوهُ بِمَبْلَغٍ كَثِيرٍ يُقَارِبُ مَا
أُلْزِمَ بِهِ، بَعْدَ أَنْ عُرِّيَ لِيُضْرَبَ، وَلَكِنْ تُرِكَ، وَاشْتَهَرَ
أَنَّهُ قَدْ عُيِّنَ عِوَضُهُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
مَوْتُ فَيَّاضِ بْنِ مُهَنَّا: وَرَدَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ
الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْهُ، فَاسْتَبْشَرَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ،
وَأُرْسِلَ إِلَى السُّلْطَانِ مُبَشِّرُونَ بِذَلِكَ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ
خَرَجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مِيتَةَ جَاهِلِيَّةٍ
بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، أَرْضِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ، وَقَدْ ذُكِرَتْ عَنْ هَذَا
الْمَذْكُورِ أَشْيَاءٌ صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ ظُلْمِ النَّاسِ، وَالْإِفْطَارِ فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ بِلَا عُذْرٍ، وَأَمْرِهِ أَصْحَابَهُ وَذَوِيهِ بِذَلِكَ فِي
هَذَا الشَّهْرِ الْمَاضِي، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
كَائِنَةٌ عَجِيبَةٌ جِدًّا، وَهِيَ هَدْمُ الْمُعَلِّمِ سِنْجِرِ مَمْلُوكِ ابْنِ
هِلَالٍ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ أُطْلِقَ
الْمُعَلِّمُ الْهِلَالِيُّ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَوْا مِنْهُ تَكْمِيلَ
سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَاتَ فِي مَنْزِلِهِ عِنْدَ بَابِ
النَّاطِفَانِيِّينَ سُرُورًا بِالْخَلَاصِ، وَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إِلَى
الْحَمَّامِ، وَقَدْ وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، فَأَقْبَلَتِ
الْحَجَبَةُ، وَنُقَبَاءُ النَّقَبَةِ، وَالْأَعْوَانُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ،
فَقَصَدُوا دَارَهُ، فَاحْتَاطُوا بِهَا وَعَلَيْهَا بِمَا فِيهَا، وَرُسِمَ
عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدَيْهِ، وَأُخْرِجَتْ نِسَاؤُهُ مِنَ الْمَنْزِلِ فِي
حَالَةٍ صَعْبَةٍ، وَفَتَّشُوا النِّسَاءَ، وَانْتَزَعُوا
عَنْهُنَّ الْحُلِيَّ وَالْجَوَاهِرَ وَالنَّفَائِسَ،
وَاجْتَمَعَتِ الْعَامَّةُ وَالْغَوْغَاءُ، وَحَضَرَ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَمَعَهُ
الشُّهُودُ بِضَبْطِ الْأَمْوَالِ، وَالْحُجَجِ، وَالرُّهُونِ، وَأَحْضَرُوا
الْمُعَلِّمَ لِيَسْتَعْلِمُوا مِنْهُ جَلِيَّةَ ذَلِكَ، فَوَجَدُوا مِنْ حَاصِلِ
الْفِضَّةِ أَوَّلَ يَوْمٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعِينَ أَلْفًا، ثُمَّ
صَنَادِيقَ أُخْرَى لَمْ تُفْتَحْ، وَحَوَاصِلَ لَمْ يَصِلُوا إِلَيْهَا; لِضِيقِ
الْوَقْتِ، ثُمَّ أَصْبَحُوا يَوْمَ الْأَحَدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَاتَ
الْحَرَسُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَالْأَسْطُحَةِ لِئَلَّا يُعْدَى عَلَيْهَا فِي
اللَّيْلِ، وَبَاتَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ بِالْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ مُحْتَفَظًا
عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَقَّ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِمَا أَصَابَهُ مِنَ
الْمُصِيبَةِ الْعَظِيمَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَهَا سَرِيعًا.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ
بْنُ الدَّوَادَارُ السُّكَّرِيُّ، كَانَ ذَا مَكَانَةٍ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ
وَمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ، وَنَالَ مِنَ السَّعَادَةِ فِي وَظِيفَتِهِ أَقْصَاهَا،
ثُمَّ قَلَبَ اللَّهُ قَلْبَ أُسْتَاذِهِ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ، وَصَادَرَهُ،
وَعَزَلَهُ، وَسَجَنَهُ، وَنَزَلَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ، وَآلَ بِهِ الْحَالُ
إِلَى أَنْ كَانَ يَقِفُ عَلَى الْبَاعَةِ بِفَرَسِهِ وَيَشْتَرِي مِنْهُمْ،
وَيُحَاكِكُهُمْ، وَيَحْمِلُ حَاجَتَهُ مَعَهُ فِي سَرْجِهِ، وَصَارَ مُثْلَةً
بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ فِيهِ
الدُّوَادَرِيَّةُ مِنَ الْعِزِّ، وَالْجَاهِ، وَالْمَالِ، وَالرِّفْعَةِ فِي
الدُّنْيَا، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا يُرْفَعَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ
الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعَ عَشَرَهُ أُفْرِجَ عَنِ الْمُعَلِّمِ
الْهِلَالِيِّ وَعَنْ وَلَدَيْهِ، وَكَانُوا مُعْتَقَلِينَ بِالْقَلْعَةِ
الْمَنْصُورَةِ، وَسُلِّمَتْ إِلَيْهِمْ دُورُهُمْ وَحَوَاصِلُهُمْ، وَلَكِنْ
أُخِذَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي دَارِهِ، وَهُوَ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرُونَ
أَلْفًا، وَخُتِمَ عَلَى حُجَجِهِ لِيُعَقَدَ لِذَلِكَ مَجْلِسٌ لِيَرْجِعَ رَأْسُ
مَالِهِ مِنْهَا; عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا
تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [ الْبَقَرَةِ: 279 ]. وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي
الْبَلَدِ: إِنَّمَا فَعَلْنَا بِهِ ذَلِكَ; لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي الزَّكَاةَ،
وَيُعَامِلُ بِالرِّبَا، وَحَاجِبُ السُّلْطَانِ وَمُتَوَلِّي الْبَلَدِ
وَبَقِيَّةُ الْمُتَعَمِّمِينَ وَالْمَشَاعِلِيَّةُ تُنَادِي عَلَيْهِ فِي
أَسْوَاقِ الْبَلَدِ وَأَرْجَائِهَا.
وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ وَرَدَ الْمَرْسُومُ
السُّلْطَانِيُّ الشَّرِيفُ بِإِطْلَاقِ الدَّوَاوِينِ إِلَى دِيَارِهِمْ
وَأَهَالِيهِمْ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ لِخَلَاصِهِمْ مِمَّا كَانُوا
فِيهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالْمُصَادَرَةِ الْبَلِيغَةِ، وَلَكِنْ لَمْ
يَسْتَمِرَّ بِهِمْ فِي مُبَاشَرَاتِهِمْ.
وَفِي أَوَاخِرِ الشَّهْرِ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ الْمَقْدِسِيُّ
الْوَاعِظُ، قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ تُجَاهَ مِحْرَابِ
الصَّحَابَةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَحَضَرَ مِنْ قُضَاةِ الْقُضَاةِ:
الشَّافِعِيُّ وَالْمَالِكِيُّ، فَتَكَلَّمَ عَلَى تَفْسِيرِ آيَاتٍ مِنَ
الْقُرْآنِ، وَأَشَارَ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ إِشَارَاتِ الصُّوفِيَّةِ
بِعِبَارَاتٍ طَلْقَةٍ مُعْرَبَةٍ حُلْوَةٍ صَادِعَةٍ لِلْقُلُوبِ، فَأَفَادَ،
وَأَجَادَ، وَوَدَّعَ النَّاسَ بِعَوْدِهِ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَمَّا دَعَا
اسْتَنْهَضَ النَّاسَ لِلْقِيَامِ، فَقَامُوا فِي حَالِ الدُّعَاءِ، وَقَدِ
اجْتَمَعْتُ بِهِ بِالْمَجْلِسِ، فَرَأَيْتُهُ حَسَنَ الْهَيْئَةِ وَالْكَلَامِ
وَالتَّأَدُّبِ، فَاللَّهُ يُصْلِحُهُ وَإِيَّانَا. آمِينَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ جُمَادَى الْآخِرَةِ رَكِبَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ
بَيْدَمُرُ نَائِبُ حَلَبَ لِقَصْدِ غَزْوِ بِلَادِ سِيسَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ،
لَقَّاهُ اللَّهُ النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ هَذَا الشَّهْرِ أَصْبَحَ أَهْلُ الْقَلْعَةِ وَقَدْ نَزَلَ
جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ الْأَعْرَابِ مِنْ أَعَالِي مَحْبَسِهِمْ - فِي
عَمَائِمَ وَحِبَالٍ - إِلَى الْخَنْدَقِ، وَخَاضُوهُ، وَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِ
جِسْرِ الزَّلَابِيَّةِ، فَانْطَلَقَ اثْنَانِ، وَأُمْسِكَ
الثَّالِثُ الَّذِي تَبَقَّى فِي السَّجْنِ، وَكَأَنَّهُ كَانَ يُمْسِكُ لَهُمُ
الْحِبَالَ حَتَّى تَدَلَّوْا فِيهَا، فَاشْتَدَّ نَكِيرُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
عَلَى نَائِبِ الْقَلْعَةِ، وَضَرَبَ ابْنَيْهِ النَّقِيبَ وَأَخَاهُ
وَسَجَنَهُمَا، وَكَاتَبَ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ إِلَى السُّلْطَانِ، فَوَرَدَ
الْمَرْسُومُ بِعَزْلِ نَائِبِ الْقَلْعَةِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْهَا، وَطَلَبِهِ
لِمُحَاسَبَةِ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ فِي مُدَّةِ سِتِّ
سِنِينَ مُبَاشَرَتِهِ، وَعَزْلِ ابْنِهِ عَنِ النِّقَابَةِ، وَابْنِهِ الْآخَرِ
عَنِ اسْتَادَّارِيَّةِ السُّلْطَانِ، فَنَزَلُوا مِنْ عِزِّهِمْ إِلَى
عَزْلِهِمْ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشْرِهِ جَاءَ الْأَمِيرُ تَاجُ الدِّينِ
جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ نَائِبِ حَلَبَ،
وَقَدْ فَتَحَ بَلَدَيْنِ مِنْ بِلَادِ سِيسَ، وَهُمَا طَرَسُوسُ، وَأَذَنَةُ،
وَأَرْسَلَ مَفَاتِيحَهُمَا صُحْبَةَ جِبْرِيلَ الْمَذْكُورِ إِلَى السُّلْطَانِ -
أَيَّدَهُ اللَّهُ - ثُمَّ افْتَتَحَ حُصُونًا أُخَرَ كَثِيرَةً فِي أَسْرَعِ
مُدَّةٍ، وَأَيْسَرِ كُلْفَةٍ، وَخَطَبَ هُنَاكَ الْقَاضِي نَاصِرُ الدِّينِ
كَاتِبُ السِّرِّ خُطْبَةً بَلِيغَةً حَسَنَةً، وَبَلَغَنِي فِي كِتَابٍ أَنَّ
أَبْوَابَ كَنِيسَةِ أَذَنَةَ حُمِلَتْ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
الْمَرَاكِبِ، قُلْتُ: وَهَذِهِ هِيَ أَبْوَابُ النَّاصِرِيَّةِ الَّتِي
بِالسَّفْحِ، أَخَذَهَا صَاحِبُ سِيسَ عَامَ قَازَانَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، فَاسْتُنْفِذَتْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ بَلَغَنَا أَنَّ الشَّيْخَ قُطْبَ الدِّينِ
هِرْمَاسَ الَّذِي كَانَ شَيْخَ السُّلْطَانِ طُرِدَ عَنْ جَنَابِ مَخْدُومِهِ،
وَضُرِبَ، وَصُودِرَ، وَخُرِّبَتْ دَارُهُ إِلَى الْأَسَاسِ، وَنُفِيَ إِلَى
مِصْيَافٍ، فَاجْتَازَ بِدِمَشْقَ، وَنَزَلَ بِالْمَدْرَسَةِ الْحَلَبِيَّةِ
ظَاهِرَ بَابِ الْفَرَجِ،
وَزُرْتُهُ فِي مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعْتُ بِهِ
فَإِذَا هُوَ شَيْخٌ حَسَنٌ عِنْدَهُ مَا يُقَالُ، وَيُتَلَفَّظُ مُعْرِبًا
جَيِّدًا، وَلَدَيْهِ فَضِيلَةٌ، وَعِنْدَهُ تَوَاضُعٌ وَتَصَوُّفٌ، فَاللَّهُ
يُحْسِنُ عَاقِبَتَهُ. ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْعَذْرَاوِيَّةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ سَابِعَ شَهْرِ رَجَبٍ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ
شَرَفُ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ ابْنُ قَاضِي الْجَبَلِ الْحَنْبَلِيُّ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَطْلُوبًا عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى السُّلْطَانِ;
لِتَدْرِيسِ الطَّائِفَةِ الْحَنْبَلِيَّةِ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَاهَا
السُّلْطَانُ بِالْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَّةِ، وَخَرَجَ لِتَوْدِيعِهِ الْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، كَتَبَ اللَّهُ سَلَامَتَهُ.
مَسْكُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ أَسَنْدَمُرَ الْيَحْيَاوِيُّ
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ
قُبِضَ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ أَسَنْدَمُرَ
أَخِي يَلْبُغَا الْيَحْيَاوِيِّ، عَنْ كِتَابٍ وَرَدَ مِنَ السُّلْطَانِ صُحْبَةَ
الدَّوَادَارِ الصَّغِيرِ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ رَاكِبًا بِنَاحِيَةِ مَيْدَانِ
ابْنِ أَتَابِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى عِنْدِ مَقَابِرِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، احْتَاطَ عَلَيْهِ الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجَيْشِ، وَأَلْزَمُوهُ بِالذَّهَابِ إِلَى نَاحِيَةِ طَرَابُلُسَ، فَذَهَبَ
مِنْ عَلَى طَرِيقِ الشَّيْخِ رَسْلَانَ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنَ الْمَسِيرِ إِلَى
دَارِ السَّعَادَةِ، وَرُسِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ مَنْ أَوْصَلَهُ إِلَى
طَرَابُلُسَ مُقِيمًا بِهَا بَطَّالًا، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَبَقِيَ الْبَلَدُ بِلَا نَائِبٍ، يَحْكُمُ فِيهِ
الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ عَنْ مَرْسُومِ
السُّلْطَانِ، وَعُيِّنَ لِلنِّيَابَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بَيْدَمُرُ النَّائِبُ بِحَلَبَ.
وَفِي شَعْبَانَ وَصَلَ تَقْلِيدُ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ بِنِيَابَةِ
دِمَشْقَ، وَرُسِمَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ جَيْشِ حَلَبَ،
وَيَقْصِدَ الْأَمِيرَ حَيَّارَ بْنَ مُهَنَّا; لِيُحْضِرَهُ إِلَى خِدْمَةِ
السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ رُسِمَ لِنَائِبَيْ حَمَاةَ وَحِمْصَ أَنْ يَكُونَا
عَوْنًا لِلْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بَيْدَمُرَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ الْجُمُعَةِ رَابِعَهُ الْتَقَوْا مَعَ حَيَّارٍ عِنْدَ سَلَمْيَةَ،
فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَاتٌ، فَأَخْبَرَنِي الْأَمِيرُ تَاجُ الدِّينِ
إِسْرَائِيلُ الدَّوَادَارَ - وَكَانَ مُشَاهِدَ الْوَقْعَةِ - أَنَّ الْأَعْرَابَ
أَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعَرَبِ، وَكَانُوا
نَحْوَ الثَّمَانِمِائَةٍ، وَكَانَتِ التُّرْكُ مِنْ حَمَاةَ وَحِمْصَ وَحَلَبَ
مِائَةً وَخَمْسِينَ، فَرَمَوُا الْأَعْرَابَ بِالنِّشَابِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
طَائِفَةً كَثِيرَةً، وَلَمْ يُقْتَلْ مِنَ التُّرْكِ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ;
رَمَاهُ بَعْضُ التُّرْكِ - ظَانًّا أَنَّهُ مِنَ الْعَرَبِ - بِنَاشِجٍ
فَقَتَلَهُ، ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، وَخَرَجَتِ التُّرْكُ مِنَ
الدَّائِرَةِ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالٌ مِنَ التُّرْكِ وَمِنَ الْعَرَبِ، وَجَرَتْ
فِتْنَةٌ، وَجُرِّدَتْ أُمَرَاءُ عِدَّةٌ مِنْ دِمَشْقَ لِتَدَارُكِ الْحَالِ،
وَأَقَامَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ يَنْتَظِرُ وُرُودَهُمْ، وَقَدِمَ الْأَمِيرُ
عُمَرُ الْمُلَقَّبُ بِمُصَمَّعِ بْنِ مُوسَى بْنِ مُهَنَّا مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ أَمِيرًا عَلَى الْأَعْرَابِ، وَفِي صُحْبَتِهِ الْأَمِيرُ بَدْرُ
الدِّينِ رَمْلَةُ بْنُ جَمَّازٍ أَمِيرَانِ عَلَى الْأَعْرَابِ، فَنَزَلَ
مُصَمَّعٌ بِالْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَنَزَلَ الْأَمِيرُ رَمْلَةُ بِالنُّورِيَّةِ
عَلَى عَادَتِهِ، ثُمَّ تَوَجَّهَا إِلَى نَاحِيَةِ حَيَّارٍ بِمَنْ مَعَهُمَا
مِنْ عَرَبِ الطَّاعَةِ مِمَّنْ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ مِنْ تَجْرِيدَةِ دِمَشْقَ،
وَمَنْ يَكُونُ مَعَهُمْ مِنْ جَيْشِ حَمَاةَ وَحِمْصَ; لِتَحْصِيلِ الْأَمِيرِ
حَيَّارٍ، وَإِحْضَارِهِ إِلَى الْخِدْمَةِ الشَّرِيفَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى
يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
دُخُولُ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ
بَيْدَمُرَ إِلَى دِمَشْقَ
وَذَلِكَ صَبِيحَةَ يَوْمِ السَّبْتِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ، أَقْبَلَ
بِجَيْشِهِ مِنْ نَاحِيَةِ حَلَبَ، وَقَدْ بَاتَ بِوَطْأَةِ بَرْزَةَ لَيْلَةَ
السَّبْتِ، وَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى حَمَاةَ وَدُونِهَا، وَجَرَتْ لَهُ
وَقْعَةٌ مَعَ الْعَرَبِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ دَخَلَ
فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَتَجَمُّلٍ حَافِلٍ، فَقَبَّلَ الْعَتَبَةَ عَلَى
الْعَادَةِ، وَمَشَى إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ جَنَائِبُهُ فِي
لُبُوسٍ هَائِلَةٍ بَاهِرَةٍ، وَعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَعُدَدٍ ثَمِينَةٍ، وَفَرِحَ
الْمُسْلِمُونَ بِهِ لِشَهَامَتِهِ، وَصَرَامَتِهِ، وَأَمْرِهِ بِالْمَعْرُوفِ،
وَنَهْيِهِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُؤَيِّدُهُ وَيُسَدِّدُهُ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَطَبَتِ الْحَنَابِلَةُ
بِجَامِعِ الْقُبَيْبَاتِ، وَعُزِلَ عَنْهُ الْقَاضِي شِهَابُ الدِّينِ قَاضِي
الْعَسْكَرِ الْحَنَفِيُّ بِمَرْسُومِ نَائِبِ السُّلْطَانِ; لِأَنَّهُ كَانَ
يَعْرِفُ أَنَّهُ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَنَابِلَةِ مُنْذُ عُيِّنَ إِلَى هَذَا
الْحِينِ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْهُ قُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ دَبَادِبَ الدَّقَّاقُ - بِالْحَدِيدِ عَلَى مَا
شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ جَمَاعَةٌ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ
أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ شَتْمِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَرُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ الْمَالِكِيِّ، وَادُّعِيَ عَلَيْهِ،
فَأَظْهَرَ التَّجَانُنَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَى أَنْ قُتِلَ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ وَأَبْعَدَهُ، وَلَا رَحِمَهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ قُتِلَ مُحَمَّدٌ
الْمَدْعُو زُبَالَةَ الَّذِي
انْحَازَ لِابْنِ مَعْبَدٍ، عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ سَبِّ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعْوَاهُ أَشْيَاءَ
كُفْرِيَّةً، وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ، وَمَعَ
هَذَا يَصْدُرُ مِنْهُ أَحْوَالٌ بَشِعَةٌ فِي حَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضُرِبَتْ عُنُقَهُ أَيْضًا فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي سُوقِ
الْخَيْلِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي ثَالِثَ عَشَرَ شَوَّالٍ خَرَجَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ، وَأَمِيرُهُ
الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ قَرَاسُنْقُرَ، وَقَاضِي الْحَجِيجِ الشَّيْخُ
شَمْسُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سَنَدٍ الْمُحَدِّثُ، أَحَدُ الْمُفْتِينَ.
وَفِي أَوَاخِرِ شَهْرِ شَوَّالٍ أُخِذَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: حَسَنٌ - كَانَ
خَيَّاطًا بِمَحَلَّةٍ الشَّاغُورِ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْتَصِرَ لِفِرْعَوْنَ
لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَحْتَجُّ
بِأَنَّهُ فِي سُورَةِ " يُونُسَ " حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ:
آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ يُونُسَ: 90 ]. وَلَا يَفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ:
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [ يُونُسَ: 91 ]،
وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [
النَّازِعَاتِ: 25 ]، وَلَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا
الْمُزَّمِّلِ: 16 ]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ
الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ أَكْفَرُ الْكَافِرِينَ، كَمَا
هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسِ الْقَعْدَةِ قَدِمَ الْبَرِيدُ
بِطَلَبِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي تَكْرِيمٍ وَتَعْظِيمٍ - عَلَى
عَادَةِ تَنْكِزَ - فَتَوَجَّهَ النَّائِبُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدِ
اسْتَصْحَبَ مَعَهُ تُحَفًا سَنِيَّةً، وَهَدَايَا مُعَظَّمَةً تَصْلُحُ
لِلْإِيوَانِ الشَّرِيفِ، فِي صَبِيحَةِ السَّبْتِ رَابِعَ عَشَرَهُ، وَخَرَجَ
مَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ مِنَ الْحَجَبَةِ وَالْأُمَرَاءِ لِتَوْدِيعِهِ.
وَفِي أَوَائِلِ ذِي الْحِجَّةِ وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
بِخَطِّهِ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ تَاجِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ يَسْتَدْعِيهِ
إِلَى الْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَزِيَارَةِ قَبْرِ الْخَلِيلِ، وَيَذْكُرُ فِيهِ مَا
عَامَلَهُ بِهِ السُّلْطَانُ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَالْإِكْرَامِ، وَالِاحْتِرَامِ،
وَالْإِطْلَاقِ، وَالْإِنْعَامِ; مِنَ الْخَيْلِ، وَالتُّحَفِ، وَالْمَالِ،
وَالْغَلَّاتِ، فَتَوَجَّهَ نَحْوَهُ قَاضِيَ الْقُضَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
بَعْدَ الصَّلَاةِ رَابِعَهُ عَلَى سِتَّةٍ مِنْ خَيْلِ الْبَرِيدِ، وَمَعَهُ تُحَفٌ،
وَمَا يُنَاسِبُ مِنَ الْهَدَايَا، وَعَادَ عَشِيَّةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنَ
عَشَرَهُ إِلَى بُسْتَانِهِ.
وَوَقَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ وَالَّذِي قَبْلَهُ سُيُولٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي
أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ عِنْدَهُمْ، مِنْ ذَلِكَ مَا شَاهَدْنَا آثَارَهُ فِي
مَدِينَةِ بَعْلَبَكَّ، أَتْلَفَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ، وَاخْتَرَقَ
أَمَاكِنَ كَثِيرَةً مُتَعَدِّدَةً عِنْدَهُمْ، وَبَقِيَ آثَارُ سَيْحِهِ عَلَى
أَرَاضٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ سَيْلٌ وَقَعَ بِأَرْضِ خَيْرَانَ، أَتْلَفَ
شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَغَرِقَ فِيهِ قَاضِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَمَعَهُ
بَعْضُ الْأَخْيَارِ، كَانُوا وُقُوفًا عَلَى أَكَمَةٍ فَدَهَمَهُمْ أَمْرٌ
عَظِيمٌ، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا دَفْعَهُ وَلَا مَنْعَهُ فَهَلَكُوا، وَمِنْ ذَلِكَ
سَيْلٌ وَقَعَ بِنَاحِيَةِ جُبَّةِ عَسَّالٍ فَهَلَكَ بِهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْأَشْجَارِ، وَالْأَغْنَامِ، وَالْأَعْنَابِ، وَغَيْرِهَا، وَمِنْ
ذَلِكَ سَيْلٌ بِأَرْضِ حَلَبَ هَلَكَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
التُّرْكُمَانِ، وَغَيْرِهِمْ، رِجَالًا، وَنِسَاءً، وَأَطْفَالًا، وَغَنَمًا،
وَإِبِلًا - قَرَأْتُهُ مِنْ كِتَابِ مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ عَيَانًا، وَذَكَرَ
أَنَّهُ سَقَطَ عَلَيْهِمْ بَرَدٌ، وُزِنَتِ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ فَبَلَغَتْ
زِنَتُهَا سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَفِيهِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ
وَأَصْغَرُ.
الْأَمْرُ بِإِلْزَامِ الْقَلَنْدَرِيَّةِ بِتَرْكِ حَلْقِ لِحَاهُمْ
وَحَوَاجِبِهِمْ وَشَوَارِبِهِمْ
وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ حَسَبَ مَا حَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَإِنَّمَا
ذَكَرَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِالْكَرَاهِيَةِ. وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ السُّلْطَانِ
- أَيَّدَهُ اللَّهُ - إِلَى دِمَشْقَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ عَشَرَ
ذِي الْحِجَّةِ بِإِلْزَامِهِمْ بِزِيِّ الْمُسْلِمِينَ، وَتَرْكِ زِيِّ
الْأَعَاجِمِ وَالْمَجُوسِ، فَلَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنَ الدُّخُولِ
إِلَى بِلَادِ السُّلْطَانِ حَتَّى يَتْرُكَ هَذَا الزِّيَّ الْمُبْتَدَعَ، وَاللِّبَاسَ
الْمُسْتَشْنَعَ، وَمَنْ لَا يَلْتَزِمُ بِذَلِكَ يُعَزَّرُ شَرْعًا، وَيُقْلَعُ
مِنْ قَرَارِهِ قَلْعًا. وَكَانَ اللَّائِقُ أَنْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ أَكْلِ
الْحَشِيشَةِ الْخَسِيسَةِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِأَكْلِهَا،
وَسُكْرِهَا، كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمَقْصُودُ:
أَنَّهُمْ نُودِيَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ أَرْجَاءِ الْبَلَدِ
وَنَوَاحِيهِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَبَلَغَنَا فِي هَذَا الشَّهْرِ وَفَاةُ الشَّيْخِ الصَّالِحِ أَحْمَدَ بْنِ
مُوسَى الزُّرَعِيِّ بِمَدِينَةِ
خَيْرَانَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ خَامِسَ ذِي الْحِجَّةِ،
وَكَانَ مِنَ الْمُبْتَلَيْنَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَالْقِيَامِ فِي مَصَالِحِ النَّاسِ عِنْدَ السُّلْطَانِ
وَالدَّوْلَةِ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَالْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ كُجْكُنَ بْنِ الْأَقْوَشِ الَّذِي كَانَ حَاجِبًا
بِدِمَشْقَ وَأَمِيرًا، ثُمَّ عُزِلَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَنَفَاهُ السُّلْطَانُ
إِلَى طَرَابُلُسَ، فَمَاتَ هُنَاكَ.
وَقَدِمَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ عَائِدًا
مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقَدْ لَقِيَ مِنَ السُّلْطَانِ إِكْرَامًا،
وَإِحْسَانًا زَائِدًا فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ،
فَأَقَامَ بِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ، ثُمَّ سَلَكَ عَلَى طَرِيقِ غَابَةِ
أَرْصُوفَ يَصْطَادُ بِهَا، فَأَصَابَهُ وَعَكٌّ مَنَعَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَسْرَعَ
السَّيْرَ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ مِنْ صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي
وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ فِي أُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ، وَرِيَاسَةٍ طَائِلَةٍ،
وَتَزَايَدَ خُرُوجُ الْعَامَّةِ لِلتَّفَرُّجِ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ
فِي مَجِيئِهِ هَذَا، فَدَخَلَ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مُعَظَّمٌ، وَمُطَرَّزٌ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الْحُوفِيَّةِ،
وَالشَّالِيشِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ نِيَّتِهِ الْإِحْسَانُ إِلَى
الرَّعِيَّةِ، وَالنَّظَرُ فِي أَحْوَالِ الْأَوْقَافِ وَإِصْلَاحِهَا عَلَى
طَرِيقَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ، وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ الْمُبَارَكَةُ وَسُلْطَانُ الْإِسْلَامِ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَالشَّامِيَّةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ،
وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَيَلْتَحِقُ بِهِ - الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ ابْنُ
الْمَلِكِ النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
الصَّالِحِيُّ، وَلَا نَائِبَ لَهُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَقُضَاتُهُ
بِهَا هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَوَزِيرُهُ الْقَاضِي ابْنُ
خَصِيبٍ، وَنَائِبُ الشَّامِ بِدِمَشْقَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ
الْخَوَارِزْمِيُّ، وَالْقُضَاةُ وَالْخَطِيبُ وَبَقِيَّةُ الْأَشْرَافِ وَنَاظِرُ
الْجَيْشِ وَالْمُحْتَسِبُ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي،
وَالْوَزِيرُ ابْنُ قَرَوَيْنَهَ، وَكَاتِبُ السِّرِّ الْقَاضِي أَمِينُ الدِّينِ
بْنُ الْقَلَانِسِيِّ، وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ الْقَاضِي صَلَاحُ الدِّينِ
الصَّفَدَيُّ، وَهُوَ أَحَدُ مُوَقِّعِي الدَّسْتِ الْأَرْبَعَةِ، وَشَادُّ
الْأَوْقَافِ الْأَمِيرُ نَاصِرُ الدِّينِ بْنُ فَضْلِ اللَّهِ، وَحَاجِبُ
الْحُجَّابِ الْيُوسُفِيُّ، وَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
لِيَكُونَ بِهَا أَمِيرَ جُنْدَارَ، وَمُتَوَلِّي الْبَلَدِ نَاصِرُ الدِّينِ،
وَنَقِيبُ النُّقَبَاءِ ابْنُ الشُّجَاعِيِّ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ الْأَمِيرُ
عَلِيٌّ نَائِبُ حَمَاةَ مِنْهَا، فَدَخَلَ دِمَشْقَ مُجْتَازًا إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَنَزَلَ فِي الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى
دَارِ دَوَادَارَةِ يَلْبُغَا الَّذِي جَدَّدَ فِيهَا مَسَاكِنَ
كَثِيرَةً بِالْقَصَّاعِينَ، وَتَرَدَّدَ النَّاسُ إِلَيْهِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ،
فَأَقَامَ بِهَا إِلَى صَبِيحَةِ يَوْمِ الْخَمِيسِ تَاسِعِهِ، فَسَارَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ تَاسِعَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ أُحْضِرَ حَسَنُ بْنُ
الْخَيَّاطِ مِنْ مَحِلَّةِ الشَّاغُورِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ الْمَالِكِيِّ
مِنَ السِّجْنِ، وَنَاظَرَ فِي إِيمَانِ فِرْعَوْنَ، وَادُّعِيَ عَلَيْهِ
بِدَعَاوَى لِانْتِصَارِهِ لِفِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَصَدَّقَ ذَلِكَ
بِاعْتِرَافِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِمُنَاظَرَتِهِ فِي ذَلِكَ ثَانِيًا، وَهُوَ
شَيْخٌ كَبِيرٌ جَاهِلٌ عَامِّيٌّ رَابِضٌ، لَا يُقِيمُ دَلِيلًا وَلَا
يُحْسِنُهُ، وَإِنَّمَا قَامَ فِي مُخَيَّلَتِهِ شُبْهَةٌ يَحْتَجُّ عَلَيْهَا
بِقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ فِرْعَوْنَ حِينَ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، وَأُحِيطَ
بِهِ، وَرَأَى بَأْسَ اللَّهِ، وَعَايَنَ عَذَابَهُ الْأَلِيمَ، فَقَالَ حِينَ
الْغَرَقِ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ يُونُسَ: 90 ]. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: الْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [ يُونُسَ:
91، 92 ] فَاعْتَقَدَ هَذَا الْعَامِّيُّ الرَّابِضُ أَنَّ هَذَا الْإِيمَانَ
الَّذِي صَدَرَ مِنْ فِرْعَوْنَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - يَنْفَعُهُ، وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ
لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ
وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [ غَافِرٍ: 85، 84 ]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ
الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ
جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ يُونُسَ: 97، 96
]، وَقَدْ دَعَا مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا
إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا
تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ يُونُسَ: 89، 88 ] الْآيَةَ
ثُمَّ حَضَرَ فِي يَوْمٍ آخَرَ، وَهُوَ مُصَمِّمٌ عَلَى
ضَلَالِهِ، فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَى
السِّجْنِ فِي زِنْجِيرٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ يَوْمًا ثَالِثًا، وَهُوَ يَسْتَهِلُّ
بِالتَّوْبَةِ فِيمَا يُظْهِرُ، فَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي الْبَلَدِ ثُمَّ أُطْلِقَ.
وَفِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ طَلَعَ الْقَمَرُ خَاسِفًا
كُلُّهُ، وَلَكِنْ كَانَ تَحْتَ السَّحَابِ، فَلَمَّا ظَهَرَ وَقْتَ الْعِشَاءِ
وَقَدْ أَخَذَ فِي الْجَلَاءِ - صَلَّى الْخَطِيبُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ قَبْلَ
الْعِشَاءِ، وَقَرَأَ فِي الْأَوْلَى بِسُورَةِ " الْعَنْكَبُوتِ "،
وَفِي الْأُخْرَى بِسُورَةِ " يس "، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَ،
ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ الْعِشَاءِ.
وَقَدِمَتْ كُتُبُ الْحُجَّاجِ يُخْبِرُونَ بِالرُّخْصِ وَالْأَمْنِ،
وَاسْتَمَرَّتْ زِيَادَةُ الْمَاءِ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ وَقَبْلَهَا إِلَى
هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ آخِرِ هَذَا الشَّهْرِ وَالْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ،
وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَامَّةُ الشُّيُوخِ،
وَسَبَبُهُ أَنَّهُ جَاءَ مَاءٌ مِنْ بَعْضِ الْجِبَالِ، انْهَالَ فِي طَرِيقِ
النَّهْرِ.
وَدَخَلَ الْمَحْمَلُ السُّلْطَانِيُّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي
وَالْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَمُسِكَ أَمِيرُ الْحَاجِّ
جَرَكْتَمُرُ الْمَارِدَانِيُّ الَّذِي كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ - شَرَّفَهَا
اللَّهُ تَعَالَى، وَحَمَاهَا مِنَ الْأَوْغَادِ - فَلَمَّا عَادَتِ
التَّجْرِيدَةُ مَعَ الْحَجَّاجِ إِلَى دِمَشْقَ صُحْبَةَ الْقَرَاسُنْقُرَ
الَّذِي تَسَلَّمَ الْحَجِيجَ مِنْ مَكَّةَ مِنْ أَمِيرِهِمْ فِي الطَّلْقَةِ
نَاصِرِ الدِّينِ بْنِ قَرَاسُنْقُرَ الْمَنْصُورِيِّ فَمُسِكَ مِنْ سَاعَةِ
وُصُولِهِ إِلَى دِمَشْقَ، فَقُيِّدَ، وَسُيِّرَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ عَلَى الْبَرِيدِ، وَبَلَغَنَا أَنَّ الْأَمِيرَ
سَنْدًا - أَمِيرَ مَكَّةَ - غَرَّرَ بِجُنْدِ السُّلْطَانِ الَّذِينَ سَارُوا
صُحْبَةَ ابْنِ قَرَاسُنْقُرَ، وَكَبَسَهُمْ وَقَتَلَ مِنْ حَوَاشِيهِمْ، وَأَخَذَ
خُيُولَهُمْ، وَأَنَّهُمْ سَارُوا جَرَائِدَ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَسْلُوبِينَ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ اشْتَهَرَ فِيهِ وَتَوَاتَرَ خَبَرُ الْفَنَاءِ الَّذِي
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمُسْتَنْقَعَاتِ مِنْ فَيْضِ
النِّيلِ عِنْدَهُمْ، عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهُ يَمُوتُ
مِنْ أَهْلِهَا كُلَّ يَوْمٍ فَوْقَ الْأَلْفَيْنِ، فَأَمَّا الْمَرَضُ فَكَثِيرٌ
جِدًّا، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ; لِقِلَّةِ مِنْ يَتَعَاطَى الْأَشْغَالَ، وَغَلَا
السُّكَّرُ وَالْمِيَاهُ وَالْفَاكِهَةُ جِدًّا، وَتَبَرَّزَ السُّلْطَانُ إِلَى
ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَحَصَلَ لَهُ تَشْوِيشٌ أَيْضًا، ثُمَّ عُوفِيَ بِحَمْدِ
اللَّهِ.
وَفِي ثَالِثِ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَدِمَ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ابْنُ
الْحَجَّانِ رَسُولُ صَاحِبِ الْعِرَاقِ لِخِطْبَةِ بِنْتِ السُّلْطَانِ،
فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يُصْدِقَهَا مَمْلَكَةَ بَغْدَادَ،
وَأَعْطَاهُمْ مُسْتَحَقًّا سُلْطَانِيًّا، وَأَطْلَقَ لَهُمْ مِنَ التُّحَفِ
وَالْخِلَعِ وَالْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَرَسَمَ لِلرَّسُولِ بِمُشْتَرَى
قَرْيَةٍ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِتُوقَفَ عَلَى الْخَانَقَاهِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ
يَتَّخِذَهَا بِدِمَشْقَ قَرِيبًا مِنَ الطَّوَاوِيسِ، وَقَدْ خَرَجَ لِتَلَقِّيهِ
نَائِبُ الْغَيْبَةِ، وَهُوَ حَاجِبُ الْحُجَّابِ وَالدَّوْلَةُ وَالْأَعْيَانُ.
وَقَرَأْتُ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ سَابِعِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ كِتَابًا وَرَدَ
مِنْ حَلَبَ بِخَطِّ الْفَقِيهِ الْعَدْلِ شَمْسِ الدِّينِ الْعِرَاقِيِّ مِنْ
أَهْلِهَا، ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي حَضْرَةِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
فِي دَارِ الْعَدْلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّابِعَ عَشَرَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَأَنَّهُ أُحْضِرَ رَجُلٌ قَدْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ
عَاشَ سَاعَةً وَمَاتَ، وَأَحْضَرَهُ مَعَهُ وَشَاهَدَهُ الْحَاضِرُونَ،
وَشَاهَدَهُ كَاتِبُ الْكِتَابِ، فَإِذَا هُوَ شَكْلٌ سَوِيٌّ، لَهُ عَلَى كُلِّ
كَتِفٍ رَأْسٌ بِوَجْهٍ مُسْتَدِيرٍ، وَالْوَجْهَانِ إِلَى نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ،
فَسُبْحَانَ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ.
وَبَلَغَنَا أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ سَقَطَتِ الْمَنَارَةُ الَّتِي بُنِيَتْ
لِلْمَدْرَسَةِ السُّلْطَانِيَّةِ بِمِصْرَ، وَكَانَتْ مُسْتَجَدَّةً عَلَى صِفَةٍ
غَرِيبَةٍ; وَذَلِكَ أَنَّهَا مَنَارَتَانِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ فَوْقَ قَبْوِ الْبَابِ
الَّذِي لِلْمَدْرَسَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمَّا سَقَطَتْ أَهْلَكَتْ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنَ الصُّنَّاعِ بِالْمَدْرَسَةِ، وَالْمَارَّةِ، وَالصِّبْيَانِ
الَّذِينَ فِي مَكْتَبِ الْمَدْرَسَةِ، وَلَمْ يَنْجُ مِنَ الصِّبْيَانِ فِيمَا
ذُكِرَ شَيْءٌ سِوَى سِتَّةٍ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ هَلَكَ بِسَبَبِهَا نَحْوَ
ثَلَاثِمِائَةِ نَفْسٍ، وَقِيلَ: أَكْثَرُ، وَقِيلَ: أَقَلُّ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَخَرَجَ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ إِلَى
الْغَيْضَةِ; لِإِصْلَاحِهَا وَإِزَالَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْأَشْجَارِ
الْمُؤْذِيَةِ وَالدَّغَلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعَ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الشَّهْرِ، وَكَانَ سَلْخَهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمِيعُ الْجَيْشِ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَأَصْحَابِهِ وَأَجْنَادِ الْحَلْقَةِ بِرُمَّتِهِمْ، لَمْ
يَتَأَخَّرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَكُلُّهُمْ يَعْمَلُونَ فِيهَا بِأَنْفُسِهِمْ
وَغِلْمَانِهِمْ، وَأُحْضِرَ إِلَيْهِمْ خَلْقٌ مِنْ فَلَّاحِي الْمَرْجِ
وَالْغُوطَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرَجَعَ يَوْمَ السَّبْتِ خَامِسَ الشَّهْرِ
الدَّاخِلِ، وَقَدْ نَظَّفُوهَا مِنَ الدَّغَلِ وَالْقَشِّ.
وَاتَّفَقَتْ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ لِبَعْضِ السُّؤَّالِ، وَهُوَ
أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ قَبْلَ الْفَجْرِ لِيَأْخُذُوا خُبْزًا مِنْ
صَدَقَةِ تُرْبَةِ امْرَأَةِ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ تَنْكِزَ عِنْدَ بَابِ
الْخَوَّاصِينَ، فَتُضَارِبُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَعَمَدُوا إِلَى رَجُلٍ
مِنْهُمْ فَخَنَقُوهُ خَنْقًا شَدِيدًا، وَأَخَذُوا مِنْهُ جِرَابًا فِيهِ نَحْوٌ
مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَشَيْءٌ مِنَ الذَّهَبِ، وَذَهَبُوا عَلَى
حَمِيَّةٍ، وَأَفَاقَ هُوَ مِنَ الْغَشْيِ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، وَاشْتَكَى أَمْرَهُ
إِلَى مُتَوَلِّي الْبَلَدِ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ إِلَى الْآنَ. وَقَدْ
أَخْبَرَنِي الَّذِي أَخَذُوا مِنْهُ; أَنَّهُمْ أَخَذُوا مِنْهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ مُعَامَلَةً، وَأَلْفَ دِرْهَمٍ بُنْدُقِيَّةً، وَدِينَارَيْنِ
وَزْنُهُمَا ثَلَاثَةُ دَنَانِيرَ - كَذَا قَالَ لِي إِنْ كَانَ صَادِقًا.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ خَامِسِ جُمَادَى الْأُولَى طَلَبَ قَاضِي
الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ الْحَنَفِيُّ الشَّيْخَ عَلِيَّ بْنَ الْبَنَّا،
وَقَدْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ عَلَى الْعَوَامِّ وَهُوَ
جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَعْظِيَّاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ
صَدْرِهِ، فَكَأَنَّهُ تَعَرَّضَ فِي غُضُونِ كَلَامِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فَأُحْضِرَ فَاسْتُتِيبَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنَعَهُ قَاضِي
الْقُضَاةِ شَرَفُ الدِّينِ الْكَفْرِيُّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى النَّاسِ،
وَسَجَنَهُ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ حَكَمَ بِإِسْلَامِهِ، وَأَطْلَقَهُ مِنْ
يَوْمِهِ. وَهَذَا الْمَذْكُورُ ابْنُ الْبَنَّا عِنْدَهُ زَهَادَةٌ وَتَقَشُّفٌ،
وَهُوَ مِصْرِيٌّ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ وَيَقْرَؤُهُ، وَيَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ مِنَ
الْوَعْظِيَّاتِ، وَالرَّقَائِقِ، وَضَرْبِ أَمْثَالٍ، وَقَدْ مَالَ إِلَيْهِ
كَثِيرٌ مِنَ الْعَوَامِّ، وَاسْتَحَلَوْهُ، وَكَلَامُهُ قَرِيبٌ إِلَى
مَفْهُومِهِمْ، وَرُبَّمَا أَضْحَكَ فِي كَلَامِهِ وَحَاضِرَتِهِ، وَهُوَ
مَطْبُوعٌ قَرِيبٌ إِلَى
الْفَهْمِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ فِي شَطْحَتِهِ إِلَى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَنْبَغِي أَنْ تُذْكَرَ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ، ثُمَّ إِنَّهُ جَلَسَ لِلنَّاسِ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنِهِ، فَتَكَلَّمَ عَلَى عَادَتِهِ، فَتَطَلَّبَهُ الْقَاضِي الْمَذْكُورُ، فَيُقَالُ: إِنَّ الْمَذْكُورَ تَعَنَّتَ. انْتَهَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَلْطَنَةُ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ صَلَاحِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِ حَاجِّي ابْنِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيِّ،
وَزَوَالُ دَوْلَةِ عَمِّهِ الْمَلِكِ النَّاصِرِ حَسَنٍ ابْنِ الْمَلِكِ
النَّاصِرِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمَلِكِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ
لَمَّا كَثُرَ طَمَعُهُ، وَتَزَايَدَ شَرَهُهُ، وَسَاءَتْ سِيرَتُهُ إِلَى
رَعِيَّتِهِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَكْسَابِهِمْ، وَبَنَى
الْبِنَايَاتِ الْجَبَّارَةَ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَى كَثِيرٍ مِنْهَا،
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَمْلَاكِ بَيْتِ الْمَالِ وَأَمْوَالِهِ،
وَاشْتَرَى مِنْهُ قَرَايَا كَثِيرَةً، وَمُدُنَا أَيْضًا، وَرَسَاتِيقَ، وَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ جِدًّا، وَلَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ مِنَ الْقُضَاةِ، وَلَا
الْوُلَاةِ، وَلَا الْعُلَمَاءِ، وَلَا الصُّلَحَاءِ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ،
وَلَا الْهُجُومِ عَلَيْهِ، وَلَا النَّصِيحَةِ لَهُ بِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ لَهُ
وَلِلْمُسْلِمِينَ - انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِ جُنْدَهُ،
وَقَلَّبَ قُلُوبَ رَعِيَّتِهِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ عَلَيْهِ; لِمَا
قَطَعَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ، وَمَعَالِيمِهِمْ، وَجَوَامِكِهِمْ، وَأَخْبَازِهِمْ،
وَأَضَافَ ذَلِكَ جَمِيعَهُ إِلَى خَاصَّتِهِ، فَقَلَّتِ الْأُمَرَاءُ،
وَالْأَجْنَادُ، وَالْمُقَدَّمُونَ، وَالْكُتَّابُ، وَالْمُوَقِّعُونَ، وَمَسَّ
النَّاسَ الضَّرَرُ، وَتَعَدَّى عَلَى جَوَامِكِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ، وَمَنْ
يَلُوذُ بِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى هَلَاكَهُ عَلَى يَدِ
أَحَدِ خَوَاصِّهِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ سَيْفُ الدِّينِ يَلْبُغَا
الْخَاصِّكِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ السُّلْطَانُ مَسْكَهُ فَاعْتَدَّ
لِذَلِكَ، وَرَكِبَ السُّلْطَانُ لِمَسْكِهِ فَرَكِبَ هُوَ فِي جَيْشٍ،
وَتَلَاقَيَا فِي ظَاهِرِ الْقَاهِرَةِ حَيْثُ كَانُوا نُزُولًا فِي
الْوِطَاقَاتِ، فَهُزِمَ السُّلْطَانُ بَعْدَ كُلِّ حِسَابٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ طَائِفَةٌ، وَلَجَأَ السُّلْطَانُ إِلَى قَلْعَةِ الْجَبَلِ:
كَلَّا لَا وَزَرَ [ الْقِيَامَةِ: 11 ]، وَلَنْ يُنْجِيَ حَذَرٌ مِنْ قَدْرٍ،
فَبَاتَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ مُحْدِقًا
بِالْقَلْعَةِ، فَهَمَّ بِالْهَرَبِ فِي اللَّيْلِ عَلَى هُجُنٍ
كَانَ قَدِ اعْتَدَّهَا لِيَهْرُبَ إِلَى الْكَرَكِ، فَلَمَّا بَرَزَ مُسِكَ،
وَاعْتُقِلَ، وَدُخِلَ بِهِ إِلَى دَارِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ الْمَذْكُورِ،
وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ تَاسِعِ
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَارَتِ الدَّوْلَةُ وَالْمَشُورَةُ
مُتَنَاهِيَةً إِلَى الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ،
فَاتَّفَقَتِ الْآرَاءُ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ، وَانْعَقَدَتِ الْبَيْعَةُ
لِلْمَلِكِ الْمَنْصُورِ صَلَاحِ الدِّينِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْمُظَفَّرِ حَاجِّي،
وَخَطَبَ الْخُطَبَاءُ، وَضُرِبَتِ السَّكَّةُ، وَسَارَتِ الْبَرِيدِيَّةُ
لِلْبَيْعَةِ بِاسْمِهِ الشَّرِيفِ، هَذَا وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ،
وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: سِتَّ عَشْرَةَ.
وَرُسِمَ بِعَوْدِ الْأُمُورِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ وَالِدِهِ
النَّاصِرِ مُحَمَّدِ بْنِ قَلَاوُونَ، وَأَنْ يُبْطَلَ جَمِيعُ مَا كَانَ
أَخَذَهُ الْمَلِكُ النَّاصِرُ حَسَنٌ، وَأَنْ تُعَادَ الْمُرَتَّبَاتُ
وَالْجَوَامِكُ الَّتِي كَانَ قَطَعَهَا، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ طَازْ،
وَطَشْتَمُرَ الْقَاسِمِيِّ مِنْ سِجْنِ إِسْكَنْدَرِيَّةَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ
لِيَكُونَا أَتَابَكًا، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى دِمَشْقَ صُحْبَةَ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ بُزْلَارَ شَادَّ الشُّرْبَخَانَاهْ أَحَدِ أُمَرَاءِ
الطَّبْلَخَانَاهْ بِمِصْرَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَادِسَ عَشَرَ
الشَّهْرِ، فَضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ بِالْقَلْعَةِ، وَطَبْلَخَانَاهْ الْأُمَرَاءِ
عَلَى أَبْوَابِهِمْ، وَزُيِّنَ الْبَلَدُ بِكَمَالِهِ، وَأُخِذَتِ الْبَيْعَةُ
لَهُ صَبِيحَةَ يَوْمَئِذٍ بِدَارِ السَّعَادَةِ، وَخُلِعَ عَلَى نَائِبِ
السَّلْطَنَةِ تَشْرِيفٌ هَائِلٌ، وَفَرِحَ أَكْثَرُ الْأُمَرَاءِ وَالْجُنْدُ
وَالْعَامَّةُ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ وَلَهُ الْحَكَمُ، قَالَ تَعَالَى: قُلِ
اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [ آلِ
عِمْرَانَ: 26 ] الْآيَةَ.
وَوُجِدَ عَلَى حَجَرٍ بِالْحِمْيَرِيَّةِ فَقُرِئَتْ لِلْمَأْمُونِ فَإِذَا
مَكْتُوبٌ:
مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي
الْفَلَكِ إِلَّا لِنَقْلِ النَّعِيمِ مِنْ مَلِكٍ
قَدْ زَالَ سُلْطَانُهُ إِلَى مَلِكِ
وَمُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا
لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرَكِ
وَرُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَنَّهُ خَرَجَ
يَوْمًا لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَكَانَ سَوِيَّ الْخَلْقِ حَسَنَهُ، وَقَدْ لَبِسَ
حُلَّةً خَضْرَاءَ، وَهُوَ شَابٌّ مُمْتَلِئٌ شَبَابًا، وَيَنْظُرُ فِي
أَعْطَافِهِ وَلِبَاسِهِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ
إِلَى صَرْحَةِ الدَّارِ تَلَقَّتْهُ جِنِّيَّةٌ فِي صُورَةِ جَارِيَةٍ مِنْ
حَظَايَاهُ، فَأَنْشَدَتْهُ:
أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى غَيْرَ أَنْ لَا حَيَاةَ
لِلْإِنْسَانِ
لَيْسَ فِيمَا عَلِمْتُ فِيكَ عَيْ بٌ يُذْكَرُ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِي
فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ الَّذِي فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، وَخَطَبَ النَّاسَ، وَكَانَ
جَهْوَرِيَّ الصَّوْتِ، يُسْمِعُ أَهْلُ الْجَامِعِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى
الْمِنْبَرِ، فَضَعُفَ صَوْتُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى لَمْ يَسْمَعْهُ أَهْلُ
الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ حُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ،
فَاسْتَحْضَرَ تِلْكَ الْجَارِيَةِ الَّتِي تَبَدَّتْ تِلْكَ الْجِنِّيَّةُ عَلَى
صُورَتِهَا، وَقَالَ: كَيْفَ أَنْشَدْتِينِي تَيْنِكِ الْبَيْتَيْنِ ؟ فَقَالَتْ:
مَا أَنْشَدْتُكَ شَيْئًا، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، نُعِيَتْ وَاللَّهِ إِلَيَّ
نَفْسِي، فَأَوْصَى أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدِمَ نَائِبُ طَرَابُلُسَ الْمَعْزُولُ عَلِيلًا، وَالْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ أَسَنْدَمُرُ الَّذِي كَانَ نَائِبَ دِمَشْقَ، وَكَانَا مُقِيمَيْنِ
بِطَرَابُلُسَ جَمِيعًا - فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ السَّبْتِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ
مِنْهُ، فَدَخَلَا دَارَ السَّعَادَةِ، فَلَمْ يَحْتَفِلْ بِهِمَا نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ.
وَتَكَامَلَ فِي هَذَا الشَّهْرِ تَجْدِيدُ الرِّوَاقِ
غَرْبِيِّ بَابِ النَّاطَفَانِيِّينَ إِصْلَاحًا لِدَرَابِزِينَاتِهِ،
وَتَبْيِيضًا لِجُدْرَانِهِ وَمِحْرَابٍ فِيهِ، وَجُعِلَ لَهُ شَبَابِيكُ فِي
الدَّرَابْزِينَاتِ، وَوُقِفَ فِيهِ قِرَاءَةُ قُرْآنٍ بَعْدَ الْمَغْرِبِ،
وَذَكَرُوا أَنَّ شَخْصًا رَأَى مَنَامًا فَقَصَّهُ عَلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ
فَأَمَرَ بِإِصْلَاحِهِ. وَفِيهِ نَهَضَ بِنَاءُ الْمَدْرَسَةِ الَّتِي إِلَى
جَانِبِ هَذَا الْمَكَانِ مِنَ الشُّبَّاكِ، وَقَدْ كَانَ أَسَّسَهَا أَوَّلًا
نَجْمُ الدِّينِ غُلَامُ ابْنُ هِلَالٍ، فَلَمَّا صُودِرَ أُخِذَتْ مِنْهُ،
وَجُعِلَتْ مُضَافَةً إِلَى السُّلْطَانِ، فَبَنَوْا فَوْقَ الْأَسَاسَاتِ،
وَجَعَلُوا لَهَا خَمْسَةَ شَبَابِيكَ مِنْ شَرْقِهَا، وَبَابًا قِبْلِيًّا،
وَمِحْرَابًا، وَبِرْكَةً، وَعِرَاقِيَّةً، وَجَعَلُوا حَائِطَهَا بِالْحِجَارَةِ
الْبِيضِ وَالسُّودِ، وَكَمَّلُوا عَالِيَهَا بِالْآجُرِّ، وَجَاءَتْ فِي غَايَةِ
الْحُسْنِ، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ النَّاصِرُ حَسَنٌ قَدْ رَسَمَ بِأَنْ
تُجْعَلَ مَكْتَبًا لِلْأَيْتَامِ، فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهَا حَتَّى قُتِلَ، كَمَا
ذَكَرْنَا.
وَاشْتَهَرَ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَنَّ بَقَرَةً كَانَتْ تَجِيءُ مِنْ نَاحِيَةِ
بَابِ الْجَابِيَةِ تَقْصِدُ جِرَاءً لِكَلْبَةٍ، قَدْ مَاتَتْ أُمُّهُمْ، وَهِيَ
فِي نَاحِيَةِ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ فِي خَرَابَةٍ، فَتَجِيءُ إِلَيْهِمْ
فَتَنْسَطِحُ عَلَى شِقِّهَا فَتَرْضَعُ أُولَئِكَ الْجِرَاءُ مِنْهَا، تَكَرَّرَ
هَذَا مِنْهَا مِرَارًا، وَأَخْبَرَنِي الْمُحَدِّثُ الْمُفِيدُ التَّقِيُّ نُورُ
الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ الْمَقْصُوصِ بِمُشَاهَدَتِهِ ذَلِكَ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ جِهَةِ
نَائِبِ السَّلْطَنَةِ - حَرَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْبَلَدِ أَنَّ
النِّسَاءَ يَمْشِينَ فِي تَسَتُّرٍ، وَيَلْبَسْنَ أُزُرَهُنَّ إِلَى أَسْفَلَ
مِنْ سَائِرِ ثِيَابِهِنَّ، وَلَا يُظْهِرْنَ زِينَةً وَلَا يَدًا، فَامْتَثَلْنَ
ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ. وَقَدِمَ أَمِيرُ الْعَرَبِ حَيَّارُ بْنُ
مُهَنَّا فِي أُبَّهَةٍ هَائِلَةٍ، وَتَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ إِلَى
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ قَاصِدٌ إِلَى الْأَبْوَابِ الشَّرِيفَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ قَدِمَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تَمُرُ
الْمَهِمَنْدَارُ مِنْ نِيَابَةِ غَزَّةَ حَاجِبَ الْحُجَّابِ بِدِمَشْقَ، وَعَلَى
مُقَدِّمَةِ رَأْسِ الْمَيْمَنَةِ، وَأَطْلَقَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ مُكُوسَاتٍ
كَثِيرَةً، وَأَبْطَلَ مَا كَانَ يُؤْخَذُ مِنَ الْمُحْتَسِبِينَ زِيَادَةً عَلَى
نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أُجْرَةِ عِدَّةِ الْمَوْتَى كُلُّ مَيِّتٍ
بِثَلَاثَةٍ وَنِصْفٍ، وَجَعَلَ الْعِدَّةَ الَّتِي فِي الْقَيْسَارِيَّةِ
لِلْحَاجَةِ مُسْبَلَةً لَا تَنْحَجِرُ عَلَى أَحَدٍ فِي تَغْسِيلٍ مَيِّتٍ،
وَهَذَا حَسَنٌ جِدًّا، وَكَذَلِكَ مَنَعَ التَّحَجُّرَ فِي بَيْعِ الثَّلْجِ
الْمُخْتَصِّ بِهِ، وَبِيعَ مِثْلَ بَقِيَّةِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ طَرْخَانٍ
فَرَخُصَ عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جِدًّا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ
بِيعَ الْقِنْطَارُ بِعَشَرَةٍ وَمَا حَوْلَهَا.
وَفِي شَهْرِ شَعْبَانَ قَدِمَ الْأَمِيرُ حَيَّارُ بْنُ مُهَنَّا مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَنَزَلَ الْقَصْرَ الْأَبْلَقَ، وَتَلَقَّاهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ،
وَأَكْرَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ، ثُمَّ تَرَحَّلَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ،
وَقَدِمَ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ كَانُوا بِحَبْسِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي
صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَابِعِهِ، وَفِيهِمُ الْأَمِيرُ شِهَابُ الدِّينِ
بْنُ صُبْحٍ، وَسَيْفُ الدِّينِ طَيْدَمُرُ الْحَاجِبُ، وَطُنَيْرِقُ مُقَدَّمُ
أَلْفٍ، وَعُمَرُ شَاهْ، هَذَا وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ
الدِّينِ بَيْدَمُرُ - أَعَزَّهُ
اللَّهُ - يُبْطِلُ الْمُكُوسَاتِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مِمَّا
فِيهِ مَضَرَّةٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّ مِنْ عَزْمِهِ أَنْ
يُبْطِلَ جَمِيعَ ذَلِكَ إِنْ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، آمِينَ، انْتَهَى.
تَنْبِيهٌ عَلَى وَاقِعَةٍ غَرِيبَةٍ وَاتِّفَاقٍ عَجِيبٍ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ - فِيمَا بَلَغْنَا
- فِي نَفْسِهِ عَتَبَ عَلَى أَتَابَكِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ الْأَمِيرِ
سَيْفِ الدِّينِ يَلْبُغَا الْخَاصِّكِيِّ مُدَبِّرِ الدَّوْلَةِ بِهَا، وَقَدْ
تَوَسَّمَ وَتَوَهَّمَ مِنْهُ أَنَّهُ يَسْعَى فِي صَرْفِهِ عَنِ الشَّامِ، وَفِي
نَفْسِ نَائِبِنَا قُوَّةٌ وَصَرَامَةٌ شَدِيدَةٌ، فَتَنَسَّمَ مِنْهُ بِبَعْضِ
الْإِبَاءِ عَنْ طَاعَةِ يَلْبُغَا مَعَ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى طَاعَةِ
السُّلْطَانِ، وَأَنَّهُ إِنِ اتَّفَقَ عُزِلَ مِنْ قِبَلِ يَلْبُغَا أَنَّهُ لَا
يَسْمَعُ وَلَا يُطِيعُ، فَعَمِلَ أَعْمَالًا، وَاتَّفَقَ فِي غُضُونِ هَذَا
الْحَالِ مَوْتُ نَائِبِ الْقَلْعَةِ الْمَنْصُورَةِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ
الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ بُرْتَاقٌ النَّاصِرِيُّ، فَأَرْسَلَ نَائِبُ
السَّلْطَنَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَحَاشِيَتِهِ مَنْ يَتَسَلَّمُ الْقَلْعَةَ
بِرُمَّتِهَا، وَدَخَلَ هُوَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهَا، وَطَلَبَ الْأَمِيرَ زَيْنَ
الدِّينِ زُبَالَةَ الَّذِي كَانَ فَقِيهًا ثُمَّ نَائِبَهَا، وَهُوَ مِنْ
أَخْبَرِ النَّاسِ بِهَا وَبِخَطَّاتِهَا وَحَوَاصِلِهَا، فَدَارَ مَعَهُ فِيهَا،
وَأَرَاهُ حُصُونَهَا، وَبُرُوجَهَا، وَمَفَاتِحَهَا، وَأَغْلَاقَهَا، وَدُورَهَا،
وَقُصُورَهَا، وَعُدَدَهَا، وَبِرْكَتَهَا، وَمَا هُوَ مُعَدٌّ فِيهَا وَلَهَا،
وَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ هَذَا الِاتِّفَاقِ فِي هَذَا الْحَالِ، حَيْثُ لَمْ
يَتَّفِقْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ النُّوَّابِ قَبْلَهُ قَطُّ، وَفُتِحَ الْبَابُ
الَّذِي هُوَ تُجَاهَ دَارِ السَّعَادَةِ، وَجَعَلَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ
يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَيَخْرُجُ بِخَدَمِهِ، وَحَشَمِهِ،
وَأُبَّهَتِهِ; لِيَكْشِفَ أَمْرَهَا، وَيَنْظُرَ فِي مَصَالِحِهَا - أَيَّدَهُ
اللَّهُ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ خَامِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ
رَكِبَ فِي الْمَوْكِبِ عَلَى الْعَادَةِ، وَاسْتَدْعَى الْأَمِيرَ سَيْفَ
الدِّينِ أَسَنْدَمُرَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ، وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ
كَالْمُعْتَقَلِ فِيهِ، لَا يَرْكَبُ، وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ - فَأَحْضَرَهُ
إِلَيْهِ، وَرَكِبَ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ الْأُمَرَاءُ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ; طُنَيْرِقُ وَهُوَ أَحَدُ أُمَرَاءِ الْأُلُوفِ،
وَطَيْدَمُرُ الْحَاجِبُ، كَانَ، وَأَمَّا ابْنُ صُبْحٍ وَعُمَرُ شَاهْ
فَإِنَّهُمَا كَانَا قَدْ سَافَرَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَشِيَّةَ النَّهَارِ،
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ سَيَّرَهُمْ وَجَمِيعَ الْأُمَرَاءِ بِسُوقِ الْخَيْلِ،
وَنَزَلَ بِهِمْ كُلِّهِمْ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَتَعَاهَدُوا،
وَتَعَاقَدُوا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ كَتِفًا وَاحِدًا
وَعُصْبَةً وَاحِدَةً عَلَى مُخَالَفَةِ مَنْ أَرَادَهُمْ بِسُوءٍ، وَأَنَّهُمْ
يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ أَرَادَ عَزْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ قَتْلَهُ،
وَأَنَّ مَنْ قَاتَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَاتَلُوهُ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ هُوَ
ابْنُ أُسْتَاذِهِمُ الْمَلِكُ الْمَنْصُورُ مُحَمَّدُ بْنُ حَاجِّي بْنِ
النَّاصِرِ بْنِ الْمَنْصُورِ قَلَاوُونَ، فَطَاوَعُوا كُلُّهُمْ لِنَائِبِ
السَّلْطَنَةِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ ذَلِكَ، وَحَلَفُوا لَهُ، وَخَرَجُوا مِنْ
عِنْدِهِ عَلَى هَذَا الْحَلِفِ، وَقَامَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَلَى عَادَتِهِ
فِي عَظَمَةٍ هَائِلَةٍ، وَأُبَّهَةٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمَسْئُولُ مِنَ اللَّهِ
حَسَنُ الْعَاقِبَةِ.
وَفِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْأَحَدِ سَادِسَ عَشَرَ شَعْبَانَ أَبْطَلَ مَلِكُ
الْأُمَرَاءِ الْمَكْسَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الْمِلْحِ، وَأَبْطَلَ مَكْسَ
الْأَفْرَاحِ، وَأَبْطَلَ أَنَّ تُغَنِّيَ امْرَأَةٌ لِرِجَالٍ، وَلَا رَجُلٌ
لِنِسَاءٍ، وَهَذَا فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَظِيمَةِ
الشَّامِلِ نَفْعُهَا. وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ ثَامِنَ عَشَرَهُ شَرَعَ
نَائِبُ السَّلْطَنَةِ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ فِي نَصْبِ مَجَانِيقَ عَلَى
أَعَالِي بُرُوجِ الْقَلْعَةِ، فَنُصِبَتْ أَرْبَعُ مَجَانِيقَ مِنْ جِهَاتِهَا
الْأَرْبَعِ، وَبَلَغَنِي أَنَّهُ نَصَبَ آخَرَ فِي أَرْضِهَا عِنْدَ الْبَحْرَةِ،
ثُمَّ نَصَبَ آخَرَ وَآخَرَ، حَتَّى شَاهَدَ النَّاسُ سِتَّةَ مَجَانِيقَ عَلَى
ظُهُورِ الْأَبْرَجَةِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْقَلْعِيَّةَ، وَأَسْكَنَهَا خَلْقًا
مِنَ الْأَكْرَادِ
وَالتُّرْكُمَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ الْأَنْجَادِ،
وَنَقَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْغَلَّاتِ، وَالْأَطْعِمَةِ، وَالْأَمْتِعَةِ، وَآلَاتِ
الْحَرْبِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَاسْتَعَدَّ لِلْحِصَارِ إِنْ حُوصِرَ فِيهَا بِمَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ مَا يُرْصَدُ مِنَ الْقِلَاعِ بِمَا يَفُوتُ
الْحَصْرَ. وَلَمَّا شَاهَدَ أَهْلُ الْبَسَاتِينِ الْمَجَانِيقَ قَدْ نُصِبَتْ فِي
الْقَلْعَةِ انْزَعَجُوا، وَانْتَقَلَ أَكْثَرُهُمْ مِنَ الْبَسَاتِينِ إِلَى
الْبَلَدِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْدَعَ عِنْدَ أَهْلِ الْبَلَدِ نَفَائِسَ
أَمْوَالِهِمْ وَأَمْتِعَتِهِمْ، وَالْعَاقِبَةُ إِلَى خَيْرٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَجَاءَتْنِي فُتْيَا صُورَتُهَا: مَا يَقُوُلُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي
مَلِكٍ اشْتَرَى غُلَامًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ، وَقَدَّمَهُ ثُمَّ
إِنَّهُ وَثَبَ عَلَى سَيِّدِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ مَالَهُ، وَمَنَعَ
وَرَثَتَهُ مِنْهُ، وَتَصَرَّفَ فِي الْمَمْلَكَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ
نُوَّابِ الْبِلَادِ لِيُقَدَمَ عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ، فَهَلْ لَهُ الِامْتِنَاعُ
مِنْهُ ؟ وَهَلْ إِذَا قَاتَلَ دُونَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يُقْتَلَ يَكُونُ
شَهِيدًا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُثَابُ السَّاعِي فِي خَلَاصِ حَقِّ وَرَثَةِ الْمَلِكِ
الْمَقْتُولِ مِنَ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ ؟ أَفْتَوْنَا مَأْجُورِينَ.
فَقُلْتُ لِلَّذِي جَاءَنِي بِهَا مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ: إِنْ كَانَ مُرَادُهُ
خَلَاصَ ذِمَّتِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَعْلَمُ
بِنِيَّتِهِ فِي الَّذِي يَقْصِدُهُ، وَلَا يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ حَقٍّ مُعَيَّنٍ
إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَيُؤَخِّرُ
الطَّلَبَ إِلَى وَقْتِ إِمْكَانِهِ بِطَرِيقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهَذَا
الِاسْتِفْتَاءِ أَنْ يَتَقَوَّى بِهَا فِي جَمْعِ الدَّوْلَةِ وَالْأُمَرَاءِ
عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهَا كِبَارُ الْقُضَاةِ وَالْمَشَايِخِ
أَوَّلًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْمُفْتِينَ بِطَرِيقِهِ، وَاللَّهُ
الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
هَذَا وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى الْأَمِيرِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ جَمِيعُ أُمَرَاءِ
الشَّامِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ فِيهِمْ مِنْ نُوَّابِ السَّلْطَنَةِ سَبْعَةَ
عَشَرَ أَمِيرًا، وَكُلُّهُمْ يَحْضُرُ مَعَهُ الْمَوَاكِبَ الْهَائِلَةَ،
وَيَنْزِلُونَ مَعَهُ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، وَيَمُدُّ لَهُمُ الْأَسْمِطَةَ وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ، وَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْأَمِيرَ مَنْجَكَ الطُّرْخَانِيَّ الْمُقِيمَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ قَدْ أَظْهَرَ الْمُوَافَقَةَ لِنَائِبِ السَّلْطَنَةِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ، ثُمَّ عَادَ فَأَخْبَرَ بِالْمُوَافَقَةِ، وَأَنَّهُ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى غَزَّةَ، وَنَائِبِهِ، وَقَدْ جَمَعَ، وَحَشَدَ، وَاسْتَخْدَمَ طَوَائِفَ، وَمَسَكَ عَلَى الْجَادَّةِ، فَلَا يَدَعُ أَحَدًا يَمُرُّ إِلَّا أَنَّ يُفَتِّشَ مَا مَعَهُ لِاحْتِمَالِ إِيصَالِ كُتُبٍ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَالْمُعَدْلَةُ ثَابِتَةٌ جِدًّا، وَالْأَمْنُ حَاصِلٌ هُنَاكَ، فَلَا يَخَافُ أَحَدٌ، وَكَذَلِكَ بِدِمَشْقَ وَضَوَاحِيهَا، لَا يُهَاجِ أَحَدٌ، وَلَا يَتَعَدَّى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَنْهَبُ لِأَحَدٍ شَيْءٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْبَسَاتِينِ قَدِ انْزَعَجُوا وَتَوَهَّمُوا، وَنَزَلُوا الْمَدِينَةَ، وَتَحَوَّلُوا، وَأَوْدَعَ بَعْضُهُمْ نَفَائِسَ مَا عِنْدَهُمْ، وَأَقَامُوا بِهَا عَلَى وَجِلٍ; وَذَلِكَ لَمَّا رَأَوُا الْمَجَانِيقَ السِّتَّةَ مَنْصُوبَةً عَلَى رُءُوسِ قِلَالِ الْأَبْرَاجِ الَّتِي لِلْقَلْعَةِ، ثُمَّ أَحْضَرَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ الْقُضَاةَ الْأَرْبَعَةَ، وَالْأُمَرَاءَ كُلَّهُمْ، وَكَتَبُوا مَكْتُوبًا سَطَرَهُ بَيْنَهُمْ كَاتِبُ السِّرِّ: أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِالسُّلْطَانِ، كَارِهُونَ لِيَلْبُغَا، وَأَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَهُ، وَلَا يُوَافِقُونَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِي الْمَمْلَكَةِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِمُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ، وَأَرْسَلُوا الْمَكْتُوبَ مَعَ مَمْلُوكٍ لِلْأَمِيرِ طَيْبُغَا الطَّوِيلِ نَظِيرِ يَلْبُغَا بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَأَرْسَلَ مَنْجَكَ إِلَى نَائِبِ السَّلْطَنَةِ يَسْتَحِثُّهُ فِي الْحُضُورِ إِلَيْهِ فِي الْجَيْشِ لِيُنَاجِزُوا الْمِصْرِيِّينَ، فَعَيَّنَ نَائِبُ الشَّامِ مِنَ الْجَيْشِ طَائِفَةً يَبْرُزُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَرَجَتِ التَّجْرِيدَةُ لَيْلَةَ السَّبْتِ التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ صُحْبَةَ أَسَنْدَمُرَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الشَّامِ مَدَدًا لِلْأَمِيرِ مَنْجَكَ فِي أَلْفَيْنِ، وَيَذْكُرُ النَّاسُ أَنَّ نَائِبَ السَّلْطَنَةِ بِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْجَيْشِ يَذْهَبُونَ عَلَى إِثْرِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَتْ أُخْرَى بَعْدَهَا ثَلَاثَةُ آلَافٍ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ ثَانِيَ مِنْ رَمَضَانَ
كَمَا سَيَأْتِي.
وَتُوُفِّيَ الشَّيْخُ الْحَافِظُ عَلَاءُ الدِّينِ مُغْلَطَايْ الْمِصْرِيُّ
بِهَا فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ بِالزَّيْدَانِيَّةِ، وَقَدْ كَتَبَ
الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ، وَجَمَعَ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ أُحْضِرَ جَمَاعَةٌ مِنَ التُّجَّارِ إِلَى دَارِ
الْعَدْلِ ظَاهِرَ بَابِ النَّصْرِ لِيُبَاعَ شَيْءٌ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقَنْدِ،
وَالْفُولَاذِ، وَالزُّجَاجِ مِمَّا هُوَ فِي حَوَاصِلَ يَلْبُغَا، فَامْتَنَعُوا
مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ اسْتِعَادَةِ ثَمَنِهِ مِنْهُمْ عَلَى تَقْدِيرٍ،
فَضُرِبَ بَعْضُهُمْ، مِنْهُمْ شِهَابُ الدِّينِ بْنُ الصَّوَّافِ - بَيْنَ يَدَيِ
الْحَاجِبِ، وَشَادِّ الدَّوَاوِينِ، ثُمَّ أُفْرِجَ عَنْهُمْ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي، فَفَرَّجَ اللَّهُ بِذَلِكَ.
وَخَرَجَتِ التَّجْرِيدَةُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعِشَاءِ صُحْبَةَ
ثَلَاثَةِ مُقَدَّمِينَ; وَهُمْ عِرَاقٌ، ثُمَّ ابْنُ صُبْحٍ، ثُمَّ ابْنُ
طُرْغِيَةَ، وَدَخَلَ نَائِبُ طَرَابُلُسَ الْأَمِيرُ سَيْفُ الدِّينِ تُومَانُ
إِلَى دِمَشْقَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَاشِرِ رَمَضَانَ، فَتَلَقَّاهُ
مَلِكُ الْأُمَرَاءِ سَيْفُ الدِّينِ بَيْدَمُرُ إِلَى الْقَصْرِ، وَدَخَلَا مَعًا
فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَنَزَلَ تُومَانُ فِي الْقَصْرِ الْأَبْلَقِ، وَبَرَزَ
مَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ إِلَى عِنْدَ قُبَّةِ يَلْبُغَا، هَذَا وَالْقَلْعَةُ
مَنْصُوبٌ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ، وَقَدْ مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا، وَنَائِبُ
السَّلْطَنَةِ فِي غَايَةِ التَّحَفُّظِ. وَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمُ الْخَمِيسِ
صَمَّمَ تُومَانُ تَمُرُ عَلَى مَلِكِ الْأُمَرَاءِ فِي الرَّحِيلِ إِلَى غَزَّةَ
لِيَتَوَافَى
هُوَ وَبَقِيَّةُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْجَيْشِ الشَّامِيِّ،
وَمَنْجَكُ وَمَنْ مَعَهُ هُنَالِكَ، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ
مَفْعُولًا، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِتَقَدُّمِ السَّبْقِ بَيْنَ
يَدَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَخَرَجَ السَّبْقُ، وَأَغْلَقَتِ الْقَلْعَةُ
بَابَهَا الْمَسْلُوكَ الَّذِي عِنْدَ دَارِ الْحَدِيثِ، فَاسْتَوْحَشَ النَّاسُ
مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ يُحْسِنُ الْعَاقِبَةَ.
خُرُوجُ مَلِكِ الْأُمَرَاءِ بَيْدَمُرَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى غَزَّةَ
صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَقْصُورَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ هُوَ
وَنَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِأَطْرَابُلُسَ، ثُمَّ اجْتَمَعَا بِالْخُطْبَةِ فِي
مَقْصُورَةِ الْخَطَابَةِ، ثُمَّ رَاحَ لِدَارِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ خَرَجَ
طُلْبُهُ فِي تَجَمُّلٍ هَائِلٍ عَلَى مَا ذُكِرَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَخَرَجَ
مَعَهُمْ فَاسْتَعْرَضَهُمْ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ، فَبَاتَ إِلَى
أَنْ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ خَلْفَ الْجَيْشِ هُوَ وَنَائِبُ
طَرَابُلُسَ، وَخَرَجَ عَامَّةُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الْجَيْشِ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَبَقِيَّةُ الْحَلْقَةِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الذَّاهِبِينَ
فِي صُحْبَتِهِ الْوَلَدُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَحَدُ رِجَالِ الْحَلْقَةِ،
وَسَلَّمَهُمُ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ خَرَجَ الْقُضَاةُ، وَكَذَا كَاتِبُ السِّرِّ،
وَوَكِيلُ بَيْتِ الْمَالِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ كُتَّابِ الدَّسْتِ، وَأَصْبَحَ
النَّاسُ يَوْمَ السَّبْتِ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ بِدِمَشْقَ، سِوَى نَائِبِ
الْغَيْبَةِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ بْنِ حَمْزَةَ التُّرْكُمَانِيِّ،
وَقَرِيبِهِ وَالِي الْبَرِّ، وَمُتَوَلِّي الْبَلَدِ الْأَمِيرِ بَدْرِ الدِّينِ
صَدَقَةَ بْنِ أَوْحَدَ، وَمُحْتَسِبِ الْبَلَدِ، وَنُوَّابِ الْقُضَاةِ،
وَالْقَلْعَةُ عَلَى حَالِهَا، وَالْمَجَانِيقُ مَنْصُوبَةٌ كَمَا هِيَ. وَلَمَّا
كَانَ صُبْحُ يَوْمِ الْأَحَدِ رَجَعَ الْقُضَاةُ بُكْرَةً، ثُمَّ رَجَعَ مَلِكُ
الْأُمَرَاءِ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ هُوَ وَتُومَانُ
التالي: ج35.وج36. بمشيئة الله الواحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق