ج25.وج26.البداية والنهاية لابن كثير
ج25. البداية والنهاية لابن كثير
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
الْعِشَاءَ
الْآخِرَةَ.
وَقَدْ وَعَظَ مَرَّةً هَارُونَ الرَّشِيدَ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فَقَالَ: اعْلَمْ
أَنَّ اللَّهَ سَائِلُكَ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ، فَأَعِدَّ لِذَلِكَ جَوَابًا،
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَوْ مَاتَتْ سَخْلَةٌ بِالْعِرَاقِ
ضَيَاعًا لَخَشِيتُ أَنْ يَسْأَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا. فَقَالَ:
إِنِّي لَسْتُ كَعُمَرَ، وَإِنَّ دَهْرِي لَيْسَ كَدَهْرِهِ. فَقَالَ: مَا هَذَا
بِمُغْنٍ عَنْكَ شَيْئًا. فَأَمَرَ لَهُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ:
أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَمُرْ بِهَا فَلْتُقَسَّمْ عَلَيْهِمْ
وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فَفِي صَفَرٍ مِنْهَا أَمَرَ الْأَمِينُ أَنْ لَا يَتَعَامَلُوا بِالدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا اسْمُ الْمَأْمُونِ وَنَهَى أَنْ يُدْعَى لَهُ
عَلَى الْمَنَابِرِ، وَأَنْ يُقْتَصَرَ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ النَّاطِقِ بِالْحَقِّ.
وَفِيهَا تَسَمَّى الْمَأْمُونُ بِإِمَامِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا عَقَدَ الْأَمِينُ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ
مَاهَانَ الْإِمَارَةَ عَلَى الْجَبَلِ، وَهَمَذَانَ، وَأَصْبَهَانَ، وَقُمَّ
وَتِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَمَرَهُ بِحَرْبِ الْمَأْمُونِ وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا
كَثِيرًا، وَأَنْفَقَ فِيهِمْ نَفَقَاتٍ عَظِيمَةً، وَأَعْطَاهُ مِائَتَيْ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَلِوَلَدِهِ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَلْفَيْ سَيْفٍ مُحَلًّى،
وَسِتَّةَ آلَافِ ثَوْبٍ لِلْخِلَعِ.
وَخَرَجَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَرْبَعِينَ
أَلْفَ فَارِسٍ وَمَعَهُ قَيْدٌ مِنْ فِضَّةٍ؛ لِيَأْتِيَ بِالْمَأْمُونِ فِيهِ.
وَخَرَجَ الْأَمِينُ مَعَهُ مُشَيِّعًا، فَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى الرَّيِّ
فَتَلَقَّاهُ الْأَمِيرُ طَاهِرٌ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
أُمُورٌ آلَ الْحَالُ فِيهَا إِلَى أَنِ اقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ عَلِيُّ بْنُ
عِيسَى، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَجُثَّتُهُ إِلَى
الْأَمِيرِ
طَاهِرٍ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى وَزِيرِ الْمَأْمُونِ ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ.
وَكَانَ الَّذِي قَتَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: طَاهِرٌ
الصَّغِيرُ فَسُمِّيَ ذَا الْيَمِينَيْنِ لِأَنَّهُ أَخَذَ السَّيْفَ بِيَدَيْهِ
الثِّنْتَيْنِ، فَذَبَحَ بِهِ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ فَفَرِحَ
بِذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَذَوُوهُ.
وَانْتَهَى الْخَبَرُ إِلَى الْأَمِينِ وَهُوَ يَصِيدُ السَّمَكَ مِنْ دِجْلَةَ،
فَقَالَ: وَيْحَكَ، دَعْنِي مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ كَوْثَرًا قَدْ صَادَ
سَمَكَتَيْنِ، وَلَمْ أَصِدْ بَعْدُ شَيْئًا. وَأَرْجَفَ النَّاسُ بِبَغْدَادَ،
وَخَافُوا غَائِلَةَ هَذَا الْأَمْرِ، وَنَدِمَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ عَلَى مَا
كَانَ مِنْهُ مِنْ نَكْثِ الْعَهْدِ، وَخَلْعِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ وَمَا وَقَعَ
مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ. وَكَانَ رُجُوعُ الْخَبَرِ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي
شَوَّالٍ مِنْهَا.
ثُمَّ جَهَّزَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جَبَلَةَ الْأَبْنَاوِيَّ فِي عِشْرِينَ
أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ إِلَى هَمَذَانَ لِيُقَاتِلُوا طَاهِرَ بْنَ
الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَلَمَّا
اقْتَرَبُوا مِنْهُمْ تَوَاجَهُوا، فَتَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَثُرَتِ
الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ جَبَلَةَ فَلَجَئُوا إِلَى هَمَذَانَ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا
طَاهِرٌ حَتَّى اضْطَرَّهُمْ إِلَى أَنْ دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ، فَصَالَحَهُمْ
وَأَمَّنَهُمْ وَوَفَّى لَهُمْ، وَانْصَرَفَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبَلَةَ
وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ رَاجِعِينَ، ثُمَّ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ
طَاهِرٍ، وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَهُمْ غَافِلُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا،
وَصَبَرَ لَهُمْ أُولَئِكَ، ثُمَّ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ
فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ جَبَلَةَ
وَفَرَّ أَصْحَابُهُ خَائِبِينَ.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى بَغْدَادَ وَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ، وَكَثُرَتِ
الْأَرَاجِيفُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَطَرَدَ طَاهِرٌ عُمَّالَ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ عَنْ قَزْوِينَ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي، وَقَوِيَ أَمْرُ الْمَأْمُونِ جِدًّا بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ أَمْرُ السُّفْيَانِيِّ
بِالشَّامِ، وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَزَلَ نَائِبَهَا، وَدَعَا إِلَى
نَفْسِهِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ جَيْشًا، فَلَمْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ بَلْ
أَقَامُوا بِالرَّقَّةِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نَائِبُ الْحِجَازِ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْيَانِ مِنْهُمْ:
إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الْأَزْرَقُ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ رَوَى عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ
وَكَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ لِلرَّشِيدِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَشْهُرًا،
وَقَدْ أَطْلَقَ الرَّشِيدُ عَلَى يَدَيْهِ لِأَهْلِهَا
أَلْفَ أَلْفَ
دِينَارٍ وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ شَرِيفًا جَوَادًا مُعَظَّمًا
مُمَدَّحًا.
وَأَبُو نُوَاسٍ الشَّاعِرُ
وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ الْأَوَّلِ بْنِ صَبَاحِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَرَّاحِ بْنِ وُهَيْبِ بْنِ ذَوَّةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ
سَلِيمِ بْنِ حَكَمِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْغَوْثِ بْنِ طَيِّئِ بْنِ أُدَدِ بْنِ شَبِيبِ بْنِ سَبِيعِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ زَيْدِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَوْفِ بْنِ زَيْدِ بْنِ هَمَيْسَعِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانِ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ
بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالَخِ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ
سَامِ بْنِ نُوحٍ، كَذَا نَسَبَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ الْوَرَّاقُ
أَبُو عَلِيٍّ الْحَكَمِيُّ نِسْبَةً إِلَى وَلَاءِ الْجَرَّاحِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَكَمِيِّ.
وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو نُوَاسٍ الْبَصْرِيُّ. كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ
مِنْ جُنْدِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْأَهْوَازِ،
وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا جُلْبَانُ. فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا نُوَاسٍ
هَذَا، وَابْنًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو مُعَاذٍ. ثُمَّ صَارَ أَبُو نُوَاسٍ
إِلَى الْبَصْرَةِ فَتَأَدَّبَ بِهَا عَلَى أَبِي زَيْدٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ،
وَقَرَأَ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَلَزِمَ خَلَفًا الْأَحْمَرَ، وَصَحِبَ
يُونُسَ بْنَ
حَبِيبٍ الضَّبِّيَّ النَّحْوِيَّ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقَدْ
صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ الْحُبَابِ الْكُوفِيَّ، فَتَأَدَّبَ بِهِ.
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُعْتَمِرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، وَيَحْيَى الْقَطَّانِ، وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
كَثِيرٍ الصَّيْرَفِيُّ، حَكَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ،
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْجَاحِظُ، وَغُنْدَرٌ. وَمِنْ مَشَاهِيرِ حَدِيثِهِ
مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرٍ الصَّيْرَفِيُّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ
يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ ثَمَنُ
الْجَنَّةِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ
فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ: يَا أَبَا عَلِيٍّ، أَنْتَ
الْيَوْمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ
أَيَّامِ
الْآخِرَةِ، وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ هَنَاتٌ، فَتُبْ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ
وَجَلَّ - مِنْ عَمَلِكَ. فَقَالَ: إِيَّاىَ تُخَوِّفُ بِاللَّهِ ؟ ! فَقَالَ:
أَسْنِدُونِي. فَأَسْنَدُوهُ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ
يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ شَفَاعَةً، وَإِنِّي
اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
ثُمَّ قَالَ: أَفَتُرَانِي لَا أَكُونُ مِنْهُمْ ؟
وَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: مَا قُلْتُ الشِّعْرَ حَتَّى رَوَيْتُ لِسِتِّينَ
امْرَأَةً؛ مِنْهُنَّ خَنْسَاءُ، وَلَيْلَى، فَمَا ظَنُّكَ بِالرِّجَالِ ؟ وَقَالَ
يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ: إِذَا رَوَيْتَ الشِّعْرَ عَنِ امْرِئِ الْقَيْسِ
وَالْأَعْشَى مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمِنَ الْإِسْلَامِيِّينَ لِجَرِيرٍ
وَالْفَرَزْدَقِ، وَمِنَ الْمُحْدَثِينَ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ فَحَسْبُكَ. وَقَدْ
أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ مِنْهُمُ الْأَصْمَعِيُّ، وَالْجَاحِظُ،
وَالنَّظَّامُ.
وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ: لَوْلَا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ أَفْسَدَ
شِعْرَهُ بِهَذِهِ الْأَقْذَارِ لَاحْتَجَجْنَا بِهِ فِي كُتُبِنَا. يَعْنِي
شِعْرَهُ فِي الْخَمْرِيَّاتِ، وَالْأَحْدَاثِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ طَائِفَةٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ عِنْدَ الْمَأْمُونِ فَقَالَ
لَهُمْ: أَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
فَلَمَّا
تَحَسَّاهَا وَقَفْنَا كَأَنَّنَا نَرَى قَمَرًا فِي الْأَرْضِ يَبْلَعُ كَوْكَبًا
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
إِذَا نَزَلَتْ دُونَ اللَّهَاةِ مِنَ الْفَتَى دَعَا هَمُّهُ عَنْ صَدْرِهِ
بِرَحِيلِ
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَأَيُّكُمُ الْقَائِلُ:
فَتَمَشَّتْ فِي مَفَاصِلِهِمْ كَتَمَشِّي الْبُرْءِ فِي السَّقَمِ
قَالُوا: أَبُو نُوَاسٍ قَالَ: فَهُوَ أَشْعَرُكُمْ
.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِابْنِ مُنَاذِرٍ: مَا أَشْعَرَ ظَرِيفُكُمْ
أَبَا نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ:
يَا قَمَرًا أَبْصَرْتُ فِي مَأْتَمٍ يَنْدُبُ شَجْوًا بَيْنَ أَتْرَابِ
أَبْرَزَهُ الْمَأْتَمُ لِي كَارِهًا بِرَغْمِ ذِي بَابٍ وَحُجَّابِ
يَبْكِي فَيُذْرِي الدُّرَّ مِنْ نَرْجِسٍ وَيَلْطِمُ الْوَرْدَ بِعُنَّابِ
لَا زَالَ مَوْتًا
دَأْبُ أَحْبَابِهِ وَلَا تَزَلْ رُؤْيَتُهُ دَابِي
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَشْعَرُ النَّاسِ أَبُو نُوَاسٍ فِي قَوْلِهِ:
تَغَطَّيْتُ مِنْ دَهْرِي بِظِلِّ جَنَاحِهِ فَعَيْنِي تَرَى دَهْرِي، وَلَيْسَ
يَرَانِي
فَلَوْ تَسْأَلُ الْأَيَّامُ مَا اسْمِي لَمَا دَرَتْ وَأَيْنَ مَكَانِي مَا
عَرَفْنَ مَكَانِي
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ: قُلْتُ فِي الزُّهْدِ عِشْرِينَ أَلْفَ بَيْتٍ،
وَوَدِدْتُ أَنَّ لِي مَكَانَهَا الْأَبْيَاتَ الثَّلَاثَةَ الَّتِي قَالَهَا
أَبُو نُوَاسٍ، وَهِيَ هَذِهِ وَكَانَتْ مَكْتُوبَةً عَلَى قَبْرِهِ:
يَا نُوَاسِيُّ تَوَقَّرْ وَتَعَزَّ وَتَصَبَّرْ
إِنْ يَكُنْ سَاءَكَ دَهْرٌ فَلَمَا سَرَّكَ أَكْثَرْ
يَا كَبِيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ اللَّ هِ مِنْ ذَنْبِكَ أَكْبَرْ
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَمْدَحُ بَعْضَ
الْأُمَرَاءِ:
أَوْجَدَهُ اللَّهُ فَمَا مِثْلُهُ لِطَالِبِ ذَاكَ وَلَا نَاشِدِ
وَلَيْسَ لِلَّهِ
بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ
وَأَنْشَدُوا لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَوْلَ أَبِي نُوَاسٍ:
مَا هَوًى إِلَّا لَهُ سَبَبُ يَبْتَدِي مِنْهُ وَيَنْشَعِبُ
فَتَنَتْ قَلْبِي مُحَجَّبَةٌ وَجْهُهُا بِالْحُسْنِ مُنْتَقِبُ
خَلِيَتْ وَالْحُسْنُ تَأْخُذُهُ تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَخِبُ
فَاكْتَسَتْ مِنْهُ طَرَائِفُهُ وَاسْتَزَادَتْ بَعْضَ مَا تَهَبُ
فَهِيَ لَوْ صَيَّرْتَ فِيهِ لَهَا عَوْدَةً لَمْ يُثْنِهَا أَرَبُ
صَارَ جِدًّا مَا مَزَحْتَ بِهِ رُبَّ جِدٍّ جَرَّهُ اللَّعِبُ
فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: آمَنْتُ بِالَّذِي خَلَقَهَا.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَوْلَا أَنَّ الْعَامَّةَ بَذَلَتْ
هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَكَتَبْتُهُمَا بِمَاءِ الذَّهَبِ وَهُمَا لِأَبِي
نُوَاسٍ:
وَلَوْ أَنِّي اسْتَزَدْتُكَ فَوْقَ مَا بِي مِنَ الْبَلْوَى لَأَعْوَزَكَ
الْمَزِيدُ
وَلَوْ عُرِضَتْ عَلَى الْمَوْتَى حَيَاتِي بِعَيْشٍ مِثْلَ عَيْشِي لَمْ
يُرِيدُوا
وَقَدْ سَمِعَ
أَبُو نُوَاسٍ حَدِيثَ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْقُلُوبُ
جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا
اخْتَلَفَ فَنَظَمَ ذَلِكَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ يَقُولُ فِيهَا:
إِنَّ الْقُلُوبَ لَأَجْنَادٌ مُجَنَّدَةٌ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ بِالْأَهْوَاءِ
تَعْتَرِفُ
فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا فَهُوَ مُؤْتَلِفٌ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا فَهُوَ
مُخْتَلِفُ
وَدَخَلَ أَبُو نُوَاسٍ يَوْمًا مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَبْدِ
الْوَاحِدِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الْوَاحِدِ: لِيَخْتَرْ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَشَرَةَ أَحَادِيثَ أُحَدِّثُهُ بِهَا. فَاخْتَارَ كُلُّ
وَاحِدٍ عَشَرَةً، إِلَّا أَبَا نُوَاسٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ لَا تَخْتَارُ
كَمَا اخْتَارُوا ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
وَلَقَدْ كُنَّا رَوَيْنَا عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَهْ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّ بِ ثُمَّ سَعْدِ بْنِ عُبَادَهْ
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَالشَّعْ بِيُّ شَيْخٌ ذُو جَلَادَهْ
وَعَنِ الْأَخْيَارِ نَحْكِي هِ وَعَنْ أَهْلِ الْإِفَادَهْ
أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحِبًّا فَلَهُ أَجْرُ شَهَادَهْ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ: قُمْ يَا مَاجِنُ لَا حَدَّثْتُكَ وَلَا
حَدَّثْتُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْلِكَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ مَالِكَ بْنَ
أَنَسٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى، فَقَالَا: كَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يُحَدِّثَهُ،
لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو نُوَاسٍ فِي شِعْرِهِ قَدْ رَوَاهُ
ابْنُ عَدِيٍّ فِي " " كَامِلِهِ " " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
مَوْقُوفًا، وَمَرْفُوعًا مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مَنِ ابْتُلِيَ بِالْعِشْقِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ
فَصَبَرَ وَعَفَّ عَنِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يُفْشِ ذَلِكَ فَمَاتَ بِسَبَبِ
ذَلِكَ، حَصَلَ لَهُ أَجْرٌ كَبِيرٌ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ نَوْعُ
شَهَادَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَيْضًا أَنَّ شُعْبَةَ لَقِيَ أَبَا نُوَاسٍ فَقَالَ لَهُ:
حَدِّثْنَا مِنْ طُرَفِكَ، فَقَالَ مُرْتَجِلًا:
حَدَّثَنَا الْخَفَّافُ عَنْ وَائِلٍ وَخَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ جَابِرِ
وَمِسْعَرٌ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يَرْفَعُهُ الشَّيْخُ إِلَى عَامِرِ
قَالُوا جَمِيعًا أَيُّمَا طِفْلَةٍ عُلِّقَهَا ذُو خُلُقٍ طَاهِرِ
فَوَاصَلَتْهُ ثُمَّ دَامَتْ لَهُ عَلَى وِصَالِ الْحَافِظِ الذَّاكِرِ
كَانَتْ لَهُ الْجَنَّةُ مَفْتُوحَةً يَرْتَعُ فِي مَرْتَعِهَا الزَّاهِرِ
وَأَيُّ مَعْشُوقٍ جَفَا عَاشِقًا بَعْدَ وِصَالٍ دَائِمٍ نَاضِرِ
فَفِي عَذَابِ اللَّهِ بُعْدًا لَهُ نَعَمْ وَسُحْقٍ دَائِمٍ دَاحِرِ
فَقَالَ لَهُ شُعْبَةُ: إِنَّكَ لَجَمِيلُ الْأَخْلَاقِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو لَكَ.
وَأَنْشَدَ أَبُو
نُوَاسٍ أَيْضًا:
يَا سَاحِرَ الْمُقْلَتَيْنِ وَالْجِيدِ وَقَاتِلِي مِنْكَ بِالْمَوَاعِيدِ
تُوعِدُنِي الْوَصْلَ ثُمْ تُخْلِفُنِي فَوَابَلَائِي مِنْ خُلْفِ مَوْعُودِي
حَدَّثَنِي الْأَزْرَقُ الْمُحَدِّثُ عَنْ شَمْرٍ وَعَوْفٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودِ
مَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ غَيْرُ كَافِرَةٍ وَكَافِرٍ فِي الْجَحِيمِ مَصْفُودِ
فَبَلَغَ ذَلِكَ إِسْحَاقَ بْنَ يُوسُفَ الْأَزْرَقَ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ
اللَّهِ عَلَيَّ، وَعَلَى التَّابِعِينِ، وَعَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا نُوَاسٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي
يَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا فَقُلْتُ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يُعَذِّبَكَ
اللَّهُ بَعْدَ هَذَا الْبُكَاءِ أَبَدًا. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمْ أَبْكِ فِي مَجْلِسِ مَنْصُورِ شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْحُورِ
وَلَا مِنَ الْقَبْرِ وَأَهْوَالِهِ وَلَا مِنَ النَّفْخَةِ فِي الصُّورِ
وَلَا مِنَ النَّارِ وَأَغْلَالِهَا وَلَا مِنَ الْخُذْلَانِ وَالْجُورِ
لَكِنْ بُكَائِي لِبُكَا شَادِنٍ تَقِيهِ نَفْسِي كُلَّ مَحْذُورِ
ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا بَكَيْتُ لِبُكَاءِ هَذَا الْأَمْرَدِ الَّذِي إِلَى
جَانِبِ أَبِيكَ، وَكَانَ صَبِيًّا حَسَنَ الصُّورَةِ، يَسْمَعُ الْوَعْظَ
فَيَبْكِي خَوْفًا مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ أَبُو
نُوَاسٍ: دَعَانِي يَوْمًا بَعْضُ الْحَاكَةِ، وَأَلَحَّ عَلِيَّ لِيُضِيفَنِي فِي
مَنْزِلِهِ، وَلَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى أَجَبْتُهُ، فَسَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ
وَسِرْتُ مَعَهُ، فَإِذَا مَنْزِلٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدِ احْتَفَلَ الْحَائِكُ
فَلَمْ يُقَصِّرْ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَالَ: يَا سَيِّدِي، أَشْتَهِي
أَنْ تَقُولَ فِي جَارِيَتِي شَيْئًا مِنَ الشِّعْرِ وَكَانَ مُغْرَمًا
بِجَارِيَةٍ لَهُ. قَالَ أَبُو نُوَاسٍ فَقُلْتُ: أَرِنِيهَا حَتَّى أَنْظِمَ
عَلَى شَكْلِهَا، وَحُسْنِهَا. فَكَشَفَ عَنْهَا الْحِجَابَ، فَإِذَا هِيَ مِنْ
أَسْمَجِ خَلْقِ اللَّهِ وَأَوْحَشِهِمْ، سَوْدَاءُ شَمْطَاءُ دِنْدَانِيَةٌ
يَسِيلُ لُعَابُهَا عَلَى صَدْرِهَا، فَقُلْتُ لِسَيِّدِهَا: مَا اسْمُهَا ؟
فَقَالَ: تَسْنِيمُ. فَأَنْشَأْتُ أَقُولُ:
أَسْهَرَ لَيْلِي حُبُّ تَسْنِيمِ جَارِيَةٍ فِي الْحُسْنِ كَالْبُومِ
كَأَنَّمَا نَكْهَتُهَا كَامِخٌ أَوْ حُزْمَةٌ مِنْ حُزَمِ الثُّومِ
ضَرَطْتُ مِنْ حُبِّي لَهَا ضَرْطَةً أَفْزَعْتُ مِنْهَا مَلِكَ الرُّومِ
قَالَ: فَقَامَ الْحَائِكُ يَرْقُصُ وَيُصَفِّقُ سَائِرَ يَوْمِهِ، وَيَفْرَحُ
وَيَقُولُ: شَبَّهَهَا وَاللَّهِ بِمَلِكِ الرُّومِ.
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي نُوَاسٍ:
أَبْرَمَنِي النَّاسُ يَقُولُونَ تُبْ بِزَعْمِهِمْ كَثْرَةُ أَوْزَارِيَهْ
إِنْ كُنْتُ فِي النَّارِ وَفِي جَنَّةٍ مَاذَا عَلَيْكُمْ يَا بَنِي الزَّانِيَهْ
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا عَنْهُ أُمُورًا كَثِيرَةً، وَأَشْعَارًا
مُنْكَرَةً، وَمُجُونًا كَثِيرَةً،
وَلَهُ فِي
الْخَمْرِيَّاتِ وَالْقَاذُورَاتِ وَالتَّشَبُّبِ بِالْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ
أَشْيَاءُ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُفَسِّقُهُ وَيَرْمِيهِ
بِالْفَاحِشَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهِ بِالزَّنْدَقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِمَا
فِي أَشْعَارِهِ، فَأَمَّا الزَّنْدَقَةُ فَبَعِيدَةٌ عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ
فِيهِ مُجُونٌ وَخَلَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَقَدْ عَزَوْا إِلَيْهِ فِي صِغَرِهِ
وَكِبَرِهِ أَشْيَاءَ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا. وَالْعَامَّةُ تَنْقُلُ
عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَا حَقِيقَةَ لَهَا. وَفِي صَحْنِ جَامِعِ دِمَشْقَ
قُبَّةٌ يَفُورُ الْمَاءُ مِنْ وَسَطِهَا، يَقُولُ الدَّمَاشِقَةُ: قُبَّةُ أَبِي
نُوَاسٍ. وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَزْيَدَ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ
سَنَةً، فَمَا أَدْرِي لِمَاذَا تُسَمَّى بِهَذَا ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ: سَمِعْتُ أَبَا نُوَاسٍ يَقُولُ:
وَاللَّهِ مَا فَتَحْتُ سَرَاوِيلِي بِحَرَامٍ قَطُّ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ لِأَبِي نُوَاسٍ: أَنْتَ
زِنْدِيقٌ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ وَأَنَا أَقُولُ:
أُصَلِّي الصَّلَاةَ الْخَمْسَ فِي حِينِ وَقْتِهَا وَأَشْهَدُ بِالتَّوْحِيدِ
للَّهِ خَاضِعَا
وَأُحْسِنُ غُسْلًا إِنْ رَكِبْتُ جَنَابَةً وَإِنْ جَاءَنِي الْمِسْكِينُ لَمْ
أَكُ مَانِعَا
وَإِنِّي وَإِنْ حَانَتْ مِنَ الْكَأْسِ دَعْوَةٌ إِلَى بَيْعَةِ السَّاقِي أُجِيبُ
مُسَارِعَا
وَأَشْرَبُهَا
صِرْفًا عَلَى جَنْبِ مَاعِزٍ وَجَدْيٍ كَثِيرِ الشَّحْمِ أَصْبَحَ رَاضِعَا
وَجُوذَابَ حُوَّارَى وَجُوزٍ وَسُكَّرٍ وَمَا زَالَ لِلْمَخْمُورِ ذَلِكَ
نَافِعَا
وَأَجْعَلُ تَخْلِيطَ الرَّوَافِضِ كُلِّهِمْ لِفَقْحَةِ بَخْتَيْشُوعَ فِي
النَّارِ طَابِعَا
فَقَالَ لَهُ الْأَمِينُ: وَيْحَكَ، وَمَا الَّذِي أَلْجَأَكَ إِلَى فَقْحَةِ
بَخْتَيْشُوعَ ؟ فَقَالَ: بِهَا تَمَّتِ الْقَافِيَةُ فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ.
وَقَالَ الْجَاحِظُ: لَا أَعْرِفُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ أَرْفَعَ وَلَا
أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
أَيَّةُ نارٍ قَدَحَ الْقَادِحُ وَأَيُّ جِدٍّ بَلَغَ الْمَازِحُ
لِلَّهِ دَرُّ الشَيبِ مِنْ واعِظٍ وَناصِحٍ لَو خُطِئَ الناصِحُ
يَأَبْى الْفَتَى إِلَّا اتِّبَاعَ الْهَوَى وَمَنْهَجُ الْحَقِّ لَهُ واضِحُ
فَاسْمُ بِعَيْنَيْكَ إِلى نِسْوَةٍ مُهُورُهُنَّ الْعَمَلُ الصَّالِحُ
لَا يَجْتَلِي
الْحَوْرَاءَ مِنَ خِدْرِهَا إِلَّا امْرُؤٌ مِيْزَانُهُ رَاجِحُ
مَنِ اتَّقى اللَّهَ فَذَاكَ الَّذِي سِيقَ إِلَيهِ الْمَتْجَرُ الرَّابِحُ
فَاغْدُ فَمَا فِي الدِّينِ أُغْلُوطَةٌ وَرُحْ لِمَا أَنْتَ لَهُ رَائِحُ
وَقَدِ اسْتَنْشَدَهُ أَبُو هِفَّانَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِي أَوَّلِهَا:
لَا تَنْسَ لَيْلَى وَلَا تَطْرَبْ إِلَى هِنْدٍ
فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا سَجَدَ لَهُ أَبُو هِفَّانَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو نُوَاسٍ:
وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ مُدَّةً. قَالَ: فَغَمَّنِي ذَلِكَ، فَلَمَّا أَرَدْتُ
الِانْصِرَافَ قَالَ: مَتَى أَرَاكَ ؟ فَقُلْتُ: أَلَمْ تُقْسِمْ ؟ فَقَالَ:
الدَّهْرُ أَقْصَرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَجْرٌ.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَيَا رُبَّ وَجْهٍ فِي التُّرَابِ عَتِيقِ وَيا رُبَّ حُسْنٍ فِي التُّرَابِ
رَقِيقِ
وَيَا رُبَّ حَزْمٍ فِي التُّرَابِ وَنَجْدَةٍ وَيَا رُبَّ رَأيٍ فِي التُّرَابِ
وَثِيقِ
أَرَى كُلَّ حَيٍّ هَالِكاً وَابْنَ هَالِكٍ وَذَا حَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ
عَرِيقِ
فَقُلْ لِقَرِيبِ الدَّارِ إِنَّكَ ظَاعِنٌ إِلَى سَفَرٍ نَائِي الْمَحَلِّ
سَحِيقِ
إِذَا امْتَحَنَ
الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ
وَقَوْلُهُ:
لَا تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ وَالْعِزُّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي
الطَّيْشِ وَالسَّفَهِ
وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيْهِ مِنْ حُمَقٍ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي
التِّيهِ لَمْ تَتُهِ
التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ لِلْعِرْضِ
فَانْتَبِهِ
وَجَلَسَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاسِمِ فِي دُكَّانِ
وَرَّاقٍ، فَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ دَفْتَرٍ:
أَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَ هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
ثُمَّ جَاءَ أَبُو نُوَاسٍ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ قَالَ: أَحْسَنَ، قَاتَلَهُ
اللَّهُ، وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا لِي بِجَمِيعِ شَيْءٍ قُلْتُهُ، لِمَنْ
هَذِهِ ؟ قِيلَ: لِأَبِي الْعَتَاهِيَةِ. فَأَخَذَ الدَّفْتَرَ، فَكَتَبَ إِلَى
جَانِبِهَا:
سُبْحَانَ مَنْ خَلَقَ الْخَلْ قَ مِنْ ضَعِيفٍ مَهِينِ يَسوقُهُ مِنْ قَرَارٍ
إِلى قَرارٍ مَكِينِ
يَحورُ شَيئًا فَشَيئًا فِي الْحُجُبِ دُونَ الْعُيُونِ
حَتَّى بَدَتْ
حَرَكَاتٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ سُكُونِ
وَمِنْ شِعْرِ أَبِي نُوَاسٍ الْمُسْتَجَادِ قَوْلُهُ:
انْقَضَتْ شِرَّتِي فَعِفْتُ الْمَلَاهِي إِذْ رَمَى الشَّيْبُ مَفْرِقِي
بِالدَّوَاهِي
وَنَهَتْنِي النُّهَى فَمِلْتُ إِلَى الْعَدْ لِ وَأَشْفَقْتُ مِنْ مَقَالَةِ
نَاهِ
أَيُّهَا الْغَافِلُ الْمُقِيمُ عَلَى السَّهْ وِ وَلَا عُذْرَ فِي الْمُقَامِ
لِسَاهِ
لَا بِأَعْمَالِنَا نُطِيقُ خَلَاصًا يَوْمَ تَبْدُو السِّمَاتُ فَوْقَ الْجِبَاهِ
غَيْرَ أَنَّا عَلَى الْإِسَاءَةِ وَالتَّفْ رِيطِ نَرْجُو مِنْ حُسْنِ عَفْوِ
الْإِلَهِ
وَقَوْلُهُ:
نَمُوتُ وَنَبْلَى غَيْرَ أَنَّ ذُنُوبَنَا إِذَا نَحْنُ مِتْنَا لَا تَمُوتُ
وَلَا تَبْلَى
أَلَا رُبَّ ذِي عَيْنَيْنِ لَا تَنْفَعَانِهِ وَهَلْ تَنْفَعُ الْعَيْنَانِ مَنْ
قَلْبُهُ أَعْمَى
وَقَوْلُهُ:
لَوْ أَنَّ عَيْنًا وَهَّمَتْهَا نَفْسُهَا يَوْمَ الْحِسَابِ مُمَثَّلًا لَمْ
تَطْرَفِ
سُبْحَانَ ذِي
الْمَلَكُوتِ أَيَّةَ لَيْلَةٍ مَخِضَتْ صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ
كَتَبَ الْفَنَاءَ عَلَى الْبَرِيَّةِ رَبُّهَا فَالنَّاسُ بَيْنَ مُقَدَّمٍ
وَمُخَلَّفِ
وَذَكَرُوا أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ لَمَّا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَالَ:
إِلَهَنَا مَا أَعْدَلَكْ مَلِيكَ كُلِّ مَنْ مَلَكْ
لَبَّيْكَ قَدْ لَبَّيْتُ لَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ مَا خَابَ عَبْدٌ سَأَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
أَنْتَ لَهُ حَيْثُ سَلَكَ لَوْلَاكَ يَا رَبِّي هَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ
وَاللَّيْلُ لَمَّا أَنْ حَلَكْ وَالسَّابِحَاتُ فِي الْفَلَكْ
عَلَى مَجَارِي الْمُنْسَلَكْ كُلُّ نَبِيٍّ وَمَلَكْ
وَكُلُّ مَنْ أَهَلَّ لَكْ سَبَّحَ أَوْ صَلَّى فَلَكْ
لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
يَا مُخْطِئًا مَا
أَغْفَلَكْ عَجِّلْ وَبَادِرْ أَمَلَكْ
وَاخْتِمْ بِخَيْرٍ عَمَلَكْ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ لَكْ
وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكْ
وَقَالَ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيُّ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى ثَعْلَبًا يَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا تُهِمُّهُ نَفْسُهُ،
لَا يُحِبُّ أَنْ يُكْثَرَ عَلَيْهِ، كَأَنَّ النِّيرَانَ قَدْ سُعِّرَتْ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَمَا زِلْتُ أَتَرَفَّقُ بِهِ، وَتَوَسَّلْتُ إِلَيْهِ بِأَنِّي مِنْ
مَوَالِي شَيْبَانَ، حَتَّى قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ نَظَرْتَ ؟ فَقُلْتُ: فِي
عِلْمِ اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ. قَالَ: مَرَرْتُ بِالْبَصْرَةِ وَجَمَاعَةٌ
يَكْتُبُونَ عَنْ رَجُلٍ الشِّعْرَ، وَقِيلَ لِي: هَذَا أَبُو نُوَاسٍ
فَتَخَلَّلْتُ النَّاسَ وَرَائِي، فَلَمَّا جَلَسْتُ أَمْلَى عَلَيْنَا:
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ
عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفَلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ
يَغِيبُ
لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللَّهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ
فَيَا لَيْتَ أَنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى وَيَأْذَنُ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ
وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي نُوَاسٍ بَعْدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَقُولُ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي وَحَلَّ بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نُدُوبُ
لِطُولِ جِنَايَاتِي وَعِظَمِ خَطِيئَتِي هَلَكْتُ وَمَا لِي فِي الْمَتَابِ
نَصِيبُ
وَأَغْرَقُ فِي بَحْرِ الْمَخَافَةِ آيِسًا وَتَرْجِعُ نَفْسِي تَارَةً فَتَتُوبُ
وَيُذْكَرُ عَفْوٌ لِلْكَرِيمِ عَنِ الْوَرَى فَأَحْيَا وَأَرْجُو عَفْوَهُ
فَأُنِيبُ
فَأَخْضَعُ فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلًا عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى عَلَيَّ
يَتُوبُ
قَالَ ابْنُ طَرَارَا الْجَرِيرِيُّ، وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ: لِمَنْ
؟ قِيلَ: لِأَبِي نُوَاسٍ، وَهِيَ فِي زُهْدِيَّاتِهِ. وَقَدِ اسْتَشْهَدَ بِهَا
النُّحَاةُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ قَدْ ذَكَرْنَاهَا.
وَقَالَ حَسَنُ ابْنُ الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي نُوَاسٍ وَهُوَ فِي مَرَضِ
الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: عِظْنِي. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَكَثَّرْ مَا
اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا فَإِنَّكَ لَاقِي رَبًّا غَفُورَا
سَتُبْصِرُ إِذْ وَرَدْتَ عَلَيْهِ عَفْوَا وَتَلْقَى سَيِّدًا مَلِكًا قَدِيرَا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا
فَقُلْتُ: وَيْلَكَ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ تَعِظُنِي بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ
؟ فَقَالَ: اسْكُتْ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ادَّخَرْتُ شَفَاعَتِي
لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ بِهَذَا السَّنَدِلَا
يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ
وَقَالَ الرَّبِيعُ وَغَيْرُهُ، عَنِ الشَّافِعِيِّ: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي
نُوَاسٍ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ،
فَقُلْنَا: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ
أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا
وَلَوْلَاكَ لَمْ يَصْمُدْ لِإِبْلِيسَ عَابِدٌ فَكَيْفَ وَقَدْ أَغْوَى صَفِيَّكَ
آدَمَا
رَوَاهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ وَجَدُوا عِنْدَ رَأْسِهِ رُقْعَةً مَكْتُوبًا فِيهَا
بِخَطِّهِ:
يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ
أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ فَمَنِ الَّذِي يَدْعُو وَيَرْجُو
الْمُجْرِمُ
أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا
يَرْحَمُ
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ أَنَّي
مُسْلِمُ
وَقَالَ يُوسُفُ ابْنُ الدَّايَةِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ،
فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ،
فَقَالَ:
دَبَّ فِيَّ الْفَنَاءُ سُفْلًا وَعُلْوًا وَأُرَانِي أَمُوتُ عُضْوًا فَعُضْوَا
لَيْسَ تَأْتِي مِنْ سَاعَةٍ بِيَ إِلَّا نَقَصَتْنِي بِمُرِّهَا فِيَّ جَزْوَا
ذَهَبَتْ جِدَّتِي بِلَذَّةِ عَيْشِي وَتَذَكَّرْتُ طَاعَةَ اللَّهِ نِضْوَا
قَدْ أَسْأْنَا
كُلَّ الْإِسَاءَةِ فَاللَّهُمَّ صَفْحًا عَنَّا وَغَفْرًا وَعَفْوَا
ثُمَّ مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا. فَأَوْصَى
أَنْ يُجْعَلَ فِي فَمِهِ إِذَا غَسَّلُوهُ، فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ.
وَلَمَّا مَاتَ لَمْ يَجِدُوا لَهُ مِنَ الْمَالِ سِوَى ثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ
وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الشُّونِيزِيَّةِ فِي تَلِّ الْيَهُودِ،
وَلَهُ خَمْسُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: تِسْعٌ وَخَمْسُونَ
سَنَةً. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا فِي
النَّرْجِسِ:
تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الْأَرْضِ وَانْظُرْ إِلَى آثَارِ مَا فَعَلَ الْمَلِيكُ
عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنٍ فَاخِرَاتٌ بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَى قَصَبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: غَفَرَ لِي بِأَبْيَاتٍ قُلْتُهَا، وَهِيَ
تَحْتَ وِسَادَتِي، فَجَاءُوا فَوَجَدُوهَا فِي رُقْعَةٍ بِخَطِّهِ وَهِيَ هَذِهِ
الْأَبْيَاتُ:
يَا رَبِّ إِنْ
عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً فَلَقْدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ
الْأَبْيَاتِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ عَسَاكِرَ، قَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ
فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ
بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا ؟ وَقَدْ كُنْتَ مُخَلِّطًا عَلَى
نَفْسِكَ ؟ فَقَالَ: جَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ رَجُلٌ صَالِحٌ إِلَى الْمَقَابِرِ،
فَبَسَطَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، قَرَأَ فِيهِمَا أَلْفَيْ مَرَّةٍ قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثُمَّ أَهْدَى ثَوَابَ ذَلِكَ لِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ،
فَدَخَلْتُ أَنَا فِي جُمْلَتِهِمْ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ لَمَّا صَحِبَ أَبَا أُسَامَةَ وَالِبَةَ بْنَ
الْحُبَابِ قَدِمَ بِهِ بَغْدَادَ فَكَانَ أَوَّلَ شِعْرٍ قَالَهُ أَبُو نُوَاسٍ:
حَامِلُ الْهَوَى تَعِبُ يَسْتَخِفُّهُ الطَّرَبُ
إِنْ بَكَى يَحِقُّ لَهُ لَيْسَ مَا بِهِ لَعِبُ
تَضْحَكِينَ لَاهِيَةً وَالْمُحِبُّ يَنْتَحِبُ
تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ
وَقَالَ
الْمَأْمُونُ: مَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا هَالِكٌ وَابْنُ هَالِكٍ وَذُو نَسَبٍ فِي الْهَالِكِينَ
عَرِيقُ
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ
صَدِيقِ
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمَا أَشَدَّ رَجَاءَهُ بِرَبِّهِ حَيْثُ يَقُولُ:
تَكَثَّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا فَإِنَّكَ لَاقِي رَبًّا غَفُورَا
سَتُبْصِرُ إِذْ وَرَدْتَ عَلَيْهِ عَفْوًا وَتَلْقَى سَيِّدًا مَلِكًا قَدِيرًا
تَعَضُّ نَدَامَةً كَفَّيْكَ مِمَّا تَرَكْتَ مَخَافَةَ النَّارِ السُّرُورَا
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ.
وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الدِّمَشْقِيُّ
تِلْمِيذُ الْأَوْزَاعِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا حَبَسَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَسَدَ بْنَ يَزِيدَ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُ نَقَمَ
عَلَى الْأَمِينِ لَعِبَهُ وَتَهَاوُنَهُ فِي أَمْرِ الرَّعِيَّةِ، وَارْتِكَابَهُ
اللَّعِبَ وَالصَّيْدَ فِي هَذَا الْوَقْتِ.
وَوَجَّهَ الْأَمِينُ أَحْمَدَ بْنَ مَزْيَدَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُمَيْدِ
بْنِ قَحْطَبَةَ فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِشْرُونَ
أَلْفًا إِلَى حُلْوَانَ لِقِتَالِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ أَمِيرِ الْحَرْبِ
مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى قَرِيبٍ مِنْ حُلْوَانَ
خَنْدَقَ طَاهِرٌ عَلَى جَيْشِهِ خَنْدَقًا، وَجَعَلَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي
إِيقَاعِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَاخْتَلَفَا فَرَجَعَا وَلَمْ
يُقَاتِلَاهُ، وَدَخَلَ طَاهِرٌ إِلَى حُلْوَانَ وَجَاءَهُ كِتَابُ الْمَأْمُونِ
بِتَسْلِيمِ مَا تَحْتَ يَدِهِ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ، وَأَنْ
يَتَوَجَّهَ هُوَ إِلَى الْأَهْوَازِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا رَفَعَ الْمَأْمُونُ مَنْزِلَةَ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ وَلَّاهُ
أَعْمَالًا كِبَارًا، وَسَمَّاهُ ذَا الرِّيَاسَتَيْنِ.
وَفِيهَا وَلَّى الْأَمِينُ نِيَابَةَ الشَّامِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ
بْنِ عَلِيٍّ وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ سِجْنِ الرَّشِيدِ وَأَمَرَهُ أَنْ
يَبْعَثَ لَهُ رِجَالًا وَجُنُودًا لِقِتَالِ طَاهِرٍ وهَرْثَمَةَ، فَلَمَّا
وَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ صَالِحٍ إِلَى الرَّقَّةِ أَقَامَ بِهَا، وَكَتَبَ
إِلَى رُؤَسَاءِ الشَّامِ
يَتَأَلَّفُهُمْ
وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
ثُمَّ وَقَعَتْ حُرُوبٌ كَانَ مَبْدَؤُهَا مِنْ أَهْلِ حِمْصَ وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ وَطَالَ الْقِتَالُ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
صَالِحٍ هُنَالِكَ، فَرَجَعَ الْجَيْشُ إِلَى بَغْدَادَ صُحْبَةَ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ، فَتَلَقَّاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ بِالْإِكْرَامِ
وَالِاحْتِرَامِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهَا جَاءَهُ رَسُولُ الْأَمِينِ يَطْلُبُهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا
أَنَا بِمُسَامِرٍ وَلَا مُضْحِكٍ، وَلَا وَلِيتُ لَهُ عَمَلًا وَلَا جَاءَ لَهُ
عَلَى يَدَيَّ مَالٌ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ يُرِيدُنِي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ؟
ذِكْرُ سَبَبِ خَلْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَكَيْفَ أَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى
أَخِيهِ الْمَأْمُونِ
لَمَّا أَصْبَحَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَلَمْ
يَذْهَبْ إِلَى الْأَمِينِ لَمَّا طَلَبَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَقْدَمِهِ
بِالْجَيْشِ مِنْ الرَّقَّةِ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَأَلَّبَهُمْ عَلَى
الْأَمِينِ، وَذَكَرَ لَعِبَهُ وَمَا يَتَعَاطَاهُ مِنَ اللَّهْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنَّهُ لَا تَصْلُحُ الْخِلَافَةُ لِمَنْ هَذَا حَالُهُ،
وَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُوقِعَ الْبَأْسَ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى
الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَالنُّهُوضِ إِلَيْهِ، وَنَدَبَهُمْ لِذَلِكَ، فَالْتَفَّ
عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ إِلَيْهِ
خَيْلًا، فَاقْتَتَلُوا مَلِيًّا مِنَ النَّهَارِ، فَأَمَرَ الْحُسَيْنُ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَرَجَّلُوا إِلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يُقَاتِلُوا بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ الْأَمِينِ، وَخَلَعَ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنَ الْغَدِ لِعَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ نَقَلَ الْأَمِينَ مِنْ قَصْرِهِ إِلَى قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ وَسَطَ بَغْدَادَ وَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَقَيَّدَهُ وَاضْطَهَدَهُ، وَأَمَرَ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى أُمَّهُ زُبَيْدَةَ أَنْ تَنْتَقِلَ إِلَى هُنَالِكَ فَامْتَنَعَتْ فَقَنَّعَهَا بِالسَّوْطِ، وَقَهَرَهَا عَلَى الِانْتِقَالِ، فَانْتَقَلَتْ مَعَ أَوْلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ طَلَبُوا مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُعْطِيَاتِهِمْ وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، وَصَارَ أَهْلُ بَغْدَادَ فِرْقَتَيْنِ؛ فِرْقَةً مَعَ الْخَلِيفَةِ وَفِرْقَةً عَلَيْهِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فَغَلَبَ حِزْبُ الْخَلِيفَةِ أُولَئِكَ، وَأَسَرُوا الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَقَيَّدُوهُ، وَدَخَلُوا بِهِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَفَكُّوا عَنْهُ قُيُودَهُ، وَأَجْلَسُوهُ عَلَى السَّرِيرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِلَاحٌ مِنَ الْعَامَّةِ أَنْ يُعْطَى سِلَاحًا مِنَ الْخَزَائِنِ، فَانْتَهَبَ النَّاسُ خَزَائِنَ السِّلَاحِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأُتِيَ الْأَمِينُ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، فَلَامَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّ عَفْوَ الْخَلِيفَةِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَعَفَا عَنْهُ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَوْزَرَهُ، وَأَعْطَاهُ الْخَاتَمَ، وَوَلَّاهُ مَا وَرَاءَ بَابِهِ، وَوَلَّاهُ الْحَرْبَ وَسَيَّرَهُ إِلَى حُلْوَانَ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْجِسْرِ هَرَبَ فِي خَدَمِهِ وَحَاشِيَتِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْأَمِينُ مَنْ يَرُدُّهُ، فَرَكِبَتِ الْخُيُولُ وَرَاءَهُ فَأَدْرَكُوهُ، فَقَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ،
فَقَتَلُوهُ
لِمُنْتَصَفِ رَجَبٍ، وَجَاءُوا بِرَأْسِهِ إِلَى الْأَمِينِ، وَجَدَّدَ النَّاسُ
بَيْعَةَ الْأَمِينِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَلَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ عِيسَى هَرَبَ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ، وَاسْتَحْوَذَ
طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ نَائِبُ الْمَأْمُونِ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ،
وَاسْتَنَابَ بِهَا النُّوَّابَ، مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ وَخَلَعَتْ أَكْثَرُ
الْأَقَالِيمِ الْأَمِينَ، وَبَايَعُوا الْمَأْمُونَ وَتَدَنَّى طَاهِرٌ إِلَى
الْمَدَائِنِ فَأَخَذَهَا مَعَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالِهَا، وَاسْتَنَابَ مِنْ
جِهَتِهِ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْأَمِينِ مِنَ الْبِلَادِ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا عَقَدَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ أَرْبَعَمِائَةِ لِوَاءٍ،
مَعَ كُلِّ لِوَاءٍ أَمِيرٌ، وَبَعَثَهُمْ لِقِتَالِ هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ
فَالْتَقَوْا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَكَسَرَهُمْ هَرْثَمَةُ، وَأَسَرَ
مُقَدَّمَهُمْ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ نَهِيكٍ، وَبَعَثَ بِهِ
إِلَى الْمَأْمُونِ وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ جُنْدِ طَاهِرٍ، نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةِ
آلَافٍ، فَسَارُوا إِلَى الْأَمِينِ بِبَغْدَادَ فَأَعْطَاهُمْ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً، وَأَكْرَمَهُمْ وَغَلَّفَ لِحَاهُمْ بِالْغَالِيَةِ، فَسُمُّوا جَيْشَ
الْغَالِيَةِ. ثُمَّ نَدَبَهُمُ الْأَمِينُ وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ جَيْشًا كَثِيفًا
لِقِتَالِ طَاهِرٍ فَهَزَمَهُمْ، وَفَرَّقَ شَمْلَهُمْ، وَأَخَذَ مَا كَانَ
مَعَهُمْ. وَاقْتَرَبَ مِنْ بَغْدَادَ فَحَاصَرَهَا، وَبَعَثَ الْقُصَّادَ
وَالْجَوَاسِيسَ يُلْقُونَ الْفِتْنَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ حَتَّى تَفَرَّقُوا
شِيَعًا، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ، وَسَعَتِ الْأَصَاغِرُ عَلَى
الْأَكَابِرِ،
وَاخْتَلَفُوا
عَلَى الْأَمِينِ فِي سَادِسِ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ:
قُلْ لِأَمِينِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ مَا شَتَّتَ الْجُنْدَ سِوَى الْغَالِيهْ
وَطَاهِرٌ نَفْسِي تَقِي طَاهِرًا
بِرُسْلِهِ وَالْعُدَّةِ الْكَافِيهْ أَضْحَى زِمَامُ الْمُلْكِ فِي كَفِّهِ
مُقَاتِلًا لِلْفِئَةِ الْبَاغِيهْ يَا نَاكِثًا أَسْلَمَهُ نَكْثُهُ
عُيُوبُهُ فِي جَيْشِهِ فَاشِيهْ قَدْ جَاءَكَ اللَّيْثُ بِشَدَّاتِهِ
مُسْتَكْلِبًا فِي أُسُدٍ ضَارِيَهْ فَاهْرَبْ وَلَا مَهْرَبَ مِنْ مِثْلِهِ
إِلَّا إِلَى النَّارِ أَوِ الْهَاوِيَهْ
فَتَفَرَّقَ عَلَى الْأَمِينِ شَمْلُهُ، وَحَارَ فِي أَمْرِهِ، وَجَاءَ طَاهِرُ
بْنُ الْحُسَيْنِ بِجُيُوشِهِ، فَنَزَلَ عَلَى بَابِ الْأَنْبَارِ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَاشْتَدَّ الْحَالُ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَأَخَذَتِ الدُّعَّارُ
وَالشُّطَّارُ أَهْلَ الصَّلَاحِ، وَخُرِّبَتِ الدِّيَارُ، وَثَارَتِ الْفِتْنَةُ
بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى قَاتَلَ الْأَخُ أَخَاهُ، وَالِابْنُ أَبَاهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ، مِنْ قِبَلِ طَاهِرٍ،
وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَوْسِمٍ دُعِيَ فِيهِ لِلْمَأْمُونِ بِالْخِلَافَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ حِمْصَ وَفَقِيهُهَا
وَمُحَدِّثُهَا.
وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ الْقَاضِي، عَاشَ فَوْقَ التِّسْعِينَ، وَلَمَّا احْتُضِرَ
بَكَى بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَبْكِ، وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ
سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ، وَلَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ خَصْمَانِ
فَبَالَيْتُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْحُكْمُ مِنْهُمَا.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَرْزُوقٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، كَانَ وَزِيرًا
لِلرَّشِيدِ فَتَرَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَتَزَهَّدَ، وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ
أَنْ يُطْرَحَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَزْبَلَةٍ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَهُ.
أَبُو شِيصٍ الشَّاعِرُ مُحَمَّدُ بْنُ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ، كَانَ إِنْشَادُ
الشِّعْرِ وَإِنْشَاؤُهُ،
وَنَظْمُهُ أَسْهَلَ
عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ، وَكَانَ هُوَ وَمُسْلِمُ بْنُ الْوَلِيدِ
الْمُلَقَّبُ صَرِيعَ الْغَوَانِي وَأَبُو نُوَاسٍ، وَدِعْبِلٌ يَجْتَمِعُونَ
وَيَتَنَاشَدُونَ. وَقَدْ عَمِيَ أَبُو الشِّيصِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا
مُتَقَدَّمُ أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً
حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ أَشْبَهْتِ أَعْدَائِي فَصِرْتُ
أُحِبُّهُمْ
إِذْ كَانَ حَظِّي مِنْكِ حَظِّي مِنْهُمُ وأَهَنْتِنِي فَأَهَنْتُ نَفْسِي
صَاغِرًا
مَا مَنْ يَهُونُ عَلَيْكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَقَدْ أَلَحَّ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ وَهَرْثَمَةُ
بْنُ أَعْيَنَ، وَمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْجُنُودِ فِي حِصَارِ بَغْدَادَ
وَالتَّضْيِيقِ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَهَرَبَ الْقَاسِمُ بْنُ الرَّشِيدِ،
وَعَمُّهُ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَكْرَمَهُمَا،
وَوَلَّى أَخَاهُ الْقَاسِمَ جُرْجَانَ وَاشْتَدَّ الْحِصَارُ بِبَغْدَادَ وَنُصِبَتْ
عَلَيْهَا الْمَجَانِيقُ وَالْعَرَّادَاتُ وَضَاقَ الْأَمِينُ بِهِمْ ذَرْعًا،
وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَا يُنْفِقُ فِي الْجُنْدِ، فَاضْطَرَّ إِلَى ضَرْبِ
آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ، وَهَرَبَ كَثِيرٌ مِنْ
جُنْدِهِ إِلَى طَاهِرٍ، وَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَأُخِذَتْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التُّجَّارِ، وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ
إِلَى قُصُورٍ كَثِيرَةٍ، وَدُورٍ شَهِيرَةٍ، وَأَمَاكِنَ وَمَحَالَّ كَثِيرَةٍ
فَحَرَّقَهَا لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فَعَلَ كُلَّ هَذَا
فِرَارًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلِتَدُومَ الْخِلَافَةُ لَهُ فَلَمْ تَدُمْ، وَقُتِلَ،
وَخُرِّبَتْ دِيَارُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا وَفَعَلَ طَاهِرٌ مِثْلَ مَا
فَعَلَ الْأَمِينُ، حَتَّى كَادَتْ بَغْدَادُ تَخْرَبُ بِكَمَالِهَا، فَقَالَ
بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
مَنْ ذَا أَصَابَكِ يَا بَغْدَادُ بِالْعَيْنِ أَلَمْ تَكُونِي زَمَاناً قُرَّةَ
الْعَيْنِ أَلَمْ يَكُنْ فِيكِ قَوْمٌ كَانَ مَسْكَنُهُمْ
وَكَانَ قُرْبُهُمْ زَيْنًا مِنَ الزَّيْنِ
صَاحَ الْغُرَابُ
بِهِمْ بِالْبَيْنِ
فَافْتَرَقُوا مَاذَا لَقِيتِ بِهِمْ مِنْ لَوْعَةِ الْبَيْنِ أَسْتَوْدِعُ
اللَّهَ قَوْماً مَا ذَكَرْتُهُمْ
إِلَّا تَحَدَّرَ مَاءُ الْعَيْنِ مِنْ عَيْنِي كَانُوا فَمَزَّقَهُمْ دَهْرٌ
وَصَدَّعَهُمْ
وَالدَّهْرُ يَصْدَعُ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ
وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا صَالِحًا، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ
قَصِيدَةً طَوِيلَةً جِدًّا لِبَعْضِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، فِيهَا بَسْطُ مَا
وَقَعَ، وَهِيَ هَوْلٌ مِنَ الْأَهْوَالِ اخْتَصَرْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ.
وَاسْتَحْوَذَ طَاهِرٌ عَلَى مَا كَانَ فِي الضِّيَاعِ مِنَ الْغَلَّاتِ
وَالْحَوَاصِلِ لِلْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ،
وَخَلْعِ الْأَمِينِ، وَالْبَيْعَةِ لِلْمَأْمُونِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ؛
مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ قَحْطَبَةَ، وَيَحْيَى بْنُ عَلِيِّ
بْنِ مَاهَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ الطُّوسِيُّ، وَكَاتَبَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْأُمَرَاءِ، وَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَهُ.
وَاتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ ظَفِرَ أَصْحَابُ الْأَمِينِ بِبَعْضِ
أَصْحَابِ طَاهِرٍ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً عِنْدَ قَصْرِ صَالِحٍ،
فَلَمَّا جَرَى ذَلِكَ بَطَرَ الْأَمِينُ، وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ وَالشُّرْبِ
وَاللَّعِبِ، وَوَكَّلَ الْأُمُورَ، وَتَدْبِيرَهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ
نَهِيكٍ، ثُمَّ قَوِيَتْ شَوْكَةُ أَصْحَابِ طَاهِرٍ وَضَعُفَ جَانِبُ الْأَمِينِ
جِدًّا، وَانْحَازَ النَّاسُ إِلَى جَيْشِ طَاهِرٍ، وَكَانَ جَانِبُهُ آمِنًا
جِدًّا، لَا يَخَافُ أَحَدٌ فِيهِ مِنْ سَرِقَةٍ وَلَا نَهْبٍ، وَلَا
غَيْرِ ذَلِكَ،
وَقَدِ احْتَازَ طَاهِرٌ أَكْثَرَ مَحَالِّ بَغْدَادَ وَأَرْبَاضِهَا، وَمَنَعَ
الْمَلَّاحِينَ أَنْ يَحْمِلُوا طَعَامًا إِلَى مَنْ خَالَفَهُ، لِيُضَيِّقَ
عَلَيْهِمْ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ جِدًّا، وَنَدِمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ
خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمُنِعَتِ التُّجَّارُ مِنَ الْقُدُومِ
إِلَى بَغْدَادَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَضَائِعِ أَوِ الدَّقِيقِ، وَصُرِفَتِ
السُّفُنُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ
حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ وَقْعَةُ دَرْبِ الْحِجَارَةِ، كَانَتْ لِأَصْحَابِ
مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِ طَاهِرٍ، كَانَ
الرَّجُلُ مِنَ الْعَيَّارِينَ وَالْحَرَافِشَةُ مِنَ الْبَغَادِدَةِ يَأْتِي
عُرْيَانًا، وَمَعَهُ بَارِيَّةٌ مُقَيَّرَةٌ، وَتَحْتَ كَتِفِهِ مِخْلَاةٌ فِيهَا
حِجَارَةٌ، فَإِذَا ضَرَبَهُ الْفَارِسُ مِنْ بَعِيدٍ بِالسَّهْمِ اتَّقَاهُ
بِبَارِيَّتِهِ فَلَا يُؤْذِيهِ، وَإِذَا اقْتَرَبَ مِنْهُ رَمَاهُ بِحَجَرٍ فِي
الْمِقْلَاعِ فَأَصَابَهُ، فَهَزَمُوهُمْ بِذَلِكَ.
وَوَقْعَةُ الشَّمَّاسِيَّةِ أُسِرَ فِيهَا هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَى طَاهِرٍ، وَأَمَرَ بِعَقْدِ جِسْرٍ عَلَى دِجْلَةَ فَوْقَ
الشَّمَّاسِيَّةِ، وَعَبَرَ بِنَفْسِهِ، وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ
فَقَاتَلَهُمْ بِنَفْسِهِ أَشَدَّ الْقِتَالِ حَتَّى أَزَالَهُمْ عَنْ
مَوَاضِعِهِمْ، وَاسْتَرَدَّ مِنْهُمْ هَرْثَمَةَ، وَجَمَاعَةً مِمَّنْ كَانُوا
أَسَرُوهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَقَالَ
فِي ذَلِكَ:
مُنِيتُ بِأَشْجَعِ
الثَّقَلَيْنِ قَلْبًا إِذَا مَا طَالَ لَيْسَ كَمَا يَطُولُ
لَهُ مَعَ كُلِّ ذِي بَدَنٍ رَقِيبٌ يُشَاهِدُهُ وَيَعْلَمُ مَا يَقُولُ
فَلَيْسَ بِمُغْفِلٍ أَمْرًا عِنَادًا إِذَا مَا الْأَمْرُ ضَيَّعَهُ الْغُفُولُ
وَضَعُفَ أَمْرُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ابْنِ زُبَيْدَةَ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ
عِنْدَهُ مَالٌ يُنْفِقُهُ عَلَى جُنْدِهِ، وَلَا عَلَى نَفْسِهِ، وَتَفَرَّقَ
أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ عَنْهُ، وَبَقِيَ مُضْطَهَدًا ذَلِيلًا. وَانْقَضَتْ هَذِهِ
السَّنَةُ بِكَمَالِهَا وَالنَّاسُ فِي بَغْدَادَ فِي قَلَاقِلَ وَزَلَازِلَ
وَهَيْشَاتٍ وَقِتَالٍ وَحِصَارٍ وَحَرْقٍ وَغَرَقٍ وَسَرَقٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ،
وَدَعَا لِلْمَأْمُونِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ السَّادَةِ الْأَعْيَانِ:
شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، أَحَدُ الزُّهَّادِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ وَهْبٍ، إِمَامُ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُسْهِرٍ، قَاضِي جَبُّلٍ، أَخُو عَلِيِّ بْنِ
مُسْهِرٍ.
وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، أَبُو سَعِيدٍ، الْمُلَقَّبُ بِوَرْشٍ، أَحَدُ
الْقُرَّاءِ الْمَشْهُورِينَ الرُّوَاةُ عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ.
وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ الرُّؤَاسِيُّ، أَحَدُ أَعْلَامِ الْمُحَدِّثِينَ،
مَاتَ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا خَامَرَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ عَلَى مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَأَخَذَ
الْأَمَانَ مِنْ طَاهِرٍ. وَدَخَلَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ الْجَانِبَ
الشَّرْقِيَّ، وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
وَثَبَ خُزَيْمَةُ بْنُ خَازِمٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى عَلَى
جِسْرِ بَغْدَادَ فَقَطَعَاهُ وَنَصَبَا رَايَتَهُمَا عَلَيْهِ، وَدَعَوْا إِلَى
بَيْعَةِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ وَخَلْعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ وَدَخَلَ
طَاهِرٌ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، فَبَاشَرَ الْقِتَالَ
بِنَفْسِهِ، وَنَادَى بِالْأَمَانِ لِمَنْ لَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَجَرَتْ عِنْدَ
دَارِ الرَّقِيقِ وَالْكَرْخِ وَغَيْرِهِمَا وَقَعَاتٌ، وَأَحَاطَ بِمَدِينَةِ
أَبِي جَعْفَرٍ وَالْخُلْدِ وَقَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَنَصَبَ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ
السُّورِ، وَحِذَاءَ قَصْرِ زُبَيْدَةَ، وَرَمَاهُ بِالْمَنْجَنِيقِ، فَخَرَجَ
مُحَمَّدٌ الْأَمِينُ بِأُمِّهِ وَوَلَدِهِ إِلَى مَدِينَةِ أَبِي جَعْفَرٍ،
وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ فِي الطُّرُقِ، لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى
أَحَدٍ. وَدَخَلَ الْأَمِينُ قَصْرَ أَبِي جَعْفَرٍ وَانْتَقَلَ مِنَ الْخُلْدِ
لِكَثْرَةِ مَا يَأْتِيهِ فِيهِ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ
مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَثَاثِ وَالْبُسُطِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَحُصِرَ فِيهِ حَصْرًا شَدِيدًا. وَمَعَ هَذِهِ الشِّدَّةِ وَالضِّيقِ
وَإِشْرَافِهِ عَلَى الْهَلَاكِ، خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ
إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَاسْتَدْعَى بِنَبِيذٍ وَجَارِيَةٍ فَغَنَّتْهُ، فَلَمْ
يَنْطَلِقْ لِسَانُهَا إِلَّا بِالْفُرَاقِيَّاتِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ، وَهُوَ
يَقُولُ لَهَا: غَيِّرِي هَذَا.
فَتَذْكُرُ
نَظِيرَهُ، حَتَّى غَنَّتْهُ آخِرَ مَا غَنَّتْهُ أَنْ قَالَتْ:
أَمَا وَرَبِّ السُّكُونِ وَالْحَرَكِ إِنَّ الْمَنَايَا كَثِيرَةُ الشَّرَكِ مَا
اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا
دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ إِلَّا لِنَقْلِ السُّلْطَانِ مِنْ
مَلِكٍ
غَاوٍ يُحِبُّ الدُّنْيَا إِلَى مَلِكِ وَمُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا
لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرَكِ
قَالَ: فَسَبَّهَا وَأَقَامَهَا مِنْ حَضْرَتِهِ، فَعَثَرَتْ فِي قَدَحٍ كَانَ
لَهُ مِنْ بَلُّورٍ فَكَسَرَتْهُ، فَتَطَيَّرَ بِذَلِكَ. وَلَمَّا ذَهَبَتِ
الْجَارِيَةُ سَمِعَ صَارِخًا يَقُولُ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
[ يُوسُفَ: 41 ] فَقَالَ لِجَلِيسِهِ: وَيْحَكَ، أَلَا تَسْمَعُ ؟ فَتَسَمَّعَ
فَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، ثُمَّ عَادَ الصَّوْتُ بِذَلِكَ، فَمَا كَانَ إِلَّا
لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى قُتِلَ فِي رَابِعِ صَفَرٍ يَوْمَ الْأَحَدِ،
وَقَدْ جَهِدَ فِي حَصْرِهِ ذَلِكَ، بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ
طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ؛ فَجَاعَ لَيْلَةً فَمَا أُتِيَ بِرَغِيفٍ وَدَجَاجَةٍ
إِلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ طَلَبَ مَاءً فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ،
فَبَاتَ عَطْشَانًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ.
ذِكْرُ كَيْفِيَّةِ مَقْتَلِهِ
لَمَّا اشْتَدَّ بِهِ الْأَمْرُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْخَدَمِ وَالْجُنْدِ، فَشَاوَرَهُمْ فِي أَمْرِهِ، فَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: تَذْهَبُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَكَ إِلَى الْجَزِيرَةِ أَوِ الشَّامِ
فَتَتَقَوَّى بِالْأَمْوَالِ، وَتَسْتَخْدِمَ الرِّجَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَخْرُجُ إِلَى طَاهِرٍ وَتَأْخُذُ مِنْهُ أَمَانًا، وَتُبَايِعُ لِأَخِيكَ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَإِنَّ أَخَاكَ سَيَأْمُرُ لَكَ بِمَا يَكْفِيكَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَغَايَةُ مُرَادِكَ الدَّعَةُ وَالرَّاحَةُ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هَرْثَمَةُ أَوْلَى بِأَنْ يَأْخُذَ لَكَ الْأَمَانَ؛ فَإِنَّهُ مَوْلَاكُمْ أَحَنَى عَلَيْكُمْ. فَمَالَ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْأَحَدِ الرَّابِعِ مِنْ صَفَرٍ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ وَاعَدَ هَرْثَمَةَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَ الْخِلَافَةِ، وَطَيْلَسَانًا، وَاسْتَدْعَى بِوَلَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا وَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَسْتُوْدِعُكُمَا اللَّهَ، وَمَسَحَ دُمُوعَهُ بِطَرَفِ كُمِّهِ، ثُمَّ رَكِبَ عَلَى فَرَسٍ سَوْدَاءَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ شَمْعَةٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَرْثَمَةَ أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ، وَرَكِبَا فِي حَرَّاقَةٍ فِي دِجْلَةَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ طَاهِرًا، فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا الَّذِي فَعَلْتُ هَذَا كُلَّهُ وَيَذْهَبُ إِلَى غَيْرِي، وَيُنْسَبُ هَذَا كُلُّهُ إِلَى هَرْثَمَةَ ! فَلَحِقَهُمَا وَهُمَا فِي الْحَرَّاقَةِ، فَأَمَالَهَا أَصْحَابُهُ فَغَرِقَتْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ مَنْ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدًا الْأَمِينَ سَبَحَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ وَأَسَرَهُ بَعْضُ الْجُنْدِ، وَجَاءَ فَأَعْلَمَ طَاهِرًا بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جُنْدًا مِنَ الْعَجَمِ، فَجَاءُوا إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي قَدْ أَوَى إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: ادْنُ مِنِّي فَإِنِّي أَجِدُ وَحْشَةً شَدِيدَةً. وَجَعَلَ يَلْتَفُّ فِي ثِيَابِهِ شَدِيدًا، وَقَلْبُهُ يَخْفِقُ خَفَقَانًا عَظِيمًا، كَادَ يَخْرُجُ مِنْ صَدْرِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ، قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ دَنَا مِنْهُ أَحَدُهُمْ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمُ، أَنَا ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا ابْنُ هَارُونَ، أَنَا أَخُو الْمَأْمُونِ اللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي ! فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ وَذَبَحُوهُ مِنْ قَفَاهُ، وَذَهَبُوا بِرَأْسِهِ إِلَى طَاهِرٍ وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، ثُمَّ جَاءُوا
مِنْ بَاكِرٍ
إِلَيْهَا، فَلَفُّوهَا فِي جُلِّ فَرَسٍ، وَذَهَبُوا بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ
لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
أَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وَهَذَا شَيْءٌ مِنْ تَرْجَمَةِ الْأَمِينِ
هُوَ مُحَمَّدٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَمِينُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ:
أَبُو مُوسَى الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، وَأُمُّهُ أُمُّ
جَعْفَرٍ زُبَيْدَةُ بِنْتُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ.
كَانَ مَوْلِدُهُ بِالرُّصَافَةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ. وَأَتَتْهُ الْخِلَافَةُ
بِمَدِينَةِ السَّلَامِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ، وَقُتِلَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ، يَعْنِي سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ،
قَتَلَهُ قُرَيْشٌ الدَّنْدَانِيُّ، وَحُمِلُ رَأْسُهُ إِلَى طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ فَنَصَبَهُ عَلَى رُمْحٍ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قُلِ اللَّهُمَّ
مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ
تَشَاءُ الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ: 26 ]. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ
وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ طَوِيلًا سَمِينًا أَبْيَضَ،
أَقْنَى الْأَنْفِ، صَغِيرَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْكَرَادِيسِ، بَعِيدًا مَا
بَيْنَ
الْمَنْكِبَيْنِ،
وَقَدْ رَمَاهُ بَعْضُهُمْ بِكَثْرَةِ اللَّعِبِ وَالشُّرْبِ، وَقِلَّةِ
الصَّلَاةِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ طَرَفًا مِنْ سِيرَتِهِ فِي إِكْثَارِهِ
مِنِ اقْتِنَاءِ السُّودَانِ وَالْخِصْيَانِ، وَإِعْطَائِهِمُ الْأَمْوَالَ
وَالْجَوَاهِرَ، وَأَمْرِهِ بِإِحْضَارِ الْمَلَاهِي وَالْمُغَنِّينَ مِنْ سَائِرِ
الْبُلْدَانِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِعَمَلِ خَمْسِ حَرَّاقَاتٍ عَلَى صُورَةِ
الْفِيلِ، وَالْأَسَدِ، وَالْعُقَابِ، وَالْحَيَّةِ، وَالْفَرَسِ، وَأَنْفَقَ
عَلَى ذَلِكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَقَدِ امْتَدَحَهُ أَبُو نُوَاسٍ
بِشِعْرٍ أَقْبَحَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَمِينِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي
أَوَّلِهِ:
سَخَّرَ اللَّهُ لِلْأَمِينِ مَطَايَا لَمْ تُسَخَّرْ لِصَاحِبِ الْمِحْرَابِ
فَإِذَا مَا رِكَابُهُ سِرْنَ بَرًّا سَارَ فِي الْمَاءِ رَاكِبًا لَيْثَ غَابِ
ثُمَّ وَصَفَ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْحَرَّاقَاتِ.
وَاعْتَنَى الْأَمِينُ بِبِنَايَاتٍ هَائِلَةٍ لِلنُّزْهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَأَنْفَقَ فِي ذَلِكَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَكَثُرَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ جَلَسَ يَوْمًا فِي مَجْلِسٍ أَنْفَقَ عَلَيْهِ
مَالًا جَزِيلًا فِي الْخُلْدِ، وَقَدْ فُرِشَ لَهُ بِأَنْوَاعِ الْحَرِيرِ،
وَنُضِّدَ بِآنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَأَحْضَرَ نُدَمَاءَهُ، وَأَمَرَ
الْقَهْرَمَانَةَ أَنْ تُهَيِّئَ لَهُ مِائَةَ جَارِيَةٍ حَسْنَاءَ، وَأَمَرَهَا
أَنْ تَبْعَثَهُنَّ إِلَيْهِ عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ يُغَنِّينَهُ، فَلَمَّا
جَاءَتِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ انْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ:
هُمْ قَتَلُوهُ
كَيْ يَكُونُوا مَكَانَهُ كَمَا غَدَرَتْ يَوْمًا بِكِسْرَى مَرَازِبُهُ
فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَتَبَرَّمَ وَضَرَبَ رَأْسَهَا بِالْكَأْسِ، وَأَمَرَ
بِهَا أَنْ تُلْقَى إِلَى الْأَسَدِ، فَأَكَلَهَا، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِعَشْرٍ
فَانْدَفَعْنَ يُغَنِّينَ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ
نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ يَلْطِمْنَ قَبْلَ تَبَلُّجِ
الْأَسْحَارِ
فَطَرَدَهُنَّ، وَاسْتَدْعَى بِعَشْرٍ غَيْرِهِنَّ، فَلَمَّا حَضَرْنَ انْدَفَعْنَ
يُغَنِّينَ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ:
كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كَانَ أَكْثَرَ نَاصِرًا وَأَيْسَرَ ذَنْبًا مِنْكَ ضُرِّجَ
بِالدَّمِ
فَطَرَدَهُنَّ وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ، وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ
وَتَحْرِيقِ مَا فِيهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْأَدَبِ، فَصِيحًا، يَقُولُ الشِّعْرَ
وَيُحِبُّهُ وَيُعْطِي عَلَيْهِ الْجَوَائِزَ الْكَثِيرَةَ، وَكَانَ شَاعِرُهُ
أَبَا نُوَاسٍ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو نُوَاسٍ مَدَائِحَ حِسَانًا جِدًّا،
وَقَدْ وَجَدَهُ مَسْجُونًا فِي حَبْسِ الرَّشِيدِ مَعَ الزَّنَادِقَةِ،
فَأَحْضَرَهُ، وَأَطْلَقُهُ، وَأَطْلَقَ لَهُ مَالًا، وَجَعَلَهُ مِنْ
نُدَمَائِهِ، ثُمَّ حَبَسَهُ مَرَّةً أُخْرَى فِي شُرْبِ الْخَمْرِ وَأَطَالَ
حَبْسَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ أَنْ لَا يَشْرَبَ
الْخَمْرَ، وَلَا يَأْتِي الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَامْتَثَلَ ذَلِكَ،
وَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَمَا اسْتَتَابَهُ الْأَمِينُ،
وَقَدْ تَأَدَّبَ عَلَى الْكِسَائِيِّ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ
مِنْ طَرِيقِهِ حَدِيثًا أَوْرَدَهُ عَنْهُ لَمَّا عُزِّيَ فِي غُلَامٍ لَهُ
تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ
الْمَنْصُورِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:مَنْ
مَاتَ مُحْرِمًا حُشِرَ مُلَبِّيًا
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ
وَالْفُرْقَةِ حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى خَلْعِهِ وَعَزْلِهِ، ثُمَّ إِلَى
التَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَقَتْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ، وَأَنَّهُ
حُصِرَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى مُصَانَعَةِ هَرْثَمَةَ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَأُلْقِيَ مِنَ الْحَرَّاقَةِ، فَسَبَحَ
إِلَى الشَّطِّ الْآخَرِ مِنْ دِجْلَةَ فَدَخَلَ دَارًا لِبَعْضِ الْعَامَّةِ،
وَهُوَ فِي غَايَةِ الْخَوْفِ وَالدَّهَشِ وَالْجُوعِ وَالْعُرْيِ وَالْقَلَقِ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يُلَقِّنُهُ الصَّبْرَ وَالِاسْتِغْفَارَ فَاشْتَغَلَ بِذَلِكَ
سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ جَاءَ الطَّلَبُ وَرَاءَهُ مِنْ جِهَةِ طَاهِرِ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ الْبَابُ ضَيِّقًا
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ يَتَدَافَعُونَ، وَقَامَ إِلَيْهِمْ فَجَعَلَ يُدَافِعُهُمْ
عَنْ نَفْسِهِ بِمِخَدَّةٍ فِي يَدِهِ، فَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ حَتَّى عَرْقَبُوهُ
وَضَرَبُوا رَأْسَهُ وَخَاصِرَتَهُ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ ذَبَحُوهُ، وَأَخَذُوا
رَأْسَهُ وَجُثَّتَهُ فَأَتَوْا بِهِمَا طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ فَفَرِحَ
بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ بِنَصْبِ الرَّأْسِ فَوْقَ رُمْحٍ هُنَاكَ،
حَتَّى أَصْبَحَ النَّاسُ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَوْقَ الرُّمْحِ عِنْدَ بَابِ
الْأَنْبَارِ وَكَثُرَ عَدَدُ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ
طَاهِرٌ بِرَأْسِ الْأَمِينِ مَعَ ابْنِ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ،
وَبَعَثَ مَعَهُ بِالْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ وَالْمُصَلَّى وَكَانَ مِنْ خُوصٍ
مُبَطَّنٍ
فَسَلَّمَهُ إِلَى
ذِي الرِّيَاسَتَيْنِ، فَدَخَلَ بِهِ عَلَى الْمَأْمُونِ عَلَى تُرْسٍ، فَلَمَّا
رَآهُ سَجَدَ وَأَمَرَ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ قَالَ
ذُو الرِّيَاسَتَيْنِ حِينَ قَدِمَ الرَّأْسُ، يُؤَلِّبُ عَلَى طَاهِرٍ:
أَمَرْنَاهُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ أَسِيرًا، فَأَرْسَلَ بِهِ عَقِيرًا. فَقَالَ
الْمَأْمُونُ: قَدْ مَضَى مَا مَضَى. وَكَتَبَ طَاهِرٌ إِلَى الْمَأْمُونِ
كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ صُورَةَ مَا وَقَعَ مِنَ الْقِتَالِ حَتَّى آلَ الْحَالُ
إِلَى مَا آلَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا قُتِلَ الْأَمِينُ هَدَأَتِ الْفِتَنُ، وَخَمَدَتِ الشُّرُورُ، وَأَمِنَ
النَّاسُ، وَطَابَتِ النُّفُوسُ، وَدَخَلَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى
بَغْدَادَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ وَخَطَبَهُمْ
خُطْبَةً بَلِيغَةً، ذَكَرَ فِيهَا آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَمَرَهُمْ فِيهَا
بِالْجَمَاعَةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِ
فَأَقَامَ بِهِ، وَأَمَرَ بِتَحْوِيلِ زُبَيْدَةَ مِنْ قَصْرِ أَبِي جَعْفَرٍ
إِلَى قَصْرِ الْخُلْدِ، فَخَرَجَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ بِمُوسَى وَعَبْدِ اللَّهِ
ابْنَيِ الْأَمِينِ إِلَى عَمِّهِمَا الْمَأْمُونِ بِخُرَاسَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ
رَأْيًا سَدِيدًا.
وَقَدْ وَثَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ بِطَاهِرٍ بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ
مَقْتَلِ الْأَمِينِ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ
إِذْ ذَاكَ مَالٌ، فَتَحَزَّبُوا وَاجْتَمَعُوا، وَنَهَبُوا بَعْضَ مَتَاعِهِ
وَنَادَوْا: يَا مُوسَى، يَا مَنْصُورُ. وَاعْتَقَدُوا أَنَّ مُوسَى بْنَ
الْأَمِينِ الْمُلَقَّبَ بِالنَّاطِقِ بِالْحَقِّ هُنَاكَ، وَإِذَا هُوَ قَدْ
سَيَّرَهُ طَاهِرٌ إِلَى عَمِّهِ الْمَأْمُونِ وَانْحَازَ طَاهِرٌ بِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْقُوَّادِ نَاحِيَةً، وَعَزَمَ عَلَى قِتَالِهِمْ وَمُنَاجَزَتِهِمْ بِمَنْ
مَعَهُ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْهِ، وَاعْتَذَرُوا، وَنَدِمُوا عَلَى مَا كَانُوا
فَعَلُوا، فَأَمَرَ لَهُمْ بِرِزْقِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ؛ بِعِشْرِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ
اقْتَرَضَهَا مِنْ
بَعْضِ النَّاسِ، فَطَابَتِ الْخَوَاطِرُ، وَاتَّسَقَ الْحَالُ وَصَلَحَ أَمْرُ
بَغْدَادَ.
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ قَدْ أَسِفَ عَلَى قَتْلِ مُحَمَّدِ ابْنِ
زُبَيْدَةَ، وَرَثَاهُ بِأَبْيَاتٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَأْمُونَ فَبَعَثَ
إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
مَرَاثِيَ كَثِيرَةً لِلنَّاسِ فِي الْأَمِينِ، وَذَكَرَ مِنْ أَشْعَارِ الَّذِينَ
هَجَوْهُ طَرَفًا، وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ حِينَ قَتَلَهُ
قَوْلَهُ:
مَلَكْتَ النَّاسَ قَسْرًا وَاقْتِدَارًا وَقَتَلْتَ الْجَبَابِرَةَ الْكِبَارَا
وَوَجَّهْتَ الْخِلَافَةَ نَحْوَ مَرْوَ إِلَى الْمَأْمُونِ تَبْتَدِرُ
ابْتِدَارَا
خِلَافَةُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَأْمُونِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
لَمَّا قُتِلَ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بِبَغْدَادَ فِي
رَابِعِ صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَقِيلَ: فِي آخِرِ
الْمُحَرَّمِ اسْتَوْسَقَتِ الْبَيْعَةُ شَرْقًا وَغَرْبًا لِلْمَأْمُونِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الرَّشِيدِ، فَوَلَّى الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ
وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ،
وَبَعَثَ نُوَّابَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَقَالِيمِ، وَكَتَبَ إِلَى طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ وَهُوَ بِبَغْدَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى الرَّقَّةِ لِحَرْبِ نَصْرِ
بْنِ شَبَثٍ وَوَلَّاهُ نِيَابَةَ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَالْمَوْصِلِ
وَالْمَغْرِبِ. وَكَتَبَ إِلَى هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ بِنِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْعَبَّاسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى
الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَيَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ. فَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ سَادَةُ الْعُلَمَاءِ فِي
زَمَانِهِمْ فِي الْحَدِيثِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ بَغْدَادَ نَائِبًا عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ
الْمَأْمُونِ وَوَجَّهَ نُوَّابَهُ إِلَى بَقِيَّةِ أَعْمَالِهِ، وَتَوَجَّهَ
طَاهِرٌ إِلَى نِيَابَةِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ،
وَسَارَ هَرْثَمَةُ إِلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَكَانَ قَدْ خَرَجَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنْهَا الْحَسَنُ الْهِرْشُ يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَانْتَهَبَ الْأَنْعَامَ،
وَعَاثَ فِي الْبِلَادِ فَسَادًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ جَيْشًا،
فَقَتَلُوهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِالْكُوفَةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ،
يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ابْنُ طَبَاطَبَا. وَكَانَ الْقَائِمُ
بِأَمْرِهِ وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو السَّرَايَا السَّرِيُّ
بْنُ مَنْصُورٍ الشَّيْبَانِيُّ، وَقَدْ أَصْفَقَ أَهْلُ الْكُوفَةِ عَلَى
وِفَاقِهِ وَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَوَفَدَتْ إِلَيْهِ
الْأَعْرَابُ مِنْ ضَوَاحِي الْكُوفَةِ وَكَانَ النَّائِبُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، فَبَعَثَ
الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى سُلَيْمَانَ يَلُومُهُ وَيُؤَنِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ
صُحْبَةَ زُهَيْرِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، فَتَقَاتَلُوا خَارِجَ الْكُوفَةِ فَهَزَمُوا زُهَيْرًا وَاسْتَبَاحُوا جَيْشَهُ وَنَهَبُوا مَا كَانَ مَعَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءَ سَلْخَ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنَ الْوَقْعَةِ تُوُفِّيَ ابْنُ طَبَاطَبَا أَمِيرُ الشِّيعَةِ فَجْأَةً يُقَالُ: إِنَّ أَبَا السَّرَايَا سَمَّهُ، وَأَقَامَ مَكَانَهُ غُلَامًا أَمْرَدَ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَانْعَزَلَ زُهَيْرٌ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى قَصْرِ ابْنِ هُبَيْرَةَ وَأَرْسَلَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ مَعَ عُبْدُوسِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مَدَدًا لِزُهَيْرٍ فَاتَّقَعُوا وَأَبُو السَّرَايَا، فَهَزَمَهُمْ أَبُو السَّرَايَا وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أَصْحَابِ عُبْدُوسٍ أَحَدٌ وَانْتَشَرَ الطَّالِبِيُّونَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَضَرَبَ أَبُو السَّرَايَا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْكُوفَةِ وَنَقَشَ عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ الْآيَةَ [ الصَّفِّ: 4 ]، ثُمَّ بَعَثَ أَبُو السَّرَايَا جُيُوشَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ وَالْمَدَائِنِ، فَهَزَمُوا مَنْ فِيهَا وَدَخَلُوهَا قَهْرًا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ وَكَتَبَ إِلَى هَرْثَمَةَ مِنْ خُرَاسَانَ يَسْتَدْعِيهِ لِحَرْبِ أَبِي السَّرَايَا، فَتَمَنَّعَ، ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ إِلَى أَبِي السَّرَايَا، فَهَزَمَ أَبَا السَّرَايَا غَيْرَ مَرَّةٍ وَطَرَدَهُ حَتَّى رَدَّهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَوَثَبَ الطَّالِبِيُّونَ عَلَى دَورِ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْكُوفَةِ فَنَهَبُوهَا، وَخَرَّبُوا ضِيَاعَهُمْ، وَفَعَلُوا فِعَالًا قَبِيحَةً وَبَعَثَ أَبُو السَّرَايَا إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ حُسَيْنَ بْنَ حَسَنٍ الْأَفْطَسِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، لِيُقِيمَ لَهُمُ
الْمَوْسِمَ، فَتَهَيَّبَ أَنْ يَدْخُلَهَا جَهْرَةً، وَلَمَّا سَمِعَ نَائِبُ
مَكَّةَ وَهُوَ دَاوُدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بِقُدُومِهِ هَرَبَ مِنْ مَكَّةَ طَالِبًا أَرْضَ
الْعِرَاقِ، وَبَقِيَ النَّاسُ بِلَا إِمَامٍ، فَسُئِلَ مُؤَذِّنُهَا أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ فَأَبَى،
فَقِيلَ لِقَاضِيهَا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ
فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: لِمَنْ أَدْعُو وَقَدْ هَرَبَ نُوَّابُ الْبِلَادِ.
فَقَدَّمَ النَّاسُ رَجُلًا مِنْ عُرْضِهِمْ، فَصَلَّى بِهِمُ الظُّهْرَ
وَالْعَصْرَ، وَبَلَغَ الْخَبَرُ إِلَى حُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ الْأَفْطَسِ،
فَدَخَلَ مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ رَهْطٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ،
ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا وَصَلَّى بِالنَّاسِ الْفَجْرَ بِمُزْدَلِفَةَ
وَدَفَعَ بِهِمْ، وَأَقَامَ بَقِيَّةَ الْمَنَاسِكِ فِي أَيَّامِ مِنًى لِلنَّاسِ،
فَدَفَعَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ بِغَيْرِ إِمَامٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَابْنُ شَابُورَ، وَعَمْرٌو
الْعَنْقَزِيُّ، وَأَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ مِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَلَسَ حُسَيْنُ بْنُ حَسَنٍ
الْأَفْطَسُ عَلَى طِنْفِسَةٍ مُثَلَّثَةٍ خَلْفَ الْمَقَامِ، وَأَمَرَ
بِتَجْرِيدِ الْكَعْبَةِ مِمَّا عَلَيْهَا مِنْ كَسَاوِي بَنِي الْعَبَّاسِ،
وَقَالَ: نُطَهِّرُهَا مِنْ كَسَاوِيهِمْ. وَكَسَاهَا مُلَاءَتَيْنِ صَفْرَاوَيْنِ
عَلَيْهِمَا اسْمُ أَبِي السَّرَايَا، ثُمَّ أَخَذَ مَا فِي كَنْزِ الْكَعْبَةِ
مِنَ الْأَمْوَالِ، وَتَتَبَّعَ وَدَائِعَ بَنِي الْعَبَّاسِ فَأَخَذَهَا، حَتَّى
إِنَّهُ لَيَأْخُذُ مَالَ ذِي الْمَالِ، وَيُلْزِمُهُ بِإِقْرَارٍ لِلْمُسَوِّدَةِ
فَيَأْخُذُهُ.
وَهَرَبَ مِنْهُ النَّاسُ إِلَى الْجِبَالِ وَحَكَّ مَا عَلَى رُءُوسِ
الْأَسَاطِينِ مِنَ الذَّهَبِ، فَكَانَ يَنْزِلُ مِنَ السَّارِيَةِ مِقْدَارٌ
يَسِيرٌ بَعْدَ جُهْدٍ جَهِيدٍ، وَقَلَعُوا مَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ
الشَّبَابِيكِ، وَبَاعُوهَا بِالْأَثْمَانِ الْبَخْسَةِ، وَأَسَاءُوا السِّيرَةَ
جِدًّا. فَلَمَّا بَلَغَهُ مَقْتَلُ أَبِي السَّرَايَا كَتَمَ ذَلِكَ، وَأَمَّرَ
رَجُلًا مِنَ الطَّالِبِيِّينَ شَيْخًا كَبِيرًا، وَاسْتَمَرَّ عَلَى سُوءِ
السِّيرَةِ.
وَفِي سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، قَهَرَ هَرْثَمَةُ بْنُ أَعْيَنَ
أَبَا السَّرَايَا وَهَزَمَ جَيْشَهُ،
وَأَخْرَجَهُ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَدَخَلَهَا هَرْثَمَةُ،
وَمَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ فَأَمَّنُوا أَهْلَهَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا
لِأَحَدٍ، وَسَارَ أَبُو السَّرَايَا بِمَنْ مَعَهُ إِلَى الْقَادِسِيَّةِ ثُمَّ
سَارَ مِنْهَا فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ جُيُوشِ الْمَأْمُونِ فَهَزَمُوهُمْ
أَيْضًا، وَجُرِحَ أَبُو السَّرَايَا جِرَاحَةً مُنْكَرَةً جِدًّا، وَهَرَبُوا
يُرِيدُونَ الْجَزِيرَةَ إِلَى مَنْزِلِ أَبِي السَّرَايَا بِرَأْسِ الْعَيْنِ،
فَاعْتَرَضَهُمْ بَعْضُ الْجُيُوشِ أَيْضًا فَأَسَرُوهُمْ، وَأَتَوْا بِهِمُ
الْحَسَنَ بْنَ سَهْلٍ وَهُوَ بِالنَّهْرَوَانِ حِينَ طَرَدَتْهُ الْحَرْبِيَّةُ،
فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ أَبِي السَّرَايَا، فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ جَزَعًا
شَدِيدًا جِدًّا، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ، وَأَمَرَ بِجَسَدِهِ أَنْ يُقَطَّعَ
بِاثْنَيْنِ، فَيُنْصَبَ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ فَكَانَ بَيْنَ خُرُوجِهِ
وَقَتْلِهِ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، فَبَعَثَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ مُحَمَّدَ بْنَ
مُحَمَّدٍ إِلَى الْمَأْمُونِ مَعَ رَأْسِ أَبِي السَّرَايَا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ:
أَلَمْ تَرَ ضَرْبَةَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ بِسَيْفِكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَا أَدَارَتْ مَرْوَ رَأْسَ أَبِي السَّرَايَا
وَأَبْقَتْ عِبْرَةً لِلْعَابِرِينَا
وَكَانَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْبَصْرَةُ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ زَيْدُ بْنُ مُوسَى
بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ،
وَيُقَالُ لَهُ: زَيْدُ النَّارِ. لِكَثْرَةِ مَا حَرَّقَ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي
لِلْمُسَوِّدَةِ، فَأَسَرَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَمَّنَهُ، وَبَعَثَ
بِهِ وَبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقُوَّادِ إِلَى الْيَمَنِ، لِقِتَالِ مَنْ هُنَاكَ
مِنْ الطَّالِبِيِّينَ الَّذِينَ قَدْ خَرَجُوا بِهَا.
وَفِيهَا خَرَجَ
بِالْيَمَنِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَيُقَالُ لَهُ: الْجَزَّارُ. لِكَثْرَةِ مَنْ
قَتَلَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. وَقَدْ كَانَ
مُقِيمًا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَبِي السَّرَايَا، وَظُهُورُهُ
بِأَرْضِ الْكُوفَةِ طَمِعَ فَسَافَرَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، فَلَمَّا بَلَغَ
نَائِبَهَا قُدُومُهُ تَرَكَ لَهُ الْيَمَنَ وَسَارَ إِلَى خُرَاسَانَ إِلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاجْتَازَ بِمَكَّةَ، وَأَخَذَ أَمَّهُ مِنْهَا،
وَاسْتَحْوَذَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى عَلَى بِلَادِ الْيَمَنِ، وَجَرَتْ
حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ كَبِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَرَجَعَ مُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ الَّذِي ادَّعَى الْخِلَافَةَ بِمَكَّةَ عَمَّا كَانَ
يَزْعُمُهُ، وَقَالَ: كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَدْ مَاتَ كَمَا سَمِعَ
ذَلِكَ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ حَيَاتُهُ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ
إِلَيْهِ مِمَّا كُنْتُ ادَّعَيْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَجَعْتُ إِلَى
بَيْعَتِهِ، وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ عُرْضِ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَزَمَ أَبُو السَّرَايَا وَأَصْحَابُهُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الَّذِي
تَأَمَّرَ بِالْكُوفَةِ وَادَّعَى الْخِلَافَةَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمَا عَلَى
يَدِ هَرْثَمَةَ بْنِ أَعْيَنَ فَوَشَى بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الْمَأْمُونِ أَنَّ
هَرْثَمَةَ لَوْ شَاءَ مَا ظَهَرَ أَبُو السَّرَايَا وَأَصْحَابُهُ، فَاسْتَدْعَى
بِهِ إِلَى مَرْوَ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَوُطِئَ بَطْنُهُ،
ثُمَّ رُفِعَ إِلَى الْحَبْسِ، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، وَانْطَوَى
خَبَرُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمَّا وَصَلَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى بَغْدَادَ
سَعَتِ الْعَامَّةُ وَالْحَرْبِيَّةُ بِالْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ نَائِبِ الْعِرَاقِ
وَغَيْرِهَا، وَقَالُوا: لَا نَرْضَى بِهِ، وَلَا بِعُمَّالِهِ بِبِلَادِنَا.
وَأَقَامُوا إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى بْنِ الْمَهْدِيِّ نَائِبًا، فَاجْتَمَعَ
أَهْلُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ،
وَالْتَفَّتْ عَلَى
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْأَجْنَادِ، وَرَاسَلَ مَنْ
وَافَقَ الْعَامَّةَ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْقُوَّادِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى
الْقِتَالِ، وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ شَيْئًا
مِنْ أَرْزَاقِهِمْ يُنْفِقُونَهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَمَا زَالَ
يَمْطُلُهُمْ إِلَى ذِي الْقَعْدَةِ حَتَّى يُدْرِكَ الزَّرْعَ، فَخَرَجَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ زَيْدُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: زَيْدُ
النَّارِ، وَقَدْ كَانَ خُرُوجُهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ بِنَاحِيَةِ الْأَنْبَارِ
فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ هِشَامٍ نَائِبُ بَغْدَادَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ وَالْحَسَنُ بِالْمَدَائِنِ إِذْ ذَاكَ فَأُخِذَ وَأُتِيَ بِهِ إِلَى
عَلِيِّ بْنِ هِشَامٍ، وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَائِرَتَهُ.
وَبَعَثَ الْمَأْمُونُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَطْلُبُ جَمَاعَةً مِنَ
الْعَبَّاسِيِّينَ، وَأَحْصَى كَمِ الْعَبَّاسِيُّونَ ؟ فَبَلَغُوا ثَلَاثَةً
وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، مَا بَيْنَ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
وَفِيهَا قَتَلَتِ الرُّومُ مَلِكَهُمْ إِلْيُونَ، وَقَدْ مَلَكَهُمْ سَبْعَ
سِنِينَ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ مِيخَائِيلَ نَائِبَهُ. وَفِيهَا قَتَلَ
الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ عَامِرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ
لِلْمَأْمُونِ: يَا أَمِيرَ الْكَافِرِينَ فَقُتِلَ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَصِمُ بْنُ هَارُونَ
الرَّشِيدِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ وَسَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، وَمُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِمْيَرَ، وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا رَاوَدَ أَهْلُ بَغْدَادَ مَنْصُورَ بْنَ الْمَهْدِيِّ عَلَى الْخِلَافَةِ
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَرَاوَدُوهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَائِبًا
لِلْمَأْمُونِ، يَدْعُو لَهُ فِي الْخُطْبَةِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ،
وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِ أَهْلِ بَغْدَادَ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ نَائِبَ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَرَتْ حُرُوبٌ
كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا عَمَّ الْبَلَاءُ بِالْعَيَّارِينَ وَالشُّطَّارِ وَالْفُسَّاقِ
بِبَغْدَادَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى، كَانُوا يَأْتُونَ الرَّجُلَ
يَسْأَلُونَهُ مَالًا يُقْرِضُهُمْ أَوْ يَصِلُهُمْ بِهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ
فَيَأْخُذُونَ جَمِيعَ مَا فِي مَنْزِلِهِ، وَرُبَّمَا تَعَرَّضُوا لِلْغِلْمَانِ
وَالنِّسْوَانِ، وَيَأْتُونَ أَهْلَ الْقَرْيَةِ فَيَسْتَاقُونَ مَا فِيهَا مِنَ
الْأَنْعَامِ، وَيَأْخُذُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الْغِلْمَانِ وَالنِّسْوَانِ
وَنَهَبُوا أَهْلَ قُطْرَبُّلَ وَلَمْ يَدَعُوا لَهُمْ شَيْئًا أَصْلًا،
فَانْتَدَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: خَالِدٌ الدَّرْيُوشُ. وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ:
سَهْلُ بْنُ سَلَامَةَ أَبُو حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ مِنْ أَهْلِ
خُرَاسَانَ
وَالْتَفَّ عَلَيْهِمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَامَّةِ، فَرَدُّوا شَرَّهُمْ
وَقَاتَلُوهُمْ، وَقَوُوا عَلَيْهِمْ، وَمَنَعُوهُمْ مِنَ الْعَيْثِ فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ كَمَا كَانَتْ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ
وَرَمَضَانَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا رَجَعَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ إِلَى
بَغْدَادَ وَصَالَحَ الْجُنْدَ، وَانْفَصَلَ مَنْصُورُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَمَنِ
الْتَفَّ مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ.
وَفِيهَا بَايَعَ الْمَأْمُونُ لَعَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ
جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ،
وَسَمَّاهُ الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَطَرَحَ لُبْسَ السَّوَادِ وَلَبِسَ الْخُضْرَةِ، وَأَلْزَمَ جُنْدَهُ بِذَلِكَ،
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ. وَكَانَتْ مُبَايَعَتُهُ لَهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُونَ رَأَى أَنَّ عَلِيًّا الرِّضَا
خَيْرُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَيْسَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ مِثْلُهُ فِي عِلْمِهِ
وَدِينِهِ، فَجَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ
أَهْلِ بَغْدَادَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
لَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى بَغْدَادَ أَنَّ الْمَأْمُونَ بَايَعَ لِعَلِيِّ
بْنِ مُوسَى بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛
فَمِنْ مُجِيبٍ مُبَايِعٍ، وَمِنْ آبٍ مَانِعٍ، وَجُمْهُورُ الْعَبَّاسِيِّينَ
عَلَى الِامْتِنَاعِ، وَكَانَ الْبَاعِثَ لَهُمْ وَالْقَائِمَ فِي ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ
وَمَنْصُورٌ ابْنَا الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ
بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَظْهَرَ الْعَبَّاسِيُّونَ الْبَيْعَةَ
لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَلَقَّبُوهُ الْمُبَارَكَ وَكَانَ أَسْوَدَ
اللَّوْنِ وَمِنْ بَعْدِهِ لِابْنِ أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ
الْمَهْدِيِّ، وَخَلَعُوا الْمَأْمُونَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ
لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَرَادُوا أَنْ يَدْعُوا
لِلْمَأْمُونِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَتِ الْعَامَّةُ: لَا
نَرْضَى إِلَّا بِإِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ وَاضْطَرَبُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَلَمْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ وَصَلَّى النَّاسُ فُرَادَى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ افْتَتَحَ نَائِبُ طَبَرَسْتَانَ جِبَالَهَا وَبِلَادَ
اللَّارِزِ وَالشَّيْزَرِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ سَلْمًا الْخَاسِرَ قَالَ
فِي ذَلِكَ شِعْرًا. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ
وَغَيْرُهُ أَنَّ سَلْمًا تُوُفِّيَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ أَهْلَ خُرَاسَانَ وَالرَّيَّ وَأَصْبَهَانَ
مَجَاعَةٌ شَدِيدَةٌ، وَعَزَّ الطَّعَامُ جِدًّا. وَفِيهَا تَحَرَّكَ بَابَكُ
الْخُرَّمِيُّ وَاتَّبَعَهُ طَوَائِفُ مِنَ السِّفْلَةِ وَالْجَهَلَةِ، وَكَانَ
يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ أَمْرُهُ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، وَحَرَمِيُّ
بْنُ عُمَارَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، صَاحِبُ
أَبِي السَّرَايَا الَّذِي كَانَ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ بَعْدَ ابْنِ
طَبَاطَبَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهَا بُويِعَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بِالْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ، وَخَلْعِ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ خَامِسُ الْمُحَرَّمِ صَعِدَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ وَلُقِّبَ بِالْمُبَارَكِ، وَغَلَبَ عَلَى
الْكُوفَةِ وَأَرْضِ السَّوَادِ وَطَلَبَ مِنْهُ الْجُنْدُ أَرْزَاقَهُمْ
فَمَاطَلَهُمْ ثُمَّ أَعْطَاهُمْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَكَتَبَ
لَهُمْ بِتَعْوِيضٍ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ فَخَرَجُوا لَا يَمُرُّونَ بِشَيْءٍ
إِلَّا انْتَهَبُوهُ، وَأَخَذُوا حَاصِلَ الْفَلَّاحِ وَالسُّلْطَانِ،
وَاسْتَنَابَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ الْعَبَّاسَ بْنَ مُوسَى
الْهَادِي، وَعَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِسْحَاقَ بْنَ مُوسَى الْهَادِي.
وَفِيهَا خَرَجَ خَارِجِيٌّ يُقَالُ لَهُ مَهْدِيُّ بْنُ عُلْوَانَ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ جَيْشًا عَلَيْهِمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ بْنُ
الرَّشِيدِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْقُوَّادِ فَكَسَرَهُ وَرَدَّ كَيْدَهُ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ أَخُو أَبِي السَّرَايَا بِالْكُوفَةِ فَبَيَّضَ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ مَنْ قَاتَلَهُ، فَقُتِلَ
أَخُو أَبِي السَّرَايَا وَأُرْسِلَ بِرَأْسِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ. وَلَمَّا
كَانَ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
ظَهَرَتْ فِي السَّمَاءِ حُمْرَةٌ،
ثُمَّ ذَهَبَتْ
وَبَقِيَ بَعْدَهَا عَمُودَانِ أَحْمَرَانِ فِي السَّمَاءِ إِلَى آخِرِ اللَّيْلِ.
وَجَرَتْ بِالْكُوفَةِ حُرُوبٌ بَيْنَ أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ
الْمَأْمُونِ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَعَلَى أَصْحَابِ إِبْرَاهِيمَ
السَّوَادُ وَعَلَى أَصْحَابِ الْمَأْمُونِ الْخُضْرَةُ وَاسْتَمَرَّ الْقِتَالُ
بَيْنَهُمْ إِلَى أَوَاخِرِ رَجَبٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفِرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِسَهْلِ بْنِ
سَلَامَةَ الْمُطَّوِّعِيِّ فَسَجَنَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ
مِنَ النَّاسِ يَقُومُونَ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
الْمُنْكَرِ، وَلَكِنْ كَانُوا قَدْ جَاوَزُوا الْحَدَّ وَأَنْكَرُوا عَلَى
السُّلْطَانِ، وَدَعَوْا إِلَى الْقِيَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَصَارَ
بَابُ دَارِهِ كَأَنَّهُ بَابُ سُلْطَانٍ عَلَيْهِ السِّلَاحُ وَالرِّجَالُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُبَّهَةِ الْمُلْكِ، فَقَاتَلَهُ الْجُنْدُ فَكَسَرُوا
أَصْحَابَهُ، فَأَلْقَى السِّلَاحَ وَصَارَ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالنَّظَّارَةِ،
ثُمَّ اخْتَفَى فِي بَعْضِ الدُّرُوبِ فَأُخِذَ وَجِيءَ بِهِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ
فَسَجَنَهُ سَنَةً كَامِلَةً.
وَفِيهَا أَقْبَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ خُرَاسَانَ قَاصِدًا الْعِرَاقَ، وَذَلِكَ
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيَّ أَخْبَرَ الْمَأْمُونَ
بِمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْفِتَنِ وَالِاخْتِلَافِ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ،
وَبِأَنَّ الْهَاشِمِيِّينَ قَدْ أَنْهَوْا إِلَى النَّاسِ بِأَنَّ الْمَأْمُونَ
مَسْحُورٌ وَمَجْنُونٌ، وَأَنَّهُمْ قَدْ يَنْقِمُونَ عَلَيْكَ بِبَيْعَتِكَ
لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى، وَأَنَّ الْحَرْبَ قَائِمَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ الْمَهْدِيِّ فَاسْتَدْعَى الْمَأْمُونُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أُمَرَائِهِ،
وَأَقْرِبَائِهِ، فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أَخْبَرَهُ بِهِ عَلَيٌّ الرِّضَا
فَصَدَقُوهُ الْأَمْرَ، بَعْدَ أَخْذِهِمُ الْأَمَانَ مِنْهُ، وَقَالُوا لَهُ:
إِنَّ الْفَضْلَ بْنَ سَهْلٍ حَسَّنَ لَكَ قَتْلَ هَرْثَمَةَ، وَقَدْ كَانَ
نَاصِحًا لَكَ، فَعَاجَلَهُ فَقَتَلَهُ، وَإِنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ مَهَّدَ
لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى قَادَ لَكَ الْخِلَافَةَ بِزِمَامِهَا فَطَرَدْتَهُ إِلَى
الرَّقَّةِ فَقَعَدَ لَا عَمَلَ لَهُ وَلَا تَسْتَنْهِضُهُ فِي أَمْرٍ، وَإِنَّ
الْأَرْضَ تَفَتَّقَتْ بِالشُّرُورِ وَالْفِتَنِ مِنْ أَقْطَارِهَا. فَلَمَّا
تَحَقَّقَ ذَلِكَ الْمَأْمُونُ أَمَرَ بِالرَّحِيلِ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ فَطِنَ
الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ النَّاصِحُونَ لِلْمَأْمُونِ،
فَضَرَبَ قَوْمًا وَنَتَفَ لِحَى بَعْضِهِمْ.
وَسَارَ الْمَأْمُونُ فَلَمَّا كَانَ بِسَرْخَسَ عَدَا قَوْمٌ عَلَى الْفَضْلِ
بْنِ سَهْلٍ وَزِيرِ الْمَأْمُونِ وَهُوَ فِي الْحَمَّامِ فَقَتَلُوهُ
بِالسُّيُوفِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ
شَعْبَانَ، وَلَهُ سِتُّونَ سَنَةً. فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ فِي آثَارِهِمْ فَجِيءَ
بِهِمْ؛ وَهُمْ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَمَالِيكِ فَقَتَلَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى
أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُعَزِّيهِ فِيهِ، وَوَلَّاهُ الْوَزَارَةَ
مَكَانَهُ. وَارْتَحَلَ الْمَأْمُونُ مِنْ سَرْخَسَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ نَحْوَ
الْعِرَاقِ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بِالْمَدَائِنِ، وَفِي
مُقَابَلَتِهِ جَيْشٌ يُقَاتِلُونَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ.
وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْمَأْمُونُ بُورَانَ بِنْتَ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ،
وَزَوَّجَ عَلِيَّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا بِابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبٍ، وَزَوَّجَ
ابْنَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ بِابْنَتِهِ الْأُخْرَى
أُمِّ الْفَضْلِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ
أَخُو عَلِيٍّ الرِّضَا وَدَعَا لِأَخِيهِ بَعْدَ الْمَأْمُونِ ثُمَّ انْصَرَفَ
بَعْدَ الْحَجِّ إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ كَانَ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا حَمْدَوَيْهِ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ مَاهَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَيُّوبُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَضَمْرَةُ، وَعُمَرُ بْنُ حَبِيبٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ
سَهْلٍ الْوَزِيرُ، وَأَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَصَلَ الْمَأْمُونُ فِي سَيْرِهِ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الْعِرَاقِ إِلَى
مَدِينَةِ طُوسَ فَنَزَلَ بِهَا وَأَقَامَ عِنْدَ قَبْرِ أَبِيهِ أَيَّامًا مِنْ
شَهْرِ صَفَرٍ فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى
الرِّضَا عِنَبًا فَمَاتَ فَجْأَةً، فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ وَدَفَنَهُ
إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ الرَّشِيدِ، وَأَسِفَ عَلَيْهِ أَسَفًا كَثِيرًا فِيمَا
ظَهَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَتَبَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ يُعَزِّيهِ فِي عَلِيٍّ الرِّضَا
وَيُخْبِرُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْحُزْنِ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ إِلَى بَنِي
الْعَبَّاسِ بِبَغْدَادَ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا نَقِمْتُمْ عَلَيَّ
بِسَبَبِ تَوْلِيَتِي الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِي لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا
وَهَاهُوَ قَدْ مَاتَ فَارْجِعُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. فَأَجَابُوهُ
بِأَغْلَظِ جَوَابٍ كُتِبَ بِهِ إِلَى أَحَدٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَبَتِ السَّوْدَاءُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ حَتَّى
قُيِّدَ فِي الْحَدِيدِ وَأُودِعَ فِي بَيْتٍ، فَكَتَبَ الْأُمَرَاءُ بِذَلِكَ
إِلَى الْمَأْمُونِ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: إِنِّي وَاصِلٌ عَلَى إِثْرِ كِتَابِي
هَذَا، ثُمَّ جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلِ بَغْدَادَ
وَتَنَكَّرُوا عَلَيْهِ وَأَبْغَضُوهُ. وَظَهَرَتِ الْفِتَنُ وَالشُّطَّارُ
وَالْفُسَّاقُ بِبَغْدَادَ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ وَصَلَّوْا يَوْمَ الْجُمُعَةِ
ظُهْرًا، أَمَّهُمُ الْمُؤَذِّنُ مِنْ غَيْرِ خُطْبَةٍ؛ صَلَّوْا أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ،
وَاشْتَدَّ
الْأَمْرُ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالْمَأْمُونِ، ثُمَّ غَلَبَتِ الْمَأْمُونِيَّةُ عَلَيْهِمْ.
ذِكْرُ خَلْعِ أَهْلِ بَغْدَادَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَدُعَائِهِمْ
لِلْمَأْمُونِ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ دَعَا النَّاسُ لِلْمَأْمُونِ
وَخَلَعُوا إِبْرَاهِيمَ، وَأَقْبَلَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ فِي جَيْشٍ
مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُونِ فَحَاصَرَ بَغْدَادَ وَطَمِعَ جُنْدُهَا فِي الْعَطَاءِ،
فَطَاوَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْمَأْمُونِ. وَقَدْ قَاتَلَ عِيسَى
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ جِهَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
الْمَهْدِيِّ ثُمَّ احْتَالَ عِيسَى حَتَّى صَارَ فِي أَيْدِي الْمَأْمُونِيَّةَ
أَسِيرًا، ثُمَّ آلَ الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَفَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
فِي آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ. وَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا
وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَدْ وَصَلَ الْمَأْمُونُ فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَى
هَمَذَانَ وَجُيُوشُهُ قَدِ اسْتَعَادُوا بَغْدَادَ إِلَى طَاعَتِهِ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ الْعَلَوِيُّ،
الْمُلَقَّبُ بِالرِّضَا، كَانَ الْمَأْمُونُ قَدْ هَمَّ أَنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ
الْخِلَافَةِ فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَجَعَلَهُ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِهِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فَتُوُفِّيَّ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِطُوسَ. وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنْهُمُ الْمَأْمُونُ وَأَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ، وَأَبُو عُثْمَانَ
الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ
أَنْ يُكَلِّفَ الْعِبَادَ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَهُمْ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ
يَفْعَلُوا مَا يُرِيدُونَ. وَمِنْ شِعْرِهِ:
كُلُّنَا يَأْمَلُ مَدًّا فِي الْأَجَلْ وَالْمَنَايَا هُنَّ آفَاتُ الْأَمَلْ لَا
تَغُرَّنَكَ أَبَاطِيلُ الْمُنَى
وَالْزَمِ الْقَصْدَ وَدَعْ عَنْكَ الْعِلَلْ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلٍ
حَلَّ فِيهِ رَاكِبٌ ثُمَّ ارْتَحَلْ
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَ قُدُومُ الْمَأْمُونِ أَرْضَ الْعِرَاقِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرَّ
بِجُرْجَانَ فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا، وَكَانَ يَنْزِلُ فِي
الْمَنْزِلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّهْرَوانِ فَأَقَامَ
بِهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إِلَى طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ
وَهُوَ بِالرَّقَّةِ أَنْ يُوَافِيَهُ إِلَى النَّهْرَوانِ فَوَافَاهُ بِهَا وَتَلَقَّاهُ
رُءُوسُ أَهْلِ بَيْتِهِ وَالْقُوَّادُ، وَجُمْهُورُ الْجَيْشِ. فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرِ دَخَلَ بَغْدَادَ ارْتِفَاعَ النَّهَارِ، لِأَرْبَعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ صَفَرٍ، فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ وَجَيْشٍ
عَظِيمٍ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَقُبَابِهِمْ وَجَمِيعِ
لِبَاسِهِمُ الْخُضْرَةَ فَلَبِسَ أَهْلُ بَغْدَادَ وَبَنُو هَاشِمٍ أَجْمَعُونَ
الْخُضْرَةَ، وَنَزَلَ الْمَأْمُونُ بِالرُّصَافَةِ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى
قَصْرِهِ عَلَى دِجْلَةَ، وَجَعَلَ الْأُمَرَاءُ، وَوُجُوهُ الدَّوْلَةِ
يَتَرَدَّدُونَ إِلَى دَارِهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَقَدْ تَحَوَّلَ لِبَاسُ
الْبَغَادِدَةِ إِلَى الْخُضْرَةِ، وَجَعَلُوا يَحْرِقُونَ كُلَّ مَا يَجِدُونَهُ
مِنَ السَّوَادِ فَمَكَثُوا بِذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ اسْتَعْرَضَ
حَوَائِجَ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ فَكَانَ أَوَّلَ حَاجَةٍ سَأَلَهَا أَنْ
يَرْجِعَ إِلَى لِبَاسِ السَّوَادِ فَإِنَّهُ لِبَاسُ آبَائِهِ مِنْ دَوْلَةِ
وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ. فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ
الْآخَرُ وَهُوَ
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونُ مِنْ صَفَرٍ جَلَسَ الْمَأْمُونُ لِلنَّاسِ وَعَلَيْهِ
الْخُضْرَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِخِلْعَةٍ سَوْدَاءَ، فَأَلْبَسَهَا طَاهِرًا،
ثُمَّ أَلْبَسَ بَعْدَهُ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ السَّوَادَ فَلَبِسَ
النَّاسُ السَّوَادَ وَعَادُوا إِلَى ذَلِكَ، بَعْدَ مَا عَلِمَ مِنْهُمُ الطَّاعَةَ
وَالْمُوَافَقَةَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَأْمُونَ مَكَثَ يَلْبَسُ الْخُضْرَةَ
بَعْدَ قُدُومِهِ بَغْدَادَ سَبْعًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ عَمُّهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ
اخْتِفَائِهِ سِتَّ سِنِينَ وَشُهُورًا، قَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَنْتَ
الْخَلِيفَةُ الْأَسْوَدُ. فَأَخَذَ فِي الِاعْتِذَارِ وَالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ
قَالَ لِلْمَأْمُونِ: أَنَا الَّذِي مَنَنْتَ عَلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْعَفْوِ. وَأَنْشَدَ الْمَأْمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ:
لَيْسَ يُزْرِي السَّوَادُ بِالرَّجُلِ الشَّهْ مِ وَلَا بِالْفَتَى الْأَدِيبِ
الْأَرِيبِ إِنْ يَكُنْ لِلسَّوَادِ مِنْكَ نَصِيبُ
فَبَيَاضُ الْأَخْلَاقِ مِنْكَ نَصِيبِي
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَقَدْ نَظَمَ هَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ نَصْرُ اللَّهِ بْنُ قَلَاقِسَ الْإِسْكَنْدَرِيُّ
فَقَالَ:
رُبَّ سَوْدَاءَ وَهِيَ بَيْضَاءُ فِعْلِ حَسَدَ الْمِسْكَ عِنْدَهَا الْكَافُورُ
مِثْلُ حَبِّ الْعُيُونِ يَحْسَبُهُ النَّا سُ سَوَادًا وَإِنَّمَا هُوَ نُورُ
وَكَانَ
الْمَأْمُونُ قَدْ شَاوَرَ فِي قَتْلِ عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَزِيرُ الْأَحْوَلُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ قَتَلْتَهُ فَلَكَ نُظَرَاءُ، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنْهُ فَمَا
لَكَ نَظِيرٌ. ثُمَّ شَرَعَ الْمَأْمُونُ فِي بِنَاءِ قُصُورٍ عَلَى دِجْلَةَ
إِلَى جَانِبِ قَصْرِهِ بِهَا، وَسَكَنَتِ الْفِتَنُ وَانْزَاحَتِ الشُّرُورُ،
وَأَمَرَ بِمُقَاسَمَةِ أَهْلِ السَّوَادِ عَلَى الْخُمْسَيْنِ، وَكَانُوا
يُقَاسِمُونَ عَلَى النِّصْفِ، وَاتَّخَذَ الْقَفِيزَ الْمُلْجَمَ وَهُوَ عَشْرَةُ
مَكَاكِيَّ بِالْمَكُّوكِ الْهَارُونِيِّ، وَوَضَعَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ
خَرَاجَاتِ بِلَادٍ شَتَّى، وَرَفَقَ بِالنَّاسِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
وَوَلَّى أَخَاهُ أَبَا عِيسَى بْنَ الرَّشِيدِ الْكُوفَةَ وَوَلَّى أَخَاهُ
صَالِحًا الْبَصْرَةَ وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نِيَابَةَ
الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِيهَا
وَاقَعَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ:
أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ
وَقَدْ أَفْرَدْنَا لَهُ تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً فِي أَوَّلِ كِتَابِنَا "
" طَبَقَاتِ الشَّافِعِيِّينَ " "، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا
مُلَخَّصًا مِنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
هُوَ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ شَافِعِ بْنِ السَّائِبِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَّيٍّ،
الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبيُّ، وَالسَّائِبُ بْنُ عُبَيْدٍ أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ
وَابْنُهُ شَافِعُ بْنُ السَّائِبِ مِنْ صِغَارِ الصَّحَابَةِ، وَأُمُّهُ
أَزْدِيَّةٌ. وَقَدْ رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ خَرَجَ
مِنْ فَرْجِهَا حَتَّى انْقَضَّ بِمِصْرَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي كُلِّ بَلَدٍ مِنْهُ
شَظِيَّةٌ. وَقَدْ وُلِدَ الشَّافِعِيُّ بِغَزَّةَ، وَقِيلَ: بِعَسْقَلَانَ.
وَقِيلَ: بِالْيَمَنِ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ
صَغِيرٌ، فَحَمَلَتْهُ أُمُّهُ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ ابْنُ سَنَتَيْنِ، لِئَلَّا
يَضِيعَ نَسَبُهُ، فَنَشَأَ بِهَا، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ ابْنُ سبْعِ
سِنِينَ، وَحَفِظَ " " الْمُوَطَّأَ " " وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ،
وَأَفْتَى وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيلَ: ابْنُ ثَمَانِي عَشْرَةَ
سَنَةً. أَذِنَ لَهُ شَيْخُهُ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزَّنْجِيُّ. وَعُنِيَ
بِاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَأَقَامَ فِي هُذَيْلٍ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ،
وَقِيلَ: عِشْرِينَ سَنَةً، فَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ لُغَاتِ الْعَرَبِ
وَفَصَاحَتَهَا، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، وَقَرَأَ بِنَفْسِهِ " " الْمُوَطَّأَ
" " عَلَى مَالِكٍ مِنْ حِفْظِهِ فَأَعْجَبَتْهُ قِرَاءَتُهُ
وَهِمَّتُهُ، وَأُخِذَ عَنْهُ عِلْمُ الْحِجَازِيِّينَ بَعْدَ أَخْذِهِ، عَنْ
مُسْلِمِ
بْنِ خَالِدٍ
الزَّنْجِيِّ.
وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَسْمَاءَهُمْ مُرَتَّبِينَ عَلَى
حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ قُسْطَنْطِينَ،
عَنْ شِبْلٍ، عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
عَنْ جِبْرِيلَ، عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ الْفِقْهَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزَّنْجِيِّ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ
وَغَيْرِهِمَا، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ،
وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُمْ، كُلُّهُمْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَقَّهَ أَيْضًا عَلَى مَالِكٍ
عَنْ مَشَايِخِهِ، وَتَفَقَّهَ بِهِ جَمَاعَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ وَمَنْ
بَعْدَهُمْ إِلَى زَمَانِنَا فِي مُصَنَّفٍ مُفْرَدٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ الدُّولَابِيِّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ وَرَّاقٍ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ
أَنَّهُ وَلِيَ الْحُكْمَ بِنَجْرَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ، ثُمَّ تَعَصَّبُوا
عَلَيْهِ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى الرَّشِيدِ هَارُونَ أَنَّهُ يَرُومُ الْخِلَافَةَ،
فَحُمِلَ عَلَى بَغْلٍ فِي قَيْدٍ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَعُمُرُهُ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَاجْتَمَعَ
بِالرَّشِيدِ فَتَنَاظَرَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَحْسَنَ الْقَوْلَ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَتَبَيَّنَ لِلرَّشِيدِ
بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَأَنْزَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
عِنْدَهُ.
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَةٍ وَقِيلَ: بِسَنَتَيْنِ
وَأَكْرَمَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ، وَكَتَبَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَقْرَ بَعِيرٍ. ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُ
الرَّشِيدُ أَلْفَيْ دِينَارٍ وَقِيلَ: خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَعَادَ
الشَّافِعِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَفَرَّقَ عَامَّةَ مَا حَصَلَ لَهُ فِي أَهْلِهِ
وَذَوِي رَحِمِهِ مِنْ بَنِي عَمِّهِ، ثُمَّ عَادَ الشَّافِعِيُّ إِلَى بَغْدَادَ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ فَاجْتَمَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ هَذِهِ الْمَرَّةَ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو
ثَوْرٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ
النَّقَّالُ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّافِعِيُّ، وَالزَّعْفَرَانِيُّ
وَغَيْرُهُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ.
وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ أَيْضًا سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، ثُمَّ
انْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ؛ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا سَيَأْتِي. وَصَنَّفَ بِهَا
كِتَابَهُ " " الْأُمَّ " "، وَهُوَ مِنْ كُتُبِهِ
الْجَدِيدَةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ رِوَايَةِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ
مِصْرِيٌّ. وَقَدْ زَعَمَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا مِنَ
الْقَدِيمِ. وَهَذَا بَعِيدٌ وَعَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَى الشَّافِعِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ،
مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ
كِتَابًا فِي الْأُصُولِ فَكَتَبَ لَهُ " " الرِّسَالَةَ " "،
وَكَانَ يَدْعُو لَهُ فِي الصَّلَاةِ دَائِمًا، وَشَيْخُهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ
وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَقَالَ: هُوَ إِمَامٌ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،
وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَكَانَ يَدْعُو لَهُ أَيْضًا فِي صَلَاتِهِ.
وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ وَلَا أَعْقَلَ وَلَا أَوْرَعَ
مِنَ الشَّافِعِيِّ،
وَيَحْيَى بْنُ
أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ،
وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ وَشَرْحُ أَقْوَالِهِمْ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَدْعُو لَهُ فِي صَلَاتِهِ نَحْوًا مِنْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
أَبُو دَاوُدَ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
أَيُّوبَ، عَنْ شَرَاحِيلَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ اللَّهَ
يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ
لَهَا دِينَهَا قَالَ: فَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ
الْأُولَى، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى رَأْسِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَالَ أَبُو
دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ النَّضْرِ
بْنِ مَعْبَدٍ الْكِنْدِيِّ أَوِ الْعَبْدِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي
الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا
يَمْلَأُ الْأَرْضَ عِلْمًا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهَا عَذَابًا -
أَوْ وَبَالًا - فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالًا.
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "
" مُسْتَدْرَكِهِ " "، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا يَنْطَبِقُ هَذَا إِلَّا
عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ. حَكَاهُ
الْخَطِيبُ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ: هُوَ صَدُوقٌ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَقَالَ مَرَّةً: لَوْ كَانَ الْكَذِبُ لَهُ مُطْلَقًا لَكَانَتْ مُرُوءَتُهُ
تَمْنَعُهُ أَنْ يَكْذِبَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:
الشَّافِعِيُّ فَقِيهُ الْبَدَنِ، صَدُوقُ اللِّسَانِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ
أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ: مَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَدِيثٌ غَلِطَ فِيهِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ نَحْوَهُ.
وَقَالَ إِمَامُ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقَدْ
سُئِلَ: هَلْ سُنَّةٌ لَمْ تَبْلُغِ الشَّافِعِيَّ ؟ فَقَالَ: لَا. وَمَعْنَى
هَذَا أَنَّهَا تَارَةً تَبْلُغُهُ بِسَنَدِهَا، وَتَارَةً مُرْسَلَةً، وَتَارَةً
مُنْقَطِعَةً، كَمَا هُوَ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سُمِّيتُ بِبَغْدَادَ
نَاصِرُ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ الشَّافِعِيِّ،
وَلَا رَأَى هُوَ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَكَذَا قَالَ الزَّعْفَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابٍ جَمَعَهُ فِي فَضَائِلِ
الشَّافِعِيِّ: لِلشَّافِعِيِّ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ؛
مِنْ شَرَفِ نَسَبِهِ، وَصِحَّةِ دِينِهِ،
وَمُعْتَقَدِهِ،
وَسَخَاوَةِ نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَسَقَمِهِ
وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ، وَحِفْظِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَسِيرَةَ
الْخُلَفَاءِ، وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ، وَجَوْدَةِ الْأَصْحَابِ وَالتَّلَامِذَةِ،
مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي زُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَإِقَامَتِهِ عَلَى
السُّنَّةِ. ثُمَّ سَرَدَ أَعْيَانَ أَصْحَابِهِ مِنَ الْبَغَادِدَةِ
وَالْمِصْرِيِّينَ. وَكَذَا عَدَّ أَبُو دَاوُدَ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ فِي
الْفِقْهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، وَأَشَدِّ النَّاسِ انْتِزَاعًا لِلدَّلَائِلِ مِنْهُمَا، وَكَانَ
مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قَصْدًا وَإِخْلَاصًا، كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّ
النَّاسَ تَعَلَّمُوا هَذَا الْعِلْمَ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ شَيْءٌ مِنْهُ
أَبَدًا، فَأُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْمَدُونِي. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ
عَنْهُ: إِذَا صَحَّ عِنْدَكُمُ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُولُوا بِهِ وَدَعُوا قَوْلِي فَإِنِّي أَقُولُ بِهِ،
وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوهُ مِنِّي. وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا تُقَلِّدُونِي. وَفِي
رِوَايَةٍ: فَلَا تَلْتَفِتُوا إِلَى قَوْلِي. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاضْرِبُوا
بِقَوْلِي عُرْضَ الْحَائِطِ، فَلَا قَوْلَ لِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ
ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ
مِنْ
الْأَهْوَاءِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَالَ:
لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ مِنَ الْأَهْوَاءِ لَفَرُّوا
مِنْهُ كَمَا يَفِرُّونَ مِنَ الْأَسَدِ. وَقَالَ أَيْضًا: حُكْمِي فِي أَهْلِ
الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ
وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ
وَأَقْبَلَ عَلَى عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِأَصْحَابِ
الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ صَوَابًا.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَكَأَنَّمَا
رَأَيْتَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، حَفِظُوا لَنَا الْأَصْلَ، فَلَهُمْ عَلَيْنَا
الْفَضْلُ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ:
كُلُّ الْعُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ إِلَّا الْحَدِيثَ وَإِلَّا
الْفِقْهَ فِي الدِّينِ الْعِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا
وَمَا سِوَى ذَاكَ وَسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
وَكَانَ يَقُولُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ:
مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الرَّبِيعُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
يَمُرُّ بِآيَاتِ
الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا كَمَا جَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ
وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ، عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ. وَقَالَ ابْنُ
خُزَيْمَةَ: أَنْشَدَنِي الْمُزَنِيُّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا الشَّافِعِيُّ
لِنَفْسِهِ:
مَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ فَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى
وَالْمُسِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
وَقَالَ الرَّبِيعُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ،
ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ.
وَعَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: أَنْشَدَنِي الشَّافِعِيُّ:
قَدْ عَوِجَ النَّاسُ حَتَّى أَحْدَثُوا بِدَعًا فِي الدِّينِ بِالرَّأْيِ لَمْ
تُبْعَثْ بِهَا الرُّسُلُ
حَتَّى اسْتَخَفَّ بِحَقِّ اللَّهِ أَكْثَرُهُمْ وَفِي الَّذِي حُمِّلُوا مِنْ
حَقِّهِ شُغُلُ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ شِعْرِهِ فِي السُّنَّةِ، وَكَلَامِهِ فِيهَا، وَفِي
الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ طَرَفًا
صَالِحًا فِي
الَّذِي كَتَبْنَاهُ فِي أَوَّلِ " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ: يَوْمَ
الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ، عَنْ
أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَكَانَ أَبْيَضَ جَمِيلًا طَوِيلًا مَهِيبًا،
يُخَضِّبُ بِالْحِنَّاءِ مُخَالَفَةً لِلشِّيعَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ الْفُرَاتِ. وَأَشْهَبُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمِصْرِيُّ
الْمَالِكِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ الْكُوفِيُّ
الْحَنَفِيُّ. وَأَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ. صَاحِبُ
الْمُسْنَدِ وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ. وَأَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ.
وَأَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ عَبْدُ الْكَبِيرِ. وَعَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
عَطَاءٍ الْخَفَّافُ. وَالنَّضْرُ بْنُ
شُمَيْلٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَهِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، أَحَدُ عُلَمَاءِ التَّارِيخِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ نِيَابَةَ
بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ إِلَى أَقْصَى عَمَلِ الْمَشْرِقِ، وَرَضِيَ
عَنْهُ وَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ جِدًّا، وَذَلِكَ لِمَرَضِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ
بِالسَّوَادِ. وَوَلَّى الْمَأْمُونُ مَكَانَ طَاهِرٍ عَلَى الرَّقَّةِ
وَالْجَزِيرَةِ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ وَقَدِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ
الْحُسَيْنِ إِلَى بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ أَبُوهُ قَدِ
اسْتَخْلَفَهُ عَلَى الرَّقَّةِ وَأَمَرَهُ بِمُقَاتَلَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ
وَوَلَّى الْمَأْمُونُ عِيسَى بْنَ يَزِيدَ الْجُلُودِيَّ مُقَاتَلَةَ الزُّطِّ.
وَوَلَّى عِيسَى بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ أَذْرَبِيجَانَ
وَإِرْمِينِيَةَ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ وَمَاتَ نَائِبُ
مِصْرَ السَّرِيُّ بْنُ الْحَكَمِ بِهَا. وَنَائِبُ السَّنَدِ دَاوُدُ بْنُ
يَزِيدَ، فَوَلَّى مَكَانَهُ بِشْرَ بْنَ
دَاوُدَ، عَلَى
أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ نَائِبُ الْحَرَمَيْنِ
الشَّرِيفَيْنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السَّلُولِيُّ. وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ الدِّمَشْقِيُّ.
وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ.
وَيَعْقُوبُ الْحَضْرَمِيُّ. وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ. وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَطِيَّةَ.
وَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَسْكَرٍ، أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ.
أَصْلُهُ مِنْ وَاسِطٍ وَسَكَنَ قَرْيَةً غَرْبِيَّ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهَا:
دَارَيَّا.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَى عَنْهُ
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ وَجَمَاعَةٌ. وَأَسْنَدَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي
الرَّبِيعِ الزَّاهِدِ يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ ابْنُ عَجْلَانَ يَذْكُرُ عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا غَفَرَ اللَّهُ
ذُنُوبَهُ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ: حُكِيَ عَنْ
أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ قَالَ: اخْتَلَفْتُ إِلَى مَجْلِسِ قَاصٍّ
فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي، فَلَمَّا قُمْتُ لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِي
شَيْءٌ، فَعُدْتُ ثَانِيَةً فَأَثَّرَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِي بَعْدَ مَا قُمْتُ
وَفِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ عُدْتُ ثَالِثَةً فَبَقِيَ أَثَرُ كَلَامِهِ فِي قَلْبِي
حَتَّى رَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي، وَكَسَرْتُ آلَاتِ الْمُخَالَفَاتِ وَلَزِمْتُ
الطَّرِيقَ. فَحَكَيْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ:
عُصْفُورٌ اصْطَادَ كُرْكِيًّا. يَعْنِي بِالْعُصْفُورِ الْقَاصَّ،
وَبِالْكُرْكِيِّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ
شَيْئًا مِنَ
الْخَيْرِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنَ الْأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَهُ
مِنَ الْأَثَرِ عَمِلَ بِهِ، وَحَمِدَ اللَّهَ حِينَ وَافَقَ مَا فِي قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: رُبَّمَا يَقَعُ
فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ أَيَّامًا فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ
إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ؛ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. قَالَ: وَقَالَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ خِلَافُ هَوَى النَّفْسِ. وَقَالَ: لِكُلِّ
شَيْءٍ عَلَمٌ وَعَلَمُ الْخِذْلَانِ تَرْكُ الْبُكَاءِ. وَقَالَ: لِكُلِّ شَيْءٍ
صَدَأٌ وَصَدَأُ نُورِ الْقَلْبِ شِبَعُ الْبَطْنِ. وَقَالَ: كُلُّ مَا شَغَلَكَ
عَنِ اللَّهِ؛ مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ؛ فَهُوَ عَلَيْكَ مَشْئُومٌ.
وَقَالَ: كُنْتُ لَيْلَةً فِي الْمِحْرَابِ أَدْعُو وَيَدَايَ مَمْدُودَتَانِ
فَغَلَبَنِي الْبَرْدُ فَضَمَمْتُ إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى مَبْسُوطَةً
أَدْعُو بِهَا، وَغَلَبْتَنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: يَا أَبَا
سُلَيْمَانَ، قَدْ وَضَعْنَا فِي هَذِهِ مَا أَصَابَهَا، وَلَوْ كَانَتِ
الْأُخْرَى لَوَضَعْنَا فِيهَا. قَالَ: فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَلَّا أَدْعُوَ
إِلَّا وَيَدَايَ
خَارِجَتَانِ،
حَرًّا كَانَ أَوْ بَرْدًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: نِمْتُ لَيْلَةً عَنْ
وِرْدِي فَإِذَا أَنَا بِحَوْرَاءَ تَقُولُ لِي: تَنَامُ وَأَنَا أُرَبَّى لَكَ
فِي الْخُدُورِ مُنْذُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
إِنَّ فِي الْجَنَّةِ أَنْهَارًا عَلَى شَاطِئِهَا خِيَامٌ فِيهِنَّ الْحُورُ،
يُنْشِئُ اللَّهُ خَلْقَ إِحْدَاهُنَّ إِنْشَاءً فَإِذَا تَكَامَلَ خَلْقُهَا
ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِنَّ الْخِيَامَ، جَالِسَةً عَلَى كُرْسِيٍّ مِيلٍ
فِي مِيلٍ، قَدْ خَرَجَ عَجِيزَتُهَا مِنْ جَانِبِ الْكُرْسِيِّ، فَيَجِيءُ أَهْلُ
الْجَنَّةِ مِنْ قُصُورِهِمْ يَتَنَزَّهُونَ مَا شَاءُوا ثُمَّ يَخْلُو كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ. قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: كَيْفَ يَكُونُ
فِي الدُّنْيَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ يَفْتَضُّ الْأَبْكَارَ عَلَى شَاطِئِ
الْأَنْهَارِ فِي الْجَنَّةِ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: رُبَّمَا مَكَثْتُ خَمْسَ لَيَالٍ لَا أَقْرَأُ بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ إِلَّا بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ أَتَفَكَّرُ فِي مَعَانِيهَا، وَلَرُبَّمَا
جَاءَتِ الْآيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَطِيرُ الْعَقْلُ، فَسُبْحَانَ مَنْ
يَرُدُّهُ بَعْدُ ! وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِفْتَاحُ الدُّنْيَا
الشِّبَعُ، وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا:
يَا أَحْمَدُ،
جَوِّعْ قَلْبَكَ، وَذِلَّ قَلْبَكَ، وَعَرِّ قَلْبَكَ، وَفَقِّرْ قَلْبَكَ،
وَصَبِّرْ قَلْبَكَ، وَقَدِ انْقَضَتْ عَنْكَ أَيَّامُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: اشْتَهَى أَبُو سُلَيْمَانَ يَوْمًا رَغِيفًا حَارًّا بِمِلْحٍ،
قَالَ: فَجِئْتُهُ بِهِ، فَعَضَّ مِنْهُ عَضَّةً ثُمَّ طَرَحَهُ، وَأَقْبَلَ
يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا رَبِّ عَجَّلْتَ لِي شَهْوَتِي، لَقَدْ أَطَلْتَ جَهْدِي
وَشِقْوَتِي وَأَنَا تَائِبٌ فَاقْبَلْ تَوْبَتِي. فَلَمْ يَذُقِ الْمِلْحَ حَتَّى
لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَا رَضِيتُ عَنْ
نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ
يَضَعُونِي كَاتِّضَاعِي عِنْدَ نَفْسِي مَا أَحْسَنُوا. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ قِيمَةً لَمْ يَذُقْ حَلَاوَةَ الْخِدْمَةِ. وَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ: إِذَا تَكَلَّفَ الْمُتَعَبِّدُونَ أَنْ لَا يَتَكَلَّمُوا إِلَّا
بِالْإِعْرَابِ، ذَهَبَ الْخُشُوعُ. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ
بِاللَّهِ، ثُمَّ لَا يَخَافُ فَهُوَ
مَخْدُوعٌ. وَقَالَ:
يَنْبَغِي لِلْخَوْفِ أَنْ يَكُونَ أَغْلَبَ مِنَ الرَّجَاءِ، فَإِذَا غَلَبَ
الرَّجَاءُ عَلَى الْخَوْفِ فَسَدَ الْقَلْبُ. وَقَالَ لِي يَوْمًا: هَلْ فَوْقَ
الصَّبْرِ مَنْزِلَةٌ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. يَعْنِي الرِّضَا. قَالَ: فَصَرَخَ
صَرْخَةً غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الصَّابِرُونَ
يُوفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِالْآخَرِينَ، وَهُمُ
الَّذِينَ رَضِيَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ
لِي الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا أُنْفِقُهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ،
وَأَنِّي أَغْفُلُ عَنِ اللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ:
قَالَ زَاهِدٌ لِزَاهِدٍ: أَوْصِنِي. فَقَالَ: لَا يَرَاكَ اللَّهُ حَيْثُ نَهَاكَ
وَلَا يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. فَقَالَ: زِدْنِي. فَقَالَ: مَا عِنْدِي
زِيَادَةٌ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ أَحْسَنَ فِي نَهَارِهِ كُوفِئَ فِي لَيْلِهِ،
وَمَنْ أَحْسَنَ فِي لَيْلِهِ كُوفِئَ فِي نَهَارِهِ، وَمَنْ صَدَقَ فِي تَرْكِ
شَهْوَةٍ ذَهَبَ اللَّهُ بِهَا مِنْ قَلْبِهِ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُعَذِّبَ
قَلْبًا بِشَهْوَةٍ
تُرِكَتْ لَهُ.
وَقَالَ: إِذَا سَكَنَتِ الدُّنْيَا الْقَلْبَ تَرَحَّلَتْ مِنْهُ الْآخِرَةُ.
وَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ فِي الْقَلْبِ جَاءَتِ الدُّنْيَا تَزْحَمُهَا،
وَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ لَمْ تَزْحَمْهَا الْآخِرَةُ؛ إِنَّ
الْآخِرَةَ كَرِيمَةٌ وَالدُّنْيَا لَئِيمَةٌ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ أَبِي
سُلَيْمَانَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ لَئِنْ طَالَبْتَنِي
بِذُنُوبِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ وَلَئِنْ طَالَبْتَنِي بِبُخْلِي
لَأُطَالِبَنَّكَ بِسَخَائِكَ، وَلَئِنْ أَمَرْتَ بِي إِلَى النَّارِ
لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ أَنِّي أُحِبُّكَ. وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ
يَقُولُ: لَوْ شَكَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي الْحَقِّ مَا شَكَكْتُ فِيهِ وَحْدِي.
وَكَانَ يَقُولُ: مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِبْلِيسَ،
وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَتَعَوَّذَ مِنْهُ مَا تَعَوَّذْتُ
مِنْهُ أَبَدًا، وَلَوْ بَدَا لِي مَا لَطَمْتُ
إِلَّا صَفْحَةَ
وَجْهِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللِّصَّ لَا يَجِيءُ إِلَى خَرِبَةٍ يَنْقُبُ
حِيطَانَهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الدُّخُولِ إِلَيْهَا مِنْ أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ،
وَإِنَّمَا يَجِيءُ إِلَى بَيْتٍ مَعْمُورٍ، كَذَلِكَ إِبْلِيسُ لَا يَجِيءُ
إِلَّا إِلَى كُلِّ قَلْبٍ عَامِرٍ لِيَسْتَنْزِلَهُ عَنْ شَيْءٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: إِذَا أَخْلَصَ الْعَبْدُ انْقَطَعَ عَنْهُ كَثْرَةُ
الْوَسْوَاسِ وَالرِّيَاءِ وَالرُّؤْيَا. وَقَالَ: مَكَثْتُ عِشْرِينَ سَنَةً لَمْ
أَحْتَلِمْ، فَدَخَلْتُ مَكَّةَ فَفَاتَتْنِي صَلَاةُ الْعِشَاءِ فِي جَمَاعَةٍ
فَاحْتَلَمْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَالَ: إِنَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ قَوْمًا
لَا يَشْغَلُهُمُ الْجِنَانُ وَمَا فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ عَنْهُ، فَكَيْفَ
تَشْتَغِلُونَ بِالدُّنْيَا ؟ وَقَالَ: الدُّنْيَا عِنْدَ اللَّهِ أَقَلُّ مِنْ
جَنَاحِ بَعُوضَةٍ، فَمَا الزُّهْدُ فِيهَا ؟ وَإِنَّمَا الزُّهْدُ فِي الْجِنَانِ
وَالْحُورِ الْعِينِ، حَتَّى لَا يَرَى اللَّهُ فِي قَلْبِكَ غَيْرَهُ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: شَيْءٌ يُرْوَى عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَا
اسْتَحْسَنْتُهُ كَثِيرًا؛ قَوْلُهُ: مَنِ
اشْتَغَلَ
بِنَفْسِهِ شُغِلَ عَنِ النَّاسِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِرَبِّهِ شُغِلَ عَنْ
نَفْسِهِ وَعَنِ النَّاسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
خَيْرُ السَّخَاءِ مَا وَافَقَ الْحَاجَةَ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: مَنْ
طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا وَاسْتِعْفَافًا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِغْنَاءً
عَنِ النَّاسِ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا، مُفَاخِرًا وَمُكَاثِرًا لَقِيَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ يَلْقَاهُ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَقَدْ رُوِيَ
نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْغِنَى فَحَسِبُوا أَنَّهُ
فِي جَمْعِ الْمَالِ، أَلَا وَإِنَّمَا الْغِنَى فِي الْقَنَاعَةِ، وَطَلَبُوا
الرَّاحَةَ فِي الْكَثْرَةِ، وَإِنَّمَا الرَّاحَةُ فِي الْقِلَّةِ، وَطَلَبُوا
الْكَرَامَةَ مِنَ الْخَلْقِ، أَلَا وَهِيَ فِي التَّقْوَى، وَطَلَبُوا
النِّعْمَةَ فِي اللِّبَاسِ الرَّقِيقِ اللَّيِّنِ، وَفِي طَعَامٍ طَيِّبٍ،
وَالنِّعْمَةُ فِي
الْإِسْلَامِ
وَالسَّتْرِ وَالْعَافِيَةِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوْلَا قِيَامُ اللَّيْلِ مَا
أَحْبَبْتُ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا، وَمَا أُحِبُّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا
لِتَشْقِيقِ الْأَنْهَارِ وَلَا لِغَرْسِ الْأَشْجَارِ.
وَقَالَ: أَهْلُ الطَّاعَةِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي
لَهْوِهِمْ. وَقَالَ: رُبَّمَا اسْتَقْبَلَنِي الْفَرَحُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ،
وَرُبَّمَا رَأَيْتُ الْقَلْبَ يَضْحَكُ ضَحِكًا.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ يَقُولُ:
بَيْنَا أَنَا سَاجِدٌ، إِذْ ذَهَبَ بِيَ النَّوْمُ، فَإِذَا أَنَا بِهَا -
يَعْنِي الْحَوْرَاءَ - قَدْ رَكَضَتْنِي بِرِجْلِهَا، فَقَالَتْ: حَبِيبِي، أَتَرْقُدُ
عَيْنَاكَ وَالْمَلِكُ يَقْظَانُ يَنْظُرُ إِلَى الْمُتَهَجِّدِينَ فِي
تَهَجُّدِهِمْ ؟
بُؤْسًا لَعِينٍ آثَرَتْ لَذَّةَ نَوْمَةٍ عَلَى لَذَّةِ مُنَاجَاةِ الْعَزِيزِ،
قُمْ فَقَدْ دَنَا الْفَرَاغُ وَلَقِيَ الْمُحِبُّونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَمَا
هَذَا الرُّقَادُ ؟ حَبِيبِي وَقُرَّةَ عَيْنِي، أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ وَأَنَا
أُرَبَّى لَكَ فِي الْخُدُورِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا ؟ فَوَثَبْتُ فَزِعًا وَقَدْ
عَرِقْتُ اسْتِحْيَاءً مِنْ تَوْبِيخِهَا إِيَّايَ، وَإِنَّ حَلَاوَةَ مَنْطِقِهَا
لَفِي سَمْعِي وَقَلْبِي.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ
فَإِذَا هُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: زُجِرْتُ الْبَارِحَةَ فِي
مَنَامِي. قُلْتُ: مَا الَّذِي حَلَّ بِكَ ؟ قَالَ: بَيْنَا أَنَا قَدْ غَفَوْتُ
فِي مِحْرَابِي إِذْ وَقَفَتْ عَلَيَّ جَارِيَةٌ تَفُوقُ الدُّنْيَا حُسْنًا،
وَبِيَدِهَا وَرَقَةٌ وَهِيَ تَقُولُ: أَتَنَامُ يَا شَيْخُ ؟ فَقُلْتُ: مَنْ
غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ نَامَ. فَقَالَتْ: كَلَّا إِنَّ طَالِبَ الْجَنَّةِ لَا
يَنَامُ. ثُمَّ قَالَتْ: أَتَقْرَأُ ؟ فَأَخَذْتُ الْوَرَقَةَ مِنْ يَدِهَا،
فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
لَهَتْ بِكَ لَذَّةٌ عَنْ حُسْنِ عَيْشٍ مَعَ الْخَيْرَاتِ فِي غُرَفِ الْجِنَانِ
تَعِيشُ مُخَلَّدًا لَا مَوْتَ فِيهَا
وَتَنْعَمُ فِي الْجِنَانِ مَعَ الْحِسَانِ تَيَقَّظْ مِنْ مَنَامِكَ إِنَّ
خَيْرًا
مِنَ النَّوْمِ التَّهَجُّدُ بِالْقُرَانِ
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: أَمَا يَسْتَحِي أَحَدُهُمْ أَنْ يَلْبَسَ عَبَاءَةً بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَفِي قَلْبِهِ شَهْوَةٌ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ؟ وَقَالَ أَيْضًا: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ وَالشَّهَوَاتُ فِي قَلْبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، جَازَ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ بِلُبْسِ الْعَبَاءِ، فَإِنَّهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ الزُّهَّادِ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ لِيَسْتُرَ بِهِمَا أَبْصَارَ النَّاسِ عَنْهُ كَانَ أَسْلَمَ لِزُهْدِهِ. وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا: إِذَا رَأَيْتَ الصُّوفِيَّ يَتَنَوَّقُ فِي لُبْسِ الصُّوفِ، فَلَيْسَ بِصُوفِيٍّ، وَخِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَصْحَابُ الْقُطْنِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: إِنَّمَا الْأَخُ الَّذِي يَعِظُكَ بِرُؤْيَتِهِ قَبْلَ كَلَامِهِ، وَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْأَخِ مِنْ أَصْحَابِي بِالْعِرَاقِ فَأَنْتَفِعُ بِرُؤْيَتِهِ شَهْرًا. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " عَبْدِي، إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ، وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ، وَمَحَوْتُ زَلَّاتِكَ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ، وَلَا أُنَاقِشُكَ فِي الْحِسَابِ
يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ".
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَأَلْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ عَنِ
الصَّبْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الَّذِي
تُحِبُّ، فَكَيْفَ فِيمَا تَكْرَهُ ؟ قَالَ أَحْمَدُ: تَنَهَّدْتُ عِنْدَهُ
يَوْمًا، فَقَالَ: إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنْ كَانَتْ
عَلَى ذَنْبٍ سَلَفَ فَطُوبَى لَكَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الدُّنْيَا فَوَيْلٌ
لَكَ. وَقَالَ: إِنَّمَا رَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ قَبْلَ الْوُصُولِ، وَلَوْ
وَصَلُوا إِلَى اللَّهِ مَا رَجَعُوا. وَقَالَ: إِنَّمَا عَصَى اللَّهَ مَنْ
عَصَاهُ لِهَوَانِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَرُمُوا عَلَيْهِ لَحَجَزَهُمْ عَنْ
مَعَاصِيهِ. وَقَالَ: جُلَسَاءُ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ جَعَلَ
فِيهِمْ خِصَالًا: الْكَرَمَ وَالْحِلْمَ، وَالْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ،
وَالرِّقَّةَ، وَالرَّحْمَةَ، وَالْفَضْلَ، وَالصَّفْحَ، وَالْإِحْسَانَ
وَالْبِرَّ، وَالْعَفْوَ وَاللُّطْفَ.
وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ " " مِحَنِ
الْمَشَايِخِ " "، أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ أُخْرِجَ
مِنْ دِمَشْقَ وَقَالُوا: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَرَى الْمَلَائِكَةَ
وَيُكَلِّمُونَهُ.
فَخَرَجَ إِلَى بَعْضِ الثُّغُورِ فَرَأَى بَعْضُ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ إِنْ
لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِمْ هَلَكُوا، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ وَتَشَفَّعُوا
إِلَيْهِ، حَتَّى رَدُّوهُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ؛ فَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسَ
عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ: سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ قَالَ مَرْوَانُ الطَّاطَرِيُّ يَوْمَ مَاتَ أَبُو
سُلَيْمَانَ: لَقَدْ أُصِيبَ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ كُلُّهِمْ.
قُلْتُ: وَقَدْ دُفِنَ فِي قَرْيَةِ دَارَيَّا، وَقَبْرُهُ بِهَا مَشْهُورٌ
وَعَلَيْهِ بِنَاءٌ، وَقِبْلَتُهُ مَسْجِدٌ بَنَاهُ الْأَمِيرُ نَاهِضُ الدِّينِ
عُمَرُ الْمِهْرَانِيُّ، وَوَقَفَ عَلَى الْمُقِيمِينَ عِنْدَهُ وَقْفًا يَدْخُلُ
عَلَيْهِمْ مِنْهُ غَلَّةٌ، وَقَدْ جَدَّدَ مَزَارَهُ فِي زَمَانِنَا هَذَا،
وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ تَعَرَّضَ لِمَوْضِعِ دَفْنِهِ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْهُ. وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَشْتَهِي أَنْ أَرَى أَبَا سُلَيْمَانَ
فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ سَنَةٍ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ
يَا مُعَلِّمُ ؟ فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، دَخَلْتُ يَوْمًا مِنْ بَابِ الصَّغِيرِ
فَرَأَيْتُ حِمْلَ شِيحٍ، فَأَخَذْتُ مِنْهُ عُودًا، فَمَا أَدْرِي تَخَلَّلْتُ
بِهِ أَوْ رَمَيْتُهُ، فَأَنَا فِي
حِسَابِهِ إِلَى
الْآنِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ بَعْدَهُ بِنَحْوٍ مِنْ سَنَتَيْنِ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سِتٍّ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ دَاوُدَ بْنَ مَاسَجُورَ بِلَادَ الْبَصْرَةِ وَكُورَ
دِجْلَةَ وَالْيَمَامَةَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ الزُّطِّ.
وَفِيهَا جَاءَ مَدٌّ كَثِيرٌ فَغَرَّقَ بِلَادَ أَرْضِ السَّوَادِ وَأَهْلَكَ
لِلنَّاسِ شَيْئًا كَثِيرًا. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ الرَّقَّةَ وَأَمَرَهُ بِمُحَارَبَةِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ
وَذَلِكَ أَنَّ نَائِبَهَا يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ مَاتَ، وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ
مَكَانَهُ ابْنَهُ أَحْمَدَ، فَلَمْ يُمْضِ ذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَاسْتَنَابَ
عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ؛ لِشَهَامَتِهِ وَبَصَرِهِ بِالْأُمُورِ،
وَحَثِّهِ عَلَى قِتَالِ نَصْرِ بْنِ شَبَثٍ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ مِنْ
خُرَاسَانَ بِكِتَابٍ فِيهِ الْأَمْرُ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
بِطُولِهِ وَقَدْ تَدَاوَلَهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ وَاسْتَحْسَنُوهُ وَتُهَادَوْهُ
بَيْنَهُمْ حَتَّى بَلَغَ أَمْرُهُ إِلَى الْمَأْمُونِ فَأَمَرَ فَقُرِئَ
بَيْنَ يَدَيْهِ
فَاسْتَجَادَهُ جِدًّا، وَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ نُسَخٌ إِلَى سَائِرِ
الْعُمَّالِ فِي الْأَقَالِيمِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ نَائِبُ
الْحَرَمَيْنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ الْكَاهِلِيُّ أَبُو حُذَيْفَةَ، صَاحِبُ كِتَابِ "
" الْمُبْتَدَأِ " ". وَحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَعْوَرُ.
وَدَاوُدُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ " " الْعَقْلِ
" ". وَشَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ. وَمُحَاضِرُ بْنُ الْمُوَرِّعِ.
وَقُطْرُبٌ صَاحِبُ " " الْمُثَلَّثِ فِي اللُّغَةِ " ". وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ. وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبِلَادِ عَكٍّ فِي
الْيَمَنِ، يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْعُمَّالَ بِالْيَمَنِ أَسَاءُوا السِّيرَةَ إِلَى الرَّعَايَا، فَلَمَّا ظَهَرَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا بَايَعَهُ النَّاسُ، فَلَمَّا بَلَغَ أَمْرُهُ إِلَى
الْمَأْمُونِ بَعَثَ إِلَيْهِ دِينَارَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ
وَمَعَهُ كِتَابُ أَمَانٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ هَذَا، إِنْ هُوَ سَمِعَ
وَأَطَاعَ، فَحَضَرُوا الْمَوْسِمَ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى الْيَمَنِ، فَلَمَّا
انْتَهَوْا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بَعَثَ دِينَارٌ بِكِتَابِ الْأَمَانِ
فَقَبِلَهُ وَسَمِعَ وَأَطَاعَ، وَجَاءَ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ دِينَارٍ،
فَسَارَ مَعَهُ إِلَى بَغْدَادَ وَلَبِسَ السَّوَادَ فِيهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ؛ نَائِبُ الْعِرَاقِ
بِكَمَالِهَا،
وَخُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا، وُجِدَ فِي فِرَاشِهِ مَيِّتًا بَعْدَ مَا صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ وَالْتَفَّ فِي الْفِرَاشِ، فَاسْتَبْطَأَ أَهْلُهُ خُرُوجَهُ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَخُوهُ وَعَمُّهُ فَوَجَدَاهُ مَيِّتًا، فَلَمَّا بَلَغَ مَوْتُهُ الْمَأْمُونَ قَالَ: لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَدَّمَهُ وَأَخَّرَنَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمًا وَلَمْ يَدْعُ لَهُ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، وَمَعَ هَذَا وَلَّى وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ مَكَانَهُ، مَعَ إِضَافَةِ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ إِلَى نِيَابَتِهِ، فَاسْتَخْلَفَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى خُرَاسَانَ أَخَاهُ طَلْحَةَ بْنَ طَاهِرٍ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ تُوُفِّيَ طَلْحَةُ فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ اللَّهِ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ نَائِبُ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى بَغْدَادَ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ. وَقَدْ كَانَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هُوَ الَّذِي انْتَزَعَ بَغْدَادَ وَأَرْضَ الْعِرَاقِ بِكَمَالِهَا مِنْ يَدِ الْأَمِينِ بْنِ الرَّشِيدِ وَقَتَلَهُ أَيْضًا وَاسْتَوْسَقَ الْأَمْرُ لِلْمَأْمُونِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقَدْ دَخَلَ طَاهِرٌ هَذَا يَوْمًا عَلَى الْمَأْمُونِ فَسَأَلَهُ حَاجَةً فَقَضَاهَا لَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ طَاهِرٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَلَمْ يُخْبِرْهُ، فَأَعْطَى طَاهِرٌ حُسَيْنًا الْخَادِمَ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَتَّى اسْتَعْلَمَ لَهُ مَا كَانَ خَبَرُ بُكَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا، أَقْتُلُكَ، ذَكَرْتُ مَقْتَلَ أَخِي، وَمَا نَالَهُ مِنَ الْإِهَانَةِ عَلَى يَدَيْ
طَاهِرٍ،
وَوَاللَّهِ لَا تَفُوتُهُ مِنِّي. فَلَمَّا تَحَقَّقَ طَاهِرٌ ذَلِكَ سَعَى فِي
النُّقْلَةِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى وَلَّاهُ خُرَاسَانَ
وَأَطْلَقَ لَهُ خَادِمًا مِنْ خُدَّامِهِ، وَعَهِدَ إِلَى الْخَادِمِ إِنْ رَأَى
مِنْهُ مَا يُرِيبُهُ أَنْ يَسُمَّهُ، فَلَمَّا خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
طَاهِرٌ، وَلَمْ يَدْعُ لِلْمَأْمُونِ، سَمَّهُ الْخَادِمُ فِي كَامَخٍ، فَمَاتَ
مِنْ لَيْلَتِهِ.
وَقَدْ كَانَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هَذَا يُقَالُ لَهُ: ذُو الْيَمِينَيْنِ.
وَكَانَ بِفَرْدِ عَيْنٍ، فَقَالَ فِيهِ عَمْرُو بْنُ بَانَةَ:
يَا ذَا الْيَمِينَيْنِ وَعَيْنٍ وَاحِدَهْ نُقْصَانُ عَيْنٍ وَيَمِينٌ زَائِدَهْ
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ ذَا الْيَمِينَيْنِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ ضَرَبَ
رَجُلًا بِشِمَالِهِ فَقَدَّهُ نِصْفَيْنِ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لُقِّبَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَخُرَاسَانَ.
وَقَدْ كَانَ كَرِيمًا مُمَدَّحًا يُحِبُّ الشِّعْرَ وَيَجْزِي عَلَيْهِ
الْجَزِيلَ. رَكِبَ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ فَقَالَ فِيهِ شَاعِرٌ:
عَجِبْتُ
لِحَرَّاقَةِ ابْنِ الْحُسَيْ نِ لَا غَرِقَتْ كَيْفَ لَا تَغْرَقُ
وَبَحْرَانِ مِنْ فَوْقِهَا وَاحِدٌ وَآخَرُ مِنْ تَحْتِهَا مُطْبِقُ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَاكَ أَعْوَادُهُا وَقَدْ مَسَّهَا كَيْفَ لَا تُورِقُ
فَأَجَازَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَقَالَ: إِنْ زِدْتَنَا زِدْنَاكَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي بَعْضِ
الرُّؤَسَاءِ وَقَدْ رَكِبَ الْبَحْرَ:
وَلَمَّا امْتَطَى الْبَحْرَ ابْتَهَلْتُ تَضَرُّعًا إِلَى اللَّهِ يَا مُجْرِيَ
الرِّيَاحِ بِلُطْفِهِ
جَعَلْتَ النَّدَى مِنْ كَفِّهِ مِثْلَ مَوْجِهِ فَسَلِّمْهُ وَاجْعَلْ مَوْجَهُ
مِثْلَ كَفِّهِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: مَاتَ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ هَذَا يَوْمَ
السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ
وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ. وَكَانَ
الَّذِي سَارَ إِلَى وَلَدِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَهُوَ بِأَرْضِ
الرَّقَّةِ يُعَزِّيهِ فِي أَبِيهِ وَيُهَنِّيهِ بِوِلَايَةِ تِلْكَ الْبِلَادِ،
الْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ عَنْ أَمْرِ الْمَأْمُونِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَا السِّعْرُ بِبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، حَتَّى
بَلَغَ سِعْرُ الْقَفِيزِ مِنَ
الْحِنْطَةِ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الرَّشِيدِ، أَخُو
الْمَأْمُونِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، وَعَبْدُ الصَّمَدِ
بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَقُرَادٌ أَبُو نُوحٍ، وَكَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ كُنَاسَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، قَاضِي
بَغْدَادَ وَصَاحِبُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي، وَأَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ
الْقَاسِمِ، وَالْهَيْثَمُ بْنُ
عَدِيٍّ، صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ.
وَيَحْيَى بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْظُورٍ أَبُو زَكَرِيَّا،
الْكُوفِيُّ، نَزِيلُ بَغْدَادَ مَوْلَى بَنِي سَعْدٍ، الْمَشْهُورُ
بِالْفَرَّاءِ، شَيْخُ النُّحَاةِ وَاللُّغَوِيِّينَ وَالْقُرَّاءِ، وَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّحْوِ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ
خَازِمِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الْفَاتِحَةِ: 4 ]
بِالْأَلِفِ. رَوَاهُ الْخَطِيبُ، قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً إِمَامًا.
وَذُكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ أَمَرَهُ بِوَضْعِ كِتَابٍ فِي النَّحْوِ
فَأَمْلَاهُ، وَكَتَبَهُ النَّاسُ عَنْهُ، وَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِكَتْبِهِ فِي
الْخَزَائِنِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَيْهِ وَلِيَّيِ الْعَهْدِ، فَقَامَ
يَوْمًا، فَابْتَدَرَاهُ أَيُّهُمَا يُقَدِّمُ نَعْلَيْهِ، فَتَنَازَعَا فِي
ذَلِكَ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَعْلًا، فَأَطْلَقَ
لَهُمَا أَبُوهُمَا عِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلِلْفَرَّاءِ عَشَرَةُ آلَافِ
دِرْهَمٍ، وَقَالَ لَهُ: لَا أَعَزَّ مِنْكَ إِذْ يُقَدِّمُ نَعْلَيْكَ وَلِيَّا
الْعَهْدِ.
وَرُوِيَ أَنَّ
بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ أَوْ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ سَأَلَ الْفَرَّاءَ عَنْ
رَجُلٍ سَهَا فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، فَقَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ:
وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الْمُصَغَّرُ لَا يُصَغَّرُ.
فَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ امْرَأَةً تَلِدُ مِثْلَكَ.
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ
ابْنَ خَالَةِ الْفَرَّاءِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ: تُوُفِّيَ الْفَرَّاءُ
سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ. وَقِيلَ: بِطَرِيقِ مَكَّةَ.
وَقَدِ امْتَدَحُوهُ وَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فِي مُصَنَّفَاتِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ذَهَبَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ أَخُو طَاهِرٍ فَارًّا
مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى كَرْمَانَ فَعَصَى بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي خَالِدٍ فَحَاصَرَهُ حَتَّى نَزَلَ قَهْرًا، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى
الْمَأْمُونِ فَعَفَا عَنْهُ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَفِيهَا اسْتَعْفَى مُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ مِنَ الْقَضَاءِ، فَأَعْفَاهُ
الْمَأْمُونُ وَوَلَّى مَكَانَهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
حَنِيفَةَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَخْزُومِيَّ الْقَضَاءَ بِعَسْكَرِ الْمَهْدِيِّ فِي شَهْرِ الْمُحَرَّمِ،
ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ قَرِيبٍ وَوَلَّى مَكَانَهُ بِشْرَ بْنَ الْوَلِيدِ
الْكِنْدِيَّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا. فَقَالَ الْمَخْزُومِيُّ فِي
ذَلِكَ:
يَا أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُوَحِّدُ رَبَّهُ قَاضِيكَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ
حِمَارُ يَنْفِي شَهَادَةَ مَنْ يَدِينُ بِمَا بِهِ
نَطَقَ الْكِتَابُ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ وَيَعُدُّ عَدْلًا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ
شَيْخٌ يُحِيطُ بِجِسْمِهِ الْأَقْطَارُ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ
الْمَأْمُونِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ.
وَسَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ.
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ.
وَالْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَاجِبُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ.
وَمُوسَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ.
الَّذِي كَانَ قَدْ وَلَّاهُ الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَقَّبَهُ بِالنَّاطِقِ
بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ أَمْرُهُ حَتَّى قُتِلَ أَبُوهُ وَكَانَ مَا
كَانَ.
وَيَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ.
وَيَحْيَى بْنُ حَسَّانَ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الزُّهْرِيُّ.
وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَدِّبُ.
وَفَاةُ السَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ
وَهِيَ نَفِيسَةُ بِنْتُ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيَّةُ الْهَاشِمِيَّةُ كَانَ أَبُوهَا
نَائِبًا لِلْمَنْصُورِ عَلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ خَمْسَ سِنِينَ، ثُمَّ
غَضِبَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فَعَزَلَهُ عَنْهَا، وَأَخَذَ مِنْهُ
كُلَّ مَا كَانَ جَمَعَهُ مِنْهَا، وَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ
يَزَلْ بِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ الْمَنْصُورُ، فَأَطْلَقَهُ الْمَهْدِيُّ وَأَطْلَقَ
لَهُ كُلَّ مَا كَانَ أُخِذَ مِنْهُ، وَخَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالْحَاجِرِ تُوُفِّيَ الْحَسَنُ
بْنُ زَيْدٍ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَدْ رَوَى لَهُ النَّسَائِيُّ
حَدِيثَهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَاحْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ
مَعِينٍ وَابْنُ عَدِيٍّ، وَوَثَّقَهُ
ابْنُ حِبَّانَ،
وَذَكَرَهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي رِيَاسَتِهِ
وَشَهَامَتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ ابْنَتَهُ نَفِيسَةَ دَخَلَتِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ
مَعَ زَوْجِهَا الْمُؤْتَمَنِ، إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، فَأَقَامَتْ
بِهَا، وَكَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَإِحْسَانٍ إِلَى النَّاسِ وَالْجَذْمَى
وَالزَّمْنَى وَالْمَرْضَى وَعُمُومِ النَّاسِ، وَكَانَتْ عَابِدَةً زَاهِدَةً
كَثِيرَةَ الْخَيْرِ، وَلَمَّا وَرَدَ الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَحْسَنَتْ إِلَيْهِ،
وَكَانَ رُبَّمَا صَلَّى بِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِينَ مَاتَ أَمَرَتْ
بِجِنَازَتِهِ فَأُدْخِلَتْ إِلَيْهَا الْمَنْزِلَ فَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَلَمَّا
تُوُفِّيَتْ عَزَمَ زَوْجُهَا إِسْحَاقُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَمَنَعَهُ أَهْلُ مِصْرَ مِنْ ذَلِكَ، وَسَأَلُوهُ
أَنْ يَتْرُكَهَا عِنْدَهُمْ، فَدُفِنَتْ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَتْ
تَسْكُنُهُ بِمَحِلَّةٍ كَانَتْ تُعْرَفُ قَدِيمًا بِدَرْبِ السِّبَاعِ بَيْنَ
مِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ الْيَوْمَ، وَقَدْ بَادَتْ تِلْكَ الْمَحِلَّةُ فَلَمْ
يَبْقَ سِوَى قَبْرِهَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي "
" وَفِيَّاتِ الْأَعْيَانِ " "، قَالَ: وَلِأَهْلِ مِصْرَ فِيهَا
اعْتِقَادٌ. قُلْتُ: وَإِلَى الْآنِ، وَقَدْ بَالَغَ الْعَامَّةُ فِي أَمْرِهَا
كَثِيرًا جِدًّا، وَيُطْلِقُونَ فِيهَا عِبَارَاتٍ بَشِعَةً فِيهَا مُجَازَفَةٌ
تُؤَدِّي إِلَى الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَأَلْفَاظًا كَثِيرَةً يَنْبَغِي أَنْ
يَعْرِفُوا بِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِطْلَاقُهَا فِي مِثْلِ أَمْرِهَا، وَرُبَّمَا
نَسَبَهَا
بَعْضُهُمْ إِلَى زَيْنِ الْعَابِدِينَ، وَلَيْسَتْ مِنْ سُلَالَتِهِ، وَالَّذِي
يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ مَا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهَا
مِنَ النِّسَاءِ الصَّالِحَاتِ، وَأَصْلُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ مِنَ
الْمُغَالَاةِ فِي الْقُبُورِ وَأَصْحَابِهِا، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَسْوِيَةِ الْقُبُورِ وَطَمْسِهَا. وَالْمُغَالَاةُ
فِي الْبَشَرِ حَرَامٌ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا تَفُكُّ مِنَ الْخَشَبِ، أَوْ
أَنَّهَا تَنْفَعُ أَوْ تَضُرُّ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ.
رَحِمَهَا اللَّهُ وَأَكْرَمَهَا وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَنْزِلَهَا.
الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي فَرْوَةَ كَيْسَانَ.
مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الَّذِي كَانَ زَوَالُ دَوْلَةِ الْبَرَامِكَةِ
عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ وَزَرَ مَرَّةً لِلرَّشِيدِ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا
مِنَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّشَبُّهِ بِالْبَرَامِكَةِ، وَكَانُوا
يَسْتَهِينُونَ بِهِ فَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ جُهْدَهُ فِيهِمْ حَتَّى هَلَكُوا
كَمَا تَقَدَّمَ. وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ الْفَضْلَ هَذَا
دَخَلَ يَوْمًا عَلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، وَابْنُهُ جَعْفَرٌ، يُوَقِّعُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَمَعَ الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ عَشْرُ قِصَصٍ، فَلَمْ يَقْضِ لَهُ
مِنْهَا وَاحِدَةً بَلْ يَتَعَلَّلُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا،
فَجَمَعَهُنَّ الْفَضْلُ بْنُ الرَّبِيعِ وَقَالَ: ارْجِعْنَ خَائِبَاتٍ
خَاسِئَاتٍ. ثُمَّ نَهَضَ وَهُوَ يَقُولُ:
عَسَى وَعَسَى يَثْنِي الزَّمَانُ عِنَانَهُ بِتَصْرِيفِ حَالٍ وَالزَّمَانُ
عَثُورُ فَتُقْضَى لُبَانَاتٌ وَتُشْفَى حَسَائِفُ
وَتَحْدُثُ مِنْ بَعْدِ الْأُمُورِ أُمُورُ
فَسَمِعَهُ
الْوَزِيرُ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا
رَجَعْتَ. فَأَخَذَ مِنْ يَدِهِ الْقِصَصَ فَوَقَّعَ عَلَيْهَا. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ
يَحْفِرُ خَلْفَهُمْ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، وَتَوَلَّى الْوَزَارَةَ
بَعْدَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو نُوَاسٍ:
مَا رَعَى الدَّهْرُ آلَ بَرْمَكَ لَمَّا أَنْ رَمَى مُلْكَهُمْ بِأَمْرٍ فَظِيعِ
إِنَّ دَهْرَاً لَمْ يَرْعَ عَهْدًا لِيَحْيَى غَيْرُ رَاعٍ ذِمَامَ آلِ
الرَّبِيعِ
ثُمَّ وَزَرَ مِنْ بَعْدِ الرَّشِيدِ لِابْنِهِ الْأَمِينِ، فَلَمَّا دَخَلَ
الْمَأْمُونُ بَغْدَادَ اخْتَفَى، فَأَرْسَلَ لَهُ الْمَأْمُونُ أَمَانًا
فَخَرَجَ، وَلَمْ يَزَلْ خَامِلًا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
ثَمَانٍ وَسِتُّونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ تِسْعٍ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا حَصَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ نَصْرَ بْنَ شَبَثٍ بَعْدَ مَا
حَارَبَهُ خَمْسَ سِنِينَ، فَلَمَّا حَصَرَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَضَيَّقَ
عَلَيْهِ جِدًّا حَتَّى أَلْجَأَهُ إِلَى أَنْ طَلَبَ مِنْهُ الْأَمَانَ، فَكَتَبَ
ابْنُ طَاهِرٍ إِلَى الْمَأْمُونِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْمَأْمُونُ يَأْمُرُهُ بِكِتَابَةِ أَمَانٍ لِنَصْرِ بْنِ شَبَثٍ عَنْ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَكَتَبَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ كِتَابَ أَمَانٍ،
فَنَزَلَ فَأَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ بِتَخْرِيبِ الْمَدِينَةِ الَّتِي كَانَ
مُتَحَصِّنًا بِهَا، وَذَهَبَ شَرُّهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ مَعَ بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ فَأَسَرَ بَابَكُ بَعْضَ
أُمَرَاءِ الْإِسْلَامِ وَأَحَدَ مُقَدَّمِي الْعَسَاكِرِ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَلِكُ الرُّومِ مِيخَائِيلُ بْنُ جُورْجِسَ، وَكَانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ تِسْعَ سِنِينَ، فَمَلَّكُوا عَلَيْهِمُ ابْنَهُ تَوْفِيلَ بْنَ
مِيخَائِيلَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ:
الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْأَشْيَبُ، وَأَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، وَحَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَاضِي نَيْسَابُورَ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ وَيَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا دَخَلَ نَصْرُ بْنُ شَبَثٍ إِلَى بَغْدَادَ حِينَ بَعَثَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ مِنَ الرَّقَّةِ فَدَخَلَهَا وَلَمْ يَتَلَقَّهُ
أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ بَلْ دَخَلَهَا وَحْدَهُ فَأُنْزِلَ فِي مَدِينَةِ أَبِي
جَعْفَرٍ، ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، وَفِي هَذَا الشَّهْرِ ظَفِرَ
الْمَأْمُونُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ كُبَرَاءِ مَنْ كَانَ بَايَعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْمَهْدِيِّ فَعَاقَبَهُمْ وَحَبَسَهُمْ فِي الْمُطْبِقِ.
ظُهُورُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ بَعْدَ اخْتِفَائِهِ
وَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْأَحَدِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا اجْتَازَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ وَكَانَ
مُخْتَفِيًا مُدَّةَ سِتِّ سِنِينَ وَشُهُورٍ مُنْتَقِبًا فِي زِيِّ امْرَأَةٍ
وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ فِي بَعْضِ دُرُوبِ بَغْدَادَ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ،
فَقَامَ الْحَارِسُ فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ ؟
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُمْسِكَهُنَّ، فَأَعْطَاهُ إِبْرَاهِيمُ خَاتَمًا كَانَ فِي
يَدِهِ مِنْ يَاقُوتٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْحَارِسُ اسْتَرَابَ وَقَالَ:
إِنَّمَا هَذَا خَاتَمُ رَجُلٍ كَبِيرِ الشَّأْنِ. فَذَهَبَ بِهِنَّ إِلَى مُتَوَلِّي
اللَّيْلِ، فَأَمَرَهُنَّ أَنْ يُسْفِرْنَ عَنْ وُجُوهِهِنَّ، فَتَمَنَّعَ
إِبْرَاهِيمُ
فَكَشَفُوا عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا هُوَ هُوَ، فَعَرَفَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى
صَاحِبِ الْحَرَسِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ، فَرَفَعَهُ الْآخَرُ إِلَى بَابِ
الْمَأْمُونِ فَأَصْبَحَ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ وَنِقَابُهُ عَلَى رَأْسِهِ
وَالْمِلْحَفَةُ فِي صَدْرِهِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيَعْلَمُوا كَيْفَ أُخِذَ.
فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهِ وَالِاحْتِرَاسِ عَلَيْهِ مُدَّةً،
ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ. هَذَا وَقَدْ صَلَبَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ
سَجَنَهُمْ بِسَبَبِهِ لِكَوْنِهِمْ أَرَادُوا الْفَتْكَ بِالْمُوَكَّلِينَ
بِالسِّجْنِ، فَصَلَبَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةً.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ
يَدَيِ الْمَأْمُونِ شَرَعَ فِي تَأْنِيبِهِ، فَتَرَقَّقَ لَهُ عَمُّهُ
إِبْرَاهِيمُ كَثِيرًا، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ تُعَاقِبْ
فَبِحَقِّكَ، وَإِنْ تَعْفُ فَبِفَضْلِكَ. فَقَالَ: بَلْ أَعْفُو يَا
إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ الْقُدْرَةَ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ،
وَبَيْنَهُمَا عَفْوُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِمَّا تَسْأَلُهُ.
فَكَبَّرَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدِ امْتَدَحَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ ابْنَ أَخِيهِ الْمَأْمُونَ
بِقَصِيدَةٍ بَالَغَ فِيهَا، فَلَمَّا سَمِعَهَا الْمَأْمُونُ قَالَ: أَقُولُ
كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ
اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [ يُوسُفَ: 92 ] وَذَكَرَ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ لَمَّا عَفَا عَنْ عَمِّهِ
إِبْرَاهِيمَ أَمَرَهُ أَنْ يُغَنِّيَهُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُهُ.
فَأَمَرَهُ فَأَخَذَ الْعُودَ فِي حِجْرِهِ، وَقَالَ:
هَذَا مَقَامُ مُسَوَّدٍ خَرِبَتْ مَنَازِلُهُ وَدُورُهْ
نَمَّتْ عَلَيْهِ
عِدَاتُهُ
كَذِبًا فَعَاقَبَهُ أَمِيرُهْ
ثُمَّ عَادَ فَقَالَ:
ذَهَبْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّى لَوَى الدَّهْرُ بِي عَنْهَا
وَوَلَّى بِهَا عَنِّي
فِإِنْ أَبْكِ نَفْسِي أَبْكِ نَفْسًا عَزِيزَةً وَإِنْ أَحْتَقِرْهَا
أَحْتَقِرْهَا عَلَى ضَنِّ
وَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ الْمُسِيءَ بِعَيْنِهِ بِرَبِّي تَعَالَى جَدُّهُ حَسَنُ
الظَّنِّ
عَدَوْتُ عَلَى نَفْسِي فَعَادَ بِعَفْوِهِ عَلَيَّ فَعَادَ الْعَفْوُ مَنًّا
عَلَى مَنِّ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: أَحْسَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا. فَرَمَى
بِالْعُودِ مِنْ حِجْرِهِ، وَوَثَبَ قَائِمًا فَزِعًا مِنْ هَذَا الْكَلَامِ،
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: اقْعُدْ وَاسْكُنْ، مَرْحَبًا بِكَ، لَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ لِشَيْءٍ تَتَوَهَّمُهُ، وَوَاللَّهِ لَا رَأَيْتَ طُولَ أَيَّامِي شَيْئًا
تَكْرَهُهُ، وَتَغْتَمُّ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِرَدِّ جَمِيعِ مَا كَانَ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالضِّيَاعِ وَالدُّورِ، فَرُدَّتْ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ مُكْرَمًا
مُعَظَّمًا.
عُرْسُ بُورَانَ
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا بَنَى الْمَأْمُونُ بِبُورَانَ بِنْتِ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ إِلَى مُعَسْكَرِ
الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ بِفَمِ الصِّلْحِ، وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ عُوفِيَ مِنْ
مَرَضِهِ فَنَزَلَ الْمَأْمُونُ عِنْدَهُ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ وُجُوهِ الْأُمَرَاءِ
وَالرُّؤَسَاءِ وَأَكَابِرِ بَنِي هَاشِمٍ، فَدَخَلَ بِبُورَانَ فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ فِي لَيْلَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ أُشْعِلَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ
شُمُوعُ الْعَنْبَرِ، وَنُثِرَ عَلَى رَأْسِهِ الدُّرُّ وَالْجَوْهَرُ، فَوْقَ
حُصْرٍ مَنْسُوجَةٍ بِالذَّهَبِ الْأَحْمَرِ. وَكَانَ عَدَدُ الْجَوْهَرِ مِنْهُ
أَلْفَ دُرَّةٍ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُمِعَ فِي صِينِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ كَانَ
الْجَوْهَرُ فِيهَا، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا نَثَرْنَاهُ
لِتَتَلَقَّطَهُ الْجَوَارِي. فَقَالَ: لَا، أَنَا أُعَوِّضُهُنَّ خَيْرًا مِنْ
ذَلِكَ. فَجَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَلَمَّا جَاءَتِ الْعَرُوسُ وَمَعَهَا
جَدَّتُهَا وَزُبَيْدَةُ أُمُّ أَخِيهِ الْأَمِينِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ جَاءَ
مَعَهَا فَأُجْلِسَتْ إِلَى جَانِبِهِ فَصَبَّ فِي حِجْرِهَا ذَلِكَ
الْجَوْهَرَ،
وَقَالَ لَهَا: هَذَا نِحْلَةٌ مِنِّي لَكِ، وَسَلِي حَاجَتِكَ. فَأَطْرَقَتْ
حَيَاءً، فَقَالَتْ جَدَّتُهَا: كَلِّمِي سَيِّدَكِ وَسَلِيهِ حَاجَتَكِ فَقَدْ
أَمَرَكِ. فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَرْضَى عَنْ
عَمِّكَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ وَأَنْ تَرُدَّهُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ
الَّتِي كَانَ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: وَأُمُّ جَعْفَرٍ
تَعْنِي زُبَيْدَةَ تَأْذَنُ لَهَا فِي الْحَجِّ. قَالَ: نَعَمْ. فَخَلَعَتْ
عَلَيْهَا زُبَيْدَةُ بِذْلَتَهَا الْأُمَوِيَّةَ، وَأَطْلَقَتْ لَهَا قَرْيَةً
مُقَوَّرَةً. وَأَمَّا وَالِدُ الْعَرُوسِ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ فَإِنَّهُ كَتَبَ
أَسْمَاءَ قُرَاهُ وَضِيَاعَهُ وَأَمْلَاكَهُ فِي رِقَاعٍ وَنَثَرَهَا عَلَى
الْأُمَرَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، فَمَنْ وَقَعَتْ فِي يَدِهِ مِنْهَا رُقْعَةٌ،
بَعَثَ إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي فِيهَا نُوَّابُهُ فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ
مِلْكًا خَالِصًا. وَأَنْفَقَ عَلَى الْمَأْمُونِ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ
الْجَيْشِ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عِنْدَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا مَا يُعَادِلُ
خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَلَمَّا أَرَادَ الْمَأْمُونُ الِانْصِرَافَ
مِنْ عِنْدِهِ، أَطْلَقَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَقْطَعَهُ
الْبَلْدَةَ الَّتِي هُوَ نَازِلٌ بِهَا، وَهُوَ إِقْلِيمُ فَمِ الصِّلْحِ
مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ. وَرَجَعَ الْمَأْمُونُ إِلَى
بَغْدَادَ فِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ إِلَى مِصْرَ
فَاسْتَنْقَذَهَا بِأَمْرِ الْمَأْمُونِ مِنْ يَدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
السَّرِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، الْمُتَغَلِّبِ عَلَيْهَا، وَاسْتَعَادَهَا مِنْهُ
بَعْدَ
حُرُوبٍ يَطُولُ
ذِكْرُهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ اللُّغَوِيُّ.
وَاسْمُهُ إِسْحَاقُ بْنُ مِرَارٍ.
وَمَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّاطَرِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ.
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ
إِحْدَى عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْجَوَّابِ. وَطَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ
الصَّنْعَانِيُّ، صَاحِبُ " الْمُصَنَّفِ "، وَ " الْمُسْنَدِ
"، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ
الشَّاعِرُ الْمُفْلِقُ الْمَشْهُورُ، وَاسْمُهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاسِمِ
بْنِ سُوَيْدِ بْنِ كَيْسَانَ، أَصْلُهُ مِنَ الْحِجَازِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ
وَكَانَ يَبِيعُ الْجِرَارَ أَوَّلًا، ثُمَّ حَظِيَ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ لَا سِيَّمَا
الْمَهْدِيُّ، وَقَدْ كَانَ يَعْشَقُ جَارِيَةً لِلْمَهْدِيِّ اسْمُهُا عُتْبَةُ
وَقَدْ
طَلَبَهَا مِنَ
الْخَلِيفَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَإِذَا سَمَحَ لَهُ بِهَا لَا تُرِيدُهُ
الْجَارِيَةُ، وَتَقُولُ لِلْخَلِيفَةِ: أَتُعْطِينِي لِرَجُلٍ دَمِيمِ الْخَلْقِ
كَانَ يَبِيعُ الْجِرَارَ ؟ فَكَانَ يُكْثِرُ التَّغَزُّلَ فِيهَا، وَشَاعَ
أَمْرُهُ وَاشْتُهِرَ بِهَا، وَكَانَ الْمَهْدِيُّ يَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمَهْدِيَّ
اسْتَدْعَى الشُّعَرَاءَ إِلَى مَجْلِسِهِ فَاجْتَمَعُوا، وَكَانَ فِيهِمْ أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ وَبَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ الْأَعْمَى، فَسَمِعَ صَوْتَ أَبِي
الْعَتَاهِيَةِ، فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: أَثَمَّ هَاهُنَا أَبُو
الْعَتَاهِيَةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَوَجِمَ لَهَا بَشَّارٌ، ثُمَّ اسْتَنْشَدَ الْمَهْدِيُّ
أَبَا الْعَتَاهِيَةِ. فَانْطَلَقَ يُنْشِدُهُ قَصِيدَتَهُ فِيهَا، الَّتِي
أَوَّلُهَا:
أَلَا مَا لِسَيِّدَتِي مَا لَهَا أَدَلَّتْ فَأَحْمِلَ إِدْلَالَاهَا
فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: مَا رَأَيْتُ أَجْسَرَ مِنْ هَذَا. حَتَّى انْتَهَى
أَبُو الْعَتَاهِيَةِ إِلَى قَوْلِهِ:
أَتَتْهُ الْخِلَافَةُ مُنْقَادَةً إِلَيهِ تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَلَمْ يَكُ يَصْلُحُ إِلَّا لَهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ لَزُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا
وَلَوْ لَمْ
تُطِعْهُ بَنَاتُ الْقُلُوبِ لَمَا قَبِلَ اللُّهُ أَعْمَالَهَا
فَقَالَ بَشَّارٌ لِجَلِيسِهِ: انْظُرْ وَيْحَكَ، أَطَارَ الْخَلِيفَةُ عَنْ
فِرَاشِهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ
يَوْمَئِذٍ بِجَائِزَةٍ غَيْرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: اجْتَمَعَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ بِأَبِي نُوَاسٍ
وَكَانَ فِي طَبَقَتِهِ وَطَبَقَةِ بَشَّارٍ، فَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ
لِأَبِي نُوَاسٍ: كَمْ تَعْمَلُ فِي الْيَوْمِ مِنَ الشِّعْرِ ؟ قَالَ: بَيْتًا
أَوْ بَيْتَيْنِ. فَقَالَ: لَكِنِّي أَعْمَلُ الْمِائَةَ وَالْمِائَتَيْنِ.
فَقَالَ أَبُو نُوَاسٍ: لِأَنَّكَ تَعْمَلُ مِثْلَ قَوْلِكَ:
يَا عُتْبَ مَا لِي وَلَكِ يَا لَيْتَنِي لَمْ أَرَكِ
وَلَوْ أَرَدْتُ مِثْلَ هَذَا الْأَلْفَ وَالْأَلْفَيْنِ، لَقَدَرْتُ عَلَيْهِ،
وَأَنَا أَعْمَلُ مِثْلَ قَوْلِي:
مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍّ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ
وَزَنَّاءُ
وَلَوْ أَرَدْتَ مِثْلَ هَذَا لَأَعْجَزَكَ الدَّهْرَ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ:
وَلَقَدْ صَبَوْتُ إِلَيْكِ حَتَّ ى صَارَ مِنْ فَرْطِ التَّصَابِي
يَجِدُ الْجَلِيسُ
إِذَا دَنَا رِيحَ التَّصَابِي فِي ثِيَابِي
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَأَشْعَارُهُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
ثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَالِثَ جُمَادَى
الْآخِرَةِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ وَقِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
وَأَوْصَى أَنْ يَكْتُبَ عَلَى قَبْرِهِ بِبَغْدَادَ:
إِنَّ عَيْشًا يَكُونُ آخِرَهُ الْمَوْتُ لَعَيْشٌ مُعَجَّلُ التَّنْغِيصِ
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ الْمَأْمُونُ مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ الطُّوسِيَّ عَلَى طَرِيقِ
الْمَوْصِلِ لِمُحَارَبَةِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ فِي أَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ
فَأَخَذَ جَمَاعَةً مِنَ الْمُتَغَلِّبِينَ فِيهَا، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى
الْمَأْمُونِ أُسَرَاءَ إِلَى بَغْدَادَ وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ أَظْهَرَ الْمَأْمُونُ فِي النَّاسِ بِدْعَتَيْنِ فَظِيعَتَيْنِ؛
إِحْدَاهُمَا أَطَمُّ مِنَ الْأُخْرَى، وَهِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَالْأُخْرَى تَفْضِيلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي كُلٍّ مِنْ
هَذَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأً كَبِيرًا فَاحِشًا، وَأَثِمَ إِثْمًا عَظِيمًا،
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُكَفِّرُ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، كَمَا
سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ الْعَبَّاسِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: أَسَدُ بْنُ مُوسَى، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَسَدُ السُّنَّةِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، وَاسْمُهُ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ثَارَ رَجُلَانِ بِمِصْرَ، وَهُمَا عَبْدُ السَّلَامِ وَابْنُ جَلِيسٍ،
فَخَلَعَا الْمَأْمُونَ وَاسْتَحْوَذَا عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَبَايَعَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْقَيْسِيَّةِ وَالْيَمَانِيَّةِ، فَوَلَّى
الْمَأْمُونُ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ نِيَابَةَ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَوَلَّى
ابْنَهُ الْعَبَّاسَ نِيَابَةَ الْجَزِيرَةِ وَالثُّغُورِ وَالْعَوَاصِمِ،
وَأَطْلَقَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمْ يُرَ يَوْمًا أَكْثَرَ
إِطْلَاقًا مِنْهُ، أَطْلَقَ فِيهِ لِهَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءِ الثَّلَاثَةِ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ السِّنْدَ غَسَّانَ بْنَ عَبَّادٍ وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا أَمِيرُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْبَصْرِيُّ.
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ.
وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الدِّمَشْقِيُّ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ فِي " " الْوَفِيَّاتِ " " عَنْ
بَعْضِهِمْ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَاهَانَ
الْمَوْصِلِيُّ النَّدِيمُ، وَأَبُو الْعَتَاهِيَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو
الشَّيْبَانِيُّ النَّحْوِيُّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِبَغْدَادَ، وَلَكِنَّهُ
صَحَّحَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّدِيمَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَةٍ.
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
هِشَامٍ رَاوِي السِّيرَةِ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَكَاهُ ابْنُ خِلِّكَانَ عَنْهُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانِي
عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ فِي "
" تَارِيخِ مِصْرَ " ".
الْعَكَوَّكُ الشَّاعِرُ
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ الْمُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيُّ، وَيُلَقَّبُ بِالْعَكَوَّكِ لِقِصَرِهِ وَسِمَنِهِ،
وَكَانَ مِنَ الْمَوَالِي، وَوُلِدَ أَعْمَى، وَقِيلَ: بَلْ أَصَابَهُ جُدَرِيٌّ
وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَعَمِيَ، وَكَانَ أَسْوَدَ أَبْرَصَ، وَكَانَ
شَاعِرًا مُطْبِقًا فَصِيحًا بَلِيغًا، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ فِي شِعْرِهِ
الْجَاحِظُ فَمَنْ بَعْدَهُ، قَالَ الْجَاحِظُ: مَا رَأَيْتُ بَدَوِيًّا وَلَا
حَضَرِيًّا أَحْسَنَ إِنْشَادًا مِنْهُ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
بِأَبِي مَنْ زَارَنِي مُكْتَتِمًا خَائِفًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ جَزِعًا
زَائِرًا نَمَّ
عَلَيْهِ حُسْنُهُ كَيْفَ يُخْفِي اللَّيْلُ بَدْرًا طَلَعَا
رَصَدَ الْغَفْلَةَ حَتَّى أَمْكَنَتْ وَرَعَى السَّامِرَ حَتَّى هَجَعَا
رَكِبَ الْأَهْوَالَ فِي زَوْرَتِهِ ثُمَّ مَا سَلَّمَ حَتَّى وَدَّعَا
وَهُوَ الْقَائِلُ فِي أَبِي دُلْفٍ الْقَاسِمِ بْنِ عِيسَى الْعِجْلِيِّ يَمْتَدِحُهُ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا أَبُو دُلَفٍ بَيْنَ مَغْزَاهُ وَمُحْتَضَرِهْ فَإِذَا وَلَّى
أَبُو دُلَفٍ وَلَّتِ الدُّنْيَا عَلَى أَثَرِهْ
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ بَيْنَ بَادِيهِ إِلَى حَضَرِهْ مُسْتَعِيرٌ
مِنْكَ مَكْرُمَةً يَكْتَسِيهَا يَوْمَ مُفْتَخَرِهْ
وَلَمَّا بَلَغَ الْمَأْمُونَ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ طَوِيلَةٍ
عَارَضَ فِيهَا أَبَا نُوَاسٍ الْحَسَنَ بْنَ هَانِئٍ تَطَلَّبَهُ الْمَأْمُونُ
فَهَرَبَ مِنْهُ كُلَّ مَهْرَبٍ، ثُمَّ أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ ! فَضَّلْتَ الْقَاسِمَ بْنَ عِيسَى عَلَيْنَا ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ،
أَنْتُمْ أَهْلُ بَيْتٍ اصْطَفَاكُمُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ عِبَادِهِ، وَآتَاكُمْ
مُلْكًا عَظِيمًا، وَإِنَّمَا فَضَّلْتُهُ عَلَى أَشْكَالِهِ وَأَقْرَانِهِ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْقَيْتَ أَحَدًا، وَلَقَدْ أَدْخَلْتَنَا فِي الْكُلِّ
حَيْثُ تَقُولُ:
كُلُّ مَنْ فِي الْأَرْضِ مِنْ عَرَبٍ
الْبَيْتَيْنِ. وَمَعَ هَذَا فَلَا أَسْتَحِلُّ قَتْلَكَ بِهَذَا، وَلَكِنْ
بِكُفْرِكَ وَبِشِرْكِكَ، حَيْثُ تَقُولُ فِي عَبْدٍ ذَلِيلٍ:
أَنْتَ الَّذِي تُنْزِلُ الْأَيَّامَ مَنْزِلَهَا وَتَنْقُلُ الدَّهْرَ مِنْ حَالٍ
إِلَى حَالِ
وَمَا مَدَدْتَ مَدَى طَرَفٍ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا قَضَيْتَ بِأَرْزَاقٍ وَآجَالِ
ذَاكَ اللَّهُ يَفْعَلُهُ، أَخْرِجُوا لِسَانَهُ مِنْ قَفَاهُ. فَأَخْرَجُوا
لِسَانَهُ مِنْ قَفَاهُ فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
وَقَدِ امْتَدَحَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ الطُّوسِيَّ:
إِنَّمَا الدُّنْيَا حُمَيْدٌ وَأَيَادِيهِ الْجِسَامُ
فَإِذَا وَلَّى حُمَيْدٌ فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلَامُ
وَقَوْلُهُ:
تَكَفَّلَ سَاكِنِي الدُّنْيَا حُمَيْدٌ فَقَدْ أَضْحَوْا لَهُ فِيهَا عِيَالَا
كَأَنَّ أَبَاهُ آدَمَ كَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ أَنْ يَعُولَهُمْ فَعَالَا
وَلَمَّا مَاتَ
حُمَيْدٌ هَذَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ مَعَ الْمَأْمُونِ بِفَمِ الصِّلْحِ، قَالَ
الْعَكَوَّكُ يَرْثِيهِ قَصِيدَةً، مِنْهَا قَوْلُهُ:
فَأَدَّبَنَا مَا أَدَّبَ النَّاسَ قَبْلَنَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلصَّبْرِ
مَوْضِعُ
وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ يَرْثِي حُمَيْدًا هَذَا:
أَبَا غَانِمٍ أَمَّا ذَرَاكَ فَوَاسِعٌ وَقَبْرُكَ مَعْمُورُ الْجَوَانِبِ
مُحْكَمُ
وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْبُورَ عُمْرَانُ قَبْرِهِ إِذَا كَانَ فِيهِ جِسْمُهُ
يَتَهَدَّمُ
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ خِلِّكَانَ لِعَكَوَّكٍ هَذَا أَشْعَارًا جَيِّدَةً
تَرَكْنَاهَا اخْتِصَارًا
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا الْتَقَى
مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَبَابَكُ الْخُرَّمِيُّ، لَعَنَهُ اللَّهُ فَقَتَلَ
الْخُرَّمِيُّ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جَيْشِهِ وَقَتَلَهُ أَيْضًا، وَانْهَزَمَ
بَقِيَّةُ أَصْحَابِ ابْنِ حُمَيْدٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
فَبَعَثَ الْمَأْمُونُ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يُخَيِّرَانِهِ بَيْنَ خُرَاسَانَ وَنِيَابَةِ
الْجِبَالِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَةَ، لِمُحَارَبَةِ بَابَكَ فَاخْتَارَ
الْمُقَامَ بِخُرَاسَانَ، لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهَا إِلَى الضَّبْطِ، وَلِلْخَوْفِ
مِنْ ظُهُورِ الْخَوَارِجِ بِهَا.
وَفِيهَا دَخَلَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
فَافْتَتَحَهَا وَاسْتَعَادَهَا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَظَفِرَ بِعَبْدِ
السَّلَامِ وَابْنِ جَلِيسٍ وَقَتَلَهُمَا. وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
بِلَالٌ الضَّبَابِيُّ الشَّارِيُّ فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمَأْمُونُ ابْنَهُ
الْعَبَّاسَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَقَتَلُوا بِلَالًا وَعَادُوا
سَالِمِينَ. وَفِيهَا وَلَّى الْمَأْمُونُ عَلِيَّ بْنَ هِشَامٍ
الْجَبَلَ وَقُمَّ
وَأَصْبَهَانَ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ
الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْوَهْبِيُّ.
وَحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ.
شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْمِصْرِيُّ.
وَمُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو.
وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبُو جَعْفَرٍ
الْكَاتِبُ.
وَلِيَ دِيوَانَ الرَّسَائِلِ لِلْمَأْمُونِ. تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ،
وَأَوْرَدَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
قَدْ يُرْزَقُ الْمَرْءُ لَا مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ وَيُصْرَفُ الرِّزْقُ عَنْ ذِي
الْحِيلَةِ الدَّاهِي مَا مَسَّنِي مِنْ غِنًى يَوْمًا وَلَا عَدَمٍ
إِلَّا وَقَوْلِي عَلَيْهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا قُلْتَ فِي شَيْءٍ نَعَمْ فَأَتِمَّهُ فَإِنَّ نَعَمْ دَيْنٌ عَلَى الْحُرِّ
وَاجِبُ
وَإِلَّا فَقُلْ لَا تَسْتَرِحْ وُترِحْ بِهَا لِئَلَّا يَقُولَ النَّاسُ إِنَّكَ
كَاذِبُ
وَلَهُ:
إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ فَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ
أَحْمَقُ
إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ فَصَدْرُ الَّذِي
اسْتَوْدَعْتَهُ السِّرَّ أَضْيَقُ
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَعْيَنَ بْنِ لَيْثِ بْنِ
رَافِعٍ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ مَنْ قَرَأَ " " الْمُوَطَّأَ "
" عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ، وَتَفَقَّهَ بِمَذْهَبِهِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا
بِبِلَادِ مِصْرَ، وَلَهُ بِهَا ثَرْوَةٌ وَأَمْوَالٌ وَافِرَةٌ. وَحِينَ قَدِمَ
الشَّافِعِيُّ مِصْرَ أَعْطَاهُ أَلْفَ دِينَارٍ، وَجَمَعَ لَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
أَلْفَيْ دِينَارٍ أُخْرَى.
وَهُوَ وَالِدُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ الَّذِي
صَحِبَ الشَّافِعِيَّ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دُفِنَ إِلَى
جَانِبِ قَبْرِ الشَّافِعِيِّ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
دُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ مِنَ الْقِبْلَةِ. قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: فَهِيَ
ثَلَاثَةُ أَقْبُرٍ، الشَّافِعِيُّ شَامِيُّهَا، وَهُمَا قِبْلَتُهُ، رَحِمَهُمُ
اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَكِبَ الْمَأْمُونُ فِي الْعَسَاكِرِ مِنْ
بَغْدَادَ قَاصِدًا بِلَادَ الرُّومِ لِغَزْوِهِمْ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ
وَأَعْمَالِهَا إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَلَمَّا كَانَ
بِتَكْرِيتَ تَلَقَّاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَأَذِنَ لَهُ الْمَأْمُونُ فِي الدُّخُولِ عَلَى
ابْنَتِهِ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْمَأْمُونِ وَكَانَ مَعْقُودَ الْعَقْدِ
عَلَيْهَا فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فَدَخَلَ بِهَا، وَأَخَذَهَا مَعَهُ إِلَى بِلَادِ
الْحِجَازِ، وَتَلَقَّاهُ أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَسَارَ
الْمَأْمُونُ فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ إِلَى بِلَادِ طَرَسُوسَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْهَا، وَفَتَحَ حِصْنًا هُنَاكَ عَنْوَةً وَأَمَرَ بِهَدْمِهِ، ثُمَّ
رَجَعَ الْمَأْمُونُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ إِلَى دِمَشْقَ فَنَزَلَهَا وَعَمَرَ
دَيْرَ مُرَّانَ بِسَفْحِ قَاسْيُونَ، وَأَقَامَ بِدِمَشْقَ مُدَّةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ.
وَمِمَّنْ
تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الصُّورِيُّ،
وَقَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، وَمَكِّيُّ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
فَأَمَّا أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ؛ فَهُوَ سَعِيدُ بْنُ أَوْسِ بْنِ ثَابِتٍ
الْبَصْرِيُّ اللُّغَوِيُّ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
كَانَ يَرَى الْقَدَرَ. قَالَ أَبُو عُثْمَانَ
الْمَازِنِيُّ:
رَأَيْتُ الْأَصْمَعِيَّ جَاءَ إِلَى أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، فَقَبَّلَ
رَأْسَهُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: أَنْتَ رَئِيسُنَا وَسَيِّدُنَا
مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ
كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا " خَلْقُ الْإِنْسَانِ " وَ " كِتَابُ
الْإِبِلِ " وَ " كِتَابُ الْمِيَاهِ " وَ " كِتَابُ
الْقَوْسِ وَالتُّرْسِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا أَوِ الَّتِي
بَعْدَهَا. وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ قَارَبَ الْمِائَةَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَدَا مَلِكُ الرُّومِ وَهُوَ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ فَقَتَلَ
جَمَاعَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ طَرَسُوسَ؛ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ
وَسِتِّمِائَةِ إِنْسَانٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَيْضًا كَتَبَ إِلَى الْمَأْمُونِ
فَبَدَأَ بِنَفْسِهِ فَلَمَّا قَرَأَ الْمَأْمُونُ كِتَابَهُ نَهَضَ مِنْ
فَوْرِهِ، فَرَكِبَ فِي الْجُيُوشِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ،
وَصُحْبَتُهُ أَخُوهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ الرَّشِيدِ نَائِبُ الشَّامِ وَمِصْرَ،
فَافْتَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً صُلْحًا وَعَنْوَةً، وَافْتَتَحَ أَخُوهُ
ثَلَاثِينَ حِصْنًا، وَبَعَثَ الْمَأْمُونُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ فِي سَرِيَّةٍ
إِلَى طُوَانَةَ فَافْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَأَسَرَ خَلْقًا مِنَ
الذَّرَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ الرُّومِ، وَحَرَقَ حُصُونًا
عِدَّةً، ثُمَّ عَادَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا إِلَى الْعَسْكَرِ. وَأَقَامَ
الْمَأْمُونُ بِبِلَادِ الرُّومِ مِنْ نِصْفِ جُمَادَى الْآخِرَةِ إِلَى نِصْفِ
شَعْبَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ وَثَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:
عُبْدُوسٌ الْفِهْرِيُّ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِبِلَادِ مِصْرَ، فَتَغَلَّبَ
عَلَى نُوَّابِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ الرَّشِيدِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ،
وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَرَكِبَ الْمَأْمُونُ مِنْ دِمَشْقَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ نَائِبِ بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَكَانَ أَوَّلَ مَا بُدِئَ بِهِ فِي جَامِعِ الْمَدِينَةِ وَالرُّصَافَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، أَنَّهُمْ لَمَّا قَضَوُا الصَّلَاةَ قَامَ النَّاسُ قِيَامًا فَكَبَّرُوا ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمَّ اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا الْمَأْمُونُ بِلَا مُسْتَنَدٍ وَلَا دَلِيلٍ وَلَا مُعْتَمَدٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ قَبْلَهُ أَحَدٌ وَلَكِنْ ثَبَتَ فِي " " الصَّحِيحِ " " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ الْمَكْتُوبَةِ. وَقَدِ اسْتَحَبَّ هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْبَابِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ الذِّكْرَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ مَشْرُوعٌ، فَلَمَّا عُلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ لِلْجَهْرِ مَعْنًى. وَهَذَا كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَجْهَرُ بِالْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا هَذِهِ
الْبِدْعَةُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا الْمَأْمُونُ؛ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ
لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الَّذِي حَجَّ
بِهِمْ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَقِيلَ: غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ.
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قُرَيْبٍ الْأَصْمَعِيُّ.
صَاحِبُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ بِلَالٍ.
وَهَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ.
زُبَيْدَةُ امْرَأَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَابْنَةُ عَمِّهِ
وَهِيَ ابْنَةُ جَعْفَرٍ، أَمَةُ الْعَزِيزِ الْمُلَقَّبَةُ بِزُبَيْدَةَ بِنْتُ
جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ
الْقُرَشِيَّةُ الْهَاشِمِيَّةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، امْرَأَةُ هَارُونَ الرَّشِيدِ وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ فِي زَمَانِهَا، مَعَ مَا كَانَ مَعَهَا مِنَ الْحَظَايَا وَالزَّوْجَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَتِهِ، وَإِنَّمَا لُقِّبَتْ زُبَيْدَةَ؛ لِأَنَّ جَدَّهَا أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ كَانَ يُلَاعِبُهَا وَيُرَقِّصُهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتِ زُبَيْدَةُ. لِبَيَاضِهَا، فَغَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَلَا تُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، وَأَصْلُ اسْمِهَا أَمَةُ الْعَزِيزِ، كَانَتْ مِنَ الْجِمَالِ وَالْمَالِ وَالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ عَلَى جَانِبٍ، وَلَهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَوُجُوهِ الْقُرُبَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّهَا حَجَّتْ، فَبَلَغَتْ نَفَقَتُهَا فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَّهَا لَمَّا هَنَّأَتِ الْمَأْمُونَ بِالْخِلَافَةِ حِينَ دَخَلَ بَغْدَادَ قَالَتْ لَهُ: لَقَدْ هَنَّأْتُ نَفْسِي بِهَا عَنْكَ قَبْلَ أَنْ أَرَاكَ، وَلَئِنْ كُنْتُ فَقَدْتُ ابْنَا خَلِيفَةٍ لَقَدْ عُوِّضْتُ ابْنًا خَلِيفَةً لَمْ أَلِدْهُ، وَمَا خَسِرَ مَنِ اعْتَاضَ مِثْلَكَ، وَلَا ثَكِلَتْ أُمٌّ مَلَأَتْ يَدَهَا مِنْكَ، وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَجْرًا عَلَى مَا أَخَذَ، وَإِمْتَاعًا بِمَا عَوَّضَ. وَذَكَرَ أَنَّهَا تُوُفِّيَتْ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ لَفْظًا قَالَ: وَجَدْتُ بِخَطِّ أَبِي الْفَتْحِ الْقَوَّاسِ: ثنا صَدَقَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْمَوْصِلِيُّ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ الزَّمِنُ: رَأَيْتُ زُبَيْدَةَ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكِ ؟ فَقَالَتْ: غَفَرَ لِي فِي أَوَّلِ مِعْوَلٍ ضُرِبَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الصُّفْرَةُ فِي وَجْهِكِ ؟ قَالَتْ: دُفِنَ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ زَفَرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ زَفْرَةً فَاقْشَعَرَّ لَهَا جَسَدِي، فَهَذِهِ الصُّفْرَةُ مِنْ تِلْكَ الزَّفْرَةِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا مِائَةُ جَارِيَةٍ كُلُّهُنَّ يَحْفَظْنَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَوِرْدُ كُلِّ وَاحِدَةٍ عُشْرُ الْقُرْآنِ، وَكَانَ يُسْمَعُ لَهُنَّ فِي الْقَصْرِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ الْمَأْمُونُ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ،
وَظَفِرَ بِعُبْدُوسٍ الْفِهْرِيِّ، فَأَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، ثُمَّ كَرَّ
رَاجِعًا إِلَى الشَّامِ. وَفِيهَا رَكِبَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ
أَيْضًا، فَحَاصَرَ لُؤْلُؤَةَ مِائَةَ يَوْمٍ، ثُمَّ ارْتَحَلَ عَنْهَا
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى حِصَارِهَا عُجَيْفًا، فَخَدَعَتْهُ الرُّومُ فَأَسَرُوهُ،
فَأَقَامَ فِي أَيْدِيهِمْ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْ
أَيْدِيهِمْ، وَاسْتَمَرَّ مُحَاصِرًا لَهُمْ، فَجَاءَ مَلِكُ الرُّومِ بِنَفْسِهِ
فَأَحَاطَ بِجَيْشِهِ مِنْ وَرَائِهِ، فَبَلَغَ الْمَأْمُونَ فَسَارَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا أَحَسَّ تَوْفِيلُ بِقُدُومِهِ انْصَرَفَ هَارِبًا مِنْ وَجْهِهِ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَزِيرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: الصَّنْغَلُ. فَسَأَلَهُ الْأَمَانَ
وَالْمُصَالَحَةَ وَالْمُهَادَنَةَ، لَكِنَّهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ
إِلَى الْمَأْمُونِ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْمَأْمُونُ كِتَابًا بَلِيغًا مَضْمُونُهُ
التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَإِنِّي إِنَّمَا أَقْبَلُ مِنْكَ الدُّخُولَ فِي
الْحَنِيفِيَّةِ وَإِلَّا فَالسَّيْفُ وَالْقَتْلُ، وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدَى.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
عَلِيٍّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَمُوسَى بْنُ دَاوُدَ الضَّبِّيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ جُمَادَى مِنْهَا وَجَّهَ الْمَأْمُونُ ابْنَهُ
الْعَبَّاسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ لِبِنَاءِ الطُّوَانَةِ، وَتَجْدِيدِ
عِمَارَتِهَا، وَبَعَثَ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ فِي تَجْهِيزِ
الْفَعَلَةِ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ إِلَيْهَا؛ مِنْ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا مِيلًا فِي مِيلٍ، وَأَنْ
يَجْعَلَ سُورَهَا ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ، وَأَنْ يَجْعَلَ لَهَا ثَلَاثَةَ
أَبْوَابٍ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ حِصْنٌ.
ذِكْرُ أَوَّلِ الْمِحْنَةِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمَأْمُونُ إِلَى نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ إِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَمْتَحِنَ الْقُضَاةَ
وَالْمُحَدِّثِينَ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ
جَمَاعَةً مِنْهُمْ إِلَى الرَّقَّةِ وَنُسْخَةَ كِتَابِ الْمَأْمُونِ إِلَى
نَائِبِهِ مُطَوَّلَةٌ، قَدْ سَرَدَهَا ابْنُ
جَرِيرٍ
وَمَضْمُونُهُا الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ
بِقَدِيمٍ، وَعِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا
يُوَافِقُهُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَلَا الْمُحَدِّثِينَ،
فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ
الِاخْتِيَارِيَّةُ لَا يَقُولُونَ بِأَنَّ فِعْلَهُ تَعَالَى الْقَائِمَ
بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ - بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ - مَخْلُوقٌ، بَلْ
يَقُولُونَ: هُوَ مُحْدَثٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ. بَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ
تَعَالَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ
لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 2 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ [ الْأَعْرَافِ: 11 ] فَالْأَمْرُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ صَدَرَ مِنْهُ
تَعَالَى بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ، فَالْكَلَامُ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ لَيْسَ
مَخْلُوقًا، وَهَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ. وَقَدْ صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - كِتَابًا فِي هَذَا الْمَعْنَى سَمَّاهُ " " خَلْقُ
أَفْعَالِ الْعِبَادِ " ".
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ كِتَابَ الْمَأْمُونِ لَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ قُرِئَ عَلَى
النَّاسِ، وَقَدْ عَيَّنَ الْمَأْمُونُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُحَدِّثِينَ
لِيُحْضِرَهُمْ إِلَيْهِ، وَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ،
وَأَبُو مُسْلِمٍ مُسْتَمْلِي يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ،
وَأَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ دَاوُدَ،
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي مَسْعُودٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الدَّوْرَقِيُّ.
فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْمَأْمُونِ إِلَى الرَّقَّةِ فَامْتَحَنَهُمْ بِالْقَوْلِ
بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ وَأَظْهَرُوا مُوَافَقَتَهُ،
وَهُمْ كَارِهُونَ، فَرَدَّهُمْ إِلَى بَغْدَادَ وَأَمَرَ بِإِشْهَارِ أَمْرِهِمْ
بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَفَعَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ذَلِكَ، وَأَحْضَرَ
خَلْقًا مِنْ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ، وَالْقُضَاةِ وَأَئِمَّةِ
الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهِمْ، فَدَعَاهُمُ الى ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ الْمَأْمُونِ
وَذَكَرَ لَهُمْ مُوَافَقَةَ أُولَئِكَ الْمُحَدِّثِينَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ،
فَأَجَابُوا بِمِثْلِ جَوَابِ أُولَئِكَ مُوَافَقَةً لَهُمْ، وَوَقَعَتْ بَيْنَ
النَّاسِ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ كَتَبَ الْمَأْمُونُ كِتَابًا ثَانِيًا إِلَى إِسْحَاقَ يَسْتَدِلُّ فِيهِ
عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ بِشُبَهٍ مِنَ الدَّلَائِلِ لَا تَحْقِيقَ
تَحْتَهَا، وَلَا حَاصِلَ لَهَا بَلْ هِيَ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَأَوْرَدَ
مِنَ الْقُرْآنِ آيَاتٍ هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ
جَرِيرٍ بِطُولِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ
يَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ وَإِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَحْضَرَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمَاعَةً مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ وَهُمْ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ، وَقُتَيْبَةُ، وَأَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، وَبِشْرُ بْنُ
الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي مُقَاتِلٍ، وَسَعْدَوَيْهِ
الْوَاسِطِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ،
وَابْنُ الْهَرْشِ، وَابْنُ عُلَيَّةَ الْأَكْبَرُ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ الْعُمَرِيُّ، وَشَيْخٌ آخَرُ مِنْ سُلَالَةِ عُمَرَ
كَانَ قَاضِيًا عَلَى الرَّقَّةِ وَأَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَأَبُو مَعْمَرٍ الْقَطِيعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ الْمَضْرُوبُ، وَابْنُ الْفَرُّخَانِ، وَالنَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَابْنُ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ، وَأَبُو الْعَوَّامِ الْبَزَّازُ، وَأَبُو شُجَاعٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَجَمَاعَةٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ الْمَأْمُونِ فَلَمَّا فَهِمُوهُ قَالَ لِبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: لَيْسَ عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ، وَإِنَّمَا أَسْأَلُكَ أَهُوَ مَخْلُوقٌ ؟ قَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ. قَالَ: وَلَا عَنْ هَذَا أَسْأَلُكَ. فَقَالَ: مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا. وَصَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَحَدًا فَرْدًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَلَا بَعْدَهُ شَيْءٌ وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ بِمَا قَالَ. فَكَتَبَ، ثُمَّ امْتَحَنَهُمْ رَجُلًا رَجُلًا، فَأَكْثَرُهُمُ امْتَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَكَانَ إِذَا امْتَنَعَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَمْتَحِنُهُ بِمَا فِي الرُّقْعَةِ الَّتِي وَافَقَ عَلَيْهَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فِي مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَيَقُولُ: نَعَمْ. كَمَا قَالَ بِشْرٌ.
وَلَمَّا انْتَهَتِ
النَّوْبَةُ إِلَى امْتِحَانِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَقَالَ لَهُ: أَتَقُولُ
إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ ؟ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ، لَا أَزِيدُ
عَلَى هَذَا. فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي هَذِهِ الرُّقْعَةِ ؟ فَقَالَ: أَقُولُ
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشُّورَى: 11 ] فَقَالَ
رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّهُ يَقُولُ سَمِيعٌ بِأُذُنٍ بَصِيرٌ بِعَيْنٍ.
فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ: مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ؟ فَقَالَ:
أَرَدْتُ مِنْهَا مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ،
وَلَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ. فَكَتَبَ جَوَابَاتِ الْقَوْمِ رَجُلًا رَجُلًا،
وَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْمَأْمُونِ.
فَصْلٌ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ نَائِبَ بَغْدَادَ
لَمَّا امْتَحَنَ الْجَمَاعَةَ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفَى
التَّشْبِيهَ، فَأَجَابُوا كُلُّهُمْ إِلَى نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ، وَأَمَّا
الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا كُلُّهُمْ:
الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَلَا أَزِيدُ عَلَى
هَذَا حَرْفًا أَبَدًا وَقَرَأَ فِي نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ قَوْلَهُ تَعَالَى
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ الشُّورَى: 11 ]
فَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ؟ فَقَالَ: أَرَدْتُ مِنْهَا
مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ الْحَاضِرِينَ مَنْ أَجَابَ إِلَى
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مُصَانَعَةً مُكْرَهًا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا
يَعْزِلُونَ مَنْ لَا يُجِيبُ عَنْ وَظَائِفِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ رِزْقٌ عَلَى
بَيْتِ الْمَالِ قُطِعَ، وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا مُنِعَ مِنَ الْإِفْتَاءِ، وَإِنْ
كَانَ شَيْخَ حَدِيثٍ رُدِعَ عَنِ الْإِسْمَاعِ وَالْأَدَاءِ، وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ
صَمَّاءُ وَمِحْنَةٌ شَنْعَاءُ وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
فَصْلٌ
وَأَمَرَ النَّائِبُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْكَاتِبَ، فَكَتَبَ عَنْ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَوَابَهُ بِعَيْنِهِ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمَأْمُونِ فَجَاءَ
الْجَوَابُ بِمَدْحِ النَّائِبِ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالرَّدِّ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ،
فَرَدَّ مَا قَالَ فِي كِتَابٍ أَرْسَلَهُ، وَأَمَرَ نَائِبَهُ أَنْ
يَمْتَحِنَهُمْ أَيْضًا، فَمَنْ أَجَابَ مِنْهُمْ شُهِرَ أَمْرُهُ فِي النَّاسِ،
وَمَنْ لَمْ يُجِبْ مِنْهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَابْعَثْ بِهِ
إِلَى عَسْكَرِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُقَيَّدًا، مُحْتَفَظًا بِهِ حَتَّى
يَصِلَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ
أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَعَقَدَ الْأَمِيرُ
بِبَغْدَادَ مَجْلِسًا آخَرَ، وَأَحْضَرَ أُولَئِكَ وَفِيهِمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمَهْدِيِّ وَكَانَ صَاحِبًا لِبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيِّ، وَقَدْ
نَصَّ الْمَأْمُونُ عَلَى قَتْلِهِمَا إِنْ لَمْ يُجِيبَا عَلَى الْفَوْرِ،
فَلَمَّا امْتَحَنَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَانِيًا بَعْدَ قِرَاءَةِ
كِتَابِ الْخَلِيفَةِ أَجَابُوا كُلُّهُمْ مُكْرَهِينَ مُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ
تَعَالَى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [ النَّحْلِ:
106 ] إِلَّا أَرْبَعَةً؛ وَهُمْ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
نُوحٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ
الْقَوَارِيرِيُّ. فَقَيَّدَهُمْ وَأَرْصَدَهُمْ لِيَبْعَثَ بِهِمْ إِلَى
الْمَأْمُونِ ثُمَّ اسْتَدْعَى بِهِمْ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَامْتَحَنَهُمْ،
فَأَجَابَ سَجَّادَةُ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ
وَأَطْلَقَهُ، ثُمَّ امْتَحَنَهُمْ فِي
الْيَوْمِ
الثَّالِثِ فَأَجَابَ الْقَوَارِيرِيُّ إِلَى ذَلِكَ، فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ أَيْضًا
وَأَطْلَقَهُ، وَأَصَرَّ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ
الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ فَأَكَّدَ قُيُودَهُمَا
وَجَمَعَهُمَا فِي الْحَدِيدِ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ
بِطَرَسُوسَ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا بِإِرْسَالِهِمَا إِلَيْهِ، فَسَارَا
مُقَيَّدَيْنِ فِي مَحَارَةٍ عَلَى جَمَلٍ مُتَعَادِلِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَجَعَلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا
يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَأْمُونِ وَأَنْ لَا يَرَيَاهُ وَلَا
يَرَاهُمَا.
وَجَاءَ كِتَابُ الْمَأْمُونِ إِلَى نَائِبِهِ؛ أَنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ
الْقَوْمَ إِنَّمَا أَجَابُوا مُكْرَهِينَ، مُتَأَوِّلِينَ قَوْلَهُ تَعَالَى
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي
ذَلِكَ خَطَأً كَبِيرًا فَأَرْسِلْهُمْ كُلَّهُمْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَاسْتَدْعَاهُمْ إِسْحَاقُ وَأَلْزَمَهُمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى طَرَسُوسَ
فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ
الْمَأْمُونِ فَرُدُّوا إِلَى الرَّقَّةِ ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي الرُّجُوعِ
إِلَى بَغْدَادَ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَابْنُ نُوحٍ قَدْ سَبَقَا
النَّاسَ، وَلَكِنْ لَمْ يَجْتَمِعَا بِهِ حَتَّى مَاتَ، وَاسْتَجَابَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ دُعَاءَ عَبْدِهِ وَوَلِيِّهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ، فَلَمْ يَجْتَمِعُوا بِالْمَأْمُونِ، وَرُدُّوا إِلَى بَغْدَادَ
وَسَيَأْتِي تَمَامُ مَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ الْفَظِيعِ فِي أَوَّلِ وِلَايَةِ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ الْمَأْمُونِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَأْمُونُ بْنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ
الْعَبَّاسِيُّ، أَبُو جَعْفَرٍ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا مَرَاجِلُ الْبَاذَغِيسِيَّةُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ لَيْلَةَ تُوُفِّيَ عَمُّهُ الْهَادِي،
وَوَلِيَ أَبُوهُ هَارُونُ الرَّشِيدُ وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرٍ: رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَهُشَيْمِ بْنِ بِشْرٍ،
وَأَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، وَيُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، وَعَبَّادِ بْنِ
الْعَوَّامِ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، وَحَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْأَعْوَرِ.
وَرَوَى عَنْهُ
أَبُو حُذَيْفَةَ إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ وَهُوَ أَسَنُّ مِنْهُ وَيَحْيَى بْنُ
أَكْثَمَ الْقَاضِي، وَابْنُهُ الْفَضْلُ بْنُ الْمَأْمُونِ، وَمَعْمَرُ بْنُ
شَبِيبٍ، وَأَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي، وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ
الطَّيَالِسِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ الشِّيعِيُّ، وَالْيَزِيدِيُّ،
وَعَمْرُو بْنُ مَسْعَدَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ السُّلَمِيُّ، وَدِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ
الْخُزَاعِيُّ.
قَالَ: وَقَدِمَ دِمَشْقَ دُفَعَاتٍ، وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ
الْمَأْمُونَ فِي الشَّمَّاسِيَّةِ، وَقَدْ أَجْرَى الْحَلْبَةَ، فَجَعَلَ
يَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ لِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ: أَمَا تَرَى
كَثْرَةَ النَّاسِ ؟ ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ
ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ
لِعِيَالِهِ
وَمِنْ حَدِيثِ
أَبِي بَكْرٍ الْمَيَانَجِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَالِكِيِّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي، عَنِ الْمَأْمُونِ عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ
مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ.
وَمِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّهُ صَلَّى
الْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ خَلْفَ الْمَأْمُونِ بِالرُّصَافَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ
كَبَّرَ النَّاسُ، فَجَعَلَ يَقُولُ: لَا يَا غَوْغَاءُ، لَا يَا غَوْغَاءُ، عَدَا
سُنَّةِ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا كَانَ
الْغَدُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَكَبَّرَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْبَأَ هُشَيْمُ بْنُ
بَشِيرٍ، ثنا ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ
لِأَهْلِهِ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ أَنْ يُصَلِّيَ فَقَدْ أَصَابَ السُّنَّةَ
اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلًا، اللَّهُمَّ أَصْلِحْنِي، وَاسْتَصْلِحْنِي، وَأَصْلِحْ عَلَى
يَدَيَّ.
تَوَلَّى
الْمَأْمُونُ الْخِلَافَةَ فِي الْمُحَرَّمِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْهُ بَعْدَ
مَقْتَلِ أَخِيهِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَاسْتَمَرَّ فِي
الْخِلَافَةِ عِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ. وَقَدْ كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ
وَاعْتِزَالٌ، وَجَهْلٌ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ بَايَعَ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لَعَلِيٍّ الرِّضَا
بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ
عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَخَلَعَ السَّوَادَ وَلَبِسَ الْخُضْرَةَ كَمَا قَدَّمْنَا،
فَأَعْظَمَ ذَلِكَ الْعَبَّاسِيُّونَ مِنَ الْبَغَادِدَةِ، وَغَيْرِهِمْ،
وَخَلَعُوا الْمَأْمُونُ وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ
كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ ظَفِرَ الْمَأْمُونُ بِهِمْ، وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُ فِي
الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ الرِّضَا بِطُوسَ، وَعَفَا عَنْ
عَمِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي
مَوْضِعِهِ.
أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ؛ فَإِنَّهُ اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ؛
مِنْهُمْ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ، فَأَخَذَ عَنْهُمْ هَذَا الْمَذْهَبَ
الْبَاطِلَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصِيرَةٌ نَافِذَةٌ
فِيهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الدَّاخِلُ، وَرَاجَ عِنْدَهُ
الْبَاطِلُ،
وَدَعَا إِلَيْهِ وَحَمَلَ النَّاسَ قَهْرًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ
أَيَّامِهِ وَانْقِضَاءِ دَوْلَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَ الْمَأْمُونُ أَبْيَضَ
رَبْعَةً حَسَنَ الْوَجْهِ، قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ تَعْلُوهُ صُفْرَةٌ، أَعْيَنَ
طَوِيلَ اللِّحْيَةِ رَقِيقَهَا، ضَيِّقَ الْجَبِينِ، عَلَى خَدِّهِ خَالٌ.
أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: مَرَاجِلُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادٍ، قَالَ: لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ غَيْرُ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَالْمَأْمُونِ.
وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. قَالُوا: كَانَ يَتْلُو فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ خَتْمَةً.
وَجَلَسَ يَوْمًا لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ، فَاجْتَمَعَ حَوْلَهُ الْقَاضِي يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ وَجَمَاعَةٌ، فَأَمْلَى عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهِ ثَلَاثِينَ
حَدِيثًا، وَكَانَتْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِعُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ؛ مِنْ فِقْهٍ،
وَطِبٍّ، وَشِعْرٍ، وَفَرَائِضَ، وَكَلَامٍ، وَنَحْوٍ، وَعَرَبِيَّةٍ،
وَغَرِيبٍ،
وَعِلْمِ النُّجُومِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الزِّيجُ الْمَأْمُونِيُّ، وَقَدِ
اخْتَبَرَ مِقْدَارَ الدَّرَجَةِ فِي وَطْأَةِ سِنْجَارَ فَاخْتَلَفَ عَمَلُهُ
وَعَمَلُ الْأَوَائِلِ مِنَ الْقُدَمَاءِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ جَلَسَ يَوْمًا لِلنَّاسِ، وَفِي
مَجْلِسِهِ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ تَتَظَلَّمُ
إِلَيْهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّ أَخَاهَا تُوُفِّيَ، وَتَرَكَ سِتَّمِائَةِ دِينَارٍ،
فَلَمْ يَحْصُلْ لَهَا سِوَى دِينَارٍ وَاحِدٍ. فَقَالَ لَهَا عَلَى الْبَدِيهَةِ:
قَدْ وَصَلَ إِلَيْكِ حَقُّكِ، كَأَنَّ أَخَاكِ قَدْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ، وَأُمَّا،
وَزَوْجَةً، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَخًا، وَأُخْتًا وَهِيَ أَنْتِ. قَالَتْ: نَعَمْ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ
أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ
الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ
دِينَارًا؛ لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ، وَلَكِ دِينَارٌ. فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ
فِطْنَتِهِ وَسُرْعَةِ جَوَابِهِ. وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَدَخَلَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ عَلَى الْمَأْمُونِ وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَيْتًا مِنَ
الشِّعْرِ يَرَاهُ
عَظِيمًا، فَلَمَّا
أَنْشَدَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ هَذَا الْبَيْتُ مَوْقِعًا طَائِلًا،
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيَهُ شَاعِرٌ آخَرُ، فَقَالَ: أَلَا أُعَجَّبُكَ ؟
أَنْشَدْتُ الْمَأْمُونَ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا. فَقَالَ:
وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قُلْتُ فِيهِ:
أَضْحَى إِمَامُ الْهُدَى الْمَأْمُونُ مُشْتَغِلًا بِالدِّينِ وَالنَّاسُ
بِالدُّنْيَا مَشَاغِيلُ
فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ الشَّاعِرُ الْآخَرُ: مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ جَعَلْتَهُ
عَجُوزًا فِي مِحْرَابِهَا، فَهَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ جَرِيرٌ فِي عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ:
فَلَا هُوَ فِي الدُّنْيَا مُضَيِّعٌ نَصِيبَهُ وَلَا عَرَضُ الدُّنْيَا عَنِ
الدِّينِ شَاغِلُهُ
وَقَالَ الْمَأْمُونُ يَوْمًا لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ: بَيْتَانِ لِاثْنَيْنِ مَا
لَحِقَهُمَا أَحَدٌ؛ قَوْلُ أَبِي نُوَاسٍ:
إِذَا اخْتَبَرَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي لِبَاسِ
صَدِيقِ
وَقَوْلُ شُرَيْحٍ
تَهُونُ عَلَى الدُّنْيَا الْمَلَامَةُ إِنَّهُ حَرِيصٌ عَلَى اسْتِصْلَاحِهَا
مَنْ يَلُومُهَا
قَالَ الْمَأْمُونُ: وَقَدْ أَلْجَأَنِي الزِّحَامُ يَوْمًا وَأَنَا فِي
الْمَوْكِبِ حَتَّى خَالَطْتُ
السُّوقَةَ،
فَرَأَيْتُ رَجُلًا فِي دُكَّانٍ عَلَيْهِ أَثْوَابٌ خَلِقَةٌ، فَنَظَرَ إِلَيَّ نَظَرَ
مَنْ يَرْحَمُنِي أَوْ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِي، فَقَالَ:
أَرَى كُلَّ مَغْرُورٍ تُمَنِّيهِ نَفْسُهُ إِذَا مَا مَضَى عَامٌ سَلَامَةَ
قَابِلِ
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ سَمِعْتُ الْمَأْمُونَ يَوْمَ عِيدٍ خَطَبَ
النَّاسَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: عِبَادَ اللَّهِ، عَظُمَ أَمْرُ
الدَّارَيْنِ، وَارْتَفَعَ جَزَاءُ الْعَامِلِينَ، وَطَالَتْ مُدَّةُ
الْفَرِيقَيْنِ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَلْجِدُّ لَا اللَّعِبُ، وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ
لَا الْكَذِبُ، وَمَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ، وَالْبَعْثُ وَالْحِسَابُ،
وَالْفَصْلُ وَالصِّرَاطُ، ثُمَّ الْعِقَابُ وَالثَّوَابُ، فَمَنْ نَجَا
يَوْمَئِذٍ فَقَدْ فَازَ، وَمَنْ هَوَى يَوْمَئِذٍ فَقَدْ خَابَ، الْخَيْرُ
كُلُّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي النَّارِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى الْمَأْمُونِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا نَضْرُ ؟ قُلْتُ: بِخَيْرٍ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا الْإِرْجَاءُ ؟ فَقُلْتُ: دِينٌ يُوَافِقُ
الْمُلُوكَ، يُصِيبُونَ بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ، وَيَنْقُصُونَ مِنْ دِينِهِمْ.
قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَالَ: يَا نَضْرُ، أَتَدْرِي مَا قُلْتُ فِي صَبِيحَةِ
هَذَا الْيَوْمِ ؟ قُلْتُ:
أَنَّى لِي
بِعِلْمِ الْغَيْبِ ؟ فَقَالَ: قُلْتُ:
أَصْبَحَ دِينِي الَّذِي أَدِينُ بِهِ وَلَسْتُ مِنْهُ الْغَدَاةَ مُعْتَذِرَا
حُبُّ عَلِيٍّ بَعْدَ النَّبِيِّ وَلَا أَشْتِمُ صِدِّيقًا وَلَا عُمَرَا
ثُمَّ ابْنُ عَفَّانَ فِي الْجِنَانِ مَعَ الْ أَبْرَارِ ذَلِكَ الْقَتِيلُ
مُصْطَبِرَا
لَا وَلَا أَشْتِمُ الزُّبَيْرَ وَلَا طَلْحَةَ إِنْ قَالَ قَائِلٌ غَدَرَا
وَعَائِشَ الْأُمُّ لَسْتُ أَشْتِمُهَا مَنْ يَفْتَرِيهَا فَنَحْنُ مِنْهُ بَرَا
وَهَذَا الْمَذْهَبُ ثَانِي مَرَاتِبِ التَّشَيُّعِ، وَفِيهِ تَفْضِيلُ عَلِيٍّ
عَلَى عُثْمَانَ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: مَنْ فَضَّلَ
عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ،
يَعْنِي فِي اجْتِهَادِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى تَقْدِيمِ
عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ بَعْدَ مَقْتَلِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَبَعْدَ ذَلِكَ سِتَّ عَشْرَةَ مَرْتَبَةً فِي التَّشَيُّعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ
صَاحِبُ كِتَابِ " " الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ وَالنَّامُوسِ الْأَعْظَمِ
" " تَنْتَهِي إِلَى أَكْفَرِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
لَا أُوتَى
بِأَحَدٍ فَضَّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَّا جَلَدْتُهُ جَلْدَ
الْمُفْتَرِي. وَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ
عَثْمَانُ.
فَقَدْ خَالَفَ الْمَأْمُونُ بْنُ الرَّشِيدِ فِي مَذْهَبِهِ الصَّحَابَةَ
كُلَّهُمْ، حَتَّى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَدْ
أَضَافَ الْمَأْمُونُ إِلَى بِدْعَتِهِ هَذِهِ الَّتِي أَزْرَى فِيهَا عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ، الْبِدْعَةَ
الْأُخْرَى، وَالطَّامَّةَ الْعُظْمَى، وَهِيَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مَعَ
مَا فِيهِ مِنَ الِانْهِمَاكِ عَلَى تَعَاطِي الْمُسْكِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْأَفْعَالِ الَّتِي تَعَدَّدَ فِيهَا الْمُنْكَرُ، وَلَكِنْ كَانَ فِيهِ
شَهَامَةٌ عَظِيمَةٌ، وَقُوَّةٌ جَسِيمَةٌ وَلَهُ هِمَّةٌ فِي الْقِتَالِ،
وَحِصَارِ الْأَعْدَاءِ، وَمُصَابَرَةِ الرُّومِ، وَحَصْرِهِمْ فِي بُلْدَانِهِمْ،
وَقَتْلِ فُرْسَانِهِمْ، وَأَسْرِ ذَرَارِيهِمْ وَوِلْدَانِهِمْ. وَكَانَ يَقُولُ:
كَانَ مُعَاوِيَةُ بِعَمْرِهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بِحَجَّاجِهِ، وَأَنَا
بِنَفْسِي.
وَكَانَ يَقْصِدُ الْعَدْلَ، وَيَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ
وَالْفَصْلَ؛ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ فَتَظَلَّمَتْ عَلَى ابْنِهِ
الْعَبَّاسِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَأَمَرَ الْحَاجِبَ
فَأَخَذَهُ
بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ مَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ
أَخَذَ ضَيْعَةً لَهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَتَنَاظَرَا سَاعَةً فَجَعَلَ
صَوْتُهُا يَعْلُو عَلَى صَوْتِهِ فَزَجَرَهَا بَعْضُ الْحَاضِرِينَ، فَقَالَ لَهُ
الْمَأْمُونُ: اسْكُتْ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنْطَقَهَا، وَالْبَاطِلَ أَسْكَتَهُ.
ثُمَّ حَكَمَ لَهَا بِحَقِّهَا وَأَغْرَمَ لَهَا وَلَدَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ
دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ
يَكُونَ آنِيَتُكَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَغَرِيمُكَ عَارٍ، وَجَارُكَ طَاوٍ.
وَوَقَفَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: وَاللَّهِ
لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَأَنَّ عَلَيَّ
فَإِنَّ الرِّفْقَ نِصْفُ الْعَفْوِ. فَقَالَ: وَيْلَكَ وَيْحَكَ! قَدْ حَلَفْتُ
لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ تَلْقَ اللَّهَ
حَانِثًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ قَاتِلًا. فَعَفَا عَنْهُ. وَكَانَ يَقُولُ:
لَيْتَ أَهْلَ الْجَرَائِمِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مَذْهَبِي الْعَفْوُ، حَتَّى يَذْهَبَ
الْخَوْفُ عَنْهُمْ وَيَدْخُلَ السُّرُورُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَرَكِبَ يَوْمًا
فِي حَرَّاقَةٍ فَسَمِعَ مَلَّاحًا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: تَرَوْنَ هَذَا
الْمَأْمُونُ يَنْبُلُ فِي عَيْنِي، وَقَدْ قَتَلَ أَخَاهُ الْأَمِينَ ؟ يَقُولُ
ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَكَانِ الْمَأْمُونِ فَجَعَلَ الْمَأْمُونُ
يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَوْنَ الْحِيلَةَ حَتَّى أَنْبُلَ فِي عَيْنِ
هَذَا الرَّجُلِ الْجَلِيلِ ؟
وَحَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ لِيَتَغَدَّى عِنْدَهُ،
فَلَمَّا رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ جَعَلَ هُدْبَةُ يَلْتَقِطُ مَا تَنَاثَرَ
مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَمَا شَبِعْتَ يَا شَيْخُ ؟ فَقَالَ بَلَى،
وَلَكِنْ
حَدَّثَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَكَلَ مَا تَحْتَ
مَائِدَتِهِ أَمِنَ مِنَ الْفَقْرِ قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِأَلْفِ
دِينَارٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَالَ يَوْمًا لِمُحَمَّدِ بْنِ
عَبَّادِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُهَلَّبِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، قَدْ
أَعْطَيْتُكَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَنَّ عَلَيْكَ
دَيْنًا. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَنْعَ الْمَوْجُودِ سُوءُ
ظَنٍّ بِالْمَعْبُودِ. فَقَالَ: أَحْسَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، أَعْطُوهُ
أَلْفَ أَلْفٍ وَأَلْفَ أَلْفٍ.
وَلَمَّا أَرَادَ الْمَأْمُونُ أَنْ يَدْخُلَ بِبُورَانَ بِنْتِ الْحَسَنِ بْنِ
سَهْلٍ، جَعَلَ النَّاسُ يُهْدُونَ لِأَبِيهَا الْأَشْيَاءَ النَّفِيسَةَ، وَكَانَ
مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَعْتَزُّ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْأُدَبَاءِ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ
مِزْوَدًا فِيهِ مِلْحٌ طَيِّبٌ، وَمِزْوَدًا فِيهِ أُشْنَانٌ جَيِّدٌ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ: إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ تُطْوَى صَحِيفَةُ أَهْلِ الْبِرِّ وَلَا أُذْكَرُ
فِيهَا فَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِالْمُبْتَدَأِ بِهِ، لِيُمْنِهِ، وَبَرَكَتِهِ،
وَبِالْمَخْتُومِ بِهِ، لِطِيبِهِ وَنَظَافَتِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ:
بِضَاعَتِي تَقْصُرُ عَنْ هِمَّتِي وَهِمَّتِي تَقْصُرُ عَنْ مَالِي
فَالْمِلْحُ وَالْأُشْنَانُ يَا سَيِّدِي أَحْسَنُ مَا يُهْدِيهِ أَمْثَالِي
قَالَ: فَدَخَلَ
بِهِمَا الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ عَلَى الْمَأْمُونِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَأَمَرَ
بِالْمُزْوَدَيْنِ فَفُرِّغَا، وَمُلِئَا دَنَانِيرَ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى
ذَلِكَ الْأَدِيبِ.
وَوُلِدَ لِلْمَأْمُونِ ابْنُهُ جَعْفَرٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّاسُ
يُهَنِّئُونَهُ بِصُنُوفِ التَّهَانِي، وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ
لَهُ يُهَنِّئُهُ بِوَلَدِهِ:
مَدَّ لَكَ اللَّهُ الْحَيَاةَ مَدًّا حَتَّى تَرَى ابْنَكَ هَذَا جَدَّا
ثُمَّ يُفَدِّي مِثْلَ مَا تَفَدَّى كَأَنَّهُ أَنْتَ إِذَا تَبَدَّى
أَشْبَهُ مِنْكَ قَامَةً وَقَدًّا مُؤْزَرًا بِمَجْدِهِ مُرَدَّا
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَدِمَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِدِمَشْقَ مَالٌ جَزِيلٌ بَعْدَ مَا كَانَ قَدْ
أَفْلَسَ وَشَكَى إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ ذَلِكَ، فَوَرَدَتْ عَلَيْهِ
خَزَائِنُ مِنْ خُرَاسَانَ وَبِهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَخَرَجَ
يَسْتَعْرِضُهَا وَقَدْ زُيِّنَتِ الْجِمَالُ وَالْأَحْمَالُ وَمَعَهُ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ الْقَاضِي، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْبَلَدَ، قَالَ: لَيْسَ مِنَ
الْمُرُوءَةِ أَنْ نَحُوزَ نَحْنُ هَذَا كُلَّهُ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ. ثُمَّ
فَرَّقَ مِنْهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِجْلُهُ فِي
الرِّكَابِ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ فَرَسِهِ.
وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
لِسَانِي كَتُومٌ لِأَسْرَارِكُمْ وَدَمْعِي نَمُومٌ لِسِرِّي مُذِيعْ
فَلَوْلَا دُمُوعِي
كَتَمْتُ الْهَوَى وَلَوْلَا الْهَوَى لَمْ تَكُنْ لِي دُمُوعْ
وَقَدْ بَعَثَ خَادِمًا لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي لِيَأْتِيَهُ بِجَارِيَةٍ،
فَأَطَالَ الْخَادِمُ عِنْدَهَا الْمُكْثَ، وَتَمَنَّعَتِ الْجَارِيَةُ مِنَ
الْمَجِيءِ إِلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ إِلَيْهَا الْمَأْمُونُ بِنَفْسِهِ،
فَأَنْشَأَ الْمَأْمُونُ يَقُولُ:
بَعَثْتُكَ مُشْتَاقًا فَفُزْتُ بِنَظْرَةٍ وَأَغْفَلْتَنِي حَتَّى أَسَأْتُ بِكَ
الظَّنَّا
وَنَاجَيْتُ مَنْ أَهْوَى وَكُنْتُ مُقَرَّبًا فَيَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْ
دُنُوِّكَ مَا أَغْنَى
وَرَدَّدْتَ طَرْفًا فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا وَمَتَّعْتَ بِاسْتِسْمَاعِ
نَغَمَتِهَا أُذُنَا
أَرَى أَثَرًا فِي صَحْنِ خَدِّكَ لَمْ يَكُنْ لَقَدْ سَرَقَتْ عَيْنَاكَ مِنْ
حُسْنِهَا حُسْنَا
وَلَمَّا ابْتَدَعَ الْمَأْمُونُ مَا ابْتَدَعَ مِنَ التَّشَيُّعِ
وَالِاعْتِزَالِ، فَرِحَ بِذَلِكَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَكَانَ بِشْرٌ هَذَا
شَيْخَ الْمَأْمُونِ فَأَنْشَأَ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ:
قَدْ قَالَ مَأْمُونُنُا وَسَيِّدُنَا قَوْلًا لَهُ فِي الْكِتَابِ تَصْدِيقُ
إِنَّ عَلِيًّا أَعْنِي أَبَا حَسَنٍ أَفْضَلُ مَنْ أَرْقَلَتْ بِهِ النُّوقُ
بَعْدَ نَبِيِّ
الْهُدَى وَإِنَّ لَنَا أَعْمَالَنَا وَالْقُرْآنُ مَخْلُوقُ
فَأَجَابَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلُ لِمَنْ يَقُولُ كَلَامُ اللَّهِ
مَخْلُوقُ
مَا قَالَ ذَاكَ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا النَّبِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ
صِدِّيقُ
وَلَمْ يَقُلْ ذَاكَ إِلَّا كُلُّ مُبْتَدِعٍ عَلَى الْإِلَهِ وَعِنْدَ اللَّهِ
زِنْدِيقُ
عَمْدًا أَرَادَ بِهِ إِمْحَاقَ دِينِكُمْ لِأَنَّ دِينَهُمْ وَاللَّهِ مَمْحُوقُ
أَصَحُّ يَا قَوْمُ عَقْلًا مِنْ خَلِيفَتِكُمْ يُمْسِي وَيُصْبُحُ فِي
الْأَغْلَالِ مَوْثُوقُ
وَقَدْ سَأَلَ بِشْرٌ مِنَ الْمَأْمُونِ أَنْ يَطْلُبَ قَائِلَ هَذَا
فَيُؤَدِّبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ! لَوْ كَانَ فَقِيهًا
لَأَدَّبْتُهُ وَلَكِنَّهُ شَاعِرٌ فَلَسْتُ أَعْرِضُ لَهُ.
وَلَمَّا تَجَهَّزَ الْمَأْمُونُ لِلْغَزْوِ فِي آخِرِ سَفْرَةٍ سَافَرَهَا إِلَى
طَرَسُوسَ اسْتَدْعَى بِجَارِيَةٍ كَانَ يُحِبُّهَا، وَقَدِ اشْتَرَاهَا فِي آخِرِ
عُمُرِهِ، فَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَبَكَتِ الْجَارِيَةُ وَقَالَتْ: قَتَلْتَنِي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَفَرِكَ هَذَا، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
سَأَدْعُو دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّ رَبًّا يُثِيبُ عَلَى الدُّعَاءِ وَيَسْتَجِيبُ
لَعَلَّ اللَّهَ
أَنْ يَكْفِيَكَ حَرْبًا وَيَجْمَعَنَا كَمَا تَهْوَى الْقُلُوبُ
فَضَمَّهَا إِلَيْهِ وَأَنْشَأَ يَقُولُ مُتَمَثِّلًا:
فَيَا حُسْنَهَا إِذْ يَغْسِلُ الدَّمْعُ كُحْلَهَا وَإِذْ هِيَ تَذْرِي الدَّمْعَ
مِنْهَا الْأَنَامِلُ
صَبِيحَةَ قَالَتْ فِي الْعِتَابِ قَتَلْتَنِي وَقَتْلِي بِمَا قَالَتْ هُنَاكَ
تُحَاوِلُ
ثُمَّ أَمَرَ مَسْرُورًا الْخَادِمَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا وَالِاحْتِفَاظِ
عَلَيْهَا حَتَّى يَرْجِعَ، ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ كَمَا قَالَ الْأَخْطَلُ:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ
بِأَطْهَارِ
ثُمَّ وَدَّعَهَا وَسَارَ فَمَرِضَتِ الْجَارِيَةُ فِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ، وَمَاتَ
الْمَأْمُونُ أَيْضًا، فَلَمَّا جَاءَ نَعْيُهُ إِلَيْهَا تَنَفَّسَتِ
الصُّعَدَاءَ وَحَضَرَتْهَا الْوَفَاةُ، وَأَنْشَأَتْ تَقُولُ وَهِيَ فِي
السِّيَاقِ:
إِنَّ الزَّمَانَ سَقَانَا مِنْ مَرَارَتِهِ بَعْدَ الْحَلَاوَةِ أَنْفَاسًا
فَأَرْوَانَا
أَبْدَى لَنَا تَارَةً مِنْهُ فَأَضْحَكَنَا ثُمَّ انْثَنَى تَارَةً أُخْرَى
فَأَبْكَانَا
إِنَّا إِلَى اللَّهِ فِيمَا لَا يَزَالُ بِنَا مِنَ الْقَضَاءِ وَمِنْ تَلْوِينِ
دُنْيَانَا
دُنْيَا تَرَاهَا تُرِينَا مِنْ تَصَرُّفِهَا مَا لَا يَدُومُ مُصَافَاةً
وَأَحْزَانَا
وَنَحْنُ فِيهَا كَأَنَّا لَا يُزَايِلُنَا لِلْعَيْشِ أَحْيَاؤُنَا يَبْكُونَ
مَوْتَانَا
وَكَانَتْ وَفَاةُ
الْمَأْمُونِ بِطَرَسُوسَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَقْتَ الظُّهْرِ وَقِيلَ: بَعْدَ
الْعَصْرِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِي
عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمُعْتَصِمُ؛ وَهُوَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ،
وَدُفِنَ بِطَرَسُوسَ فِي دَارِ خَاقَانَ الْخَادِمِ. وَقِيلَ: كَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ. وَقِيلَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ
رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ خَارِجَ طَرَسُوسَ
بِأَرْبَعِ مَرَاحِلَ، فَحُمِلَ إِلَيْهَا فَدُفِنَ بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ
نُقِلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَذَنَةَ فِي رَمَضَانَ فَدُفِنَ بِهَا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْمَخْزُومِيُّ:
مَا رَأَيْتُ النُّجُومَ أَغْنَتْ عَنِ الْمَأْ مُونِ فِي عِزِّ مُلْكِهِ
الْمَأْسُوسِ
خَلَّفُوهُ بِعَرْصَتَيْ طَرَسُوسَ مِثْلَ مَا خَلَّفُوا أَبَاهُ بِطُوسِ
وَقَدْ كَانَ
أَوْصَى إِلَى أَخِيهِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمِ، وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ
بِحَضْرَةِ ابْنِهِ الْعَبَّاسِ، وَجَمَاعَةِ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ
وَالْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ، وَفِيهَا الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ
يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَدْرَكَهُ أَجَلُهُ وَانْقَضَى عَمَلُهُ، وَهُوَ عَلَى
ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَأَوْصَى أَنْ يُكَبِّرَ
عَلَيْهِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ خَمْسًا، وَأَوْصَى أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ
الْمُعْتَصِمَ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ،
وَأَنْ يَعْتَقِدَ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَخُوهُ الْمَأْمُونُ فِي الْقُرْآنِ،
وَأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ، وَأَوْصَاهُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَحْمَدَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ
الْقَاضِي، وَقَالَ: شَاوِرْهُ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا وَلَا تُفَارِقْهُ،
وَحَذَّرَهُ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ وَنَهَاهُ عَنْهُ وَذَمَّهُ، وَقَالَ:
خَانَنِي وَنَفَّرَ النَّاسَ عَنِّي، فَفَارَقْتُهُ غَيْرَ رَاضٍ عَنْهُ، ثُمَّ
أَوْصَاهُ بِالْعَلَوِيِّينَ خَيْرًا؛ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ،
وَيَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأَنْ يُوَاصِلَهُمْ بِصِلَاتِهِمْ فِي كُلِّ
سَنَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لِلْمَأْمُونِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، أَوْرَدَ فِيهَا
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً لَمْ يَذْكُرْهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مَعَ كَثْرَةِ مَا
يُورِدُهُ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.
خِلَافَةُ
الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ أَبِي إِسْحَاقَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ أَخُوهُ الْمَأْمُونُ بِطَرَسُوسَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِي عَشْرَةَ
وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ مَرِيضًا، وَهُوَ الَّذِي صَلَّى عَلَى أَخِيهِ
الْمَأْمُونِ وَقَدْ شَغَبَ بَعْضُ الْجُنْدِ فَأَرَادُوا أَنْ يُوَلُّوا
الْعَبَّاسَ بْنَ الْمَأْمُونِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ:
مَا هَذَا الْحُبُّ الْبَارِدُ ؟ أَنَا قَدْ بَايَعْتُ عَمِّي الْمُعْتَصِمَ.
فَسَكَنَ النَّاسُ وَخَمَدَتِ الْفِتْنَةُ، وَرَكِبَ الْبُرُدُ بِالْبَيْعَةِ
لِلْمُعْتَصِمِ إِلَى الْآفَاقِ، وَبِالتَّعْزِيَةِ بِالْمَأْمُونِ. فَأَمَرَ
الْمُعْتَصِمُ بِهَدْمِ مَا كَانَ بَنَاهُ الْمَأْمُونُ فِي مَدِينَةِ طَوَانَةَ
وَأَمَرَ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ، وَنَقْلِ مَا كَانَ حَوَّلَ إِلَيْهَا مِنَ
السِّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَذِنَ لِلْفَعَلَةِ بِالِانْصِرَافِ إِلَى
بُلْدَانِهِمْ وَأَقَالِيمِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ الْمُعْتَصِمُ فِي الْجُنُودِ
قَاصِدًا بَغْدَادَ وَصُحْبَتُهُ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ فَدَخَلَهَا
يَوْمَ السَّبْتِ مُسْتَهَلَّ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
وَتَجَمُّلٍ تَامٍّ.
وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ دَخَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَمَذَانَ وَأَصْبَهَانَ وَمَاسَبَذَانَ،
وَمِهْرَجَانَ فِي دِينِ الْخُرَّمِيَّةِ، فَتَجَمَّعَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ
فَجَهَّزَ إِلَيْهِمِ الْمُعْتَصِمُ جُيُوشًا كَثِيرَةً، آخِرُ مَنْ جَهَّزَ
إِلَيْهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ،
وَعَقَدَ لَهُ عَلَى الْجِبَالِ فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ،
وَقُرِئَ كِتَابُهُ بِالْفَتْحِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَأَنَّهُ قَهَرَ
الْخُرَّمِيَّةَ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ
إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَعَلَى يَدَيْهِ
جَرَتْ فِتْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ
كَمَا سَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ
فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَضَحَّى أَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأَهْلُ بَغْدَادَ ضَحَّوْا يَوْمَ
السَّبْتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ:
بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ.
وَهُوَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْمَرِيسِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ
شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَحَدُ مَنْ أَضَلَّ الْمَأْمُونَ وَقَدْ كَانَ هَذَا
الرَّجُلُ يَنْظُرُ أَوَّلًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْفِقْهِ، وَأَخَذَ عَنِ الْقَاضِي
أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْهُ، وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ عِلْمُ
الْكَلَامِ، وَقَدْ نَهَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ تَعَلُّمِهِ وَتَعَاطِيهِ فَلَمْ
يَقْبَلْ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ
بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا عَدَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
يَلْقَاهُ بِعِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ بِشْرٌ بِالشَّافِعِيِّ
عِنْدَمَا قَدِمَ الشَّافِعِيُّ بَغْدَادَ.
وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: جَرَّدَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَحُكِيَ عَنْهُ أَقْوَالٌ شَنِيعَةٌ، وَكَانَ مُرْجِئِيًّا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ
الْمَرِيسِيَّةُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ السُّجُودَ
لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْسَ بِكُفْرٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةُ الْكُفْرِ،
وَكَانَ يُنَاظِرُ الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ،
وَكَانَ يَلْحَنُ لَحْنًا فَاحِشًا، وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يَهُودِيًّا
صَبَّاغًا بِالْكُوفَةِ. وَكَانَ يَسْكُنُ دَرْبَ الْمَرِيسِ بِبَغْدَادَ، وَالْمَرِيسُ
عِنْدَهُمْ هُوَ الْخُبْزُ الرُّقَاقُ يُمْرَسُ بِالسَّمْنِ وَالتَّمْرِ. قَالَ:
وَمَرِيسُ نَاحِيَةٌ بِبِلَادِ النُّوبَةِ تَهُبُّ عَلَيْهَا فِي الشِّتَاءِ رِيحٌ
بَارِدَةٌ. قُلْتُ: ثُمَّ رَاجَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ عِنْدَ الْمَأْمُونِ
وَحَظِيَ
عِنْدَهُ، وَقُدِّمَ
فِي حَضْرَتِهِ، وَنَفَقَ سُوقُهُ الْكَاسِدُ، وَاسْتُجِيدَ ذِهْنُهُ الْبَارِدُ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذَا الْعَامِ أَوِ الَّذِي قَبْلَهُ
فِي قَوْلٍ - صَلَّى عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدٌ
الشُّونِيزِيُّ. فَلَامَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا
تَسْمَعُونَ كَيْفَ دَعَوْتُ لَهُ فِي صَلَاتِي ؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّ
عَبْدَكَ هَذَا كَانَ يُنْكِرُ عَذَابَ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ فَأَذِقْهُ مِنْ
عَذَابِ الْقَبْرِ، وَكَانَ يُنْكِرُ شَفَاعَةَ نَبِيِّكَ فَلَا تَجْعَلْهُ مِنْ
أَهْلِهَا، وَكَانَ يُنْكِرُ رُؤْيَتَكَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَاحْجُبْ
وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنْهُ. فَقَالُوا لَهُ: أَصَبْتَ. وَهَذَا الَّذِي نَطَقَ
بِهِ بَعْضُ السَّلَفِ حَيْثُ قَالُوا: مَنْ كَذَّبَ بِكَرَامَةٍ لَمْ يَنَلْهَا.
وَفِي هَذَا الْعَامِ تُوُفِّيَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ التِّنِّيسِيُّ.
وَأَبُو مُسْهِرٍ عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُسْهِرٍ الْغَسَّانِيُّ الدِّمَشْقِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابْلُتِّيُّ.
وَأَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامِ بْنِ أَيُّوبَ الْحِمْيَرِيُّ
الْمَعَافِرِيُّ.
رَاوِي
السِّيرَةِ عَنْ
زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكَّائِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
مُصَنِّفِهَا، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ: سِيرَةُ ابْنِ هِشَامٍ
لِأَنَّهُ هَذَّبَهَا وَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ مِنْهَا، وَحَرَّرَ أَمَاكِنَ،
وَاسْتَدْرَكَ أَشْيَاءَ.
وَكَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِمِصْرَ، وَقَدِ
اجْتَمَعَ بِهِ الشَّافِعِيُّ حِينَ وَرَدَهَا، وَتَنَاشَدَا مِنْ أَشْعَارِ
الْعَرَبِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي " " تَارِيخِ مِصْرَ
" ". وَزَعَمَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا ظَهَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِالطَّالَقَانِ مِنْ خُرَاسَانَ
يَدْعُو إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَقَاتَلَهُ قُوَّادُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ
ظَهَرُوا عَلَيْهِ وَهَرَبَ فَأُخِذَ ثُمَّ بُعِثَ بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَصَفِ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَمَرَ بِهِ فَحُبِسَ فِي مَكَانٍ
ضَيِّقٍ طُولُهُ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثًا،
ثُمَّ حُوِّلَ إِلَى أَوْسَعَ مِنْهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُ مَنْ يَخْدُمُهُ،
فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا هُنَالِكَ إِلَى لَيْلَةِ عِيدِ الْفِطْرِ، فَاشْتَغَلَ
النَّاسُ بِالْعِيدِ فَدُلِّيَ لَهُ حَبْلٌ مِنْ كُوَّةٍ كَانَ يَأْتِيهِ
الضَّوْءُ مِنْهَا فَذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ كَيْفَ ذَهَبَ، وَإِلَى أَيْنَ صَارَ
مِنَ الْأَرْضِ.
وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى دَخَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى بَغْدَادَ رَاجِعًا مِنْ
قِتَالِ الْخُرَّمِيَّةِ، وَمَعَهُ الْأَسْرَى مِنْهُمْ، وَقَدْ قَتَلَ فِي
حَرْبِهِ هَذَا مِنْ الْخُرَّمِيَّةِ مِائَةَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْهُمْ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمُعْتَصِمُ عُجَيْفًا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ لِقِتَالِ الزُّطِّ
الَّذِينَ عَاثُوا فِي بِلَادِ
الْبَصْرَةِ
وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَنَهَبُوا الْغَلَّاتِ، فَمَكَثَ فِي قِتَالِهِمْ تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ فَقَهَرَهُمْ وَقَمَعَ شَرَّهُمْ، وَأَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَكَانَ
الْقَائِمَ بِأَمْرِهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ، وَمَعَهُ
آخَرُ يُقَالُ لَهُ: سَمْلَقٌ، وَهُوَ دَاهِيَتُهُمْ، وَشَيْطَانُهُمْ، فَأَرَاحَ
اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ شَرِّهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، شَيْخُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ.
صَاحِبُ " " الْمُسْنَدِ " "، وَتِلْمِيذُ الْإِمَامِ
الشَّافِعِيِّ.
وَعَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ.
وَأَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ.
شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَأَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ دَخَلَ عُجَيْفٌ فِي السُّفُنِ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ
مِنْ الزُّطِّ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا قَدْ جَاءُوا بِالْأَمَانِ إِلَى
الْخَلِيفَةِ فَأُنْزِلُوا فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ ثُمَّ نَفَاهُمُ
الْخَلِيفَةُ إِلَى عَيْنِ زُرْبَةَ فَأَغَارَتْ الرُّومُ عَلَيْهِمْ
فَاجْتَاحُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِمْ.
وَفِيهَا عَقَدَ الْمُعْتَصِمُ لِلْأَفْشِينِ وَاسْمُهُ حَيْدَرُ بْنُ كَاوَسَ
عَلَى جَيْشٍ عَظِيمٍ لِقِتَالِ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَكَانَ
قَدِ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ جِدًّا، وَانْتَشَرَتْ
أَتْبَاعُهُ فِي بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ وَمَا وَالَاهَا، وَكَانَ أَوَّلُ
ظُهُورِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ زِنْدِيقًا كَبِيرًا
وَشَيْطَانًا رَجِيمًا، فَسَارَ الْأَفْشِينُ وَقَدْ أَحْكَمَ صِنَاعَةَ الْحَرْبِ
فِي الْأَرْصَادِ وَعِمَارَةِ الْحُصُونِ وَإِيصَالِ الْمَدَدِ، وَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ بِاللَّهِ
مَعَ بُغَا
الْكَبِيرِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً نَفَقَةً لِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ
وَالْأَتْبَاعِ وَقَدِ اتَّقَعَ، فَالْتَقَى هُوَ وَبَابَكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلَ الْأَفْشِينُ مِنْ أَصْحَابِ بَابَكَ
خَلْقًا كَثِيرًا أَزْيَدَ مِنْ أَلْفٍ وَهَرَبَ هُوَ إِلَى مَدِينَتِهِ فَأَوَى
إِلَيْهَا مَكْسُورًا وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَا تَضَعْضَعَ مِنْ أَمْرِ بَابَكَ
لَعَنَهُ اللَّهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدِ
اسْتَقْصَاهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ بَغْدَادَ فَنَزَلَ الْقَاطُولَ
فَأَقَامَ بِهَا.
وَفِيهَا غَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ
الْمَكَانَةِ الْعَظِيمَةِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْوَزَرَاةِ وَحَبَسَهُ وَأَخَذَ
أَمْوَالَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
الزَّيَّاتِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ
أَمِيرُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ.
وَعَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ.
وَقَالُونُ.
أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ.
وَأَبُو حُذَيْفَةَ النَّهْدِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ بُغَا الْكَبِيرِ وَبَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ، فَهَزَمَ بَابَكُ بُغَا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، ثُمَّ اقْتَتَلَ الْأَفْشِينُ
وَبَابَكَ، فَهَزَمَهُ أَفْشِينُ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ بَعْدَ
حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ، قَدِ اسْتَقْصَاهَا أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ فِي
تَارِيخِهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ مَكَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى
بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ
الْقَعْنَبِيُّ.
وَعَبْدَانُ، وَهِشَامُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ الْمُعْتَصِمُ جَيْشًا كَثِيفًا مَدَدًا لِلْأَفْشِينِ عَلَى
مُحَارَبَةِ الْخُرَّمِيَّةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ نَفَقَةً لِلْجُنْدِ وَالْأَتْبَاعِ. وَفِيهَا اقْتَتَلَ الْأَفْشِينُ
والْخُرَّمِيَّةُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَافْتَتَحَ الْأَفْشِينُ الْبَذَّ مَدِينَةَ
بَابَكَ وَاسْتَبَاحَ مَا فِيهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَذَلِكَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ
وَحُرُوبٍ هَائِلَةٍ وَقِتَالٍ شَدِيدٍ وَجُهْدٍ جَهِيدٍ، وَقَدْ أَطَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ بَسْطَهُ جِدًّا. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُ افْتَتَحَ الْبَلَدَ
وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ مِمَّا قَدَرَ
عَلَيْهِ.
ذِكْرُ مَسْكِ
بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ وَأَسْرِهِ وَقَتْلِهِ
لَمَّا احْتَوَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَلَدِهِ الْمُسَمَّى بِالْبَذِّ، وَهِيَ
دَارُ مُلْكِهِ وَمَقَرُّ سُلْطَانِهِ، هَرَبَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ
وَوَلَدِهِ وَمَعَهُ أُمُّهُ وَامْرَأَتُهُ، فَانْفَرَدَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ
مِنْ خَدَمِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ طَعَامٌ، فَاجْتَازَ بِحَرَّاثٍ فَبَعَثَ
غُلَامَهُ إِلَيْهِ وَمَعَهُ ذَهَبٌ فَقَالَ: أَعْطِهِ الذَّهَبَ وَخُذْ مَا
مَعَهُ مِنَ الْخُبْزِ. فَنَظَرَ شَرِيكٌ الْحَرَّاثِ إِلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ
وَهُوَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْخُبْزَ، فَظَنَّ أَنَّهُ قَدِ اغْتَصَبَهُ مِنْهُ،
فَذَهَبَ إِلَى حِصْنٍ هُنَاكَ فِيهِ نَائِبٌ لِلْخَلِيفَةِ يُقَالُ لَهُ: سَهْلُ
بْنُ سُنْبَاطٍ لِيَسْتَعْدِيَ عَلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ
وَجَاءَ فَوَجَدَ الْغُلَامَ فَقَالَ: مَا خَبَرُكَ ؟ فَقَالَ: لَا شَيْءَ
وَإِنَّمَا أَعْطَيْتُهُ دَنَانِيرَ، وَأَخَذْتُ مِنْهُ هَذَا الْخُبْزَ. فَقَالَ:
وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَأَرَادَ أَنْ يُعَمِّيَ عَلَيْهِ الْخَبَرَ، فَأَلَحَّ
عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ غِلْمَانِ بَابَكَ. فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ ؟ فَقَالَ:
هَاهُوَ ذَا جَالِسٌ يُرِيدُ الْغَدَاءَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَهْلُ بْنُ سُنْبَاطٍ،
فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ وَجَاءَهُ فَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: يَا سَيِّدِي
أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَدْخُلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَالَ: إِلَى
عِنْدِ مَنْ تَذْهَبُ أَحْرَزُ مِنْ حِصْنِي وَأَنَا غُلَامُكَ وَفِي خِدْمَتِكَ ؟
وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى خَدَعَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ إِلَى الْحِصْنِ،
فَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ النَّفَقَاتِ الْكَثِيرَةَ وَالتُّحَفَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَتَبَ إِلَى الْأَفْشِينِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَمِيرَيْنِ لِقَبْضِهِ فَنَزَلَا قَرِيبًا مِنَ الْحِصْنِ وَكَتَبَا
إِلَى ابْنِ سُنْبَاطٍ فَقَالَ: أَقِيمَا مَكَانَكُمَا حَتَّى يَأْتِيَكُمَا
أَمْرِي. ثُمَّ قَالَ لِبَابَكَ: إِنَّكَ قَدْ
حَصَلَ لَكَ غَمٌّ وَضِيقٌ مِنْ هَذَا الْحِصْنِ وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْخُرُوجِ الْيَوْمَ إِلَى الصَّيْدِ وَمَعَنَا بُزَاةٌ وَكِلَابٌ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تَخْرُجَ مَعَنَا لِتَنْشَرِحَ. قَالَ: نَعَمْ. فَخَرَجُوا وَبَعَثَ ابْنُ سُنْبَاطٍ إِلَى الْأَمِيرَيْنِ أَنْ كُونَا بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا وَفِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا مِنَ النَّهَارِ، فَلَمَّا كَانُوا بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَقْبَلَ الْأَمِيرَانِ بِمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْجُنُودِ فَأَحَاطُوا بِبَابَكَ وَبِابْنِ سُنْبَاطٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُ جَاءُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: تَرَجَّلْ عَنْ دَابَّتِكَ. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتُمَا ؟ فَذَكَرَا أَنَّهُمَا مِنْ عِنْدِ الْأَفْشِينِ فَتَرَجَّلَ حِينَئِذٍ عَنْ دَابَّتِهِ وَعَلَيْهِ دُرَّاعَةٌ بَيْضَاءُ وَعِمَامَةٌ بَيْضَاءُ وَخُفٌّ قَصِيرٌ وَفِي يَدِهِ بَازٌ فَنَظَرَ إِلَى ابْنِ سُنْبَاطٍ، فَقَالَ: قَبَّحَكَ اللَّهُ، فَهَلَّا طَلَبْتَ مِنِّي مِنَ الْمَالِ مَا شِئْتَ، فَكُنْتُ أَعْطَيْتُكَ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيكَ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ أَرْكَبُوهُ وَأَخَذُوهُ مَعَهُمَا إِلَى الْأَفْشِينِ فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ بِلَادِ الْأَفْشِينِ خَرَجَ فَتَلَقَّاهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَصْطَفُّوا صَفَّيْنِ وَأَنْ يَتَرَجَّلَ بَابَكَ فَيَدْخُلَ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ مَاشٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا جِدًّا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. ثُمَّ احْتَفَظَ بِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ عِنْدَهُ ثُمَّ كَتَبَ الْأَفْشِينُ إِلَى الْمُعْتَصِمِ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ بَابَكَ فِي أَسْرِهِ وَقَدِ اسْتَحْضَرَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ أَيْضًا فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَقْدَمَ بِهِمَا عَلَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ
فَتَجَهَّزَ
بِهِمَا إِلَى بَغْدَادَ فِي تَمَامِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ.
وَعُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ.
وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
وَيَحْيَى بْنُ صَالِحٍ الْوُحَاظِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَالِثِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْأَفْشِينُ
عَلَى الْمُعْتَصِمِ سَامَرَّاءَ وَمَعَهُ بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ وَأَخُوهُ عَبْدُ
اللَّهِ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَقَدْ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ ابْنَهُ هَارُونَ
الْوَاثِقَ أَنْ يَتَلَقَّى الْأَفْشِينَ وَكَانَتْ أَخْبَارُهُ تَفِدُ إِلَى
الْمُعْتَصِمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ شِدَّةِ اعْتِنَاءِ الْمُعْتَصِمِ بِأَمْرِ
بَابَكَ، وَقَدْ رَكِبَ الْمُعْتَصِمُ قَبْلَ وُصُولِ بَابَكَ بِيَوْمَيْنِ عَلَى
الْبَرِيدِ حَتَّى دَخَلَ إِلَى بَابَكَ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ
ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ دُخُولِهِ عَلَيْهِ تَأَهَّبَ الْمُعْتَصِمُ
وَاصْطَفَّ النَّاسُ سِمَاطَيْنِ، وَأَمَرَ بَابَكَ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى فِيلٍ
لِيَشْتَهِرَ أَمْرُهُ وَيَعْرِفُوهُ، وَعَلَيْهِ قَبَاءُ دِيبَاجٍ وَقَلَنْسُوَةُ
سَمُّورٍ مُدَوَّرَةٌ، وَقَدْ هُيِّئَ الْفِيلُ، وَخُضِّبَتْ أَطْرَافُهُ،
وَأُلْبِسَ مِنَ الْحَرِيرِ وَالْأَمْتِعَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ كَثِيرًا،
وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ:
قَدْ خُضِّبَ
الْفِيلُ كَعَادَاتِهِ يَحْمِلُ شَيْطَانَ خُرَاسَانَ وَالْفِيلُ لَا تُخَضَّبُ
أَعْضَاؤُهُ
إِلَّا لِذِي شَأْنٍ مِنَ الشَّانِ
وَلَمَّا أُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ
وَرِجْلَيْهِ وَحَزِّ رَأْسِهِ، وَشِقِّ بَطْنِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِحَمْلِ رَأْسِهِ
إِلَى خُرَاسَانَ وَصَلْبِ جُثَّتِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِسَامَرَّا، وَكَانَ بَابَكُ
قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي لَيْلَةٍ أَسْفَرَ صَبَاحُهَا عَنْ قَتْلِهِ، وَهِيَ
لَيْلَةُ الْخَمِيسِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَكَانَ هَذَا الْمَلْعُونُ قَدْ قَتَلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي
مُدَّةِ ظُهُورِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - وَهِيَ عِشْرُونَ سَنَةً مِائَتَيْ أَلْفٍ
وَخَمْسَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ إِنْسَانٍ قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَأَسَرَ خَلْقًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتَنْقَذَهُ
الْأَفْشِينُ مِنْ أَسْرِهِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةِ آلَافٍ وَسِتِّمِائَةِ
إِنْسَانٍ، وَأَسَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَمِنْ
حَلَائِلِهِ وَحَلَائِلِ أَوْلَادِهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ امْرَأَةً مِنَ
الْخَوَاتِينِ، وَقَدْ كَانَ أَصْلُ بَابَكَ ابْنَ جَارِيَةٍ زَرِيَّةِ الشَّكْلِ
جِدًّا، فَآلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى مَا آلَ بِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَرَاحَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ بَعْدَمَا افْتَتَنَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ
غَفِيرٌ مِنَ الطَّغَامِ
وَلَمَّا قَتَلَهُ الْمُعْتَصِمُ تَوَّجَ الْأَفْشِينَ وَقَلَّدَهُ وِشَاحَيْنِ
مِنْ جَوْهَرٍ، وَأَطْلَقَ لَهُ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ لَهُ
بِوِلَايَةِ السِّنْدِ وَأَمَرَ الشُّعَرَاءَ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ
فَيَمْدَحُوهُ
عَلَى مَا فَعَلَ
مِنَ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَى تَخْرِيبِهِ بَلَدَ بَابَكَ الَّتِي
يُقَالُ لَهَا الْبَذُّ وَتَرْكِهِ إِيَّاهَا يَبَابًا خَرَابًا، فَقَالُوا فِي
ذَلِكَ فَأَحْسَنُوا، وَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ أَبُو تَمَامٍ الطَّائِيُّ،
وَقَدْ أَوْرَدَ قَصِيدَتَهُ بِتَمَامِهَا الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي " " تَارِيخِهِ " "، وَهِيَ قَوْلُهُ:
بَذَّ الْجِلَادُ فَهُوَ دَفِينُ مَا إِنْ بِهِ إِلَّا الْوُحُوشَ قَطِينُ
لَمْ يُقْرَ هَذَا السَّيْفُ هَذَا الصَّبْرَ فِي هَيْجَاءَ إِلَّا عَزَّ هَذَا
الدِّينُ
قَدْ كَانَ عُذْرَةَ سُؤْدَدٍ فَافْتَضَّهَا بِالسَّيْفِ فَحْلُ الْمَشرِقِ
الْأَفْشِينُ فَأَعَادَهَا تَعْوِي الثَّعَالِبُ وَسْطَهَا
وَلَقَدْ تُرَى بِالْأَمْسِ وَهِيَ عَرِينُ هَطَلَتْ عَلَيْهَا مِنْ جَمَاجِمِ
أَهْلِهَا
دِيَمٌ أَمَارَتْهَا طُلًى وَشُئُونُ كَانَتْ مِنَ الْمُهْجَاتِ قَبْلَ ذَاكَ
مَفَازَةً
عَسِرًا فَأَمْسَتْ وَهِيَ مِنْهُ مَعِينُ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
أَوْقَعَ مَلِكُ الرُّومِ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ لَعَنَهُ اللَّهُ بِأَهْلِ
مَلَطْيَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا وَالَاهَا مَلْحَمَةً عَظِيمَةً قَتَلَ
فِيهَا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَسَرَ مَا لَا
يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَكَانَ مِنْ
جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَ أَلْفَ امْرَأَةٍ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ، وَمَثَّلَ بِمَنْ وَقَعَ فِي أَسْرِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطَّعَ آذَانَهُمْ وَآنَافَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ بَابَكَ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمَّا أُحِيطَ بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي مَدِينَتِهِ الْبَذِّ وَاسْتَوْسَقَتِ الْجُنُودُ حَوْلَهُ، كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ مِلْكَ الْعَرَبِ قَدْ جَهَّزَ إِلَيَّ جُمْهُورَ جَيْشِهِ وَلَمْ يُبْقِ فِي أَطْرَافِ بِلَادِهِ مَنْ يَحْفَظُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْغَنِيمَةَ فَانْهَضْ سَرِيعًا إِلَى مَا حَوْلَكَ مِنْ بِلَادِهِ فَخُذْهَا، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ أَحَدًا يُمَانِعُكَ عَنْهَا، فَرَكِبَ تَوْفِيلُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فِي مِائَةِ أَلْفٍ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ الْمُحَمِّرَةُ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا فِي الْجِبَالِ وَقَاتَلَهُمْ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ، وَتَحَصَّنُوا بِتِلْكَ الْجِبَالِ فَلَمَّا قَدِمَ مَلِكُ الرُّومِ صَارُوا مَعَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَوَصَلُوا إِلَى زِبَطْرَةَ فَقَتَلُوا مِنْ رِجَالِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا مِنْ حَرِيمِهَا أُمَّةً كَثِيرَةً، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمُعْتَصِمَ فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ جِدًّا، وَصَرَخَ فِي قَصْرِهِ بِالنَّفِيرِ، وَنَهَضَ مِنْ فَوْرِهِ، فَأَمَرَ بِتَعْبِئَةِ الْجُيُوشِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقَاضِي، وَالْعُدُولِ، فَأَشْهَدَهُمْ أَنَّ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الضِّيَاعِ ثُلُثُهُ صَدَقَةٌ، وَثُلُثُهُ لِوَلَدِهِ، وَثُلُثُهُ لِمَوَالِيهِ.
وَخَرَجَ مِنْ
بَغْدَادَ فَعَسْكَرَ غَرْبَيْ دِجْلَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ
خَلَتَا مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَوَجَّهَ بَيْنَ يَدَيْهِ عُجَيْفًا،
وَطَائِفَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ وَمَعَهُمْ خَلْقٌ مِنَ الْجَيْشِ إِعَانَةً
لِأَهْلِ زِبَطْرَةَ فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ، فَوَجَدُوا مَلِكَ الرُّومِ قَدْ
فَعَلَ مَا فَعَلَ وَانْشَمَرَ إِلَى بِلَادِهِ رَاجِعًا، وَتَفَارَطَ الْحَالُ
وَلَمْ يُمْكِنِ الِاسْتِدْرَاكُ فِيهِ، وَرَجَعُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ
لِإِعْلَامِهِ بِمَا وَقَعَ مِنَ الْأَمْرِ، فَقَالَ لِلْأُمَرَاءِ: أَيُّ بِلَادِ
الرُّومِ أَمْنَعُ ؟ قَالُوا: عَمُّورِيَةُ لَمْ يَعْرِضْ لَهَا أَحَدٌ مُنْذُ
كَانَ الْإِسْلَامُ، وَهِيَ أَشْرَفُ عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
ذِكْرُ فَتْحِ عَمُّورِيَةَ عَلَى يَدِ الْمُعْتَصِمِ
لَمَّا تَفَرَّغَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ شَأْنِ بَابَكَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَتَلَهُ
وَأَخَذَ بِلَادَهُ، اسْتَدْعَى بِالْجُيُوشِ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ، وَتُجَهَّزَ
جِهَازًا لَمْ يَتَجَهَّزْهُ أَحَدٌ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَأَخَذَ
مَعَهُ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْأَحْمَالِ وَالْجِمَالِ وَالْقِرَبِ
وَالدَّوَابِّ وَالنِّفْطِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ شَيْئًا لَمْ يُسْمَعْ
بِمِثْلِهِ، وَسَارَ إِلَيْهَا، فِي جَحَافِلَ كَالْجِبَالِ، وَبَعَثَ
الْأَفْشِينُ خَيْذَرَ بْنَ كَاوَسَ مِنْ نَاحِيَةِ سَرُوجَ وَعَبَّأَ
الْخَلِيفَةُ جَيْشَهُ تَعْبِئَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَقَدَّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْأُمَرَاءَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْحَرْبِ، فَانْتَهَى فِي سَيْرِهِ
إِلَى نَهْرِ اللَّمِسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ طَرَسُوسَ وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ
الْمُبَارَكَةِ.
وَقَدْ رَكِبَ مَلِكُ الرُّومِ فِي جَيْشِهِ، فَقَصَدَ نَحْوَ الْمُعْتَصِمِ،
فَتَقَارَبَا حَتَّى كَانَ بَيْنَ الْجَيْشَيْنِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ
فَرَاسِخَ، وَدَخَلَ الْأَفْشِينُ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى،
فَجَاءَ مِنْ وَرَاءِ مَلِكِ الرُّومِ، فَحَارَ فِي أَمْرِهِ وَضَاقَ ذَرْعُهُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ؛ إِنْ هُوَ نَاجَزَ الْخَلِيفَةَ جَاءَهُ الْأَفْشِينُ مِنْ
خَلْفِهِ، فَالْتَقَيَا عَلَيْهِ فَيَهْلَكُ، وَإِنْ سَارَ إِلَى أَحَدِهِمَا،
وَتَرَكَ الْآخَرَ أَخَذَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنْهُ الْأَفْشِينُ
فَسَارَ إِلَيْهِ مَلِكُ الرُّومِ فِي شِرْذِمَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى بَقِيَّتِهِ قَرِيبًا لَهُ، فَالْتَقَى هُوَ وَالْأَفْشِينُ فِي يَوْمِ
الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَثَبَتَ
الْأَفْشِينُ فِي ثَانِي الْحَالِ، وَقَتَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقًا، وَجُرِحَ
آخَرِينَ، وَتَفَلَّتَ فِئَةُ مَلِكِ الرُّومِ، وَبَلَغَهُ أَنَّ بَقِيَّةَ
الْجَيْشِ قَدْ شَرَدُوا عَنْ قَرَابَتِهِ وَذَهَبُوا عَنْهُ وَتَفَرَّقُوا
عَلَيْهِ، فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ، فَإِذَا نِظَامُ الْجَيْشِ قَدِ انْحَلَّ،
فَغَضِبَ عَلَى قَرَابَتِهِ وَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ
كُلِّهِ إِلَى الْمُعْتَصِمِ، فَسَرَّهُ ذَلِكَ جِدًّا، فَرَكِبَ مِنْ
فَوْرِهِ وَجَاءَ إِلَى أَنْقِرَةَ وَوَافَاهُ الْأَفْشِينُ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى هُنَالِكَ، فَوَجَدُوا أَهْلَهَا قَدْ هَرَبُوا مِنْهَا وَتَفَرَّقُوا عَنْهَا فَتَقْوَّوْا مِنْهَا بِطَعَامٍ وَعُلُوفَةٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ فَرَّقَ الْمُعْتَصِمُ جَيْشَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ؛ فَالْمَيْمَنَةُ عَلَيْهَا الْأَفْشِينُ وَالْمَيْسَرَةُ عَلَيْهَا أَشْنَاسُ وَالْمُعْتَصِمُ فِي الْقَلْبِ، وَبَيْنَ كُلِّ عَسْكَرَيْنِ فَرْسَخَانِ، وَأَمَرَ كُلَّ أَمِيرٍ مِنَ الْأَفْشِينِ وَأَشْنَاسَ أَنْ يَجْعَلَ لِجَيْشِهِ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا وَمُقَدِّمَةً وَسَاقَةً، وَأَنَّهُمْ مَهْمَا مَرُّوا عَلَيْهِ مِنَ الْقُرَى حَرَّقُوا، وَخَرَّبُوا، وَأَسَرُوا، وَغَنِمُوا، وَسَارَ بِهِمْ كَذَلِكَ قَاصِدًا إِلَى عَمُّورِيَةَ وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْقِرَةَ سَبْعُ مَرَاحِلَ، فَأَوَّلُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهَا مِنَ الْجُيُوشِ أَشْنَاسُ أَمِيرُ الْمَيْسَرَةِ ضَحْوَةَ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى مِيلَيْنِ مِنْهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْمُعْتَصِمُ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَهُ، فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً، ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا، ثُمَّ قَدِمَ الْأَفْشِينُ يَوْمَ السَّبْتِ فَدَارَ حَوْلَهَا دَوْرَةً ثُمَّ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْهَا وَقَدْ تَحَصَّنَ أَهْلُهَا، وَمَلَئُوا أَبْرَاجَهَا بِالرِّجَالِ وَالسِّلَاحِ، وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا ذَاتُ سُورٍ مَنِيعٍ، وَأَبْرَاجٍ عَالِيَةٍ كَبِيرَةٍ، وَقَسَّمَ الْمُعْتَصِمُ الْأَبْرَاجَ عَلَى الْأُمَرَاءِ، فَنَزَلَ كُلُّ أَمِيرٍ تُجَاهَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَقْطَعُهُ، وَعَيَّنَهُ لَهُ، وَنَزَلَ الْمُعْتَصِمُ قُبَالَهُ بِمَكَانٍ هُنَاكَ قَدْ أَرْشَدَهُ إِلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأُسَرَاءِ، وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ عِنْدَهُمْ، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُسْلِمِينَ مَعَهُ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَخَرَجَ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَسْلَمَ وَأَعْلَمَهُ بِمَكَانٍ فِي السُّورِ كَانَ قَدْ هَدَمَهُ السَّيْلُ وَبُنِيَ بِنَاءً فَاسِدًا بِلَا أَسَاسٍ، فَنَصبَ الْمُعْتَصِمُ الْمَجَانِيقَ حَوْلَ عَمُّورِيَةَ فَكَانَ أَوَّلُ مَوْضِعٍ انْهَدَمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَصَحَ فِيهِ ذَلِكَ الْأَسِيرُ، فَبَادَرَ أَهْلُ الْبَلَدِ، فَسَدُّوهُ بِالْخَشَبِ الْكِبَارِ الْمُتَلَاصِقَةِ، فَأَلَحَّ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقُ فَكَسَرَهَا فَجَعَلُوا فَوْقَهَا الْبَرَادِعُ؛ لِيَرُدُّوا حِدَّةَ الْحَجَرِ، فَلَمَّا أَلَحَّ عَلَيْهَا الْمَنْجَنِيقُ لَمْ تُغْنِ شَيْئًا، وَانْهَدَمَ السُّورُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ، وَتَفَسَّخَ، فَكَتَبَ نَائِبُ الْبَلَدِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَبَعَثَ ذَلِكَ مَعَ غُلَامَيْنِ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَلَمَّا اجْتَازُوا بِالْجَيْشِ فِي طَرِيقِهِمْ أَنْكَرُوا أَمْرَهُمَا، فَسَأَلُوهُمَا مِمَّنْ أَنْتُمَا ؟ فَقَالَا: مِنْ أَصْحَابِ فُلَانٍ، لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَحُمِلَا إِلَى الْمُعْتَصِمِ فَقَرَّرَهُمَا، فَإِذَا مَعَهُمَا كِتَابُ يَاطَسَ نَائِبِ عَمُّورِيَةَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يُعْلِمُهُ بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْحِصَارِ، وَأَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ أَبْوَابِ الْبَلَدِ بِمَنْ مَعَهُ بَغْتَةً فَيُنَاجِزُ الْمُسْلِمِينَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا
كَانَ. فَلَمَّا وَقَفَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ بِالْغُلَامَيْنِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَأَنْ يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُرَّةٍ، فَأَسْلَمَا مِنْ فَوْرِهِمَا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُطَافَ بِهِمَا حَوْلَ الْبَلَدِ، وَعَلَيْهِمَا الْخُلَعُ، وَأَنْ يُوقَفَا تَحْتَ الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ يَاطَسُ، فَيُنْثَرَ عَلَيْهِمَا الدَّرَاهِمُ وَالْخُلَعُ، وَمَعَهُمَا الْكِتَابُ الَّذِي كَتَبَ بِهِ يَاطَسُ مَعَهُمَا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَجَعَلَتْ الرُّومُ تَلْعَنُهُمَا وَتَسُبُّهُمَا. ثُمَّ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ عِنْدَ ذَلِكَ بِتَجْدِيدِ الْحَرَسِ وَالِاحْتِفَاظِ فِيهِ مِنْ خُرُوجِ الرُّومِ بَغْتَةً، فَضَاقَتْ الرُّومُ ذَرْعًا بِذَلِكَ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْحِصَارِ، وَقَدْ أَعَدَّ الْمُعْتَصِمُ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ الْكَثِيرَةَ وَالدَّبَّابَاتِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُعْتَصِمُ عُمْقَ خَنْدَقِهَا، وَارْتِفَاعَ سُورِهَا عَمِلَ الْمَجَانِيقَ فِي مُقَاوَمَةِ سُورِهَا، وَكَانَ قَدْ غَنِمَ فِي الطَّرِيقِ غَنَمًا كَثِيرًا جِدًّا فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ، وَقَالَ: لِيَأْكُلِ الرَّجُلُ الرَّأْسَ، وَلْيَجِىءْ بِمِلْءِ جِلْدِهِ تُرَابًا فَيَطْرَحُهُ فِي الْخَنْدَقِ. فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَتَسَاوَى الْخَنْدَقُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ مَا طُرِحَ فِيهِ مِنَ الْأَغْنَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالتُّرَابِ، فَوُضِعَ فَوْقَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ طَرِيقًا مُمَهَّدًا، وَأَمَرَ بِالدَّبَّابَاتِ أَنْ تُوضَعَ فَوْقَهُ، فَلَمْ يُحْوِجِ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَيْنَمَا النَّاسُ فِي الْحَرَسِ إِذْ هَدَمَ الْمَنْجَنِيقُ ذَلِكَ
الْمَوْضِعَ
الْمَعِيبَ مِنَ السُّورِ، فَلَمَّا سَقَطَ مَا بَيْنَ الْبُرْجَيْنِ سَمِعَ
النَّاسُ هَدَّةً عَظِيمَةً، فَظَنَّهَا مَنْ لَمْ يَرَهَا أَنَّ الرُّومَ قَدْ
خَرَجُوا عَلَى النَّاسِ بَغْتَةً، فَبَعَثَ الْمُعْتَصِمُ مَنْ يُنَادِي فِي
النَّاسِ: إِنَّمَا ذَلِكَ سُقُوطُ السُّورِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ
فَرَحًا شَدِيدًا لَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَّسِعُ أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ الْجَيْشُ
لِضِيقِهِ عَنْهُمْ، فَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِالْمَجَانِيقِ الْمُتَفَرِّقَةِ
فَجُمِعَتْ هُنَالِكَ وَنُصِبَتْ حَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ،
لِيُضْرَبَ بِهَا مَا حَوْلَهُ لِيَتَّسِعَ لِدُخُولِ الْخَيْلِ وَالرِّجَالِ.
وَقَوِيَ الْحِصَارُ هُنَالِكَ جِدًّا، وَقَدْ وَكَّلَتِ الرُّومُ لِكُلِّ بُرْجٍ
مِنْ أَبْرَاجِ السُّورِ أَمِيرًا يَحْفَظُهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمِيرَ
الَّذِي انْهَدَمَ مَا عِنْدَهُ مِنَ السُّورِ ضَعُفَ عَنْ مُقَاوَمَةِ مَا
يَلْقَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَذَهَبَ إِلَى يَاطَسَ، فَسَأَلَهُ النَّجْدَةَ،
فَامْتَنَعَ أَحَدٌ مِنَ الرُّومِ أَنْ يُنْجِدَهُ، وَقَالُوا: لَا نَتْرُكُ مَا
نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ حِفْظِ أَمَاكِنِنَا الَّتِي عُيِّنَتْ لَنَا.
فَلَمَّا يَئِسَ مِنْهُمْ خَرَجَ إِلَى الْمُعْتَصِمِ لِيَجْتَمِعَ بِهِ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهِ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ
مِنْ تِلْكَ الثَّغْرَةِ الَّتِي قَدِ انْهَدَمَتْ وَخَلَتْ مِنْ
الْمُقَاتِلَةِ، فَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ نَحْوَهَا، فَجَعَلَتِ الرُّومُ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ لَا تَحْيَوْا، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى دِفَاعِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ تَكَاثَرُوا عَلَيْهِمْ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ قَهْرًا وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهَا يُكَبِّرُونَ، وَتَفَرَّقَتِ الرُّومُ عَنْ أَمَاكِنِهَا، فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَيْثُ وَجَدُوهُمْ وَأَيْنَ ثَقِفُوهُمْ، وَقَدْ حَصَرُوهُمْ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ هَائِلَةٍ، فَفَتَحُوهَا قَسْرًا وَقَتَلُوا مَنْ فِيهَا قَهْرًا، وَأَحْرَقُوا عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَنِيسَةِ فَأُحْرِقُوا عَنْ آخِرِهِمْ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهَا مَوْضِعٌ مُحَصَّنٌ سِوَى الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ النَّائِبُ وَهُوَ يَاطَسُ، فِي حِصْنٍ مَنِيعٍ، فَرَكِبَ الْمُعْتَصِمُ فَرَسَهُ وَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ بِحِذَاءِ الْحِصْنِ الَّذِي فِيهِ يَاطَسُ، فَنَادَاهُ الْمُنَادِي: وَيْحَكَ يَا يَاطَسُ، هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَاقِفٌ تُجَاهَكَ. فَقَالَ: لَيْسَ يَاطَسُ هَاهُنَا. مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَ الْمُعْتَصِمُ مِنْ ذَلِكَ وَوَلَّى، فَنَادَى يَاطَسُ: هَذَا يَاطَسُ، هَذَا يَاطَسُ. فَرَجَعَ الْخَلِيفَةُ وَنَصَبَ السَّلَالِمَ عَلَى الْحِصْنِ، وَطَلَعَتِ الرُّسُلُ إِلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ: وَيْحَكَ، انْزِلْ عَلَى حُكْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. فَتَمَنَّعَ، ثُمَّ نَزَلَ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا، فَوَضَعَ السَّيْفَ مِنْ
عُنُقِهِ، ثُمَّ
جِيءَ بِهِ حَتَّى أُوْقِفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعْتَصِمِ، فَضَرَبَهُ بِالسَّوْطِ
عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يَمْشِيَ إِلَى مَضْرِبِ الْخَلِيفَةِ،
فَمَشَى مُهَانًا إِلَى الْوِطَاقِ الَّذِي فِيهِ الْخَلِيفَةُ نَازِلٌ، فَأُوثِقَ
هُنَاكَ، وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَمُّورِيَةَ أَمْوَالًا عَظِيمَةً
وَغَنَائِمَ لَا تُحَدُّ وَلَا تُوَصَفُ، فَحَمَلُوا مَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ،
وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِإِحْرَاقِ مَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ، وَبِإِحْرَاقِ مَا
هُنَالِكَ مِنَ الْمَجَانِيقِ وَالدَّبَّابَاتِ وَآلَاتِ الْحَرْبِ؛ لِئَلَّا
يَتَقَوَّى بِهَا الرُّومُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْصَرَفَ
رَاجِعًا عَنْهَا إِلَى نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ فِي أَوَاخِرِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُ عَلَى عَمُّورِيَةَ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ
يَوْمًا.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ
كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ مَعَ عَمِّهِ الْمُعْتَصِمِ فِي غَزَاةِ
عَمُّورِيَةَ وَكَانَ عُجَيْفُ بْنُ عَنْبَسَةَ قَدْ نَدَّمَهُ إِذْ لَمْ يَأْخُذِ
الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِيهِ الْمَأْمُونِ حِينَ مَاتَ بِطَرَسُوسَ، وَلَامَهُ
عَلَى مُبَايَعَتِهِ عَمَّهُ الْمُعْتَصِمَ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَجَابَهُ
إِلَى الْفَتْكِ بِعَمِّهِ الْمُعْتَصِمِ، وَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنَ الْأُمَرَاءِ
لَهُ، وَجَهَّزَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، وَكَانَ
نَدِيمًا لِلْعَبَّاسِ، فَأَخَذَ لَهُ الْبَيْعَةَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ فِي الْبَاطِنِ، وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ
يَلِي مَتَى مَا فَتَكَ بِعَمِّهِ، فَلْيَقْتُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ
يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِ الْمُعْتَصِمِ؛ كَالْأَفْشِينِ
وَأَشْنَاسَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْكِبَارِ، فَلَمَّا كَانُوا بِدَرْبِ الرُّومِ
وَهُمْ قَاصِدُونَ إِلَى أَنْقِرَةَ وَمِنْهَا إِلَى عَمُّورِيَةَ أَشَارَ
عُجَيْفٌ
عَلَى الْعَبَّاسِ أَنْ يَقْتُلَ عَمَّهُ فِي هَذَا الْمَضِيقِ، وَيَأْخُذَ لَهُ الْبَيْعَةَ، وَيَرْجِعَ إِلَى بَغْدَادَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُعَطِّلَ عَلَى النَّاسِ هَذِهِ الْغَزْوَةَ. فَلَمَّا فَتَحُوا عَمُّورِيَةَ وَاشْتَغَلَ النَّاسُ بِالْمَغَانِمِ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْتِكَ، فَوَعَدَهُ مَضِيقَ الدَّرْبِ إِذَا رَجَعُوا، فَلَمَّا رَجَعُوا فَطِنَ الْمُعْتَصِمُ بِالْخَبَرِ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِفَاظِ وَقُوَّةِ الْحَرَسِ، وَأَخَذَ بِالْحَزْمِ وَاجْتَهَدَ فِي الْعَزْمِ، وَاسْتَدْعَى بِالْحَارِثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، فَاسْتَقَرَّهُ فَأَقَرَّ لَهُ بِجَلِيَّةِ الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ أَخَذَ الْبَيْعَةَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ أَسْمَاهُمْ لَهُ، فَاسْتَكْثَرَهُمُ الْمُعْتَصِمُ، وَاسْتَدْعَى بِابْنِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْمَأْمُونِ فَقَيَّدَهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَهَانَهُ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَعَفَا عَنْهُ، فَأَرْسَلَهُ مِنَ الْقَيْدِ وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ اسْتَدْعَاهُ إِلَى حَضْرَتِهِ فِي مَجْلِسِ شَرَابِهِ، وَاسْتَخْلَاهُ حَتَّى سَقَاهُ وَاسْتَحْكَاهُ عَنِ الَّذِي كَانَ قَدْ دَبَّرَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَشَرَحَ لَهُ الْقَضِيَّةَ وَأَنْهَى لَهُ الْقِصَّةَ، فَإِذَا الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَ الْحَارِثُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ اسْتَدْعَى بِالْحَارِثِ، فَأَخْلَاهُ وَسَأَلَهُ عَنِ الْقَضِيَّةِ ثَانِيًا، فَذَكَرَهَا لَهُ كَمَا ذَكَرَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، إِنِّي كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ أَجِدْ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا بِصِدْقِكَ إِيَّايَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ حِينَئِذٍ بِابْنِ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ، فَقُيِّدَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْأَفْشِينِ وَأَمَرَ بِعُجَيْفٍ وَبَقِيَّةِ مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَاحْتِيطَ عَلَيْهِمْ وَأُحِيطَ بِهِمْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي أَنْوَاعِ النِّقْمَاتِ يَقْتَرِحُهَا لَهُمْ، فَقَتَلَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ الْقِتْلَاتِ، وَمَاتَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمَأْمُونِ بِمَنْبِجَ فَدُفِنَ هُنَاكَ، وَكَانَ سَبَبَ
مَوْتِهِ أَنَّهُ
جَاعَ جُوعًا شَدِيدًا، ثُمَّ جِيءَ بِأَكْلٍ كَثِيرٍ، فَأَكَلَ وَطَلَبَ
الْمَاءَ، فَمُنِعَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ، وَأَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بِلَعْنِهِ عَلَى
الْمَنَابِرِ، وَسَمَّاهُ اللَّعِينَ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ وَلَدِ
الْمَأْمُونِ أَيْضًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، وَفُتِحَتْ
فِيهَا عَمُّورِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَابَكُ الْخُرَّمِيُّ قُتِلَ وَصُلِبَ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا.
وَخَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، كَاتِبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ
وَمُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوَقِيُّ، وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ آمُلِ طَبَرِسْتَانَ يُقَالُ لَهُ: مَازَيَارُ بْنُ
قَارَنَ بْنِ وِنْدَاهُرْمُزَ، وَكَانَ لَا يَرْضَى أَنْ يَدْفَعَ الْخَرَاجَ
إِلَى نَائِبِ خُرَاسَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، بَلْ
يَبْعَثُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ لِيَقْبِضَهُ مِنْهُ، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ مَنْ
يَتَلَقَّى الْحِمْلَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ فَيَقْبِضُهُ مِنْهُ ثُمَّ يَدْفَعُهُ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ثُمَّ تَوَثَّبَ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ،
وَأَظْهَرَ الْمُخَالَفَةَ لِلْمُعْتَصِمِ. وَقَدْ كَانَ الْمَازَيَارُ هَذَا
مِمَّنْ يُكَاتِبُ بَابَكَ الْخُرَّمِيَّ وَيَعِدُهُ بِالنَّصْرِ. وَيُقَالُ:
إِنَّ الَّذِي قَوَّى رَأْسَ الْمَازَيَارِ هُوَ الْأَفْشِينُ؛ لِيُعْجِزَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ فَيُوَلِّيهِ الْمُعْتَصِمُ بِلَادَ خُرَاسَانَ مَكَانَهُ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ أَخَا
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
طَوِيلَةٌ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَكَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ أُسِرَ
الْمَازَيَارُ وَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَاسْتَقَرَّهُ عَنِ
الْكُتُبِ الَّتِي بَعَثَهَا
إِلَيْهِ
الْأَفْشِينُ فَأَقَرَّ بِهَا، فَأَرْسَلَهُ نَحْوَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَعَهُ مِنْ أَمْوَالِهِ الَّتِي اصْطُفِيَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ مِنَ
الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ وَالثِّيَابِ، فَلَمَّا أُوْقِفَ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ سَأَلَهُ عَنْ كُتُبِ الْأَفْشِينِ إِلَيْهِ فَأَنْكَرَهَا فَأَمَرَ
بِهِ، فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ حَتَّى مَاتَ وَصُلِبَ إِلَى جَانِبِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ عَلَى جِسْرِ بَغْدَادَ وَقُتِلَ عُيُونُ أَصْحَابِهِ
وَأَتْبَاعِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَزَوَّجَ الْحَسَنُ بْنُ الْأَفْشِينِ بِأُتْرُجَّةَ
بِنْتِ أَشْنَاسَ، وَدَخَلَ بِهَا فِي قَصْرِ الْمُعْتَصِمِ بِسَامَرَّا فِي
جُمَادَى، وَكَانَ عُرْسًا عَظِيمًا، وَلِيَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُعْتَصِمُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُخَضِّبُونَ لِحَى
الْعَامَّةِ بِالْغَالِيَةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ مَنْكَجُورُ الْأُشْرُوسَنِيُّ قُرَابَةَ الْأَفْشِينِ بِأَرْضِ
أَذْرَبِيجَانَ وَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ قَدِ
اسْتَنَابَهُ عَلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ حِينَ فَرَغَ مِنْ أَمْرِ بَابَكَ،
فَظَفِرَ مَنْكَجُورُ بِمَالٍ عَظِيمٍ مَخْزُونٍ لِبَابَكَ فِي بَعْضِ
الْبُلْدَانِ، فَاحْتَجَبَهُ لِنَفْسِهِ وَأَخْفَاهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ وَظَهَرَ
عَلَى ذَلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَكَاتَبَ الْخَلِيفَةَ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ مَنْكَجُورُ
يُكَذِّبُهُ فِي
ذَلِكَ، وَهَمَّ بِهِ لِيَقْتُلَهُ فَامْتَنَعَ مِنْهُ بِأَهْلِ أَرْدَبِيلَ
فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْخَلِيفَةُ كَذِبَ مَنْكَجُورَ بَعَثَ إِلَيْهِ بُغَا
الْكَبِيرَ فَحَارَبَهُ وَأَخَذَهُ بِالْأَمَانِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى
الْخَلِيفَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ يَاطَسُ الرُّومِيُّ الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى
عَمُّورِيَةَ حِينَ فَتَحَهَا الْمُعْتَصِمُ وَنَزَلَ مِنْ حِصْنِهِ عَلَى حُكْمِ
الْمُعْتَصِمِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ أَسِيرًا، فَاعْتَقَلَهُ بِسَامَرَّا حَتَّى
تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ بْنِ
الْمَنْصُورِ، عَمُّ الْمُعْتَصِمِ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ شَكْلَةَ، وَقَدْ كَانَ
أَسْوَدَ اللَّوْنِ، ضَخْمًا فَصِيحًا فَاضِلًا، قَالَ ابْنُ مَاكُولَا: وَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: التِّنِّينُ يَعْنِي لِسَوَادِهِ وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، وَذَكَرَ أَنَّهُ وَلِيَ إِمْرَةَ
دِمَشْقَ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ الرَّشِيدِ مُدَّةَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ عُزِلَ
عَنْهَا، ثُمَّ أُعِيدَ إِلَيْهَا الثَّانِيَةَ، وَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعَ
سِنِينَ، وَذَكَرَ مِنْ عَدْلِهِ وَصَرَامَتِهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَأَنَّهُ
أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
دِمَشْقَ وَكَانَ قَدْ بَايَعَهُ أَهْلُ بَغْدَادَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ
الْمَأْمُونِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَمِائَتَيْنِ
كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ قَاتَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ نَائِبُ بَغْدَادَ
فَهَزَمَهُ إِبْرَاهِيمُ فَقَصَدَهُ حُمَيْدٌ الطُّوسِيُّ فَهَزَمَ إِبْرَاهِيمَ،
وَاخْتَفَى إِبْرَاهِيمُ بِبَغْدَادَ حِينَ قَدِمَهَا الْمَأْمُونُ مُدَّةً
طَوِيلَةً، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ الْمَأْمُونُ سَنَةَ عَشْرٍ، فَعَفَا عَنْهُ
وَأَكْرَمَهُ وَاسْتَمَرَّ بِهِ فِي مَنْزِلَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ
ذَلِكَ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ عَلَى بَغْدَادَ وَمُعَامَلَتِهَا سَنَةً وَأَحَدَ
عَشَرَ شَهْرًا وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ بَدْءُ اخْتِفَائِهِ فِي
أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ
اخْتِفَائِهِ سِتَّ سِنِينَ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَكَانَ الظَّفَرُ
بِهِ فِي ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ،
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ فِي اخْتِفَائِهِ هَذَا أُمُورٌ عَجِيبَةٌ يَطُولُ بَسْطُهَا.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ
وَافِرَ الْفَضْلِ، غَزِيرَ الْأَدَبِ، وَاسِعَ النَّفْسِ، سَخِيَّ الْكَفِّ،
وَكَانَ مَعْرُوفَا بِصِنْعَةِ الْغِنَاءِ، حَاذِقًا بِهَا، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ
أَنَّهُ قَلَّ الْمَالُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فِي أَيَّامِ
خِلَافَتِهِ بِبَغْدَادَ فَأَلَحَّ الْأَعْرَابُ عَلَيْهِ فِي أُعْطِيَاتِهِمْ،
فَجَعَلَ يُسَوِّفُ بِهِمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُهُ يَقُولُ: إِنَّهُ لَا
مَالَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلْيَخْرُجِ الْخَلِيفَةُ
إِلَيْنَا، فَلْيُغَنِّ لِأَهْلِ هَذَا الْجَانِبِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ،
وَلِلْجَانِبِ الْآخَرِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ دِعْبِلُ بْنُ
عَلِيٍّ شَاعِرُ الْمَأْمُونِ يَذُمُّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ فِي ذَلِكَ:
يَا مَعْشَرَ
الْأَعْرَابِ لَا تَقْنَطُوا خُذُوا عَطَايَاكُمْ وَلَا تَسْخَطُوا فَسَوْفَ
يُعْطِيكُمْ حُنَيْنِيَّةً
لَا تَدْخُلُ الْكِيسَ وَلَا تُرْبَطُ وَالْمَعْبَدِيَّاتُ لِقُوَّادِكُمْ
وَمَا بِهَذَا أَحَدٌ يُغْبَطُ فَهَكَذَا يَرْزُقُ أَصْحَابَهُ
خَلِيفَةٌ مُصْحَفُهُ الْبَرْبَطُ
وَكَتَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ الْمَأْمُونِ حِينَ
طَالَ عَلَيْهِ الِاخْتِفَاءُ: وَلِيُّ الثَّأْرِ مُحَكَّمٌ فِي الْقِصَاصِ،
وَالْعَفْوُ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
فَوْقَ كُلِّ ذِي عَفْوٍ، كَمَا جَعَلَ كُلَّ ذِي ذَنْبٍ دُونَهُ فَإِنْ عَفَا
فَبِفَضْلِهِ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِحَقِّهِ.
فَوَقَّعَ الْمَأْمُونُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: الْقُدْرَةُ تُذْهِبُ الْحَفِيظَةَ،
وَكَفَى بِالنَّدَمِ إِنَابَةً، وَعَفْوُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
وَلَمَّا دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ أَنْشَأَ يَقُولُ:
إِنْ أَكُنْ مُذْنِبًا فَحَظِّيَ أَخْطَأْ تُ فَدَعْ عَنْكَ كَثْرَةَ التَّأْنِيبْ
قُلْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِبَنِي يعَ قُوبَ لَمَّا أَتَوْهُ لَا تَثْرِيبْ
فَقَالَ الْمَأْمُونُ: لَا تَثْرِيبَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمَهْدِيِّ لَمَّا
وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَأْمُونِ
شَرَعَ يُؤَنِّبُهُ
عَلَى مَا فَعَلَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، حَضَرْتَ أَبِي وَهُوَ
جَدُّكَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ ذَنْبُهُ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِي، فَأَمَرَ
بِقَتْلِهِ، فَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ
رَأَيْتَ أَنْ تُؤَخِّرَ قَتْلَ هَذَا الرَّجُلِ حَتَّى أُحَدِّثَكَ حَدِيثًا.
فَقَالَ: قُلْ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا
كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: أَلَا
لِيَقُمِ الْعَافُونَ مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى أَكْرَمِ الْجَزَاءِ، فَلَا يَقُومُ
إِلَّا مَنْ عَفَا فَقَالَ الْمَأْمُونُ: قَدْ قَبِلْتُ هَذَا الْحَدِيثَ
بِقَبُولِهِ، وَعَفَوْتُ عَنْكَ يَا عَمِّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَمِائَتَيْنِ زِيَادَةً عَلَى هَذَا. وَقَدْ كَانَتْ أَشْعَارُهُ جَيِّدَةً
بَلِيغَةً، سَامَحَهُ اللَّهُ، وَقَدْ سَاقَ مِنْ ذَلِكَ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " أَشْيَاءَ حَسَنَةً كَثِيرَةً.
كَانَ مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ هَذَا فِي مُسْتَهَلِّ ذِي
الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ
سَنَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا: سَعِيدُ
بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمِصْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو مَعْمَرٍ
الْمُقْعَدُ.
وَعَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ الْأَخْبَارِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ فِي
زَمَانِهِ، وَعَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ تَزَوَّجَ
هَذَا الرَّجُلَ أَلْفَ امْرَأَةٍ.
وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ
اللُّغَةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ
النَّاسِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ الْمُنْتَشِرَةُ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ كَتَبَ كِتَابَهُ فِي
الْغَرِيبِ بِيَدِهِ. وَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ
رَتَّبَ لَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَأَجْرَاهَا عَلَى
ذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ ابْنَ طَاهِرٍ اسْتَحْسَنَهُ، وَقَالَ: مَا
يَنْبَغِي لِعَقْلٍ بَعَثَ صَاحِبَهُ عَلَى تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ
يُحْوَجَ صَاحِبُهُ إِلَى طَلَبِ الْمَعَاشِ. وَأَجْرَى لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ
دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ الْمِسْعَرِيُّ:
سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدٍ يَقُولُ: مَكَثْتُ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ
أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَقَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الرَّقِّيُّ: مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ؛
بِالشَّافِعِيِّ
تَفَقَّهَ فِي الْحَدِيثِ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَبَتَ فِي الْمِحْنَةِ،
وَبِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ نَفَى الْكَذِبَ عَنِ الْحَدِيثِ، وَبِأَبِي عُبَيْدٍ،
فَسَّرَ غَرِيبَ الْحَدِيثِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَحَمَ النَّاسُ فِي
الْخَطَأِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِطَرَسُوسَ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَذَكَرَ لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي
الْعِبَادَةِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَقَدْ رَوَى الْعَرَبِيَّةَ عَلَى أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ
وَأَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى، وَابْنِ الْأَعْرَابِيِّ، وَالْفَرَّاءِ،
وَالْكِسَائِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: نَحْنُ نَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَهُوَ لَا
يَحْتَاجُ إِلَيْنَا.
وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ النَّاسُ مِنْهُ مِنْ تَصَانِيفِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كَانَ كَأَنَّهُ جَبَلٌ نُفِخَ فِيهِ رُوحٌ
يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي: كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاضِلًا دَيِّنًا
رَبَّانِيًّا عَالِمًا
مُتَفَنِّنًا فِي
أَصْنَافِ عُلُومِ الْإِسْلَامِ؛ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ وَالْعَرَبِيَّةِ
وَالْأَخْبَارِ، حَسَنَ الرِّوَايَةِ، صَحِيحَ النَّقْلِ، لَا أَعْلَمُ أَحَدًا
طَعَنَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَكُتُبِهِ.
وَلَهُ كِتَابُ " الْأَمْوَالِ "، وَكِتَابُ " فَضَائِلِ
الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنْتَفَعِ
بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي
قَبْلَهَا بِمَكَّةَ، وَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: جَاوَزَ السَّبْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو الْجَمَاهِرِ الدِّمَشْقِيُّ الْكَفْرَسُوسِيُّ،
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ
السَّدُوسِيُّ، الْمُلَقَّبُ بِعَارِمٍ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الْجُرْجُسِيُّ
الْحِمْصِيُّ، شَيْخُهَا فِي زَمَانِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ بُغَا الْكَبِيرُ وَمَعَهُ مَنْكَجُورُ، قَدْ أَعْطَى الطَّاعَةَ
بِالْأَمَانِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُعْتَصِمُ جَعْفَرَ بْنَ دِينَارٍ عَنْ نِيَابَةِ الْيَمَنِ،
وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَوَلَّى الْيَمَنَ إِيتَاخَ.
وَفِيهَا وَجَّهَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ بِالْمَازَيَارِ، فَدَخَلَ
بَغْدَادَ عَلَى بَغْلٍ بِإِكَافٍ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ،
فَضَرَبَهُ الْمُعْتَصِمُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَوْطًا
ثُمَّ سُقِيَ الْمَاءَ حَتَّى مَاتَ، وَأَمَرَ بِصَلْبِهِ إِلَى جَنْبِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيَّ وَأَقَرَّ فِي ضَرْبِهِ أَنَّ الْأَفْشِينَ كَانَ يُكَاتِبُهُ
وَيُحَسِّنُ لَهُ خَلْعَ الطَّاعَةِ، فَغَضِبَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى الْأَفْشِينِ
وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَبُنِيَ لَهُ مَكَانٌ كَالْمَنَارَةِ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ يُسَمَّى الْكَوَّةَ، إِنَّمَا يَسَعُهُ فَقَطْ، وَذَلِكَ حِينَ
تَحَقَّقَ الْخَلِيفَةُ أَنَّهُ كَانَ يُرِيدُ مُخَالَفَتَهُ وَالْخُرُوجَ
عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ يَعْزِمُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بِلَادِ الْخَزَرِ
لِيَسْتَجِيشَ بِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَعَاجَلَهُ الْخَلِيفَةُ بِالْقَبْضِ
عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَعَقَدَ لَهُ الْمُعْتَصِمُ مَجْلِسًا فِيهِ
قَاضِيهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُوَادَ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَوَزِيرُهُ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ،
وَنَائِبُهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، فَاتُّهِمَ الْأَفْشِينُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ بِأَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى دِينِ أَجْدَادِهِ مِنَ الْفُرْسِ؛ مِنْهَا أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَتِنٍ، فَاعْتَذَرَ أَنَّهُ يَخَافُ أَلَمَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ: فَأَنْتَ تُطَاعِنُ بِالرِّمَاحِ فِي الْحُرُوبِ وَلَا تَخَافُ مِنْ طَعْنِهَا، وَتَخَافُ مِنْ قَطْعِ قُلْفَةٍ بِبَدَنِكَ ؟ ! وَمِنْهَا أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلَيْنِ إِمَامًا وَمُؤَذِّنًا، كُلَّ وَاحِدٍ أَلْفَ سَوْطٍ؛ لِأَنَّهُمَا هَدَمَا بَيْتَ أَصْنَامٍ فَاتَّخَذَاهُ مَسْجِدًا، وَأَنَّهُ عِنْدَهُ كِتَابُ " كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ " وَفِيهِ الْكُفْرُ، وَهُوَ مُحَلَّى بِالْجَوَاهِرِ، وَالذَّهَبِ، فَاعْتَذَرَ أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ آبَائِهِ، وَاتُّهِمَ بِأَنَّ الْأَعَاجِمَ يُكَاتِبُونَهُ فَتَقُولُ: إِلَى إِلَهِ الْآلِهَةِ مِنْ عَبِيدِهِ، وَأَنَّهُ يُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ بِأَنَّهُ أَجْرَاهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يُكَاتِبُونَ بِهِ آبَاءَهُ وَأَجْدَادَهُ وَخَافَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِتَرْكِ ذَلِكَ فَيَتَّضِعَ عِنْدَهُمْ. فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: وَيْحَكَ، فَمَاذَا أَبْقَيْتَ لِفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ؟ وَأَنَّهُ كَانَ يُكَاتِبُ الْمَازَيَارَ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنِ الطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ فِي ضِيقٍ حَتَّى يَنْصُرَ دِينَ الْمَجُوسِ الَّذِي كَانَ قَدِيمًا، وَيُظْهِرَهُ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ وَالْمَغَارِبَةِ وَالْأَتْرَاكِ، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْتَطِيبُ الْمُنْخَنِقَةَ عَلَى الْمَذْبُوحَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ يَوْمِ أَرْبِعَاءَ يَسْتَدْعِي بِشَاةٍ سَوْدَاءَ، فَيَضْرِبُهَا بِالسَّيْفِ نِصْفَيْنِ، وَيَمْشِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ يَأْكُلُهُمَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُعْتَصِمُ بُغَا الْكَبِيرَ أَنْ يَسْجُنَهُ مُهَانًا ذَلِيلًا، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أَتَوَقَّعُ مِنْكُمْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ حَمَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ الْحَسَنَ بْنَ الْأَفْشِينِ
وَزَوْجَتَهُ أُتْرُجَّةَ بِنْتَ أَشْنَاسَ إِلَى سَامَرَّا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ.
وَسَعْدَوَيْهِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ الْبِيكَنْدِيُّ، شَيْخُ الْبُخَارِيِّ.
وَأَبُو عُمَرَ الْجَرْمِيُّ.
وَأَبُو عُمَرَ الْحَوْضِيُّ.
وَأَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ التَّمِيمِيُّ الْأَمِيرُ.
أَحَدُ الْأَجْوَادِ.
وَسَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ الْأَوْسَطُ الْبَلْخِيُّ
ثُمَّ الْبَصْرِيُّ
النَّحْوِيُّ.
أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ سِيبَوَيْهِ وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً؛ مِنْهَا كِتَابٌ
فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَكِتَابُ " الْأَوْسَطِ " فِي النَّحْوِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي الْعَرُوضِ زَادَ فِيهِ بَحْرَ الْخَبَبِ
عَلَى الْخَلِيلِ.
وَسُمِّيَ الْأَخْفَشُ لِصِغَرِ عَيْنَيْهِ وَضَعْفِ بَصَرِهِ، وَكَانَ أَيْضًا
أَجْلَعَ، وَهُوَ الَّذِي لَا تَنْضَمُّ شَفَتَاهُ عَلَى أَسْنَانِهِ، كَانَ أَوَّلًا
يُقَالُ لَهُ: الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ. بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخْفَشِ
الْكَبِيرِ أَبِي الْخَطَّابِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ
الْهَجَرِيِّ، شَيْخِ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلِيُّ
بْنُ سُلَيْمَانَ وَلُقِّبَ بِالْأَخْفَشِ أَيْضًا صَارَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ
هُوَ الْأَوْسَطُ، وَالْهَجَرِيُّ الْأَكْبَرُ، وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْأَصْغَرُ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
الْجَرْمِيُّ النَّحْوِيُّ
وَهُوَ صَالِحُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَنَاظَرَ بِهَا
الْفَرَّاءَ وَكَانَ قَدْ أَخَذَ
النَّحْوَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَصَنَّفَ كُتُبًا مِنْهَا: " الْفَرْخُ " يَعْنِي فَرْخَ " كِتَابِ سِيبَوَيْهِ " " وَكَانَ فَقِيهًا فَاضِلًا نَحْوِيًّا بَارِعًا عَالِمًا بِاللُّغَةِ حَافِظًا لَهَا، دَيِّنًا وَرِعًا، حَسَنَ الْمَذْهَبِ، صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ. قَالَهُ كُلَّهُ ابْنُ خِلِّكَانَ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُبَرِّدُ وَذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي " " تَارِيخِ أَصْبَهَانَ " ".
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْأَفْشِينُ فِي الْحَبْسِ، فَأَمَرَ بِهِ
الْمُعْتَصِمُ، فَصُلِبَ، ثُمَّ أُحْرِقَ، وَذُرِّيَ رَمَادُهُ فِي دِجْلَةَ،
وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، فَوَجَدُوا فِيهَا أَصْنَامًا
مُكَلَّلَةً بِذَهَبٍ وَجَوَاهِرَ، وَكُتُبًا فِي فَضْلِ دِينِ الْمَجُوسِ،
وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً كَانَ يُتَّهَمُ بِهَا، تَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِ
وَزَنْدَقَتِهِ، وَيَتَحَقَّقُ بِسَبَبِهَا مَا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الِانْتِمَاءِ
إِلَى دِينِ آبَائِهِ الْمَجُوسِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنْ سَادَاتِ الْمُحَدِّثِينَ:
إِسْحَاقُ الْفَرَوِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ،
وَسُنَيْدُ بْنُ
دَاوُدَ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ، وَغَسَّانُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَيَحْيَى بْنُ
يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، شَيْخُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ.
وَأَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ الْقَاسِمُ بْنُ عِيسَى بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ مَعْقِلِ
بْنِ عُمَيْرِ بْنِ شَيْخِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ خُزَاعِيِّ بْنِ عَبْدِ
الْعُزَّى بْنِ دُلَفِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عِجْلِ بْنِ
لُجَيْمٍ، الْأَمِيرُ أَبُو دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ أَحَدُ قُوَّادِ الْمَأْمُونِ
وَالْمُعْتَصِمِ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا
صَاحِبُ كِتَابِ " الْإِكْمَالِ ".
وَكَانَ الْقَاضِي جَلَالُ الدِّينِ الْقَزْوِينِيُّ خَطِيبُ دِمَشْقَ يَزْعُمُ
أَنَّهُ مِنْ سُلَالَتِهِ، وَيَذْكُرُ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو دُلَفٍ
هَذَا كِرِيمًا جَوَادًا مِعْطَاءً مُمَدَّحًا، قَدْ قَصَدَهُ الشُّعَرَاءُ مَنْ
كُلِّ أَوْبٍ، وَكَانَ أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَغْشَاهُ
وَيَسْتَمْنِحُ نَدَاهُ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ فِي الْأَدَبِ وَالْغِنَاءِ،
وَصَنَّفَ كُتُبًا؛ مِنْهَا
" سِيَاسَةُ
الْمُلُوكِ "، وَمِنْهَا فِي " الصَّيْدِ وَالْبُزَاةِ "، وَفِي
" السِّلَاحِ "، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِ
بَكْرُ بْنُ النَّطَّاحِ الشَّاعِرُ:
يَا طَالَبًا لِلْكِيمْيَاءِ وَعِلْمِهِ مَدْحُ ابْنُ عِيسَى الْكِيمْيَاءُ
الْأَعْظَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا دِرْهَمٌ
وَمَدَحْتَهُ لَأَتَاكَ ذَاكَ الدِّرْهَمُ
فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَعْطَاهُ عَلَى ذَلِكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. وَكَانَ
شُجَاعًا فَاتِكًا، وَمِعْطَاءً لَا يَمَلُّ مِنَ الْعَطَاءِ، وَكَانَ يَسْتَدِينُ
عَلَى ذِمَّتِهِ وَيُعْطِي، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ شَرَعَ فِي بِنَاءِ مَدِينَةِ
الْكَرَجِ، فَمَاتَ وَلَمْ يُتِمَّهَا، فَأَتَمَّهَا أَبُو دُلَفٍ هَذَا، وَكَانَ
فِيهِ تَشَيُّعٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُغَالِيًا فِي التَّشَيُّعِ،
فَهُوَ وَلَدُ زِنَا. فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ دُلَفٌ: لَسْتُ عَلَى مَذْهَبِكُ يَا
أَبَهْ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ وَطِئْتُ أُمَّكَ قَبْلَ أَنْ أَسْتَبْرِئَهَا،
فَهَذَا مِنْ ذَاكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّ وَلَدَهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ
بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ أَنَّ آتِيًا أَتَاهُ، فَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. قَالَ:
فَقُمْتُ مَعَهُ فَأَدْخَلَنِي دَارًا وَحْشَةً وَعْرَةً سَوْدَاءَ الْحِيطَانِ
مُقَلَّعَةَ السُّقُوفِ، وَالْأَبْوَابِ، وَأَصْعَدَنِي فِي دَرَجٍ مِنْهَا ثُمَّ
أَدْخَلَنِي غُرْفَةً فِي حِيطَانِهَا أَثَرُ النِّيرَانِ، وَفِي أَرْضِهَا أَثَرُ
الرَّمَادِ، وَإِذَا بِأَبِي فِيهَا وَهُوَ عُرْيَانٌ وَاضِعٌ رَأْسَهُ بَيْنَ
رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ لِي كَالْمُسْتَفْهِمِ: دُلَفٌ ؟ فَقُلْتُ: دُلَفٌ.
فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَبْلِغَنْ أَهْلَنَا وَلَا تُخْفِ عَنْهُمْ مَا لَقِينَا فِي الْبَرْزَخِ
الْخَنَّاقِ
قَدْ سُئِلْنَا عَنْ كُلِّ مَا قَدْ فَعَلْنَا فَارْحَمُوا وَحْشَتِي وَمَا قَدْ
أُلَاقِي
ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. ثُمَّ:
فَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا لَكَانَ الْمَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا وَنُسْأَلُ بَعْدَهُ عَنْ كُلِّ شَيِّ
ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. وَانْتَبَهْتُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْغَوْرِ بِالشَّامِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو
حَرْبٍ الْمُبَرْقَعُ الْيَمَانِيُّ. فَخَلَعَ الطَّاعَةَ، وَدَعَا إِلَى
نَفْسِهِ، وَكَانَ سَبَبَ خُرُوجِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْجُنْدِ أَرَادَ أَنْ
يَنْزِلَ فِي مَنْزِلِهِ وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ أَبِي حَرْبٍ، فَمَانَعَتْهُ
الْمَرْأَةُ، فَضَرَبَهَا الْجُنْدِيُّ فِي يَدِهَا فَأَثَّرَتِ الضَّرْبَةُ فِي
مِعْصَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ بَعْلُهَا أَبُو حَرْبٍ أَخْبَرَتْهُ، فَذَهَبَ إِلَى
الْجُنْدِيِّ وَهُوَ غَافِلٌ فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ تَحَصَّنَ فِي رُءُوسِ
الْجِبَالِ وَهُوَ مُبَرْقَعٌ، فَإِذَا جَاءَهُ أَحَدٌ دَعَاهُ إِلَى الْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَذُمُّ مِنَ السُّلْطَانِ،
فَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْحَرَّاثِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالُوا: هَذَا
هُوَ السُّفْيَانِيُّ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ يَمْلِكُ الشَّامَ. وَاسْتَفْحَلَ
أَمْرُهُ جِدًّا، وَاتَّبَعَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَنَفَّذَ
إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَصِمُ وَهُوَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ جَيْشًا نَحْوًا
مِنْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْأَمِيرُ وَجَدَ أُمَّةً كَثِيرَةً قَدِ
اجْتَمَعُوا حَوْلَهُ فَخَشِيَ أَنْ يُنَاجِزَهُ،
وَالْحَالَةُ
هَذِهِ فَانْتَظَرَ حَتَّى جَاءَ وَقْتُ حَرْثِ الْأَرَاضِي، فَتَصَرَّمَ عَنْهُ
النَّاسُ إِلَى أَرَاضِيهِمْ، وَبَقِيَ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَنَاهَضَهُ، فَأَسَرَهُ جَيْشُ الْخَلِيفَةِ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ
أَصْحَابُهُ، وَحَمَلَهُ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ وَهُوَ رَجَاءُ بْنُ أَيُّوبَ
حَتَّى قَدِمَ بِهِ عَلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَامَهُ الْمُعْتَصِمُ فِي تَأَخُّرِهِ
عَنْ مُنَاجَزَتِهِ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الشَّامَ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ
مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فَلَمْ يَزَلْ يُطَاوِلُهُ حَتَّى أَمْكَنَ
اللَّهُ مِنْهُ. فَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ ذَكَرَ قِصَّتَهُ مَبْسُوطَةً
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنَ الْكُنَى.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْمُعْتَصِمِ
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَاعَتَيْنِ مَضَتَا مِنْهُ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي إِسْحَاقَ
مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بْنِ الْمَنْصُورِ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَصِمِ
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَبُو إِسْحَاقَ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَصِمُ ابْنُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونَ الرَّشِيدِ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدٍ بْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ
اللَّهِ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَبَّاسِ، يُقَالُ لَهُ: الْمُثَمَّنُ. لِوُجُوهٍ؛ مِنْهَا أَنَّهُ ثَامِنُ
وَلَدِ الْعَبَّاسِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ ثَامِنُ الْخُلَفَاءِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ،
وَمِنْهَا أَنَّهُ فَتَحَ ثَمَانِيَ فُتُوحَاتٍ؛ بِلَادَ بَابَكَ عَلَى يَدِ
الْأَفْشِينِ وَعَمُّورِيَةَ بِنَفْسِهِ، وَالزُّطَّ بِعُجَيْفٍ، وَبَحْرَ
الْبَصْرَةِ وَقَلْعَةَ الْأَجْرَافِ، وَأَعْرَابَ دِيَارِ رَبِيعَةَ،
وَالشَّارَكَ، وَفَتَحَ مِصْرَ بَعْدَ عِصْيَانِهَا، وَقَتَلَ ثَمَانِيَةَ
أَعْدَاءٍ: بَابَكَ، وَمَازَايَارَ، وَيَاطَسَ الرُّومِيَّ، وَالْأَفْشِينَ،
وَعُجَيْفًا، وَقَارَنَ، وَقَائِدَ الرَّافِضَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَقَامَ فِي
الْخِلَافَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ، وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: وَيَوْمَيْنِ. وَأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ فِي
شَعْبَانَ، وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّامِنُ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ وَلَهُ مِنْ
الْعُمُرِ
ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، وَمِنْهَا أَنَّهُ خَلَّفَ ثَمَانِيَةَ بَنِينَ
وَثَمَانِيَ بَنَاتٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ دَخَلَ بَغْدَادَ مِنَ الشَّامِ وَهُوَ
خَلِيفَةٌ فِي مُسْتَهَلِّ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، وَمِائَتَيْنِ
بَعْدَ اسْتِكْمَالِ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مِنَ السَّنَةِ، بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ
الْمَأْمُونِ بِطَرَسُوسَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ أُمِّيًّا لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ
أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ مَعَهُ إِلَى الْكُتَّابِ غُلَامٌ، فَمَاتَ الْغُلَامُ،
فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ الرَّشِيدُ: مَا فَعَلَ غُلَامُكَ ؟ قَالَ: مَاتَ
وَاسْتَرَاحَ مِنَ الْكُتَّابِ. فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ الرَّشِيدُ: وَقَدْ بَلَغَ
مِنْكَ كَرَاهَةُ الْكُتَّابِ إِلَى أَنْ تَجْعَلَ الْمَوْتَ رَاحَةً مِنْهُ ؟
وَاللَّهِ يَا بُنَيَّ لَا تَذْهَبُ إِلَى الْكُتَّابِ بَعْدَهَا. فَتَرَكُوهُ
فَكَانَ أُمِّيًّا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ يَكْتُبُ كِتَابَةً ضَعِيفَةً.
وَقَدْ أَسْنَدَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ آبَائِهِ
حَدِيثَيْنِ مُنْكَرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا فِي ذَمِّ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمَدْحِ بَنِي
الْعَبَّاسِ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَالثَّانِي فِي النَّهْيِ عَنِ الْحِجَامَةِ
يَوْمَ الْخَمِيسِ.
وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ عَنِ الْمُعْتَصِمِ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ كَتَبَ إِلَيْهِ
كِتَابًا يَتَهَدَّدُهُ فِيهِ،
فَقَالَ
لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ: قَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَسَمِعْتُ خِطَابَكَ،
وَالْجَوَابُ مَا تَرَى لَا مَا تَسْمَعُ، " وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ لِمَنْ
عُقْبَى الدَّارِ ".
قَالَ الْخَطِيبُ: غَزَا الْمُعْتَصِمُ بِلَادَ الرُّومِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَنْكَى نِكَايَةً عَظِيمَةً فِي الْعَدُوِّ،
وَنَصَبَ عَلَى عَمُّورِيَةَ الْمَجَانِيقَ، وَأَقَامَ عَلَيْهَا حَتَّى فَتَحَهَا
وَدَخَلَهَا فَقَتَلَ فِيهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَسَبَى مِثْلَهُمْ، وَكَانَ فِي
سَبْيِهِ سِتُّونَ بِطْرِيقًا، وَطَرَحَ النَّارَ فِي عَمُّورِيَةَ مِنْ سَائِرِ
نَوَاحِيهَا فَأَحْرَقَهَا وَجَاءَ بِبَابِهَا إِلَى الْعِرَاقِ وَهُوَ بَاقٍ
حَتَّى الْآنَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَحَدِ أَبْوَابِ دَارِ الْخِلَافَةِ مِمَّا يَلِي
الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ فِي الْقَصْرِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْقَاضِي، أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا
أَخْرَجَ الْمُعْتَصِمُ سَاعِدَهُ إِلَيَّ، وَقَالَ لِي: عَضَّ يَا أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ بِكُلِّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. فَأَقُولُ: إِنَّهُ لَا تَطِيبُ نَفْسِي
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَيَقُولُ: إِنَّهُ لَا يَضُرُّنِي. فَأَكْدُمُ
بِكُلِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي يَدِهِ.
قَالَ: وَمَرَّ يَوْمًا فِي خِلَافَةِ أَخِيهِ بِمُخَيَّمِ الْجُنْدِ، فَإِذَا
امْرَأَةٌ تَقُولُ: ابْنِي ابْنِي.
فَقَالَ لَهَا: مَا
شَأْنُكِ ؟ فَقَالَتْ: ابْنِي أَخَذَهُ صَاحِبُ هَذِهِ الْخَيْمَةِ. فَجَاءَ
إِلَيْهِ الْمُعْتَصِمُ، فَقَالَ لَهُ: أَطْلِقْ هَذَا الصَّبِيَّ. فَامْتَنَعَ
عَلَيْهِ، فَقَبَضَ عَلَى جَسَدِهِ بِيَدِهِ، فَسُمِعَ صَوْتُ عِظَامِهِ مِنْ
تَحْتِ يَدِهِ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِ
الصَّبِيِّ إِلَى أُمِّهِ
وَلَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ شَهْمًا فِي أَيَّامِهِ وَلَهُ هِمَّةٌ
عَالِيَةٌ، وَمَهَابَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا كَانَتْ هِمَّتُهُ
فِي الْحَرْبِ، لَا فِي الْبِنَاءِ، وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: تَصَدَّقَ الْمُعْتَصِمُ عَلَى
يَدَيَّ، وَوَهَبَ مَا قَيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كَانَ الْمُعْتَصِمُ إِذَا غَضِبَ لَا يُبَالِي مَنْ قَتَلَ وَلَا مَا
فَعَلَ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيُّ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى
الْمُعْتَصِمِ وَعِنْدَهُ قَيْنَةٌ لَهُ تُغَنِّيهِ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ تَرَاهَا
؟ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَاهَا تَقْهَرُهُ بِحِذْقٍ،
وَتَخْتُلُهُ بِرِفْقٍ، وَلَا تَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا إِلَى أَحْسَنَ مِنْهُ،
وَفِي صَوْتِهَا
قِطَعُ شُذُورٍ أَحْسَنُ مِنْ نَظْمِ الدُّرِّ عَلَى النُّحُورِ. فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَصِفَتُكَ لَهَا أَحْسَنُ مِنْهَا وَمِنْ غِنَائِهَا. ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ
هَارُونَ الْوَاثِقِ، وَلِيِّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ: اسْمَعْ هَذَا الْكَلَامَ.
وَقَدِ اسْتَخْدَمَ الْمُعْتَصِمُ مِنَ الْأَتْرَاكِ خَلْقًا عَظِيمًا كَانَ لَهُ
مِنَ الْمَمَالِيكِ التُّرْكِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَتَمَّ لَهُ مِنْ
آلَاتِ الْحَرْبِ وَالدَّوَابِّ مَا لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ. وَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَقُولُ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [ الْأَنْعَامِ: 44 ] وَقَالَ:
لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ عُمْرِي قَصِيرٌ مَا فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ، وَقَالَ: إِنِّي
أُخِذْتُ مِنْ بَيْنِ هَذَا الْخَلْقِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: ذَهَبَتِ الْحِيَلُ،
لَيْسَتْ حِيلَةٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَخَافُكَ
مِنْ قِبَلِي، وَلَا أَخَافُكَ مِنْ قِبَلِكَ، وَأَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِكَ، وَلَا
أَرْجُوكَ مِنْ قِبَلِي.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ضَحًى لِتِسْعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ
مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِعَشَرٍ خَلَوْنَ مِنْ
شَعْبَانَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ
ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَ الْمُعْتَصِمُ أَبْيَضَ، أَصْهَبَ
اللِّحْيَةِ طَوِيلَهَا، مَرْبُوعًا، وَمُشْرَبَ اللَّوْنِ، أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ
اسْمُهَا مَارِدَةُ وَهُوَ أَحَدُ أَوْلَادٍ سِتَّةٍ مِنْ أَوْلَادِ الرَّشِيدِ،
كُلٌّ مِنْهُمُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ؛ وَهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الْمُعْتَصِمُ، وَأَبُو
الْعَبَّاسِ الْأَمِينُ، وَأَبُو عِيسَى، وَأَبُو أَحْمَدَ، وَأَبُو يَعْقُوبَ،
وَأَبُو أَيُّوبَ، قَالَهُ هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ، وَقَدْ قَامَ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ هَارُونُ الْوَاثِقُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ وَزِيرَهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ رَثَاهُ فَقَالَ:
قَدْ قُلْتُ إِذْ غَيَّبُوكَ وَاصْطَفَقَتْ عَلَيْكَ أَيْدِي التُّرَابِ
وَالطِّينِ اذْهَبْ فَنِعْمَ الْحَفِيظُ كُنْتَ عَلَى الدُّ
نْيَا وَنِعْمَ الظَّهِيرُ لِلدِّينِ لَا جَبَرَ اللَّهُ أُمَّةً فَقَدَتْ
مِثْلَكَ إِلَّا بِمِثْلِ هَارُونِ
وَقَالَ مَرْوَانُ بْنُ أَبِي الْجَنُوبِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي حَفْصَةَ:
أَبُو إِسْحَاقَ مَاتَ ضُحًى فَمِتْنَا وَأَمْسَيْنَا بِهَارُونَ حَيِينَا
لَئِنْ جَاءَ الْخَمِيسُ بِمَا كَرِهْنَا لَقَدْ جَاءَ الْخَمِيسُ بِمَا هَوِينَا
خِلَافَةُ
الْوَاثِقِ هَارُونَ بْنِ الْمُعْتَصِمِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ قَبْلَ أَنْ مَاتَ أَبُوهُ الْمُعْتَصِمُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، أَعَنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَيُكَنَّى بِأَبِي
جَعْفَرٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ، يُقَالُ لَهَا: قَرَاطِيسُ. وَقَدْ
خَرَجَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قَاصِدَةً الْحَجَّ، فَمَاتَتْ بِالْحِيرَةِ،
وَدُفِنَتْ بِالْكُوفَةِ فِي دَارِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى، وَذَلِكَ لِأَرْبَعٍ
خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ الَّذِي أَقَامَ
لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَصِمِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْمَشَاهِيرِ:
مَلِكُ الرُّومِ تَوْفِيلُ بْنُ مِيخَائِيلَ.
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَلَكَتْ بَعْدَهُ
امْرَأَتُهُ تُدُورَةُ، وَكَانَ ابْنُهَا مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ صَغِيرًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
بِشْرٌ الْحَافِي.
الزَّاهِدُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَطَاءِ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَاهَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ أَبُو
نَصْرٍ الزَّاهِدُ الْمَعْرُوفُ بِالْحَافِي نَزِيلُ بَغْدَادَ.
قَالَ ابْنُ
خِلِّكَانَ وَكَانَ اسْمُ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْبُورَ، أَسْلَمَ عَلَى
يَدَيْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قُلْتُ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِبَغْدَادَ سَنَةَ
خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَسَمِعَ بِهَا شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَابْنِ مَهْدِيٍّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي
بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ؛ مِنْهُمْ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَسَرِيٌّ
السَّقَطِيُّ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: سَمِعَ بِشْرٌ كَثِيرًا، ثُمَّ اشْتَغَلَ
بِالْعِبَادَةِ، وَاعْتَزَلَ النَّاسَ وَلَمْ يُحَدِّثْ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي عِبَادَتِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ
وَنُسُكِهِ وَتَقَشُّفِهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَوْمَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ: لَمْ يَكُنْ لَهُ نَظِيرٌ
إِلَّا عَامِرُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَ لَكَانَ قَدْ تَمَّ
أَمْرُهُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ مَا أَخْرَجَتْ بَغْدَادُ أَتَمَّ
عَقْلًا، وَلَا أَحْفَظَ لِلِسَانِهِ مِنْهُ، مَا عُرِفَ لَهُ غِيبَةٌ لِمُسْلِمٍ،
وَكَانَ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْهُ عَقْلٌ، وَلَوْ قُسِّمَ عَقْلُهُ عَلَى أَهْلِ
بَغْدَادَ لَصَارُوا عُقَلَاءَ، وَمَا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ شَيْءٌ.
وَذَكَرَ غَيْرُ
وَاحِدٍ: أَنَّ بِشْرًا كَانَ شَاطِرًا فِي بَدْءِ أَمْرِهِ، وَأَنَّ سَبَبَ
تَوْبَتِهِ أَنَّهُ وَجَدَ رُقْعَةً فِيهَا اسْمُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي
أَتُونِ حَمَّامٍ فَرَفَعَهَا وَرَفَعَ طَرَفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ:
سَيِّدِي اسْمُكَ هَاهُنَا مُلْقًى يُدَاسُ! ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى عَطَّارٍ
فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ غَالِيَةً وَضَمَّخَ تِلْكَ الرُّقْعَةَ مِنْهَا،
وَوَضَعَهَا حَيْثُ لَا تُنَالُ فَأَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ، وَأَلْهَمَهُ
رُشْدَهُ، وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ أَحَبَّ الدُّنْيَا فَلْيَتَهَيَّأْ لِلذُّلِّ. وَكَانَ
بِشْرٌ يَأْكُلُ الْخُبْزَ وَحْدَهُ فَقِيلَ لَهُ: بِمَاذَا تَأْتَدِمُ ؟ فَقَالَ:
أَذْكُرُ الْعَافِيَةَ فَأَجْعَلُهَا أُدْمًا. وَكَانَ لَا يَلْبَسُ نَعْلًا بَلْ
يَمْشِي حَافِيًا، طَرَقَ يَوْمًا بَابًا، فَقِيلَ: مَنْ ؟ فَقَالَ بِشْرٌ
الْحَافِي فَقَالَتْ جَارِيَةٌ صَغِيرَةٌ: أَمَا وَجَدَ هَذَا دَانِقَيْنِ
يَشْتَرِي بِهِمَا نَعْلًا وَيَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الِاسْمِ. قَالُوا: وَكَانَ
سَبَبُ تَرْكِهِ النَّعْلَ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى حَذَّاءٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ
شِرَاكًا لِنَعْلِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَكْثَرَ كُلْفَتَكُمْ عَلَى النَّاسِ !
فَطَرَحَ النَّعْلَ مِنْ يَدِهِ، وَخَلَعَ الْأُخْرَى مِنْ رِجْلِهِ وَحَلَفَ لَا
يَلْبَسُ نَعْلًا أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. وَقِيلَ فِي
رَمَضَانَ
بِبَغْدَادَ.
وَقِيلَ: بِمَرْوَ. قُلْتُ: الصَّحِيحُ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَحِينَ مَاتَ اجْتَمَعَ فِي جِنَازَتِهِ أَهْلُ بَغْدَادَ عَنْ بَكْرَةِ
أَبِيهِمْ، فَأُخْرِجَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي
قَبْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ،
وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فِي الْجِنَازَةِ:
هَذَا وَاللَّهِ شَرَفُ الدُّنْيَا قَبْلَ شَرَفِ الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ
الْجِنَّ كَانَتْ تَنُوحُ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ فِيهِ،
وَأَنَّهُ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ
؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي، وَلِكُلِّ مَنْ شَهِدَ جِنَازَتِي، وَلِكُلِّ مَنْ
أَحَبَّنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ ثَلَاثٌ؛
وَهُنَّ مَخَّةُ، وَمُضْغَةُ، وَزُبْدَةُ، وَكُلُّهُنَّ عَابِدَاتٌ زَاهِدَاتٌ
مِثْلَهُ، وَأَشَدُّ وَرَعًا أَيْضًا. ذَهَبَتْ إِحْدَاهُنَّ فَاسْتَأْذَنَتْ
عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَالَتْ: إِنِّي رُبَّمَا
طَفِئَ السِّرَاجُ وَأَنَا أَغْزِلُ، فَإِذَا كَانَ ضَوْءُ الْقَمَرِ غَزَلْتُ
فِيهِ فَعَلَيَّ
عِنْدَ الْبَيْعِ
أَنْ أُمَيِّزَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهَا: إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ
فَأَعْلِمِي بِهِ الْمُشْتَرِي، وَقَالَتْ لَهُ مَرَّةً إِحْدَاهُنَّ: رُبَّمَا
تَمُرُّ بِنَا مَشَاعِلُ بَنِي طَاهِرٍ فِي اللَّيْلِ وَنَحْنُ نَغْزِلُ
فَنَغْزِلُ الطَّاقَ وَالطَّاقَيْنِ وَالطَّاقَاتِ، فَخَلِّصْنِي مِنْ ذَلِكَ،
فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ الْغَزْلِ كُلِّهِ لِمَا اشْتَبَهَ
عَلَيْهَا مِنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ. وَسَأَلَتْهُ عَنْ أَنِينِ
الْمَرِيضِ أَفِيهِ شَكْوَى ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا هُوَ شَكْوَى إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ خَرَجَتْ. فَقَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: يَا بُنَيَّ
اذْهَبْ خَلْفَهَا فَاعْلَمْ لِي مَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
فَذَهَبْتُ وَرَاءَهَا فَإِذَا هِيَ قَدْ دَخَلَتْ دَارَ بِشْرٍ الْحَافِي وَإِذَا
هِيَ أُخْتُهُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَيْضًا عَنْ زُبْدَةَ قَالَتْ: جَاءَ
لَيْلَةً أَخِي بِشْرٌ، فَدَخَلَ بِرِجْلِهِ فِي الدَّارِ، وَبَقِيَتِ الْأُخْرَى
خَارِجَ الدَّارِ، فَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ لَيْلَتَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، فَقِيلَ
لَهُ: فِيمَ تَفَكَّرْتَ لَيْلَتَكَ ؟ قَالَ: تَفَكَّرْتُ فِي بِشْرٍ
النَّصْرَانِيِّ، وَبِشْرٍ الْيَهُودِيِّ، وَبِشْرٍ الْمَجُوسِيِّ، وَفِي نَفْسِي
وَاسْمِي بِشْرٌ فَقُلْتُ: مَا الَّذِي سَبَقَ مِنْكَ حَتَّى خَصَّكَ
بِالْإِسْلَامِ مِنْ بَيْنِهِمْ ؟ فَتَفَكَّرْتُ فِي تَفَضُّلِهِ
عَلَيَّ،
وَحَمِدْتُهُ عَلَى أَنْ جَعَلَنِي مِنْ خَاصَّتِهِ، وَأَلْبَسَنِي لِبَاسَ
أَحْبَابِهِ.
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ وَأَطَالَ
مِنْ غَيْرِ مَلَالٍ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْعَارًا حَسَنَةً،
وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
تَعَافُ الْقَذَى فِي الْمَاءِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَتَكْرَعُ مِنْ حَوْضِ
الذُّنُوبِ فَتَشْرَبُ وَتُؤْثِرُ مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ أَلَذَّهُ
وَلَا تَذْكُرُ الْمُخْتَارَ مِنْ أَيْنَ يَكْسِبُ وَتَرْقُدُ يَا مِسْكِينُ
فَوْقَ نَمَارِقٍ
وَفِي حَشْوِهَا نَارٌ عَلَيْكَ تَلَهَّبُ فَحَتَّى مَتَى لَا تَسْتَفِيقُ
جَهَالَةً
وَأَنْتَ ابْنُ سَبْعِينَ بِدِينِكَ تَلْعَبُ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ الْيَرْبُوعِيُّ.
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْبَجَلِيُّ.
وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.
صَاحِبُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِي
مِثْلِهَا إِلَّا
الْقَلِيلُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الدُّولَابِيُّ.
وَلَهُ سُنَنٌ أَيْضًا.
وَأَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ.
وَأَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَمَضَانَ مِنْهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ عَلَى أَشْنَاسَ الْأَمِيرِ
وَتَوَجَّهَ وَأَلْبَسَهُ وِشَاحَيْنِ مِنْ جَوْهَرٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْأَمِيرُ.
وَغَلَا السِّعْرُ عَلَى النَّاسِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ جِدًّا، وَأَصَابَهُمْ
حَرٌّ شَدِيدٌ، وَهُمْ بِعَرَفَةَ ثُمَّ بَرْدٌ شَدِيدٌ، وَمَطَرٌ عَظِيمٌ فِي
سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَنَزَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ بِمِنًى مَطَرٌ لَمْ يُرَ
مِثْلُهُ، وَسَقَطَتْ قِطْعَةٌ مِنَ الْجَبَلِ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
فَقَتَلَتْ جَمَاعَةً مِنَ الْحُجَّاجِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ فِي مَنْزِلِ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْصِلِيِّ، وَحَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ الطَّائِيُّ
أَبُو تَمَّامٍ الشَّاعِرُ.
قُلْتُ: أُمَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ أَحَدُ
أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَإِمَامُ الْأَخْبَارِيِّينَ فِي زَمَانِهِ،
فَتَقَدَّمَ ذِكْرُ وَفَاتِهِ قَبْلَ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ: صَاحِبُ الْحَمَاسَةِ الَّتِي
جَمَعَهَا فِي
فَصْلِ الشِّتَاءِ
بِهَمَذَانَ فِي دَارِ وَزِيرِهَا، فَهُوَ حَبِيبُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ الْأَشَجِّ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُرَيْنَا بْنِ سَهْمِ بْنِ
خِلْجَانَ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ دَفَّافَةَ بْنِ مُرِّ بْنِ سَعْدِ بْنِ كَاهِلِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ طَيِّئٍ، وَهُوَ
جُلْهُمَةُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
كَهْلَانَ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ أَبُو تَمَّامٍ
الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ الْمَشْهُورُ.
وَنَقَلَ الْخَطِيبُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ أَنَّهُ حَكَى عَنْ
بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ قَالُوا: أَبُو تَمَّامٍ حَبِيبُ بْنُ تَدْرُسَ
النَّصْرَانِيِّ، فَسَمَّاهُ أَبُو تَمَّامٍ أَوْسًا بَدَلَ تَدْرُسَ. قَالَ ابْنُ
خِلِّكَانَ وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ جَاسِمٍ مِنْ عَمَلِ الْجَيْدُورِ
بِالْقُرْبِ
مِنْ طَبَرِيَّةَ
وَكَانَ بِدِمَشْقَ يَعْمَلُ عِنْدَ حَائِكٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى مِصْرَ فِي
شَبِيبَتِهِ، وَابْنُ خِلِّكَانَ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ " " تَارِيخِ
الْحَافِظِ ابْنِ عَسَاكِرَ " "، وَقَدْ تَرْجَمَ أَبَا تَمَّامٍ
تَرْجَمَةً حَسَنَةً. وَقَالَ الْخَطِيبُ، الْبَغْدَادِيُّ وَهُوَ شَامِيُّ الْأَصْلِ،
وَكَانَ بِمِصْرَ فِي حَدَاثَتِهِ يَسْقِي الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
ثُمَّ جَالَسَ الْأُدَبَاءَ فَأَخَذَ عَنْهُمْ وَتَعَلَّمَ مِنْهُمْ، وَكَانَ
فَطِنًا فَهْمًا، وَكَانَ يُحِبُّ الشِّعْرَ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَانِيهِ حَتَّى
قَالَ الشِّعْرَ فَأَجَادَ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ، وَسَارَ شِعْرُهُ وَبَلَغَ
الْمُعْتَصِمَ خَبَرُهُ فَحَمَلَهُ إِلَيْهِ وَهُوَ بِسُرَّ مَنْ رَأَى فَعَمِلَ
فِيهِ قَصَائِدَ، فَأَجَازَهُ الْمُعْتَصِمُ وَقَدَّمَهُ عَلَى شُعَرَاءِ
وَقْتِهِ، فَقَدِمَ بَغْدَادَ فَجَالَسَ الْأُدَبَاءَ، وَعَاشَرَ الْعُلَمَاءَ،
وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالظُّرْفِ وَحُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَكَرَمِ النَّفْسِ، وَقَدْ
رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ وَغَيْرُهُ أَخْبَارًا مُسْنَدَةً.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: كَانَ يَحْفَظُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَلْفَ
أُرْجُوزَةٍ لِلْعَرَبِ غَيْرَ الْقَصَائِدِ وَالْمَقَاطِيعِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَانَ يُقَالُ: فِي طَيِّئٍ ثَلَاثَةٌ: حَاتِمٌ فِي كَرَمِهِ، وَدَاوُدُ
الطَّائِيُّ فِي زُهْدِهِ، وَأَبُو تَمَّامٍ فِي شِعْرِهِ، قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ
الشُّعَرَاءُ فِي زَمَانِهِ جَمَاعَةً؛ فَمِنْ مَشَاهِيرِهِمْ أَبُو الشِّيصِ
وَدِعْبِلُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبِي قَيْسٍ، وَقَدْ كَانَ أَبُو تَمَّامٍ مِنْ
خِيَارِهِمْ دِينًا وَأَدَبًا وَأَخْلَاقًا. وَمِنْ رَقِيقِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَا حَلِيفَ
النَّدَى وَيَا تَوْءَمَ الْجُو دِ وَيَا خَيْرَ مَنْ حَبَوْتُ الْقَرِيضَا لَيْتَ
حُمَّاكَ بِي وَكَانَ لَكَ الْأَجْ
رُ فَلَا تَشْتَكِي وَكُنْتُ الْمَرِيضَا
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ أَنَّ
أَبَا تَمَّامٍ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَذَا
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَوْصِلِ، وَبُنِيَتْ عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةٌ، وَحَكَى
الصُّولِيُّ عَنِ الْوَزِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ
أَنَّهُ قَالَ يَرْثِيهِ:
نَبَأٌ أَتَى مِنْ أَعْظَمِ الْأَنْبَاءِ لَمَّا أَلَمَّ مُقَلْقَلَ الْأَحْشَاءِ
قَالُوا حَبِيبٌ قَدْ ثَوَى فَأَجَبْتُهُمْ نَاشَدْتُكُمْ لَا تَجْعَلُوهُ
الطَّائِي
وَقَالَ غَيْرُهُ:
فُجِعَ الْقَرِيضُ بِخَاتَمِ الشُّعَرَاءِ وَغَدِيرُ رَوْضَتِهَا حَبِيبٌ
الطَّائِي
مَاتَا مَعًا فَتَجَاوَرَا فِي حُفْرَةٍ وَكَذَاكَ كَانَا قَبْلُ فِي الْأَحْيَاءِ
وَقَدْ جَمَعَ
الصُّولِيُّ شِعْرَ أَبِي تَمَّامٍ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. قَالَ الْقَاضِي
ابْنُ خِلِّكَانَ وَقَدِ امْتَدَحَ أَحْمَدَ بْنَ الْمُعْتَصِمِ - وَيُقَالُ:
ابْنَ الْمَأْمُونِ - بِقَصِيدَتِهِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
إِقْدَامُ عَمْرٍو فِي سَمَاحَةِ حَاتِمٍ فِي حِلْمِ أَحْنَفَ فِي ذَكَاءِ إِيَاسِ
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: أَتَقُولُ هَذَا لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَهُوَ أَكْبَرُ قَدْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ. فَأَطْرَقَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
لَا تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ مَثَلًا شَرُودًا فِي النَّدَى
وَالْبَاسِ
فَاللَّهُ قَدْ ضَرَبَ الْأَقَلَّ لِنُورِهِ مَثَلًا مِنَ الْمِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ
فَلَمَّا أَخَذُوا مِنْهُ الْقَصِيدَةَ لَمْ يَجِدُوا فِيهَا هَذَيْنَ
الْبَيْتَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَهُمَا ارْتِجَالًا. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَعِيشُ
هَذَا بَعْدَ هَذَا إِلَّا قَلِيلًا. فَكَانَ كَذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ
زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ امْتَدَحَ بِهَا بَعْضَ
الْخُلَفَاءِ، فَأَقْطَعَهُ الْمَوْصِلَ فَأَقَامَ بِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ، وَلَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ لَهِجَ بِهِ
بَعْضُ النَّاسِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْيَاءَ مُسْتَطْرَفَةً مِنْ شِعْرِهِ الرَّائِقِ وَنَظْمِهِ
الْفَائِقِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَوْ كَانَتِ
الْأَرْزَاقُ تَجْرِي عَلَى الْحِجَا هَلَكْنَ إِذًا مِنْ جَهْلِهِنَّ
الْبَهَائِمُ
وَلَمْ يَجْتَمِعْ شَرْقٌ وَغَرْبٌ لِقَاصِدٍ وَلَا الْمَجْدُ فِي كَفِّ امْرِئٍ
وَالدَّرَاهِمُ
وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
وَمَا أَنَا بِالْغَيْرَانِ مِنْ دُونِ عِرْسِهِ إِذَا أَنَا لَمْ أُصْبِحْ
غَيُورًا عَلَى الْعِلْمِ
طَبِيبُ فُؤَادِي مُذْ ثَلَاثِينَ حِجَّةً وَمُذْهِبُ هَمِّي وَالْمُفَرِّجُ لِلْغَمِّ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، وَالْعَيْشِيُّ، وَأَبُو الْجَهْمِ، وَمُسَدَّدٌ،
وَدَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ
الْحِمَّانِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْوَاثِقُ بِاللَّهِ بِضَرْبِ الدَّوَّاوِينِ،
وَاسْتِخْلَاصِ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ ضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ أُخِذَ مِنْهُ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَدُونَ ذَلِكَ، وَجَاهَرَ
الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِسَائِرِ وُلَاةِ الشُّرَطِ
بِالْعَدَاوَةِ فَكُشِفُوا، وَحُبِسُوا، وَلَقُوا جَهْدًا عَظِيمًا وَجَلَسَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ لِلنَّظَرِ فِي أَمْرِهِمْ، وَأُقِيمُوا لِلنَّاسِ،
وَافْتُضِحُوا فَضِيحَةً بَلِيغَةً، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاثِقَ
جَلَسَ لَيْلَةً فِي دَارِ الْخِلَافَةِ فَسُمِرَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: هَلْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ يَعْرِفُ سَبَبَ عُقُوبَةِ جَدِّي الرَّشِيدِ لِلْبَرَامِكَةِ ؟
فَقَالَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ سَبَبَ
ذَلِكَ أَنَّ الرَّشِيدَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ جَارِيَةٌ، فَأَعْجَبَهُ جَمَالُهَا،
فَسَاوَمَ سَيِّدَهَا فِيهَا، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي
أَقْسَمْتُ بِكُلِّ يَمِينٍ أَنْ لَا
أَبِيعَهَا
بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِهَا، وَبَعَثَ
إِلَى يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ الْوَزِيرِ لِيَبْعَثَ بِهَا إِلَيْهِ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ، فَاعْتَلَّ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُ فَأَرْسَلَ الرَّشِيدُ
يُؤَنِّبُهُ، وَيَقُولُ: أَلَيْسَ فِي بَيْتِ مَالِي مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ ؟ !
وَأَلَحَّ فِي طَلَبِهَا، فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ: أَرْسِلُوهَا إِلَيْهِ
دَرَاهِمَ لِيَسْتَكْثِرَ ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ يَرُدُّ الْجَارِيَةَ. فَبَعَثُوا
بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ دَرَاهِمَ، وَوَضَعُوهَا فِي طَرِيقِ الرَّشِيدِ،
وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهَا رَأَى كَوْمًا مِنْ
دَرَاهِمَ. فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: ثَمَنُ الْجَارِيَةِ. فَاسْتَكْثَرَ
ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِخَزْنِهَا عِنْدَ بَعْضِ خَدَمِهِ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ،
وَأَعْجَبَهُ جَمْعُ الْمَالِ فِي حَوَاصِلِهِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَتَبُّعِ
أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَإِذَا الْبَرَامِكَةُ قَدِ اسْتَهْلَكُوهُ، فَجَعَلَ
يَهُمُّ بِأَخْذِهِمْ تَارَةً وَيُحْجِمُ أُخْرَى، حَتَّى كَانَ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي سَمَرَ عِنْدِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْعُودِ. فَأَطْلَقَ
لَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَذَهَبَ إِلَى الْوَزِيرِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ
بْنِ بَرْمَكَ، فَمَاطَلَهُ بِهَا مُدَّةً طَوِيلَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ
اللَّيَالِي فِي السَّمَرِ عَرَّضَ أَبُو الْعُودِ فِي ذَلِكَ لِلرَّشِيدِ
بِقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
وَعَدَتْ هِنْدٌ وَمَا كَادَتْ تَعِدْ لَيْتَ هِنْدًا أَنْجَزَتْنَا مَا تَعِدْ
وَاسْتَبَدَّتْ مَرَّةً وَاحِدَةً
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يُكَرِّرُ قَوْلَهُ:
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
وَيُعْجِبُهُ
ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ دَخَلَ عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ،
فَأَنْشَدَهُ الرَّشِيدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَهُوَ يَسْتَحْسِنُهُمَا
فَفَهِمَ ذَلِكَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، وَخَافَ، وَسَأَلَ عَنْ مَنْ أَنْشَدَ
ذَلِكَ لِلرَّشِيدِ ؟ فَقِيلَ لَهُ: أَبُو الْعُودِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَأَنْجَزَ
لَهُ الثَّلَاثِينَ أَلْفًا، وَأَعْطَاهُ مِنْ عِنْدِهِ عِشْرِينَ أَلْفًا،
وَكَذَلِكَ وَلَدَاهُ الْفَضْلُ، وَجَعْفَرٌ، فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى
أَخَذَ الرَّشِيدُ الْبَرَامِكَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا كَانَ.
فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْوَاثِقُ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ قَوْلَ
الشَّاعِرِ:
إِنَّمَا الْعَاجِزُ مَنْ لَا يَسْتَبِدْ
ثُمَّ بَطَشَ بِالْكُتَّابِ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا
عَظِيمَةً جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، وَهُوَ أَمِيرُ
الْحَجِيجِ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ.
أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ.
وَنُعَيْمُ بْنُ
حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ.
أَحَدُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْجَهْمِيَّةِ،
وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْفِتَنِ وَغَيْرِهَا.
وَدِينَارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ النُّسْخَةُ الْمَكْذُوبَةُ عَنْهُ أَوْ مِنْهُ، وَهِيَ
عَالِيَةُ الْإِسْنَادِ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى مِنْهَا خَرَجَتْ بَنُو سُلَيْمٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، فَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَخَافُوا السُّبُلَ،
وَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَهَزَمُوا أَهْلَهَا، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى
مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَتِلْكَ الْمَنَاهِلِ وَالْقُرَى فَبَعَثَ
إِلَيْهِمُ الْوَاثِقُ بُغَا الْكَبِيرَ أَبَا مُوسَى التُّرْكِيَّ فِي جَيْشٍ،
فَقَاتَلَهُمْ فِي شَعْبَانَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَمْسِينَ فَارِسًا، وَأَسَرَ
مِثْلَهُمْ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّتُهُمْ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْأَمَانِ، وَأَنْ
يَكُونُوا عَلَى حُكْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَدَخَلَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ وَسَجَنَ رُءُوسَهُمْ فِي دَارِ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَخَرَجَ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَشَهِدَ
مَعَهُ الْمَوْسِمَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، نَائِبُ
الْعِرَاقِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَالَاهَا
مِنَ الْبُلْدَانِ،
وَكَانَ خَرَاجُ
مَا تَحْتَ يَدِهِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَوَلَّى
الْخَلِيفَةُ ابْنَهُ طَاهِرًا، وَكَانَتْ وَفَاةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
الْأَمِيرِ بَعْدَ مَوْتِ أَشْنَاسَ التُّرْكِيِّ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ، يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ حَكَى الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ بِمَرْوَ، وَقِيلَ: بِنَيْسَابُورَ. وَكَانَ كَرِيمًا جَوَادًا
مُمَدَّحًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ أَوْرَدَ لَهُ مِنْهُ. قَالَ: وَقَدْ وَلِيَ
نِيَابَةَ مِصْرَ بَعْدَ الْعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَذَكَرَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمَغْرِبِيِّ أَنَّ الْبِطِّيخَ
الْعَبْدَاللَّاوِيَّ الَّذِي بِمِصْرَ مَنْسُوبٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ هَذَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ إِمَّا أَنَّهُ كَانَ
يَسْتَطِيبُهُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ زَرَعَهُ هُنَاكَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ:
اغْتَفِرْ زَلَّتِي لِتُحْرِزَ فَضْلَ الشُّ كْرِ مِنِّي وَلَا يَفُوتُكَ أَجْرِي
لَا تَكِلْنِي إِلَى التَّوَسُّلِ بِالْعُذْ
رِ لَعَلِّي أَنْ لَا أَقُومَ بِعُذْرِي
وَمِنْ شَعْرِهِ
أَيْضًا قَوْلُهُ:
نَحْنُ قَوْمٌ تُلِينُنَا الْحَدَقُ النُّجْ لُ عَلَى أَنَّنَا نُلِينُ
الْحَدِيدَا
طَوْعَ أَيْدِي الظِّبَاءِ تَقْتَادُنَا الْعِي نُ وَنَقْتَادُ بِالطِّعَانِ
الْأُسُودَا
نَمْلِكُ الصِّيدَ ثُمَّ تَمْلِكُنَا الْبِي ضُ الْمَصُونَاتُ أَعْيُنًا
وَخُدُودَا
تَتَّقِي سُخْطَنَا الْأُسُودُ وَنَخْشَى سَخَطَ الْخِشْفِ حِينَ يُبْدِي
الصُّدُودَا
فَتَرَانَا يَوْمَ الْكَرِيهَةِ أَحْرَا رًا وَفِي السِّلْمِ لِلْغَوَانِي
عَبِيدَا
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ خُزَاعِيًّا مِنْ مَوَالِي طَلْحَةَ
الطَّلْحَاتِ الْخُزَاعِيِّ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو تَمَّامٍ يَمْدَحُهُ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ مَرَّةً فَاعْتَاقَهُ
الثَّلْجُ بِهَمَذَانَ، فَصَنَّفَ كِتَابَ الْحَمَاسَةِ عِنْدَ بَعْضِ
رُؤَسَائِهَا.
وَرَوَى لَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَلَمَّا وَلَّاهُ الْمَأْمُونُ نِيَابَةَ بِلَادِ الشَّامِ
وَدِيَارَ مِصْرَ صَارَ إِلَيْهَا، وَقَدْ رَسَمَ لَهُ بِمَا فِي دِيَارِ مِصْرَ
مِنَ الْحَوَاصِلِ، فَحَمَلَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ ثَلَاثَةَ
آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَفَرَّقَهَا كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُ
لَمَّا وَاجَهَ مِصْرَ نَظَرَ إِلَيْهَا فَاحْتَقَرَهَا، وَقَالَ: قَبَّحَ اللَّهُ
فِرْعَوْنَ، مَا كَانَ أَخَسَّهُ وَأَضْعَفَ هِمَّتَهُ حِينَ مَلَكَ هَذِهِ
الْقَرْيَةَ، وَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ الْجَوْهَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ
الْوَاقِدِيِّ وَلَهُ كِتَابُ " الطَّبَقَاتِ " وَغَيْرُهُ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ، وَسَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَرْمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَقَعَتْ مُفَادَاةٌ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا
بِأَيْدِي الرُّومِ عَلَى يَدَيِ الْأَمِيرِ خَاقَانَ الْخَادِمِ، وَذَلِكَ فِي
الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ عِدَّةُ الْأُسَارَى الَّذِينَ
اسْتُنْقِذُوا مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ
وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ أَسِيرًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ أَحْمَدُ
بْنُ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيُّ وَجَدُّهُ مَالِكُ بْنُ
الْهَيْثَمِ مِنْ أَكْبَرِ الدُّعَاةِ فِي النَّاسِ إِلَى دَوْلَةِ بَنِي
الْعَبَّاسِ، وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ وَرِيَاسَةٌ، وَكَانَ أَبُوهُ نَصْرُ بْنُ
مَالِكٍ يَغْشَاهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ بَايَعَهُ الْعَامَّةُ فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَمِائَتَيْنِ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ
حِينَ كَثُرَتِ الدُّعَّارُ وَالشُّطَّارُ فِي أَرْجَاءِ بَغْدَادَ فِي زَمَانِ
غَيْبَةِ الْمَأْمُونِ عَنْ بَغْدَادَ كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَ ذَلِكَ، وَبِهِ
تُعْرَفُ سُوَيْقَةُ نَصْرٍ بِبَغْدَادَ.
وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالِاجْتِهَادِ
فِي الْخَيْرِ،
وَمِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ مِمَّنْ يَدْعُو إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ
الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَانَ هَارُونُ
الْوَاثِقُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، يَدْعُو
إِلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، سِرًّا وَجِهَارًا ; اعْتِمَادًا عَلَى مَا كَانَ
أَبُوهُ الْمُعْتَصِمُ وَعَمُّهُ الْمَأْمُونُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ، وَلَا حُجَّةٍ وَلَا بَيَانٍ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا
قُرْآنٍ، فَقَامَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْقَوْلِ بِأَنَّ
الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ
دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ مِنَ الْأُلُوفِ أَعْدَادٌ، وَانْتَصَبَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى
أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ هَذَا رَجُلَانِ وَهُمَا أَبُو هَارُونَ السَّرَّاجُ يَدْعُو
أَهْلَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَطَالِبٌ يَدْعُو أَهْلَ الْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ.
وَلَمَّا كَانَ شَهْرُ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ انْتَظَمَتِ الْبَيْعَةُ
لِأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ الْخُزَاعِيِّ فِي السِّرِّ عَلَى الْقِيَامِ بِالْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ
لِبِدْعَتِهِ، وَدَعْوَتِهِ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَتَوَاعَدُوا
عَلَى أَنَّهُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ وَهِيَ
لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ يُضْرَبُ طَبْلٌ فِي اللَّيْلِ، فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ
الَّذِينَ بَايَعُوا فِي مَكَانٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَأَنْفَقَ طَالِبٌ وَأَبُو
هَارُونَ فِي أَصْحَابِهِ دِينَارًا دِينَارًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
أَعْطَوْهُ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي أَشْرَسَ، وَكَانَا يَتَعَاطَيَانِ الشَّرَابَ
فَلَمَّا
كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَمِيسِ شَرِبَا فِي قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، وَاعْتَقَدَا أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْوَعْدِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَهُ بِلَيْلَةٍ، فَقَامَا يَضْرِبَانِ عَلَى طَبْلٍ فِي اللَّيْلِ ; لِيَجْتَمِعَ إِلَيْهِمَا النَّاسُ، فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ وَانْخَرَمَ النِّظَامُ، وَسَمِعَ الْحَرَسُ فِي اللَّيْلِ، فَأَعْلَمُوا نَائِبَ السَّلْطَنَةِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ نَائِبُ أَخِيهِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ; لِغَيْبَتِهِ عَنْ بَغْدَادَ فَأَصْبَحَ النَّاسُ مُتَخَبِّطِينَ، وَاجْتَهَدَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ عَلَى إِحْضَارِ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ فَأُحْضِرَا فَعَاقَبَهُمَا، فَأَقَرَّا عَلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ فِي الْحَالِ فَطَلَبَهُ، وَأَخَذَ خَادِمًا لَهُ فَاسْتَقَرَّهُ، فَأَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلَانِ، فَجَمَعَ جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسٍ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ بِهِمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَذَلِكَ آخَرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَأُحْضِرَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَحَضَرَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ عَتَبٌ، فَلَمَّا أُوقِفَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ الْوَاثِقِ لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ مُبَايَعَةِ الْعَامَّةِ لَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَأَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ: أَمَخْلُوقٌ هُوَ ؟ قَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ قَدِ
اسْتَقْتَلَ،
وَحَضَرَ وَقَدْ تَحَنَّطَ وَتَنَوَّرَ، فَقَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: فَمَا تَقُولُ
فِي رَبِّكَ، أَتَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ الْقِيَامَةِ:
22، 23 ] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّكُمْ
تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا
تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ فَنَحْنُ عَلَى الْخَبَرِ. زَادَ الْخَطِيبُ فِي
إِيرَادِهِ: قَالَ الْوَاثِقُ: وَيْحَكَ، أَيُرَى كَمَا يُرَى الْمَحْدُودُ
الْمُتَجَسِّمُ ؟ وَيَحْوِيهِ مَكَانٌ وَيَحْصُرُهُ النَّاظِرُ ؟ أَنَا أَكْفُرُ
بِرَبٍّ هَذِهِ صِفَتُهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ لَا يَرِدُ، وَلَا
يَلْزَمُ، وَلَا يُرَدُّ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ الصَّحِيحِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ لِلْوَاثِقِ: وَحَدَّثَنِي
سُفْيَانُ بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُإِنَّ قَلْبَ ابْنِ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ
أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
يَقُولُ:يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَيْلَكَ، انْظُرْ مَا تَقُولُ. فَقَالَ: أَنْتَ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ. فَأَشْفَقَ إِسْحَاقُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: أَنَا أَمَرْتُكَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَنْصَحَ لَهُ. فَقَالَ الْوَاثِقُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ فَأَكْثَرُوا الْقَوْلَ فِيهِ ; فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ فَعُزِلَ وَكَانَ مُوَادًّا لِأَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ قَبْلَ ذَلِكَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ حَلَالُ الدَّمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَرْمَنِيُّ صَاحِبُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ: اسْقِنِي دَمَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ الْوَاثِقُ: يَأْتِي عَلَى مَا تُرِيدُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، لَعَلَّ بِهِ عَاهَةً أَوْ نَقْصَ عَقْلٍ. فَقَالَ الْوَاثِقُ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي قُمْتُ إِلَيْهِ فَلَا يَقُومَنَّ أَحَدٌ مَعِي، فَإِنِّي أَحْتَسِبُ خُطَايَ. ثُمَّ نَهَضَ إِلَيْهِ بِالصَّمْصَامَةِ وَقَدْ كَانَتْ سَيْفًالِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ أُهْدِيَتْ لِمُوسَى الْهَادِي فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، وَكَانَتْ صَفِيحَةً مَوْصُولَةً فِي أَسْفَلِهَا، مَسْمُورَةً بِثَلَاثَةِ مَسَامِيرَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ ضَرَبَهُ بِهَا عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ مَرْبُوطٌ بِحَبْلٍ قَدْ أُوقِفَ عَلَى نِطْعٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ أُخْرَى عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ طَعَنَهُ بِالصَّمْصَامَةِ فِي بَطْنِهِ فَسَقَطَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَرِيعًا عَلَى النِّطْعِ مَيِّتًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ انْتَضَى
سِيمَا الدِّمَشْقِيُّ سَيْفَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَحَزَّ رَأْسَهُ، وَحُمِلَ
مُعْتَرِضًا حَتَّى أُتِيَ بِهِ الْحَظِيرَةَ الَّتِي فِيهَا بَابَكُ
الْخُرَّمِيُّ فَصُلِبَ فِيهَا، وَفِي رِجْلَيْهِ زَوْجُ قُيُودٍ، وَعَلَيْهِ
سَرَاوِيلُ، وَقَمِيصٌ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى بَغْدَادَ فَنُصِبَ فِي
الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ أَيَّامًا، وَفِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ أَيَّامًا،
وَعِنْدَهُ الْحَرَسُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَفِي أُذُنِهِ رُقْعَةٌ
مَكْتُوبٌ فِيهَا: هَذَا رَأْسُ الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ الضَّالِّ أَحْمَدَ بْنِ
نَصْرٍ، مِمَّنْ قُتِلَ عَلَى يَدَيْ عَبْدِ اللَّهِ هَارُونَ الْإِمَامِ
الْوَاثِقِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِ
الْحُجَّةَ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ، وَنَفْيِ التَّشْبِيهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ
التَّوْبَةَ، وَمَكَّنَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ فَأَبَى إِلَّا
الْمُعَانَدَةَ وَالتَّصْرِيحَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَجَّلَهُ إِلَى
نَارِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ بِالْكُفْرِ، فَاسْتَحَلَّ بِذَلِكَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ دَمَهُ وَلَعَنَهُ.
ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْوَاثِقُ بِتَتَبُّعِ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ
مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، فَأُودِعُوا فِي السُّجُونِ
وَسُمُّوا الظَّلَمَةَ، وَمُنِعُوا أَنْ يَزُورَهُمْ أَحَدٌ وَقُيِّدُوا
بِالْحَدِيدِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْزَاقِ الَّتِي كَانَتْ
تَجْرِي عَلَى الْمَحْبُوسِينَ، وَهَذَا ظُلْمٌ عَظِيمٌ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا
قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَكَابِرِ
الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَمِمَّنْ كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَهُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ مُصَنَّفَاتُهُ
كُلُّهَا،
وَسَمِعَ مِنَ
الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَحَادِيثَ جَيِّدَةً، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِكَثِيرٍ
مِنْ حَدِيثِهِ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَأَخُوهُ يَعْقُوبُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَذَكَرَهُ يَوْمًا فَتَرَحَّمَ
عَلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَقَدْ كَانَ لَا
يُحَدِّثُ ; يَقُولُ: لَسْتُ أَهْلَ ذَاكَ. وَأَحْسَنَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ
الثَّنَاءَ عَلَيْهِ.
وَذِكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمًا فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ،
مَا كَانَ أَسَخَاهُ لَقَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّائِغُ: بَصُرَ عَيْنَايَ وَإِلَّا
فَعَمِيَتَا، وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ وَإِلَّا فَصُمَّتَا أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ
الْخُزَاعِيَّ حَيْثُ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، يَقُولُ رَأْسُهُ: لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ.
وَقَدْ سَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَرَأْسُهُ مَصْلُوبٌ يَقْرَأُ عَلَى الْجِذْعِ
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا
يُفْتَنُونَ [ الْعَنْكَبُوتِ: 1، 2 ] قَالَ: فَاقْشَعَرَّ جِلْدِي. وَرَآهُ
بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟
فَقَالَ: مَا
كَانَتْ إِلَّا غَفْوَةً حَتَّى لَقِيتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَضَحِكَ إِلَيَّ.
وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَقَدْ مَرُّوا عَلَى الْجِذْعِ
الَّذِي عَلَيْهِ رَأْسُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، فَلَمَّا حَاذَوْهُ أَعْرَضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ عَنْهُ،
فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَكَ أَعْرَضْتَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ
؟ فَقَالَ: اسْتِحْيَاءً مِنْهُ حِينَ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي.
وَلَمْ يَزَلْ رَأْسُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ مَنْصُوبًا بِبَغْدَادَ مِنْ يَوْمِ
الْخَمِيسِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ - إِلَى بَعْدِ عِيدِ
الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مِنْ سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ، فَجُمِعَ بَيْنَ رَأْسِهِ وَجُثَّتِهِ وَدُفِنَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
مِنْ بَغْدَادَ بِالْمَقْبَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمَالِكِيَّةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي وَلِيَ
الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَخِيهِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ وَقَدْ دَخَلَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " الْحَيْدَةِ "
عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ ; لِأَنَّهُ أَحْسَنَ الصَّنِيعَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ، بِخِلَافِ
أَخِيهِ الْوَاثِقِ، وَأَبِيهِ الْمُعْتَصِمِ، وَعَمِّهِ الْمَأْمُونِ فَإِنَّهُمْ
أَسَاءُوا إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَرَّبُوا
أَهْلَ الْبِدَعِ
وَالضَّلَالِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُنْزِلَ
جُثَّةَ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ، وَيَدْفِنَهُ فَفَعَلَ، وَقَدْ كَانَ
الْمُتَوَكِّلُ يُكْرِمُ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ إِكْرَامًا زَائِدًا
جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيَّ قَالَ لِلْمُتَوَكِّلِ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا رُئِيَ أَعْجَبُ مِنْ أَمْرِ الْوَاثِقِ ; قَتَلَ
أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ وَكَانَ لِسَانُهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ إِلَى أَنْ دُفِنَ.
فَوَجَدَ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ ذَلِكَ، وَسَاءَهُ مَا سَمِعَ فِي أَخِيهِ
الْوَاثِقِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ، قَالَ لَهُ الْمُتَوَكِّلُ: فِي قَلْبِي مِنْ قَتْلِ أَحْمَدَ
بْنِ نَصْرٍ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَحْرَقَنِي اللَّهُ
بِالنَّارِ إِنْ قَتَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَاثِقُ إِلَّا كَافِرًا.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ هَرْثَمَةُ فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، قَطَّعَنِي اللَّهُ إِرْبًا إِرْبًا إِنْ قَتَلَهُ الْوَاثِقُ
إِلَّا كَافِرًا. وَدَخَلَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ،
فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَرَبَنِي اللَّهُ بِالْفَالِجِ إِنْ
قَتَلَهُ الْوَاثِقُ إِلَّا كَافِرًا. قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: فَأَمَّا ابْنُ
الزَّيَّاتِ فَأَنَا أَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ، وَأَمَّا هَرْثَمَةُ فَإِنَّهُ
هَرَبَ وَتَبَدَّى فَاجْتَازَ بِقَبِيلَةِ خُزَاعَةَ فَعَرَفَهُ رَجُلٌ مِنَ
الْحَيِّ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ، هَذَا الَّذِي قَتَلَ ابْنَ عَمِّكُمْ
أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ فَقَطِّعُوهُ. فَقَطَّعُوهُ إِرْبًا إِرْبًا، وَأَمَّا
ابْنُ أَبِي
دُؤَادٍ فَقَدْ سَجَنَهُ اللَّهُ فِي جِلْدِهِ يَعْنِي بِالْفَالِجِ ضَرَبَهُ
اللَّهُ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَصُودِرَ مِنْ صُلْبِ مَالِهِ
بِمَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ " الْمَسَائِلِ " عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ
سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ: الْقُلُوبُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعَ
اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَضْحَكُ مِمَّنْ يَذْكُرُهُ فِي الْأَسْوَاقِ ".
فَقَالَ: ارْوُوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْوَاثِقُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ،
وَاسْتَعَدَّ لِذَلِكَ، فَذُكِرَ لَهُ أَنَّ الْمَاءَ بِالطَّرِيقِ قَلِيلٌ،
فَتَرَكَ الْحَجَّ عَامَئِذٍ.
وَفِيهَا تَوَلَّى جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ نِيَابَةَ الْيَمَنِ، فَسَارَ إِلَيْهَا
فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ فَارِسٍ.
وَفِيهَا عَدَا قَوْمٌ مِنَ الْعَامَّةِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذُوا مِنْهُ
شَيْئًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَأُخِذُوا، وَسُجِنُوا.
وَفِيهَا ظَهَرَ خَارِجِيٌّ بِبِلَادِ رَبِيعَةَ، فَقَاتَلَهُ نَائِبُ الْمَوْصِلِ
فَكَسَرَهُ، وَانْهَزَمَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ
وَصِيفٌ الْخَادِمُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فِي
الْقُيُودِ، كَانُوا قَدْ أَفْسَدُوا فِي الطُّرُقَاتِ وَقَطَعُوهَا، فَأَطْلَقَ
الْخَلِيفَةُ لِوَصِيفٍ الْخَادِمِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ خَاقَانُ الْخَادِمُ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ
تَمَّ الصُّلْحُ وَالْمُفَادَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّومِ، وَقَدِمَ مَعَهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الثُّغُورِ فَأَمَرَ الْوَاثِقُ بِامْتِحَانِهِمْ
فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ،
فَأَجَابُوا إِلَّا أَرْبَعَةً، فَأَمَرَ الْوَاثِقُ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ إِنْ
لَمْ يُجِيبُوا بِمِثْلِ مَا أَجَابَ بِهِ بَقِيَّتُهُمْ. وَأَمَرَ الْوَاثِقُ
أَيْضًا بِامْتِحَانِ الْأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ فُودِيَ عَنْهُمْ
بِذَلِكَ، فَمَنْ أَجَابَ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ
لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فُودِيَ، وَإِلَّا تُرِكَ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ،
وَهَذِهِ بِدْعَةٌ صَلْعَاءُ شَنْعَاءُ عَمْيَاءُ صَمَّاءُ لَا مُسْتَنَدَ لَهَا
مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا عَقْلٍ صَحِيحٍ، بَلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ
وَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ بِخِلَافِهَا، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ،
وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَكَانَ وُقُوعُ الْمُفَادَاةِ عِنْدَ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: اللَّامِسُ. عِنْدَ
سَلُوقِيَةَ بِالْقُرْبِ مِنْ طَرَسُوسَ بَدَلُ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ
فِي أَيْدِي الرُّومِ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ ذِمِّيَّةٍ كَانَ تَحْتَ عَقْدِ
الْمُسْلِمِينَ - أَسِيرٌ مِنَ الرُّومِ كَانَ بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ
لَمْ يُسْلِمْ،
فَنَصَبُوا
جِسْرَيْنِ عَلَى النَّهْرِ فَإِذَا أَرْسَلَ الرُّومُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً فِي
جِسْرِهِمْ فَانْتَهَى إِلَى الْمُسْلِمِينَ كَبَّرَ وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ.
وَيُرْسِلُ الْمُسْلِمُونَ أَسِيرًا مِنَ الرُّومِ عَلَى جِسْرِهِمْ، فَإِذَا
انْتَهَى إِلَيْهِمْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُشْبِهُ التَّكْبِيرَ أَيْضًا، وَلَمْ
يَزَالُوا كَذَلِكَ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، بَدَلُ كُلِّ نَفْسِ نَفْسٌ،
ثُمَّ بَقِيَ مَعَ خَاقَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّومِ الْأُسَارَى، فَأَطْلَقَهُمْ
لِلرُّومِ ; لِيَكُونَ لَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ،
أَخُو طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بِطَبَرِسْتَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. وَفِيهَا
مَاتَ الْخَطَّابُ بْنُ وَجْهِ الْفُلْسِ، وَفِيهَا مَاتَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ الْأَعْرَابِيِّ الرَّاوِيَةُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ
خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَفِيهَا مَاتَتْ أُمُّ
أَبِيهَا بِنْتُ مُوسَى أُخْتُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا، وَفِيهَا مَاتَ
مُخَارِقٌ الْمُغَنِّي، وَأَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ حَاتِمٍ رَاوِيَةُ
الْأَصْمَعِيِّ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا:
أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ
عَرْعَرَةَ. وَأُمَيَّةُ بْنُ بِسِطَامٍ وَأَبُو تَمَّامٍ الطَّائِيُّ الشَّاعِرُ فِي قَوْلٍ، وَالْمَشْهُورُ مَا تَقَدَّمَ، وَكَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ الْجُمَحِيُّ، وَأَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ أَخُو حَجَّاجٍ، وَهَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَالْبُوَيْطِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ مَاتَ فِي السِّجْنِ مُقَيَّدًا حَتَّى يَقُولَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، رَاوِي الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَاثَتْ قَبِيلَةٌ يُقَالُ لَهَا: بَنُو نُمَيْرٍ بِالْيَمَامَةِ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا، فَكَتَبَ الْوَاثِقُ إِلَى بُغَا الْكَبِيرِ وَهُوَ مُقِيمٌ
بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَحَارَبَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَأَسَرَ
مِنْهُمْ آخَرِينَ، وَهَزَمَ بَقِيَّتَهُمْ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَ بَنِي تَمِيمٍ
وَهُوَ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ وَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ
حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ كَانَ الظَّفَرُ لَهُ عَلَيْهِمْ آخِرًا، وَذَلِكَ فِي
النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَعَهُ مِنْ أَعْيَانِ رُءُوسِ الْعَرَبِ فِي الْأَسْرِ وَالْقُيُودِ،
وَقَدْ قَتَلَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فِي الْوَقَائِعِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مَا
يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَنُمَيْرٍ، وَكِلَابٍ،
وَمُرَّةَ، وَفَزَارَةَ، وَثَعْلَبَةَ، وَطَيِّئٍ، وَتَمِيمٍ، وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصَابَ الْحَجِيجَ فِي الرُّجُوعِ عَطَشٌ شَدِيدٌ حَتَّى
بِيعَتِ الشَّرْبَةُ بِالدَّنَانِيرِ الْكَثِيرَةِ، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْعَطَشِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا أَمَرَ
الْوَاثِقُ بِتَرْكِ جِبَايَةِ أَعْشَارِ سُفُنِ الْبَحْرِ.
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ أَبِي جَعْفَرٍ هَارُونَ الْوَاثِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ ذِي الدَّوَانِيقِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْإِمَامِ بْنِ عَلِيٍّ السَّجَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ بْنِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيِّ الْعَبَّاسِيِّ
كَانَ هَلَاكُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِعِلَّةِ
الِاسْتِسْقَاءِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى حُضُورِ الْعِيدِ عَامَئِذٍ فَاسْتَنَابَ
فِي الصَّلَاةِ بِالنَّاسِ قَاضِيَهُ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُوَادٍ الْإِيَادِيَّ
الْمُعْتَزِلِيَّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ قَوِيَ بِهِ الِاسْتِسْقَاءُ فَأُقْعِدَ فِي تَنُّورٍ قَدْ
أُحْمِيَ لَهُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إِجْلَاسُهُ فِيهِ ; لِيَسْكُنَ وَجَعُهُ،
فَلَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ بَعْضَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَمَرَ بِأَنْ
يُحْمَى أَكْثَرَ مِنَ الْعَادَةِ فَأُجْلِسَ فِيهِ ثُمَّ أُخْرِجَ فَوُضِعَ فِي
مِحَفَّةٍ فَحُمِلَ فِيهَا وَحَوْلَهُ أُمَرَاؤُهُ، وَوُزَرَاؤُهُ وَقَاضِيهِ،
فَمَاتَ وَهُوَ مَحْمُولٌ فِيهَا فَمَا شَعَرُوا حَتَّى سَقَطَ جَبِينُهُ عَلَى
الْمِحَفَّةِ وَهُوَ مَيِّتٌ فَغَمَّضَ الْقَاضِي عَيْنَيْهِ بَعْدَ
ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ غَسْلَهُ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَدَفَنَهُ فِي قَصْرِ الْهَادِي، وَكَانَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ مُشْرَبًا حُمْرَةً، جَمِيلًا رَبْعَةً حَسَنَ الْجِسْمِ، قَاتِمَ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، فِيهَا نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ بِطْرِيقِ مَكَّةَ فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَاعَةً. وَكَانَ قَدْ جَمَعَ أَصْحَابَ النُّجُومِ فِي زَمَانِهِ حِينَ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ ; لِيَنْظُرُوا فِي مَوْلِدِهِ وَمَا تَقْتَضِيهِ صِنَاعَةُ النُّجُومِ كَمْ تَدُومُ أَيَّامُ دَوْلَتِهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ رُءُوسِهِمْ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمُ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ وَالْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ نَوْبَخْتَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيُّ الْمَجُوسِيُّ الْقُطْرُبُّلِيُّ، وَسَنَدٌ صَاحِبُ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ، وَعَامَّةُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي النُّجُومِ، فَنَظَرُوا فِي مَوْلِدِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ الْحَالُ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَعِيشُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَقَدَرُوا لَهُ خَمْسِينَ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً فَلَمْ يَلْبَثْ
بَعْدَ قَوْلِهِمْ
إِلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ حَتَّى مَاتَ. ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ
جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَذَكَرَ الْحُسَيْنُ بْنُ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ شَهِدَ
الْوَاثِقَ بَعْدَ أَنْ مَاتَ الْمُعْتَصِمُ بِأَيَّامٍ، وَقَدْ قَعَدَ مَجْلِسًا
كَانَ أَوَّلَ مَجْلِسٍ قَعَدَهُ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا غُنِّيَ بِهِ فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ أَنْ تَغَنَّتْ شَارِيَةُ، جَارِيَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ:
مَا دَرَى الْحَامِلُونَ يَوْمَ اسْتَقَلُّوا نَعْشَهُ لِلثَّوَاءِ أَمْ لِلِقَاءِ
فَلْيَقُلْ فِيكَ بَاكِيَاتُكَ مَا شِئْ
نَ صَبَاحًا وَعِنْدَ كُلِّ مَسَاءِ
قَالَ: فَبَكَى وَبَكَيْنَا حَتَّى شَغَلَنَا الْبُكَاءُ عَنْ جَمِيعِ مَا كُنَّا
فِيهِ، ثُمَّ انْدَفَعَ بَعْضُهُمْ يُغَنِّي:
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعًا أَيُّهَا
الرَّجُلُ
فَازْدَادَ وَاللَّهِ بُكَاؤُهُ، وَقَالَ: مَا سَمِعْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ
تَعْزِيَةً بِأَبٍّ وَنَعْيَ
نَفْسٍ. ثُمَّ
ارْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ دِعْبَلَ بْنَ عَلِيٍّ الشَّاعِرَ
لَمَّا تَوَلَّى الْوَاثِقُ عَمَدَ إِلَى طُومَارٍ، فَكَتَبَ فِيهِ أَبْيَاتَ
شِعْرٍ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَاجِبِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَقْرِئْ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ السَّلَامَ، وَقُلْ: هَذِهِ أَبْيَاتٌ امْتَدَحَكَ بِهَا
دِعْبَلٌ. فَلَمَّا فَضَّهَا الْوَاثِقُ إِذَا فِيهَا:
الْحَمْدُ لِلَّهِ لَا صَبْرٌ وَلَا جَلَدُ وَلَا عَزَاءٌ إِذَا أَهْلُ الْهَوَى
رَقَدُوا
خَلِيفَةٌ مَاتَ لَمْ يَحْزَنْ لَهُ أَحَدٌ وَآخَرُ قَامَ لَمْ يَفْرَحْ بِهِ
أَحَدُ
فَمَرَّ هَذَا وَمَرَّ الشُّؤْمُ يَتْبَعُهُ وَقَامَ هَذَا فَقَامَ الْوَيْلُ
وَالنَّكَدُ
قَالَ: فَتَطَلَّبَهُ الْخَلِيفَةُ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ الْوَاثِقُ. وَرَوَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَ
الْوَاثِقُ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ عَلَى الصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ فَرَجَعَ
إِلَيْهِ قَالَ: كَيْفَ كَانَ عِيدُكُمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟ قَالَ: كُنَّا
فِي نَهَارٍ لَا شَمْسَ فِيهِ. فَضَحِكَ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَنَا
مُؤَيَّدٌ بِكَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى الْوَاثِقِ،
وَحَمَلَهُ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الْمِحْنَةِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْقَوْلِ
بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّ
الْوَاثِقَ رَجَعَ
عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَأَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
الْفَتْحِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ، ثَنَا
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ،
عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الْمُهْتَدِي أَنَّ الْوَاثِقَ مَاتَ، وَقَدْ تَابَ مِنَ
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَرَوَى أَنَّ الْوَاثِقَ دَخَلَ عَلَيْهِ يَوْمًا مُؤَدِّبُهُ فَأَكْرَمَهُ
إِكْرَامًا كَثِيرًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ مَنْ فَتَقَ
لِسَانِي بِذِكْرِ اللَّهِ، وَأَدْنَانِي مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
جَذَبْتُ دَوَاعِي النَّفْسِ عَنْ طَلَبِ الْغِنَى وَقُلْتُ لَهَا عِفِّي عَنِ
الطَّلَبِ النَّزْرِ
فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَفِّهِ مَدَارُ رَحَا الْأَرْزَاقِ دَائِبَةً
تَجْرِي
فَوَقَّعَ لَهُ فِي رُقْعَتِهِ: جَذَبَتْكَ نَفْسُكَ عَنِ امْتِهَانِهَا،
وَدَعَتْكَ إِلَى صَوْنِهَا، فَخُذْ مَا طَلَبْتَهُ هَنِيئًا. وَأَجْزَلَ لَهُ
الْعَطَاءَ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
هِيَ الْمَقَادِيرُ
تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا فَاصْبِرْ فَلَيْسَ لَهَا صَبْرٌ عَلَى حَالِ
وَمِنْ شِعْرِ الْوَاثِقِ قَوْلُهُ:
تَنَحَّ عَنِ الْقَبِيحِ وَلَا تُرِدْهُ وَمَنْ أَوْلَيْتَهُ حُسْنًا فَزِدْهُ
سَتُكْفَى مِنْ عَدُوِّكَ كُلَّ كَيْدٍ إِذَا كَادَ الْعَدُوُّ وَلَمْ تَكِدْهُ
وَقَالَ الْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ مَا أَحْسَنَ أَحَدٌ مِنْ خُلَفَاءِ
بَنِي الْعَبَّاسِ إِلَى آلِ أَبِي طَالِبٍ مَا أَحْسَنَ إِلَيْهِمُ الْوَاثِقُ،
مَا مَاتَ وَفِيهِمْ فَقِيرٌ. وَلَمَّا احْتُضِرَ الْوَاثِقُ جَعَلَ يُرَدِّدُ
هَذَيْنَ الْبَيْتَيْنِ:
الْمَوْتُ فِيهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ مُشْتَرِكٌ لَا سُوقَةٌ مِنْهُمْ يَبْقَى وَلَا
مَلِكُ
مَا ضَرَّ أَهْلَ قَلِيلٍ فِي تَفَاقُرِهِمْ وَلَيْسَ يُغْنِي عَنِ الْأَمْلَاكِ
مَا مَلَكُوا
ثُمَّ أَمَرَ بِالْبُسُطِ فَطُوِيَتْ ثُمَّ أَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ،
وَجَعَلَ يَقُولُ: يَا مَنْ لَا يَزُولُ مُلْكُهُ ارْحَمْ مَنْ قَدْ زَالَ
مُلْكُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا احْتُضِرَ الْوَاثِقُ وَنَحْنُ حَوْلُهُ
غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: انْظُرُوا هَلْ قَضَى نَحْبَهُ ؟
قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْ بَيْنِهِمْ إِلَيْهِ لِأَنْظُرَ هَلْ هَدَأَ نَفَسُهُ،
فَأَفَاقَ فَلَحَظَ إِلَيَّ بِعَيْنِهِ فَرَجَعْتُ الْقَهْقَرَى ; خَوْفًا مِنْهُ،
فَتَعَلَّقَتْ قَائِمَةُ سَيْفِي بِشَيْءٍ فَكِدْتُ أَنْ أَهْلِكَ، فَمَا كَانَ
عَنْ
قَرِيبٍ حَتَّى مَاتَ،
وَأُغْلِقَ عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَبَقِيَ فِيهِ وَحْدَهُ،
وَاشْتَغَلُوا عَنْ تَجْهِيزِهِ بِالْبَيْعَةِ لِأَخِيهِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ
وَجَلَسْتُ أَنَا أَحْرُسُ الْبَابَ فَسَمِعْتُ حَرَكَةً مِنْ دَاخِلِ الْبَيْتِ،
فَدَخَلْتُ فَإِذَا جُرَذٌ قَدْ أَكَلَ عَيْنَهُ الَّتِي لَحَظَ إِلَيَّ بِهَا،
وَمَا كَانَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ إِلَّا الْيَسِيرُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا فِي الْقَصْرِ
الْهَارُونِيِّ، فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ
مُدَّةُ خِلَافَتِهِ خَمْسَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ،
وَقِيلَ: خَمْسَ سِنِينَ وَشَهْرَيْنِ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَخُوهُ جَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ هَارُونَ الْوَاثِقِ، وَكَانَتْ
بَيْعَتُهُ وَقْتَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَكَانَتِ الْأَتْرَاكُ قَدْ عَزَمُوا
عَلَى تَوْلِيَةِ
مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَاثِقِ، فَاسْتَصْغَرُوهُ فَتَرَكُوهُ، وَعَدَلُوا إِلَى
جَعْفَرٍ هَذَا، وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سِتًّا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ
الَّذِي أَلْبَسَهُ خِلْعَةَ الْخِلَافَةِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ، وَبَايَعَهُ الْخَاصَّةُ،
ثُمَّ الْعَامَّةُ، وَكَانُوا قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ بِالْمُنْتَصِرِ
بِاللَّهِ إِلَى صَبِيحَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
دُؤَادٍ: قَدْ رَأَيْتُ أَنْ يُلَقَّبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُتَوَكِّلِ
عَلَى اللَّهِ. فَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ، وَأَمَرَ
بِعَطَاءِ الشَّاكِرِيَّةِ مِنَ الْجُنْدِ ثَمَانِيَةَ شُهُورٍ، وَلِلْمَغَارِبَةِ
أَرْبَعَةَ شُهُورٍ، وَلِغَيْرِهِمْ ثَلَاثَةَ شُهُورٍ، وَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ
بِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُتَوَكِّلُ رَأَى فِي مَنَامِهِ فِي حَيَاةِ أَخِيهِ هَارُونَ
الْوَاثِقِ كَأَنَّ شَيْئًا نَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَكْتُوبٌ فِيهِ:
جَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ فَعَبَرَهَا فَقِيلَ لَهُ: هِيَ
الْخِلَافَةُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَخَاهُ الْوَاثِقَ فَسَجَنَهُ حِينًا، ثُمَّ
أَرْسَلَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ
شَرَّفَهَا اللَّهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، وَعَمْرُو بْنُ
مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ سَابِعِ صَفَرٍ مِنْهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بِالْقَبْضِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ الزَّيَّاتِ وَزِيرِ الْوَاثِقِ، وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ يُبْغِضُهُ
لِأُمُورٍ ; مِنْهَا أَنَّ أَخَاهُ الْوَاثِقَ تَغَضَّبَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ يَزِيدُ الْوَاثِقَ غَضَبًا عَلَى
أَخِيهِ، فَبَقِيَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، ثُمَّ كَانَ الَّذِي اسْتَرْضَى
الْوَاثِقَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ فَحَظِيَ لِذَلِكَ عِنْدَهُ فِي
أَيَّامِ مُلْكِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الزَّيَّاتِ كَانَ قَدْ أَشَارَ
بِخِلَافَةِ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْوَاثِقِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَلَفَّ عَلَيْهِ
النَّاسَ، وَجَعْفَرٌ الْمُتَوَكِّلُ فِي جَنْبِ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَلَمْ
يَتِمَّ الْأَمْرُ إِلَّا لِجَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ عَلَى رَغْمِ
أَنْفِ ابْنِ الزَّيَّاتِ فَلِهَذَا أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ سَرِيعًا
فَطَلَبَهُ، فَرَكِبَ بَعْدَ غَدَائِهِ يَظُنُّ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعَثَ
إِلَيْهِ، فَأَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ إِلَى دَارِ إِيتَاخَ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ
فَاحْتِيطَ عَلَيْهِ وَقُيِّدَ، وَبَعَثُوا فِي الْحَالِ إِلَى دَارِهِ فَأُخِذَ
جَمِيعُ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ
وَالْحَوَاصِلِ وَالْجَوَارِي وَالْأَثَاثِ، وَوَجَدُوا فِي مَجْلِسِهِ
الْخَاصِّ بِهِ
آلَاتِ الشَّرَابِ، وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى حَوَاصِلِهِ وَضِيَاعِهِ
بِسَائِرِ الْأَمَاكِنِ، فَاحْتِيطَ عَلَيْهَا، وَأُمِرَ بِهِ أَنْ يُعَذَّبَ ;
فَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ، وَجَعَلُوا يُسَاهِرُونَهُ، كُلَّمَا أَرَادَ
الرُّقَادَ نُخِسَ بِالْحَدِيدِ، ثُمَّ وُضِعَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي تَنُّورٍ
مِنْ خَشَبٍ فِيهِ مَسَامِيرُ قَائِمَةٌ فِي أَسْفَلِهِ فَأُقِيمَ عَلَيْهَا
وَوُكِّلَ بِهِ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنَ الرُّقَادِ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ أَيَّامًا
حَتَّى مَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخْرِجَ مِنَ التَّنُّورِ وَفِيهِ رَمَقٌ فَضُرِبَ عَلَى
بَطْنِهِ ثُمَّ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى مَاتَ وَهُوَ تَحْتَ الضَّرْبِ. وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أُحْرِقَ ثُمَّ دُفِعَتْ جُثَّتُهُ إِلَى أَوْلَادِهِ فَدَفَنُوهُ،
فَنَبَشَتْ عَلَيْهِ الْكِلَابُ فَأَكَلَتْ لَحْمَهُ وَجِلْدَهُ، سَامَحَهُ
اللَّهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِإِحْدَى عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْهَا.
وَكَانَ قِيمَةُ مَا وُجِدَ لَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ نَحْوًا مِنْ تِسْعِينَ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ سَأَلَهُ عَنْ قَتْلِ
أَخِيهِ الْوَاثِقِ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْخُزَاعِيَّ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَحْرَقَنِي اللَّهُ بِالنَّارِ إِنْ كَانَ الْوَاثِقُ قَتَلَهُ
يَوْمَ قَتَلَهُ إِلَّا
وَهُوَ كَافِرٌ.
قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: فَأَنَا أَحْرَقْتُهُ بِالنَّارِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا فُلِجَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي
الْمُعْتَزِلِيُّ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ
وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا دَعَا عَلَى نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. ثُمَّ غَضِبَ
الْمُتَوَكِّلُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُتَّابِ وَالْعُمَّالِ، وَأَخَذَ
مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا.
وَفِيهَا وَلَّى الْمُتَوَكِّلُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا الْمُنْتَصِرَ الْحِجَازَ
وَالْيَمَنَ وَعَقَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
وَفِيهَا عَمَدَ مَلِكُ الرُّومِ مِيخَائِيلُ بْنُ تَوْفِيلَ إِلَى أُمِّهِ
تَدُورَةَ فَأَقَامَهَا بِالشَّمْسِ وَأَلْزَمَهَا الدَّيْرَ، وَقَتَلَ الرَّجُلَ
الَّذِي اتَّهَمَهَا بِهِ، وَكَانَ مُلْكُهَا سِتَّ سِنِينَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ
حَرَسَهَا اللَّهُ وَشَرَّفَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ السَّامِيُّ. وَحِبَّانُ بْنُ مُوسَى
الْمَرْوَزِيُّ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّ، وَسَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ الْقَاضِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ، صَاحِبُ " الْمَغَازِي "، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الْمَقَابِرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَأُسْتَاذُ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ فِي زَمَانِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْبُعَيْثِ بْنِ الْجَلِيسِ عَنِ الطَّاعَةِ فِي
بِلَادِهِ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَأَظْهَرَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ مَاتَ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الرَّسَاتِيقِ، وَلَجَأَ إِلَى
مَدِينَةِ مَرَنْدَ فَحَصَّنَهَا، وَجَاءَتْهُ الْبُعُوثُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ جُيُوشًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا،
فَنَصَبُوا عَلَى بَلَدِهِ الْمَجَانِيقَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحَاصَرُوهُ
مُحَاصِرَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَقَاتَلَهُمْ مُقَاتَلَةً هَائِلَةً، وَصَبَرَ
هُوَ وَأَصْحَابُهُ صَبْرًا بَلِيغًا، وَقَدِمَ بُغَا الشَّرَابِيُّ
لِمُحَاصَرَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَسَرَهُ، وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُ
وَحَرَمَهُ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ، وَأَسَرَ سَائِرَهُمْ،
وَانْحَسَمَتْ مَادَّةُ ابْنِ الْبُعَيْثِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَفِي جُمَادَى
الْأُولَى مِنْهَا خَرَجَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى الْمَدَائِنِ.
وَفِيهَا حَجَّ إِيتَاخُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ، وَهُوَ وَالِي مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ وَالْمَوْسِمِ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَقَدْ كَانَ
إِيتَاخُ هَذَا غُلَامًا خَزَرِيًّا،
طَبَّاخًا لِرَجُلٍ
يُقَالُ لَهُ: سَلَّامٌ الْأَبْرَشُ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ الْمُعْتَصِمُ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، فَرَفَعَ مَنْزِلَتَهُ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ
الْوَاثِقُ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، ضَمَّ إِلَيْهِ أَعْمَالًا كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ
عَامَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ أَيْضًا وَذَلِكَ لِرُجْلَةِ إِيتَاخَ
وَشَهَامَتِهِ وَنَهْضَتِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَرِبَ لَيْلَةً
مَعَ الْمُتَوَكِّلِ فَعَرْبَدَ عَلَيْهِ الْمُتَوَكِّلُ فَهَمَّ إِيتَاخُ
بِقَتْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ اعْتَذَرَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ،
وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أَبِي وَأَنْتَ رَبَّيْتَنِي ثُمَّ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ
يُشِيرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَأْذِنَ لِلْحَجِّ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ،
وَأَمَّرَهُ عَلَى كُلِّ بَلْدَةٍ يَحِلُّ بِهَا، وَخَرَجَ الْقُوَّادُ فِي
خِدْمَتِهِ إِلَى طَرِيقِ الْحَجِّ حِينَ خَرَجَ، وَوَلَّى الْمُتَوَكِّلُ
الْحِجَابَةَ لِوَصِيفٍ الْخَادِمِ عِوَضًا عَنْ إِيتَاخَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ أَمِيرُ مَكَّةَ وَهُوَ أَمِيرُ
الْحَجِيجِ مِنْ سِنِينَ مُتَقَدِّمَةٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ
الشَّاذَكُونِيُّ، أَحَدُ
الْحُفَّاظِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِيُّ، وَأَبُو رَبِيعٍ الزَّهْرَانِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَدِينِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَالْمُعَافَى الرُّسْعَنِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ رَاوِي الْمُوَطَّأِ لِلْمَغَارِبَةِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا كَانَ هَلَاكُ إِيتَاخَ فِي السِّجْنِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ فَتَلَقَّتْهُ هَدَايَا الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ يُرِيدُ دُخُولَ سَامَرَّاءَ الَّتِي فِيهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
بَعَثَ إِلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَائِبُ بَغْدَادَ عَنْ أَمْرِ
الْخَلِيفَةِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهَا ; لِيَتَلَقَّاهُ وُجُوهُ النَّاسِ، وَبَنِي
هَاشِمٍ فَدَخَلَهَا فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى ابْنَيْهِ مُظَفَّرٍ وَمَنْصُورٍ وَكَاتِبَيْهِ سُلَيْمَانَ
بْنِ وَهْبٍ وَقُدَامَةَ بْنِ زِيَادٍ النَّصْرَانِيِّ فَأَسْلَمَ تَحْتَ
الْعُقُوبَةِ، وَكَانَ هَلَاكُ إِيتَاخَ بِالْعَطَشِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَكَلَ
أَكْلًا كَثِيرًا بَعْدَ جُوعٍ شَدِيدٍ، ثُمَّ اسْتَقَى الْمَاءَ فَلَمْ يُسْقَ
حَتَّى مَاتَ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْهَا. وَمَكَثَ وَلَدَاهُ فِي السِّجْنِ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُتَوَكِّلِ،
فَلَمَّا وَلِي الْمُنْتَصِرُ وَلَدُ الْمُتَوَكِّلِ أَخْرَجَهُمَا.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا قَدِمَ بُغَا سَامَرَّا وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْبُعَيْثِ وَأَخَوَاهُ صَقْرٌ وَخَالِدٌ، وَنَائِبُهُ الْعَلَاءُ، وَمَعَهُمْ
مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ نَحْوٌ مَنْ مِائَةٍ وَثَمَانِينَ إِنْسَانًا،
فَأُدْخِلُوا عَلَى الْجِمَالِ لِيَرَاهُمُ النَّاسُ، فَلَمَّا أُوقِفَ ابْنُ
الْبُعَيْثِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُتَوَكِّلِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَأُحْضِرَ
السَّيْفُ وَالنِّطْعُ فَجَاءَ السَّيَّافُونَ فَوَقَفُوا حَوْلَهُ، فَقَالَ لَهُ
الْمُتَوَكِّلُ: وَيْلَكَ، مَا دَعَاكَ إِلَى مَا فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ: الشِّقْوَةُ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
وَأَنْتَ الْحَبْلُ
الْمَمْدُودُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَإِنَّ لِي فِيكَ لَظَنَّيْنِ،
أَسْبَقُهُمَا إِلَى قَلْبِي أَوْلَاهُمَا بِكَ ; وَهُوَ الْعَفْوُ. ثُمَّ
انْدَفَعَ يَقُولُ بَدِيهَةً:
أَبَى النَّاسُ إِلَّا أَنَّكَ الْيَوْمَ قَاتِلِي إِمَامَ الْهُدَى وَالصَّفْحُ
بِالْمَرْءِ أَجْمَلُ وَهَلْ أَنَا إِلَّا جُبْلَةٌ مِنْ خَطِيَّةٍ
وَعَفْوُكَ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ يُجْبَلُ فَإِنَّكَ خَيْرُ السَّابِقِينَ
إِلَى الْعُلَا
وَلَا شَكَّ أَنَّ خَيْرَ الْفَعَالَيْنِ تَفْعَلُ
فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ: إِنَّ مَعَهُ لَأَدَبًا. ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَيُقَالُ:
بَلْ شَفَعَ فِيهِ الْمُعْتَزُّ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَشَفَّعَهُ فِيهِ.
وَيُقَالُ: بَلْ أَوْدِعَ فِي السِّجْنِ فِي قُيُودٍ ثَقِيلَةٍ، فَلَمْ يَزَلْ
فِيهِ حَتَّى هَرَبَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ حِينَ هَرَبَ:
كَمْ قَدْ قَضَيْتُ أُمُورًا كَانَ أَهْمَلَهَا غَيْرِي وَقَدْ أَخَذَ
الْإِفْلَاسُ بِالْكَظَمِ
لَا تَعْذِلِينِي فِيمَا لَيْسَ يَنْفَعُنِي إِلَيْكِ عَنِّي جَرَى الْمِقْدَارُ
بِالْقَلَمِ
سَأُتْلِفُ الْمَالَ فِي عُسْرٍ وَفِي يُسْرٍ إِنَّ الْجَوَادَ الَّذِي يُعْطِي
عَلَى الْعَدَمِ
وَفِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَنْ
يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَعَمَائِمِهِمْ
وَثِيَابِهِمْ، وَأَنْ يَتَطَيْلَسُوا بِالْمَصْبُوغِ بِالْعَسَلِيِّ، وَأَنْ
يَكُونَ عَلَى غِلْمَانِهِمْ رِقَاعٌ - مُخَالِفَةٌ لِلَوْنِ ثِيَابِهِمْ مِنْ
خَلْفِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ، وَأَنْ يُلْزَمُوا
بِالزَّنَانِيرِ
الْخَاصِرَةِ لِثِيَابِهِمْ كَزَنَانِيرِ الْفَلَّاحِينَ الْيَوْمَ، وَأَنْ
يَحْمِلُوا فِي رِقَابِهِمْ كُرَاتٍ مِنْ خَشَبٍ كَثِيرَةً، وَأَنْ لَا يَرْكَبُوا
خَيْلًا، وَلْتَكُنْ رُكُبُهُمْ مِنْ خَشَبٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُذِلَّةِ لَهُمُ الْمُهِينَةِ لِنُفُوسِهِمْ، وَأَنْ لَا يُسْتَعْمَلُوا فِي
شَيْءٍ مِنَ الدَّوَاوِينِ الَّتِي يَكُونُ لَهُمْ فِيهَا حُكْمٌ عَلَى مُسْلِمٍ،
وَأَمَرَ بِتَخْرِيبِ كَنَائِسِهِمُ الْمُحْدَثَةِ، وَبِتَضْيِيقِ مَنَازِلِهِمُ
الْمُتَّسِعَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهَا الْعُشْرُ، وَأَنْ يَعْمَلُوا مَا كَانَ
مُتَّسِعًا كَبِيرًا مَسْجِدًا، وَأَمَرَ بِتَسْوِيَةِ قُبُورِهِمْ بِالْأَرْضِ،
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ، وَإِلَى كُلِّ بَلَدٍ
وَرُسْتَاقٍ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودُ بْنُ الْفَرَجِ
النَّيْسَابُورِيُّ. وَهُوَ مِمَّنْ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى خَشَبَةِ بَابَكَ
الْخُرَّمِيِّ وَهُوَ مَصْلُوبٌ، فَيَقْعُدُ قَرِيبًا مِنْهُ، وَذَلِكَ بِقُرْبِ
دَارِ الْخِلَافَةِ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، فَادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّهُ
ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى هَذِهِ الضَّلَالَةِ، وَوَافَقَهُ فِي
هَذِهِ الْجَهَالَةِ جَمَاعَةٌ قَلِيلُونَ، وَهُمْ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا،
وَقَدْ نَظَمَ لَهُمْ كَلَامًا فِي مُصْحَفٍ لَهُ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - زَعَمَ
لَعَنَهُ اللَّهُ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَاءَهُ بِهِ مِنَ
اللَّهِ فَأُخِذَ فَرُفِعَ أَمْرُهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ
بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسِّيَاطِ ; فَاعْتَرَفَ بِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ، وَمَا هُوَ
مُعَوِّلٌ عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ مِنْ ذَلِكَ، وَالرُّجُوعَ عَنْهُ
فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنْ يَصْفَعَهُ عَشْرَ
صَفَعَاتٍ فَفَعَلُوا، فَعَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاوَاتِ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَلَاثٍ
خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَفِي يَوْمِ
السَّبْتِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
الْمُبَارَكَةِ أَخَذَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ الْعَهْدَ مِنْ
بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ: مُحَمَّدٌ الْمُنْتَصِرُ، ثُمَّ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُعْتَزُّ وَاسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ،
ثُمَّ لِإِبْرَاهِيمَ وَسَمَّاهُ الْمُؤَيَّدَ بِاللَّهِ، وَلَمْ يَلِ هَذَا
الْخِلَافَةَ. وَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةً مِنَ الْبِلَادِ
يَكُونُ نَائِبًا عَلَيْهَا وَنُوَّابُهُ فِيهَا، وَيَضْرِبُ لَهُ السَّكَّةُ
بِهَا، وَقَدْ عَيَّنَ ابْنُ جَرِيرٍ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ
الْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ، وَعَقَدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
لِوَاءَيْنِ، لِوَاءً أَسْوَدَ لِلْعَهْدِ، وَلِوَاءً أَبْيَضَ لِلْعَمَالَةِ،
وَكَتَبَ بَيْنَهُمْ كِتَابًا بِالرِّضَا مِنْهُمْ بِمُبَايَعَةِ الْأُمَرَاءِ
وَالْكُبَرَاءِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ هَذَا مِنْهَا تَغَيَّرَ مَاءُ دِجْلَةَ إِلَى
الصُّفْرَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ صَارَ فِي لَوْنِ مَاءِ الْمُدُودِ
فَفَزِعَ النَّاسُ لِذَلِكَ.
وَفِيهَا أَتَى الْمُتَوَكِّلُ بِيَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ بَعْضِ النَّوَاحِي،
وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنَ الشِّيعَةِ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ
فَضُرِبَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مِقْرَعَةً ثُمَّ حُبِسَ فِي الْمُطْبِقِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ صَاحِبُ الْجِسْرِ يَعْنِي
نَائِبَ بَغْدَادَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ، وَصُيِّرَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ مَكَانَهُ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ خَمْسُ
خِلَعٍ، وَقُلِّدَ سَيْفًا.
قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ لَهُ فِي نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ مِنْ زَمَنِ
الْمَأْمُونِ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الدُّعَاةِ تَبَعًا لِسَادَتِهِ وَكُبَرَائِهِ،
إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاهَانَ الْمَوْصِلِيُّ النَّدِيمُ، الْأَدِيبُ
ابْنُ الْأَدِيبِ، النَّادِرُ الشَّكْلُ فِي وَقْتِهِ الْمَجْمُوعُ الْفَضَائِلِ
مِنْ كُلِّ فَنٍّ يَعْرِفُهُ أَبْنَاءُ عَصْرِهِ، مِنَ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ
وَالْجَدَلِ وَالْكَلَامِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ، وَإِنَّمَا اشْتُهِرَ بِالْغِنَاءِ
; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ فِيهِ.
قَالَ الْمُعْتَصِمُ: إِنَّ إِسْحَاقَ إِذَا غَنَّى يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّهُ
قَدْ زِيدَ فِي مُلْكِي. وَقَالَ الْمَأْمُونُ لَوْلَا اشْتِهَارُهُ بِالْغِنَاءِ
لَوَلَّيْتُهُ الْقَضَاءَ ; لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ عِفَّتِهِ وَنَزَاهَتِهِ
وَأَمَانَتِهِ.
وَلَهُ شِعْرٌ
حَسَنٌ، وَدِيوَانٌ كَبِيرٌ. وَكَانَتْ عِنْدَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كُلِّ
فَنٍّ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَقِيلَ: فِي الَّتِي
بَعْدَهَا.
وَقَدْ تَرْجَمَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ تَرْجَمَةً حَافِلَةً، وَذَكَرَ
عَنْهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، وَأَشْعَارًا بَدِيعَةً رَائِقَةً، وَحِكَايَاتٍ
مُدْهِشَةً يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا. فَمِنْ غَرِيبِ ذَلِكَ أَنَّهُ غَنَّى
يَوْمًا لِيَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ فَوَقَّعَ لَهُ بِأَلْفِ أَلْفٍ،
وَوَقَّعَ لَهُ ابْنُهُ جَعْفَرٌ بِمِثْلِهَا، وَابْنُهُ الْفَضْلُ بِمِثْلِهَا
فِي حِكَايَةٍ طَوِيلَةٍ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَحَدُ الْأَعْلَامِ
وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَصَاحِبُ " الْمُصَنَّفِ " الَّذِي لَمْ
يُصَنِّفْ أَحَدٌ مِثْلَهُ قَطُّ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِهَدْمِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَنَازِلِ وَالدُّورِ، وَنُودِيَ فِي
النَّاسِ: مَنْ وُجِدَ هَاهُنَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رُفِعَ إِلَى
الْمُطْبِقِ. فَلَمْ يَبْقَ هُنَاكَ بَشَرٌ، وَاتَّخَذَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ
مَزْرَعَةً تُحْرَثُ وَتُسْتَغَلُّ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدٌ الْمُنْتَصِرُ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ، سَمَّهُ ابْنُ
أَخِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ هَذَا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ الْوَزِيرُ، وَالِدُ بُورَانَ زَوْجَةِ
الْمَأْمُونِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَكَانَ مِنْ سَرَاةِ النَّاسِ
وَرُؤَسَائِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْمَرْوَزِيُّ فَجْأَةً، فَوَلِيَ ابْنُهُ
يُوسُفُ مَكَانَهُ عَلَى نِيَابَةِ أَرْمِينِيَّةَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَيْضًا: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ،
وَمُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، وَهُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ
الْقَيْسِيُّ، وَأَبُو الصَّلْتِ الْهَرَوِيُّ، أَحَدُ الضُّعَفَاءِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَبَضَ يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ عَلَى
الْبِطْرِيقِ الْكَبِيرِ بِهَا وَبَعَثَهُ إِلَى نَائِبِ الْخَلِيفَةِ، وَاتَّفَقَ
بَعْدَ بَعْثِهِ إِيَّاهُ أَنْ سَقَطَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ،
فَتَحَزَّبَ أَهْلُ ذَلِكَ الْبِطْرِيقِ، وَجَاءُوا فَحَاصَرُوا الْبَلَدَ الَّتِي
بِهَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ; لِيُقَاتِلَهُمْ،
فَقَتَلُوهُ وَطَائِفَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَعَهُ،
وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي الثَّلْجِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ، وَلَمَّا
بَلَغَ الْمُتَوَكِّلَ مَا وَقَعَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ ; أَرْسَلَ
إِلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ بُغَا الْكَبِيرَ مِنْ جَيْشٍ كَثِيفٍ جِدًّا،
فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِمَّنْ حَاصَرَ الْمَدِينَةَ وَقَتَلَ
الْأَمِيرَ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَأَسَرَ مِنْهُمْ طَائِفَةً
كَبِيرَةً، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ الْبَاقِ مِنْ كُورَةِ الْبَسْفُرْجَانَ،
وَسَلَكَ إِلَى مُدُنٍ كَثِيرَةٍ كِبَارٍ، وَمَهَّدَ الْمَمَالِكَ، وَوَطَّدَ
الْبِلَادَ وَالنَّوَاحِيَ.
وَفِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ
أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي الْمُعْتَزِلِيِّ، وَكَانَ عَلَى الْمَظَالِمِ فَعَزَلَهُ
عَنْهَا، وَاسْتَدْعَى بِيَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ فَوَلَّاهُ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ
وَالْمَظَالِمِ أَيْضًا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى ضِيَاعِ
ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ، وَأَخَذَ ابْنَهُ أَبَا الْوَلِيدِ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ
بْنِ أَبِي دُؤَادٍ، فَحَبَسَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَأَمَرَ بِمُصَادَرَتِهِ فَحَمَلَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا يُقَوَّمُ
بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ صُولِحَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ
دِرْهَمٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَدْ أَصَابَهُ الْفَالِجُ كَمَا ذَكَرْنَا
ثُمَّ نَفَى أَهْلَهُ مِنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ مُهَانِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ:
لَوْ كُنْتَ فِي الرَّأْيِ مَنْسُوبًا إِلَى رَشَدٍ وَكَانَ عَزْمُكَ عَزْمًا
فِيهِ تَوْفِيقُ لَكَانَ فِي الْفِقْهِ شُغْلٌ لَوْ قَنِعْتَ بِهِ
عَنْ أَنْ تَقُولَ كِتَابُ اللَّهِ مَخْلُوقُ مَاذَا عَلَيْكَ وَأَصْلُ الدِّينِ
يَجْمَعُهُمْ
مَا كَانَ فِي الْفَرْعِ لَوْلَا الْجَهْلُ وَالْمُوْقُ
وَفِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِإِنْزَالِ جُثَّةِ
أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْخُزَاعِيِّ، وَالْجَمْعِ
بَيْنَ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ، وَأَنْ يُسَلَّمَ إِلَى أَوْلِيَائِهِ، فَفَرِحَ
النَّاسُ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ فِي
جِنَازَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهَا،
وَبِأَعْوَادِ نَعْشِهِ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، ثُمَّ أَتَوْا إِلَى
الْجِذْعِ الَّذِي صُلِبَ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَأَرْهَجَ
الْعَامَّةُ فِي ذَلِكَ فَرَحًا وَسُرُورًا،
فَكَتَبَ
الْمُتَوَكِّلُ إِلَى نَائِبِهِ يَأْمُرُهُ بِرَدْعِهِمْ عَنْ تَعَاطِي مِثْلِ
ذَلِكَ وَعَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الْبَشَرِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ
بِالْمَنْعِ مِنَ الْكَلَامِ، فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْكَفِّ عَنِ
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَظْهَرَ إِكْرَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَاسْتَدْعَاهُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فَأَكْرَمَهُ،
وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
خِلْعَةً سَنِيَّةً مِنْ مَلَابِسِهِ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ أَحْمَدُ كَثِيرًا،
فَلَبِسَهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ نَازِلًا فِيهِ، ثُمَّ نَزَعَهَا
نَزْعًا عَنِيفًا وَهُوَ يَبْكِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُرْسِلُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ
الْخَاصِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا
يَأْكُلُ لَهُمْ طَعَامًا، بَلْ كَانَ صَائِمًا مُوَاصِلًا يَطْوِي تِلْكَ
الْأَيَّامَ كُلَّهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ شَيْءٌ يَرْتَضِي
أَكْلَهُ، وَلَكِنْ كَانَ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ يَقْبَلَانِ تِلْكَ الْجَوَائِزَ،
وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا
الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ لَخُشِيَ عَلَى أَحْمَدَ أَنْ يَمُوتَ جُوعًا.
وَارْتَفَعَ شَأْنُ السُّنَّةِ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ عَفَا اللَّهُ
عَنْهُ وَكَانَ لَا يُوَلِّي أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ مَشُورَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ
مَوْضِعَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ مَشُورَتِهِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّاسِ، وَمِنَ
الْمُعَظِّمِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّبَاعِ
الْأَثَرِ، وَكَانَ قَدْ وَلَّى مِنْ جِهَتِهِ حَيَّانَ بْنَ بِشْرٍ قَضَاءَ
الشَّرْقِيَّةِ، وَسَوَّارَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ
الْعَنْبَرِيَّ قَضَاءَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَكِلَاهُمَا كَانَ أَعْوَرَ،
فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ:
رَأَيْتُ مِنَ الْكَبَائِرِ قَاضِيَيْنِ هُمَا أُحْدُوثَةٌ فِي الْخَافِقَيْنِ
هُمَا اقْتَسَمَا الْعَمَى نِصْفَيْنِ قَدًّا كَمَا اقْتَسَمَا قَضَاءَ الْجَانِبَيْنِ
وَتَحْسَبُ مِنْهُمَا مَنْ هَزَّ رَأْسًا لِيَنْظُرَ فِي مَوَارِيثٍ وَدَيْنِ
كَأَنَّكَ قَدْ وَضَعْتَ عَلَيْهِ دَنًّا فَتَحْتَ بُزَالَهُ مِنْ فَرْدِ عَيْنِ
هُمَا فَأْلُ الزَّمَانِ بِهُلْكِ يَحْيَى إِذِ افْتَتَحَ الْقَضَاءَ
بِأَعْوَرَيْنِ
وَغَزَا الصَّائِفَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمِنِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ جَعْفَرِ ابْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، أَمِيرُ الْحِجَازِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ وَعَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْفُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْجَحْدَرِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَمَانِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا حَاصَرَ بُغَا مَدِينَةَ تَفْلِيسَ وَعَلَى
مُقَدِّمَتِهِ زَيْرَكُ التُّرْكِيُّ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ صَاحِبُ تَفْلِيسَ
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقَاتَلَهُ، فَأُسِرَ إِسْحَاقُ، فَأَمَرَ بُغَا
بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَصَلْبِهِ، وَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ النَّارِ فِي النِّفْطِ إِلَى
نَحْوِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَكْثَرُ بِنَائِهَا مِنْ خَشَبِ الصَّنَوْبَرِ،
فَأَحْرَقَ أَكْثَرَهَا، وَأَحْرَقَ مِنْ أَهْلِهَا نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ
إِنْسَانٍ، وَطَفِئَتِ النَّارُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ ; لِأَنَّ نَارَ الصَّنَوْبَرِ
لَا بَقَاءَ لَهَا، وَدَخَلَ الْجُنْدُ فَأَسَرُوا مَنْ بَقِيَ مَنْ أَهْلِهَا،
وَاسْتَلَبُوهُمْ حَتَّى اسْتَلَبُوا الْمَوْتَى. ثُمَّ سَارَ بُغَا إِلَى مُدُنٍ
أُخْرَى مِمَّنْ كَانَ يُمَالِئُ أَهْلُهَا مَعَ مَنْ قَتَلَ نَائِبَ
أَرْمِينِيَّةَ يُوسُفَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، أَخْذًا بِثَأْرِهِ
وَعُقُوبَةً لِمَنْ تَجَرَّأَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا جَاءَتِ الْفِرِنْجُ فِي نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ مَرْكَبٍ،
قَاصِدِينَ دِيَارَ مِصْرَ مِنْ نَاحِيَةِ دِمْيَاطَ فَدَخَلُوهَا فَجْأَةً
فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَرَقُوا الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ
وَالْمِنْبَرَ، وَأَسَرُوا مِنَ النِّسَاءِ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ امْرَأَةٍ ;
مِنَ الْمُسْلِمَاتِ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، وَالْبَاقِيَاتُ مِنْ
نِسَاءِ الْقِبْطِ، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَالْأَمْتِعَةِ
وَالْمَغَانِمَ
شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَفَرَّ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ جِهَةٍ فَكَانَ
مَنْ غَرِقَ فِي بُحَيْرَةِ تِنِّيسَ أَكْثَرَ مِمَّنْ أَسَرُوهُ، ثُمَّ رَجَعُوا
عَلَى حَمِيَّةٍ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ أَحَدٌ حَتَّى رَجَعُوا بِلَادَهُمْ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمِنِيُّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ أَحَدُ الْأَعْلَامِ وَعُلَمَاءِ
الْإِسْلَامِ وَالْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأَنَامِ. وَبِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، الْفَقِيهُ
الْحَنَفِيُّ، وَطَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ
الرَّيَّانِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
الْبُرْجُلَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي السَّرِىِّ الْعَسْقَلَانِيُّ
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زَادَ الْمُتَوَكِّلُ فِي التَّغْلِيظِ عَلَى أَهْلِ
الذِّمَّةِ فِي التَّمَيُّزِ فِي اللِّبَاسِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكَّدَ
الْأَمْرَ بِتَخْرِيبِ الْكَنَائِسِ الْمُحْدَثَةِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَفِيهَا نَفَى الْمُتَوَكِّلُ عَلِيَّ بْنَ الْجَهْمِ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا اتَّفَقَ شَعَانِينُ النَّصَارَى وَيَوْمُ النَّيْرُوزِ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ وَهُوَ يَوْمُ الْأَحَدِ لِعِشْرِينَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَزَعَمَتِ النَّصَارَى أَنَّ هَذَا لَمْ يَتَّفِقْ مِثْلُهُ فِي
الْإِسْلَامِ إِلَّا فِي هَذَا الْعَامِ.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْمَذْكُورُ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ
عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَالِي مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدٌ ابْنُ
الْقَاضِي أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ
الْإِيَادِيُّ
الْمُعْتَزِلِيُّ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ وَصَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ مُؤَذِّنُ أَهْلِ دِمَشْقَ
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ،
وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ صَاحِبُ " التَّفْسِيرِ "، "
وَالْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ،
وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، وَوَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ
أَحَدُ
الْعُبَّادِ، لَهُ
كَلَامٌ حَسَنٌ فِي الزُّهْدِ وَمُعَامَلَاتِ الْقُلُوبِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: كَانَ مِنْ طَبَقَةِ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ
وَبِشْرٍ الْحَافِي، وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ يُسَمِّيهُ
جَاسُوسَ الْقُلُوبِ ; لِحِدَّةِ فِرَاسَتِهِ.
رَوَى عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ وَطَبَقَتِهِ، وَعَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي الْحَوَارِيِّ، وَمَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ،
وَغَيْرُهُمْ.
رَوَى عَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحِوَارِيِّ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ الْحُسَيْنِ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ قَالَ: مَرَرْتُ بِالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ
جَالِسٌ وَقْتَ السَّحَرِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، مِثْلُكَ يَجْلِسُ فِي
هَذَا الْوَقْتِ ؟ ! قَالَ: إِنِّي قَدْ تَوَضَّأْتُ فَأَرَدْتُهَا أَنْ تَقُومَ
فَتُصَلِّيَ فَأَبَتْ عَلَيَّ، وَأَرَادَتْنِي عَلَى أَنْ تَنَامَ فَأَبَيْتُ
عَلَيْهَا.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ ; قَوْلُهُ: إِذَا أَرَدْتَ صَلَاحَ قَلْبِكَ
فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِحِفْظِ لِسَانِكَ. وَقَالَ: مِنَ الْغَنِيمَةِ
الْبَارِدَةِ أَنْ تُصْلِحَ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ فَيُغْفَرَ لَكَ مَا مَضَى
مِنْهُ، وَقَالَ: يَسِيرُ الْيَقِينِ يُخْرِجُ الشَّكَّ كُلَّهُ مِنَ الْقَلْبِ،
وَيَسِيرُ الشَّكِّ يُخْرِجُ الْيَقِينَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَقَالَ: مَنْ كَانَ
بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ
لَهُ أُخْوَفَ.
وَقَالَ: خَيْرُ صَاحِبٍ لَكَ فِي دُنْيَاكَ الْهَمُّ يَقْطَعُكَ عَنِ الدُّنْيَا،
وَيُوصِلُكَ إِلَى الْآخِرَةِ، وَمِنْ شِعْرِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَعْزِمْ وَلَوْ كُنْتُ صَادِقًا عَزَمْتُ وَلَكِنَّ الْفِطَانَ
شَدِيدُ وَلَوْ كَانَ لِي عَقْلٌ وَإِيقَانُ مُوقِنٍ
لَمَا كُنْتُ عَنْ قَصْدِ الطَّرِيقِ أَحِيدُ وَلَا كَانَ فِي شَكِّ الْيَقِينِ
مَطَامِعِي
وَلَكِنْ عَنِ الْأَقْدَارِ كَيْفَ أَحِيدُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
دَاعِيَاتُ الْهَوَى تَخِفُّ عَلَيْنَا وَخِلَافُ الْهَوَى عَلَيْنَا ثَقِيلُ
فُقِدَ الصِّدْقُ فِي الْأَمَاكِنِ حَتَّى وَصْفُهُ الْيَوْمَ مَا عَلِيْهِ
دَلِيلُ
لَا نَرَى خَائِفًا فَيَلْزَمَنَا الْخَوْ فُ وَلَا صَادِقًا بِمَا قَدْ يَقُولُ
فَبَقِينَا مُذَبْذَبِينَ حَيَارَى نَطْلُبُ الصَّدْقَ مَا إِلَيْهِ سَبِيلُ
وَمِنْ شَعْرِهِ
أَيْضًا:
هَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الْأَمْرِ يَنْقَطِعُ وَخَلِّ عَنْكَ عِنَانَ الْهَمِّ
يَنْدَفِعُ
فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ وَكُلُّ كَرْبٍ إِذَا ضَاقَ يَتَّسِعُ
إِنَّ الْبَلَاءَ وَإِنَّ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ الْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ
يَنْقَطِعُ
وَقَدْ أَطَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ تَرْجَمَتَهُ، وَلَمْ يُؤَرِّخْ
وَفَاتَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ هَاهُنَا تَقْرِيبًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
سَنَةُ أَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا عَدَا أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ أَبِي الْغَيْثِ مُوسَى بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الرَّافِقِيِّ وَكَانَ قَدْ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ
فَقَتَلُوا جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمُتَوَكِّلُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ، وَقَالَ لِلسَّفِيرِ
مَعَهُ: إِنْ قَبِلُوا وَإِلَّا فَأَعْلِمْنِي، فَقَبِلُوهُ، فَعَمِلَ فِيهِمُ
الْأَعَاجِيبَ، وَأَهَانَهُمْ غَايَةَ الْإِهَانَةِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُتَوَكِّلُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ الْقَاضِي عَنْ قَضَاءِ
الْقُضَاةِ، وَصَادَرَهُ بِمَا مَبْلَغُهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَأَخَذَ
مِنْهُ أَرَاضِيَ كَثِيرَةً فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ وَوَلَّى مَكَانَهُ جَعْفَرَ
بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ عَلَى
قَضَاءِ الْقُضَاةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي
دُؤَادٍ بَعْدَ
ابْنِهِ
بِعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي
هُوَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَاسْمُهُ الْفَرَجُ، وَقِيلَ: دُعْمِيٌّ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ كُنْيَتُهُ - ابْنُ جَرِيرٍ الْقَاضِي، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْإِيَادِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ فِي نَسَبِهِ: هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي دُؤَادٍ فَرَجِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّادِ بْنِ سَلَّامِ بْنِ عَبْدِ هِنْدِ بْنِ عَبْدِ لَخْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
قَنَصِ بْنِ مَنَعَةَ بْنِ بُرْجَانَ بْنِ دَوْسِ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ أُمَيَّةَ
بْنِ حُذَاقَةَ
بْنِ زُهْرِ بْنِ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَلِيَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَضَاءَ الْقُضَاةِ لِلْمُعْتَصِمِ،
ثُمَّ لِلْوَاثِقِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَحُسْنِ
الْخُلُقِ وَوُفُورِ الْأَدَبِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَعْلَنَ بِمَذْهَبِ
الْجَهْمِيَّةِ، وَحَمَلَ السُّلْطَانَ عَلَى امْتِحَانِ النَّاسِ بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، قَالَ الصُّولِيُّ: لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الْبَرَامِكَةِ أَكْرَمُ
مِنْهُ، وَلَوْلَا مَا وَضَعَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ الْمِحْنَةِ
لَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأَلْسُنُ. قَالُوا: وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ
سِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ بِعِشْرِينَ
سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ وَأَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ قِنِّسرِينَ وَكَانَ أَبُوهُ
تَاجِرًا يَفِدُ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ أَخَذَ وَلَدَهُ هَذَا مَعَهُ إِلَى
الْعِرَاقِ، فَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ، وَصَحِبَ هَيَّاجَ بْنَ الْعَلَاءِ
السُّلَمِيَّ، أَحَدَ أَصْحَابِ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ فَأَخَذَ عَنْهُ
الِاعْتِزَالَ، وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ الْقَاضِي،
وَيَأْخُذُ عَنْهُ الْعِلْمَ ثُمَّ سَرَدَ لَهُ تَرْجَمَةً طَوِيلَةً فِي كِتَابِ
" الْوَفَيَاتِ ".
وَقَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، فَقَالَ:
رَسُولُ اللَّهِ
وَالْخُلَفَاءُ مِنَّا وَمِنَّا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادِ
فَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
فَقُلْ لِلْفَاخِرِينَ عَلَى نِزَارٍ وَهُمْ فِي الْأَرْضِ سَادَاتُ الْعِبَادِ
رَسُولُ اللَّهِ وَالْخُلَفَاءُ مِنَّا وَنَبْرَأُ مِنْ دَعِيِّ بَنِي إِيَادِ
وَمَا مِنَّا إِيَادٌ إِذْ أَقَرَّتْ بِدَعْوَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ قَالَ: لَوْلَا أَنِّي
أَكْرَهُ الْعُقُوبَةَ لَعَاقَبْتُ هَذَا الشَّاعِرَ عُقُوبَةً مَا فَعَلَهَا
أَحَدٌ. وَعَفَا عَنْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي الْأَزْهَرِيُّ، ثَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ
الْوَاعِظُ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَالِكٍ،
حَدَّثَنِي جَرِيرُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبِي - يَعْنِي
أَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ - إِذَا صَلَّى رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ،
وَخَاطَبَ رَبَّهُ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا أَنْتَ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ وَإِنَّمَا نُجْحُ الْأُمُورِ بِقُوَّةِ
الْأَسْبَابِ
وَالْيَوْمَ حَاجَتُنَا إِلَيْكَ وَإِنَّمَا يُدْعَى الطَّبِيبُ لِسَاعَةِ
الْأَوْصَابِ
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ دَخَلَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
دُؤَادٍ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ:
أَحْسَبُكَ
عَاتِبًا. فَقَالَ: إِنَّمَا يُعْتَبُ عَلَى وَاحِدٍ، وَأَنْتَ النَّاسُ جَمِيعًا.
فَقَالَ لَهُ: أَنَّى لَكَ هَذِهِ ؟ فَقَالَ: مِنْ قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
وَلَيْسَ لِلَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدِ
وَامْتَدَحَهُ أَبُو تَمَّامٍ يَوْمًا، فَقَالَ:
لَقَدْ أَنْسَتْ مَسَاوِئَ كُلِّ دَهْرٍ مَحَاسِنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادِ
وَمَا سَافَرْتُ فِي الْآفَاقِ إِلَّا وَمِنْ جَدْوَاكَ رَاحِلَتِي وَزَادِي
يُقِيمُ الظَّنُّ عِنْدَكَ وَالْأَمَانِي وَإِنْ قَلِقَتْ رِكَابِي فِي الْبِلَادِ
فَقَالَ لَهُ: هَذَا الْمَعْنَى تَفَرَّدْتَ بِهِ، أَوْ أَخَذْتَهُ مَنْ غَيْرِكَ
؟ فَقَالَ: هُوَ لِي غَيْرَ أَنِّي أَلْمَمْتُ بِقَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
وَإِنْ جَرَتِ الْأَلْفَاظُ يَوْمًا بِمِدْحَةٍ لِغَيْرِكَ إِنْسَانًا فَأَنْتَ
الَّذِي نَعْنِي
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الصُّولِيُّ: وَمِنْ مُخْتَارِ مَدِيحِ أَبِي
تَمَّامٍ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ قَوْلُهُ:
أَأَحْمَدُ إِنَّ الْحَاسِدِينَ كَثِيرُ وَمَا لَكَ إِنْ عُدَّ الْكِرَامُ نَظِيرُ
حَلَلْتَ مَحَلًّا
فَاضِلًا مُتَقَدِّمًا مِنَ الْمَجْدِ وَالْفَخْرُ الْقَدِيمُ فَخُورُ
فَكُلُّ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَإِنَّهُ إِلَيْكَ وَإِنْ نَالَ السَّمَاءَ فَقِيرُ
إِلَيْكَ تَنَاهَى الْمَجْدُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةٍ يَصِيرُ فَمَا يَعْدُوكَ حَيْثُ
تَصِيرُ
وَبَدْرُ إِيَادٍ أَنْتَ لَا يُنْكِرُونَهُ كَذَاكَ إِيَادٌ لِلَأَنَامِ بُدُورُ
تَجَنَّبْتَ أَنْ تُدَعَى الْأَمِيرَ تَوَاضُعًا وَأَنْتَ لِمَنْ يُدْعَى
الْأَمِيرَ أَمِيرُ
فَمَا مِنْ نَدًى إِلَّا إِلَيْكَ مَحَلُّهُ وَلَا رِفْعَةٍ إِلَّا إِلَيْكَ
تَسِيرُ
قُلْتُ: قَدْ أَخْطَأَ الشَّاعِرُ فِي هَذَا خَطَأً كَبِيرًا، وَأَفْحَشَ فِي
الْمُبَالَغَةِ كَثِيرًا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ:
لِمَ لَا تَسْأَلُنِي ؟ فَقَالَ لَهُ: لِأَنِّي لَوْ سَأَلْتُكَ أَعْطَيْتُكَ
ثَمَنَ مَا تُعْطِينِي. فَقَالَ لَهُ: صَدَقْتَ. وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِخَمْسَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ أَنْ يَحْمِلَهُ
عَلَى عِيرٍ، فَقَالَ:
يَا غُلَامُ،
أَعْطِهِ عِيرًا وَبَغْلًا وَبِرْذَوْنًا وَفَرَسًا وَجَارِيَةً. ثُمَّ قَالَ
لَهُ: لَوْ أَعْلَمُ مَرْكُوبًا غَيْرَ هَذَا لَأَعْطَيْتُكَ. ثُمَّ أَوْرَدَ
الْخَطِيبُ بِأَسَانِيدِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى
كَرَمِهِ وَفَصَاحَتِهِ وَأَدَبِهِ وَحِلْمِهِ وَمُبَادَرَتِهِ إِلَى قَضَاءِ
الْحَاجَاتِ، وَعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ.
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُهْتَدِي ابْنِ الْوَاثِقِ أَنَّ شَيْخًا دَخَلَ
يَوْمًا عَلَى الْوَاثِقِ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْوَاثِقُ، بَلْ
قَالَ: لَا سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
بِئْسَ مَا أَدَّبَكَ مُعَلِّمُكَ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [ النِّسَاءِ: 86 ]
فَلَا حَيَّيْتَنِي بِأَحْسَنَ مِنْهَا، وَلَا رَدَدْتَهَا. فَقَالَ ابْنُ أَبِي
دُؤَادٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الرَّجُلُ مُتَكَلِّمٌ. فَقَالَ: نَاظِرْهُ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: مَا تَقُولُ يَا شَيْخُ فِي الْقُرْآنِ، أَمَخْلُوقٌ
هُوَ ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ: لَمْ تُنْصِفْنِي ; الْمَسْأَلَةُ لِي. فَقَالَ: قُلْ.
فَقَالَ: هَذَا الَّذِي تَقُولُهُ، عَلِمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعْلَيٌّ أَوْ مَا
عَلِمُوهُ ؟ فَقَالَ: لَمْ يَعْلَمُوهُ. قَالَ: فَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا لَمْ
يَعْلَمُوا ؟ فَخَجِلَ وَسَكَتَ. ثُمَّ قَالَ: أَقِلْنِي، بَلْ عَلِمُوهُ. قَالَ:
فَلِمَ لَا دَعَوُا النَّاسَ إِلَيْهِ كَمَا دَعَوْتَهُمْ أَنْتَ، أَمَا وَسِعَكَ
مَا وَسِعَهُمْ ؟ فَسَكَتَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَأَمَرَ الْوَاثِقُ لَهُ
بِجَائِزَةٍ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. قَالَ الْمُهْتَدِي: فَدَخَلَ أَبِي
الْمَنْزِلَ وَاسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ قَوْلَ الشَّيْخِ
عَلَى نَفْسِهِ،
وَيَقُولُ: أَمَا
وَسِعَكَ مَا وَسِعَهُمْ ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِإِطْلَاقِ الشَّيْخِ وَإِعْطَائِهِ
أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَرَدَّهُ إِلَى بِلَادِهِ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنَيْهِ
ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَلَمْ يَمْتَحِنْ بَعْدَهُ أَحَدًا. رَوَاهَا الْخَطِيبُ
الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ بِإِسْنَادٍ فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا أَعْرِفُهُ، وَسَاقَهَا
مُطَوَّلَةً وَفِيهَا نَكَارَةٌ.
وَقَدْ أَنْشَدَ ثَعْلَبٌ عَنْ أَبِي حَجَّاجٍ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي
ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ:
نَكَسْتَ الدِّينَ يَا ابْنَ أَبِي دُؤَادِ فَأَصْبَحَ مَنْ أَطَاعَكَ فِي
ارْتِدَادِ
زَعَمْتَ كَلَامَ رَبِّكَ كَانَ خَلْقًا أَمَا لَكَ عِنْدَ رَبِّكَ مِنْ مَعَادِ
كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ بِعِلْمٍ وَأَنْزَلَهُ عَلَى خَيْرِ الْعِبَادِ
وَمَنْ أَمْسَى بِبَابِكَ مُسْتَضِيفًا كَمَنْ حَلَّ الْفَلَاةَ بِغَيْرِ زَادِ
لَقَدْ أَطْرَفْتَ يَا ابْنَ أَبِي دُؤَادِ بِقَوْلِكَ إِنَّنِي رَجْلٌ إِيَادِي
ثُمَّ قَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا
الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ لِبَعْضِهِمْ يَهْجُو
ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ:
لَوْ كُنْتَ فِي الرَّأْيِ مَنْسُوبًا إِلَى رَشَدٍ وَكَانَ عَزْمُكَ عَزْمًا
فِيهِ تَوْفِيقُ
لَكَانَ فِي
الْفِقْهِ شُغْلٌ لَوْ قَنِعْتَ بِهِ عَنْ أَنْ تَقُولَ كَتَابُ اللَّهِ مَخْلُوقُ
مَاذَا عَلَيْكَ وَأَصْلُ الدِّينِ يَجْمَعُهُمْ مَا كَانَ فِي الْفَرْعِ لَا فِي
الْجَهْلِ وَالْمُوقِ
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ يَحْيَى الْجَلَّاءِ أَوْ عَلِيٍّ ابْنِ الْمُوَفَّقِ
أَنَّهُ قَالَ: نَاظَرَنِي رَجُلٌ مِنَ الْوَاقِفِيَّةِ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ
فَنَالَنِي مِنْهُ مَا أَكْرَهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَتَيْتُ امْرَأَتِي
فَوَضَعَتْ لِيَ الْعَشَاءَ فَلَمْ أَقْدِرْ أَنْ أَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا،
وَنِمْتُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَهُنَاكَ حَلْقَةٌ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَأَصْحَابُهُ، وَحَلْقَةٌ فِيهَا ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ وَأَصْحَابُهُ، فَجَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ
فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ [ الْأَنْعَامِ: 89 ] وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ
ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ
[ الْأَنْعَامِ: 89 ] وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَأَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ مَاتَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ
كَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: هَلَكَ اللَّيْلَةَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ.
فَقُلْتُ لَهُ: وَمَا سَبَبُ هَلَاكِهِ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَغْضَبَ
اللَّهَ عَلَيْهِ
فَغَضِبَ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُ
فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَأَنَّ النَّارَ زَفَرَتْ زَفْرَةً عَظِيمَةً، فَخَرَجَ
مِنْهَا اللَّهَبُ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ: هَذِهِ اتُّخِذَتْ لِابْنِ
أَبِي دُؤَادٍ
وَقَدْ كَانَ مَوْتُهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْعَبَّاسُ، وَدُفِنَ فِي
دَارِهِ بِبَغْدَادَ وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَابْتَلَاهُ
اللَّهُ بِالْفَالِجِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَبَقِيَ طَرِيحًا فِي
فِرَاشِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحَرِّكَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ.
وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا جِئْتُكَ عَائِدًا
وَإِنَّمَا جِئْتُ لِأَحْمَدَ اللَّهَ عَلَى أَنْ سَجَنَكَ فِي جَسَدِكَ. وَقَدْ
صُودِرَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ.
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ. قُلْتُ:
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَسَنَّ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمِنْ يَحْيَى بْنِ
أَكْثَمَ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ
أَنَّهُ كَانَ
سَبَبَ اتِّصَالِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ بِالْخَلِيفَةِ الْمَأْمُونِ فَحَظِيَ
عِنْدَهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ أَوْصَى بِهِ إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ، فَوَلَّاهُ
الْمُعْتَصِمُ الْقَضَاءَ وَعَزَلَ ابْنَ أَكْثَمَ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا
دُونَهُ، فَكَانَ عِنْدَهُ خِصِّيصًا ; وَلَّاهُ الْقَضَاءَ وَالْمَظَالِمَ،
وَكَانَ ابْنُ الزَّيَّاتِ الْوَزِيرُ يُبْغِضُهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا
مُنَافَسَاتٌ وَهَجْوٌ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ خِلِّكَانَ فِي
تَرْجَمَتِهِ وَمَدْحِهِ، وَذَكَرَ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَحَاسِنِهِ فَأَطْنَبَ
وَأَكْثَرَ وَمَا أَطْيَبَ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ مَسَاوِئِهِ، بَلْ
ذَكَرَ امْتِحَانَهُ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ذِكْرًا مُوجَزًا
بِأَطْرَافِ الْأَنَامِلِ، وَهِيَ الْمِحْنَةُ الَّتِي هِيَ أُسُّ مَا بَعْدَهَا
مِنَ الْمِحَنِ، وَالْفِتْنَةُ الَّتِي فَتَحَتْ عَلَى النَّاسِ بَابَ الْفِتَنِ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ مَا ضُرِبَ بِهِ مِنَ الْفَالِجِ، وَمَا صُودِرَ
بِهِ مِنَ الْمَالِ الرَّابِحِ، وَأَنَّ ابْنَهُ أَبَا الْوَلِيدِ مُحَمَّدًا
صُودِرَ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ بِشَهْرٍ.
وَأَمَّا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَإِنَّهُ بَسَطَ الْقَوْلَ فِي تَرْجَمَتِهِ
وَشَرَحَهَا شَرْحًا مَلِيحًا. وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ أَدِيبًا فَصِيحًا كَرِيمًا
جَوَادًا مُمَدَّحًا، يُؤْثِرُ الْعَطَاءَ عَلَى الْمَنْعِ، وَالتَّفْرِقَةَ عَلَى
الْجَمْعِ، وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ جَلَسَ
يَوْمًا مَعَ
أَصْحَابِهِ يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَ الْوَاثِقِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ:
إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي هَذَانَ الْبَيْتَانِ:
وَلِي نَظْرَةٌ لَوْ كَانَ يُحْبِلَ نَاظِرٌ بِنَظْرَتِهِ أُنْثَى لَقَدْ حَبِلَتْ
مِنِّي
فَإِنْ وَلَدَتْ مَا بَيْنَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ إِلَى نَظْرَتِي ابْنًا فَإِنَّ
ابْنَهَا مِنِّي
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْكَلْبِيُّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ
وَالْمَشَاهِيرِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: هُوَ عِنْدَنَا فِي مِسْلَاخِ
الثَّوْرِيِّ، وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ التَّارِيخِ،
وَسُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَدَثَانِيُّ، وَسُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ، وَعَبْدُ
السَّلَامِ بْنُ
سَعِيدٍ،
الْمُلَقَّبُ بِسُحْنُونٍ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وَعَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ شَيْخُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ،
وَأَبُو الْعَمَيْثَلِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خُلَيْدٍ كَاتِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ، وَشَاعِرُهُ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَلَهُ فِيهَا مُصَنَّفَاتٌ
عَدِيدَةٌ أَوْرَدَ مِنْهَا الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ جُمْلَةً، وَمِنْ شِعْرِهِ
يَمْدَحُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ:
يَا مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ كَصِفَاتِ عِبْدِ اللَّهِ أَنْصَتْ
وَاسْمَعِ فَلَأَنْصَحَنَّكَ فِي الْمَشُورَةِ وَالَّذِي
حَجَّ الْحَجِيجُ إِلَيْهِ فَاسْمَعْ أَوْ دَعِ اصْدُقْ وَعِفَّ وَبِرَّ وَاصْبِرْ
وَاحْتَمَلْ
وَاصْفَحْ وَكَافِ وَدَارِ وَاحْلُمْ وَاشْجَعِ وَالْطُفْ وَلِنْ وَتَأَنَّ
وَارْفُقْ وَاتَّئِدْ
وَاحْزِمْ وَجِدَّ وَحَامِ وَاحْمِلْ وَادْفَعِ
فَلَقَدْ
مَحَضْتُكَ إِنْ قَبِلْتَ نَصِيحَتِي
وَهُدِيتَ لِلنَّهْجِ الْأَسَدِّ الْمَهْيَعِ
أَمَّا سُحْنُونٌ الْمَالِكِيُّ صَاحِبُ الْمُدَوَّنَةِ فَهُوَ أَبُو سَعِيدٍ
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ هِلَالِ بْنِ
بَكَّارِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّنُوخِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ مَدِينَةِ حِمْصَ فَدَخَلَ
بِهِ أَبُوهُ مَعَ جُنْدِهَا بِلَادَ الْمَغْرِبِ، فَأَقَامَ بِهَا، وَانْتَهَتْ
إِلَيْهِ رِيَاسَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ هُنَاكَ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ عَلَى ابْنِ
الْقَاسِمِ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ قَدِمَ أَسَدُ بْنُ الْفُرَاتِ الْمَالِكِيُّ مِنْ
بِلَادِ الْعِرَاقِ إِلَى بِلَادِ مِصْرَ فَسَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
الْقَاسِمِ صَاحِبَ مَالِكٍ عَنْ أَسْئِلَةٍ كَثِيرَةٍ، فَأَجَابَهُ عَنْهَا،
فَعَقَلَهَا عَنْهُ وَدَخَلَ بِهَا بِلَادَ الْمَغْرِبِ، فَانْتَسَخَهَا مِنْهُ
سُحْنُونٌ ثُمَّ قَدِمَ عَلَى ابْنِ الْقَاسِمِ مِصْرَ، فَأَعَادَ أَسْئِلَتَهُ
عَلَيْهِ فَزَادَ فِيهَا وَنَقَصَ، وَرَجَعَ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْهَا، فَرَتَّبَهَا
سُحْنُونٌ وَرَجَعَ بِهَا إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ.
وَكَتَبَ مَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ إِلَى أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ أَنْ يَعْرِضَ نُسْخَتَهُ
عَلَى نُسْخَةِ سُحْنُونٍ وَيُصْلِحَهَا بِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ، فَدَعَا عَلَيْهِ
ابْنُ الْقَاسِمِ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَلَا بِكِتَابِهِ، وَصَارَتِ
الرِّحْلَةُ إِلَى سُحْنُونٍ وَانْتَشَرَتْ عَنْهُ الْمُدَوَّنَةُ، وَسَادَ أَهْلَ
ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَتَوَلَّى الْقَضَاءَ بِالْقَيْرَوَانِ إِلَى أَنَّ تُوُفِّيَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ أَيْضًا
عَلَى عَامِلِهِمْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَوَيْهِ فَأَرَادُوا قَتْلَهُ،
وَسَاعَدَهُمْ نَصَارَى أَهْلِهَا أَيْضًا عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِمُنَاهَضَتِهِمْ، وَكَتَبَ
إِلَى مُتَوَلِّي دِمَشْقَ أَنْ يَمُدَّهُ بِجَيْشٍ مِنْ عِنْدِهِ ; لِيُسَاعِدَهُ
عَلَى أَهْلِ حِمْصَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَضْرِبَ ثَلَاثَةً مِنْهُمْ
مَعْرُوفِينَ بِالشَّرِّ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَمُوتُوا، ثُمَّ يَصْلُبَهُمْ عَلَى
أَبْوَابِ الْبَلَدِ، وَأَنْ يَضْرِبَ عِشْرِينَ آخَرِينَ مِنْهُمْ ; كُلَّ
وَاحِدٍ ثَلَاثَمِائَةٍ ثَلَاثَمِائَةٍ، وَأَنْ يُرْسِلَهُمْ إِلَى سَامَرَّا
مُقَيِّدِينَ فِي الْحَدِيدِ، وَأَنْ يُخْرِجَ كُلَّ نَصْرَانِيٍّ بِهَا،
وَيَهْدِمَ كَنِيسَتَهَا الْعُظْمَى الَّتِي إِلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ
الْجَامِعِ، وَيُضِيفَهَا إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ،
وَلِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ سَاعَدُوهُ بِصِلَاتٍ سَنِيَّةٍ، فَامْتَثَلَ مَا
أَمَرَهُ بِهِ الْخَلِيفَةُ فِيهِمْ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بِضَرْبِ رَجُلٍ مِنْ
أَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ يُقَالُ لَهُ: عِيسَى بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَاصِمٍ، فَضُرِبَ ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا، يُقَالُ: إِنَّهُ ضُرِبَ
أَلْفَ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِدَ عَلَيْهِ سَبْعَةَ عَشَرَ
رَجُلًا عِنْدَ
قَاضِي
الشَّرْقِيَّةِ أَبِي حَسَّانَ الزِّيَادِيِّ أَنَّهُ يَشْتُمُ أَبَا بَكْرٍ
وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَرُفِعَ
أَمْرُهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَجَاءَ كِتَابُ الْخَلِيفَةِ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ الْحُسَيْنِ، نَائِبِ بَغْدَادَ يَأْمُرُهُ
أَنَّ يَضْرِبَ هَذَا الرَّجُلَ بَيْنَ النَّاسِ حَدَّ السَّبِّ، ثُمَّ يُضْرَبَ
بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَمُوتَ، وَيُلْقَى فِي دِجْلَةَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ،
لِيَرْتَدِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْإِلْحَادِ وَالْمُعَانَدَةِ. فَفَعَلَ مَعَهُ
ذَلِكَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَلَعَنَهُ.
وَمِثْلُ هَذَا يَكْفُرُ إِنْ كَانَ قَدْ قَذَفَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي مَنْ قَذَفَ سِوَاهَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ
قَوْلَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكْفُرُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ عَنْهُنَّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْقَضَّتِ الْكَوَاكِبُ بِبَغْدَادَ
وَتَنَاثَرَتْ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، لِلَّيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ. قَالَ: وَفِيهَا مُطِرَ النَّاسُ فِي آبَ مَطَرًا شَدِيدًا جِدًّا.
قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الدَّوَابِّ وَالْبَقَرِ. قَالَ:
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى عَيْنِ زَرْبَةَ، فَأَسَرُوا مَنْ بِهَا مِنَ
الزُّطِّ وَأَخَذُوا نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهِمْ وَدَوَابَّهُمْ. قَالَ:
وَفِيهَا الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فِي بِلَادِ طَرَسُوسَ
بِحَضْرَةِ قَاضِي الْقُضَاةِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ إِذَنِ
الْخَلِيفَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَاسْتِنَابَتِهِ ابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ. وَكَانَتْ
عِدَّةُ الْأَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ
رَجُلًا، وَمِنَ النِّسَاءِ مِائَةً وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ امْرَأَةً، وَقَدْ
كَانَتْ أَمُّ الْمَلِكَ تَدُورَةُ لَعَنَهَا اللَّهُ عَرَضَتِ النَّصْرَانِيَّةَ
عَلَى مَنْ كَانَ فِي يَدِهَا مِنَ الْأُسَارَى وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ
أَلْفًا فَمَنْ أَجَابَهَا إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ
وَإِلَّا
قَتَلَتْهُ فَقَتَلَتِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَتَنَصَّرَ بَعْضُهُمْ، وَبَقِيَ
مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فُدُوا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنَ التِّسْعِمِائَةِ ;
رِجَالًا وَنِسَاءً.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْبُجَّةُ عَلَى حَرَسٍ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَتِ
الْبُجَّةُ لَا يَغْزُونَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ هَذَا ; لِهُدْنَةٍ كَانَتْ
لَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَنَقَضُوا الْهُدْنَةَ وَصَرَّحُوا بِالْمُخَالَفَةِ.
وَالْبُجَةُ طَائِفَةٌ مِنْ سُودَانِ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَذَا النُّوبَةُ
وَالْفَرَوِيَّةُ وَبَيْنُوزُ، وَزُعْرُويِنُ، وَيكْسُومُ، وَأُمَمٌ كَثِيرُونَ
لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ. وَفِي بِلَادِ هَؤُلَاءِ
مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ حِمْلٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ
إِلَى دِيَارِ مِصْرَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَادِنِ، فَلَمَّا كَانَتْ دَوْلَةُ
الْمُتَوَكِّلِ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةً،
فَكَتَبَ نَائِبُ مِصْرَ وَهُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَاذَغِيسِيُّ
مَوْلَى الْهَادِي وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِقَوْصَرَةَ - بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى
الْمُتَوَكِّلِ، فَغَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَشَاوَرَ
فِي أَمْرِ الْبُجَةِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُمْ
قَوْمٌ أَهْلُ إِبِلٍ وَبَادِيَةٍ وَإِنَّ بِلَادَهُمْ بَعِيدَةٌ وَمُعْطِشَةٌ،
وَيَحْتَاجُ الْجَيْشُ الذَّاهِبُونَ إِلَيْهَا أَنْ يَتَزَوَّدُوا
لِمُقَامِهِمْ بِهَا طَعَامًا وَمَاءً. فَصَدَّهُ ذَلِكَ عَنِ الْبَعْثِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى أَطْرَافِ الصَّعِيدِ، وَخَشِيَ أَهْلُ مِصْرَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهُمْ، فَجَهَّزَ لِحَرْبِهِمْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمُّيَّ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ نِيَابَةَ تِلْكَ الْبِلَادِ كُلِّهَا الْمُتَاخِمَةِ لِأَرْضِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِ مِصْرَ أَنْ يُعِينُوهُ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَتَخَلَّصَ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الَّذِينَ انْضَافُوا إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ حَتَّى دَخَلَ بِلَادَهُمْ فِي عِشْرِينَ أَلْفَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، وَحَمَلَ مَعَهُ الطَّعَامَ وَالْإِدَامَ فِي مَرَاكِبَ سَبْعَةٍ، وَأَمَرَ الَّذِينَ هُمْ بِهَا أَنْ يُلِجِّجُوا بِهَا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يُوَافُوهُ بِهَا إِذَا تَوَسَّطَ بِلَادَ الْبُجَةِ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى دَخَلَ بِلَادَهُمْ، وَجَاوَزَ مَعَادِنَهُمْ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ مَلِكُ الْبُجَةِ وَاسْمُهُ: عَلِي بَابَا فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ أَضْعَافِ مَنْ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيِّ، وَهُمْ قَوْمٌ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَجَعَلَ الْمَلِكُ يُطَاوِلُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْقِتَالِ لَعَلَّهُ تَنْفَدُ أَزْوَادُهُمْ فَيَأْخُذُونَهُمْ بِالْأَيْدِي، فَلَمَّا نَفِدَ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَطَمِعَ فِيهِمُ السُّودَانُ يَسَّرَ اللَّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ بِوُصُولِ تِلْكَ الْمَرَاكِبِ وَفِيهَا مِنَ الطَّعَامِ وَالتَّمْرِ وَالزَّيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَقَسَّمَهُ الْأَمِيرُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَسَبِ حَاجَاتِهِمْ، فَيَئِسَ السُّودَانُ مِنْ هَلَاكِ الْمُسْلِمِينَ جُوعًا، فَشَرَعُوا فِي التَّأَهُّبِ لِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا يَرْكَبُونَ عَلَى إِبِلٍ شَبِيهَةٍ بِالْهُجُنِ زَعِرَةٍ جِدًّا كَثِيرَةِ النِّفَارِ، لَا تَكَادُ تَرَى شَيْئًا، وَلَا تَسْمَعُ شَيْئًا إِلَّا جَفَلَتْ مِنْهُ. فَلَمَّا كَانَ
يَوْمُ الْحَرْبِ
عَمَدَ الْأَمِيرُ إِلَى جَمِيعِ الْأَجْرَاسِ الَّتِي مَعَهُمْ فِي الْجَيْشِ
فَجَعَلَهَا فِي رِقَابِ الْخَيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ الْوَقْعَةُ حَمَلَ
الْمُسْلِمُونَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَرَبَ السُّودَانُ فِرَارَ رَجُلٍ
وَاحِدٍ، وَنَفَرَتْ إِبِلُهُمْ مِنْ أَصْوَاتِ تِلْكَ الْأَجْرَاسِ فِي كُلِّ
وَجْهٍ، وَتَفَرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ
مَنْ شَاءُوا، لَا يَمْتَنِعُ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَلَا يَعْلَمُ عَدَدَ مَنْ قُتِلَ
مِنْهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ أَصْبَحُوا وَقَدِ اجْتَمَعُوا
رَجَّالَةً، فَكَسَبَهُمُ الْقُمِّيُّ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ فَقَتَلَ
عَامَّةَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، وَأَخَذَ الْمَلِكَ بِالْأَمَانِ، وَأَدَّى مَا
كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِمْلِ، وَأَخَذَهُ مَعَهُ أَسِيرًا إِلَى الْخَلِيفَةِ،
وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَقْعَةُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ وُصُولُهُ
إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَلَّاهُ الْخَلِيفَةُ
عَلَى بِلَادِهِ كَمَا كَانَ، وَجَعَلَ إِلَى ابْنِ الْقُمِّيِّ أَمْرَ تِلْكَ
النَّاحِيَةِ، وَالنَّظَرَ فِي أَمْرِهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْمَعْرُوفُ بِقَوْصَرَةَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ. قُلْتُ: وَهَذَا الرَّجُلُ
كَانَ نَائِبًا عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
اللَّهِ وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ دَاوُدَ، وَحَجَّ جَعْفَرُ بْنُ دِينَارٍ فِيهَا وَهُوَ وَالِي طَرِيقِ
مَكَّةَ وَأَحْدَاثِ الْمَوْسِمِ.
وَلَمْ يَتَعَرَّضِ
ابْنُ جَرِيرٍ لِوَفَاةِ أَحَدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَجُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ
الْحِمَّانِيُّ، وَأَبُو تَوْبَةَ الْحَلَبِيُّ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ،
سَجَّادَةُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ.
وَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَفَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ وَمَآثِرِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِصَارِ
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ: هُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
حَنْبَلِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أَسَدِ بْنِ إِدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حَيَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ مَازِنِ
بْنِ شَيْبَانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطِ
بْنِ هِنْبِ بْنِ
أَفْصَى بْنِ دُعْمِيِّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ
بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ بْنِ أُدِّ بْنِ أُدَدِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ
حَمَلِ بْنِ النَّبْتِ بْنِ قَيْدَارِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، ثُمَّ
الْمَرْوَزِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ هَكَذَا سَاقَ نَسَبَهُ الْحَافِظُ
الْكَبِيرُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الَّذِي
جَمَعَهُ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ شَيْخِهِ الْحَافِظِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمِ صَاحِبِ " الْمُسْتَدْرَكِ ".
وَرَوِيَ عَنْ صَالِحٍ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، قَالَ: رَأَى أَبِي هَذَا
النَّسَبَ فِي كِتَابٍ لِي، فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَذَا ؟ وَلَمْ يُنْكِرِ
النَّسَبَ. قَالُوا: وَقَدِمَ بِهِ أَبُوهُ مِنْ مَرْوَ وَهُوَ حَمْلٌ،
فَوَضَعَتْهُ أُمُّهُ فِي بِبَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ
سَنَةً، فَكَفَلَتْهُ أُمُّهُ. قَالَ صَالِحٌ، عَنْ أَبِيهِ: فَثَقَبَتْ أُذُنِي
وَجَعَلَتْ فِيهِمَا لُؤْلُؤَتَيْنِ فَلَمَّا كَبِرْتُ دَفَعَتْهُمَا إِلَيَّ
فَبِعْتُهُمَا بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا.
وَتُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْجُمِعَةِ
الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سَبْعٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ فِي حَدَاثَتِهِ يَخْتَلِفُ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ،
ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ، فَكَانَ أَوَّلُ
طَلَبِهِ لِلْحَدِيثِ وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ مِنْ
مَشَايِخِهِ فِي
سَنَةِ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ سِتَّ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَأَوَّلُ حَجَّةٍ حَجَّهَا فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ،
ثُمَّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَفِيهَا حَجَّ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
ثُمَّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَجَاوَرَ إِلَى سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ،
ثُمَّ حَجَّ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَجَاوَرَ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ، سَافَرَ إِلَى عِنْدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِالْيَمَنِ، فَكَتَبَ
عَنْهُ هُوَ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَجَجْتُ خَمْسَ حِجَجٍ ; مِنْهَا ثَلَاثٌ رَاجِلًا،
أَنْفَقْتُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الْحِجَجِ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا. قَالَ: وَقَدْ
ضَلَلْتُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْحِجَجِ، عَنِ الطَّرِيقِ وَأَنَا مَاشٍ، فَجَعَلْتُ
أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ دَلُّونِي عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُ
ذَلِكَ حَتَّى وَقَفْتُ عَلَى الطَّرِيقِ. قَالَ: وَخَرَجْتُ إِلَى الْكُوفَةِ
فَكُنْتُ فِي بَيْتٍ تَحْتَ رَأْسِي لَبِنَةٌ، وَلَوْ كَانَ عِنْدِي خَمْسُونَ
دِرْهَمًا ; كُنْتُ رَحَلْتُ إِلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ إِلَى الرَّيِّ
وَخَرَجَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَلَمْ يُمْكِنِّي الْخُرُوجُ ; لِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَرْمَلَةَ: سَمِعْتُ
الشَّافِعِيَّ يَقُولُ:
وَعَدَنِي أَحْمَدُ
بْنُ حَنْبَلٍ أَنْ يَقْدَمَ عَلَيَّ مِصْرَ فَلَمْ يَقْدَمْ. قَالَ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ: يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ خِفَّةُ ذَاتِ الْيَدِ حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْوَفَاءِ بِالْعِدَةِ.
وَقَدْ طَافَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْبِلَادِ وَالْآفَاقِ، وَسَمِعَ مِنْ
مَشَايِخِ الْعَصْرِ، وَكَانُوا يُجِلُّونَهُ وَيَحْتَرِمُونَهُ فِي حَالِ
سَمَاعِهِ مِنْهُمْ.
وَقَدْ سَرَدَ شَيْخُنَا فِي " تَهْذِيبِهِ " أَسْمَاءَ شُيُوخِهِ
مُرَتَّبِينَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، وَكَذَلِكَ الرُّوَاةَ عَنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ جَمَاعَةً مِنْ
شُيُوخِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَقَدْ أَكْثَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي "
الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ الرِّوَايَةَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ
جُمْلَةً مِنْ كَلَامِهِ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ، وَأَخَذَ عَنْهُ مِنَ الْفِقْهِ
مَا هُوَ مَشْهُورٌ. وَحِينَ تُوُفِّيَ أَحْمَدُ وَجَدُوا فِي تَرِكَتِهِ
رِسَالَتَيِ الشَّافِعِيِّ ; الْقَدِيمَةَ وَالْجَدِيدَةَ.
قُلْتُ: قَدْ أَفْرَدَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الشَّافِعِيِّ، وَهِيَ أَحَادِيثُ لَا تَبْلُغُ عِشْرِينَ حَدِيثًا ; وَمِنْ
أَحْسَنِ مَا رُوِّينَاهُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنِ الْإِمَامِ
الشَّافِعِيِّ، عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ
تَعَلَّقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ
يَبْعَثُهُ.
وَقَدْ قَالَ
الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ فِي الرِّحْلَةِ الثَّانِيَةِ
إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَعُمُرُ أَحْمَدَ إِذْ ذَاكَ
نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، قَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِذَا صَحَّ
عِنْدَكُمُ الْحَدِيثُ فَأَعْلِمْنِي بِهِ ; أَذْهَبُ إِلَيْهِ حِجَازِيًّا كَانَ
أَوْ شَامِيًّا أَوْ عِرَاقِيًّا أَوْ يَمَنِيًّا. يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ
بِقَوْلِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ الَّذِينَ لَا يَقْبَلُونَ إِلَّا رِوَايَةَ
الْحِجَازِيِّينَ وَيُنْزِلُونَ أَحَادِيثَ مَنْ سِوَاهُمْ مَنْزِلَةَ أَحَادِيثِ
أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ لَهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ تَعْظِيمٌ
لِأَحْمَدَ وَإِجْلَالٌ لَهُ، وَإِنَّهُ عِنْدَهُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ إِذَا
صَحَّحَ أَوْ ضَعَّفَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ، كَمَا
سَيَأْتِي ثَنَاءُ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ وَاعْتِرَافُهُمْ لَهُ بِعُلُوِّ
الْمَكَانَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَنْزِلَةِ فِي الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ، رَحِمَهُمُ
اللَّهُ، وَقَدْ بَعُدَ صِيتُهُ فِي زَمَانِهِ وَاشْتُهِرَ اسْمُهُ فِي شَبِيبَتِهِ
فِي الْآفَاقِ.
ثُمَّ حَكَى الْبَيْهَقِيُّ كَلَامَ أَحْمَدَ فِي الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ قَوْلٌ
وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَكَلَامُهُ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْكَارُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إِنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ
مَخْلُوقٌ يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَفِيمَا حَكَى أَبُو عُمَارَةَ
وَأَبُو جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ شَيْخُنَا السَّرَّاجُ، عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: اللَّفْظُ
مُحْدَثٌ.
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ [ ق: 18 ] قَالَ: فَاللَّفْظُ كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ. وَرَوَى
غَيْرُهُمَا عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: الْقُرْآنُ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَمَّا أَفْعَالُنَا فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ.
قُلْتُ: وَقَدْ قَرَّرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ،
وَذَكَرَهُ أَيْضًا فِي " الصَّحِيحِ "، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ وَلِهَذَا قَالَ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ: الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ، وَالصَّوْتُ
صَوْتُ الْقَارِئِ، وَقَدْ قَرَّرَ الْبَيْهَقِيُّ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيِّ،
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ. فَهُوَ كَافِرٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَيْمُونِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ أَجَابَ
الْجَهْمِيَّةَ حِينَ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مَا يَأْتِيهِمْ
مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [
الْأَنْبِيَاءِ: 2 ] قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَنْزِيلُهُ إِلَيْنَا هُوَ
الْمُحْدَثَ، لَا الذِّكْرُ نَفْسُهُ هُوَ الْمُحْدَثُ.
وَعَنْ حَنْبَلٍ،
عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرًا آخَرَ غَيْرَ
الْقُرْآنِ، وَهُوَ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَوْ وَعْظُهُ إِيَّاهُمْ. ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ كَلَامَ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ فِي إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَاحْتَجَّ
بِحَدِيثِ صُهَيْبٍ فِي الرُّؤْيَةِ، وَهِيَ الزِّيَادَةُ، وَكَلَامُهُ فِي نَفْيِ
التَّشْبِيهِ وَتَرْكِ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ وَالتَّمَسُّكِ بِمَا وَرَدَ فِي
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْآثَارِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنْ أَبِي
عَمْرِو بْنِ السَّمَّاكِ، عَنْ حَنْبَلٍ، أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ تَأَوَّلَ
قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَاءَ رَبُّكَ [ الْفَجْرِ: 22 ] أَنَّهُ جَاءَ
ثَوَابُهُ. ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، ثَنَا
عَاصِمٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا رَآهُ
الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْهُ سَيِّئًا
فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ سَيِّئٌ. وَقَدْ رَأَى الصَّحَابَةُ جَمِيعًا أَنْ
يَسْتَخْلِفُوا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. قُلْتُ:
وَهَذَا الْأَثَرُ فِيهِ حِكَايَةُ إِجْمَاعٍ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيمِ
الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حِينَ
اجْتَازَ بِحِمْصَ،
وَقَدْ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ فِي زَمَنِ الْمِحْنَةِ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ
عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْحِمْصِيُّ، فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْخِلَافَةِ
؟ فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ
عَلِيٌّ، وَمَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِأَصْحَابِ
الشُّورَى ; لِأَنَّهُمْ قَدَّمُوا عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ.
فَصْلٌ فِي وَرَعِهِ وَتَقَشُّفِهِ وَزُهْدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
قَالَ لِلرَّشِيدِ: إِنَّ الْيَمَنَ تَحْتَاجُ إِلَى قَاضٍ، فَقَالَ لَهُ: اخْتَرْ
رَجُلًا نُوَلِّهِ إِيَّاهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَهُوَ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَأْخُذُ عَنْهُ: أَلَا تَقْبَلُ
قَضَاءَ الْيَمَنِ. فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعًا شَدِيدًا، وَقَالَ:
إِنِّي إِنَّمَا أَخْتَلِفُ إِلَيْكَ لِأَجْلِ الْعِلْمِ الْمُزَهِّدِ فِي
الدُّنْيَا، أَفَتَأْمُرُنِي أَنْ أَلِيَ الْقَضَاءَ ؟ وَلَوْلَا الْعِلْمُ لَمَا
أُكَلِّمُكَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَاسْتَحْيَى الشَّافِعِيُّ مِنْهُ.
وَرَوِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي خَلْفَ عَمِّهِ إِسْحَاقَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَلَا خَلْفَ بَنِيهِ، وَلَا يُكَلِّمُهُمْ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا
جَائِزَةَ السُّلْطَانِ.
وَمَكَثَ مَرَّةً
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَجِدُ مَا يَأْكُلُهُ حَتَّى بَعَثَ إِلَى بَعْضِ
أَصْحَابِهِ فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ دَقِيقًا، فَعَرَفَ أَهْلُهُ حَاجَتَهُ إِلَى
الطَّعَامِ فَعَجَّلُوا وَعَجَنُوا وَخَبَزُوا لَهُ سَرِيعًا، فَقَالَ: مَا هَذِهِ
الْعَجَلَةُ ! كَيْفَ خَبَزْتُمْ سَرِيعًا ؟ فَقَالُوا: وَجَدْنَا تَنُّورَ بَيْتِ
صَالِحٍ مَسْجُورًا فَخَبَزْنَا لَكَ فِيهِ. فَقَالَ: ارْفَعُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ،
وَأَمَرَ بِسَدِّ بَابِهِ إِلَى دَارِ صَالِحٍ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لِأَنَّ
صَالِحًا أَخَذَ جَائِزَةَ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَكَثَ أَبِي بِالْعَسْكَرِ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ سِتَّةَ
عَشَرَ يَوْمًا لَمْ يَأْكُلْ فِيهَا إِلَّا رُبُعَ مُدٍّ سَوِيقًا، يُفْطِرُ
بَعْدَ كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ عَلَى سَفَّةٍ مِنْهُ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ،
وَلَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَدْ
رَأَيْتُ مُوقَيْهِ دَخَلَتَا فِي حَدَقَتَيْهِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ لِمَائِدَتِهِ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَكَانَ أَحْمَدُ لَا يَتَنَاوَلُ مِنْ طَعَامِهِ شَيْئًا.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمَأْمُونُ مَرَّةً ذَهَبَا ; لِيُقَسَّمَ عَلَى
أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَخَذَ، إِلَّا
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ أَبَى.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ الشَّاذَكُونِيُّ: حَضَرْتُ أَحْمَدَ وَقَدْ رَهَنَ سَطْلًا
لَهُ عِنْدَ فَامِيٍّ بِالْيَمَنِ، فَلَمَّا جَاءَهُ بِفِكَاكِهِ أَخْرَجَ
إِلَيْهِ سَطْلَيْنِ فَقَالَ: خُذْ مَتَاعَكَ. فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ
أَيُّهُمَا الَّذِي
لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ وَمِنَ الْفِكَاكِ، وَتَرَكَهُ.
وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا فِي زَمَنِ الْوَاثِقِ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ،
فَكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي: إِنَّ عِنْدِي أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ
وَرِثْتُهَا مِنْ أَبِي وَلَيْسَتْ صَدَقَةً وَلَا زَكَاةً فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ
تَقْبَلَهَا مِنِّي. فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَكَرَّرَ عَلَيْهِ فَأَبَى،
فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ حِينِ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كُنَّا قَبِلْنَاهَا
كَانَتْ قَدْ ذَهَبَتْ.
وَعَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ التُّجَّارِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ رِبْحًا مِنْ
بِضَاعَةٍ جَعَلَهَا بِاسْمِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: نَحْنُ فِي
كِفَايَةٍ، وَجَزَاكَ اللَّهُ عَنْ قَصْدِكَ خَيْرًا، وَعَرَضَ عَلَيْهِ تَاجِرٌ
آخَرُ ثَلَاثَةً آلَافِ دِينَارٍ فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا وَقَامَ وَتَرَكَهُ.
وَنَفَدَتْ نَفَقَةُ أَحْمَدَ وَهُوَ فِي الْيَمَنِ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ شَيْخُهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِلْءَ كَفِّهِ دَنَانِيرَ، فَقَالَ: نَحْنُ فِي كِفَايَةٍ
وَلَمْ يَقْبَلْهَا. وَسُرِقَتْ ثِيَابُهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ فَجَلَسَ فِي
بَيْتِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَافْتَقَدَهُ أَصْحَابُهُ فَجَاءُوا
إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ ذَهَبًا فَلَمْ
يَقْبَلْهُ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ إِلَّا دِينَارًا وَاحِدًا ; لِيَكْتُبَ
لَهُمْ بِهِ فَكَتَبَ لَهُمْ بِالْأَجْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَانَتْ مَجَالِسُ أَحْمَدَ مَجَالِسَ الْآخِرَةِ، لَا
يُذْكَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَمَا رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ
حَنْبَلٍ ذَكَرَ الدُّنْيَا قَطُّ.
وَرَوَى
الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنِ التَّوَكُّلِ فَقَالَ: هُوَ قَطْعُ
الِاسْتِشْرَافِ بِالْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ. فَقِيلَ لَهُ: هَلْ مِنْ حُجَّةٍ
عَلَى هَذَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ
فِي الْمِنْجَنِيقِ عَرَضَ لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ:
أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ: فَسَلْ مَنْ لَكَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ. فَقَالَ:
أَحَبُّ الْأَمْرَيْنِ إِلَيَّ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الصِّفَارِ قَالَ: كُنَّا مَعَ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، فَقُلْنَا: ادْعُ اللَّهَ لَنَا،
فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَا نَعْلَمُ أَنَّكَ لَنَا عَلَى
أَكْثَرَ مِمَّا نُحِبُّ فَاجْعَلْنَا عَلَى مَا تُحِبُّ. ثُمَّ سَكَتَ.
فَقُلْنَا: زِدْنَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِالْقُدْرَةِ الَّتِي
قُلْتَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا
أَتَيْنَا طَائِعِينَ [ فُصِّلَتْ: 11 ] اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَرْضَاتِكَ،
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ إِلَّا إِلَيْكَ، وَنَعُوذُ بِكَ
مِنَ الذُّلِّ إِلَّا لَكَ، اللَّهُمَّ لَا تُكْثِرْ لَنَا فَنَطْغَى، وَلَا
تُقِلَّ عَلَيْنَا فَنَنْسَى، وَهَبْ لَنَا مَنْ رَحِمَتِكَ وَسَعَةِ رِزْقِكَ مَا
يَكُونُ بَلَاغًا لَنَا فِي دُنْيَانَا، وَغِنًى مِنْ فَضْلِكَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَفِي حِكَايَةِ أَبِي الْفَضْلِ التَّمِيمِيِّ عَنْ أَحْمَدَ:
وَكَانَ دُعَاؤُهُ فِي السُّجُودِ: اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إِلَى
الْحَقِّ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ. وَكَانَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ
قَبِلْتَ مِنْ عُصَاةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِدَاءً فَاجْعَلْنِي فِدَاءً لَهُمْ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي
لَا يَدَعُ
أَحَدًا يَسْتَقِي
لَهُ الْمَاءَ لِلْوُضُوءِ، بَلْ كَانَ يَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَإِذَا خَرَجَ
الدَّلْوُ مَلْآنَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ، مَا
الْفَائِدَةُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ
يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [ الْمُلْكِ: 30 ] وَالْأَخْبَارُ عَنْهُ فِي هَذَا
الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَدْ صَنَّفَ فِي الزُّهْدِ كِتَابًا حَافِلًا عَظِيمًا لَمْ يُسْبَقْ إِلَى
مِثْلِهِ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ أَحَدٌ فِيهِ. وَالْمَظْنُونُ بَلِ الْمَقْطُوعُ بِهِ
أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِمَا أَمْكَنَهُ مِنْ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مُنْقَلَبَهُ وَمَأْوَاهُ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ: قَالَ لِي أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي الْحَارِثَ الْمُحَاسِبِيَّ إِذَا جَاءَ
مَنْزِلَكَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، وَفَرِحْتُ بِذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى
الْحَارِثِ فَقُلْتُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَحْضُرَ اللَّيْلَةَ أَنْتَ
وَأَصْحَابُكَ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَثِيرٌ فَأَحْضِرْ لَهُمُ التَّمْرَ
وَالْكُسْبَ. فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ جَاءُوا، وَكَانَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ قَدْ سَبَقَهُمْ فَجَلَسَ فِي غُرْفَةٍ بِحَيْثُ يَرَاهُمْ وَيَسْمَعُ
كَلَامَهُمْ، وَلَا يَرَوْنَهُ فَلَمَّا صَلَّوُا الْعِشَاءَ لَمْ يُصَلُّوا
بَعْدَهَا شَيْئًا، حَتَّى جَاءُوا فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيِ الْحَارِثِ سُكُوتًا
كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ، حَتَّى كَانَ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ
اللَّيْلِ، ثُمَّ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَشَرَعَ الْحَارِثُ
يَتَكَلَّمُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّهْدِ وَالْوَعْظِ فَجَعَلَ هَذَا يَبْكِي،
وَهَذَا يَئِنُّ، وَهَذَا يَزْعَقُ، قَالَ: فَصَعِدْتُ إِلَى الْغُرْفَةِ، فَإِذَا
بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَبْكِي حَتَّى كَادَ يُغْشَى عَلَيْهِ،
ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى الصَّبَاحِ،
فَلَمَّا أَرَادُوا
الِانْصِرَافَ قُلْتُ: كَيْفَ رَأَيْتَ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ؟
فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَتَكَلَّمُ فِي الزُّهْدِ مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ،
وَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَؤُلَاءِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا أَرَى لَكَ أَنْ تَجْتَمِعَ
بِهِمْ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَرِهَ لَهُ صُحْبَتَهُمْ ; لِأَنَّ
الْحَارِثَ بْنَ أَسَدٍ وَإِنْ كَانَ زَاهِدًا لَكِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ
مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَكَانَ أَحْمَدُ يَكْرَهُ ذَلِكَ، أَوْ كَرِهَ لَهُ
صُحْبَتَهُمْ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ سُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ وَمَا هُمْ
عَلَيْهِ مِنَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ. قُلْتُ: بَلْ إِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ ;
لِأَنَّ فِي كَلَامِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مِنَ التَّقَشُّفِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ بِهِ
الشَّرْعُ، وَالتَّدْقِيقُ وَالتَّنْقِيرُ وَالْمُحَاسَبَةُ الْبَلِيغَةُ مَا لَمْ
يَأْتِ بِهِ أَمْرٌ ; وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ عَلَى
كِتَابِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ الْمُسَمَّى " بِالرِّعَايَةِ " قَالَ:
هَذَا بِدْعَةٌ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي جَاءَهُ بِهِ: عَلَيْكَ بِمَا
كَانَ عَلَيْهِ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ، وَدَعْ هَذَا فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ:
إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَدُومَ اللَّهُ لَكَ عَلَى مَا تُحِبُّ فَدُمْ لَهُ عَلَى
مَا يُحِبُّ. وَكَانَ يَقُولُ: الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ مَرْتَبَةٌ لَا
يَنَالُهَا إِلَّا الْأَكَابِرُ. وَكَانَ يَقُولُ: الْفَقْرُ أَشْرَفُ مِنَ
الْغِنَى، فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مَرَارَةً، وَانْزِعَاجَهُ
أَعْظَمُ حَالًا مِنَ الشُّكْرِ. وَقَالَ: لَا أَعْدِلُ بِفَضْلِ الْفَقْرِ
شَيْئًا. وَكَانَ يَقُولُ: عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَقْبَلَ الرِّزْقَ بَعْدَ
الْيَأْسِ، وَلَا يَقْبَلَهُ إِذَا تَقَدَّمَهُ طَمَعٌ أَوِ اسْتِشْرَافٌ. وَكَانَ
يُحِبُّ التَّقَلُّلَ طَلَبًا لِخِفَّةِ الْحِسَابِ.
وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: قَالَ رَجُلٌ لِأَحْمَدَ: هَذَا الْعِلْمُ تَعَلَّمْتَهُ لِلَّهِ ؟
فَقَالَ: هَذَا شَرْطٌ شَدِيدٌ، وَلَكِنْ حُبِّبَ إِلَيَّ شَيْءٌ فَجَمَعْتُهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَقَالَ:
إِنَّ أُمِّي زَمِنَةٌ مُقْعَدَةٌ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقَدْ بَعَثَتْنِي
إِلَيْكَ لِتَدْعُوَ اللَّهَ لَهَا، فَكَأَنَّهُ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ:
نَحْنُ أَحْوَجُ أَنْ تَدْعُوَ هِيَ لَنَا. ثُمَّ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
لَهَا. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلَى أُمِّهِ فَدَقَّ الْبَابَ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ
عَلَى رِجْلَيْهَا، وَقَالَتْ قَدْ وَهَبَنِي اللَّهُ الْعَافِيَةَ.
وَرَوِيَ أَنْ سَائِلًا سَأَلَ فَأَعْطَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قِطْعَةً، فَقَامَ
رَجُلٌ إِلَى السَّائِلِ فَقَالَ: هَبْنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ حَتَّى أُعْطِيَكَ
عِوَضَهَا، مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا فَأَبَى فَرَقَّاهُ إِلَى خَمْسِينَ وَهُوَ
يَأْبَى، فَقَالَ: إِنِّي أَرْجُو مَنْ بَرَكَتِهَا مَا تَرْجُوهُ أَنْتَ مَنْ
بَرَكَتِهَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
بَابُ ذِكْرِ مَا جَاءَ فِي مِحْنَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
فِي أَيَّامِ الْمَأْمُونِ ثُمَّ الْمُعْتَصِمِ، ثُمَّ الْوَاثِقِ بِسَبَبِ
الْقُرْآنِ، وَمَا أَصَابَهُ مِنَ الْحَبْسِ الطَّوِيلِ وَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ،
وَالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ بِسُوءِ الْعَذَابِ وَأَلِيمِ الْعِقَابِ وَقِلَّةِ
مُبَالَاتِهِ بِمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ إِلَيْهِ، وَصَبْرِهِ عَلَيْهِ،
وَتَمَسُّكِهِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ
الْمُسْتَقِيمِ.
وَكَانَ أَحْمَدُ
عَالِمًا بِمَا وَرَدَ بِمِثْلِ حَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْمَتْلُوَّةِ
وَالْآثَارِ الْمَأْثُورَةِ، وَبَلَغَهُ مَا أُوصِيَ بِهِ فِي الْمَنَامِ
وَالْيَقَظَةِ، فَرَضِيَ وَسَلَّمَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَفَازَ بِخَيْرِ
الدُّنْيَا وَنَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَهَيَّأَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ مِنْ ذَلِكَ
لِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ أَهْلِ الْبَلَاءِ فِي اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ
اللَّهِ، وَأَلْحَقَ بِهِ مُحِبِّيهِ فِيمَا نَالَ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ
تَعَالَى، إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ بَلِيَّةٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا
آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [
الْعَنْكَبُوتِ: 1 - 3 ] وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ
لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [
لُقْمَانَ: 17 ] فِي آيٍ سِوَاهَا فِي مَعْنَى مَا كَتَبْنَا.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْمُمْتَحَنَ فِي مُسْنَدِهِ قَائِلًا فِيهِ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ
بَهْدَلَةَ، سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ:سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ
بَلَاءً ؟ فَقَالَ: الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، ثُمَّ
يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ
ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى
حَسَبِ ذَلِكَ، وَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ فِي
الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي
قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:ثَلَاثَةٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ; مَنْ
كَانَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا
يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ
أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ
وَأَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، ثَنَا
أَبُو الْمُغِيرَةِ، ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو السَّكْسَكِيُّ، ثَنَا عَمْرُو
بْنُ قَيْسٍ السَّكُونِيُّ، ثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَ
بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: إِنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا إِلَّا بَلَاءً وَفِتْنَةً، وَلَنْ
يَزْدَادَ الْأَمْرُ إِلَّا شَدَّةً، وَلَا الْأَنْفُسُ إِلَّا شُحًّا. وَبِهِ،
قَالَ مُعَاذٌ: " لَنْ تَرَوْا مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا غِلْظَةً وَلَنْ
تَرَوْا أَمْرًا يَهُولُكُمْ وَيَشْتَدُّ عَلَيْكُمْ إِلَّا حَضَرَ بَعْدَهُ مَا
هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ ". قَالَ الْبَغَوِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ رَضِينَا. يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الرَّبِيعِ قَالَ: بَعَثَنِي الشَّافِعِيُّ
بِكِتَابٍ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَأَتَيْتُهُ وَقَدِ
انْفَتَلَ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَالَ:
أَقَرَأْتَهُ ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَأَخَذَهُ فَقَرَأَهُ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَمَا فِيهِ ؟ فَقَالَ: يَذْكُرُ أَنَّهُ
رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ
لَهُ: " اكْتُبْ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَاقْرَأْ عَلَيْهِ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ سَتُمْتَحَنُ،
وَتُدْعَى إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فَلَا تُجِبْهُمْ، يَرْفَعُ
اللَّهُ لَكَ عَلَمًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الرَّبِيعُ: فَقُلْتُ:
حَلَاوَةُ الْبِشَارَةِ. فَخَلَعَ قَمِيصَةُ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ
فَأَعْطَانِيهِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى الشَّافِعِيِّ أَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:
إِنِّي لَسْتُ أَفْجَعُكَ فِيهِ، وَلَكِنْ بُلَّهُ بِالْمَاءِ وَأَعْطِنِيهِ
حَتَّى أَتَبَرَّكَ بِهِ.
ذِكْرُ مُلَخَّصِ
الْفِتْنَةِ وَالْمِحْنَةِ مَجْمُوعًا مِنْ كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَثَابَهُمُ الْجَنَّةَ
قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَأْمُونَ كَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِهِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَأَزَاغُوهُ عَنْ
طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَزَيَّنُوا لَهُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ،
وَنَفْيِ الصِّفَاتِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ فِي الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ لَا
مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ خَلِيفَةٌ إِلَّا عَلَى
مَنْهَجِ السَّلَفِ، حَتَّى وَلِيَ هُوَ الْخِلَافَةَ، فَاجْتَمَعَ بِهِ هَؤُلَاءِ
فَحَمَلُوهُ عَلَى ذَلِكَ. قَالُوا: وَاتَّفَقَ خُرُوجُهُ إِلَى طَرَسُوسَ
لِغَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ فَعَنَّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى نَائِبِ بَغْدَادَ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِشُهُورٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ.
فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ كَمَا ذَكَرْنَا اسْتَدْعَى جَمَاعَةً مِنْ أَئِمَّةِ
الْحَدِيثِ فَدَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَامْتَنَعُوا، فَتَهَدَّدَهُمْ بِالضَّرْبِ،
وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ، فَأَجَابَ أَكْثَرُهُمْ مُكْرَهِينَ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى
الِامْتِنَاعِ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
نُوحٍ
الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ،
فَحُمِلَا عَلَى بَعِيرٍ، وَسَيَّرَهُمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ عَنْ أَمْرِهِ
بِذَلِكَ، وَهُمَا مُقَيَّدَانِ مُتَعَادِلَانِ فِي مَحْمَلٍ عَلَى بَعِيرٍ
وَاحِدٍ، فَلَمَّا كَانُوا بِبِلَادِ الرَّحْبَةِ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ
مِنْ عُبَّادِهِمْ يُقَالُ لَهُ: جَابِرُ بْنُ عَامِرٍ. فَسَلَّمَ عَلَى
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّكَ وَافِدُ النَّاسِ، فَلَا
تَكُنْ مَشْئُومًا عَلَيْهِمْ، وَإِنَّكَ رَأْسُ النَّاسِ الْيَوْمَ، فَإِيَّاكَ
أَنْ تُجِيبَ فَيُجِيبُوا، وَإِنْ كُنْتَ تُحِبُّ اللَّهَ فَاصْبِرْ عَلَى مَا
أَنْتَ فِيهِ فَإِنَّ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا أَنْ تُقْتَلَ،
وَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تُقْتَلْ تَمُتْ، وَإِنْ عِشْتَ عِشْتَ حَمِيدًا. قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ: فَكَانَ ذَلِكَ مَا قَوَّى عَزْمِي عَلَى مَا أَنَا فِيهِ
مِنَ الِامْتِنَاعِ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ جَيْشِ الْمَأْمُونِ
وَنَزَلُوا دُونَهُ بِمَرْحَلَةٍ جَاءَ خَادِمٌ، وَهُوَ يَمْسَحُ دُمُوعَهُ
بِطَرَفِ ثِيَابِهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَعِزُّ عَلَيَّ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
أَنُّ الْمَأْمُونُ قَدْ سَلَّ سَيْفًا لَمْ يَسُلَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَبَسَطَ
نِطْعًا لَمْ يَبْسُطْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُقْسِمُ بِقَرَابَتِهِ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ لَمْ تُجِبْهُ إِلَى
الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَيَقْتُلَنَّكَ بِذَلِكَ السَّيْفِ. قَالَ:
فَجَثَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَقَ بِطَرْفِهِ إِلَى
السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: سَيِّدِي غَرَّ حِلْمُكَ هَذَا الْفَاجِرَ حَتَّى
يَتَجَبَّرَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ، اللَّهُمَّ فَإِنْ
يَكُنِ الْقُرْآنُ كَلَامُكَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُ. قَالَ:
فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ بِمَوْتِ الْمَأْمُونِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ
اللَّيْلِ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَفَرِحْتُ بِذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ
الْمُعْتَصِمَ قَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ
أَبِي دُؤَادٍ، وَأَنَّ الْأَمْرَ شَدِيدٌ، فَرَدُّونَا إِلَى بَغْدَادَ فِي
سَفِينَةٍ مَعَ
بَعْضِ
الْأُسَارَى، وَنَالَنِي مَعَهُمْ أَذًى كَثِيرٌ، وَكَانَ فِي رِجْلَيْهِ
الْقُيُودُ، وَمَاتَ صَاحِبُهُ مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ فِي الطَّرِيقِ وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَلَمَّا رَجَعَ أَحْمَدُ إِلَى بَغْدَادَ دَخَلَهَا وَهُوَ
مَرِيضٌ وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَأُودِعَ السِّجْنَ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ
وَعِشْرِينَ شَهْرًا. وَقِيلَ: نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ شَهْرًا. ثُمَّ أُخْرِجَ
إِلَى الضَّرْبِ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَصِمِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ الَّذِي
يُصَلِّي بِأَهْلِ السِّجْنِ وَعَلَيْهِ قُيُودٌ فِي رِجْلَيْهِ.
ذِكْرُ ضَرْبِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَصِمِ
لَمَّا أَحْضَرَهُ الْمُعْتَصِمُ مِنَ السِّجْنِ زِيدَ فِي قُيُودِهِ، قَالَ
أَحْمَدُ: فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَمْشِيَ بِهَا فَرَبَطْتُهَا فِي التِّكَّةِ
وَحَمَلْتُهَا بِيَدِي، ثُمَّ جَاءُونِي بِدَابَّةٍ فَحُمِلْتُ عَلَيْهَا فَكِدْتُ
أَنْ أَسْقُطَ عَلَى وَجْهِي مِنْ ثِقَلِ الْقُيُودِ، وَلَيْسَ مَعِي أَحَدٌ
يُمْسِكُنِي، فَسَلَّمَ اللَّهُ حَتَّى جِئْنَا دَارَ الْخِلَافَةِ فَأُدْخِلْتُ
فِي بَيْتٍ، وَأُغْلِقَ عَلَيَّ، وَلَيْسَ عِنْدِي سِرَاجٌ فَأَرَدْتُ الْوُضُوءَ
فَمَدَدْتُ يَدِي فَإِذَا إِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَتَوَضَّأْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قُمْتُ
أَصْلِي، وَلَا أَعْرِفُ الْقِبْلَةَ فَلَمَّا أَصْبَحْتُ إِذَا أَنَا عَلَى
الْقِبْلَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ: ثُمَّ دُعِيتُ فَأُدْخِلْتُ عَلَى الْمُعْتَصِمِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ، وَعِنْدَهُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ حَدَثُ السِّنِّ، وَهَذَا شَيْخٌ مُكْتَهِلٌ ؟ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ وَسَلَّمْتُ قَالَ لِيَ: ادْنُهْ. فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِينِي حَتَّى قَرُبْتُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ وَقَدْ أَثْقَلَنِي الْحَدِيدُ، فَمَكَثْتُ سَاعَةً، ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَامَ دَعَا إِلَيْهِ ابْنُ عَمِّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قُلْتُ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرْتُ لَهُ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، ثُمَّ قُلْتُ: فَهَذَا الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: ثُمَّ تَكَلَّمَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ بِكَلَامٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، وَذَلِكَ لِأَنِّي لَمْ أَتَفَقَّهْ كَلَامَهُ، ثُمَّ قَالَ الْمُعْتَصِمُ: لَوْلَا أَنَّكَ كُنْتَ فِي يَدِ مَنْ كَانَ قَبْلِي لَمْ أَتَعَرَّضْ إِلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَلَمْ آمُرْكَ أَنْ تَرْفَعَ الْمِحْنَةَ ؟ قَالَ أَحْمَدُ: فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا فَرَجٌ لِلْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ قَالَ: نَاظِرُوهُ، يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ كَلِّمْهُ. فَقَالَ لِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقَالَ الْمُعْتَصِمُ: أَجِبْهُ. فَقُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي الْعِلْمِ ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ. فَسَكَتَ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَفَّرَكَ وَكَفَّرَنَا. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: كَانَ اللَّهُ وَلَا قُرْآنَ ؟ فَقُلْتُ: كَانَ اللَّهُ وَلَا
عِلْمَ ؟ فَسَكَتَ.
فَجَعَلُوا يَتَكَلَّمُونَ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَعْطُونِي شَيْئًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ
اللَّهِ حَتَّى أَقُولَ بِهِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: وَأَنْتَ لَا تَقُولُ
إِلَّا بِهَذَا وَهَذَا ؟ فَقُلْتُ: وَهَلْ يَقُومُ الْإِسْلَامُ إِلَّا بِهِمَا ؟
وَجَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاظَرَاتٌ طَوِيلَةٌ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [ الْأَنْبِيَاءِ: 2 ]
وَعَنْهُ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ بِحَدَثِ إِنْزَالِهِ، أَوْ ذِكْرٌ غَيْرُ
الْقُرْآنِ مُحْدَثٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَرَشَّحَ هَذَا بُقُولِهِ ص وَالْقُرْآنِ
ذِي الذِّكْرِ [ ص: 1 ] يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ الذِّكْرِ فَإِنَّهُ
غَيْرُ الْقُرْآنِ. وَبِقَوْلِهِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ الرَّعْدِ: 16 ]
وَأَجَابَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [ الْأَحْقَافِ: 25 ] فَقَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ: هُوَ
وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ، وَهَؤُلَاءِ
قُضَاتُكَ وَالْفُقَهَاءُ فَسَلْهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ:
فَأَجَابُوا بِمِثْلِ مَا قَالَ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، ثُمَّ أَحْضَرُوهُ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي فَنَاظَرُوهُ أَيْضًا، ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ
فَنَاظَرُوهُ أَيْضًا، وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَعْلُو صَوْتُهُ عَلَيْهِمْ،
وَتَغْلِبُ حُجَّتُهُ حُجَجَهُمْ. قَالَ: فَإِذَا سَكَتُوا فَتَحَ الْكَلَامَ
عَلَيْهِمُ ابْنُ أَبِي دُؤَادٍ، وَكَانَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ
وَالْكَلَامِ،
وَقَدْ تَنَوَّعَتْ بِهِمُ الْمَسَائِلُ فِي الْمُجَادَلَةِ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ
بِالنَّقْلِ، فَجَعَلُوا يُنْكِرُونَ الْآثَارَ، وَيَرُدُّونَ الِاحْتِجَاجَ
بِهَا.
وَقَالَ أَحْمَدُ: سَمِعْتُ مِنْهُمْ مَقَالَاتٍ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّ
أَحَدًا يَقُولُهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ مَعِي بُرْغُوثٌ بِكَلَامٍ طَوِيلٍ ذَكَرَ
فِيهِ الْجِسْمَ وَغَيْرَهُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي مَا
تَقُولُ إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَحَدٌ صَمَدٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ، فَسَكَتَ عَنِّي.
وَقَدْ أَوْرَدْتُ لَهُمْ حَدِيثَ الرُّؤْيَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ
فَحَاوَلُوا أَنْ يُضَعِّفُوا إِسْنَادَهُ، وَيُلَفِّقُوا عَنْ بَعْضِ
الْمُحَدِّثِينَ كَلَامًا يَتَسَلَّقُونَ بِهِ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ، وَهَيْهَاتَ
وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [ سَبَأٍ: 52 ] وَفِي غُبُونِ
ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَلَطَّفُ بِهِ الْخَلِيفَةُ، وَيَقُولُ: يَا أَحْمَدُ،
أَجِبْنِي إِلَى هَذَا حَتَّى أَجْعَلَكَ مِنْ خَاصَّتِي، وَمِمَّنْ يَطَأُ
بِسَاطِي. فَأَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، يَأْتُونِي بِآيَةٍ مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى أُجِيبَهُمْ إِلَيْهَا.
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِمْ حِينَ أَنْكَرُوا الِاحْتِجَاجَ بِالْآثَارِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى: حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا
لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [ مَرْيَمَ: 42 ]
وَبُقُولِهِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ النِّسَاءِ: 164 ]
وَبِقَوْلِهِ:
إِنَّنِي أَنَا
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [ طه: 14 ]، وَبِقَوْلِهِ: أَلَا
لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [ الْأَعْرَافِ: 54 ] وَبِقَوْلِهِ إِنَّمَا قَوْلُنَا
لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ النَّحْلِ: 40 ]
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ لَهُمْ مَعَهُ حُجَّةٌ
عَدَلُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ جَاهِ الْخَلِيفَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا كَافِرٌ ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ نَائِبُ بَغْدَادَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ
تَدْبِيرِ الْخِلَافَةِ أَنْ تُخَلِّيَ سَبِيلَهُ وَيَغْلِبَ خَلِيفَتَيْنِ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ حَمِيَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَكَانَ أَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً،
وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ. قَالَ أَحْمَدُ: فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ
لِي: لَعَنَكَ اللَّهُ، طَمِعْتُ فِيكَ أَنْ تُجِيبَنِي فَلَمْ تَجْبُنِي. ثُمَّ
قَالَ: خُذُوهُ وَاخْلَعُوهُ وَاسْحَبُوهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: فَأُخِذْتُ وَسُحِبْتُ وَخُلِعْتُ وَجِيءَ بِالْعُقَابَيْنِ
وَالسِّيَاطِ، وَأَنَا أَنْظُرُ، وَكَانَ مَعِي شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْرُورٌ فِي ثَوْبِي فَجَرَّدُونِي مِنْهُ،
وَصِرْتُ بَيْنَ الْعُقَابَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهَ
اللَّهَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:لَا
يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا
بِإِحْدَى ثَلَاثٍ.. وَتَلَوْتُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي
دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
فَبِمَ تَسْتَحِلُّ
دَمِي، وَلَمْ آتِ شَيْئًا مِنْ هَذَا، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اذْكُرْ
وُقُوفَكَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ كَوُقُوفِي بَيْنَ يَدَيْكَ. فَكَأَنَّهُ
أَمْسَكَ، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
إِنَّهُ ضَالٌّ مُضِلٌّ كَافِرٌ. فَأَمَرَ بِي فَأُقِمْتُ بَيْنَ الْعُقَابَيْنِ،
وَجِيءَ بِكُرْسِيٍّ فَأُقِمْتُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَنِي بَعْضُهُمْ أَنْ آخُذَ
بِيَدِي بِأَيِّ الْخَشَبَتَيْنِ فَلَمْ أَفْهَمْ، فَتَخَلَّعَتْ يَدَايَ، وَجِيءَ
بِالضَّرَّابِينَ، وَمَعَهُمُ السِّيَاطُ فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَضْرِبُنِي
سَوْطَيْنِ، وَيَقُولُ لَهُ يَعْنِي الْمُعْتَصِمُ: شُدَّ، قَطَّعَ اللَّهُ يَدَكَ
! وَيَجِيءُ الْآخَرُ فَيَضْرِبُنِي سَوْطَيْنِ، ثُمَّ الْآخَرُ كَذَلِكَ،
فَضَرَبُونِي أَسْوَاطًا فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، وَذَهَبَ عَقْلِي مِرَارًا، فَإِذَا
سَكَنَ الضَّرْبُ يَعُودُ إِلَيَّ عَقْلِي، وَقَامَ الْمُعْتَصِمُ إِلَيَّ
يَدْعُونِي إِلَى قَوْلِهِمْ فَلَمْ أُجِبْهُ، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: وَيْحَكَ،
الْخَلِيفَةُ عَلَى رَأْسِكَ. فَلَمْ أَقْبَلْ، فَأَعَادُوا الضَّرْبَ، ثُمَّ
عَادَ إِلَيَّ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَأَعَادُوا الضَّرْبَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيَّ
الثَّالِثَةَ، فَدَعَانِي فَلَمْ أَعْقِلْ مَا قَالَ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ،
ثُمَّ أَعَادُوا الضَّرْبَ فَذَهَبَ عَقْلِي فَلَمْ أُحِسَّ بِالضَّرْبِ،
وَأَرْعَبَهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِي، وَأَمَرَ بِي فَأُطْلِقْتُ، وَلَمْ أَشْعُرْ
إِلَّا وَأَنَا فِي حُجْرَةٍ مِنْ بِيْتٍ وَقَدْ أُطْلِقَتِ الْأَقْيَادُ مِنْ
رِجْلِي، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ
مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ
بِإِطْلَاقِهِ إِلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا ضُرِبَ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ
سَوْطًا، وَقِيلَ: ثَمَانِينَ سَوْطًا لَكِنْ كَانَ ضَرْبًا مُبَرِّحًا شَدِيدًا
جِدًّا.
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَجُلًا طُوَالًا رَقِيقًا أَسْمَرَ اللَّوْنِ
كَثِيرَ التَّوَاضُعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَرَضِيَ عَنْهُ،
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَلَمَّا حُمِلَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ صَائِمٌ، أَتَوْهُ بِسَوِيقٍ وَمَاءٍ ; لِيُفْطِرَ مِنَ
الضَّعْفِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَتَمَّ صَوْمَهُ، وَحِينَ حَضَرَتْ صَلَاةُ
الظُّهْرِ صَلَّى مَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سَمَاعَةَ الْقَاضِي: صَلَّيْتَ
فِي دَمِكَ ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: قَدْ صَلَّى عُمَرُ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ
دَمًا. فَسَكَتَ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ لِيُضْرَبَ انْقَطَعَتْ تِكَّةُ سَرَاوِيلِهِ
فَخَشِيَ أَنْ يَسْقُطَ سَرَاوِيلُهُ فَتُكْشَفَ عَوْرَتَهُ، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ
بِدُعَاءٍ فَعَادَ سَرَاوِيلُهُ كَمَا كَانَ. وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: يَا
غَيَّاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ يَا إِلَهَ الْعَالَمِينَ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنِّي قَائِمٌ لَكَ بِحَقٍّ فَلَا تَهْتِكْ لِي عَوْرَةً.
وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ جَاءَهُ الْجَرَّايِحِيُّ فَقَطَعَ لَحْمًا
مَيِّتًا مِنْ جَسَدِهِ، وَجَعَلَ يُدَاوِيهِ، وَالنَّائِبُ يَبْعَثُ كَثِيرًا فِي
كُلِّ وَقْتٍ يَسْأَلُ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَصِمَ نَدِمَ عَلَى مَا
كَانَ مِنْهُ إِلَى أَحْمَدَ نَدَمًا كَثِيرًا، وَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّائِبَ
عَنْهُ، وَالنَّائِبُ يَسْتَعْلِمُ خَبَرَهُ، فَلَمَّا عُوفِيَ فَرِحَ
الْمُعْتَصِمُ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ، وَلَمَّا شَفَاهُ اللَّهُ
بِالْعَافِيَةِ بَقِيَ مُدَّةً وَإِبْهَامَاهُ يُؤْذِيهِمَا الْبَرْدُ، وَجَعَلَ
كُلَّ مَنْ سَعَى فِي أَمْرِهِ فِي حِلٍّ إِلَّا
أَهْلَ
الْبِدْعَةِ، وَكَانَ يَتْلُو فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [ النُّورِ: 22 ]
وَيَقُولُ: مَاذَا يَنْفَعُكَ أَنْ يُعَذَّبَ أَخُوكَ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِكَ ؟
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
[ الشُّورَى: 40 ] وَيُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: " لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ " فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ
مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَنْ
تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَى الْمِحْنَةِ فَلَمْ يُجِيبُوا بِالْكُلِّيَّةِ
أَرْبَعَةٌ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ رَئِيسُهُمْ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحِ
بْنِ مَيْمُونٍ الْجُنْدَيْسَابُورِيُّ، وَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ حِينَ ذَهَبَ هُوَ
وَأَحْمَدُ إِلَى الْمَأْمُونِ وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ
مَاتَ فِي السِّجْنِ، وَأَبُو يَعْقُوبَ الْبُوَيْطِيُّ، وَقَدْ مَاتَ فِي سِجْنِ
الْوَاثِقِ عَلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، لَمْ يُجِبْهُمْ إِلَى ذَلِكَ.
وَكَانَ مُثْقَلًا بِالْحَدِيدِ، وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا، وَأَحْمَدُ بْنُ
نَصْرٍ الْخُزَاعِيُّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- فِي أَيَّامِ الْوَاثِقِ.
ذِكْرُ ثَنَاءِ
الْأَئِمَّةِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الْمُعَظِّمِ الْمُبَجَّلِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَمَّا ضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ كُنَّا بِالْبَصْرَةِ
فَسَمِعْتُ أَبَا الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيَّ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ لَكَانَ أُحْدُوثَةً.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَلِيلِ: لَوْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ لَكَانَ عَجَبًا.
وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَوْمَ الْمِحْنَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ
يَوْمَ الرِّدَّةِ، وَعُمَرُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ، وَعُثْمَانُ يَوْمَ الدَّارِ،
وَعَلِيٌّ يَوْمَ صِفِّينَ.
وَقَالَ حَرْمَلَةُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْعِرَاقِ
فَمَا خَلَّفْتُ بِهَا رَجُلًا أَفْضَلَ وَلَا أَعْلَمَ وَلَا أَوْرَعَ وَلَا
أَتْقَى مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ شَيْخُهُ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ: مَا قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ بَغْدَادَ أَحَدٌ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ: مَاتَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَاتَ الْوَرَعُ، وَمَاتَ
الشَّافِعِيُّ وَمَاتَتِ السُّنَنُ، وَيَمُوتُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَتَظْهَرُ
الْبِدَعُ، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ قُتَيْبَةُ: إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
قَامَ فِي الْأُمَّةِ مَقَامَ النُّبُوَّةِ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي فِي
صَبْرِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ ابْنُ النَّحَّاسِ وَذَكَرَ أَحْمَدَ يَوْمًا فَقَالَ:
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ مَا كَانَ أَبْصَرَهُ، وَعَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ
أَصْبَرَهُ، وَفِي الزُّهْدِ مَا كَانَ أَخْبَرَهُ، وَبِالصَّالِحِينَ مَا كَانَ
أَلْحَقَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ، عَرَضَتْ لَهُ الدُّنْيَا
فَأَبَاهَا، وَالْبِدَعُ فَنَفَاهَا.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي بَعْدَمَا ضُرِبَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ: أُدْخِلَ أَحْمَدُ الْكِيرَ فَخَرَجَ ذَهَبًا أَحْمَرَ.
وَقَالَ
الْمَيْمُونِيُّ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ بَعْدَمَا امْتُحِنَ
أَحْمَدُ، وَقَبْلَ أَنْ يُمْتَحَنَ: يَا مَيْمُونِيُّ، مَا قَامَ أَحَدٌ فِي
الْإِسْلَامِ مَا قَامَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَعَجِبْتُ مِنْ هَذَا عَجَبًا
شَدِيدًا، وَذَهَبْتُ إِلَى أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، فَحَكَيْتُ
لَهُ مَقَالَةَ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، فَقَالَ: صَدَقَ، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ وَجَدَ يَوْمَ الرِّدَّةِ أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا وَإِنَّ أَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْصَارٌ وَلَا أَعْوَانٌ. ثُمَّ أَخَذَ أَبُو
عُبَيْدٍ يُطْرِي أَحْمَدَ وَيَقُولُ: لَسْتُ أَعْلَمُ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَهُ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حُجَّةٌ بَيْنَ
اللَّهِ وَبَيْنَ عَبِيدِهِ فِي أَرْضِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: إِذَا ابْتُلِيتُ بِشَيْءٍ فَأَفْتَانِي
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَمْ أُبَالِ إِذَا لَقِيتُ رَبِّي كَيْفَ كَانَ. وَقَالَ
عَلِيٌّ أَيْضًا: إِنِّي اتَّخَذْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ حُجَّةً فِيمَا
بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ يَقْوَى عَلَى مَا
يَقْوَى عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ؟
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَيْضًا: كَانَ فِي أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ خِصَالٌ
مَا رَأَيْتُهَا فِي عَالِمٍ قَطُّ، كَانَ مُحَدِّثًا، وَكَانَ حَافِظًا، وَكَانَ
عَالِمًا، وَكَانَ وَرِعًا، وَكَانَ زَاهِدًا، وَكَانَ عَاقِلًا.
وَقَالَ يَحْيَى
بْنُ مَعِينٍ أَيْضًا: أَرَادَ النَّاسُ مِنَّا أَنْ نَكُونَ مِثْلَ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، وَاللَّهِ مَا نَقْوَى أَنْ نَكُونَ مِثْلَ أَحْمَدَ، وَلَا نُطِيقُ
سُلُوكَ طَرِيقِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: اتَّخَذْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ
الرَّقِّيُّ: مَنَّ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَرْبَعَةٍ:
بِالشَّافِعِيِّ، فَهِمَ الْأَحَادِيثَ وَفَسَّرَهَا، وَبَيَّنَ الْمُجْمَلَ مِنَ
الْمُفَسَّرِ، وَالْخَاصِّ مِنَ الْعَامِّ، وَالنَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ،
وَبِأَبِي عُبَيْدٍ عَرَفَ الْغَرِيبَ وَفَسَّرَهُ، وَبِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ
نَفَى الْكَذِبَ عَنِ الْأَحَادِيثِ، وَبِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَبَتَ فِي
الْمِحْنَةِ، لَوْلَا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ لَهَلَكَ النَّاسُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مُقَدَّمٌ
عَلَى كُلِّ مَنْ حَمَلَ بِيَدِهِ قَلَمًا وَمِحْبَرَةً ; يَعْنِي فِي عَصْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَجَاءٍ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَا رَأَيْتُ مَنْ رَأَى مِثْلَهُ.
وَقَالَ أَبُو
زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: مَا أَعْرِفُ فِي أَصْحَابِنَا أَسْوَدَ الرَّأْسِ أَفْقَهَ
مِنْهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ
الْعَنْبَرِيِّ قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُوشَنْجِيُّ فِي
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِنَّ ابْنَ حَنْبَلٍ إِنْ سَأَلْتَ إَمَامُنَا وَبِهِ الْأَئِمَّةُ فِي
الْأَنَامِ تَمَسَّكُوا خَلَفَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا بَعْدَ الْأُلَى
كَانُوا الْخَلَائِفَ بَعْدَهُ وَاسْتَهْلَكُوا حَذْوَ الشِّرَاكِ عَلَى
الشِّرَاكِ وَإِنَّمَا
يَحْذُو الْمِثَالَ مِثَالُهُ الْمُتَمِسِّكُ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى
الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ
أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرُهُمَا: هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَالِينِيِّ، عَنِ ابْنِ عَدِيٍّ
عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ أَبِي الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيِّ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ مُعَانِ
بْنِ رِفَاعَةَ،
عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ. ح قَالَ الْبَغَوِيُّ:
وَحَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا مُبَشِّرٌ، عَنْ مُعَانٍ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ
عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ،
وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُرْسَلٌ، وَإِسْنَادُهُ فِيهِ
ضَعْفٌ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ صَحَّحَهُ، وَاحْتَجَّ بِهِ
عَلَى عَدَالَةِ كُلِّ مَنْ نُسِبَ إِلَى حَمْلِ الْعِلْمِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ
مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
ذِكْرُ مَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بَعْدَ الْمِحْنَةِ
حِينَ أُخْرِجَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الضَّرْبِ صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ
فَدُووِيَ حَتَّى
بَرِئَ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَى
جَمَاعَةٍ وَلَا جُمُعَةٍ، وَامْتَنَعَ مِنَ التَّحْدِيثِ، وَكَانَتْ غَلَّتُهُ
مِنْ مِلْكٍ لَهُ ; فِي كُلِّ شَهْرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يُنْفِقُهَا عَلَى
عِيَالِهِ، وَيَتَقَنَّعُ بِذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، صَابِرًا مُحْتَسِبًا،
وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُعْتَصِمِ، وَكَذَلِكَ فِي أَيَّامِ
ابْنِهِ مُحَمَّدٍ الْوَاثِقِ.
فَلَمَّا وَلِيَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرُ ابْنُ الْمُعْتَصِمِ
اسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِوِلَايَتِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مُحِبًّا لِلسُّنَّةِ
وَأَهْلِهَا، وَرَفَعَ الْمِحْنَةَ عَنِ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ أَنْ
لَا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ فِي الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى
نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ وَهُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنْ يَبْعَثَ
بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِلَيْهِ، فَاسْتَدْعَى إِسْحَاقُ بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ
إِلَيْهِ فَأَكْرَمَهُ إِسْحَاقُ وَعَظَّمَهُ ; لِمَا يَعْلَمُ مِنْ إِعْظَامِ
الْخَلِيفَةِ لَهُ وَإِجْلَالِهِ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
عَنِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ أَحْمَدُ: سُؤَالُ تَعَنُّتٍ أَوِ اسْتِرْشَادٍ ؟
فَقَالَ: بَلْ سُؤَالُ اسْتِرْشَادٍ. فَقَالَ: هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَنَزَّلٌ
غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَسَكَنَ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ جَهَّزَهُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، ثُمَّ سَبَقَهُ إِلَيْهِ.
وَبَلَغَهُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ اجْتَازَ بِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْحَاقَ فَلْمْ يَأْتِهِ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَغَضِبَ إِسْحَاقُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذَلِكَ وَشَكَاهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ:
يُرَدُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَطِئَ بِسَاطِي. فَرَجَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنَ
الطَّرِيقِ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مُتَكَرِّهًا
لِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَهُنْ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ،
وَإِنَّمَا كَانَ
رُجُوعُهُ عَنْ قَوْلِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ هُوَ السَّبَبَ
فِي ضَرْبِهِ.
ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الثَّلْجِيِّ وَشَى
إِلَى الْخَلِيفَةِ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ قَدْ
ضَوَى إِلَى مَنْزِلِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ يُبَايِعُ لَهُ النَّاسَ فِي
الْبَاطِنِ. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ نَائِبَ بَغْدَادَ أَنْ يَكْبِسَ مَنْزِلَ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنَ اللَّيْلِ. فَلَمْ يَشْعُرُوا إِلَّا وَالْمَشَاعِلُ
قَدْ أَحَاطَتْ بِالدَّارِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى مِنْ فَوْقِ الْأَسْطِحَةِ
فَوَجَدُوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ جَالِسًا فِي دَارِهِ مَعَ عِيَالِهِ، فَسَأَلُوهُ
عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُ، فَقَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، وَلَيْسَ مِنْ
هَذَا شَيْءٌ، وَلَا هَذَا مِنْ نِيَّتِي، وَإِنِّي لِأَرَى طَاعَةَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَفِي عُسْرِي وَيُسْرِي،
وَمَنْشَطِي وَمَكْرَهِي، وَأَثَرَةٍ عَلَيَّ، وَإِنِّي لَأَدْعُو اللَّهَ لَهُ
بِالتَّسْدِيدِ وَالتَّوْفِيقِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ،
فَفَتَّشُوا مَنْزِلَهُ حَتَّى مَكَانَ الْكُتُبِ وَبُيُوتَ النِّسَاءِ
وَالْأَسْطِحَةَ وَغَيْرَهَا فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَلَمَّا بَلَغَ
الْمُتَوَكِّلَ ذَلِكَ، وَعَلِمَ بَرَاءَتَهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، عَلِمَ
أَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ كَثِيرًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَعْقُوبَ بْنَ
إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفَ بِقَوْصَرَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْحَجَبَةِ بِعَشَرَةِ
آلَافِ دِرْهَمٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ: هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ
وَيَقُولُ لَكَ: اسْتَنْفَقَ هَذِهِ. فَامْتَنَعَ مَنْ قَبُولِهَا. فَقَالَ: يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي أَخْشَى مِنْ رَدِّكَ إِيَّاهَا أَنْ يَقَعَ وَحْشَةٌ
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، وَالْمَصْلَحَةُ لَكَ قَبُولُهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَهُ
ثُمَّ ذَهَبَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ اسْتَدْعَى الْإِمَامُ
أَحْمَدُ
أَهْلَهُ وَبَنِي
عَمِّهِ وَعِيَالَهُ، وَقَالَ: لَمْ أَنَمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مِنْ هَذَا
الْمَالِ. فَجَلَسُوا مَعَهُ، وَكَتَبُوا أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنَ
الْمُحْتَاجِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ
وَالْبَصْرَةِ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَفَرَّقَهَا فِي النَّاسِ مَا بَيْنَ الْخَمْسِينَ
إِلَى الْمِائَةِ وَالْمِائَتَيْنِ وَلَمْ يبْقِ مِنْهَا دِرْهَمًا، وَأَعْطَى
مِنْهَا لِأَبِي كُرَيْبٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ، وَتَصَدَّقَ بِالْكِيسِ
الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا لِأَهْلِهِ شَيْئًا، وَهُمْ فِي
غَايَةِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، وَجَاءَ بُنَيُّ ابْنِهِ فَقَالَ: أَعْطِنِي
دِرْهَمًا. فَنَظَرَ أَحْمَدُ إِلَى ابْنِهِ صَالِحٍ، فَتَنَاوَلَ صَالِحٌ
قِطْعَةً فَأَعْطَاهَا الصَّبِيَّ، فَسَكَتَ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَبَلَغَ الْخَلِيفَةُ أَنَّهُ قَدْ تَصَدَّقَ بِالْجَائِزَةِ كُلِّهَا حَتَّى
لَمْ يُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا وَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِكِيسِهَا، فَقَالَ عَلِيُّ
بْنُ الْجَهْمِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ قَدْ قَبِلَهَا مِنْكَ
وَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْكَ، وَمَا يَصْنَعُ أَحْمَدُ بِالْمَالِ ؟ إِنَّمَا
يَكْفِيهِ رَغِيفٌ. فَقَالَ: صَدَقْتَ.
فَلَمَّا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ، وَلَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا إِلَّا الْقَرِيبُ، وَتَوَلَّى نِيَابَةَ بَغْدَادَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ إِسْحَاقَ، كَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ
الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَقَالَ لِأَحْمَدَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: إِنِّي شَيْخٌ
كَبِيرٌ وَضَعِيفٌ، فَرَدَّ الْجَوَابَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ
يَعْزِمُ عَلَيْهِ لَتَأْتِيَنِّي، وَكَتَبَ إِلَى أَحْمَدَ يَقُولُ لَهُ: إِنِّي
أُحِبُّ أَنْ آنَسَ بِقُرْبِكَ، وَبِالنَّظَرِ إِلَيْكَ، وَيَحْصُلَ لِي بَرَكَةُ
دُعَائِكَ. فَسَارَ إِلَيْهِ
الْإِمَامُ
أَحْمَدُ وَهُوَ عَلِيلٌ فِي بَنِيهِ وَبَعْضِ أَهْلِهِ، فَلَمَّا قَارَبَ
الْعَسْكَرَ تَلَقَّاهُ وَصِيفٌ الْخَادِمُ فِي مَوْكِبٍ عَظِيمٍ، فَسَلَّمَ
وَصِيفٌ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ
وَصِيفٌ: قَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْ عَدُوِّكَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ. فَلَمْ
يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا، وَجَعَلَ ابْنُهُ يَدْعُو اللَّهَ لِلْخَلِيفَةِ
وَلِوَصِيفٍ فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْعَسْكَرِ بِسُرَّ مَنْ رَأَى، أُنْزِلَ
أَحْمَدُ فِي دَارِ إِيتَاخَ فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ ارْتَحَلَ مِنْهَا،
وَأَمَرَ أَنْ يُسْتَكْرَى لَهُ دَارٌ غَيْرُهَا.
وَكَانَ رُءُوسُ الْأُمَرَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَحْضُرُونَ عِنْدَهُ،
وَيُبَلِّغُونَهُ عَنِ الْخَلِيفَةِ السَّلَامَ، وَلَا يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ
حَتَّى يَخْلَعُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنَ الزِّينَةِ وَالسِّلَاحِ، وَبَعَثَ
إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِالْمَفَارِشِ الْوَطِيئَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآلَاتِ
الَّتِي تَلِيقُ بِتِلْكَ الدَّارِ الْعَظِيمَةِ.
وَأَرَادَ مِنْهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ لِيُحَدِّثَ النَّاسَ عِوَضًا
عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْهُ فِي أَيَّامِ الْمِحْنَةِ وَمَا بَعْدَهَا مِنَ
السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ وَهُوَ مَحْجُوبٌ فِي دَارِهِ لَا
يَخْرُجُ إِلَى جَمَاعَةٍ وَلَا جُمُعَةٍ أَيْضًا، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ
بِأَنَّهُ عَلِيلٌ وَأَسْنَانُهُ تَتَحَرَّكُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَكَانَ
الْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَائِدَةً فِيهَا أَلْوَانُ
الْأَطْعِمَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَالثَّلْجُ، مِمَّا يُقَاوِمُ مِائَةً وَعِشْرِينَ
دِرْهَمًا فِي كُلِّ يَوْمِ، وَالْخَلِيفَةُ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ
ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ أَحْمَدُ يَطْعَمُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ،
بَلْ كَانَ صَائِمًا يَطْوِي، فَمَكَثَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لَمْ يَسْتَطْعِمْ
بِطَعَامٍ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ عَلِيلٌ، ثُمَّ أَقْسَمَ
عَلَيْهِ وَلَدُهُ حَتَّى شَرِبَ قَلِيلًا مِنَ السَّوِيقِ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ. وَجَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ بِمَالٍ جَزِيلٍ مِنَ الْخَلِيفَةِ ; جَائِزَةً لَهُ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ الْأَمِيرُ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَأَخَذَهَا الْأَمِيرُ فَفَرَّقَهَا عَلَى بَنِيهِ وَأَهْلِهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُرَدَّ عَلَى الْخَلِيفَةِ جَائِزَتُهُ. وَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ لِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَمَانَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا هَذَا إِلَّا لِوَلَدِكَ. فَأَمْسَكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُمَانَعَتِهِ، ثُمَّ أَخَذَ يَلُومُ أَهْلَهُ وَعَمَّهُ وَبَنِي عَمِّهِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا بَقِيَ لَنَا أَيَّامٌ قَلَائِلُ، وَكَأَنَّنَا وَقَدْ نَزَلَ بِنَا الْمَوْتُ فَإِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نَارٍ، فَنَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَبُطُونُنَا قَدْ أَخَذَتْ مِنْ مَالِ هَؤُلَاءِ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ يَعِظُهُمْ بِهِ. فَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ سَائِلٍ وَلَا مُسْتَشْرِفٍ فَخُذْهُ وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ قَبِلَا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ. فَقَالَ: مَا هَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ،
وَلَوْ أَعْلَمُ
أَنَّ هَذَا الْمَالَ أُخِذَ مِنْ حَقِّهِ، وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمٌ وَلَا جَوْرٌ
لَمْ أُبَالِ.
وَلَمَّا اسْتَمَرَّ ضَعْفُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ جَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ يَبْعَثُ
إِلَيْهِ بِابْنِ مَاسَوَيْهِ الْمُتَطَبِّبِ لِيَنْظُرَ فِي مَرَضِهِ، فَرَجَعَ
إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
لَيْسَ بِهِ عِلَّةٌ فِي بَدَنِهِ، وَإِنَّمَا عِلَّتُهُ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ،
وَكَثْرَةِ الصِّيَامِ وَالْعِبَادَةِ. فَسَكَتَ الْمُتَوَكِّلُ، ثُمَّ سَأَلَتْ
أَمُّ الْخَلِيفَةِ مِنْهُ أَنْ تَرَى الْإِمَامَ أَحْمَدَ، فَبَعَثَ
الْمُتَوَكِّلُ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَجْتَمِعَ بِابْنِهِ الْمُعْتَزِّ
وَيَدْعُوَ لَهُ، وَيَكُونَ فِي حِجْرِهِ فَتَمَنَّعَ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ أَجَابَ
إِلَيْهِ ; رَجَاءَ أَنْ يُعَجِّلَ بِرُجُوعِهِ إِلَى أَهْلِهِ بِبَغْدَادَ،
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ بِخِلْعَةٍ سَنِيَّةٍ وَمَرْكُوبٍ مِنْ
مَرَاكِيبِهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ رُكُوبِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ مِيثَرَةُ نُمُورٍ
فَجِيءَ بِبَغْلٍ لِبَعْضِ التُّجَّارِ فَرَكِبَهُ، وَجَاءَ إِلَى مَجْلِسٍ
الْمُعْتَزِّ، وَقَدْ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ وَأَمُّهُ فِي نَاحِيَةٍ فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ، مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ. فَلَمَّا جَاءَ أَحْمَدُ قَالَ:
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. وَجَلَسَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ،
فَقَالَتْ أَمُّ الْخَلِيفَةِ: اللَّهَ اللَّهَ يَا بُنَيَّ فِي هَذَا الرَّجُلِ !
تَرُدُّهُ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّنْ يُرِيدُ مَا أَنْتُمْ
فِيهِ، وَحِينَ رَأَى الْمُتَوَكِّلُ أَحْمَدَ قَالَ لِأُمِّهِ: يَا أُمَّهْ، قَدْ
أَنَارَتِ الدَّارُ.
وَجَاءَ الْخَادِمُ وَمَعَهُ خِلْعَةٌ سَنِيَّةٌ مُبَطَّنَةٌ وَثَوْبٌ
وَقَلَنْسُوَةٌ وَطَيْلَسَانٌ، فَأَلْبَسَهَا الْإِمَامَ أَحْمَدَ بِيَدِهِ،
وَأَحْمَدُ لَا يَتَحَرَّكُ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمَّا
جَلَسْتُ إِلَى
الْمُعْتَزِّ قَالَ
مُؤَدِّبُهُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، هَذَا الَّذِي أَمَرَ الْخَلِيفَةُ
أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّبَكَ. فَقَالَ: إِنْ عَلَّمَنِي شَيْئًا تَعَلَّمْتُهُ. قَالَ
أَحْمَدُ: فَعَجِبْتُ مِنْ ذَكَائِهِ فِي صِغَرِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرًا
جِدًّا. ثُمَّ خَرَجَ أَحْمَدُ عَنْهُمْ وَهُوَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ،
وَيَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ مَقْتِهِ، وَغَضَبِهِ.
ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ أَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ بِالِانْصِرَافِ، وَهَيَّأَ لَهُ
حَرَّاقَةً فَلَمْ يَقْبَلْ أَنْ يَنْحَدِرَ فِيهَا بَلْ رَكِبَ فِي زَوْرَقٍ
فَدَخَلَ بَغْدَادَ مُخْتَفِيًا، وَأَمَرَ أَنْ تُبَاعَ تِلْكَ الْخِلْعَةُ،
وَأَنْ يُتَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. وَجَعَلَ
أَيَّامًا يَتَأَلَّمُ مِنَ اجْتِمَاعِهِ بِهِمْ وَيَقُولُ: سَلِمْتُ مِنْهُمْ
طُولَ عُمْرِي، ثُمَّ ابْتُلِيتُ بِهِمْ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ قَدْ جَاعَ
عِنْدَهُمْ جُوعًا عَظِيمًا كَثِيرًا حَتَّى كَادَ يَهْلِكُ مِنَ الْجُوعِ. وَقَدْ
قَالَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ لِلْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الْخَلِيفَةِ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ لَا يَأْكُلُ لَكَ
طَعَامًا، وَلَا يَشْرَبُ لَكَ شَرَابًا، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى فَرْشِكَ،
وَيُحَرِّمُ مَا تَشْرَبُهُ. فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ نُشِرَ
الْمُعْتَصِمُ، وَكَلَّمَنِي فِي أَحْمَدَ مَا قَبِلْتُ مِنْهُ. وَجَعَلَتْ رُسُلُ
الْخَلِيفَةِ تَفِدُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ; تَسْتَعْلِمُ أَخْبَارَهُ
وَكَيْفَ حَالُهُ. وَجَعَلَ يَسْتَفْتِيهِ فِي أَمْوَالِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ
فَلَا يُجِيبُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ إِنَّ الْمُتَوَكِّلَ أَخْرَجَ ابْنَ أَبِي دُؤَادٍ
مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ نَفْسَهُ
بِبَيْعِ
ضِيَاعِهِ
وَأَمْلَاكِهِ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِ كُلِّهَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: وَحِينَ رَجَعَ أَبِي مَنْ سَامَرَّا إِلَى
بَغْدَادَ وَجَدْنَا عَيْنَيْهِ قَدْ دَخَلَتَا فِي مُوقَيْهِ، وَمَا رَجَعَتْ
إِلَيْهِ نَفْسُهُ إِلَّا بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَامْتَنَعَ أَنْ يَدْخُلَ
بَيْتَ قَرَابَتِهِ أَوْ يَدْخُلَ بَيْتًا هُمْ فِيهِ، أَوْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ
مِمَّا هُمْ فِيهِ ; لِأَجْلِ قَبُولِهِمْ أَمْوَالَ السُّلْطَانِ.
وَكَانَ مَسِيرُ أَحْمَدَ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ، ثُمَّ مَكَثَ إِلَى سَنَةِ وَفَاتِهِ، قَلَّ يَوْمٌ إِلَّا
وَرِسَالَةُ الْمُتَوَكِّلِ تَفِدُ إِلَيْهِ فِي أُمُورٍ يُشَاوِرُهُ فِيهَا،
وَيَسْتَشِيرُهُ فِي أَشْيَاءَ تَقَعُ لَهُ.
وَلَمَّا قَدِمَ الْمُتَوَكِّلُ بَغْدَادَ بَعَثَ إِلَيْهِ ابْنَ خَاقَانَ
وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى مَنْ يَرَى فَامْتَنَعَ مِنْ
قَبُولِهَا وَتَفْرِقَتِهَا، وَقَالَ: إِنْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ
أَعْفَانِي مِمَّا أَكْرَهُ فَرَدَّهَا.
وَكَتَبَ رَجُلٌ رُقْعَةً إِلَى الْمُتَوَكِّلِ يَقُولُ فِيهَا: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَشْتُمُ آبَاءَكَ وَيَرْمِيهِمْ
بِالزَّنْدَقَةِ. فَكَتَبَ فِيهَا الْمُتَوَكِّلُ: أَمَّا الْمَأْمُونُ فَإِنَّهُ
خَلَطَ فَسَلَّطَ النَّاسَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَمَّا أَبِي الْمُعْتَصِمُ
فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلَ حَرْبٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَصَرٌ بِالْكَلَامِ، وَأَمَّا
أَخِي الْوَاثِقُ فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ مَا قِيلَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَ أَنَّ
يُضْرَبَ هَذَا
الرَّجُلُ الَّذِي
رَفَعَ إِلَيْهِ الرُّقْعَةَ مِائَتَيْ سَوْطٍ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَضَرَبَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ، فَقَالَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ: لِمَ ضَرَبْتَهُ خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ ؟ فَقَالَ: مِائَتَيْنِ
لِطَاعَتِكَ، وَمِائَتَيْنِ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِائَةً لِكَوْنِهِ
قَذَفَ هَذَا الشَّيْخَ ; الرَّجُلَ الصَّالِحَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَدْ كَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقَوْلِ
فِي الْقُرْآنِ ; سُؤَالَ اسْتِرْشَادٍ وَاسْتِفَادَةٍ لَا سُؤَالَ تَعَنُّتٍ
وَلَا امْتِحَانٍ وَلَا عِنَادٍ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ
رِسَالَةً حَسَنَةً، فِيهَا آثَارٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحَادِيثُ
مَرْفُوعَةٌ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُهُ صَالِحٌ فِي الْمِحْنَةِ الَّتِي
سَاقَهَا، وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْهُ، وَقَدْ نَقَلَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْحُفَّاظِ.
ذِكْرُ وَفَاةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ ابْنُهُ صَالِحٌ: كَانَ مَرَضُهُ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ ثَانِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَحْمُومٌ يَتَنَفَّسُ
الصُّعَدَاءَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ مَا كَانَ غَدَاؤُكَ ؟
فَقَالَ: مَاءُ الْبَاقِلَّا. ثُمَّ ذَكَرَ كَثْرَةَ مَجِيءِ النَّاسِ مِنَ
الْأَكَابِرِ وَعُمُومِ النَّاسِ لِعِيَادَتِهِ، وَكَثْرَةَ
جَزَعِ النَّاسِ
عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعَهُ خُرَيْقَةٌ فِيهَا قُطَيْعَاتٌ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ
مِنْهَا، وَقَدْ أَمَرَ وَلَدَهُ عَبْدَ اللَّهِ أَنْ يُطَالِبَ سُكَّانَ مِلْكِهِ
وَأَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ كَفَّارَةَ يَمِينٍ فَأَخَذَ شَيْئًا مِنَ الْأُجْرَةِ
فَاشْتَرَى تَمْرًا وَكَفَّرَ عَنْ أَبِيهِ، وَفَضَلَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ
دَرَاهِمٍ، وَكَتَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصِيَّتَهُ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَأَوْصَى مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهِ
وَقَرَابَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي الْعَابِدِينَ، وَأَنْ يَحْمَدُوهُ فِي
الْحَامِدِينَ، وَأَنْ يَنْصَحُوا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَأُوصِي أَنِّي
قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا،
وَأُوصِي لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِفُورَانَ عَلَيَّ
نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا قَالَ فَيُقْضَى مَا
لَهُ عَلَيَّ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا اسْتُوْفِيَ
أُعْطِي وَلَدُ صَالِحٍ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالصِّبْيَانِ مَنْ وَرَثَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو لَهُمْ،
وَكَانَ قَدْ وُلِدَ لَهُ صَبِيٌّ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا فَسَمَّاهُ
سَعِيدًا، وَكَانَ لَهُ وَلَدٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ قَدْ مَشَى حِينَ مَرِضَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ، فَدَعَاهُ فَالْتَزَمَهُ وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا
كُنْتُ أَصْنَعُ بِالْوَلَدِ عَلَى
كِبَرِ السِّنِّ ؟ فَقِيلَ لَهُ: ذُرِّيَّةٌ تَكُونُ بَعْدَكَ يَدْعُونَ لَكَ. قَالَ: وَذَاكَ. وَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ بَلَغَهُ فِي مَرَضِهِ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ كَرِهَ الْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ، فَتَرَكَ الْأَنِينَ فَلَمْ يَئِنَّ حَتَّى كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي تُوُفِّيَ فِي صَبِيحَتِهَا، وَكَانَتْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَنَّ حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُرْوَى عَنْ صَالِحٍ وَقَدْ يَكُونُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا احْتُضِرَ أَبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: لَا بَعْدُ، لَا بَعْدُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، مَا هَذِهِ اللَّفْظَةُ الَّتِي لَهَجْتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ إِبْلِيسَ وَاقِفٌ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، وَهُوَ عَاضٌّ عَلَى أُصْبُعِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: فُتَّنِي يَا أَحْمَدُ ؟ فَأَقُولُ: لَا بَعْدُ لَا بَعْدُ. يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ حَتَّى تَخْرُجَ رُوحُهُ مِنْ جَسَدِهِ عَلَى التَّوْحِيدِ، كَمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، قَالَ إِبْلِيسُ: يَا رَبِّ، وَعِزَّتِكَ وَجَلَالِكَ مَا أَزَالُ أُغْوِيهِمْ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ. فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَلَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي.
وَأَحْسَنُ مَا
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يُوَضِّئُوهُ فَجَعَلُوا
يُوَضِّئُونَهُ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَيْهِمْ أَنْ خَلَّلُوا أَصَابِعِي، وَهُوَ
يَذْكُرُ اللَّهَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْمَلُوا الْوُضُوءَ تُوُفِّيَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاةُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -
صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ حِينَ مَضَى نَحْوٌ مَنْ سَاعَتَيْنِ مِنَ
النَّهَارِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الشَّوَارِعِ، وَبَعَثَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ حَاجِبَهُ وَمَعَهُ غِلْمَانٌ يَحْمِلُونَ مَنَادِيلَ
فِيهَا أَكْفَانٌ، وَأَرْسَلَ يَقُولُ: هَذَا نِيَابَةً عَنِ الْخَلِيفَةِ
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَبَعَثَ بِهَذَا. فَأَرْسَلَ أَوْلَادُهُ
يَقُولُونَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ قَدْ أَعْفَاهُ فِي حَيَاتِهِ
مِمَّا يَكْرَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَكْرَهُ، وَأَبَوْا أَنْ يُكَفِّنُوهُ فِي
تِلْكَ الْأَثْوَابِ، وَأَتَوْا بِثَوْبٍ كَانَ قَدْ غَزَلَتْهُ جَارِيَتُهُ،
فَكَفَّنُوهُ فِيهِ، وَاشْتَرَوْا مَعَهُ عَوَزَ لِفَافَةٍ وَحَنُوطًا،
وَاشْتَرَوْا لَهُ رَاوِيَةَ مَاءٍ، وَامْتَنَعُوا أَنْ يَغْسِلُوهُ بِمَاءٍ مِنْ
بُيُوتِهِمْ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ هَجَرَ بُيُوتَهُمْ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا
وَلَا يَسْتَعِيرُ مَنْ أَمْتِعَتِهِمْ شَيْئًا، وَكَانَ لَا يَزَالُ مُتَغَضِّبًا
عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاوَلُونَ مَا رُتِّبَ لَهُمْ عَلَى بَيْتِ
الْمَالِ، وَهُوَ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَانُوا عَالَةً
فَقُرَاءَ، وَحَضَرَ غُسْلَهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ مِنْ بَيْتِ الْخِلَافَةِ مَنْ
بَنِي هَاشِمٍ، فَجَعَلُوا يُقَبِّلُونَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَيَدْعُونَ لَهُ،
وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ. وَخَرَجَ النَّاسُ بِنَعْشِهِ وَالْخَلَائِقُ حَوْلَهُ
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ،
وَنَائِبُ الْبَلَدِ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ طَاهِرٍ وَاقِفٌ فِي النَّاسِ، فَتَقَدَّمَ خُطْوَاتٍ فَعَزَّى أَوْلَادَ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِيهِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَمَّ النَّاسَ فِي الصَّلَاةِ
عَلَيْهِ، وَقَدْ أَعَادَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ الصَّلَاةَ عَلَى الْقَبْرِ
بَعْدَ الدَّفْنِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي قَبْرِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ إِلَّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْأَمِيرَ مُحَمَّدَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَمَرَ بِحَزْرِ النَّاسِ، فَوُجِدُوا أَلْفَ أَلْفٍ
وَثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَسَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ سِوَى مَنْ كَانَ
فِي السُّفُنِ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ: سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ
الْمُتَوَكِّلَ أَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ الْمَوْضِعُ الَّذِي وَقَفَ النَّاسُ
عَلَيْهِ حَيْثُ صُلِّيَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فَبَلَغَ مَقَامَ أَلْفَيْ
أَلْفٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفٍ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ: سَمِعْتُ أَبَا
بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ الْقَاضِي يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى
الزِّنْجَانِيَّ، سَمِعَتْ عَبْدَ الْوَهَّابِ
الْوَرَّاقَ
يَقُولُ: مَا بَلَغَنَا أَنَّ جَمْعًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ كَانَ
أَكْثَرَ مِنَ الْجَمْعِ عَلَى جِنَازَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْمَكِّيُّ، سَمِعْتُ الْوَرْكَانِيَّ جَارَ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ: أَسْلَمَ يَوْمَ مَاتَ أَحْمَدُ عِشْرُونَ أَلْفًا مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، وَوَقَعَ الْمَأْتَمُ فِي الْمُسْلِمِينَ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: أَسْلَمَ
عَشَرَةُ آلَافٍ بَدَلَ عِشْرِينَ أَلْفًا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا سَهْلِ بْنَ زِيَادٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قُولُوا لِأَهْلِ الْبِدَعِ،
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْجَنَائِزُ. وَقَدْ
صَدَّقَ اللَّهُ
قَوْلَهُ فِي هَذَا فَإِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ إِمَامَ السُّنَّةِ فِي
زَمَانِهِ، وَعُيُونُ مُخَالِفِيهِ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي دُؤَادٍ الْقَاضِي لَمْ
يَحْتَفِلْ أَحَدٌ بِمَوْتِهِ، وَلَا شَيَّعَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا
الْقَلِيلَ، وَكَذَلِكَ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ مَعَ زُهْدِهِ
وَوَرَعِهِ وَتَنْقِيرِهِ وَمُحَاسَبَتِهِ نَفْسَهُ فِي خِطْرَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ
لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَلِلَّهِ
الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّاعِرِ أَنَّهُ
قَالَ: مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَمْ أُصَلِّ
عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ. وَرُوِيَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ
قَالَ يَوْمَ دُفِنَ أَحْمَدُ: دُفِنَ الْيَوْمَ سَادِسُ خَمْسَةٍ: وَهُمْ أَبُو
بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَكَانَ عُمْرُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَوْمَ تُوُفِّيَ سَبْعًا
وَسَبْعِينَ سَنَةً وَأَيَّامًا أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ.
ذِكْرُ مَا رُئِيَ مِنْ الْمَنَامَاتِ الصَّالِحَةِ الَّتِي رَآهَا الْإِمَامُ
أَحْمَدُ وَرُئِيَتْ لَهُ.
وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِلَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ
- وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا
الرُّؤْيَا
الصَّالِحَةُ - يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ سَمِعَتْ عَلِيَّ بْنَ حَمْشَاذَ،
سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ
شَبِيبٍ يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَجَاءَهُ شَيْخٌ
وَمَعَهُ عُكَّازَةٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَجَلَسَ، فَقَالَ: مَنْ مِنْكُمْ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: أَنَا، مَا حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ:
ضَرَبْتُ إِلَيْكَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ فَرْسَخٍ، أُرِيتُ الْخَضِرَ فِي
الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: سِرْ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَسَلْ عَنْهُ، وَقُلْ
لَهُ: إِنَّ سَاكِنَ الْعَرْشِ وَالْمَلَائِكَةَ رَاضُونَ عَنْكَ بِمَا صَبَرْتَ
نَفْسَكَ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
خُزَيْمَةَ الْإِسْكَنْدَرَانِيِّ. قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
اغْتَمَمْتُ غَمًّا شَدِيدًا، فَرَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ
فِي مِشْيَتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيُّ مِشْيَةٍ هَذِهِ ؟
فَقَالَ: مِشْيَةُ الْخُدَّامِ فِي دَارِ السَّلَامِ. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ
اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي وَتَوَّجَنِي وَأَلْبَسَنِي نَعْلَيْنِ مَنْ
ذَهَبٍ، وَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، هَذَا بِقَوْلِكَ: الْقُرْآنُ كَلَامِي. ثُمَّ
قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، ادْعُنِي بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ الَّتِي بَلَغَتْكَ عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَكُنْتَ تَدْعُو بِهِنَّ فِي دَارِ الدُّنْيَا. قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَبِّ كُلُّ
شَيْءٍ، بِقُدْرَتِكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، اغْفِرْ لِي كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى لَا تَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ. فَقَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ، هَذِهِ الْجَنَّةُ قُمْ فَادْخُلْهَا. فَدَخَلْتُ فَإِذَا أَنَا بِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَلَهُ جَنَاحَانِ أَخْضَرَانِ يَطِيرُ بِهِمَا مِنْ نَخْلَةٍ إِلَى نَخْلَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [ الزُّمَرِ: 74 ] قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ بِشْرٌ الْحَافِي ؟ فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ، وَمَنْ مِثْلُ بِشْرٍ ؟ تَرَكْتُهُ بَيْنَ يَدَيِ الْجَلِيلِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ مَائِدَةٌ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَلِيلُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: كُلْ يَا مَنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَاشْرَبْ يَا مَنْ لَمْ يَشْرَبْ، وَانْعَمْ يَا مَنْ لَمْ يَنْعَمْ. أَوْ كَمَا قَالَ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو زُرْعَةَ رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: قَالَ لِيَ الْجَبَّارُ: أَلْحِقُوهُ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ; مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ خُرَّزَادَ الْأَنْطَاكِيُّ: رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَقَدْ بَرَزَ الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَكَأَنَّ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنْ تَحْتٍ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: أَدْخِلُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَأَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَقُلْتُ لِمَلَكٍ إِلَى جَانِبِي: مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ: مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الْمَقْدِسِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، وَهُوَ نَائِمٌ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مُغَطَّى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَذُبَّانِ عَنْهُ. وَتَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ يَحْيَى الْجَلَّاءِ أَنَّهُ رَأَى كَأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي حَلْقَةٍ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَأَحْمَدَ بْنَ أَبِي دُؤَادٍ فِي حَلْقَةٍ أُخْرَى، وَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بَيْنَ الْحَلْقَتَيْنِ، وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ وَيُشِيرُ إِلَى حَلْقَةِ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ وَأَصْحَابِهِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [ الْأَنْعَامِ: 89 ] وَيُشِيرُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَصْحَابِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ هَائِلَةٌ فِي الْبِلَادِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ
بِمَدِينَةِ قُومِسَ تَهَدَّمَتْ مِنْهَا دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا
نَحْوٌ مَنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفًا وَسِتَّةٍ وَتِسْعِينَ نَفْسًا،
وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ وَخُرَاسَانَ وَفَارِسَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ زَلَازِلُ مُنْكِرَةٌ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بِلَادِ الْجَزِيرَةِ فَانْتَبَهُوا شَيْئًا
كَثِيرًا وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنَ الذَّرَارِي فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الْإِمَامُ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ نَائِبُ مَكَّةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، قَاضِي مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ.
وَأَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ، قَاضِي الشَّرْقِيَّةِ. وَاسْمُ أَبِي حَسَّانَ
الزِّيَادِيِّ الْحَسَنُ
بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ حَمَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ
الْوَلِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، وَوَكِيعَ بْنَ الْجَرَّاحِ، وَالْوَاقِدِيَّ وَخَلْقًا
سِوَاهُمْ. وَعَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْفَرْغَانِيُّ الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِكَغَطَ وَجَمَاعَةٌ. تَرْجَمَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ". قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ
مِنْ سُلَالَةِ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ إِنَّمَا تَزَوَّجَ بَعْضُ أَجْدَادِهِ
بِأُمِّ وَلَدٍ لِزِيَادٍ، فَقِيلَ لَهُ: الزِّيَادِيُّ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِنْ
حَدِيثِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ عَنِ الْخَطِيبِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ
الْأَفَاضِلِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، وَلِيَ
قَضَاءَ الشَّرْقِيَّةِ فِي خِلَافَةِ الْمُتَوَكِّلِ، وَلَهُ تَارِيخٌ حَسَنٌ،
وَلَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ صَالِحًا دَيِّنًا قَدْ عَمِلَ
الْكُتُبَ، وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَيَّامِ النَّاسِ، وَلَهُ تَارِيخٌ
حَسَنٌ، وَكَانَ كَرِيمًا مِفْضَالًا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً ; مِنْهَا أَنَّهُ
أَنْفَذَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُ أَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ
ضَائِقَةٌ فِي عِيدٍ مِنَ الْأَعْيَادِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ غَيْرُ مِائَةِ
دِينَارٍ، فَأَرْسَلَهَا بِصُرَّتِهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ
صَاحِبٌ لَهُ أَيْضًا
يَشْكُو مِثْلَ
تِلْكَ الْحَالِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، وَكَتَبَ أَبُو حَسَّانَ إِلَى
ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي أَخَذَ الْمِائَةَ يَسْتَقْرِضُ مِنْهُ شَيْئًا وَهُوَ
لَا يَشْعُرُ بِالْأَمْرِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْمِائَةِ فِي صُرَّتِهَا،
فَلِمَا رَآهَا تَعَجَّبَ مِنْ أَمْرِهَا وَرَكِبَ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ
ذَلِكَ، فَذَكَرَ أَنَّ فُلَانًا أَرْسَلَهَا إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ الثَّلَاثَةُ
وَاقْتَسَمُوا الْمِائَةَ دِينَارٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَجَزَاهُمْ عَنْ
مُرُوءَاتِهِمْ خَيْرًا.
وَأَبُو مُصْعَبٍ الزُّهْرِيُّ أَحَدُ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ الْمَوْصِلِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ، وَالْقَاضِي يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا تَوَجَّهَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ مِنَ
الْعِرَاقِ قَاصِدًا مَدِينَةَ دِمَشْقَ ; لِيَجْعَلَهَا لَهُ دَارَ إِقَامَةٍ
وَمَحِلَّةَ إِمَامَتِهِ فَأَدْرَكَهُ عِيدُ الْأَضْحَى بِهَا وَهُوَ بِمَدِينَةِ
بَلَدَ فَضَحَّى بِهَا، وَتَأَسَّفَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ
يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ:
أَظُنُّ الشَّامَ تَشْمَتُ بِالْعِرَاقِ إِذَا عَزَمَ الْإِمَامُ عَلَى انْطِلَاقِ
فَإِنْ تَدَعِ الْعِرَاقَ وَسَاكِنِيهَا
فَقَدْ تُبْلَى الْمَلِيحَةُ بِالطَّلَاقِ
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الصَّمَدِ الْمَذْكُورُ فِي الَّتِي قَبْلَهَا،
وَهُوَ نَائِبُ مَكَّةَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، فَوَلِيَ
دِيوَانَ الضِّيَاعِ الْحَسَنُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ الْجَرَّاحِ خَلِيفَةُ
إِبْرَاهِيمَ فِي شَعْبَانَ. قُلْتُ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ الصُّولِيُّ، الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ
عَمُّ مُحَمَّدِ بْنِ
يَحْيَى
الصُّولِيِّ، وَكَانَ جَدُّهُ صُولٌ مَلِكَ جُرْجَانَ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْهَا
ثُمَّ تَمَجَّسَ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ
أَبِي صُفْرَةَ. وَلِإِبْرَاهِيمَ هَذَا دِيوَانُ شِعْرٍ ذَكَرَهُ ابْنُ
خِلِّكَانَ وَاسْتَجَادَ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ ; مِنْهَا قَوْلُهُ:
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ بِهَا الْفَتَى ذَرَعًا وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا
مَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُهَا فُرِجَتْ وَكَانَ يَظُنُّهَا لَا
تُفْرَجُ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
كُنْتَ السَّوَادَ لِمُقْلَتِي فَبَكَى عَلَيْكَ النَّاظِرُ
مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَى وَزِيرِ الْمُعْتَصِمِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ الزَّيَّاتِ:
وَكُنْتَ أَخِي بِإِخَاءِ الزَّمَانِ فَلَمَّا نَبَا صِرْتَ حَرْبًا عَوَانَا
وَكُنْتُ أَذُمُّ إِلَيْكَ الزَّمَانَ فَأَصْبَحْتُ مِنْكَ أَذُمُّ الزَّمَانَا
وَكُنْتُ أَعُدُّكَ
لِلنَّائِبَاتِ فَهَا أَنَا أَطْلُبُ مِنْكَ الْأَمَانَا
وَلَهُ:
لَا يَمْنَعَنَّكَ خَفْضُ الْعَيْشِ فِي دَعَةٍ نُزُوعُ نَفْسٍ إِلَى أَهْلٍ
وَأَوْطَانِ
تَلَقَى بِكُلِّ بِلَادٍ إِنْ حَلَلْتَ بِهَا أَهْلًا بِأَهْلٍ وَجِيرَانًا
بِجِيرَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمُنْتَصَفِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِسُرَّ مَنْ
رَأَى، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: وَمَاتَ هَاشِمُ بْنُ بَنْجُورٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ.
قُلْتُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الرِّبَاطِيُّ، وَالْحَارِثُ
بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ
يَحْيَى التُّجِيبِيُّ صَاحِبُ
الشَّافِعِيِّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُمَحِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَمَّالُ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صِفْرٍ مِنْهَا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى مَدِينَةِ دِمَشْقَ
فِي أُبَّهَةِ الْخِلَافَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا وَكَانَ عَازِمًا عَلَى
الْإِقَامَةِ بِهَا وَأَمَرَ بِنَقْلِ دَوَاوِينِ الْمُلْكِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ
بِبِنَاءِ الْقُصُورِ بِهَا فَبُنِيَتْ بِطَرِيقِ دَارَيَّا، فَأَقَامَ بِهَا
مُدَّةً، ثُمَّ إِنَّهُ اسْتَوْخَمَهَا، وَرَأَى أَنَّ هَوَاءَهَا بَارِدٌ
نَدِيٌّ، وَمَاءَهَا ثَقِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَوَاءِ الْعِرَاقِ وَمَائِهِ،
وَرَأَى الْهَوَاءَ بِهَا يَتَحَرَّكُ مِنْ بَعْدِ الزَّوَالِ فِي زَمَنِ
الصَّيْفِ، فَلَا يَزَالُ فِي اشْتِدَادٍ وَغُبَارٍ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ثُلْثِ
اللَّيْلِ، وَرَأَى كَثْرَةَ الْبَرَاغِيثِ بِهَا، وَدَخَلَ عَلَيْهِ فَصْلُ
الشِّتَاءِ فَرَأَى مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ أَمْرًا عَجِيبًا،
وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ وَهُوَ بِهَا، وَانْقَطَعَتِ الْأَجْلَابُ بِسَبَبِ
كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالثُّلُوجِ، فَضَجِرَ مِنْهَا، فَجَهَّزَ بُغَا إِلَى
بِلَادِ الرُّومِ، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ إِلَى سَامَرَّا بَعْدَمَا
أَقَامَ بِدِمَشْقَ شَهْرَيْنِ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُتِيَ الْمُتَوَكِّلُ بِالْحَرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ
تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّجَاشِيِّ فَوَهَبَهَا
لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، فَوَهَبَهَا الزُّبَيْرُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا صَارَتْ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
فَرِحَ بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا
بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا كَانَتْ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِيهَا غَضِبَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الطَّبِيبِ بَخْتَيَشُوعَ وَنَفَاهُ
وَأَخَذَ مَالَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الصَّمَدِ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمُ عِيدِ الْأَضْحَى، وَعِيدُ الْفِطْرِ
لِلْيَهُودِ وَشَعَانِينُ للنَّصَارَى، وَهَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ غَرِيبٌ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الْخَطْمِيُّ، وَحُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ،
وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، وَالْوَزِيرُ مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
الزَّيَّاتِ، وَيَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ صَاحِبُ إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِبِنَاءِ مَدِينَةِ الْمَاحُوزَةِ وَحَفْرِ نَهْرٍ
لَهَا، فَيُقَالُ: إِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى بِنَائِهَا وَبِنَاءِ قَصْرٍ
لِلْخِلَافَةِ فِيهَا يُقَالُ لَهُ: اللُّؤْلُؤَةُ. أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ فِي بِلَادٍ شَتَّى، فَمِنْ
ذَلِكَ بِمَدِينَةِ أَنْطَاكِيَةَ بِحَيْثُ سَقَطَ فِيهَا أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ
دَارٍ، وَانْهَدَمَ مِنْ سُورِهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ بُرْجًا، وَسُمِعَتْ مَنْ
كُوَى دُورِهَا أَصْوَاتٌ مُزْعِجَةٌ جِدًّا، فَخَرَجُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ
سِرَاعًا يُهْرَعُونَ، وَسَقَطَ الْجَبَلُ الَّذِي إِلَى جَانِبِهَا الَّذِي
يُقَالُ لَهُ الْأَقْرَعُ، فَسَاخَ فِي الْبَحْرِ، فَهَاجَ الْبَحْرُ عِنْدَ
ذَلِكَ وَارْتَفَعَ مِنْهُ دُخَانٌ أَسْوَدُ مُظْلِمٌ مُنْتِنٌ، وَغَارَ نَهْرٌ
عَلَى فَرْسَخٍ مِنْهَا، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ. ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ
جَرِيرٍ قَالَ: وَسَمِعَ فِيهَا أَهْلُ تِنِّيسَ ضَجَّةً دَائِمَةً طَوِيلَةً
مَاتَ مِنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. قَالَ: وَزُلْزِلَتْ فِيهَا بَالِسُ وَالرَّقَّةُ
وَحَرَّانُ وَرَأْسُ الْعَيْنِ وَحِمْصُ وَدِمَشْقُ وَالرُّهَاُ وَطَرَسُوسُ
وَالْمِصِّيصَةُ، وَأَذَنَةُ، وَسَوَاحِلُ الشَّامِ وَرَجَفَتِ اللَّاذِقِيَّةُ
فَمَا بَقِيَ
مِنْهَا مَنْزِلٌ
إِلَّا انْهَدَمَ، وَلَا بَقِيَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا الْيَسِيرُ، وَذَهَبَتْ
جَبَلَةُ بِأَهْلِهَا.
وَفِيهَا غَارَتْ مُشَاشُ عَيْنٌ بِمَكَّةَ حَتَّى بَلَّغَ ثَمَنُ الْقِرْبَةِ
بِمَكَّةَ ثَمَانِينَ دِرْهَمًا. حَتَّى بَعَثَ الْمُتَوَكِّلُ فَأَنْفَقَ
عَلَيْهَا. قَالَ: وَفِيهَا مَاتَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَسَوَّارُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، وَهِلَالٌ الرَّازِيُّ، وَفِيهَا هَلَكَ نَجَاحُ
بْنُ سَلَمَةَ، كَانَ عَلَى دِيوَانِ التَّوْقِيعِ، وَقَدْ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ
الْمُتَوَكِّلِ، ثُمَّ جَرَتْ لَهُ كَائِنَةٌ أَفْضَتْ بِهِ إِلَى أَنْ أَمَرَ
الْمُتَوَكِّلُ بِأَخْذِ أَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَقَدْ
أَوْرَدَ قِصَّتَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مُطَوَّلَةً.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبَّيُّ.
وَأَبُو الْحَسَنِ الْقَوَّاسُ مُقْرِئُ مَكَّةَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَإِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ.
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى
ابْنُ بِنْتِ
السُّدِّيِّ.
وَذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ.
وَسَوَّارٌ الْقَاضِي.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ.
وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ.
وَأَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ.
وَابْنُ الرَّاوَنْدِيُّ الزِّنْدِيقُ.
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الرَّاوَنْدِيِّ.
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ بِبِلَادَ قَاسَانَ ثُمَّ نَشَأَ بِبَغْدَادَ، كَانَ
بِهَا يُصَنِّفُ الْكُتُبَ فِي الزَّنْدَقَةِ، وَكَانَتْ لَدَيْهِ فَضِيلَةٌ،
لَكِنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا فِيمَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ تَرْجَمَةً مُطَوَّلَةً حَسَبَ مَا ذَكَرَهَا
ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَإِنَّمَا
ذَكَرْنَاهُ
هَاهُنَا ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ ابْنَ خِلِّكَانَ ذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ تَلَبَّسَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُجَرِّحْهُ بِشَيْءٍ
أَصْلًا، بَلْ مَدَحَهُ فَقَالَ: أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
إِسْحَاقَ الرَّاوَنْدِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ، لَهُ مَقَالَةٌ فِي عِلْمِ
الْكَلَامِ، وَكَانَ مِنَ الْفُضَلَاءِ فِي عَصْرِهِ، وَلَهُ مِنَ الْكُتُبِ
الْمُصَنَّفَةِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ كِتَابًا، مِنْهَا كُتُبُ
" فَضِيحَةِ الْمُعْتَزِلَةِ "، وَكِتَابُ " التَّاجِ "،
وَكِتَابُ " الزُّمُرُّدَةِ "، وَكِتَابُ " الْقَصَبِ "،
وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمُحَاضَرَاتٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ
الْكَلَامِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِمَذَاهِبَ نَقَلَهَا عَنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ فِي
كُتُبِهِمْ.
تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ بِرَحْبَةِ مَالِكِ بْنِ
طَوْقٍ التَّغْلِبِيِّ، وَقِيلَ: بِبَغْدَادَ. وَتَقْدِيرُ عُمْرِهِ أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَذُكِرَ فِي " الْبُسْتَانِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ
خَمْسِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ، وَإِنَّمَا أَرَّخَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَسَيَأْتِي لَهُ تَرْجَمَةٌ مُطَوَّلَةٌ.
ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ.
ثَوْبَانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَقِيلَ: الْفَيْضُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - أَبُو
الْفَيْضِ الْمِصْرِيُّ، أَحَدُ الْمَشَايِخِ الْمَذْكُورِينَ فِي رِسَالَةٍ
الْقُشَيْرِيِّ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ
الْقَاضِي ابْنُ
خِلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ، وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ فَضَائِلِهِ وَأَحْوَالِهِ
وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا.
وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ مَنْ رَوَى الْمُوَطَّأَ عَنْ مَالِكٍ. وَذَكَرَهُ
ابْنُ يُونُسَ فِي " تَارِيخِ مِصْرَ "، وَقَالَ: كَانَ أَبُوهُ
نُوبِيًّا. وَقِيلَ: مِنْ أَهْلِ إِخْمِيمَ. وَكَانَ حَكِيمًا فَصِيحًا. وَقِيلَ:
وَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ تَوْبَتِهِ، فَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى قُنْبُرَةً عَمْيَاءَ
نَزَلَتْ مِنْ وِكْرِهَا فَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ عَنْ سُكُرَّجَتَيْنِ مَنْ ذَهَبٍ
وَفِضَّةٍ فِي إِحْدَاهِمَا سِمْسِمٌ، وَفِي الْأُخْرَى مَاءٌ، فَأَكَلَتْ مِنْ
هَذِهِ، وَشَرِبَتْ مِنْ هَذِهِ. وَقَدْ شُكِيَ مَرَّةً إِلَى الْمُتَوَكِّلِ
فَأَحْضَرَهُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْعِرَاقِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَعَظَهُ
فَأَبْكَاهُ، فَرَدَّهُ مُكَرَّمًا إِلَى بَلَدِهِ. فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا
ذُكِرَ عِنْدَهُ بَكَى عَلَيْهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مِنْهَا دَخَلَ الْمُتَوَكِّلُ الْمَاحُوزَةَ، فَنَزَلَ
بِقَصْرِ الْخِلَافَةِ مِنْهَا، وَاسْتَدْعَى بِالْقُرَّاءِ ثُمَّ
بِالْمُطْرِبِينَ، وَأَعْطَى وَأَطْلَقَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ،
فَفُودِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ أَسِيرٍ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا مُطِرَتْ بَغْدَادُ مَطَرًا عَظِيمًا اسْتَمَرَّ نَحْوًا
مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَوَقَعَ بِأَرْضِ بَلْخَ مَطَرٌ مَاؤُهُ دَمٌ
عَبِيطٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ، وَحَجَّ
فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَوَلِيَ
هُوَ أَمْرَ الْمَوْسِمِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ.
وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ.
وَأَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى الْحِمْصِيُّ.
وَدِعْبِلُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ رَزِينِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخُزَاعِيُّ.
مَوْلَاهُمُ الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الْبَلِيغُ فِي الْمَدْحِ وَفِي الْهِجَاءِ
أَكْثَرُ. قَالَ: حَضَرَ يَوْمًا عِنْدَ سَهْلِ بْنِ هَارُونَ الْكَاتِبِ وَكَانَ
بَخِيلًا، فَاسْتَدْعَى بِغَدَائِهِ فَإِذَا دِيكٌ فِي قَصْعَةٍ، وَإِذَا هُوَ
عَاسٍ لَا يَقْطَعُهُ سِكِّينٌ، وَلَا يَعْمَلُ فِيهِ ضِرْسٌ فُقِدَ رَأَسُهُ،
فَقَالَ لِلطَّبَّاخِ: وَيْلَكَ مَاذَا صَنَعْتَ بِهِ ؟ أَيْنَ رَأْسُهُ ؟ قَالَ:
ظَنَنْتُ أَنَّكَ لَا تَأْكُلُهُ فَأَلْقَيْتُهُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَعِيبُ عَلَى مَنْ يُلْقِي الرِّجْلَيْنِ فَكَيْفَ بِالرَّأْسِ، وَفِيهِ
الْحَوَاسُّ الْأَرْبَعُ، وَمِنْهُ يُصَوِّتُ، وَبِهِ فَضْلٌ، وَعَيْنَاهُ
يُضْرَبُ بِهِمَا الْمَثَلُ، وَعُرْفُهُ وَبِهِ يُتَبَرَّكُ، وَعَظْمُهُ أَهَشُّ
الْعِظَامِ، فَإِنْ كُنْتَ رَغِبْتَ عَنْ أَكْلِهِ فَأَحْضِرْهُ. فَقَالَ: لَا
أَدْرِي أَيْنَ هُوَ. فَقَالَ: بَلْ أَنَا أَدْرِي، هُوَ فِي بَطْنِكَ قَاتَلَكَ
اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ.
وَاسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونِ بْنِ
عَبَّاسِ بْنِ
الْحَارِثِ أَبُو الْحَسَنِ التَّغْلِبِيُّ الْغَطَفَانِيُّ أَحَدُ الزُّهَّادِ
الْمَشْهُورِينَ، وَالْعُبَّادِ الْمَذْكُورِينَ، وَالْأَبْرَارِ الْمَشْكُورِينَ
ذَوِي الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْكَرَامَاتِ الصَّادِقَةِ أَصْلُهُ مِنَ
الْكُوفَةِ وَسَكَنَ دِمَشْقَ وَتَتَلْمَذَ لِلشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيِّ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٍ، وَأَبِي أُسَامَةَ، وَخَلْقٍ. وَعَنْهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَابْنُ مَاجَهْ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَأَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، وَأَبُو
زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ، ذَكَرَهُ أَبُو حَاتِمٍ فَأَثْنَى
عَلَيْهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ اللَّهُ يَسْقِي
أَهْلَ الشَّامِ بِهِ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: هُوَ
رَيْحَانَةُ الشَّامِ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَاهَدَ أَبَا
سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيَّ أَلَّا يُغْضِبَهُ وَلَا يُخَالِفَهُ، فَجَاءَهُ
يَوْمًا وَهُوَ يُحَدِّثُ النَّاسَ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، قَدْ سَجَّرُوا
التَّنُّورَ فَمَاذَا تَأْمُرُ ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَبُو سُلَيْمَانَ ;
لِشُغْلِهِ بِالنَّاسِ، ثُمَّ أَعَادَهَا أَحْمَدُ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً، فَقَالَ
لَهُ فِي الثَّالِثَةِ: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِيهِ. ثُمَّ اشْتَغَلَ أَبُو
سُلَيْمَانَ فِي حَدِيثِ النَّاسِ ثُمَّ اسْتَفَاقَ فَقَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ:
إِنِّي قُلْتُ لِأَحْمَدَ: اذْهَبْ فَاقْعُدْ فِي التَّنُّورِ،
وَإِنِّي أَخْشَى
أَنْ يَكُونَ قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقُومُوا بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبُوا
فَوَجَدُوهُ جَالِسًا فِي التَّنُّورِ، وَلَمْ يَحْتَرِقْ مِنْهُ شَعْرَةٌ
وَاحِدَةٌ.
وَرَوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ أَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ
وَقَدْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا يُصْلِحُ بِهِ الْوَلَدَ،
فَقَالَ لِخَادِمِهِ: اذْهَبْ فَاسْتَدِنْ لَنَا وَزْنَةً مِنْ دَقِيقٍ،
فَبَيْنَمَا هُوَ فِي ذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ
فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ
فَقَالَ: يَا أَحْمَدُ، إِنَّهُ قَدْ وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ وَلَدٌ وَلَا
أَمْلِكُ شَيْئًا. فَرَفَعَ أَحْمَدُ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: يَا
مَوْلَايَ، هَكَذَا بِالْعَجَلَةِ ! وَقَالَ لِلرَّجُلِ: خُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ
لَكَ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا دِرْهَمًا، وَاسْتَدَانَ لِأَهْلِهِ دَقِيقًا.
وَرَوَى عَنْهُ خَادِمُهُ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الثَّغْرِ لِلرِّبَاطِ، فَمَا
زَالَتِ الْهَدَايَا تَفِدُ إِلَيْهِ مِنْ بُكْرَةِ النَّهَارِ إِلَى الزَّوَالِ،
ثُمَّ فَرَّقَهَا كُلَّهَا إِلَى وَقْتِ الْغُرُوبِ، ثُمَّ قَالَ لِي: كُنْ
هَكَذَا لَا تَرُدَّ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَدَّخِرْ عَنْهُ شَيْئًا.
وَلَمَّا جَاءَتِ الْمِحْنَةُ زَمَنَ الْمَأْمُونِ إِلَى دِمَشْقَ بِخَلْقِ
الْقُرْآنِ، عُيِّنَ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ،
وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَكْوَانَ،
فَكُلُّهُمْ أَجَابُوا إِلَّا أَحْمَدَ بْنَ أَبِي الْحَوَارِيِّ، فَحُبِسَ
بِدَارِ الْحِجَارَةِ، ثُمَّ
هُدِّدَ فَأَجَابَ تَوْرِيَةً مُكْرَهًا، ثُمَّ أُطْلِقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ قَامَ لَيْلَةً بِالثَّغْرِ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [ الْفَاتِحَةِ: 5 ] حَتَّى أَصْبَحَ، وَقَدْ أَلْقَى كُتُبَهُ فِي الْبَحْرِ وَقَالَ: نِعْمَ الدَّلِيلُ كُنْتَ لِي عَلَى اللَّهِ وَإِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالدَّلِيلِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مُحَالٌ، وَمِنْ كَلَامِهِ: لَا دَلِيلَ عَلَى اللَّهِ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ لِآدَابِ الْخِدْمَةِ. وَقَالَ: مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا زَهِدَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ الْآخِرَةَ رَغِبَ فِيهَا، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ آثَرَ رِضَاهُ، وَقَالَ: مَنْ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ إِرَادَةٍ وَحُبٍّ لَهَا أَخْرَجَ اللَّهُ نُورَ الْيَقِينِ وَالزُّهْدَ مَنْ قَلْبِهِ، وَقَالَ: قُلْتُ لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِي: أَوْصِنِي. فَقَالَ: أَمُسْتَوْصٍ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: خَالِفْ نَفْسَكَ فِي كُلِّ مُرَادٍ لَهَا ; فَإِنَّهَا الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَحْقِرَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَاجْعَلْ طَاعَةَ اللَّهِ دِثَارًا، وَالْخَوْفَ مِنْهُ شِعَارًا، وَالْإِخْلَاصَ زَادًا، وَالصِّدْقَ جُنَّةً، وَاقْبَلْ مِنِّي هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا تُفَارِقْهَا وَلَا تَغْفَلْ عَنْهَا: إِنَّهُ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللَّهِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بَلَّغَهُ إِلَى مَقَامِ الْأَوْلِيَاءِ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ: فَجَعَلْتُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَمَامِي، فَفِي كُلِّ وَقْتٍ أَذْكُرُهَا وَأُطَالِبُ نَفْسِي بِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي شَوَّالٍ مِنْهَا كَانَ مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
عَلَى يَدَيْ وَلَدِهِ الْمُنْتَصِرِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ
ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ الْمُعْتَزَّ الَّذِي هُوَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِهِ أَنْ يَخْطُبَ بِالنَّاسِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، فَأَدَّاهَا أَدَاءً
عَظِيمًا بَلِيغًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْتَصِرِ كُلَّ مَبْلَغٍ، وَحَنَقَ
عَلَى أَبِيهِ وَأَخِيهِ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنْ أَحْضَرَهُ أَبُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَأَهَانَهُ وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ فِي رَأْسِهِ وَصَفْعِهِ وَصَرَّحَ بِعَزْلِهِ
عَنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ، فَاشْتَدَّ أَيْضًا حَنَقُهُ
أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِيدِ الْفِطْرِ خَطَبَ
الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللَّهِ بِالنَّاسِ وَعِنْدَهُ بَعْضُ
التَّشَكِّي مِنْ عِلَّةٍ بِهِ، ثُمَّ عَدَلَ إِلَى خِيَامٍ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ ;
أَرْبَعَةُ أَمْيَالٍ فِي مِثْلِهَا، فَنَزَلَ هُنَاكَ ثُمَّ اسْتَدْعَى فِي يَوْمِ
ثَالِثِ الشَّهْرِ بِنُدَمَائِهِ، وَكَانَ عَلَى عَادَتِهِ فِي سَمَرِهِ
وَحَضْرَتِهِ وَشُرْبِهِ ثُمَّ تَمَالَأَ وَلَدُهُ الْمُنْتَصِرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي لَيْلَةِ
الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ - وَيُقَالُ: مِنْ شَعْبَانَ -
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ عَلَى السِّمَاطِ، فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّيُوفِ
فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ وَلَّوْا بَعْدَهُ وَلَدَهُ الْمُنْتَصِرَ عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ.
وَهَذِهِ
تَرْجَمَةُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
جَعْفَرُ ابْنُ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْمَهْدِيِّ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو الْفَضْلِ
الْمُتَوَكِّلُ. وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ يُقَالُ لَهَا: شُجَاعُ. وَكَانَتْ مِنْ
سَرَوَاتِ النِّسَاءِ سَخَاءً وَحَزْمًا. كَانَ مَوْلِدُهُ بِفَمِ الصُّلْحِ
سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَتَيْنِ، وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ
الْوَاثِقِ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ لِسَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى الْخَطِيبُ مِنْ
طَرِيقِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ،
عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ
الْخَيْرَ ثُمَّ أَنْشَأَ الْمُتَوَكِّلُ يَقُولُ:
الرِّفْقُ يُمْنٌ وَالْأَنَاةُ سَعَادَةٌ فَاسْتَأْنَ فِي رِفْقٍ تُلَاقِ نَجَاحَا
لَا خَيْرَ فِي حَزْمٍ بِغَيْرِ رَوِيَّةٍ
وَالشَّكُ وَهْنٌ إِنْ أَرَدْتَ سَرَاحَا
وَقَالَ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: وَحَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ الْمُعْتَصِمِ، وَيَحْيَى
بْنِ أَكْثَمَ الْقَاضِي. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ الشَّاعِرُ،
وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، وَقَدِمَ دِمَشْقَ فِي خِلَافَتِهِ،
وَابْتَنَى بِهَا قَصْرًا بِأَرْضِ دَارَيَّا، وَقَالَ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ:
إِنَّ الْخُلَفَاءَ كَانَتْ تَتَصَعَّبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ لِتُطِيعَهَا،
وَإِنِّي أَلِينُ لَهُمْ لِيُحِبُّونِي وَيُطِيعُونِي. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ
مَرْوَانَ الْمَالِكِيُّ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَصْرِيُّ قَالَ:
وَجَّهَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَذَّلِ وَغَيْرِهِ مِنَ
الْعُلَمَاءِ، فَجَمَعَهُمْ فِي دَارِهِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ النَّاسُ
كُلُّهُمْ إِلَيْهِ غَيْرَ أَحْمَدَ بْنِ الْمُعَذَّلِ، فَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ
لِعُبَيْدِ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا لَا يَرَى بَيْعَتَنَا ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلَى يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنْ فِي بَصَرِهِ سُوءٌ. فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْمُعَذَّلِ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْنِينَ، مَا فِي بَصَرِي سُوءٌ، وَلَكِنْ نَزَّهْتُكَ مِنْ
عَذَابِ اللَّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:مَنْ
أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ
مِنَ النَّارِ فَجَاءَ الْمُتَوَكِّلُ فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ الْجَهْمِ دَخَلَ عَلَى
الْمُتَوَكِّلِ وَفِي يَدِهِ دُرَّتَانِ يُقَلِّبُهُمَا، فَأَنْشُدُهُ قَصِيدَتَهُ
الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
وَإِذَا مَرَرْتَ
بِبِئْرِ عُرْ وَةَ فَاسْقِنِي مِنْ مَائِهَا
فَأَعْطَاهُ الَّتِي فِي يَمِينِهِ وَكَانَتْ تُسَاوِي مِائَةَ أَلْفٍ، ثُمَّ
أَنْشَدَهُ:
بِسُرَّ مَنْ رَأَى أَمِيرُ عَدْلٍ تَغْرِفُ مِنْ بَحْرِهِ الْبِحَارُ
يُرْجَى وَيُخْشَى لِكُلِّ خَطْبٍ كَأَنَّهُ جَنَّةٌ وَنَارُ
الْمُلْكُ فِيهِ وَفِي بَنِيهِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
يَدَاهُ فِي الْجُودِ ضَرَّتَانِ عَلَيْهِ كِلْتَاهُمَا تَغَارُ
لَمْ تَأْتِ مِنْهُ الْيَمِينُ شَيْئًا إِلَّا أَتَتْ مِثْلَهُ الْيَسَارُ
قَالَ: فَأَعْطَاهُ الَّتِي فِي يَسَارِهِ أَيْضًا. وَقَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ
رُوِيَتْ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَارُونَ لِلْبُحْتُرِيِّ فِي
الْمُتَوَكِّلِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَهْمِ قَالَ: وَقَفَتْ قَبِيحَةُ
حَظِيَّةُ الْمُتَوَكِّلِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَدْ كَتَبَتْ عَلَى خَدِّهَا بِالْغَالِيَةِ:
جَعْفَرٌ. فَتَأَمَّلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
وَكَاتِبَةٍ فِي الْخَدِّ بِالْمِسْكِ جَعْفَرًا بِنَفْسِي مَحَطُّ الْمِسْكِ مِنْ
حَيْثُ أَثَّرَا
لَئِنْ أَوْدَعَتْ سَطْرًا مِنَ الْمِسْكِ خَدَّهَا لَقَدْ أَوْدَعَتْ قَلْبِي
مِنَ الْحُبِّ أَسْطُرًا
فَيَا مَنْ
مُنَاهَا فِي السَّرِيرَةِ جَعْفَرٌ سَقَى اللَّهُ مِنْ سُقْيَا ثَنَايَاكِ
جَعْفَرًا
وَيَا مَنْ لِمَمْلُوكٍ لِمِلْكِ يَمِينِهِ مُطِيعٍ لَهُ فِيمَا أَسَرَّ
وَأَظْهَرَا
قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ عَرِيبًا فَغَنَّتْ بِهِ. وَقَالَ الْفَتْحُ
بْنُ خَاقَانَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْمُتَوَكِّلِ فَإِذَا هُوَ مُطْرِقٌ
مُفَكِّرٌ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا لَكَ مُفَكِّرًا ؟
فَوَاللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ أَطْيَبُ مِنْكَ عَيْشًا، وَلَا أَنْعَمُ مِنْكَ
بَالًا. فَقَالَ: أَطْيَبُ مِنِّي عَيْشًا رَجُلٌ لَهُ دَارٌ وَاسِعَةٌ،
وَزَوْجَةٌ صَالِحَةٌ، وَمَعِيشَةٌ حَاضِرَةٌ، لَا يَعْرِفُنَا فَنُؤْذِيهِ، وَلَا
يَحْتَاجُ إِلَيْنَا فَنَزْدَرِيهِ.
وَكَانَ الْمُتَوَكِّلُ مُحَبَّبًا إِلَى رَعِيَّتِهِ، قَائِمًا بِالسُّنَّةِ
فِيهَا، وَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِالصِّدِّيقِ فِي رَدِّهِ عَلَى أَهْلِ
الرِّدَّةِ، حَتَّى رَجَعُوا إِلَى الدِّينِ، وَبِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
حِينَ رَدَّ مَظَالِمَ بَنِي أُمَيَّةَ. وَهُوَ أَظْهَرَ السُّنَّةَ بَعْدَ
الْبِدْعَةِ، وَأَخْمَدَ الْبِدْعَةَ بَعْدَ انْتِشَارِهَا وَاشْتِهَارِهَا،
فَرَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي
نُورٍ، فَقَالَ:
آلْمُتَوَكِّلُ ؟ !
فَقَالَ: الْمُتَوَكِّلُ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي.
قُلْتُ: بِمَاذَا ؟ قَالَ: بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ صَالِحِ بْنِ أَحْمَدَ أَنَّهُ رَأَى فِي مَنَامِهِ
لَيْلَةَ مَاتَ الْمُتَوَكِّلُ كَأَنَّ رَجُلًا يَصْعَدُ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ،
وَقَائِلًا يَقُولُ:
مَلِكٌ يُقَادُ إِلَى مَلِيكٍ عَادِلٍ مُتَفَضِّلٍ فِي الْعَفْوِ لَيْسَ بِجَائِرِ
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَيْبَانَ الْحَلَبِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ لَيْلَةَ
قُتِلَ الْمُتَوَكِّلُ قَائِلًا يَقُولُ:
يَا نَائِمَ الْعَيْنِ فِي أَقْطَارِ جُثْمَانِ أَفِضْ دُمُوعَكَ يَا عَمْرُو بْنَ
شَيْبَانِ
أَمَا تَرَى الْفِتْيَةَ الْأَرْجَاسَ مَا فَعَلُوا بِالْهَاشِمِيِّ وَبِالْفَتْحِ
بْنِ خَاقَانِ
وَافَى إِلَى اللَّهِ مَظْلُومًا فَضَجَّ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ مِنْ مَثْنَى
وَوُحْدَانِ
وَسَوْفَ تَأْتِيكُمْ أُخْرَى مُسَوَّمَةٌ تَوَقَّعُوهَا لَهَا شَأْنٌ مِنَ
الشَّانِ
فَابْكُوا عَلَى جَعْفَرٍ وَارْثُوا خَلِيفَتَكُمْ فَقَدْ بَكَاهُ جَمِيعُ
الْإِنْسِ وَالْجَانِ
قَالَ: فَأَصْبَحْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّاسَ، فَجَاءَ نَعْيُهُ أَنَّهُ قُتِلَ فِي
تِلْكَ اللَّيْلَةِ. قَالَ: ثُمَّ
رَأَيْتُهُ بَعْدَ
هَذَا بِشَهْرٍ وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقُلْتُ:
مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي. قُلْتُ: بِمَاذَا ؟ قَالَ:
بِقَلِيلٍ مِنَ السُّنَّةِ أَحْيَيْتُهَا. قُلْتُ: فَمَا تَصْنَعُ هَاهُنَا ؟
قَالَ: أَنْتَظِرُ ابْنِي مُحَمَّدًا أُخَاصِمُهُ إِلَى اللَّهِ الْحَلِيمِ
الْعَظِيمِ الْكَرِيمِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَرِيبًا كَيْفِيَّةَ مَقْتَلِهِ، وَأَنَّ ابْنَهُ مُحَمَّدًا
الْمُسْتَنْصِرَ مَالَأَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى قَتْلِهِ فِي لَيْلَةِ
الْأَرْبِعَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، لِأَرْبَعٍ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
بِالْمُتَوَكِّلِيَّةِ، وَهِيَ الْمَاحُوزَةُ. وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ وَدُفِنَ بِالْجَعْفَرِيَّةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةَ
أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَكَانَ أَسْمَرَ، حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ، نَحِيفَ
الْجِسْمِ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ مُحَمَّدٍ الْمُنْتَصِرِ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ.
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَمَالَأَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى
قَتْلِ أَبِيهِ، وَحِينَ قُتِلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَوَكِّلُ بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ فِي اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ مِنْ يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ رَابِعَ شَوَّالٍ أُخِذَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ مِنَ الْعَامَّةِ،
وَبَعَثَ إِلَى أَخِيهِ الْمُعْتَزِّ فَأَحْضَرَهُ إِلَيْهِ فَبَايَعَهُ
الْمُعْتَزُّ، وَقَدْ
كَانَ الْمُعْتَزُّ
هُوَ وَلِيَّ الْعَهْدِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّهُ أَكْرَهَهُ فَسَلَّمَ وَبَايَعَ.
فَلَمَّا أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ كَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنَّهُ
اتَّهَمَ الْفَتْحَ بْنَ خَاقَانَ عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، وَقُتِلَ الْفَتْحُ
أَيْضًا ثُمَّ بَعَثَ الْبَيْعَةَ لَهُ إِلَى الْآفَاقِ.
وَفِي ثَانِي يَوْمٍ مِنْ خِلَافَتِهِ وَلَّى الْمَظَالِمَ لِأَبِي عَمْرَةَ أَحْمَدَ
بْنِ سَعِيدٍ، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، فَقَالَ الشَّاعِرُ:
يَا ضَيْعَةَ الْإِسْلَامِ لَمَّا وَلِيَ مَظَالِمَ النَّاسِ أَبُو عَمْرَهْ
صُيِّرَ مَأْمُونًا عَلَى أُمَّةٍ
وَلَيْسَ مَأْمُونًا عَلَى بَعْرَهْ
وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ بِالْمُتَوَكِّلِيَّةِ وَهِيَ الْمَاحُوزَةُ،
فَأَقَامَ بِهَا عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ هُوَ وَجَمِيعُ قُوَّادِهِ
وَحَشَمِهِ مِنْهَا إِلَى سَامَرَّاءَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَخْرَجَ الْمُنْتَصِرُ عَمَّهُ
عَلِيَّ ابْنَ الْمُعْتَصِمِ مِنْ سَامَرَّاءَ إِلَى بَغْدَادَ وَوَكَّلَ بِهِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ.
وَسُفْيَانُ بْنُ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ.
وَسَلَمَةُ بْنُ
شَبِيبٍ.
وَأَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ النَّحْوِيُّ.
وَاسْمُهُ: بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَصْرِيُّ، شَيْخُ النُّحَاةِ
فِي زَمَانِهِ. أَخَذَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ
الْأَنْصَارِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَأَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ
وَأَكْثَرَ عَنْهُ، وَلِلْمَازِنِيِّ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ،
وَكَانَ شَبِيهًا بِالْفُقَهَاءِ، وَرِعًا زَاهِدًا ثِقَةً مَأْمُونًا.
رَوَى عَنْهُ الْمُبَرِّدُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ طَلَبَ مِنْهُ
أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ وَيُعْطِيَهُ مِائَةَ دِينَارٍ،
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَلَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
إِنَّمَا تَرَكْتُ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. فَاتَّفَقَ
بَعْدَ هَذَا أَنَّ جَارِيَةً غَنَّتْ بِحَضْرَةِ الْوَاثِقِ:
أَظَلُومُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجْلًا رَدَّ السَّلَامَ تَحِيَّةً ظُلْمُ
فَاخْتَلَفَ مَنْ بِحَضْرَةِ الْوَاثِقِ فِي إِعْرَابِ هَذَا الْبَيْتِ، وَهَلْ
يَكُونُ " رَجُلًا " مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا، وَبِمَ نُصِبَ ؟
أَهْوَ اسْمٌ أَوْ مَاذَا ؟ وَأَصَرَّتِ الْجَارِيَةُ عَلَى أَنَّ الْمَازِنِيَّ
حَفَّظَهَا هَذَا هَكَذَا. قَالَ: فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا
مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ
لَهُ: أَنْتَ
الْمَازِنِيُّ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مِنْ مَازِنِ تَمِيمٍ، أَمْ مِنْ مَازِنِ
رَبِيعَةَ، أَمْ مِنْ مَازِنِ قَيْسٍ ؟ فَقُلْتُ: مِنْ مَازِنِ رَبِيعَةَ.
فَأَخَذَ يُكَلِّمُنِي بِلُغَتِي، فَقَالَ: بَاسْمُكَ ؟ وَهُمْ يَقْلِبُونَ
الْبَاءَ مِيمًا وَالْمِيمَ بَاءً، فَكَرِهْتُ أَنْ أَقُولَ: مَكْرٌ. فَقُلْتُ:
بَكْرٌ. فَأَعْجَبَهُ إِعْرَاضِي عَنِ الْمَكْرِ إِلَى الْبِكْرِ، وَعَرَفَ مَا
أَرَدْتُ. فَقَالَ: عَلَامَ تَنْصِبُ رَجُلًا ؟ فَقُلْتُ: لِأَنَّهُ مَعْمُولُ
الْمَصْدَرِ ; " مُصَابَكُمْ ". فَأَخَذَ الْيَزِيدِيُّ يُعَارِضُهُ
فَعَلَاهُ الْمَازِنِيُّ بِالْحُجَّةِ، فَأَطْلَقَ لَهُ الْخَلِيفَةُ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَرَدَّهُ إِلَى أَهْلِهِ مُكَرَّمًا. فَعَوَّضَهُ اللَّهُ عَنِ الْمِائَةِ
دِينَارٍ لَمَّا تَرَكَهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلَمْ يُمَكِّنِ الذِّمِّيَّ
مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ; لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْفَ دِينَارٍ
; عَشْرَةَ أَمْثَالِهَا.
وَرَوَى الْمُبَرِّدُ عَنْهُ قَالَ: أَقَرَأْتُ رَجُلًا كِتَابَ سِيبَوَيْهِ إِلَى
آخِرِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى قَالَ لِي: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الشَّيْخُ،
فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَّا أَنَا، فَوَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ مِنْهُ
حَرْفًا.
تُوُفِّيَ الْمَازِنِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَغْرَبَ مَنْ قَالَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فَفِيهَا أَغْزَى الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا التُّرْكِيَّ الصَّائِفَةَ لِقِتَالِ
الرُّومِ ; وَذَلِكَ أَنَّ مَلِكَ الرُّومِ قَصَدَ بِلَادَ الشَّامِ فَعِنْدَ
ذَلِكَ جَهَّزَ الْمُنْتَصِرُ وَصِيفًا وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا كَثِيفًا
وَرِجَالًا وَعُدَدًا وَأَمَرَ بِنَفَقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَمَرَهُ إِذَا فَرَغَ
مِنْ قِتَالِ الرُّومِ أَنْ يُقِيمَ بِالثَّغْرِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَتَبَ لَهُ
إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، نَائِبِ الْعِرَاقِ كِتَابًا
عَظِيمًا فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّحْرِيضِ لِلنَّاسِ عَلَى الْقِتَالِ
وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ.
وَفِي لَيْلَةِ السَّبْتِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
الْمُبَارَكَةِ خَلَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَزُّ
وَالْمُؤَيَّدُ إِبْرَاهِيمُ أَخَوَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَّا الْعَهْدِ
أَنْفَسَهُمَا مِنَ الْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَا عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمَا
عَاجِزَانِ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي حِلٍّ مِنْ
بَيْعَتِهِمَا، وَذَلِكَ بَعْدَمَا تَهَدَّدَهُمَا أَخُوهُمَا الْمُنْتَصِرُ،
وَتَوَعَّدَهُمَا بِالْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ
تَوْلِيَةُ ابْنِهِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِإِشَارَةِ
أُمَرَاءِ
الْأَتْرَاكِ بِذَلِكَ، وَخَطَبَ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِحَضْرَةِ
الْقُوَّادِ، وَالْقُضَاةِ، وَأَعْيَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَالنَّاسِ عَامَّةً،
وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ ; لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ
وَيَخْطُبُوا لَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَيَتَوَالَى عَلَى مَحَالِّ
الْكِتَابَةِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْلُبَهُمَا
الْمُلْكَ وَيَجْعَلَهُ فِي عَقِبِهِ، وَالْأَقْدَارُ تُكَذِّبُهُ وَتُخَالِفُهُ ;
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ بَعْدَ قَتْلِ أَبِيهِ سِوَى سِتَّةِ
أَشْهُرٍ، فَفِي أَوَاخِرِ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَرَضَتْ لَهُ عِلَّةٌ،
كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَصْعَدُ سُلَّمًا،
فَبَلَغَ إِلَى آخَرِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، فَقَصَّهَا عَلَى بَعْضِ
الْمُعَبِّرِينَ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً تَلِي فِيهَا
الْخِلَافَةَ. وَإِذَا هِيَ مُدَّةُ عُمْرِهِ، قَدِ اسْتَكْمَلَهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْنَا عَلَيْهِ يَوْمًا فَإِذَا هُوَ يَبْكِي
وَيَنْتَحِبُ شَدِيدًا، فَسَأَلَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَنْ بُكَائِهِ، فَقَالَ:
رَأَيْتُ أَبِي الْمُتَوَكِّلَ فِي مَنَامِي هَذَا وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكَ يَا
مُحَمَّدُ قَتَلْتَنِي وَظَلَمْتَنِي وَغَصَبْتَنِي خِلَافَتِي، وَاللَّهِ لَا
مُتِّعْتَ بِهَا بَعْدِي إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً ثُمَّ مَصِيرُكَ إِلَى
النَّارِ. قَالَ: فَمَا أَمْلِكُ عَيْنِي وَلَا جَزَعِي. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ مِنَ الْغَرَّارِينَ الَّذِينَ يَغُرُّونَ النَّاسَ
وَيَفْتِنُونَهُمْ: هَذِهِ رُؤْيَا وَهِيَ تَصْدُقُ وَتَكْذِبُ،
فَقُمْ بِنَا إِلَى
الشَّرَابِ ; لِيَذْهَبَ هَمُّكَ وَحُزْنُكَ. فَأَمَرَ بِالشَّرَابِ فَأُحْضِرَ
وَجَاءَ نُدَمَاؤُهُ، فَأَخَذَ فِي الْخَمْرِ وَهُوَ مُنْكَسِرُ الْهِمَّةِ، وَمَا
زَالَ كَذَلِكَ مَكْسُورًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عِلَّتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا هَلَاكُهُ، فَقِيلَ:
إِنَّهُ أَصَابَهُ دَاءٌ فِي رَأْسِهِ فَقُطِّرَ فِي أُذُنِهِ دُهْنٌ، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ عُوجِلَ بِالْمَوْتِ. وَقِيلَ: بَلْ وَرِمَتْ مَعِدَتُهُ
فَانْتَهَى الْوَرَمُ إِلَى قَلْبِهِ فَمَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ أَصَابَتْهُ ذَبْحَةٌ
فَاسْتَمَرَّتْ بِهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَمَاتَ. وَقِيلَ: بَلْ فَصَدَهُ
الْحَجَّامُ بِمِفْصَدٍ مَسْمُومٍ فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ هَذَا الْحَجَّامَ
رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ مَحْمُومٌ، فَدَعَا تِلْمِيذًا لَهُ لِيَفْصِدَهُ
فَأَخَذَ مَبَاضِعَ أُسْتَاذِهِ فَاخْتَارَ مِنْهَا أَجْوَدَهَا فَإِذَا بِهِ
ذَلِكَ الْمِبْضَعُ الْمَسْمُومُ الَّذِي فَصَدَ بِهِ الْخَلِيفَةَ، فَفَصَدَ
أُسْتَاذَهُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَأَنْسَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْحَجَّامَ،
فَمَا ذَكَرَ حَتَّى رَآهُ قَدْ فَصَدَهُ بِهِ، وَتَحَكَّمَ فِيهِ السُّمُّ
فَأَوْصَى عِنْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ أُمَّ الْخَلِيفَةِ دَخَلَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي
مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ حَالُكَ ؟ فَقَالَ:
ذَهَبَتْ مِنِّي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ
أَنْشَدَ لَمَّا أُحِيطَ بِهِ وَأَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ:
فَمَا فَرِحَتْ نَفْسِي بِدُنْيَا أَصَبْتُهَا وَلَكِنْ إِلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ
أَصِيرُ
فَمَاتَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقْتَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، قِيلَ:
وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَلِيَ الْخِلَافَةَ سِتَّةَ
أَشْهُرٍ لَا أَزْيَدَ مِنْهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَسْمَعُ
النَّاسَ يَقُولُونَ، الْعَامَّةَ وَغَيْرَهُمْ حِينَ وَلِيَ الْمُنْتَصِرُ:
إِنَّهُ لَا يَمْكُثُ فِي الْخِلَافَةِ سِوَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، كَمَا مَكَثَ
شِيرَوَيْهِ بْنُ كِسْرَى حِينَ قَتَلَ أَبَاهُ لِأَجْلِ الْمُلْكِ، وَكَذَلِكَ
وَقَعَ سَوَاءً.
وَقَدْ كَانَ الْمُنْتَصِرُ أَعْيَنَ أَقْنَى قَصِيرًا مَهِيبًا جَيِّدَ
الْبَدَنِ، وَهُوَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ أُبْرِزَ قَبْرُهُ،
وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ أُمِّهِ حَبَشِيَّةَ الرُّومِيَّةِ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: وَاللَّهِ مَا عَزَّ ذُو بَاطِلٍ قَطُّ،
وَلَوْ طَلَعَ الْقَمَرُ مِنْ جَبِينِهِ، وَلَا ذَلَّ ذُو حَقٍّ قَطُّ، وَلَوْ
أَصْفَقَ الْعَالَمُ عَلَيْهِ.
خِلَافَةُ
الْمُسْتَعِينِ بِاللَّهِ
وَهُوَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْمُعْتَصِمِ بُويِعَ
لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ مَاتَ الْمُنْتَصِرُ، بَايَعَهُ عُمُومُ النَّاسِ،
ثُمَّ خَرَجَتْ عَلَيْهِ شِرْذِمَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ يَقُولُونَ: يَا مُعْتَزُّ،
يَا مَنْصُورُ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِمْ خَلْقٌ، وَقَامَ بِنَصْرِ الْمُسْتَعِينِ
جُمْهُورُ الْجَيْشِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا أَيَّامًا، فَقُتِلَ خَلْقٌ
مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَانْتُهِبَتْ أَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ وَجَرَتْ
فِتَنٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ لِلْمُسْتَعِينِ فَعَزَلَ
وَوَلَّى، وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَأَمَرَ وَنَهَى.
وَفِيهَا مَاتَ بُغَا الْكَبِيرُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَوَلَّى الْخَلِيفَةُ
مَكَانَهُ وَلَدَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا، وَقَدْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ عَالِيَةٌ،
وَآثَارٌ سَامِيَةٌ، وَغَزَوَاتٌ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مُتَوَالِيَةٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَاعَ الْمُسْتَعِينُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْمُعْتَزِّ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْمَتَاعِ وَالْأَثَاثِ وَالضِّيَاعِ بِمَا
قِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَشْرُ حَبَّاتِ جَوْهَرٍ،
وَمِنْ
إِبْرَاهِيمَ بِمَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ وَثَلَاثُ
حَبَّاتٍ.
وَفِيهَا عَدَا أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمْ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ
أَظْهُرِهِمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمُسْتَعِينُ فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِائَةَ
رَجُلٍ مِنْ سَرَاتِهِمْ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِهِمْ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيْنَبِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ، وَعَبْدُ
الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلَاءِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبٍ، وَعِيسَى بْنُ
حَمَّادٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ
زُنْبُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ
أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ.
وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ، وَاسْمُهُ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ يَزِيدَ الْجُشَمِيُّ، أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ
النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ
بَارِعًا فِي اللُّغَةِ اشْتَغَلَ فِيهَا عَلَى أَبِي عُبَيْدَةَ،
وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَكْثَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ،
وَأَخَذَ عَنْهُ الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دُرَيْدٍ، وَغَيْرُهُمَا.
وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ، يَتَصَدَّقُ كُلَّ
يَوْمٍ بِدِينَارٍ، وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ خَتْمَةً، وَلَهُ شِعْرٌ
كَثِيرٌ ; مِنْهُ قَوْلُهُ:
أَبْرَزُوا وَجْهَهُ الْجَمِي لَ وَلَامُوا مَنِ افْتُتِنْ
لَوْ أَرَادُوا
صِيَانَتِي
سَتَرُوا وَجْهَهُ الْحَسَنْ
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ. وَقِيلَ: فِي
رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ مِنْهَا الْتَقَى جَمْعٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَخَلْقٌ مِنَ الرُّومِ بِالْقُرْبِ مِنْ مَلَطْيَةَ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، قُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَقُتِلَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَقْطَعِ،
وَقُتِلَ مَعَهُ أَلْفَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ قُتِلَ
الْأَمِيرُ عَلِيُّ بْنُ يَحْيَى الْأَرْمَنِيُّ فِي طَائِفَةٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ
كَانَ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ مِنْ أَكْبَرِ أَنْصَارِ الْإِسْلَامِ.
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ كَرِهُوا جَمَاعَةً مِنَ
الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَدْ تَغَلَّبُوا عَلَى أَمْرِ الْخِلَافَةِ، وَقَتَلُوا
الْمُتَوَكِّلَ، وَاسْتَضْعَفُوا الْمُنْتَصِرَ وَالْمُسْتَعِينَ بَعْدَهُ ;
فَنَهَضُوا إِلَى السِّجْنِ، فَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، وَجَاءُوا إِلَى الْجِسْرِ
فَقَطَعُوهُ وَضَرَبُوا الْآخَرَ بِالنَّارِ، فَأَحْرَقُوهُ، وَنَادَوْا
بِالنَّفِيرِ فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَنَهَبُوا أَمَاكِنَ
مُتَعَدِّدَةً، وَذَلِكَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ ثُمَّ جَمَعَ
أَهْلُ الْيَسَارِ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً ; لِتُصْرَفَ إِلَى
مَنْ
يَنْهَضُ إِلَى
ثُغُورِ الرُّومِ لِقِتَالِهِمْ عِوَضًا عَنْ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
هُنَاكَ، فَأَقْبَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ نَوَاحِي الْجِبَالِ وَالْأَهْوَازِ
وَفَارِسَ وَغَيْرِهَا لِغَزْوِ الرُّومِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ
وَالْجَيْشَ تَأَخَّرُوا عَنِ النُّهُوضِ فَغَضِبَتِ الْعَامَّةُ مِنْ ذَلِكَ،
وَفَعَلُوا مَا ذَكَرْنَا.
وَلِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَهَضَ عَامَّةُ أَهْلِ سَامَرَّا
إِلَى السِّجْنِ، فَأَخْرَجُوا مَنْ فِيهِ، وَجَاءَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْجَيْشِ،
يُقَالُ لَهُمُ: الزُّرَافَةُ، فَهَزَمَتْهُمُ الْعَامَّةُ فَرَكِبَ عِنْدَ
ذَلِكَوَصِيفٌ وَبُغَا الصَّغِيرُ وَعَامَّةُ الْأَتْرَاكِ، فَقَتَلُوا مِنَ
الْعَامَّةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَجَرَتْ فِتَنٌ طَوِيلَةٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ
سَكَنَتْ.
وَفِي النِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُسْتَعِينَ كَانَ قَدْ فَوَّضَ أَمْرَ
الْخِلَافَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى ثَلَاثَةٍ ;
وَهُمْ أُتَامِشُ التُّرْكِيُّ، وَكَانَ أَخَصَّ مَنْ عِنْدَهُ، وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ، وَفِي حِجْرِهِ الْعَبَّاسُ ابْنُ الْمُسْتَعِينِ
يُرَبِّيهِ، وَيَعَلِّمُهُ الْفُرُوسِيَّةَ، وَشَاهَكُ الْخَادِمُ، وَأُمُّ
الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ لَا يَمْنَعُهَا شَيْئًا تُرِيدُهُ، وَكَانَ لَهَا كَاتِبٌ
يُقَالُ لَهُ: سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ
النَّصْرَانِيُّ.
فَأَقْبَلَ أُتَامِشُ فَأَسْرَفَ فِي أَخْذِ الْأَمْوَالِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ
بِبَيْتِ الْمَالِ شَيْئًا، فَغَضِبَ الْأَتْرَاكُ مِنْ ذَلِكَ، وَغَارَتْ مِنْهُ
فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَرَكِبُوا إِلَيْهِ، وَأَحَاطُوا بِقَصْرِ
الْخِلَافَةِ، وَهُوَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ مَنْعُهُ
مِنْهُمْ، وَلَا دَفْعُهُمْ عَنْهُ فَأَنْزَلُوهُ صَاغِرًا فَقَتَلُوهُ،
وَانْتَهَبُوا أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَدُورَهُ، وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ
بَعْدَهُ أَبَا صَالِحٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ، وَوَلَّى
بُغَا الصَّغِيرَ فِلَسْطِينَ، وَوَلَّى وَصِيفًا الْأَهْوَازَ، وَجَرَى خَبْطٌ
كَبِيرٌ، وَوَهْنٌ كَثِيرٌ مِنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ.
وَتَحَرَّكَتِ الْمَغَارِبَةُ بِسَامَرَّا فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ
خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَكَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَرْكَبُونَ، ثُمَّ
يَتَفَرَّقُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَهُوَ الْيَوْمُ
السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ تَمُّوزَ، مُطِرَ أَهْلُ سَامَرَّا مَطَرًا عَظِيمًا
بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ، وَالْغَيْمُ مُطْبِقٌ، وَالْمَطَرُ مُسْتَهِلٌّ كَثِيرٌ مِنْ
أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ أَصَابَ
أَهْلَ الرَّيِّ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا، وَرَجْفَةٌ هَائِلَةٌ تَهَدَّمَتْ
مِنْهَا الدُّورُ، وَمَاتَ مِنْهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَخَرَجَ بَقِيَّةُ أَهْلِهَا
إِلَى الصَّحْرَاءِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مُوسَى بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
الْإِمَامُ، وَهُوَ
وَالِي مَكَّةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَزَّانُ.
وَالْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ، صَاحِبُ كِتَابِ " السُّنَنِ
".
وَرَجَاءُ بْنُ مُرَجَّى الْحَافِظُ.
وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " وَ " التَّفْسِيرِ
" الْحَافِلِ.
وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ.
وَعَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ بْنِ بَدْرِ بْنِ الْجَهْمِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أَسَدٍ
الْقُرَشِيُّ السَّامِيُّ.
مِنْ وَلَدِ سَامَةَ بْنِ لُؤَيٍّ، الْخُرَاسَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ أَحَدُ
الشُّعَرَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَأَهْلِ الدِّيَانَةِ الْمُعْتَبَرِينَ.
وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ فِيهِ أَشْعَارٌ حَسَنَةٌ، وَكَانَ فِيهِ تَحَامُلٌ عَلَى
عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ لَهُ خُصُوصِيَّةٌ بِالْمُتَوَكِّلِ، ثُمَّ غَضِبَ
عَلَيْهِ فَنَفَاهُ إِلَى خُرَاسَانَ وَأَمَرَ نَائِبَهُ بِهَا أَنْ يَنْصِبَهُ
يَوْمًا، مُجَرَّدًا، فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ، وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ:
بَلَاءٌ لَيْسَ يَعْدِلُهُ بَلَاءٌ عَدَاوَةُ غَيْرِ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ يُبِيحُكَ
مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ
وَيَرْتَعُ مِنْكَ فِي عِرْضٍ مَصُونِ
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَرْوَانَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ حِينَ هَجَاهُ،
فَقَالَ فِي هِجَائِهِ لَهُ:
لَعَمْرُكَ مَا الْجَهْمُ بْنُ بَدْرٍ بِشَاعِرٍ وَهَذَا عَلِيٌّ بَعْدَهُ
يَدَّعِي الشِّعْرَا
وَلَكِنْ أَبِي قَدْ كَانَ جَارًا لِأُمِّهِ فَلَمَّا ادَّعَى الْأَشْعَارَ
أَوْهَمَنِي أَمْرَا
كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ قَدْ قَدِمَ الشَّامَ ثُمَّ عَادَ قَاصِدًا
الْعِرَاقَ فَلَمَّا جَاوَزَ حَلَبَ ثَارَ عَلَيْهِ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي كَلْبٍ،
فَقَاتَلَهُمْ فَجُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ فَوُجِدَ بَيْنَ
ثِيَابِهِ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا:
يَا رَحْمَتَا لِلْغَرِيبِ فِي الْبَلَدِ النَّا زِحِ مَاذَا بِنَفْسِهِ صَنَعَا
فَارَقَ
أَحْبَابَهُ فَمَا انْتَفَعُوا بِالْعَيْشِ مِنْ بَعْدِهِ وَمَا انْتَفَعَا
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَذَا السَّبَبِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
سَنَةُ خَمْسِينَ
وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا كَانَ ظُهُورُ أَبِي الْحُسَيْنِ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى بْنِ
حُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ بِالْكُوفَةِ، وَأُمُّهُ أُمُّ الْحُسَيْنِ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ شَدِيدَةٌ فَدَخَلَ سَامَرَّا،
فَسَأَلَ وَصِيفًا أَنْ يُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا، فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ،
فَرَجَعَ إِلَى أَرْضِ الْكُوفَةِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَنَزَلَ عَلَى الْفَلُّوجَةِ،
وَقَدْ كَثُرَ الْجَمْعُ مَعَهُ، فَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
طَاهِرٍ نَائِبُ الْعِرَاقِ إِلَى عَامِلِ الْكُوفَةِ وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ يَأْمُرُهُ
بِمُقَاتَلَتِهِ. وَدَخَلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ إِلَى الْكُوفَةِ فَاحْتَوَى عَلَى بَيْتِ مَالِهَا فَلَمْ يَجِدْ
فِيهِ سِوَى أَلْفَيْ دِينَارٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ
بِالْكُوفَةِ، وَفَتَحَ
السِّجْنَيْنِ، وَأَطْلَقَ مَنْ فِيهِمَا، وَأَخْرَجَ نُوَّابَ الْخَلِيفَةِ مِنْهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَاسْتَحْكَمَ أَمْرُهُ بِهَا، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى سَوَادِهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا، فَتَلَقَّاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْخَطَّابِ الْمُلَقَّبُ وَجْهَ الْفُلْسِ، فَقَاتَلَهُ قِتَالًا شَدِيدًا فَانْهَزَمَ وَجْهُ الْفُلْسِ، وَدَخَلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْكُوفَةَ وَدَعَا إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ جَدًّا، وَصَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهَا، وَتَوَلَّاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنَ الْعَامَّةِ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَأَحَبُّوهُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانُوا يُحِبُّونَ أَحَدًا مِنَ الْخَارِجِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَشَرَعَ فِي تَحْصِيلِ السِّلَاحِ، وَإِعْدَادِ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَجَمْعِ الرِّجَالِ، وَقَدْ خَرَجَ نَائِبُ الْكُوفَةِ مِنْهَا وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى ظَاهِرِهَا، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ وَاسْتَرَاحُوا وَجَمَّتْ خُيُولُهُمْ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ أَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَى يَحْيَى بْنِ عُمَرَ مِمَّنْ لَا رَأْيَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ فَيُنَاجِزَ الْحُسَيْنَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، وَيَكْبِسَ جَيْشَهُ، فَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيرٍ فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الْفُرْسَانِ وَالْمُشَاةِ أَيْضًا مِنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِغَيْرِ أَسْلِحَةٍ، فَسَارُوا فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ نَهَضُوا إِلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي ظُلْمَةِ آخِرِ اللَّيْلِ فَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ إِلَّا وَقَدِ انْكَشَفَ أَصْحَابُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ وَدَاسَتْهُمُ الْخُيُولُ، وَوَجَدُوا يَحْيَى بْنَ عُمَرَ قَدْ تَقَنْطَرَ بِهِ فَرَسُهُ وَطُعِنَ
فِي ظَهْرِهِ
فَحَزُّوا رَأَسَهُ، وَحَمَلُوهُ إِلَى الْأَمِيرِ فَبَعَثَهُ إِلَى مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنَ الْغَدِ
مَعَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْخَطَّابِ فَنُصِبَ بِسَامَرَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ، ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى
بَغْدَادَ ; لِيُنْصَبَ عِنْدَ الْجِسْرِ، فَلَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ
الْعَامَّةِ، فَجُعِلَ فِي خَزَائِنِ السِّلَاحِ. وَلَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ يَحْيَى
بْنِ عُمَرَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ دَخَلَ النَّاسُ
يُهَنُّونَهُ بِالْفَتْحِ وَالظَّفَرِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو هَاشِمٍ دَاوُدُ
بْنُ الْهَيْثَمِ الْجَعْفَرِيُّ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّكَ
لَتُهَنَّى بِقَتْلِ رَجُلٍ لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيًّا لَعُزِّيَ بِهِ. فَمَا رَدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، ثُمَّ خَرَجَ
أَبُو هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
يَا بَنِي طَاهِرٍ كُلُوُهُ وَبِيَّا إِنَّ لَحْمَ النَّبِيِّ غُيْرُ مَرِيِّ
إِنَّ وَتْرًا يَكُونُ طَالِبُهُ اللَّهُ
لَوَتْرٌ نَجَاحُهُ بِالْحَرِيِّ
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ الْمُسْتَعِينُ قَدْ وَجَّهَ أَمِيرًا إِلَى الْحُسَيْنِ
بْنِ إِسْمَاعِيلَ نَائِبِ الْكُوفَةِ فَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ
دَخَلُوا الْكُوفَةَ فَأَرَادَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ أَنْ يَضَعَ فِي أَهْلِهَا
السَّيْفَ، فَمَنَعَهُ الْحُسَيْنُ، وَأَمَّنَ الْأَسْوَدَ وَالْأَبْيَضَ،
وَأَطْفَأَ اللَّهُ هَذِهِ الْفِتْنَةَ.
ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَيْضًا
فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِنَاحِيَةِ طَبَرِسْتَانَ وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَقْطَعَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ طَائِفَةً مِنْ أَرْضِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، فَبَعَثَ كَاتِبًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: جَابِرُ بْنُ هَارُونَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا ; لِيَتَسَلَّمَ تِلْكَ الْأَرَاضِيَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ كَرِهُوا ذَلِكَ جِدًّا، وَرَاسَلُوا الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ هَذَا، فَجَاءَ إِلَيْهِمْ فَبَايَعُوهُ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الدَّيْلَمِ، وَجَمَاعَةُ الْأُمَرَاءِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، فَرَكِبَ فِيهِمْ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَأَخَذَهَا قَهْرًا، وَجَبَى خَرَاجَهَا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا طَالِبًا لِقِتَالِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ تِلْكَ النَّوَاحِي فَالْتَقَيَا هُنَالِكَ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ ثُمَّ انْهَزَمَ سُلَيْمَانُ هَزِيمَةً مُنْكَرَةٌ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ دُونَ جُرْجَانَ فَدَخَلَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ سَارِيَةَ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، وَسَيَّرَ أَهْلَ سُلَيْمَانَ إِلَيْهِ عَلَى مَرَاكِبَ مُكْرَمِينَ، وَاجْتَمَعَ لِلْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ إِمْرَةُ طَبَرِسْتَانَ بِكَمَالِهَا، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الرَّيِّ فَأَخَذَهَا أَيْضًا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا الطَّاهِرِيَّةَ، وَصَارَ لَهُ إِلَى حَدِّ هَمَذَانَ وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ الْمُسْتَعِينَ وَكَانَ مُدَبِّرَ مَلِكِهِ يَوْمَئِذٍ وَصِيفٌ التُّرْكِيُّ اغْتَمَّ لِذَلِكَ جِدًّا، وَاجْتَهَدَ فِي بَعْثِ الْجُيُوشِ وَالْأَمْدَادِ لِقِتَالِ الْحَسَنِ
بْنِ زَيْدٍ هَذَا.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِالرَّيِّ أَحْمَدُ بْنُ
عِيسَى بْنِ حُسَيْنٍ الصَّغِيرِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَإِدْرِيسُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَ الْعِيدِ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى هَذَا، وَدَعَا إِلَى
الرِّضَا مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ، فَحَارَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ طَاهِرٍ،
فَهَزَمَهُ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى عَامِلِهِمُ الْفَضْلِ بْنِ قَارَنَ أَخِي
الْمَازَيَارِ بْنِ قَارَنَ فَقَتَلُوهُ فِي رَجَبٍ، فَوَجَّهَ الْمُسْتَعِينُ
إِلَيْهِمْ مُوسَى بْنَ بُغَا الْكَبِيرِ، فَاقْتَتَلُوا بِأَرْضِ الرَّسْتَنِ
فَهَزَمَهُمْ وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِهَا، وَأَحْرَقَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةً
مِنْهَا، وَأَسَرَ أَشْرَافَ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا وَثَبَتِ الشَّاكِرِيَّةُ وَالْجُنْدُ فِي أَرْضِ فَارِسَ عَلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَانْتَهَبُوا
دَارَهُ، وَقَتَلُوا مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ قَارَنَ، وَفِيهَا غَضِبَ
الْخَلِيفَةُ عَلَى جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَنَفَاهُ إِلَى
الْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا أُسْقِطَتْ مَرْتَبَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَوِيِّينَ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ أَمِيرُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا
اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الطَّاهِرِ
أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ.
وَالْبَزِّيُّ أَحَدُ الْقُرَّاءِ الْمَشَاهِيرِ.
وَالْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ.
وَأَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
وَعَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الرَّوَاجِنِيُّ.
وَعَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ.
صَاحِبُ الْكَلَامِ وَالْمُصَنَّفَاتِ.
وَكَثِيرُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحِمْصِيُّ.
وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا اجْتَمَعَ رَأْيُ الْمُسْتَعِينِ وَبُغَا الصَّغِيرِ وَوَصِيفٍ عَلَى
قَتْلِ بَاغِرَ التُّرْكِيِّ وَكَانَ مِنَ الْقُوَّادِ الْكِبَارِ الَّذِينَ
بَاشَرُوا قَتْلَ الْمُتَوَكِّلِ، وَقَدِ اتَّسَعَ إِقْطَاعُهُ، وَكَثُرَتْ
أَعْمَالُهُ فَقُتِلَ وَنُهِبَتْ دَارُ كَاتِبِهِ دَلِيلِ بْنِ يَعْقُوبَ
النَّصْرَانِيِّ، وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ
فِي حَرَّاقَةِ مَنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ ; فَاضْطَرَبَتِ الْأُمُورُ
بِسَبَبِ خُرُوجِهِ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ، فَنَزَلَ
الْخَلِيفَةُ دَارَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ شَنْعَاءُ بَيْنَ جُنْدِ بَغْدَادَ
وَجُنْدِ سَامَرَّا، وَدَعَا أَهْلُ سَامَرَّا إِلَى بَيْعَةِ الْمُعْتَزِّ،
وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ بَغْدَادَ عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَأُخْرِجَ
الْمُعْتَزُّ وَأَخُوهُ الْمُؤَيَّدُ مِنَ السِّجْنِ فَبَايَعَ أَهْلُ سَامَرَّا
الْمُعْتَزَّ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلَ بَيْتِ الْمَالِ بِهَا ; فَإِذَا
بِهَا خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي خِزَانَةِ أَمِّ الْمُسْتَعِينِ
أَلْفُ أَلْفُ دِينَارٍ، وَفِي حَوَاصِلِ الْعَبَّاسِ ابْنِ الْمُسْتَعِينِ
سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمُعْتَزِّ بِسَامَرَّا،
وَأَمَرَ الْمُسْتَعِينُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ
يُحَصِّنَ بَغْدَادَ وَيَعْمَلَ فِي السُّورَيْنِ وَالْخَنْدَقِ، وَغَرِمَ عَلَى
ذَلِكَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَوَكَّلَ
بِكُلِّ بَابٍ أَمِيرًا يَحْفَظُهُ، وَنَصَبَ عَلَى السُّورِ خَمْسَةَ مَجَانِيقَ،
مِنْهَا وَاحِدٌ كَبِيرٌ جِدًّا
يُقَالُ لَهُ:
الْغَضْبَانُ. وَسِتَّ عَرَّادَاتٍ، وَأَعَدُّوا آلَاتِ الْحَرْبِ وَالْحِصَارِ
وَالْعُدَدَ وَقُطِعَتِ الْقَنَاطِرُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ; لِئَلَّا يَصِلَ
الْجَيْشُ إِلَيْهِمْ.
وَكَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُ فِي أَمْرِهِ، وَيُذَكِّرُهُ مَا كَانَ
أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ أَبُوهُ الْمُتَوَكِّلُ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ أَنْ
تَكُونَ الْخِلَافَةُ بَعْدَ الْمُنْتَصِرِ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ بَلْ
رَدَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِحُجَجٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
وَكَتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَعِينِ وَالْمُعْتَزِّ إِلَى مُوسَى بْنِ
بُغَا الْكَبِيرِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِأَطْرَافِ الشَّامِ لِحَرْبِ أَهْلِ حِمْصَ
يَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْوِيَةٍ يَعْقِدُهَا لِمَنِ
اخْتَارَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ يَأْمُرُهُ
بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي
عَمَلِهِ، فَرَكِبَ مُسْرِعًا فَسَارَ إِلَى سَامَرَّا فَكَانَ مَعَ الْمُعْتَزِّ
عَلَى الْمُسْتَعِينِ، وَكَذَلِكَ هَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُغَا الصَّغِيرِ
مِنْ عِنْدِ أَبِيهِ، مِنْ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَالْأَتْرَاكِ.
وَعَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
حَرْبِ الْمُسْتَعِينِ، وَجَهَّزَ مَعَهُ جَيْشًا لِذَلِكَ، فَسَارَ فِي خَمْسَةِ
آلَافٍ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ نَحْوَ بَغْدَادَ وَصَلَّى بِعُكْبَرَا
يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدَعَا لِأَخِيهِ الْمُعْتَزِّ، ثُمَّ وَصَلَ إِلَى
بَغْدَادَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ فَاجْتَمَعَتِ
الْعَسَاكِرُ هُنَالِكَ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ:
بَاذِنْجَانَةُ. كَانَ فِي عَسْكَرِ أَبِي أَحْمَدَ:
يَا بَنِي طَاهِرٍ أَتَتْكُمْ جُنُودُ اللَّهِ وَالْمَوْتُ بَيْنَهَا مَنْثُورُ
وَجُيُوشٌ أَمَامَهُنَّ أَبُو أَحْ
مَدَ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ وَفِتَنٌ مَهُولَةٌ جِدًّا قَدْ
ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ مُطَوَّلَةً
ثُمَّ بَعَثَ الْمُعْتَزُّ مَعَ مُوسَى بْنِ أَشْنَاسَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَدَدًا
لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ، فَوَصَلُوا لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَوَقَفُوا فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ عِنْدَ بَابِ
قُطْرَبُّلَ، وَأَبُو أَحْمَدَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ،
وَالْحَرْبُ مُسْتَعِرَةٌ، وَالْقِتَالُ كَثِيرٌ، وَالْقَتْلُ وَاقِعٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ الْمُعْتَزَّ كَتَبَ إِلَى أَخِيهِ أَبِي
أَحْمَدَ يَلُومُهُ عَلَى التَّقْصِيرِ فِي قِتَالِ أَهْلِ بَغْدَادَ فَكَتَبَ
إِلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ:
لِأَمْرِ الْمَنَايَا عَلَيْنَا طَرِيقُ وَلِلدَّهْرِ فِينَا اتِّسَاعٌ وَضِيقُ
فَأَيَّامُنَا عِبَرٌ لِلَأَنَامِ فَمِنْهَا الْبُكُورُ وَمِنْهَا الطَّرُوقُ
وَمِنْهَا هَنَاتٌ تُشِيبُ الْوَلِيدَ وَيَخْذُلُ فِيهَا الصَّدِيقَ الصَّدِيقُ
وَسُورٌ عَرِيضٌ لَهُ ذِرْوَةٌ تَفُوتُ الْعُيُونَ وَبَحْرٌ عَمِيقُ
قِتَالٌ مُبِيدٌ وَسَيْفٌ عَتِيدٌ وَخَوْفٌ شَدِيدٌ وَحِصْنٌ وَثِيقُ
وَطُولُ صِيَاحٍ
لِدَاعِي الصَّبَاحِ السِّلَاحَ السِّلَاحَ فَمَا يَسْتَفِيقُ
فَهَذَا طَرِيحٌ وَهَذَا جَرِيحٌ وَهَذَا حَرِيقٌ وَهَذَا غَرِيقُ
وَهَذَا قَتِيلٌ وَهَذَا تَلِيلٌ وَآخَرُ يَشْدُخُهُ الْمِنْجَنِيقُ
هُنَاكَ اغْتِصَابٌ وَثَمَّ انْتِهَابٌ وَدُورٌ خَرَابٌ وَكَانَتْ تَرُوقُ
إِذَا مَا سَمَوْنَا إِلَى مَسْلَكٍ وَجَدْنَاهُ قَدْ سُدَّ عَنَّا الطَّرِيقُ
فَبِاللَّهِ نَبْلُغُ مَا نَرْتَجِيهِ وَبِاللَّهِ نَدْفَعُ مَا لَا نُطِيقُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا الشِّعْرُ يُنْشَدُ لِعَلِيِّ بْنِ أُمَيَّةَ فِي
فِتْنَةِ الْمَخْلُوعِ وَالْمَأْمُونِ.
وَقَدِ اسْتَمَرَّتِ الْفِتْنَةُ وَالْقِتَالُ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ
أَخِي الْمُعْتَزِّ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نَائِبِ
الْمُسْتَعِينِ، وَالْبَلَدُ مَحْصُورٌ وَأَهْلُهُ فِي ضِيقٍ شَدِيدٍ جِدًّا
بَقِيَّةَ شُهُورِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ
فِي وَقَعَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ، وَأَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ; فَتَارَةً يَظْهَرُ
أَصْحَابُ أَبِي أَحْمَدَ، وَيَأْخُذُونَ بَعْضَ الْأَبْوَابِ، فَتَحْمِلُ
عَلَيْهِمُ الطَّاهِرِيَّةُ فَيُزِيحُونَهُمْ عَنْهَا، وَيَقْتُلُونَ مِنْهُمْ
خَلْقًا، ثُمَّ يَتَرَاجَعُونَ إِلَى مَوَاقِفِهِمْ وَيُصَابِرُونَهُمْ
مُصَابَرَةً عَظِيمَةً، لَكِنَّ أَهْلَبَغْدَادَ كُلُّ مَا لَهُمْ إِلَى ضَعْفٍ
بِسَبَبِ قِلَّةِ الْمِيرَةِ وَالْجَلَبِ إِلَى دَاخِلِ الْبَلَدِ.
ثُمَّ شَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنْ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
يُرِيدُ أَنْ يَخْلَعَ الْمُسْتَعِينَ وَيُبَايِعَ لِلْمُعْتَزِّ، وَذَلِكَ فِي
أَوَاخِرَ السَّنَةِ، فَتَنَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْتَذَرَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ
وَإِلَى الْعَامَّةِ، وَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْغَلِيظَةِ، فَلَمْ تَبْرَأْ
سَاحَتُهُ مِنْ ذَلِكَ حَقَّ الْبَرَاءَةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَاجْتَمَعَتِ
الْعَامَّةُ وَالْغَوْغَاءُ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَالْخَلِيفَةُ نَازِلٌ
بِهَا، فَسَأَلُوا أَنْ يُبْرِزَ لَهُمُ الْخَلِيفَةَ لِيَرَوْهُ وَيَسْأَلُوهُ
عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ ; أَهْوَ رَاضٍ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ وَمَا زَالَتِ الضَّجَّةُ
وَالْأَصْوَاتُ مُرْتَفِعَةً حَتَّى بَرَزَ الْخَلِيفَةُ مِنْ فَوْقِ الْمَكَانِ
الَّذِي هُمْ فِيهِ، وَعَلَيْهِ السَّوَادُ وَمِنْ فَوْقِهِ الْبُرْدَةُ
النَّبَوِيَّةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ:
أَقْسَمْتُ عَلَيْكُمْ بِحَقٍّ صَاحِبِ هَذِهِ الْبُرْدَةِ وَالْقَضِيبِ لَمَا
رَجَعْتُمْ إِلَى مَنَازِلِكُمْ، وَرَضِيتُمْ عَنِ ابْنِ طَاهِرٍ ; فَإِنَّهُ غَيْرُ
مُتَّهَمٍ لَدَيَّ. فَسَكَتَ الْغَوْغَاءُ وَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ ثُمَّ
انْتَقَلَ الْخَلِيفَةُ مِنْ دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ إِلَى دَارِ رِزْقٍ الْخَادِمِ،
وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَّى بِهِمُ الْعِيدَ يَوْمَ
الْأَضْحَى فِي الْجَزِيرَةِ الَّتِي بِحِذَاءِ دَارَ ابْنِ طَاهِرٍ، وَبَرَزَ
الْخَلِيفَةُ يَوْمَئِذٍ لِلنَّاسِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحَرْبَةُ، وَعَلَيْهِ
الْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا بِبَغْدَادَ
عَلَى مَا بِأَهْلِهَا مِنَ الْحِصَارِ، وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ الْمُتَرْجَمَيْنِ
عَنْ لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ.
وَلَمَّا تَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ وَضَاقَ الْمَجَالُ، وَجَاعَ
الْعِيَالُ، وَجَهِدَ الرِّجَالُ شَرَعَ ابْنُ طَاهِرٍ يُظْهِرُ مَا كَانَ
كَامِنًا فِي نَفْسِهِ مِنْ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَجَعَلَ يُعَرِّضُ لَهُ
بِذَلِكَ وَلَا يُصَرِّحُ ثُمَّ كَاشَفَهُ بِهِ وَأَظْهَرَهُ لَهُ، وَنَاظَرَهُ
فِيهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ تُصَالِحَ عَنِ الْخِلَافَةِ
عَلَى مَالٍ تَأْخُذُهُ سَلَفًا، وَتَعْجِيلًا، وَأَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ
الْخَرَاجِ فِي كُلِّ عَامٍ مَا تَخْتَارُهُ وَتَحْتَاجُهُ. وَلَمْ يَزَلْ
يَفْتِلُ فِي الذِّرْوَةِ،
وَالْغَارِبِ
حَتَّى أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ وَأَنَابَ. فَكَتَبَ بِمَا اشْتَرَطَهُ الْمُسْتَعِينُ
فِي خَلْعِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْخِلَافَةِ كِتَابًا. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
السَّبْتِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ رَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى الرُّصَافَةِ، وَجَمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ،
وَأَدْخَلَهُمْ عَلَى الْمُسْتَعِينِ فَوْجًا فَوْجًا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ قَدْ صَيَّرَ أَمْرَهُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ،
وَكَذَلِكَ جَمَاعَةُ الْحُجَّابِ وَالْخَدَمِ ثُمَّ تَسَلَّمَ مِنْهُ جَوْهَرَ
الْخِلَافَةِ، وَأَقَامَ عِنْدَ الْمُسْتَعِينِ إِلَى هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ،
وَأَصْبَحَ النَّاسُ يَذْكُرُونَ، وَيَتَنَوَّعُونَ فِيمَا يَقُولُونَ مِنَ
الْأَرَاجِيفِ، وَأَمَّا ابْنُ طَاهِرٍ، فَإِنَّهُ أَرْسَلَ بِالْكِتَابِ مَعَ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْمُعْتَزِّ بِسَامَرَّا فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ
بِذَلِكَ أَكْرَمَهُمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَأَجَازَهُمْ فَأَسْنَى
جَوَائِزَهُمْ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ أَوَّلَ السَّنَةِ
الدَّاخِلَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَ ظُهُورُ رَجُلٍ مِنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ أَيْضًا بِأَرْضِ قَزْوِينَ وَزَنْجَانَ ; وَهُوَ الْحُسَيْنُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْأَرْقَطِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
وَيُعْرَفُ بِالْكَوْكَبِيِّ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ هُنَاكَ.
وَفِيهَا خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلَوِيُّ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ
مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنِيِّ. وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ
أَيْضًا.
وَفِيهَا خَرَجَ
بِالْكُوفَةِ أَيْضًا رَجُلٌ مِنَ الطَّالِبِيِّينَ، وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْمُسْتَعِينُ
مُزَاحِمَ بْنَ خَاقَانَ فَاقْتَتَلَا فَهُزِمَ الْعَلَوِيُّ، وَقُتِلَ مِنْ
أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَمَّا دَخَلَ مُزَاحِمٌ الْكُوفَةَ حَرَّقَ بِهَا
أَلْفَ دَارٍ، وَنَهَبَ أَمْوَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ، وَبَاعَ بَعْضَ
جِوَارِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ هَذَا وَكَانَتْ مُعْتَقَةً عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ.
وَفِيهَا ظَهَرَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
بِمَكَّةَ، فَهَرَبَ مِنْهُ نَائِبُهَا جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى بْنِ
مُوسَى، فَانْتَهَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ مَنْزِلَهُ، وَمَنَازِلَ
أَصْحَابِهِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ
وَأَخَذَ مَا فِي الْكَعْبَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطِّيبِ وَكُسْوَةَ
الْكَعْبَةِ، وَأَخَذَ مِنَ النَّاسِ نَحَوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ،
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَامِلُهَا
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ رَجَعَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
يُوسُفَ إِلَى مَكَّةَ فِي رَجَبٍ فَحَصَرَ أَهْلَهَا حَتَّى هَلَكُوا جُوعًا وَعَطَشًا
فَبِيعَ الْخُبْزُ ثَلَاثُ أَوَاقٍ بِدِرْهَمٍ وَاللَّحْمُ الرِّطْلُ
بِأَرْبَعَةٍ، وَشَرْبَةُ الْمَاءِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَلَقِيَ مِنْهُ أَهْلُ
مَكَّةَ كُلَّ بَلَاءٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ إِلَى جُدَّةَ بَعْدَ مُقَامِ
سَبْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَانْتَهَبَ أَمْوَالَ التُّجَّارِ هُنَالِكَ،
وَأَخَذَ
الْمَرَاكِبَ،
وَقَطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى جُلِبَتْ إِلَيْهَا مِنَ
الْيَمَنِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى مَكَّةَ لَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ لَمْ يُمَكِّنِ النَّاسَ مِنَ
الْوُقُوفِ نَهَارًا وَلَا لَيْلًا، وَقَتَلَ مِنَ الْحَجِيجِ أَلْفًا وَمِائَةً،
وَسَلَبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ، وَلَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ عَامَئِذٍ سِوَاهُ، وَمِنْ
مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، لَا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ.
وَحُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ.
وَعَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ الْحِمْصِيُّ.
وَأَبُو النَّقِيِّ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْيَزَنِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ
بَعْدَ خَلْعِ الْمُسْتَعِينِ نَفْسَهُ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَقَدِ اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْمُعْتَزِّ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ
بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَ الْمُعْتَزِّ أَحْمَدُ.
وَقِيلَ: الزُّبَيْرُ. وَهُوَ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ
عَسَاكِرَ وَتَرْجَمَهُ فِي " تَارِيخِهِ ". فَلَمَّا خَلَعَ
الْمُسْتَعِينُ - أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ - نَفْسَهُ مِنَ
الْخِلَافَةِ وَبَايَعَ لِلْمُعْتَزِّ، دَعَا الْخُطَبَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
رَابِعَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِجَوَامِعِ بَغْدَادَ عَلَى
الْمَنَابِرِ لِلْخَلِيفَةِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ. وَانْتَقَلَ الْمُسْتَعِينُ
مِنَ الرُّصَافَةِ إِلَى قَصْرِ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ هُوَ وَعِيَالُهُ
وَوَلَدُهُ وَجَوَارِيهِ، وَوَكَّلَ بِهِمْ سَعِيدَ بْنَ رَجَاءٍ فِي جَمَاعَةٍ
مَعَهُ، وَأَخَذَ مِنَ الْمُسْتَعِينِ الْبُرْدَةَ وَالْقَضِيبَ وَالْخَاتَمَ،
وَبَعَثَ بِذَلِكَ إِلَى الْمُعْتَزِّ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزُّ
يَطْلُبُ مِنْهُ خَاتَمَيْنِ مِنْ جَوْهَرٍ ثَمِينٍ بَقِيَا عِنْدَهُ يُقَالُ
لِأَحَدِهِمَا: بُرْجٌ. وَلِلْآخَرِ: جَبَلٌ. فَأَرْسَلَهُمَا. وَطَلَبَ
الْمُسْتَعِينُ
أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ فَلَمْ يُمَكَّنْ، فَطَلَبَ الْبَصْرَةَ فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّهَا وَبِيئَةٌ. فَقَالَ: إِنَّ تَرْكَ الْخِلَافَةِ أَوْبَأُ مِنْهَا. ثُمَّ
أَذِنَ لَهُ فِي الْمَسِيرِ إِلَى وَاسِطَ فَخَرَجَ وَمَعَهُ حَرَسٌ
يُوَصِّلُونَهُ إِلَيْهَا نَحْوٌ مَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ.
وَاسْتَوْزَرَ الْمُعْتَزُّ أَحْمَدَ بْنَ أَبِي إِسْرَائِيلَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ،
وَأَلْبَسَهُ تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ. وَلَمَّا تَمَهَّدَ أَمْرُ بَغْدَادَ
وَاسْتَقَرَّتِ الْبَيْعَةُ لِلْمُعْتَزِّ بِهَا، وَدَانَ لَهُ أَهْلُهَا
وَاجْتَمَعَ شَمْلُهَا، وَقَدِمَتْهَا الْمِيرَةُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَاتَّسَعَ
النَّاسُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْأَطْعِمَةِ، رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ مِنْهَا فِي
يَوْمِ السَّبْتِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ إِلَى
سَامَرَّا، وَشَيَّعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ فِي وُجُوهِ
الْقُوَّادِ، فَخَلَعَ أَبُو أَحْمَدَ عَلَى ابْنِ طَاهِرٍ خَمْسَ خِلَعٍ
وَسَيْفًا، وَرَدَّهُ مِنَ الرُّوذَبَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَدَائِحَ الشُّعَرَاءِ فِي الْمُعْتَزِّ
وَتَشَفِّيَهُمْ بِخَلْعِ الْمُسْتَعِينِ، فَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا. فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ أَبِي الْجَنُوبِ بْنِ مَرْوَانَ فِي
مَدْحِ الْمُعْتَزِّ وَذَمِّ الْمُسْتَعِينِ كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ
الشُّعَرَاءِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِلَى الْمُعْتَزِّ قَدْ رَجَعَتْ وَالْمُسْتَعِينُ إِلَى
حَالَاتِهِ رَجَعَا وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُلْكَ لَيْسَ لَهُ
وَأَنَّهُ لَكَ لَكِنْ نَفْسَهُ خَدَعَا وَمَالِكُ الْمُلْكِ مُؤْتِيهِ
وَنَازِعُهُ
آتَاكَ مُلْكًا وَمِنْهُ الْمُلْكَ قَدْ نَزَعَا إِنَّ الْخِلَافَةَ كَانَتْ لَا
تُلَائِمُهُ
كَانَتْ كَذَاتِ حَلِيلٍ زُوِّجَتْ مُتَعَا
مَا كَانَ أَقْبَحَ
عِنْدَ النَّاسِ بَيْعَتَهُ
وَكَانَ أَحْسَنَ قَوْلَ النَّاسِ قَدْ خُلِعَا لَيْتَ السَّفِينَ إِلَى قَافٍ
دَفَعْنَ بِهِ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِمَلَّاحٍ بِهِ دَفَعَا كَمْ سَاسَ قَبْلَكَ أَمْرَ النَّاسِ
مِنْ مَلِكٍ
لَوْ كَانَ حُمِّلَ مَا حُمِّلْتَهُ ظَلَعَا أَمَسَى بِكَ النَّاسُ بَعْدَ
الضِّيقِ فِي سِعَةٍ
وَاللَّهُ يَجْعَلُ بَعْدَ الضِّيقِ مُتَّسَعَا وَاللَّهُ يَدْفَعُ عَنْكَ السُّوءَ
مِنْ مَلِكٍ
فَإِنَّهُ بِكَ عَنَّا السُّوءَ قَدْ دَفَعَا
وَكَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَزُّ مِنْ سَامَرَّا إِلَى نَائِبِ
بَغْدَادَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ أَنْ يُسْقِطَ اسْمَ
وَصِيِفٍ وَبُغَا وَمَنْ كَانَ فِي رَسْمِهِمَا فِي الدَّوَاوِينِ، وَعَزَمَ عَلَى
قَتْلِهِمَا، ثُمَّ اسْتُرْضِيَ عَنْهُمَا، فَرَضِيَ عَنْهُمَا.
وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خَلَعَ الْمُعْتَزُّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ
الْمُلَقَّبَ بِالْمُؤَيَّدِ مِنْ وِلَايَةِ الْعَهْدِ وَحَبَسَهُ، وَأَخَاهُ
أَبَا أَحْمَدَ، بَعْدَمَا ضَرَبَ الْمُؤَيَّدَ أَرْبَعِينَ مَقْرَعَةً. وَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ سَابِعُهُ خَطَبَ بِخَلْعِهِ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَكْتُبَ
كِتَابًا عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَمْسَةَ
عَشَرَ يَوْمًا، فَقِيلَ: إِنَّهُ أُدْرِجَ فِي لِحَافِ سَمُّورٍ وَأُمْسِكَ
طَرَفَاهُ حَتَّى مَاتَ غَمًّا. وَقِيلَ: بَلْ ضُرِبَ بِحِجَارَةٍ مِنْ ثَلْجٍ
حَتَّى مَاتَ بَرْدًا. وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أُخْرِجَ مِنَ السِّجْنِ وَلَا
أَثَرَ بِهِ، فَأُحْضِرَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ فَأُشْهِدُوا عَلَى مَوْتِهِ
مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، ثُمَّ حُمِلَ عَلَى حِمَارٍ وَمَعَهُ
كَفَنُهُ،
فَأُرْسِلَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ فَدَفَنَتْهُ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ الْمُسْتَعِينِ
فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ الْمُعْتَزُّ إِلَى نَائِبِهِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ يَأْمُرُهُ بِتَجْهِيزِ جَيْشٍ نَحْوَ
الْمُسْتَعِينِ، فَجَهَّزَ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ التُّرْكِيَّ فَوَافَاهُ،
فَأَخْرَجَهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَقَدِمَ بِهِ الْقَاطُولَ لِثَلَاثٍ
مَضَيْنَ مِنْ شَوَّالٍ ثُمَّ قُتِلَ ; فَقِيلَ: ضُرِبَ حَتَّى مَاتَ، وَقِيلَ:
بَلْ غُرِّقَ فِي دُجَيْلٍ وَقِيلَ: بَلْ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُسْتَعِينَ سَأَلَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ
صَالِحٍ التُّرْكِيِّ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ أَنْ يُمْهِلَهُ حَتَّى يُصَلِّيَ
رَكْعَتَيْنِ، فَأَمْهَلَهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي السَّجْدَةِ الْأَخِيرَةِ
قَتَلَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَدَفَنَ جُثَّتَهُ فِي مَكَانِ صِلَاتِهِ، وَعَفَّا
أَثَرَهُ، وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْمُعْتَزِّ فَدَخَلَ بِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ
يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقِيلَ: هَذَا رَأْسُ الْمَخْلُوعِ. فَقَالَ:
ضَعُوهُ حَتَّى
أَفْرُغَ مِنَ الدَّسْتِ. فَلَمَّا فَرَغَ نَظَرَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِ،
ثُمَّ أَطْلَقَ لِسَعِيدِ بْنِ صَالِحٍ الَّذِي قَتَلَهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ، وَوَلَّاهُ مَعُونَةَ الْبَصْرَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ يُوسُفَ الْعَلَوِيُّ الَّذِي فَعَلَ بِمَكَّةَ مَا فَعَلَ،
وَأَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ مَا أَلْحَدَ - كَمَا تَقَدَّمَ - فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَاجِلًا وَلَمْ يُنْظِرْهُ. وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمُعْتَصِمِ، وَهُوَ الْمُسْتَعِينُ بِاللَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِسْحَاقُ
بْنُ بُهْلُولٍ، وَزِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، بُنْدَارٌ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الزَّمِنُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
الدَّوْرَقِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَجَبٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَزُّ لِمُوسَى بْنِ بُغَا الْكَبِيرِ عَلَى
جَيْشٍ قَرِيبٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ ; لِيَذْهَبُوا إِلَى قِتَالِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ بِنَاحِيَةِ هَمَذَانَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ خَرَجَ
عَنِ الطَّاعَةِ، وَهُوَ فِي نَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَهَزَمُوا عَبْدَ
الْعَزِيزِ فِي أَوَاخِرِ هَذَا الشَّهْرِ هَزِيمَةً فَظِيعَةً. ثُمَّ كَانَتْ
بَيْنَهُمَا وَقْعَةٌ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ عِنْدَ الْكَرَجِ فَهُزِمَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ أَيْضًا، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَأَسَرُوا
ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً حَتَّى أَسَرُوا أَمَّ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَبَعَثُوا إِلَى
الْخَلِيفَةِ سَبْعِينَ حِمْلًا مِنَ الرُّءُوسِ وَأَعْلَامًا كَثِيرَةً، وَأُخِذَ
مِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ
الْخَلِيفَةِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا خَلَعَ الْمُعْتَزُّ عَلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ
وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ وَالْوِشَاحَيْنِ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ عِنْدَ الْبَوَازِيجِ ;
وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مُسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ حَكَمَ
فِيهَا وَالْتَفَّ عَلَيْهِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِمِائَةٍ مِنَ
الْخَوَارِجِ،
فَقَصَدَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بُنْدَارٌ الطَّبَرِيُّ. فِي نَحْوِ
ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَالْتَقَوْا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَاقْتَتَلُوا
قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ، وَقُتِلَ
مِنْ أَصْحَابِ بُنْدَارٍ مِائَتَانِ، وَقِيلَ: وَخَمْسُونَ رَجُلًا. وَقُتِلَ
بُنْدَارٌ فِي مَنْ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. ثُمَّ صَمَدَ مُسَاوِرٌ إِلَى حُلْوَانَ
فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا، وَأَعَانَهُمْ حُجَّاجُ أَهْلِ خُرْسَانَ، فَقَتَلَ
مُسَاوِرٌ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ إِنْسَانٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ أَيْضًا. وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ
مِنْ شَوَّالٍ قُتِلَ وَصِيفٌ التُّرْكِيُّ وَأَرَادَتِ الْعَامَّةُ أَنْ تَنْهَبَ
دَارَهُ بِسَامَرَّا وَدُورَ أَوْلَادِهِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ
الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ مَا كَانَ إِلَيْهِ إِلَى بُغَا الشَّرَابِيِّ.
وَفِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
خَسَفَ الْقَمَرُ حَتَّى غَابَ أَكْثَرُهُ وَغَرِقَ نُورُهُ، وَعِنْدَ انْتِهَاءِ
خُسُوفِهِ مَاتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ نَائِبُ الْعِرَاقِ
بِبَغْدَادَ. وَكَانَتْ عِلَّتُهُ قُرُوحًا فِي رَأْسِهِ وَحَلْقِهِ فَذَبَحَتْهُ،
وَلَمَّا أُتِيَ بِهِ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ اخْتَلَفَ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ
وَابْنُهُ طَاهِرٌ، أَيُّهُمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَتَنَازَعَا حَتَّى جُذِبَتِ
السُّيُوفُ وَتَرَامَى النَّاسُ بِالْحِجَارَةِ، وَصَاحَتِ الْغَوْغَاءُ: يَا
طَاهِرُ، يَا مَنْصُورُ. فَمَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ وَمَعَهُ
الْقُوَّادُ وَأَكَابِرُ النَّاسِ، فَدَخَلَ دَارَهُ وَكَانَ أَخُوهُ قَدْ أَوْصَى
إِلَيْهِ. وَحِينَ بَلَغَ الْمُعْتَزَّ مَا وَقَعَ بَعَثَ بِالْخِلَعِ
وَالْوِلَايَةِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ،
فَأَطْلَقَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِلَّذِي قَدِمَ بِالْخِلَعِ خَمْسِينَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ.
وَفِيهَا نَفَى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ أَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ مِنْ سُرَّ مَنْ
رَأَى إِلَى وَاسِطَ ثُمَّ إِلَى
الْبَصْرَةِ ثُمَّ
رُدَّ إِلَى بَغْدَادَ فَأُنْزِلَ فِي الشَّرْقِيَّةِ فِي قَصْرِ دِينَارِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِيهَا نَفُيِ عَلِيُّ ابْنُ الْمُعْتَصِمِ إِلَى وَاسِطَ ثُمَّ رُدَّ إِلَى
بَغْدَادَ أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ سَلْخَ ذِي الْقَعْدَةِ الْتَقَى مُوسَى بْنُ بُغَا
الْكَبِيرِ هُوَ وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْكَوْكَبِيُّ الطَّالِبِيُّ
الَّذِي خَرَجَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ عِنْدَ قَزْوِينَ فَاقْتَتَلَا
قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ هُزِمَ الْكَوْكَبِيُّ وَأَخَذَ مُوسَى بْنُ بُغَا
قَزْوِينَ وَهَرَبَ الْكَوْكَبِيُّ إِلَى الدَّيْلَمِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ
عَنْ بَعْضِ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْوَقْعَةَ أَنَّ الْكَوْكَبِيَّ حِينَ الْتَقَى
أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَتَتَرَّسُوا بِالْحَجَفِ، وَكَانَتِ السِّهَامُ لَا
تَعْمَلُ فِيهِمْ، فَأَمَرَ مُوسَى بْنُ بُغَا أَصْحَابَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ
يَطْرَحُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ النِّفْطِ بِالْأَرْضِ، ثُمَّ جَاوَلُوهُمْ
وَأَرَوْهُمْ أَنَّهُمْ قَدِ انْهَزَمُوا مِنْهُمْ، فَتَبِعَهُمْ أَصْحَابُ
الْكَوْكَبِيِّ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْأَرْضَ الَّتِي فِيهَا النِّفْطُ أَمَرَ
عِنْدَ ذَلِكَ بِإِلْقَاءِ النَّارِ فِيهِ، فَجَعَلَتِ النَّارُ تَحْرِقُ
أَصْحَابَ الْكَوْكَبِيِّ، فَفَرُّوا سِرَاعًا هَارِبِينَ، وَكَرَّ عَلَيْهِمْ
مُوسَى وَأَصْحَابُهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبَ
الْكَوْكَبِيُّ إِلَى الدَّيْلَمِ، وَتَسَلَّمَ مُوسَى بْنُ بُغَا قَزْوِينَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ
الزَّيْنَبِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْأَشْعَثِ. وَأَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ.
وَسَرِيٌّ
السَّقَطِيُّ.
أَحَدُ كِبَارِ مَشَايِخِ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، وَهُوَ السَّرِيُّ بْنُ
الْمُغَلِّسِ أَبُو الْحَسَنِ السَّقَطِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، تِلْمِيذُ مَعْرُوفٍ
الْكَرْخِيِّ حَدَّثَ عَنْ هُشَيْمٍ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَعَلِيِّ
بْنِ غُرَابٍ، وَيَحْيَى بْنِ يَمَانٍ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ ابْنُ أُخْتِهِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ
النُّورِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ السَّقَطِيُّ، وَجَمَاعَةٌ.
وَكَانَتْ لَهُ دُكَّانٌ يَتَّجِرُ فِيهَا، فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ قَدِ
انْكَسَرَ إِنَاءٌ كَانَ مَعَهَا تَشْتَرِي فِيهِ شَيْئًا لِسَادَتِهَا،
فَجَعَلَتْ تَبْكِي، فَأَعْطَاهَا سَرِيٌّ شَيْئًا تَشْتَرِي بِهِ بَدَلَهُ،
فَنَظَرَ مَعْرُوفٌ إِلَيْهِ وَمَا صَنَعَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ، فَقَالَ لَهُ:
بَغَّضَ اللَّهُ إِلَيْكَ الدُّنْيَا.
وَقَالَ سَرِيٌّ: مَرَرْتُ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَإِذَا مَعْرُوفٌ وَمَعَهُ صَبِيٌّ
صَغِيرٌ شَعِثُ الْحَالِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ: هَذَا كَانَ وَاقِفًا
وَالصِّبْيَانُ يَلْعَبُونَ وَهُوَ مُنْكَسِرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ لَا
تَلْعَبُ ؟ فَقَالَ: أَنَا يَتِيمٌ وَلَا شَيْءَ مَعِي أَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا
أَلْعَبُ بِهِ. فَأَخَذْتُهُ لِأَجْمَعَ لَهُ نَوًى يَشْتَرِي بِهِ جَوْزًا
يَفْرَحُ بِهِ، فَقُلْتُ: أَلَا أَكْسُوهُ وَأُعْطِيهِ شَيْئًا يَشْتَرِي بِهِ
جَوْزًا ؟ فَقَالَ: أَوَتَفْعَلُ ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ. فَقَالَ:
خُذْهُ، أَغْنَى اللَّهُ قَلْبَكَ. قَالَ: فَسَوِيَتِ الدُّنْيَا عِنْدِي أَقَلَّ
شَيْءٍ.
وَكَانَ عِنْدَهُ مَرَّةً لَوْزٌ، فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ عَلَى الْكُرِّ بِثَلَاثَةٍ
وَسِتِّينَ دِينَارًا، ثُمَّ ذَهَبَ الرَّجُلُ، فَإِذَا اللَّوْزُ يُسَاوِي
الْكُرُّ مِنْهُ تِسْعِينَ دِينَارًا، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ
الْكُرَّ بِتِسْعِينَ دِينَارًا. فَقَالَ: إِنِّي سَاوَمْتُكُ بِثَلَاثَةٍ
وَسِتِّينَ، وَإِنِّي لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِذَلِكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَنَا
أَشْتَرِي مِنْكَ بِتِسْعِينَ. فَقَالَ: لَا أَبِيعُهُ إِلَّا بِمَا سَاوَمْتُكَ
عَلَيْهِ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ مِنَ النُّصْحِ أَنْ لَا أَشْتَرِيَ مِنْكَ
إِلَّا بِتِسْعِينَ دِينَارًا. وَذَهَبَ فَلَمْ يَشْتَرِ مِنْهُ.
وَجَاءَتِ امْرَأَةٌ يَوْمًا إِلَى سَرِيٍّ فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي قَدْ أَخَذَهُ
الْحَرَسُ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ لِئَلَّا
يُضْرَبَ. فَقَامَ فَكَبَّرَ وَطَوَّلَ فِي الصَّلَاةِ وَجَلَعَتِ الْمَرْأَةُ
تَحْتَرِقُ فِي نَفْسِهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَتِ
الْمَرْأَةُ: اللَّهَ اللَّهَ فِي وَلَدِي. فَقَالَ: هَاأَنَذَا فِي حَاجَتِكِ.
فَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى تِلْكَ الْمَرْأَةِ
فَقَالَتْ: أَبْشِرِي، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمُتَوَلِّي وَلَدَكِ. فَانْصَرَفَتْ
إِلَيْهِ. وَقَالَ سَرِيٌّ: أَشْتَهِي أَنْ آكُلَ أَكْلَةً لَيْسَ لِلَّهِ عَلَيَّ
فِيهَا تَبِعَةٌ، وَلَا
لِأَحَدٍ عَلَيَّ
فِيهَا مِنَّةٌ، فَمَا أَجِدُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ:
إِنِّي لَأَشْتَهِي الْبَقْلَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَعَنِ السَّرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: احْتَرَقَ سُوقُنَا، فَقَصَدْتُ الْمَكَانَ
الَّذِي فِيهِ دُكَّانِي، فَتَلَقَّانِي رَجُلٌ فَقَالَ: أَبْشِرْ ; فَإِنَّ
دُكَّانَكَ قَدْ سَلِمَتْ. فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. ثُمَّ تَذَكَّرْتُ ذَلِكَ
التَّحْمِيدَ، فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. رَوَاهَا
الْخَطِيبُ.
وَقَالَ السَّرِيُّ: صَلَّيْتُ وِرْدِي ذَاتَ لَيْلَةٍ ثُمَّ مَدَدْتُ رِجْلِي فِي
الْمِحْرَابِ، فَنُودِيتُ: يَا سَرِيُّ، كَذَا تُجَالِسُ الْمُلُوكَ ؟ قَالَ:
فَضَمَمْتُ رِجْلِي ثُمَّ قُلْتُ: وَعِزَّتِكَ لَا مَدَدْتُ رِجْلِي أَبَدًا.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ لِلَّهِ مِنَ
السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ ; أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمَانٍ وَتِسْعُونَ سَنَةً مَا رُئِيَ
مُضْطَجِعًا إِلَّا فِي عِلَّةِ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْخَطِيبُ: عَنْ أَبِي
نُعَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرٍ الْخُلْدِيِّ، عَنِ الْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ:
دَخَلْتُ عَلَيْهِ أَعُودُهُ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ
أَشْكُو إِلَى طَبِيبِي مَا بِي، وَالَّذِي قَدْ أَصَابَنِي مِنْ طَبِيبِي.
قَالَ: فَأَخَذْتُ الْمِرْوَحَةَ أَرَوِّحُهُ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ يَجِدُ رَوْحَ
الْمِرْوَحَةِ مَنْ جَوْفُهُ يَحْتَرِقُ مِنْ دَاخِلٍ ؟ ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْقَلْبُ
مُحْتَرِقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ
كَيْفَ الْقَرَارُ عَلَى مَنْ لَا قَرَارَ لَهُ
مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ يَا رَبِّ إِنْ كَانَ شَيْءٌ
فِيهِ لِي فَرَجٌ
فَامْنُنْ عَلَيَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رَمَقُ
قَالَ: وَقُلْتُ لَهُ: أَوْصِنِي. قَالَ: لَا تَصْحَبِ الْأَشْرَارَ، وَلَا
تَشْتَغِلْ عَنِ اللَّهِ بِمُجَالَسَةِ الْأَخْيَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ وَفَاتَهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ
رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بَعْدَ أَذَانِ الْفَجْرِ،
وَدُفِنَ بَعْدَ الْعَصْرِ. قَالَ: وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الشُّونِيزِيَّةِ،
وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ مَعْرُوفٌ، وَإِلَى جَنْبِهِ قَبْرُ الْجُنَيْدِ. وَرُوِيَ
عَنِ الْقَاضِي، عَنْ أَبِي عَبُيْدِ بْنِ حَرْبَوَيْهِ قَالَ: رَأَيْتُ سَرِيًّا
فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي
وَلِكُلِّ مَنْ شَهِدَ جِنَازَتِي. قُلْتُ: فَإِنِّي مِمَّنْ حَضَرَ جِنَازَتَكَ
وَصَلَّى عَلَيْكَ. قَالَ: فَأَخْرَجَ دُرْجًا فَنَظَرَ فِيهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهِ
اسْمِي، فَقُلْتُ: بَلَى، قَدْ حَضَرْتُ، فَإِذَا اسْمِي فِي الْحَاشِيَةِ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ قَوْلًا ; أَنَّ سَرِيًّا تُوَفِّي سَنَةَ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ ابْنُ
خِلِّكَانَ: وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ السَّرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِذَا مَا شَكَوْتُ
الْحُبَّ قَالَتْ كَذَبْتَنِي فَمَا لِي أَرَى الْأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا
فَلَا حُبَّ حَتَى يَلْصَقَ الْجِلْدُ بِالْحَشَا وَتَذْهَلَ حَتَى لَا تُجِيبَ
الْمُنَادِيَا
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا أَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَزُّ بِقَتْلِ بُغَا الشَّرَابِيِّ وَنَصَبَ
رَأْسَهُ بِسَامَرَّا ثُمَّ بِبَغْدَادَ وَحُرِّقَتْ جُثَّتُهُ وَأُخِذَتْ
أَمْوَالُهُ وَحَوَاصِلُهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ وَهُوَ بَانِي
الْجَامِعِ الْمَشْهُورِ بِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِىُّ. وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُوسَى الرِّضَا يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ بِبَغْدَادَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُتَوَكِّلُ فِي
الشَّارِعِ الْمَنْسُوبِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ وَدُفِنَ بِدَارِهِ بِبَغْدَادَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ
الْمُخَرِّمِيُّ. وَمُؤَمِّلُ بْنُ إِهَابٍ.
وَأَمَّا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ الْهَادِي.
فَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْجَوَادِ بْنِ عَلِيٍّ الرِّضَا بْنِ مُوسَى الْكَاظِمِ
بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ بْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ
الْعَابِدِينَ بْنِ الْحُسَيْنِ الشَّهِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَهُوَ وَالِدُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ
الْعَسْكَرِيِّ الْمُنْتَظَرِ عِنْدَ الْفِرْقَةِ الضَّالَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ
الْكَاذِبَةِ الْخَاطِئَةِ.
وَقَدْ كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا، نَقَلَهُ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى سَامَرَّا
فَأَقَامَ بِهَا أَزْيَدَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً بِأَشْهُرٍ، وَمَاتَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَدْ ذُكِرَ لِلْمُتَوَكِّلِ أَنَّ بِمَنْزِلِهِ سِلَاحًا وَكُتُبًا كَثِيرَةً
مِنَ النَّاسِ فَأَرْسَلَ فَكَبَسَهُ فَوَجَدُوهُ جَالِسًا مُسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةِ، وَعَلَيْهِ مِدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ وَهُوَ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ
لَيْسَ دُونَهَا حَائِلٌ فَأَخَذُوهُ كَذَلِكَ فَحَمَلُوهُ إِلَى الْمُتَوَكِّلِ
وَهُوَ عَلَى شَرَابِهِ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَجَلَّهُ وَعَظَّمَهُ
وَأَجْلَسَهُ إِلَى جَانِبِهِ وَنَاوَلَهُ الْكَأْسَ الَّذِي فِي يَدِهِ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ لَمْ يُخَالِطْ لَحْمِي وَدَمِي قَطُّ، فَأَعْفِنِي
مِنْهُ. فَأَعْفَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْشِدْنِي شِعْرًا. فَأَنْشَدَهُ:
بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الْأَجْبَالِ تَحْرُسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَمَا
أَغْنَتْهُمُ الْقُلَلُ وَاسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ
فَأُودِعُوا حُفَرًا يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا نَادَاهُمْ صَارِخٌ مِنْ بَعْدِ مَا
قُبِرُوا
أَيْنَ الْأَسِرَّةُ وَالتِّيجَانُ وَالْحُلَلُ
أَيْنَ الْوُجُوهُ
الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً
مِنْ دُونِهَا تُضْرَبُ الْأَسْتَارُ وَالْكِلَلُ فَأَفْصَحَ الْقَبْرُ عَنْهُمْ
حِينَ سَاءَلَهُمْ
تَلْكَ الْوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُّودُ يَقْتَتِلُ قَدْ طَالَ مَا أَكَلُوا دَهْرًا
وَمَا شَرِبُوا
فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُولِ الْأَكْلِ قَدْ أُكِلُوا
قَالَ: فَبَكَى الْمُتَوَكِّلُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى وَبَكَى مَنْ حَوْلَهُ
بِحَضْرَتِهِ وَأَمَرَ بِرَفْعِ الشَّرَابِ وَأَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ
دِينَارٍ وَرَدَّهُ إِلَى مَنْزِلِهِ مُكَرَّمًا رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مُفْلِحٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ
الطَّالِبِيِّ فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَدَخَلَ آمُلَ طَبَرِسْتَانَ وَحَرَقَ
مَنَازِلَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ، ثُمَّ سَارَ وَرَاءَهُ إِلَى الدَّيْلَمِ.
وَفِيهَا كَانَتْ مُحَارَبَةٌ شَدِيدَةٌ بَيْنَ يَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ وَبَيْنَ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ قُرَيْشِ بْنِ شِبْلٍ فَبَعَثَ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ رَجُلًا مِنْ جِهَتِهِ يُقَالُ لَهُ: طَوْقُ بْنُ الْمُغَلِّسِ
فَصَابَرَهُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، ثُمَّ ظَفِرَ يَعْقُوبُ بِطَوْقٍ فَأَسَرَهُ
وَأَسَرَ وُجُوهَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ هَذَا
فَأَسَرَهُ أَيْضًا، وَأَخَذَ بِلَادَهُ - وَهِيَ كَرْمَانُ - فَأَضَافَهَا إِلَى
مَا بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ سِجِسْتَانَ ثُمَّ بَعَثَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ
بِهَدِيَّةٍ سَنِيَّةٍ إِلَى الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ ; دَوَابًّ وَبُزَاةٍ
وَثِيَابٍ فَاخِرَةٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
وَفِيهَا أَخَذَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ أَحْمَدَ بْنَ إِسْرَائِيلَ كَاتِبَ
الْمُعْتَزِّ وَالْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ كَاتِبَ قَبِيحَةَ أَمِّ الْمُعْتَزِّ،
وَأَبَا نُوحٍ عِيسَى بْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانُوا قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى أَكْلِ
أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَانُوا دَوَّاوِينَ وَغَيْرَهُمْ فَضَرَبَهُمْ
وَأَخَذَ
خُطُوطَهُمْ
بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ يَحْمِلُونَهَا، وَذَلِكَ بِغَيْرِ رِضًا مِنَ الْمُعْتَزِّ
فِي الْبَاطِنِ، وَاحْتِيطَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَحَوَاصِلِهِمْ وَضِيَاعِهِمْ،
وَسُمُّوا الْكُتَّابَ الْخَوَنَةَ وَوَلَّى الْخَلِيفَةُ عَنْ قَهْرٍ غَيْرَهُمْ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِيسَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ
زَيْدٍ الْحَسَنِيَّانِ بِالْكُوفَةِ، وَقَتَلَا بِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمَا بِهَا.
مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ
وَلِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خُلِعَ الْخَلِيفَةُ
الْمُعْتَزُّ بِاللَّهِ وَلِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ شَعْبَانَ أُظْهِرَ
مَوْتُهُ. وَكَانَ سَبَبَ خَلْعِهِ أَنَّ الْجُنْدَ اجْتَمَعُوا فَطَلَبُوا مِنْهُ
أَرْزَاقَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِيهِمْ فَسَأَلَ مِنْ أُمِّهِ
أَنْ تُقْرِضَهُ مَالًا يَدْفَعُهُمْ عَنْهُ بِهِ فَلَمْ تُعْطِهِ وَأَظْهَرَتْ
أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا فَاجْتَمَعَ الْأَتْرَاكُ عَلَى خَلْعِهِ
فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ ; لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ
دَوَاءً وَأَنَّ عِنْدَهُ ضَعْفًا، وَلَكِنْ لِيَدْخُلْ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ.
فَدَخَلَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ فَتَنَاوَلُوهُ بِالدَّبَابِيسِ
يَضْرِبُونَهُ وَجَرُّوا بِرِجْلِهِ وَأَخْرَجُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مُخَرَّقٌ
مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ فَأَقَامُوهُ فِي وَسَطِ دَارِ الْخِلَافَةِ فِي حَرٍّ
شَدِيدٍ حَتَّى جَعَلَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ،
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَلْطِمُهُ وَهُوَ يَبْكِي، وَيَقُولُ لَهُ الضَّارِبُ:
اخْلَعْهَا وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ. ثُمَّ
أَدْخَلُوهُ حُجْرَةً مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فِيهَا.
وَمَا زَالُوا عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ
الْخِلَافَةِ وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي، ثُمَّ
سَلَّمُوهُ إِلَى مَنْ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ بِأَنْوَاعِ الْمَثُلَاتِ
وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى جَعَلَ يَطْلَبُ
شَرْبَةً مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَلَمْ يُسْقَ ثُمَّ أَدْخَلُوهُ سِرْبًا فِيهِ
جَصُّ جِيرٍ فَدَسُّوهُ فِيهِ فَأَصْبَحَ مَيِّتًا فَاسْتَلُّوهُ مِنَ الْجَصِّ
سَلِيمَ الْجَسَدِ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ جَمَاعَةً مِنَ الْأَعْيَانِ أَنَّهُ
مَاتَ وَلَيْسَ بِهِ أَثَرٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ وَصَلَّى عَلَيْهِ
الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَدُفِنَ مَعَ أَخِيهِ الْمُنْتَصِرِ إِلَى جَانِبِ قَصْرِ
الصَّوَامِعِ، عَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةً
وَعِشْرِينَ يَوْمًا وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا وَسِيمًا أَقْنَى الْأَنْفِ
مُدَوَّرَ الْوَجْهِ حَسَنَ الضَّحِكِ أَبْيَضَ، أَسْوَدَ الشَّعْرِ جَعْدَهُ
كَثِيفَهُ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ وَالْوَجْهِ ضَيِّقَ
الْجَبِينِ أَحْمَرَ الْوَجْنَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ أَثْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَلَى جَوْدَةِ ذِهْنِهِ
وَحُسْنِ فَهْمِهِ وَأَدَبِهِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ
الْمُتَوَكِّلِ بِسَامَرَّا، كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: دَخَلْتُ
عَلَى الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ فَمَا رَأَيْتُ خَلِيفَةً أَحْسَنَ وَجْهًا مِنْهُ،
فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَجَدْتُ فَقَالَ: يَا شَيْخُ تَسْجُدُ لِأَحَدٍ مِنْ دُونِ
اللَّهِ ؟ فَقُلْتُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ
النَّبِيلُ،=
ج26. البداية
والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
ثَنَا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى مَا يَفْرَحُ بِهِ، أَوْ بُشِّرَ
بِمَا يَسُرُّهُ، سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: صِرْتُ إِلَى الْمُعْتَزِّ وَهُوَ أَمِيرٌ،
فَلَمَّا سَمِعَ بِقُدُومِي خَرَجَ مُسْتَعْجِلًا إِلَيَّ فَعَثَرَ، فَأَنْشَأَ
يَقُولُ:
يَمُوتُ الْفَتَى مِنْ عَثْرَةٍ بِلِسَانِهِ وَلَيْسَ يَمُوتُ الْمَرْءُ مِنْ
عَثْرَةِ الرِّجْلِ فَعَثْرَتُهُ مِنْ فِيهِ تَرْمِي بِرَأْسِهِ
وَعَثْرَتُهُ فِي الرِّجْلِ تَبْرَأُ عَلَى مَهْلِ
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَنَّ الْمُعْتَزَّ لَمَّا حَذَقَ
الْقُرْآنَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْمُتَوَكِّلِ اهْتَمَّ أَبُوهُ لِذَلِكَ
وَاجْتَمَعَتِ الْأُمَرَاءُ الْكُبَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ بِسُرَّ مَنْ رَأَى،
وَاخْتَلَفُوا لِذَلِكَ أَيَّامًا عَدِيدَةً وَجَرَتْ أَحْوَالٌ عَظِيمَةٌ.
وَلَمَّا جَلَسَ وَهُوَ صَبِيٌّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِيهِ
بِالْخِلَافَةِ، وَخَطَبَ النَّاسَ نُثِرَتِ الْجَوَاهِرُ فِي الصَّوَانِيِ،
وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَلَى الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ بِدَارِ الْخِلَافَةِ،
فَكَانَ قِيمَةُ مَا نُثِرَ مِنَ الْجَوَاهِرِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَمِثْلَهَا ذَهَبًا، وَأَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، غَيْرَ مَا كَانَ مِنْ
خِلَعٍ وَأَسْمِطَةٍ وَأَقْمِشَةٍ مِمَّا يَفُوتُ الْحَصْرَ وَكَانَ وَقْتًا
مَشْهُودًا لَمْ يَكُنْ سُرُورٌ بِدَارِ الْخِلَافَةِ أَبْهَجَ مِنْهُ وَلَا
أَحْسَنَ وَخَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ الْمُعْتَزِّ - وَهِيَ
قَبِيحَةُ - خِلَعًا سَنِيَّةً وَأَعْطَاهَا وَأَجْزَلَ لَهَا الْعَطَاءَ،
وَكَذَلِكَ خَلَعَ عَلَى مُؤَدَّبِ الْمُعْتَزِّ - وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
عِمْرَانَ - مِنَ الْجَوْهَرِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا
جِدًّا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَاثِقِ هَارُونَ بْنِ الْمُعْتَصِمِ
وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَّيْلَةِ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ خَلْعِ الْمُعْتَزِّ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
وَإِشْهَادِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ
الْخِلَافَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ رَغِبَ إِلَى مَنْ يَقُومُ بِأَعْبَائِهَا مُحَمَّدِ
بْنِ الْوَاثِقِ بِاللَّهِ. ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَبَايَعَهُ قَبْلَ النَّاسِ
كُلِّهِمْ، ثُمَّ بَايَعَهُ الْخَاصَّةُ ثُمَّ كَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ
وَكُتِبَ عَلَى الْمُعْتَزِّ كِتَابٌ أُشْهِدَ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْخَلْعِ
وَالْعَجْزِ وَالْمُبَايَعَةِ لِلْمُهْتَدِي.
وَفِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَجَبٍ هَذَا وَقَعَتْ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ هَائِلَةٌ
وَثَبَتَ فِيهَا الْعَامَّةُ عَلَى نَائِبِهَا سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ طَاهِرٍ وَدَعَوْا إِلَى بَيْعَةِ أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ أَخِي
الْمُعْتَزِّ ; وَذَلِكَ لِعَدَمِ عِلْمِ أَهْلِ بَغْدَادَ بِمَا وَقَعَ
بِسَامَرَّا مِنْ بَيْعَةِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ ابْنِ الْوَاثِقِ، وَقُتِلَ
مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَغَرِقَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ لَمَّا بَايَعَ
النَّاسُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ لِلْمُهْتَدِي بِاللَّهِ فِي سَابِعِ شَعْبَانَ،
وَبَلَغَ أَهْلَ بَغْدَادَ ذَلِكَ، سَكَنُوا وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ
وَاسْتَقَلَّ الْمُهْتَدِي بِالْخِلَافَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ عِنْدَ قَبِيحَةَ أُمِّ
الْمُعْتَزِّ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ، وَجَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ ; كَانَ مِنْ جُمْلَةِ
ذَلِكَ مَا يُقَارِبُ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَمِنَ الزُّمُرُّدِ الَّذِي لَمْ
يُرَ مِثْلُهُ مِقْدَارُ مَكُّوكٍ، وَمِنَ الْحَبِّ الْكِبَارِ مَكُّوكٌ
وَكَيْلَجَةُ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ مِمَّا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ أَيْضًا. وَقَدْ
كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ مُخْتَفِيَةً عِنْدَ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ
ثُمَّ نَزَحَتْ عَنْهُ، فَكَانَتْ
تَدْعُو عَلَيْهِ ; تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَخْزِ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ كَمَا هَتَكَ
سِتْرِي، وَقَتَلَ وَلَدِي وَبَدَّدَ شَمْلِي وَأَخَذَ مَالِي وَغَرَّبَنِي عَنْ
بَلَدِي، وَرَكِبَ الْفَاحِشَةَ مِنِّي. هَذَا وَقَدْ كَانَ الْأَتْرَاكُ قَدْ
طَلَبُوا مِنَ ابْنِهَا الْمُعْتَزِّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ تُصْرَفُ فِي
أَرْزَاقِهِمْ وَضَمِنُوا لَهُ أَنْ يَقْتُلُوا صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ فَلَمْ
يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَطَلَبَ مِنْ أُمِّهِ قَبِيحَةَ - قَبَّحَهَا
اللَّهُ - أَنْ تُقْرِضَهُ ذَلِكَ، فَأَظْهَرَتْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عِنْدَهَا.
ثُمَّ لَمَّا قُتِلَ ابْنُهَا - وَكَانَ مَا كَانَ - ظَهَرَ عِنْدَهَا مِنَ
الْأَمْوَالِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَدْ كَانَ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ فِي كُلِّ
سَنَةٍ مَا يَعْدِلُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِلْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَكَانَ - وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ - خَلِيفَةً صَالِحًا. قَالَ يَوْمًا لِلْأُمَرَاءِ: إِنِّي لَيْسَتْ
لِي أُمٌّ لَهَا مِنَ الْغَلَّاتِ مَا يُقَاوِمُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَلَسْتُ أُرِيدُ إِلَّا الْقُوتَ فَقَطْ، وَلَا أُرِيدُ فَضْلًا عَلَى ذَلِكَ
إِلَّا لِإِخْوَتِي فَإِنَّهُمْ قَدْ مَسَّتْهُمُ الْحَاجَةُ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ أَمَرَ صَالِحُ بْنُ
وَصِيفٍ بِضَرْبِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي كَانَ وَزِيرًا، وَأَبِي
نُوحٍ عِيسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَظْهَرَ
الْإِسْلَامَ، وَكَانَ كَاتِبَ قَبِيحَةَ فَضُرِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
خَمْسَمِائَةِ سَوْطٍ بَعْدَ اسْتِخْلَاصِ أَمْوَالِهِمَا، ثُمَّ طِيفَ بِهِمَا
عَلَى بَغْلَيْنِ مُنَكَّسَيْنِ فَمَاتَا، وَهُمَا كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
عَنْ رِضَا الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى
الْإِنْكَارِ عَلَى صَالِحِ بْنِ
وَصِيفٍ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ.
وَفِي رَمَضَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ أَيْضًا
بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الشَّاكِرِيَّةِ وَالْجُنْدِ
وَغَيْرِهِمْ وَبَيْنَ الْعَامَّةِ وَالرَّعَاعِ فَاجْتَمَعَ مِنَ الْعَامَّةِ
نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَكَانَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ بِالنِّبَالِ
وَالرِّمَاحِ وَالسُّيُوفِ، وَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ انْهَزَمَ مُحَمَّدُ
بْنُ أَوْسٍ وَأَصْحَابُهُ فَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ مَا وَجَدُوا مِنْ أَمْوَالِهِ،
وَكَانَ مِنْهُ شَيْءٌ يُعَادِلُ أَلْفَيْ أَلْفٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى إِخْرَاجِ مُحَمَّدِ بْنِ أَوْسٍ مِنْ بَغْدَادَ
إِلَى أَيْنَمَا أَرَادَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا
طَرِيدًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّاسِ مَرْضِيَّ السِّيرَةِ
بَلْ كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا وَفَاسِقًا شَدِيدًا
وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ بِأَنْ يُنْفَى الْقِيَانُ
وَالْمُغَنِّيُونَ مَنْ سَامَرَّا، وَأَمَرَ بِقَتْلِ السِّبَاعِ وَالنُّمُورِ
الَّتِي فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَالْكِلَابِ الْمُعَدَّةِ لِلصَّيْدِ أَيْضًا،
وَإِبْطَالِ الْمَلَاهِي وَرَدِّ الْمَظَالِمِ، وَأَنْ يُؤْمَرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَجَلَسَ لِلْعَامَّةِ.
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَغَيْرِهَا
مُفْتَرِقَةٌ، ثُمَّ اسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي مُوسَى بْنَ بُغَا
الْكَبِيرِ إِلَى حَضْرَتِهِ ; لِيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنَ
الْأَتْرَاكِ ; لِتَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الْخِلَافَةِ وَاعْتَذَرَ مِنَ
اسْتِدْعَائِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْجِهَادِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ.
ذِكْرُ خَارِجِيٍّ آخَرَ ادَّعَى
أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ظَهَرَ بِالْبَصْرَةِ
وَفِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ بِظَاهِرِ
الْبَصْرَةِ زَعَمَ أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَلَمْ
يَكُنْ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ هَذَا النَّسَبَ، وَإِنَّمَا كَانَ عَبْقَسِيًّا -
مَنْ عَبْدِ الْقَيْسِ - وَاسْمُهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ، وَأُمُّهُ قُرَّةُ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ رَحِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
حَكِيمٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى
الرَّيِّ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ أَيْضًا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ
بِالْبَحْرَيْنِ فَادَّعَى أَنَّهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
فَدَعَا النَّاسَ بِهَجَرَ إِلَى طَاعَتِهِ فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَهْلِهَا، فَوَقَعَ بِسَبَبِهِ قِتَالٌ كَثِيرٌ وَفِتَنٌ كِبَارٌ وَحُرُوبٌ
كَثِيرَةٌ وَمُنْتَشِرَةٌ.
وَلَمَّا خَرَجَ خَرْجَتَهُ هَذِهِ
الثَّانِيَةَ بِظَاهِرِ الْبَصْرَةِ الْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الزَّنْجِ
الَّذِينَ كَانُوا يَكْسَحُونَ السِّبَاخَ فَعَبَرَ بِهِمْ دِجْلَةَ فَنَزَلَ
الدِّينَارِيَّ، وَكَانَ يَزْعُمُ لِبَعْضِ الْجَهَلَةِ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنَّهُ
يَحْيَى بْنُ عُمَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَقْتُولُ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ
وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ حَفِظَ سُوَرًا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ
جَرَى بِهَا لِسَانُهُ لَا يَحْفَظُهَا غَيْرُهُ فِي مُدَّةٍ ; وَهُنَّ "
سُبْحَانَ " وَالْكَهْفُ " وَص " وَأَنَّهُ فَكَّرَ يَوْمًا وَهُوَ
فِي الْبَادِيَةِ إِلَى أَيِّ الْبِلَادِ يَصِيرُ، فَخُوطِبَ مِنْ سَحَابَةٍ أَنْ
يَقْصِدَ الْبَصْرَةَ فَقَصَدَهَا، وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا وَجَدَ أَهْلَهَا
مُفْتَرِقِينَ عَلَى شُعْبَتَيْنِ ; سَعْدِيَّةٍ وَبِلَالِيَّةٍ فَطَمِعَ أَنْ
يَنْضَمَّ إِلَيْهِ إِحْدَاهُمَا فَيَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى الْأُخْرَى فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ، فَارْتَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً
وَانْتَسَبَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى بْنِ زَيْدٍ،
وَكَانَ يَزْعُمُ بِهَا أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ أَصْحَابِهِ، وَأَنَّ
اللَّهَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَهَلَةٌ مِنَ الطَّغَامِ،
وَطَائِفَةٌ مِنْ رَعَاعِ النَّاسِ الْعَوَامِّ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى أَرْضِ الْبَصْرَةِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
فَاجْتَمَعَ مَعَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ عُدَدٌ
يُقَاتِلُونَ بِهَا فَأَتَاهُمْ جَيْشٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَصْرَةِ فَاقْتَتَلُوا
جَمِيعًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي جَيْشِ هَذَا الْخَارِجِيِّ سِوَى ثَلَاثَةِ
أَسْيَافٍ وَأُولَئِكَ الْجَيْشُ مَعَهُمْ عُدَدٌ وَعَدَدٌ وَلَبُوسٌ وَمَعَ هَذَا
هَزَمَ أَصْحَابُ هَذَا الْخَارِجِيِّ ذَلِكَ الْجَيْشَ وَكَانُوا فِي أَرْبَعَةِ
آلَافِ مُقَاتِلٍ ثُمَّ مَضَى نَحْوَ الْبَصْرَةِ بِمَنْ
مَعَهُ فَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ
أَهْلِ جُبَّا فَرَسًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا سَرْجًا وَلَا لِجَامًا، فَأَلْقَى
عَلَيْهَا حَبْلًا وَرَكِبَهَا، وَشَنَقَ حَنَكَهَا بِلِيفٍ، ثُمَّ صَادَرَ
رَجُلًا فَتَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ دِينَارًا
وَأَلْفَ دِرْهَمٍ فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ مَالٍ غَنِمَهُ مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ،
وَأَخَذَ مِنْ آخَرَ ثَلَاثَةَ بَرَاذِينَ، وَأَخَذَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ شَيْئًا
مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَالْأَمْتِعَةِ، فَسَارَ فِي جَيْشِهِ قَلِيلُ سِلَاحٍ
وَخُيُولٍ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جُيُوشٍ مِنْ جِهَةِ نَائِبِ
الْبَصْرَةِ وَقْعَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَهْزِمُهُمْ فِيهَا وَكُلُّ مَا لِأَمْرِهِ
يَقْوَى وَيَتَزَايَدُ أَصْحَابُهُ وَيَعْظُمُ جَيْشُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا
يَتَعَرَّضُ لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَخْذَ أَمْوَالِ
السُّلْطَانِ.
وَقَدِ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوبِ هَزِيمَةً فَظِيعَةً
ثُمَّ تَرَاجَعُوا إِلَيْهِ وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ، ثُمَّ كَرُّوا إِلَى أَهْلِ
الْبَصْرَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا آخَرِينَ،
فَكَانَ لَا يُؤْتَى بِأَحَدٍ مِنَ الْأَسْرَى إِلَّا قَتَلَهُ، ثُمَّ قَوِيَ
أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَافَهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ
إِلَيْهَا مَدَدًا يَكُونُونَ لَهُمْ عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ - هَذَا
الْخَارِجِيِّ قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ رُءُوسُ أَصْحَابِهِ
أَنْ يَهْجُمَ بِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَيَدْخُلُونَهَا عَنْوَةً،
فَهَجَّنَ آرَاءَهُمْ، وَقَالَ: بَلْ نَكُونُ مِنْهَا قَرِيبًا حَتَّى يَكُونُوا
هُمُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَنَا إِلَيْهَا، وَيَخْطُبُونَنَا عَلَيْهَا. وَسَيَأْتِي
مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ،
وَأَمْرِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فِي
السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْجَاحِظُ الْمُتَكَلِّمُ الْمُعْتَزِلِيُّ.
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْفِرْقَةُ الْجَاحِظِيَّةُ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَبُو
عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ بَحْرِ بْنِ مَحْبُوبٍ الْكِنَانِيُّ اللَّيْثِيُّ
الْبَصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْجَاحِظِ ; لِجُحُوظِ عَيْنَيْهِ، وَيُقَالُ لَهُ:
الْحَدَقِيُّ. وَكَانَ شَنِيعَ الْمَنْظَرِ سَيِّئَ الْمَخْبَرِ رَدِيءَ
الِاعْتِقَادِ يُنْسَبُ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَرُبَّمَا جَاوَزَ بِهِ بَعْضُهُمْ
إِلَى الِانْحِلَالِ حَتَّى يُقَالَ فِي الْمَثَلِ: يَا وَيْحَ مَنْ كَفَّرَهُ
الْجَاحِظُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ. وَكَانَ بَارِعًا فَاضِلًا، قَدْ
أَتْقَنَ عُلُومًا كَثِيرَةً، وَصَنَّفَ كُتُبًا جَمَّةً تَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ
ذِهْنِهِ وَجَوْدَةِ تَصَرُّفِهِ. وَمِنْ أَجَلِّ كُتُبِهِ كِتَابُ "
الْحَيَوَانِ "، وَكِتَابُ " الْبَيَانِ وَالتَّبْيِينِ ".
قَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ: وَهُمَا أَحْسَنُ مُصَنَّفَاتِهِ وَأَمْتَعُهَا، وَقَدْ
أَطَالَ تَرْجَمَتَهُ بِحِكَايَاتٍ ذَكَرَهَا عَنْهُ. وَذَكَرَ: أَنَّهُ أَصَابَهُ
الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَحَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنْ
جَانِبِي الْأَيْسَرِ مَفْلُوجٌ، لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ مَا عَلِمْتُ
وَجَانِبِي
الْأَيْمَنُ مُنْقَرَسٌ فَلَوْ مَرَّتْ
بِهِ ذُبَابَةٌ لَأَلِمْتُ، وَبِي حَصَاةٌ وَأَشَدُّ مَا عَلَيَّ سِتٌّ وَتِسْعُونَ
سَنَةً. وَكَانَ يُنْشِدُ:
أَتَرْجُو أَنْ تَكُونَ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَمَا قَدْ كُنْتَ أَيَّامَ الشَّبَابِ
لَقَدْ كَذَبَتْكَ نَفْسُكَ لَيْسَ ثَوْبٌ
دَرِيسٌ كَالْجَدِيدِ مِنَ الثِّيَابِ
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، صَاحِبُ
الْمُسْنَدِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ بِعُلُوٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
هَاشِمٍ الطُّوسِيُّ. وَالْخَلِيفَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ الْمُعْتَزُّ
بِاللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ فِي رَجَبٍ - كَمَا
تَقَدَّمَ - وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْمُلَقَّبُ صَاعِقَةَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ.
الْمُتَكَلِّمُ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْكَرَّامِيَّةُ. وَقَدْ
نُسِبَ إِلَيْهِمْ جَوَازُ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ ; وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ
- بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، عَلَى وَزْنِ جَمَّالٍ - بْنِ
عِرَاقِ بْنِ حُزَابَةَ بْنِ
الْبَرَاءِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السِّجِسْتَانِيُّ الْعَابِدُ، يُقَالُ: إِنَّهُ
مِنْ بَنِي نِزَارٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مُحَمَّدُ بْنُ كِرَامٍ - بِكَسْرِ
الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ - جَمْعُ كَرِيمٍ. وَفَرَّقَ الْبَيْهَقِيُّ
بَيْنَهُمَا، فَجَعَلَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْكَرَّامِيَّةُ - بِفَتْحِ
الْكَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - وَهُوَ الَّذِي سَكَنَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى
أَنْ مَاتَ بِهَا، وَجَعَلَ الْآخَرَ شَيْخًا مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ.
وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْحَاكِمِ، وَالْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ ابْنِ عَسَاكِرَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ كَرَّامٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ وَعَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ
الْحَنْظَلِيِّ السَّمَرْقَنْدِيِّ، سَمِعَ مِنْهُ التَّفْسِيرَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ مَرْوَانَ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ الْمَاكِيَانِيِّ
وَمَالِكِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَرْبٍ وَعَتِيقِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْجُرَشِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ الْأَزْهَرِ النَّيْسَابُورِيِّ
وَأَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُوَيْبَارِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ تَمِيمٍ
الْفَارَيَانِيِّ - وَكَانَا كَذَّابَيْنِ وَضَّاعَيْنِ - وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ إِسْحَاقَ وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ سُفْيَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْقِيرَاطِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ النَّيْسَابُورِيُّ.
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ: أَنَّهُ حُبِسَ فِي حَبْسِ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
فَلَمَّا أَطْلَقَهُ ذَهَبَ إِلَى ثُغُورِ الشَّامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى
نَيْسَابُورَ فَحَبَسَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَطَالَ
حَبْسُهُ وَكَانَ يَتَأَهَّبُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَيَأْتِي إِلَى السَّجَّانِ
فَيَقُولُ: دَعْنِي أَخْرُجْ إِلَى الْجُمُعَةِ. فَيَمْنَعُهُ السَّجَّانُ،
فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ غَيْرِي. وَقَالَ
غَيْرُهُ: أَقَامَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَكَانَ يَجْلِسُ
لِلْوَعْظِ عِنْدَ الْعَمُودِ الَّذِي عِنْدَ مَشْهَدِ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
يَقُولُ: إِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ. فَتَرَكَهُ أَهْلُهَا وَنَفَاهُ
مُتَوَلِّيهَا إِلَى غَوْرِ زُغَرَ فَمَاتَ بِهَا، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: تُوُفِّيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ لَيْلًا وَدُفِنَ بِبَابِ
أَرِيحَا عِنْدَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَلَهُ بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ مِنَ الْأَصْحَابِ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قَدِمَ
مُوسَى بْنُ بُغَا الْكَبِيرِ إِلَى سَامَرَّا فَدَخَلَهَا فِي جَيْشٍ هَائِلٍ
قَدْ عَبَّاهُ مَيْمَنَةً وَمَيْسَرَةً وَقَلْبًا وَجَنَاحَيْنِ فَقَصَدَ دَارَ
الْخِلَافَةِ الَّتِي فِيهَا الْمُهْتَدِي جَالِسٌ لِلْعَامَّةِ لِكَشْفِ
الْمَظَالِمِ وَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ فَتَمَادَى الْإِذْنُ سَاعَةً وَتَأَخَّرَ
عَنْهُمْ فَظَنُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ إِنَّمَا طَلَبَهُمْ
خَدِيعَةً مِنْهُ لِيُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ صَالِحَ بْنَ وَصِيفٍ فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ هَجْمًا فَجَعَلُوا يُرَاطِنُونَهُمْ بِالتُّرْكِيِّ ثُمَّ عَزَمُوا
فَأَقَامُوهُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَانْتَهَبُوا مَا كَانَ فِيهِ ثُمَّ أَخَذُوهُ
مُهَانًا إِلَى دَارٍ أُخْرَى فَجَعَلَ يَقُولُ لِمُوسَى بْنِ بُغَا: مَا لَكَ
وَيْحَكَ ؟! إِنَّى إِنَّمَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ لِأَتَقَوَّى بِكَ عَلَى صَالِحِ
بْنِ وَصِيفٍ فَقَالَ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ احْلِفْ لِي أَنَّكَ لَا تُرِيدُ بِي
خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ، فَحَلَفَ لَهُ الْخَلِيفَةُ فَطَابَتْ أَنْفُسُهُمْ
وَبَايَعُوهُ بَيْعَةً ثَانِيَةً مُشَافَهَةً وَأَخَذُوا عَلَيْهِ الْعُهُودَ
وَالْمَوَاثِيقَ أَنْ لَا يُمَالِئَ صَالِحًا عَلَيْهِمْ وَاصْطَلَحُوا عَلَى
ذَلِكَ ثُمَّ بَعَثُوا إِلَى صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ لِيَحْضُرَهُمْ لِلْمُنَاظَرَةِ
فِي أَمْرِ الْمُعْتَزِّ، وَمَنْ قَتَلَهُ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ مِنَ الْكُتَّابِ
وَغَيْرِهِمْ، فَوَعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ ثُمَّ اجْتَمَعَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ
الْأُمَرَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَخَذَ يَتَأَهَّبُ لِجَمْعِ الْجُيُوشِ
عَلَيْهِمْ ثُمَّ اخْتَفَى مِنْ لَيْلَتِهِ لَا يَدْرِي أَحَدٌ أَيْنَ ذَهَبَ فِي
تِلْكَ السَّاعَةِ فَبَعَثُوا الْمُنَادِيَةَ تُنَادِي عَلَيْهِ فِي أَرْجَاءِ
الْبَلَدِ وَتُهَدِّدُ مَنْ أَخْفَاهُ فَلَمْ يَزَلْ فِي خَفَاءٍ إِلَى أَوَاخِرَ
صَفَرٍ عَلَى مَا
سَنَذْكُرُ. وَرُدَّ سُلَيْمَانُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ إِلَى نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَسُلِّمَ الْوَزِيرُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ إِلَى الْحَسَنِ بْنِ مَخْلَدٍ
الَّذِي كَانَ أَرَادَ صَالِحُ بْنُ وَصِيفٍ قَتْلَهُ مَعَ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ
فَبَقِيَ فِي السِّجْنِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْوِزَارَةِ.
وَلَمَّا أَبْطَأَ خَبَرُ صَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ عَلَى مُوسَى بْنِ بُغَا
وَأَصْحَابِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اخْلَعُوا هَذَا الرَّجُلَ. يَعْنِي
الْخَلِيفَةَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا صَوَّامًا قَوَّامًا لَا
يَشْرَبُ النَّبِيذَ وَلَا يَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ
كَغَيْرِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَلَا يُطَاوِعُكُمُ النَّاسُ عَلَيْهِ وَبَلَغَ
ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا فَجَلَسَ
عَلَى السَّرِيرِ وَاسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ، فَقَالَ: قَدْ
بَلَغَنِي مَا تَمَالَأْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا
خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَأَنَا مُتَحَنِّطٌ وَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى أَخِي
بِوَلَدِي وَهَذَا سَيْفِي وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ بِهِ مَا اسْتَمْسَكَ
قَائِمُهُ بِيَدِي، وَاللَّهِ لَئِنْ سَقَطَ مِنْ شِعْرِي شَعْرَةٌ لَيَهْلِكَنَّ
أَوْ لِيَذْهَبَنَّ بِهَا أَكْثَرُكُمْ أَمَا دِينٌ أَمَا حَيَاءٌ أَمَا رِعَةٌ ؟!
كَمْ يَكُونُ هَذَا الْخِلَافُ عَلَى الْخُلَفَاءِ وَالْإِقْدَامُ وَالْجُرْأَةُ
عَلَى اللَّهِ ؟! سَوَاءٌ عِنْدَكُمْ مَنْ قَصَدَ الْإِبْقَاءَ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ
كَانَ إِذَا بَلَغَهُ هَذَا عَنْكُمْ دَعَا بِأَرْطَالِ الشَّرَابِ فَشَرِبَهَا ;
سُرُورًا بِمَكْرُوهِكُمْ، وَاذْهَبُوا فَانْظُرُوا فِي مَنْزِلِي وَفِي مَنَازِلِ
إِخْوَتِي وَمَنْ يَتَّصِلُ بِي هَلْ فِيهَا مِنْ آلَاتِ الْخِلَافَةِ أَوْ
فُرُشِهَا شَيْءٌ غَيْرَ مَا يَكُونُ فِي بُيُوتِ آحَادِ النَّاسِ، وَيَقُولُونَ:
إِنِّي أَعْلَمُ عِلْمَ صَالِحٍ وَهَلْ هُوَ إِلَّا كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ ؟ فَاذْهَبُوا
فَاعْلَمُوا عِلْمَهُ فَابْلُغُوا شِفَاءَ نُفُوسِكُمْ فِيهِ، وَأَمَّا أَنَا
فَلَسْتُ أَعْلَمُ عِلْمَهُ. قَالُوا: فَاحْلِفْ لَنَا عَلَى ذَلِكَ. قَالَ:
أَمَّا الْيَمِينُ فَإِنِّي أَبْذُلُهَا لَكُمْ،
وَلَكِنِّي أُؤَخِّرُهَا لَكُمْ حَتَّى
تَكُونَ بِحَضْرَةِ الْهَاشِمِيِّينَ وَالْقُضَاةِ وَالْمُعَدَّلِينَ وَأَصْحَابِ
الْمَرَاتِبِ فِي غَدٍ إِذَا صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ. قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ
لَانُوا لِذَلِكَ قَلِيلًا.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ ظَفِرُوا
بِصَالِحِ بْنِ وَصِيفٍ فَقُتِلَ وَجِيءَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ
وَقَدِ انْفَتَلَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ
وَارُوهُ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَسْبِيحِهِ وَذِكْرِهِ، وَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ
مِنْ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ رُفِعَ الرَّأْسُ عَلَى رُمْحٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي
أَرْجَاءِ الْبَلَدِ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ قَتَلَ مَوْلَاهُ. وَمَا زَالَ الْأَمْرُ
مُضْطَرِبًا حَتَّى تَفَاقَمَ الْأَمْرُ وَعَظُمَ الْخَطْبُ.
ذِكْرُ خَلْعِ الْمُهْتَدِي وَوِلَايَةِ الْمُعْتَمِدِ أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ
وَإِيرَادُ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْمُهْتَدِي
لَمَّا بَلَغَ مُوسَى بْنَ بُغَا أَنَّ مُسَاوِرًا الشَّارِيَّ قَدْ عَاثَ
بِتِلْكَ النَّاحِيَةِ رَكِبَ إِلَيْهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ وَمَعَهُ مُفْلِحٌ
وَبَايَكْبَاكُ التُّرْكِيُّ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَمَسَاوِرٌ الْخَارِجِيُّ،
فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ يُعْجِبُهُمْ، وَهَرَبَ مِنْهُمْ
وَأَعْجَزَهُمْ، وَكَانَ قَدْ فَعَلَ قَبْلَ مَجِيئِهِمُ الْأَفَاعِيلَ
الْمُنْكَرَةَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْمُهْتَدِيَ بِاللَّهِ
أَرَادَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْأَتْرَاكِ، فَكَتَبَ إِلَى
بَايَكْبَاكَ أَنْ يَتَسَلَّمَ الْجَيْشَ مِنْ مُوسَى بْنِ بُغَا، وَيَكُونَ هُوَ
الْأَمِيرَ عَلَى النَّاسِ، وَأَنْ يُقْبِلَ بِهِمْ إِلَى سَامَرَّا، فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ
أَقْرَأَهُ مُوسَى بْنَ بُغَا، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى الْمُهْتَدِي، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ وَقَصَدَا إِلَيْهِ بَلَدَ سَامَرَّا، وَتَرَكَا مَا كَانَا فِيهِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُهْتَدِي اسْتَخْدَمَ مِنْ فَوْرِهِ جُنْدًا مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْفَرَاغِنَةِ وَالْأَشْرُوسَنِيَّةِ وَالْأَزْكَشِيَّةِ وَالْأَتْرَاكِ أَيْضًا، وَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ رَجَعَ مُوسَى بْنُ بُغَا إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَأَظْهَرَ بَايَكْبَاكُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، فَدَخَلَ فِي ثَانِيَ عَشَرَ رَجَبٍ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَامِعًا مُطِيعًا، فَلَمَّا أُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَحَوْلَهُ الْأُمَرَاءُ وَالسَّادَةُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، شَاوَرَهُمْ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ فِي الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ مَا بَلَغْتَ، وَقَدْ كَانَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ شَرًّا مِنْ هَذَا وَأَكْثَرَ جُنْدًا، وَلَمَّا قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ وَخَمَدَ صَوْتُ أَصْحَابِهِ. فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ بِضَرْبِ عُنُقِ بَايَكْبَاكَ، ثُمَّ أَلْقَى رَأْسَهُ إِلَى الْأَتْرَاكِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَأَصْبَحُوا مِنَ الْغَدِ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَخِيهِ طُغُوتْيَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ فِيمَنْ مَعَهُ، فَلَمَّا الْتَقَوْا خَامَرَتِ الْأَتْرَاكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَصْحَابِهِمْ، وَصَارُوا أَلْبًا وَاحِدًا عَلَى الْخَلِيفَةِ وَأَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، ثُمَّ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ وَانْهَزَمَ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ وَبِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصُرُوا خَلِيفَتَكُمْ. فَدَخَلَ دَارَ أَحْمَدَ بْنِ جَمِيلٍ صَاحِبِ الْمَعُونَةِ، فَوَضَعَ فِيهَا سِلَاحَهُ وَلَبِسَ الْبَيَاضَ، وَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ
فَيَخْتَفِيَ، فَعَاجَلَهُ أَحْمَدُ
بْنُ خَاقَانَ فِيهَا فَأَخَذَهُ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ، وَرُمِيَ بِسَهْمٍ،
وَطُعِنَ فِي خَاصِرَتِهِ، وَحُمِلَ عَلَى دَابَّةٍ وَخِلْفَهُ سَائِسُ،
وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ وَسَرَاوِيلُ حَتَّى حَصَلَ فِي دَارِ أَحْمَدَ بْنِ خَاقَانَ،
فَجَعَلَ مَنْ هُنَاكَ يَصْفَعُونَهُ وَيَبْزُقُونَ فِي وَجْهِهِ، وَأَخَذُوا
خَطَّهُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَلَّمُوهُ إِلَى رَجُلٍ فَلَمْ يَزَلْ
يَطَأُ خُصْيَتَيْهِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَوُلِدَ فِي
سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ. وَصَلَّى
عَلَيْهِجَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْمُنْتَصِرِ
ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ أَسْمَرَ رَقِيقًا، أَجْلَى، حَسَنَ اللِّحْيَةِ،
أَشْهَبَ، حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ، عَظِيمَ الْبَطْنِ، عَرِيضَ الْمَنْكِبَيْنِ،
قَصِيرًا، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، يُكَنَّى أَبَا عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلَفَاءِ مَذْهَبًا، وَأَجْمَلِهِمْ
طَرِيقَةً، وَأَظْهَرِهِمْ وَرَعًا، وَأَكْثَرِهِمْ عِبَادَةً، وَإِنَّمَا رَوَى
حَدِيثًا وَاحِدًا، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي
هَاشِمِ بْنِ طِبْرَاخَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْفَقِيهِ، عَنِ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ:
قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، مَا لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ ؟ قَالَ: " لِي النُّبُوَّةُ،
وَلَكُمُ الْخِلَافَةُ، بِكُمْ يُفْتَحُ هَذَا الْأَمْرُ، وَبِكُمْ يُخْتَمُ
". وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: " مَنْ أَحَبَّكَ نَالَتْهُ شَفَاعَتِي،
وَمَنْ أَبْغَضَكَ لَا نَالَتْهُ شَفَاعَتِي ".
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ رَجُلًا اسْتَعْدَى الْمُهْتَدِي عَلَى خَصْمِهِ،
فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ، فَأَنْشَأَ الرَّجُلُ يَقُولُ:
حَكَّمْتُمُوهُ فَقَضَى بَيْنَكُمْ أَبْلَجُ مِثْلُ الْقَمَرِ الزَّاهِرِ لَا
يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ
وَلَا يُبَالِي غَبَنَ الْخَاسِرِ
فَقَالَ لَهُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ: أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الرَّجُلُ،
فَأَحْسَنَ اللَّهُ مَقَالَتَكَ، وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي مَا جَلَسْتُ حَتَّى
قَرَأْتُ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ
نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا
وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ: 47 ] قَالَ: فَبَكَى النَّاسُ
حَوْلَهُ. فَمَا رُئِيَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَرَدَ الْمُهْتَدِي الصَّوْمَ مُنْذُ وَلِيَ إِلَى أَنْ
قُتِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ يُحِبُّ الِاقْتِدَاءَ بِمَا سَلَكَهُ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيُّ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ مِنَ الْوَرَعِ
وَالتَّقَشُّفِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَشِدَّةِ الِاحْتِيَاطِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ: كُنَّا جُلُوسًا بِمَكَّةَ وَعِنْدِي
جَمَاعَةٌ وَنَحْنُ نَبْحَثُ فِي النَّحْوِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ، إِذْ وَقَفَ
عَلَيْنَا رَجُلٌ مَجْنُونٌ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَمَا تَسْتَحُونَ اللَّهَ يَا
مَعْدِنَ الْجَهْلِ شُغِلْتُمْ بِذَا وَالنَّاسُ فِي أَعْظَمِ الشُّغْلِ
إِمَامُكُمْ أَضْحَى قَتِيلًا مُجَدَّلًا وَقَدْ أَصْبَحَ الْإِسْلَامُ مُفْتَرِقَ
الشَّمْلِ
وَأَنْتُمْ عَلَى الْأَشْعَارِ وَالنَّحْوِ عُكَّفٌ تَضِجُّونَ بِالْأَصْوَاتِ فِي
قِلَّةِ الْعَقْلِ
قَالَ: فَنَظَرْنَا وَأَرَّخْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَإِذَا الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ
قَدْ قُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَكَانَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِأَرْبَعَ
عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ.
خِلَافَةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ أَحْمَدَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
اللَّهِ وَيُعْرَفُ بِابْنِ فِتْيَانَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ
رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ فِي دَارِ الْأَمِيرِ
يَارْجُوخَ، وَذَلِكَ قَبْلَ خَلْعِ الْمُهْتَدِي بِأَيَّامٍ، ثُمَّ كَانَتْ
بَيْعَةُ الْعَامَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ.
وَلِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ دَخَلَ مُوسَى بْنُ بُغَا، وَمُفْلِحٌ إِلَى سُرَّ
مَنْ رَأَى، فَنَزَلَ مُوسَى فِي دَارِهِ وَسَكَنَ النَّاسُ، وَخَمَدَتِ
الْفِتْنَةُ هُنَالِكَ.
وَأَمَّا صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ فَهُوَ مُحَاصِرٌ
لِلْبَصْرَةِ، وَالْجُيُوشُ الْخَلِيفِيَّةُ فِي وَجْهِهِ دُونَهَا، وَهُوَ فِي
كُلِّ وَقْتٍ يَقْهَرُهَا، وَيَغْنَمُ مَا يَفِدُ إِلَيْهِمْ فِي الْمَرَاكِبِ
مِنَ
الْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا،
وَاسْتَحْوَذَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْأُبُلَّةِ وَعَبَّادَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ
الْبِلَادِ، وَخَافَ مِنْهُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ خَوْفًا شَدِيدًا، وَكُلُّ مَا
لِأَمْرِهِ يَقْوَى، وَلِجُيُوشِهِ تَكْثُرُ، وَلِعَدَدِهِ يَتَزَايَدُ، وَلَمْ
يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ إِلَى انْسِلَاخِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ رَجُلٌ آخَرُ بِالْكُوفَةِ يُقَالُ لَهُ: عَلِيُّ
بْنُ زَيْدٍ الطَّالِبِيُّ، وَجَاءَهُ جَيْشٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَكَسَرَهُ
الطَّالِبِيُّ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ بِالْكُوفَةِ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ،
وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا وَثَبَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ التَّمِيمِيُّ عَلَى نَائِبِ فَارِسَ
الْحَارِثِ بْنِ سِيمَا الشَّرَابِيِّ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ
فَارِسَ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تَغَلَّبَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الطَّالِبِيُّ عَلَى
بِلَادِ الرَّيِّ فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ مُوسَى بْنُ بُغَا فِي شَوَّالٍ مِنْ
عِنْدِ الْمُعْتَمَدِ، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ لِتَوْدِيعِهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ بَيْنَ أَمَاجُورَ
نَائِبِ دِمَشْقَ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَّا قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ
فَارِسٍ وَبَيْنَ ابْنٍ لِعِيسَى ابْنِ الشَّيْخِ، وَهُوَ فِي قَرِيبٍ مَنْ
عِشْرِينَ أَلْفًا، فَهَزَمَهُ أَمَاجُورُ. وَجَاءَتْ مِنَ الْخَلِيفَةِ وِلَايَةٌ
لِابْنِ الشَّيْخِ ; بِلَادَ أَرْمِينِيَّةَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ أَهْلَ الشَّامِ
فَقَبِلَ ذَلِكَ وَانْصَرَفَ عَنْهُمْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى
بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْحُجَّاجِ أَبُو
أَحْمَدَ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَتَعَجَّلَ وَعَجَّلَ السَّيْرَ إِلَى سَامَرَّا،
فَدَخَلَهَا لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلِيفَةُ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ فِي رَجَبٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، الْقُرَشِيُّ الزُّبَيْرِيُّ،
قَاضِي مَكَّةَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَلَهُ كِتَابُ "
أَنْسَابِ قُرَيْشٍ "، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِذَلِكَ، وَكِتَابُهُ
فِي ذَلِكَ حَافِلٌ جِدًّا. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ
وَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْخَطِيبُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى كِتَابِهِ.
وَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً فِي ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَكَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا لَهُ تَرْجَمَةً حَافِلَةً فِي أَوَّلِ شَرْحِنَا "
لِصَحِيحِهِ "، وَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا نُبْذَةً يَسِيرَةً مِنْ ذَلِكَ،
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ بَرْدِزَبَهَ، وَيُقَالُ: بَذْدِزَبَهَ، الْجُعْفِيُّ
مَوْلَاهُمْ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ الْحَافِظُ، إِمَامُ أَهْلِ
الْحَدِيثِ
فِي زَمَانِهِ، وَالْمُقْتَدَى بِهِ
فِي أَوَانِهِ، وَالْمُقَدَّمُ عَلَى سَائِرِ أَضْرَابِهِ وَأَقْرَانِهِ،
وَكِتَابُهُ " الصَّحِيحُ " يُسْتَسْقَى بِقِرَاءَتِهِ الْغَمَامُ،
وَأَجْمَعَ عَلَى قَبُولِهِ وَصِحَّةِ مَا فِيهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ.
وُلِدَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ
عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ
وَهُوَ صَغِيرٌ، فَنَشَأَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَ
الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الْمَكْتَبِ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ وَهُوَ
ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ
سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا. وَحَجَّ وَعَمُرُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً،
فَأَقَامَ بِمَكَّةَ يَطْلُبُ بِهَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بَعْدَ ذَلِكَ
إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي أَمْكَنَهُ
الرِّحْلَةُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ، وَرَوَى عَنْهُ
خَلَائِقُ وَأُمَمٌ.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْفِرَبْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ:
سَمِعَ " الصَّحِيحَ " مِنَ الْبُخَارِيِّ مَعِي نَحْوٌ مَنْ تِسْعِينَ
أَلْفًا، لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرِي.
وَقَدْ رُوِيَ " الْبُخَارِيُّ " مِنْ طَرِيقِ الْفِرَبْرِيِّ - كَمَا
هِيَ رِوَايَةُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ طَرِيقِهِ - وَحَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ،
وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ، وَطَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَخْلَدٍ، وَآخِرُ
مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو طَلْحَةَ مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزْدَوِيُّ
النَّسَفِيُّ،
وَقَدْ تُوُفِّيَ النَّسَفِيُّ هَذَا
فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَوَثَّقَهُ الْأَمِيرُ أَبُو
نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا. وَمِمَّنْ رَوَى عَنِ الْبُخَارِيِّ مُسْلِمٌ فِي غَيْرِ
" الصَّحِيحِ "، وَكَانَ مُسْلِمٌ يُتَلْمِذُ لَهُ وَيُعَظِّمُهُ،
وَرَوَى عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ فِي " جَامِعِهِ "، وَالنَّسَائِيُّ فِي
" سُنَنِهِ " فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ.
وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ ثَمَانِ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَجْتَمِعُ
بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فَيَحُثُّهُ أَحْمَدُ عَلَى الْمُقَامِ
بِبَغْدَادَ، وَيَلُومُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِخُرَاسَانَ.
وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ يَسْتَيْقِظُ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ
نَوْمِهِ فَيُورِي السِّرَاجَ، وَيَكْتُبُ الْفَائِدَةَ تَمُرُّ بِخَاطِرِهِ ثُمَّ
يُطْفِئُ سِرَاجَهُ، ثُمَّ يَقُومُ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى كَانَ يَتَعَدَّدُ
ذَلِكَ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً.
وَقَدْ كَانَ أُصِيبَ بَصَرُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَرَأَتْ أُمُّهُ إِبْرَاهِيمَ
الْخَلِيلَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: يَا هَذِهِ، قَدْ رَدَّ
اللَّهُ عَلَى وَلَدِكِ بَصَرَهُ بِكَثْرَةِ دُعَائِكِ، أَوْ قَالَ: بُكَائِكِ.
فَأَصْبَحَ وَهُوَ بَصِيرٌ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فَكَّرْتُ الْبَارِحَةَ فَإِذَا أَنَا قَدْ كَتَبْتُ فِي
مُصَنَّفَاتِي نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ مُسْنَدَةً. وَكَانَ يَحْفَظُهَا
كُلَّهَا.
وَدَخَلَ مَرَّةً إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَاجْتَمَعَ بِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ
عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِهَا، فَرَكَّبُوا
لَهُ أَسَانِيدَ وَأَدْخَلُوا
إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ الْعِرَاقِ، وَخَلَطُوا الرِّجَالَ فِي
الْأَسَانِيدِ، وَجَعَلُوا مُتُونَ الْأَحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ أَسَانِيدِهَا،
ثُمَّ قَرَءُوهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ، فَرَدَّ كُلَّ حَدِيثٍ إِلَى إِسْنَادِهِ،
وَقَوَّمَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ وَالْأَسَانِيدَ كُلَّهَا، وَمَا تَعَلَّقُوا
عَلَيْهِ بِسَقْطَةٍ فِي إِسْنَادٍ وَلَا فِي مَتْنٍ. وَكَذَلِكَ صَنَعَ بِمِائَةِ
مُحَدِّثٍ فِي أَهْلِ بَغْدَادَ.
وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً
فَيَحْفَظُ مَا فِيهِ مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَخْبَارُ عَنْهُ فِي هَذَا
الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ زَمَانِهِ مِنْ شُيُوخِهِ وَأَقْرَانِهِ ;
فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَهُ. وَقَالَ
عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَمْ يَرَ الْبُخَارِيُّ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَقَالَ
إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ لَاحْتَاجَ النَّاسُ
إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
أَبِي شَيْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: مَا رَأَيْنَا
مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ: لَا أَعْلَمَ مِثْلَهُ. وَقَالَ مَحْمُودُ
بْنُ النَّضْرِ أَبُو سَهْلٍ الشَّافِعِيُّ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ وَالشَّامَ
وَالْحِجَازَ وَالْكُوفَةَ، وَرَأَيْتُ عُلَمَاءَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الدَّغُولِيُّ: كَتَبَ أَهْلُ بَغْدَادَ إِلَى
الْبُخَارِيِّ:
الْمُسْلِمُونَ بِخَيْرٍ مَا حَيِيتَ
لَهُمْ وَلَيْسَ بَعْدَكَ خَيْرٌ حِينَ تُفْتَقَدُ
وَقَالَ الْفَلَّاسُ: كُلُّ حَدِيثٍ لَا يَعْرِفُهُ الْبُخَارِيُّ فَلَيْسَ
بِحَدِيثٍ. وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: هُوَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَكَذَا قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ
فَضَّلَهُ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: رُحِلَ إِلَيَّ مِنْ شَرْقِ الْأَرْضِ
وَغَرْبِهَا، فَمَا رَحَلَ إِلَيَّ مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ مُرَجَّى: فَضْلُ الْبُخَارِيِّ عَلَى
الْعُلَمَاءِ - يَعْنِي فِي زَمَانِهِ - كَفَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ.
وَقَالَ: هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّرَامِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ أَفْقَهُنَا وَأَعْلَمُنَا وَأَغْوَصُنَا
وَأَكْثَرُنَا طَلَبًا.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: هُوَ أَبْصَرُ مِنِّي. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ
الرَّازِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَعْلَمُ مَنْ دَخَلَ الْعِرَاقَ.
وَقَالَ عُبَيْدٌ الْعِجْلِيُّ: رَأَيْتَ
أَبَا حَاتِمٍ وَأَبَا زُرْعَةَ
يَجْلِسَانِ إِلَيْهِ يَسْتَمِعَانِ مَا يَقُولُ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْلِمٌ
يَبْلُغُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ بِكَذَا
وَكَذَا، وَكَانَ دَيِّنًا فَاضِلًا يُحْسِنُ كُلَّ شَيْءٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ يَسْأَلُ الْبُخَارِيَّ عَنِ
الْأَسَامِي وَالْكُنَى وَالْعِلَلِ، وَهُوَ يَمُرُّ فِيهِ كَالسَّهْمِ، كَأَنَّهُ
يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [ الْإِخْلَاصِ: 1 ].
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ الْقَصَّارُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ
جَاءَ إِلَى الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى
أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ،
وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ. ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ كَفَّارَةِ
الْمَجْلِسِ، فَذَكَرَ لَهُ عِلَّتَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ مُسْلِمٌ: لَا
يُبْغِضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ بِالْعِرَاقِ وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي مَعْنَى
الْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ أَعْلَمَ مِنَ الْبُخَارِيِّ.
وَكُنَّا يَوْمًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ، فَقَالَ لِلْبُخَارِيِّ:
جَعَلَكَ اللَّهُ زَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فَاسْتُجِيبَ
لَهُ فِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمَ
بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْفَظَ لَهُ
مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ. وَلَوْ ذَهَبْنَا نُسَطِّرُ مَا
أَثْنَى عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَعِلْمِهِ وَفِقْهِهِ
وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَتَبَحُّرِهِ لَطَالَ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ عَلَى عَجَلٍ
مِنْ أَجْلِ الْحَوَادِثِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي أَوَّلِ شَرْحِ
" الصَّحِيحِ "، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، فِي غَايَةِ الْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالْوَرَعِ
وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا دَارِ الْفَنَاءِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ دَارِ
الْبَقَاءِ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطَالِبُنِي
أَنِّي اغْتَبْتُهُ. فَذُكِرَ لَهُ " التَّارِيخُ " وَمَا ذَكَرَ فِيهِ
مِنَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا مِنْ
هَذَا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:ائْذَنُوا لَهُ،
فَلَبِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَنَحْنُ إِنَّمَا رَوَيْنَا ذَلِكَ رِوَايَةً،
وَلَمْ نَقُلْهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِنَا.
وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
رَكْعَةً، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ
خَتْمَةً، وَكَانَتْ لَهُ جِدَةٌ وَمَالٌ جَيِّدٌ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا
وَجَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّدَقَةَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا
وَعَلَانِيَةً، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، مُسَدَّدَ الرَّمْيَةِ، شَرِيفَ
النَّفْسِ ; بَعَثَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَاطِينِ لِيَأْتِيَهُ حَتَّى يَسْمَعَ
أَوْلَادُهُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، إِنْ
كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ذَلِكَ فَهَلُمُّوا إِلَيَّ، وَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ
إِلَيْهِمْ - وَهُوَ خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ، نَائِبُ الظَّاهِرِيَّةِ
بِبُخَارَى - فَبَقِيَ فِي نَفْسِ الْأَمِيرِ مِنْ ذَلِكَ ; فَاتَّفَقَ أَنْ
جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ مِنْ نَيْسَابُورَ
بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ بِأَنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ - وَكَانَ
وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ الْبُخَارِيِّ
فِي ذَلِكَ كَلَامٌ، وَصَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابَ " خَلْقِ
أَفْعَالِ الْعِبَادِ " - فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ السَّمَاعِ
مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَهُ جِدًّا، وَحِينَ رَجَعَ
إِلَيْهِمْ نَثَرُوا عَلَى رَأْسِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَوْمَ دَخَلَ
بُخَارَى عَائِدًا إِلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ
لَهُ مَجْلِسُ الْإِمْلَاءِ
بِجَامِعِهَا، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنَ الْأَمِيرِ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ
بِنَفْيِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَدَعَا عَلَى خَالِدِ بْنِ
أَحْمَدَ، فِلَمْ يَمْضِ شَهْرٌ حَتَّى أَمَرَ ابْنُ طَاهِرٍ بِأَنْ يُنَادَى
عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى أَتَانٍ، وَزَالَ مُلْكُهُ وَسُجِنَ فِي
بَغْدَادَ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَاعِدَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا
ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ شَدِيدٍ. فَنَزَحَ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى
بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: خَرْتَنْكُ. عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ
فَنَزَلَ عِنْدَ أَقَارِبَ لَهُ بِهَا، وَجَعَلَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ
إِلَيْهِ حِينَ رَأَى الْفِتَنَ ; كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:وَإِذَا أَرَدْتَ
بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ.
ثُمَّ اتَّفَقَ مَرَضُهُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ
الْفِطْرِ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ السَّبْتِ، عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بَعْدَ الظُّهْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي
سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ
بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَفْقَ مَا أَوْصَى بِهِ، وَحِينَ
دُفِنَ فَاحَتْ مِنْ قَبْرِهِ رَائِحَةُ غَالِيَةٍ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ،
فَدَامَ ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ عَلَتْ سَوَارٍ بَيْضٌ مُسْتَطِيلَةٌ بِحِذَاءِ
قَبْرِهِ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثِنْتَيْنِ
وَسِتِّينَ سَنَةً.
وَقَدْ تَرَكَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَهُ عِلْمًا نَافِعًا لِجَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ، فَعَمَلُهُ فِيهِ لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا
أَسْدَاهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِي الْحَيَاةِ ; وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ
إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، مِنْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَشَرْطُهُ فِي " صَحِيحِهِ
" هَذَا أَعَزُّ مِنْ شَرْطِ كُلِّ كِتَابٍ صُنِّفَ فِي " الصَّحِيحِ
"، لَا يُوَازِيهِ فِيهِ غَيْرُهُ، لَا " صَحِيحُ مُسْلِمٍ " وَلَا
غَيْرُهُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ مِنَ الشُّعَرَاءِ:
صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ لَوْ أَنْصَفُوهُ لَمَا خُطَّ إِلَّا بِمَاءِ الذَّهَبْ
هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالْعَمَى هُوَ السَّدُ بَيْنَ الْفَتَى
وَالْعَطَبْ
أَسَانِيدُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ أَمَامَ مُتُونٍ كَمِثْلِ الشُّهُبْ
بِهَا قَامَ مِيزَانُ دِينِ الرَّسُولِ وَدَانَ بِهِ الْعُجْمُ بَعْدَ الْعَرَبْ
حِجَابٌ مِنَ النَّارِ لَا شَكَّ فِيهِ تَمَيَّزَ بَيْنَ الرِّضَا وَالْغَضَبْ
وَسِتْرٌ رَقِيقٌ إِلَى الْمُصْطَفَى وَنَصٌّ مُبِينٌ لِكَشْفِ الرِّيَبْ
فَيَا عَالِمًا أَجْمَعَ الْعَالِمُونَ عَلَى فَضْلِ رُتْبَتِهِ فِي الرُّتَبْ
سَبَقْتَ الْأَئِمَّةَ فِي مَا جَمَعْتَ وَفُزْتَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْقَصَبْ
نَفَيْتَ الضَّعِيفَ مِنَ النَّاقِلِينَ وَمَنْ كَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبْ
وَأَبْرَزْتَ فِي حُسْنِ تَرْتِيبِهِ وَتَبْوِيبِهِ عَجَبًا لِلْعَجَبْ
فَأَعْطَاكَ مَوْلَاكَ مَا تَشْتَهِيهِ وَأَجْزَلَ حَظَّكَ فِيمَا وَهَبْ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ لِيَعْقُوبَ بْنِ
اللَّيْثِ بَلْخَ وَطَخَارِسْتَانَ وَمَا يَلِي ذَلِكَ مِنْ كَرْمَانَ وَسَجِسْتَانَ
وَالسِّنْدِ وَغَيْرِهَا.
وَفِي صَفَرٍ مِنْهَا عَقَدَ الْمُعْتَمِدُ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى
الْكُوفَةِ وَطَرِيقِ مَكَّةَ وَالْحَرَمَيْنِ وَالْيَمَنِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ
فِي رَمَضَانَ نِيَابَةَ بَغْدَادَ وَالسَّوَادِ وَوَاسِطَ وَكُوَرِ دِجْلَةَ وَالْبَصْرَةِ
وَالْأَهْوَازِ وَفَارِسَ، وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَفِيهَا تَوَاقَعَ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَصَاحِبُ الزَّنْجِ فِي أَرَاضِي
الْبَصْرَةِ فَهَزَمَهُ سَعِيدٌ الْحَاجِبُ وَاسْتَنْقَذَ مِنْ يَدِهِ خَلْقًا
مِنَ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ، وَاسْتَرْجَعَ مِنْهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَأَذَلَّ الزِّنْجَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ وَالْمَذَلَّةِ. ثُمَّ إِنَّ الزِّنْجَ
بَيَّتُوا سَعِيدًا وَجَيْشَهُ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَيُقَالُ:
إِنَّ سَعِيدَ بْنَ صَالِحٍ قُتِلَ أَيْضًا. ثُمَّ الْتَقَى مَعَ مَنْصُورِ بْنِ
جَعْفَرٍ الْخَيَّاطِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَهَزَمَهُمْ هَذَا الْخَارِجِيُّ
صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ طَالِبِيٌّ، وَهُوَ كَاذِبٌ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا ظُفِرَ بِبَغْدَادَ - بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ:
بِرْكَةُ زَلْزَلٍ - بِرَجُلٍ خَنَّاقٍ قَدْ قَتَلَ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ،
فَحُمِلَ إِلَى الْمُعْتَمِدِ فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأَلْفَيْ سَوْطٍ
وَأَرْبَعِمِائَةِ أَرْزَنَ فَلَمْ
يَمُتْ حَتَّى ضَرَبَ الْجَلَّادُونَ عَلَى أُنْثَيَيْهِ بِخَشَبِ الْعُقَابَيْنِ فَمَاتَ،
وَرُدَّ إِلَى بَغْدَادَ وَصُلِبَ هُنَاكَ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ جُثَّتَهُ.
وَفِي لَيْلَةِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَسَفَ
الْقَمَرُ وَغَابَ أَكْثَرُهُ، وَفِي صَبِيحَةِ هَذَا الْيَوْمِ دَخَلَ جَيْشُ
الْخَبِيثِ إِلَى الْبَصْرَةِ قَهْرًا، فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا
كَثِيرًا وَهَرَبَ نَائِبُهَا بُغْرَاجُ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَحْرَقَتِ الزِّنْجُ
جَامِعَ الْبَصْرَةِ وَدُورًا كَثِيرَةً وَانْتَهَبُوهَا، ثُمَّ نَادَى فِيهِمْ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الْمُهْلَّبِيُّ أَحَدُ أَصْحَابِ الْخَارِجِيِّ: مَنْ
أَرَادَ الْأَمَانَ فَلْيَحْضُرْ. فَاجْتَمَعَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا،
فَرَأَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ فُرْصَةً فَغَدَرَ بِهِمْ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ،
فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّاذُّ، كَانَتِ الزِّنْجُ تُحِيطُ بِالْجَمَاعَةِ
مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: كِيلُوا - وَهِيَ
الْإِشَارَةُ بَيْنَهُمْ إِذَا أَرَادُوا قَتْلَ أَحَدٍ - فَيَحْمِلُونَ
عَلَيْهِمْ بِالسُّيُوفِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا تَشَهُّدَ أُولَئِكَ وَضَجِيجَهُمْ
عِنْدَ الْقَتْلِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَهَكَذَا
كُلُّ مَحَلَّةٍ مِنْ مَحَالِّ الْبَصْرَةِ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَهَرَبَ
النَّاسُ مِنْهُمْ كُلَّ مَهْرَبٍ، وَحَرَقُوا الْكَلَأَ مِنَ الْجَبَلِ إِلَى
الْجَبَلِ، فَحَرَقَتِ النَّارُ مَا وَجَدَتْ مِنْ شَيْءٍ ; مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ
بَهِيمَةٍ أَوْ أَثَاثٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَحْرَقُوا الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ
أَيْضًا، وَقَدْ قُتِلَ فِي هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَعْيَانِ
وَالْأُدَبَاءِ وَالْفُضَلَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ هَذَا الْخَبِيثُ قَدْ أَوْقَعَ بِأَهْلِ
فَارِسَ وَقْعَةً عَظِيمَةً، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَدْ
جَاءَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ وَقَدِ اتَّسَعُوا بَعْدَ الضِّيقِ
فَحَسَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مَنْ سَمِعَهُ يَقُولُ:
دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَخُوطِبْتُ فَقِيلَ
لِي: إِنَّمَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ
خُبْزَةٌ تَأْكُلُهَا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَإِذَا انْكَسَرَ نِصْفُ الرَّغِيفِ
خَرِبَتِ الْبَصْرَةُ. فَأَوَّلْتُ ذَلِكَ بِانْكِسَافِ الْقَمَرِ. وَقَدْ كَانَ
هَذَا شَائِعًا فِي أَصْحَابِهِ حَتَّى وَقَعَ الْأَمْرُ طِبْقَ ذَلِكَ، وَلَا
شَكَّ أَنَّ هَذَا كَانَ مَعَهُ شَيْطَانٌ يُخَاطِبُهُ، كَمَا كَانَ يَأْتِي
شَيْطَانُ مُسَيْلِمَةَ إِلَى مُسَيْلِمَةَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا أَوْقَعَ أَصْحَابُهُ مِنَ الزَّنْجِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَوْقَعُوا
بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ لِمَنْ مَعَهُ: إِنِّي صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
دَعَوْتُ اللَّهَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَرُفِعَتْ لِي بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ وَرَأَيْتُ أَهْلَهَا يُقَتَّلُونَ، وَرَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ
تُقَاتِلُ مَعَ أَصْحَابِي، وَإِنِّي لَمَنْصُورٌ عَلَى النَّاسِ،
وَالْمَلَائِكَةُ تُقَاتِلُ مَعِي، وَتُثَبِّتُ جُيُوشِي، وَتُؤَيِّدُنِي فِي
حُرُوبِي.
وَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ الْعَلَوِيَّةُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْبَصْرَةِ
انْتَسَبَ حِينَئِذٍ إِلَى يَحْيَى بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ
بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ يَحْيَى بْنَ زَيْدٍ لَمْ يُعْقِبْ إِلَّا بِنْتًا
مَاتَتْ، وَهِيَ تَرْضَعُ، فَقَبَّحَ اللَّهُ هَذَا اللَّعِينَ، مَا أَكْذَبَهُ
وَأَفْجَرَهُ وَأَغْدَرَهُ!
وَفِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ وَجَّهَ الْخَلِيفَةُ مِنْ سَامَرَّا جَيْشًا
كَثِيفًا مَعَ الْأَمِيرِ مُحَمَّدٍ الْمَعْرُوفِ بِالْمُوَلَّدِ لِقِتَالِ
صَاحِبِ الزَّنْجِ فَقَبَضَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ أَحْمَدَ
الْبَاهِلِيِّ الَّذِي كَانَ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَى أَرْضِ الْبَطَائِحِ وَأَخَافَ
السُّبُلَ.
وَفِيهَا خَالَفَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ السُّلْطَانَ بِأَرْضِ فَارِسَ
وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا.
وَفِيهَا وَثَبَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ: بَسِيلُ الصَّقْلَبِيُّ.
عَلَى مَلِكِ الرُّومِ مِيخَائِيلَ بْنِ تَوْفِيلَ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى مَمْلَكَةِ الرُّومِ، وَقَدْ كَانَ لِمِيخَائِيلَ فِي
مُلْكِ الرُّومِ أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ
سَنَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ بْنِ يَزِيدَ.
صَاحِبُ الْجُزْءِ الْمَشْهُورِ الْمَرْوِيِّ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ بِعَشْرِ
سِنِينَ، وَقِيلَ: بِسَبْعٍ. وَكَانَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ سَمَّاهُمْ بِأَسْمَاءِ
الْعَشَرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ وَثَّقَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ
فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ
وَسَبْعِ سِنِينَ.
زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ الطَّائِيُّ. وَالرُّؤَاسِيُّ، ذَبَحَهُمَا الزِّنْجُ فِي
جُمْلَةِ مَنْ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَمَا قَدَّمْنَا قِصَّتَهُمْ -
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ - وَمَا قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَحِمَهُمُ
اللَّهُ. وَعَلِيُّ بْنُ خُشْرَمٍ،
وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ; أَحَدُ مَشَايِخِ مُسْلِمٍ الَّذِينَ يُكْثِرُ
عَنْهُمْ.
وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ أَبُو الْفَضْلِ الرِّيَاشِيُّ، النَّحْوِيُّ
اللُّغَوِيُّ، كَانَ عَالِمًا بِأَيَّامِ الْعَرَبِ وَالسِّيَرِ، وَكَانَ كَثِيرَ
الِاطِّلَاعِ، ثِقَةً عَالِمًا، رَوَى عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ
وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا. قُتِلَ الرِّيَاشِيُّ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، قَتَلَهُ الزَّنْجُ فِيمَنْ قَتَلُوا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "، وَحَكَى عَنْهُ عَنِ الْأَصْمَعِيِّ
أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ بِنَا أَعْرَابِيٌّ يَنْشُدُ ابْنَهُ، فَقُلْنَا لَهُ:
صِفْهُ لَنَا. فَقَالَ: كَأَنَّهُ دُنَيْنِيرٌ. فَقُلْنَا: لَمْ نَرَهُ. فَلَمْ
نَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ أَسَيِّدًا كَأَنَّهُ جُعَلٌ.
فَقُلْنَا: لَوْ سَأَلْتَنَا عَنْ هَذَا لَأَرْشَدْنَاكَ، إِنَّهُ مُنْذُ
الْيَوْمِ يَلْعَبُ هَاهُنَا مَعَ الْغِلْمَانِ. ثُمَّ أَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ:
نِعْمَ ضَجِيعُ الْفَتَى إِذَا بَرَدَ الْ لَيْلُ سُحَيْرًا وَقَرْقَفَ الصَّرِدُ
زَيَّنَهَا اللَّهُ فِي الْفُؤَادِ كَمَا
زُيِّنَ فِي عَيْنِ وَالِدٍ وَلَدُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَقَدَ
الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ لِأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى دِيَارِ
مُضَرَ وَقِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمِ وَجَلَسَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلَّ
رَبِيعٍ الْآخَرِ، فَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ وَعَلَى مُفْلِحٍ، وَرَكِبَا نَحْوَ
الْبَصْرَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي عَدَدٍ وَعُدَدٍ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَقُتِلَ مُفْلِحٌ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، أَصَابَهُ
سَهْمٌ بِلَا نَصْلٍ فِي صَدْرِهِ، فَأَصْبَحَ مَيِّتًا، وَحُمِلَتْ جُثَّتُهُ
إِلَى سَامَرَّا وَدُفِنَ بِهَا.
وَفِيهَا أُسِرَ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَحْرَانِيُّ ; أَحَدُ أُمَرَاءِ
صَاحِبِ الزَّنْجِ الْكِبَارِ، وَحُمِلَ إِلَى سَامَرَّا، فَضُرِبَ بَيْنَ يَدِيِ
الْمُعْتَمِدِ مِائَتَيْ سَوْطٍ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مِنْ
خِلَافٍ، ثُمَّ خُبِطَ بِالسُّيُوفِ ثُمَّ ذُبِحَ ثُمَّ أُحْرِقَ، وَكَانَ
الَّذِينَ أَسَرُوهُ جَيْشَ أَبِي أَحْمَدَ فِي وَقْعَةٍ هَائِلَةٍ مَعَ
الزَّنْجِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُ صَاحِبَ الزَّنْجِ
أَسِفَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ خُوطِبْتُ فِيهِ، فَقِيلَ لِي: قَتْلُهُ
كَانَ خَيْرًا لَكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ شَرِهًا يُخْفِي مِنَ الْمَغَانِمِ
خِيَارَهَا. وَقَدْ كَانَ هَذَا اللَّعِينُ - أَعْنِي صَاحِبَ الزَّنْجِ
الْمُدَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ
النُّبُوَّةُ فَخِفْتُ أَنْ لَا أَقُومَ بِأَعْبَائِهَا، فَلَمْ أَقْبَلْهَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا وَصَلَ
سَعِيدُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَاهِلِيُّ إِلَى بَابِ السُّلْطَانِ، فَضُرِبَ
سَبْعَمِائَةِ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ صُلِبَ.
وَفِيهَا قُتِلَ قَاضٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ صَاحِبِ
الزَّنْجِ عِنْدَ بَابِ الْعَامَّةِ بِسَامَرَّا.
وَفِيهَا رَجَعَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاصِلٍ إِلَى طَاعَةِ السُّلْطَانِ، وَحَمَلِ
خَرَاجَ فَارِسَ وَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ هُنَاكَ، وَاسْتَقَلَّتْ عَلَى
السَّدَادِ.
وَفِي أَوَاخِرِ رَجَبٍ كَانْتْ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ وَبَيْنَ الزَّنْجِ
وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ اسْتَوْخَمَ
أَبُو أَحْمَدَ مَنْزِلَهُ، فَتَحَيَّزَ إِلَى وَاسِطَ فَنَزَلهَا فِي أَوَائِلِ
شَعْبَانَ، فَوَقَعَتْ هُنَاكَ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ وَهَدَّةٌ عَظِيمَةٌ،
تَهَدَّمَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ مِنَ النَّاسِ نَحْوٌ مَنْ
عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي النَّاسِ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ
وَسَامَرَّا وَوَاسِطَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ. وَحَصَلَ لِلنَّاسِ
بِبَغْدَادَ دَاءٌ يُقَالُ لَهُ: الْقِفَاعُ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ، أُخِذَ رَجُلٌ مِنْ
بَابِ الْعَامَّةِ بِسَامَرَّا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ يَسُبُّ السَّلَفَ، فَضُرِبَ
أَلْفَ سَوْطٍ حَتَّى مَاتَ.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَامِنِهِ تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ يَارْجُوخُ، فَصَلَّى
عَلَيْهِ أَخُو الْخَلِيفَةِ أَبُو عِيسَى وَحَضَرَهُ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَمِدِ
عَلَى اللَّهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ مُوسَى بْنِ بُغَا وَبَيْنَ أَصْحَابِ
الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ
بِبِلَادِ خُرَاسَانَ فَهَزَمَهُمْ
مُوسَى بْنُ بُغَا هَزِيمَةً فَظِيعَةً.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ وَبَيْنَ مَسَاوِرٍ
الْخَارِجِيِّ، فَأَسَرَ مَسْرُورٌ مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُتَقَدِّمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ بُدَيْلٍ.
وَأَحْمَدُ بْنُ حَفْصٍ.
وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَطَّانُ.
وَأَحْمَدُ بْنُ الْفُرَاتِ.
وَحَمِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَنْجَرَ، صَاحِبُ الْمُسْنَدِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ.
وَيَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ رَجَعَ أَبُو
أَحْمَدَ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ مِنْ وَاسِطَ إِلَى سَامَرَّا، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ
عَلَى حَرْبِ الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ مُحَمَّدًا الْمُلَقَّبَ
بِالْمَوْلَّدِ، وَكَانَ شُجَاعًا شَهْمًا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى كَنْجُورَ نَائِبِ الْكُوفَةِ جَمَاعَةً مِنَ
الْقُوَّادِ فَذَبَحُوهُ، وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ، فَإِذَا
هُوَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِيهَا تَغَلَّبَ رِجْلٌ جَمَّالٌ يُقَالُ لَهُ: شَرْكَبُ. عَلَى مَدِينَةِ
مَرْوَ فَانْتَهَبَهَا مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ، وَتَفَاقَمَ أَمْرُهُ
هُنَاكَ.
وَلِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تَوَجَّهَ مُوسَى بْنُ بُغَا
الْكَبِيرُ مِنْ سَامَرَّا لِحَرْبِ الْخَبِيثِ، وَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ
الْمُعْتَمِدُ لِتَوْدِيعِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ عِنْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهُ.
وَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ نَائِبًا
عَلَيْهَا ; وَلِيَكُونَ عَوْنًا لِمُوسَى بْنِ بُغَا عَلَى حَرْبِ صَاحِبِ
الزَّنْجِ الْخَبِيثِ، لَعَنَهُ اللَّهُ، فَهَزَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مُفْلِحٍ جَيْشًا لِلْخَبِيثِ، وَقَتَلَ مِنَ الزَّنْجِ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَأَسَرَ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْهُمْ، وَأَرْعَبَهُمْ إِرْعَابًا بَلِيغًا
بِحَيْثُ لَمْ يَتَجَاسَرُوا عَلَى مُوَافَقَتِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَقَدْ
حَرَّضَهُمُ الْخَبِيثُ كُلَّ التَّحْرِيضِ فَلَمْ يَنْجَعْ ذَلِكَ فِيهِمْ.
ثُمَّ تَوَاقَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ مُفْلِحٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيُّ، وَهُوَ مُقَدَّمُ جُيُوشِ
صَاحِبِ الزَّنْجِ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ شَرْحُهَا، ثُمَّ كَانَتِ
الدَّائِرَةُ عَلَى الزَّنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فَرَجَعَ
عَلِيُّ بْنُ أَبَانٍ إِلَى الْخَبِيثِ مَفْلُولًا مَقْهُورًا مَذْمُومًا
مَدْحُورًا، وَبَعَثَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُفْلِحٍ بِالْأُسَارَى إِلَى
سَامَرَّا، فَبَادَرَ إِلَيْهِمُ الْعَامَّةُ فَقَتَلُوا أَكْثَرَهُمْ،
وَسَلَبُوهُمْ.
وَفِيهَا تَدَنَّى مَلِكُ الرُّومِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى بِلَادِ
سُمَيْسَاطَ ثُمَّ إِلَى مَلَطْيَةَ فَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا فَهَزَمُوهُ،
وَقَتَلُوا بِطْرِيقَ الْبَطَارِقَةِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ، وَرَجَعَ إِلَى
بِلَادِهِ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ.
وَفِيهَا دَخَلَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى نَيْسَابُورَ فَظَفِرَ
بِالْخَارِجِيِّ الَّذِي كَانَ بِهَرَاةَ يَنْتَحِلُ الْخِلَافَةَ مُنْذُ
ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَقَتَلَهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ عَلَى رُمْحٍ، وَطِيفَ بِهِ فِي
الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ، وَمَعَهُ رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا ذَلِكَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ،
خَطِيبُ
دِمَشْقَ وَإِمَامُهَا وَعَالِمُهَا، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ الْمُفِيدَةُ، مِنْهَا الْمُتَرْجَمُ فِيهِ عُلُومٌ غَزِيرَةٌ وَفَوَائِدُ كَثِيرَةٌ. وَأَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ السَّهْمِيُّ. وَحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الشَّاعِرُ. وَمَحْمُودُ بْنُ آدَمَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ
وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا وَقَعَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا حَتَّى أَجْلَى
أَكْثَرَ أَهْلِ الْبُلْدَانِ مِنْهَا يَنْتَجِعُونَ غَيْرَهَا، وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ
أَحَدٌ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ، حَتَّى ارْتَحَلُوا إِلَى
الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَخَرَجَ نَائِبُ مَكَّةَ مِنْهَا،
وَبَلَغَ كُرُّ الشَّعِيرِ بِبَغْدَادَ مِائَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا،
وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ شُهُورًا.
وَفِيهَا قَتَلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ الْمُسْتَحْوِذُ عَلَى الْبَصْرَةِ عَلِيَّ
بْنَ زَيْدٍ صَاحِبَ الْكُوفَةِ.
وَفِيهَا أَخَذَتِ الرُّومُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ لُؤْلُؤَةَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْمَذْكُورَ
قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ.
وَمَالِكُ بْنُ
طَوْقٍ، الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ
رَحْبَةُ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ.
وَحُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّادِيُّ، الطَّبِيبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي
عَرَّبَ كِتَابَ إِقْلِيدِسَ، وَحَرَّرَهُ بَعْدَهُ ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ
وَعَرَّبَ حُنَيْنٌ كِتَابَ " الْمَجَسْطِيِّ " أَيْضًا، وَغَيْرَ
ذَلِكَ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ مِنْ لُغَةِ الْيُونَانِ إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ،
وَكَانَ الْمَأْمُونُ شَدِيدَ الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ جَدًّا، وَكَذَلِكَ جَعْفَرٌ
الْبَرْمَكِيُّ قَبْلَهُ، وَلَحُنَيْنٍ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الطِّبِّ،
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ مَسَائِلُ حُنَيْنٍ وَكَانَ بَارِعًا فِي فَنِّهِ جِدًّا،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا انْصَرَفَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ بِلَادِ الدَّيْلَمِ إِلَى
طَبَرِسْتَانَ وَأَحْرَقَ مَدِينَةَ شَالُوسَ ; لِمُمَالَأَتِهِمْ يَعْقُوبَ بْنِ
اللَّيْثِ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا قَتَلَ مَسَاوِرٌ الْخَارِجِيُّ يَحْيَى بْنَ حَفْصٍ الَّذِي كَانَ يَلِي
طَرِيقَ خُرَاسَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ مَسْرُورٌ
الْبَلْخِيُّ، ثُمَّ تَبِعَهُ أَبُو أَحْمَدَ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ، فَتَنَحَّى
مَسَاوِرٌ فَلَمْ يُلْحَقْ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ ابْنِ وَاصِلٍ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى فَارِسَ
وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُفْلِحٍ، فَكَسَرَهُ ابْنُ وَاصِلٍ وَأَسَرَهُ،
وَقَتَلَ طَاشْتُمُرَ، وَاصْطَلَمَ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ مَعَهُمَا، فَلَمْ
يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا الْيَسِيرُ، ثُمَّ سَارَ ابْنُ وَاصِلٍ إِلَى وَاسِطَ
يُرِيدُ حَرْبَ مُوسَى بْنِ بُغَا، فَرَجَعَ مُوسَى بْنُ بُغَا إِلَى بَابِ
السُّلْطَانِ، وَسَأَلَ أَنْ يُعْفَى مِنْ نِيَابَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ لِمَا
رَأَى مِنْ كَثْرَةِ الْمُتَغَلِّبِينَ بِهَا، فَعُزِلَ عَنْهَا، وَوَلِيَ ذَلِكَ
أَبُو أَحْمَدَ أَخُو الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَمِدِ.
وَفِيهَا سَارَ أَبُو السَّاجِ
لِحَرْبِ الزَّنْجِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَسَرَتْهُمُ الزَّنْجُ
وَدَخَلُوا الْأَهْوَازَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا وَحَرَّقُوا
مَنَازِلَهُمْ، ثُمَّ صُرِفَ أَبُو السَّاجِ عَنْ نِيَابَةِ الْأَهْوَازِ وَحَرْبِ
الزَّنْجِ، وَوَلِيَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سِيمَا.
وَفِيهَا تَجَهَّزَ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ فِي جَيْشٍ لِقِتَالِ الزَّنْجِ
أَيْضًا.
وَفِيهَا وَلَّى الْخَلِيفَةُ نَصْرَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ السَّامَانِيَّ
مَا وَرَاءَ نَهْرِ بَلْخَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
مِنْهَا.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَصَدَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ إِلَى
ابْنِ وَاصِلٍ، فَالْتَقَيَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَهَزَمَهُ يَعْقُوبُ، وَفَلَّ
عَسْكَرَهُ، وَأَسَرَ خَالَهُ، وَطَائِفَةً مِنْ حَرَمِهِ، وَأَخَذَ مِنْ
أَمْوَالِهِ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَتَلَ مَنْ
كَانَ يُمَالِئُهُ وَيَنْصُرُهُ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وأَطَّدَ تِلْكَ
النَّاحِيَةَ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَلِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَلَّى الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ وَلَدَهُ جَعْفَرًا الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ،
وَسَمَّاهُ الْمُفَوِّضَ إِلَى اللَّهِ، وَوَلَّاهُ الْمَغْرِبَ وَضَمَّ إِلَيْهِ
مُوسَى بْنَ بُغَا، وَوَلَّاهُ إِفْرِيقِيَّةَ، وَمِصْرَ، وَالشَّامَ،
وَالْجَزِيرَةَ، وَالْمَوْصِلَ وَأَرْمِينِيَّةَ، وَطَرِيقَ خُرَاسَانَ وَغَيْرَ
ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ جَعْفَرٍ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ ابْنِ
الْمُتَوَكِّلِ، وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ، وَوَلَّاهُ الْمَشْرِقَ
وَضَمَّ إِلَيْهِ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، وَوَلَّاهُ بَغْدَادَ وَالسَّوَادَ،
وَالْكُوفَةَ، وَطَرِيقَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَالْيَمَنَ، وَكَسْكَرَ،
وَكُوَرَ دِجْلَةَ، وَالْأَهْوَازَ، وَفَارِسَ، وَأَصْبَهَانَ، وَقُمَّ،
وَالْكَرْخَ، وَالدِّينَوَرَ، وَالرِّيَّ، وَزَنْجَانَ، وَالسِّنْدَ، وَكَتَبَ
بِذَلِكَ مُكَاتَبَاتٍ وَقُرِئَتْ فِي الْآفَاقِ، وَعُلِّقَتْ مِنْهَا نُسْخَةٌ
بِالْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ
بْنُ إِسْحَاقَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّهَاوِيُّ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ.
وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ بِمَكَّةَ.
وَدَاودُ بْنُ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيُّ.
وَشُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَاثِقِ، أَخُو الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ.
وَأَبُو شُعَيْبٍ السُّوسِيُّ.
وَأَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَعَلِيُّ بْنُ إِشْكَابَ. وَأَخُوهُ
مُحَمَّدٌ.
وَمُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ.
صَاحِبُ " الصَّحِيحِ "، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَلَى سَبِيلِ
الِاخْتِصَارِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ
هُوَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُشَيْرِيُّ
النَّيْسَابُورِيُّ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، صَاحِبُ
" الصَّحِيحِ " الَّذِي هُوَ تِلْوَ " الصَّحِيحِ "
لِلْبُخَارِيِّ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَبَ الْمَغَارِبَةُ، وَأَبُو
عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيُّ شَيْخُ الْحَاكِمِ النَّيْسَابُورِيِّ مِنَ
الْمَشَارِقَةِ إِلَى تَفْضِيلٍ " صَحِيحِ " مُسْلِمٍ عَلَى "
صَحِيحِ " الْبُخَارِيِّ، فَإِنْ أَرَادُوا تَقْدِيمَهُ عَلَيْهِ فِي
كَوْنِهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ التَّعْلِيقَاتِ إِلَّا الْقَلِيلَ، وَأَنَّهُ
يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ بِتَمَامِهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَقْطَعُهَا
كَتَقْطِيعِ الْبُخَارِيِّ لَهَا فِي الْأَبْوَابِ، فَهَذَا الْقَدْرُ لَا
يُوَازِي قُوَّةَ أَسَانِيدِ الْبُخَارِيِّ، وَاخْتِيَارَهُ فِي تَصْحِيحِ مَا
أَوْرَدَهُ فِي " جَامِعِهِ " مُعَاصَرَةَ الرَّاوِي لِشَيْخِهِ
وَسَمَاعَهُ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ مُسْلِمًا لَا يَشْتَرِطُ فِي
كِتَابِهِ الشَّرْطَ الثَّانِيَ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ،
وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ شَرْحِ " الْبُخَارِيِّ "،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، فِي تَرْجَمَةِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَالْمَقْصُودُ الْآنَ أَنَّ مُسْلِمًا
دَخَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَسَمِعَ مِنْ
جَمَاعَةٍ كَثِيرِينَ قَدْ أَوْرَدَهُمْ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ فِي
" تَهْذِيبِهِ " مُرَتَّبَيْنَ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ ; مِنْهُمُ التِّرْمِذِيُّ فِي "
جَامِعِهِ " حَدِيثًا وَاحِدًا ; وَهُوَ حَدِيثُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو،
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:أَحْصُوا هِلَالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ
وَصَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ،
وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ صَاعِدٍ، وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ:
رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ وَأَبَا حَاتِمٍ يُقَدِّمَانِ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ
فِي مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَشَايِخِ عَصْرِهِمَا.
وَأَخْبَرَنِي ابْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، سَمِعْتُ
الْحُسَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمَاسَرْجَسِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:
سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ يَقُولُ: صَنَّفْتُ هَذَا " الْمُسْنَدَ
الصَّحِيحَ " مِنْ ثَلَاثمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ مَسْمُوعَةٍ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ قَائِلًا:
حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ
السَّوْذَرْجَانِيُّ بِأَصْبَهَانَ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ
مَنْدَهْ، سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ النَّيْسَابُورِيَّ
يَقُولُ: مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمِ بْنِ
الْحَجَّاجِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ ذُكِرَ مُسْلِمٌ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، فَقَالَ
بِالْعَجَمِيَّةِ مَا مَعْنَاهُ: أَيُّ رَجُلٍ كَانَ هَذَا ؟
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ لِمُسْلِمٍ: لَنْ نَعْدَمَ الْخَيْرَ مَا
أَبْقَاكَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ
عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَخْرَمُ: قَلَّ مَا
يَفُوتُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا مِمَّا يَثْبُتُ فِي الْحَدِيثِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ
الْحِيرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ
عُقْدَةَ الْحَافِظَ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، أَيُّهُمَا أَعْلَمُ ؟
فَقَالَ: كَانَ الْبُخَارِيُّ عَالِمًا وَمُسْلِمٌ عَالِمًا. فَكَرَّرْتُ ذَلِكَ
عَلَيْهِ مِرَارًا، وَهُوَ يَرُدُّ
عَلَيَّ هَذَا الْجَوَابَ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَبَا عَمْرٍو، قَدْ يَقَعُ
لِلْبُخَارِيِّ الْغَلَطُ فِي أَهْلِ الشَّامِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخَذَ
كُتُبَهُمْ فَنَظَرَ فِيهَا، فَرُبَّمَا ذَكَرَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ بِكُنْيَتِهِ،
وَيَذُكُرُهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِاسْمِهِ، وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُمَا اثْنَانِ،
فَأَمَّا مُسْلِمٌ فَقَلَّ مَا يَقَعُ لَهُ الْغَلَطُ لِأَنَّهُ كَتَبَ
الْمَسَانِيدَ وَلَمْ يَكْتُبِ الْمَقَاطِيعَ وَالْمَرَاسِيلَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: إِنَّمَا قَفَا مُسْلِمٌ طَرِيقَ الْبُخَارِيِّ، وَنَظَرَ فِي
عِلْمِهِ، وَحَذَا حَذْوَهُ، وَلَمَّا وَرَدَ الْبُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ فِي
آخِرِ أَمْرِهِ لَازَمَهُ مُسْلِمٌ، وَأَدَامَ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ. وَقَدْ
حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ الصَّيْرَفِيُّ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيَّ يَقُولُ: لَوْلَا الْبُخَارِيُّ لَمَا
ذَهَبَ مُسْلِمٌ وَلَا جَاءَ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الْمُنْكَدِرِيُّ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنِي أَبُو نَصْرِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، سَمِعْتُ أَبَا حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنَ حَمْدَانَ
الْقَصَّارَ، سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ، وَجَاءَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى
أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ،
وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ، حَدَّثَكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ،
حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَرَّانَيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ،
عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ،
فَمَا عِلَّتُهُ ؟ فَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ مَلِيحٌ، وَلَا أَعْلَمُ
فِي الدُّنْيَا فِي هَذَا الْبَابِ غَيْرَ هَذَا
الْحَدِيثِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْلُولٌ
; ثَنَا بِهِ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ
عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَهُ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَهَذَا أَوْلَى ;
فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِمُوسَى بْنِ عَقَبَةَ سَمَاعٌ مَنْ سُهَيْلٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَفْرَدْتُ لِهَذَا الْحَدِيثِ جُزْءًا عَلَى حِدَةٍ، وَأَوْرَدْتُ
فِيهِ طُرُقَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَمَتْنَهُ وَعِلَلَهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ كَانَ مُسْلِمٌ يُنَاضِلُ عَنِ الْبُخَارِيِّ،
رَحِمَهُمَا اللَّهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا كَانَ وَقَعَ بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَمُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ فِي
نَيْسَابُورَ وَكَيْفَ نُودِيَ عَلَى الْبُخَارِيِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ
بِنَيْسَابُورَ، وَأَنَ الذُّهْلِيَّ قَالَ يَوْمًا لِأَهْلِ مَجْلِسِهِ،
وَفِيهِمْ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: أَلَا مَنْ كَانَ يَقُولُ بِقَوْلِ
الْبُخَارِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ فَلْيَعْتَزِلْ مَجْلِسَنَا.
فَنَهَضَ مُسْلِمٌ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَجَمَعَ مَا كَانَ سَمِعَهُ
مِنَ الذُّهْلِيِّ جَمِيعَهُ، وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِ، وَتَرَكَ الرِّوَايَةَ
عَنِ الذُّهْلِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا لَا فِي "
صَحِيحِهِ "، وَلَا فِي غَيْرِهِ وَاسْتَحْكَمَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا.
هَذَا وَلَمْ يَتْرُكِ الْبُخَارِيُّ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الذُّهْلِيَّ، بَلْ
رَوَى عَنْهُ فِي " صَحِيحِهِ " وَغَيْرِهِ وَعَذَرَهُ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ سَبَبَ مَوْتِ مُسْلِمٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ
عُقِدَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْمُذَاكَرَةِ، فَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ حَدِيثٍ لَمْ
يَعْرِفْهُ، فَانْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَوْقَدَ السِّرَاجَ، وَقَالَ
لِأَهْلِهِ: لَا يَدْخُلْ أَحَدٌ اللَّيْلَةَ عَلَيَّ. وَقَدْ أُهْدِيَتْ لَهُ
سَلَّةٌ مِنْ تَمْرٍ فَهِيَ عِنْدُهُ ; يَأْكُلُ مِنْهَا تَمْرَةً وَيَكْشِفُ
حَدِيثًا، ثُمَّ يَأْكُلُ أُخْرَى، وَيَكْشِفُ آخَرَ، وَلَمَ
يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى أَصْبَحَ
وَقَدْ أَكَلَ تِلْكَ السَّلَّةَ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ
ذَلِكَ ثِقَلٌ، وَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ عَشِيَّةَ يَوْمِ
الْأَحَدِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ
إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِنَيْسَابُورَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا الشَّافِعِيُّ ; وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعِ
وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ عُمُرُهُ سَبْعًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَبُو يَزِيدِ الْبِسْطَامِيُّ:
اسْمُهُ طَيْفُورُ بْنُ عِيسَى بْنِ آدَمَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ، أَحَدُ
مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَكَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا فَأَسْلَمَ، وَكَانَ
لِأَبِي يَزِيدَ أَخَوَانِ صَالِحَانِ عَابِدَانِ وَهُوَ أَجَلُّ مِنْهُمَا،
وَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ وَصَلْتَ إِلَى هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ ؟ فَقَالَ:
بِبَطْنٍ جَائِعٍ وَبَدَنٍ عَارٍ. وَكَانَ يَقُولُ: دَعَوْتُ نَفْسِي إِلَى
طَاعَةِ اللَّهِ فَلَمْ تَجِبْنِي، فَمَنَعْتُهَا الْمَاءَ سَنَةً. وَقَالَ
أَيْضًا: إِذَا نَظَرْتُمْ إِلَى الرَّجُلِ أُعْطِي مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَفِعَ
فِي الْهَوَاءِ، فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ
عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَأَدَاءِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خِلِّكَانَ: وَلَهُ مَقَامَاتٌ كَثِيرَةٌ وَمُجَاهَدَاتٌ
مَشْهُورَةٌ وَكَرَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ إِحْدَى
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: قَدْ حُكِيَ عَنْهُ كَلِمَاتٌ
فِيهَا شَطْحٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ
وَالْفُقَهَاءِ عَلَيْهَا ;
فَمِنْ مُتَأَوِّلٍ عَلَى الْمَحَامِلِ الْبَعِيدَةِ، أَوْ قَائِلٍ: إِنَّ هَذَا قَالَهُ فِي حَالِ الِاصْطِلَامِ وَالسُّكْرِ، وَمِنْ مُبَدِّعٍ وَمُخْطِّئٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَدِمَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فِي جَحَافِلَ فَدَخَلَ وَاسِطَ قَهْرًا،
فَخَرَجَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ بِنَفْسِهِ مِنْ سَامَرَّا لِقِتَالِهِ،
فَتَوَسَّطَ بَيْنَ بَغْدَادَ وَوَاسِطَ، فَانْتَدَبَ لَهُ أَبُو أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقُ بِاللَّهِ أَخُو الْخَلِيفَةِ، فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِ
مُوسَى بْنُ بُغَا، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مَسْرُورٌ الْبَلْخِيُّ، فَاقْتَتَلُوا
فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَيَّامًا قِتَالًا عَظِيمًا هَائِلًا، ثُمَّ
كَانَتِ الْغَلَبَةُ عَلَى يَعْقُوبَ وَأَصْحَابِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ عِيدِ
الشَّعَانِينَ. فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَبُو
أَحْمَدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمِسْكِ
وَالدَّوَابِّ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ وَجَدُوا فِي جَيْشِ يَعْقُوبَ هَذَا
رَايَاتٍ عَلَيْهَا صُلْبَانٌ. ثُمَّ انْصَرَفَ الْمُعْتَمِدُ إِلَى الْمَدَائِنِ
وَرَدَّ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ إِلَى نِيَابَةِ بَغْدَادَ وَأَمْرِ لَهُ
بِخَمْسمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَفِيهَا غُلِبَ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ وَهَرَبَ ابْنُ
وَاصِلٍ مِنْهَا.
وَفِيهَا كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَجَيْشِ
الْخَلِيفَةِ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ.
وَفِيهَا جُمِعَ لِلْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ قَضَاءُ جَانِبَيْ
بَغْدَادَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا وَقَعَ
بَيْنَ الْحَنَّاطِينَ وَالْجَزَّارِينَ بِمَكَّةَ، فَاقْتَتَلُوا يَوْمَ
التَّرْوِيَةِ أَوْ قَبْلَهُ بِيَوْمٍ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ
نَفَسًا، وَخَافَ النَّاسُ أَنْ يَفُوتَهُمُ الْحَجُّ بِسَبَبِهِمْ، ثُمَّ
تَوَادَعُوا إِلَى مَا بَعْدَ الْحَجِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
صَالِحُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْمَنْصُورِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ
مِنْهَا. وَعُمَرُ بْنُ شَبَّةَ النَّمِيرِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ، صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " الْحَافِلِ
الْمَشْهُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ مُنْتَشِرَةٌ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى ; فَمِنْ
ذَلِكَ مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الزَّنْجِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، حَصَرَهُمْ فِي
بَعْضِ الْمَوَاقِفِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ فَقَتَلَ
الْمَوْجُودِينَ عِنْدَهُ عَنْ آخِرِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا سَلَّمَتِ الصَّقَالِبَةُ حِصْنَ لُؤْلُؤَةَ إِلَى طَاغِيَةِ الرُّومِ لَعَنَهُ
اللَّهُ.
وَفِيهَا تَغَلَّبَ أَخُو شَرْكَبَ الْجَمَّالِ عَلَى نَيْسَابُورَ وَأَخْرَجَ
مِنْهَا عَامِلَهَا الْحُسَيْنَ بْنَ طَاهِرٍ، وَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا ثُلُثَ
أَمْوَالِهِمْ مُصَادَرَةً، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مَسَاوِرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الشَّارِي الْخَارِجِيُّ، وَقَدْ كَانَ مِنَ
الْأَبْطَالِ الْمَذْكُورِينَ وَالشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَالْتَفَّ
عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَطَالَتْ مُدَّتُهُ حَتَّى
قَصَمَهُ اللَّهُ.
وَوَزِيرُ الْخِلَافَةِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، صَدَمَهُ
فِي الْمَيْدَانِ خَادِمٌ
يُقَالُ لَهُ: رَشِيقٌ. فَسَقَطَ عَنْ
دَابَّتِهِ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَخَرَجَ دِمَاغُهُ مِنْ أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ،
فَمَاتَ بَعْدَ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ
ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ وَمَشَى فِي جِنَازَتِهِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتَوْزَرَ
مِنَ الْغَدِ الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ فَلَمَّا قَدِمَ مُوسَى بْنُ بُغَا
سَامَرَّا عَزَلَهُ وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ وَهْبٍ وَسُلِّمَتْ
دَارُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ إِلَى الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ
بِكَيْغَلَغَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ. وَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ. وَمُعَاوِيَةُ
بْنُ صَالِحٍ الْأَشْعَرِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَسْكَرَ أَبُو أَحْمَدَ وَمُوسَى بْنُ بُغَا
بِسَامِرَّا، وَخَرَجَا مِنْهَا لِلَيْلَتَيْنِ مَضَتَا مِنْ صَفَرٍ، وَخَرَجَ
الْمُعْتَمِدُ لِتَوْدِيعِهِمَا، وَسَارَا فَلَمَّا وَصَلَا إِلَى بَغْدَادَ
تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مُوسَى بْنُ بُغَا بِهَا، وَحُمِلَ إِلَى سَامَرَّا وَدُفِنَ
بِهَا.
وَفِيهَا وَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُوَلَّدِ وَاسِطَ فَحَارَبَهُ سُلَيْمَانُ
بْنُ جَامِعٍ نَائِبُهَا مِنْ جِهَةِ الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَهَزَمَهُ
ابْنُ الْمُوَلَّدِ بَعْدَ حُرُوبٍ طَوِيلَةٍ بَيْنَهُمَا.
وَفِيهَا سَارَ ابْنُ الدِّيرَانِيِّ إِلَى مَدِينَةِ الدِّينَوَرِ فَاجْتَمَعَ
عَلَيْهِ دُلَفُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ، وَابْنُ عِيَاضٍ،
فَهَزَمَاهُ وَنَهَبَا أَمْوَالَهُ وَرَجَعَ مَغْلُولًا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ مُوسَى بْنُ بُغَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ
الْوَزِيرَ الَّذِي كَانَ مِنْ جِهَتِهِ ; وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ وَهْبٍ
وَحَبَسَهُ مُقَيَّدًا وَأَمَرَ بِنَهْبِ دُورِهِ وَدُورِ أَقْرِبَائِهِ، وَرَدَّ
الْحَسَنَ بْنَ مَخْلَدٍ إِلَى الْوِزَارَةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا أَحْمَدَ
وَهُوَ بِبَغْدَادَ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى سَامَرَّا ; فَتَحَصَّنَ مِنْهُ
أَخُوهُ الْمُعْتَمِدُ بِجَانِبِهَا الْغَرْبِيِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
التَّرْوِيَةِ عَبَرَ جَيْشُ أَبِي أَحْمَدَ إِلَى الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ
الْمُعْتَمِدُ، فِلْمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ بَلِ اصْطَلَحُوا عَلَى رَدِّ
سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَهَرَبَ الْحَسَنُ بْنُ مَخْلَدٍ
فَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُ
وَحَوَاصِلُهُ وَاخْتَفَى أَبُو عِيسَى
ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ ثُمَّ ظَهَرَ، وَهَرَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى
الْمَوْصِلِ ; خَوْفًا مِنْ أَبِي أَحْمَدَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى
بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ الْكُوفِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ. وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى
الْمُزَنِيُّ، أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ،
وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيِّينَ ". وَتَرْجَمَهُ
ابْنُ خِلِّكَانَ فِي الْوَفَيَاتِ أَيْضًا فَأَحْسَنَ وَأَطْنَبَ وَأَطْيَبَ.
وَأَبُو زُرْعَةَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الرَّازِيُّ.
أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمَشْهُورِينَ، قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ سَبْعَمِائَةِ
أَلْفِ حَدِيثٍ. وَكَانَ فَقِيهًا وَرِعًا زَاهِدًا عَابِدًا خَاشِعًا
مُتَوَاضِعًا، أَثْنَى عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِهِ بِالْحِفْظِ وَالدِّيَانَةِ،
وَشَهِدُوا لَهُ بِالتَّقَدُّمِ عَلَى أَقْرَانِهِ، وَكَانَ فِي حَالٍ شَبِيبَتِهِ
إِذَا اجْتَمَعَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ لِلْمُذَاكَرَةِ يَقْتَصِرُ أَحْمَدُ
عَلَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلَا يَفْعَلُ الْمَنْدُوبَاتِ اكْتِفَاءً
بِالْمُذَاكَرَةِ عَنْ ذَلِكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَلْخَ
ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
مِائَتَيْنِ، وَقِيلَ: سَنَةَ
تِسْعِينَ وَمِائَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ مَبْسُوطَةً فِي "
التَّكْمِيلِ ".
وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ قَاضِي دِمَشْقَ.
وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ، مِمَّنْ رَوَى عَنِ
الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " التَّكْمِيلِ "، وَفِي
" الطَّبَقَاتِ ".
وَقَبِيحَةُ أَمُّ الْمُعْتَزِّ، إِحْدَى حَظَايَا الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ،
جَمَعَتْ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالذَّهَبِ وَالْمَصَاغِ مَا لَمْ
يُعْهَدْ لِمِثْلِهَا، ثُمَّ سُلِبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقُتِلَ وَلَدُهَا
الْمُعْتَزُّ لِأَجْلِ نَفَقَاتِ الْجُنْدِ، وَشَحَّتْ عَلَيْهِ بِخَمْسِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ تُدَارِئُ بِهَا عَنْهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ ابْنِ لَيْثَوَيْهِ عَامِلِ أَبِي أَحْمَدَ عَلَى
جُنْبُلَاءَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ، ظَفِرَ فِيهَا ابْنُ لَيْثَوَيْهِ
بِابْنِ جَامِعٍ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَقَتَلَ
خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصَابَ مِنْهُمْ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ أَسِيرًا،
وَحَرَّقَ لَهُ مَرَاكِبَ كَثِيرَةً، وَغَنِمَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حَاصَرَ أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ نَائِبُ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَدِينَةَ أَنْطَاكِيَةَ وَفِيهَا سِيمَا الطَّوِيلُ،
فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى فَتَحَهَا بَعْدَ حُرُوبٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقُتِلَ
سِيمَا الْمَذْكُورُ. وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى جَاءَتْهُ هَدَايَا مَلَكِ الرُّومِ
وَفِي جُمْلَتِهَا أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مَعَ كُلِّ أَسِيرٍ مُصْحَفٌ،
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَشِيدِ بْنِ كَاوِسَ الَّذِي كَانَ عَامِلَ
الثُّغُورِ فَاجْتَمَعَ لِأَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مُلْكُ الشَّامِ بِكَمَالِهِ
مَعَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ نَائِبُ دِمَشْقَ
أَمَاجُورُ، رَكِبَ ابْنُ طُولُونَ مِنْ مِصْرَ، فَتَلَقَّاهُ ابْنُ أَمَاجُورَ
إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهَا، وَسَارَ إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا،
ثُمَّ إِلَى حِمْصَ فَتَسَلَّمَهَا، ثُمَّ إِلَى حَلَبَ فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا،
ثُمَّ رَكِبَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ
أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ قَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ابْنَهُ
الْعَبَّاسَ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قُدُومُ أَبِيهِ عَلَيْهِ مَنَ الشَّامِ أَخَذَ
مَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ
مِنَ الْحَوَاصِلِ، وَوَازَرَهُ
جَمَاعَةٌ عَلَى ذَلِكَ، فَسَارُوا إِلَى بَرْقَةَ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ أَبِيهِ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَنْ أَخَذَهُ ذَلِيلًا حَقِيرًا، وَرَدُّوهُ إِلَى مِصْرَ
فَحَبَسَهُ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْقَاسِمُ بْنُ مَهَارَةَ عَلَى دُلَفِ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيِّ، فَقَتَلَهُ وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى أَصْبَهَانَ فَانْتَصَرَ أَصْحَابُ دُلَفٍ لَهُ فَقَتَلُوا الْقَاسِمَ هَذَا
وَرَأَّسُوا عَلَيْهِمْ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَفِيهَا لِحَقَ مُحَمَّدٌ الْمُوَلَّدُ بِيَعْقُوبَ بْنِ اللَّيْثِ فَسَارَ
إِلَيْهِ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، فَأَمَرَ السُّلْطَانُ بِنَهْبِ حَوَاصِلِهِ
وَأَمْوَالِهِ وَأَمْلَاكِهِ وَضِيَاعِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ إِلَى النُّعْمَانِيَّةِ فَقَتَلَ وَحَرَّقَ،
ثُمَّ سَارَ إِلَى جَرْجَرَايَا فَانْزَعَجَ النَّاسُ، وَدَخَلَ أَهْلُ السَّوَادِ
إِلَى بَغْدَادَ فَلَجَئُوا إِلَيْهَا مَحْصُورِينَ.
وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو أَحْمَدَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ خُرَاسَانَ وَفَارِسَ
وَأَصْبَهَانَ وَسِجِسْتَانَ وَكَرْمَانَ وَالسِّنْدَ، وَوَجَّهَهُ إِلَيْهَا
بِذَلِكَ وَبِالْخِلَعِ وَالتُّحَفِ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الزَّنْجُ تُسْتَرَ حَتَّى كَادُوا يَفْتَحُونَهَا،
فَوَافَاهُمْ تِكِينُ الْبُخَارِيُّ، فَلَمْ يَضَعْ ثِيَابَ سَفَرِهِ حَتَّى
نَاجَزَ الزَّنْجَ فَهَزَمَهُمْ هَزِيمَةً فَظِيعَةً مُنْكَرَةً جِدًّا، وَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَلْقًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، وَهَرَبَ أَمِيرُهُمْ عَلِيُّ بْنُ
أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيُّ
مَغْلُولًا مَدْحُورًا مَخْذُولًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذِهِ وَقْعَةُ بَابِ كُودَكَ الْمَشْهُورَةُ. ثُمَّ
إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيَّ أَخَذَ فِي مُكَاتَبَةِ تِكِينَ
وَاسْتِمَالَتِهِ إِلَيْهِ وَإِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ فَشَرَعَ تِكِينُ فِي
الْإِجَابَةِ إِلَى ذَلِكَ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ مَسْرُورًا الْبَلْخِيَّ، فَسَارَ
نَحْوَهُ وَأَظْهَرَ لَهُ الْأَمَانَ حَتَّى أَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ وَتَفَرَّقَ
جَيْشُهُ عَنْهُ ; فَفِرْقَةٌ صَارَتْ إِلَى الزَّنْجِ، وَفِرْقَةٌ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْكُرْدِيِّ، وَفِرْقَةٌ انْضَافَتْ إِلَى
مَسْرُورٍ الْبَلْخِيِّ بَعْدَ إِعْطَائِهِ إِيَّاهُمُ الْأَمَانَ، وَوَلَّى
مَكَانَهُ عَلَى عِمَالَتِهِ أَمِيرًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: أَغَرْتِمْشُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى
بْنِ عِيسَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، رَاوِيَةُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَقَدْ
صَحِبَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ، وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ، تُوُفِّيَ عَنْ
ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَسَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ. وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُخَرِّمِيُّ.
وَعَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ
الطَّائِيُّ الْمَوْصِلِيُّ. وَأَبُو
حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ عَلِيُّ بْنُ مُوَفَّقٍ الزَّاهِدُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ
سُحْنُونٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ": وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْفَضْلِ
الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ - صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدَةَ
وَالْأَصْمَعِيِّ - قَتَلَهُ الزَّنْجُ بِالْبَصْرَةِ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ الصِّفَّارُ.
أَحَدُ الْمُلُوكِ الْعُقَلَاءِ الْأَبْطَالِ، فَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً ; مِنْ
ذَلِكَ بَلَدُ الرُّخَّجِ الَّتِي كَانَ بِهَا مَلِكٌ يُحْمَلُ فِي سَرِيرٍ مِنْ
ذَهَبٍ عَلَى رُءُوسِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانَ لَهُ بَيْتٌ فِي رَأْسِ
جَبَلٍ عَالٍ سَمَّاهُ مَكَّةَ فَمَا زَالَ حَتَّى قَتَلَهُ وَأَخَذَ بَلَدَهُ
وَأَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَى يَدَيْهِ، وَلَكِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَةِ
الْخَلِيفَةِ وَقَاتَلَهُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا
مَاتَ وَلَّوْا أَخَاهُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ مَا كَانَ يَلِيهِ أَخُوهُ
يَعْقُوبُ مَعَ شُرْطَةِ بَغْدَادَ وَسَامَرَّا، كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا تَغَلَّبَ أَسَاتِكِينُ عَلَى بَلَدِ الرِّيِّ وَأَخْرَجَ
عَامِلَهَا مِنْهَا، ثُمَّ مَضَى إِلَى قَزْوِينَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا
فَدَخَلَهَا وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، ثُمَّ عَادَ إِلَى الرِّيِّ
فَمَانَعَهُ أَهْلُهَا عَنِ الدُّخُولِ إِلَيْهَا فَقَاتَلَهُمْ وَدَخَلَهَا
قَهْرًا.
وَفِيهَا أَغَارَتْ سَرِيَّةٌ مِنَ الرُّومِ عَلَى نَاحِيَةِ دِيَارِ رَبِيعَةَ
فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَمَثَّلُوا وَأَخَذُوا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ
أَسِيرًا، فَنَفَرَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ نَصِيبِينِ وَأَهْلُ الْمَوْصِلِ فَهَرَبَتْ
مِنْهُمُ الرُّومُ وَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ شُرْطَةَ بَغْدَادَ وَسَامَرَّا
لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ بِالْخِلْعَةِ
وَخَلَعَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ أَيْضًا، وَأَهْدَى إِلَيْهِ
عَمُودَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، وَذَلِكَ مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ يَلِيهِ أَخُوهُ مِنَ
الْبُلْدَانِ.
وَفِيهَا سَارَ أَغْرِتْمِشُ لِقِتَالِ عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ
بِتُسْتَرَ، فَأَخَذَ مَنْ كَانَ فِي السِّجْنِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيِّ بْنِ
أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، ثُمَّ
سَارَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا فِي مَرَّاتٍ
عَدِيدَةٍ، وَكَانَ آخِرُهَا لِعَلِيِّ بْنِ أَبَانٍ الْمُهَلَّبِيِّ، قَتَلَ
خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ أَغْرِتْمِشَ وَأَسَرَ بَعْضَهُمْ فَقَتَلَهُمْ،
وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَنَصَبَ رُءُوسَهُمْ
عَلَى سُورِ مَدِينَتِهِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا وَثَبَ أَهْلُ حِمْصَ عَلَى
عَامِلِهِمْ عِيسَى الْكَرْخِيِّ فَقَتَلُوهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
وَفِيهَا دَعَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
حُسَيْنٍ الْأَصْغَرُ الْعُقَيْقِيُّ أَهْلَ طَبَرِسْتَانَ إِلَى نَفْسِهِ
وَأَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ قَدْ أُسِرَ وَلَمْ يَبْقَ مَنْ
يَقُومُ بِهَذَا الْأَمْرِ غَيْرُهُ فَبَايَعُوهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الْحَسَنَ بْنَ زَيْدٍ، قَصْدَهُ فَقَاتَلَهُ فَقَتَلَهُ وَنَهَبَ أَمْوَالَ مَنِ
اتَّبَعَهُ وَحَرَّقَ دُورَهُمْ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا بَيْنَ الْجَعْفَرِيَّةِ
وَالْعَلَوِيَّةِ، وَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ
سُلَالَةِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى طَبَرِسْتَانَ وَجَرَتْ شُرُورٌ
كَثِيرَةٌ هُنَالِكَ بِسَبَبِ قَتْلِ الْجَعْفَرِيَّةِ وَالْعَلَوِيَّةِ يَطُولُ
ذِكْرُهَا.
وَفِيهَا وَثَبَتِ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ
فَانْتَهَبُوهَا، وَصَارَ بَعْضُهَا إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ وَأَصَابَ الْحَجِيجَ
مِنْهُمْ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ وَبَلَاءٌ شَدِيدٌ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ أَيْضًا عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ.
وَفِيهَا دَخَلَ أَصْحَابُ صَاحِبِ الزَّنْجِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَافْتَتَحُوهَا
بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ.
وَفِيهَا دَخَلَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ مَكَّةَ فَقَاتَلَهُ الْمَخْزُومِيُّ
فَقَهَرَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ وَحَرَّقَ دَارَهُ وَاسْتَبَاحَ مَالَهُ،
وَذَلِكَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَعَلَ إِلَى ابْنِ
أَبِي السَّاجِ إِمْرَةَ الْحَرَمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُتَقَدِّمُ
ذِكْرُهُ قَبْلَهَا.
وَفِيهَا عَمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الدَّاخِلُ - خَلِيفَةُ الْأَنْدَلُسِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ -
مَرَاكِبَ فِي نَهْرِ قُرْطُبَةَ لِيَدْخُلَ بِهَا إِلَى الْبَحْرِ الْمُحِيطِ ;
لِتَسِيرَ الْجُيُوشُ فِي أَطْرَافِهِ إِلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ
لِيُقَاتِلُوهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَرَاكِبُ الْبَحْرَ الْمُحِيطَ
تَكَسَّرَتْ وَتَقَطَّعَتْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا الْيَسِيرُ
وَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ.
وَفِيهَا التَّقَى أُسْطُولُ الْمُسْلِمِينَ وَأُسْطُولُ الرُّومِ بِبِلَادِ
صِقِلِّيَّةَ فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَارَبَ لُؤْلُؤٌ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ لِمُوسَى بْنِ أَتَامِشَ
فَكسَرَ جَيْشَهُ وَأَسَرَهُ لُؤْلُؤٌ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى مَوْلَاهُ أَحْمَدَ
بْنِ طُولُونَ نَائِبِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَإِفْرِيقِيَةَ مِنْ جِهَةِ
الْخِلَافَةِ، ثُمَّ اقْتَتَلَ لُؤْلُؤٌ هَذَا وَطَائِفَةٌ مِنَ الرُّومِ،
فَقَتَلَ مِنَ الْعَدُوِّ خَلْقًا كَثِيرًا.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا اشْتَدَّ الْحَالُ وَضَاقَ النَّاسُ ذَرْعًا
بِكَثْرَةِ الْهَيْجِ، وَتَغَلُّبِ الْقُوَّادِ وَالْأَجْنَادِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ
الْبِلَادِ بِسَبَبِ ضَعْفِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَمِدِ، وَاشْتِغَالِ أَخِيهِ
أَبِي أَحْمَدَ بِقِتَالِ الزَّنْجِ.
وَفِيهَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فِي تِشْرِينَ الثَّانِي جِدًّا، ثُمَّ قَوِيَ بِهِ
الْبَرْدُ حَتَّى جَمَدَ الْمَاءُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أُورَمَةَ.
وَصَالِحٌ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَاضِي
أَصْبَهَانَ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ، أَحَدُ عُبَّادِ الْجَهْمِيَّةِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الدَّقِيقِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَجَّهَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي
نَحْوٍ مَنْ عَشْرَةِ آلَافِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ فِي أَحْسَنِ هَيْئَةٍ، وَأَكْمَلِ
تَجَمُّلٍ لِقِتَالِ الزَّنْجِ، فَسَارُوا نَحْوَهُمْ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ
الْقِتَالِ وَالنِّزَالِ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَاتٍ وَوَقَعَاتٍ مَشْهُورَاتٍ
مَا يَطُولُ بَسْطُهُ، وَقَدِ اسْتَقْصَاهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ
جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي " تَارِيخِهِ " مَبْسُوطًا.
وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ آلَ الْحَالُ، وَانْتَهَى الْحَرْبُ وَالْجِلَادُ
وَالْجِدَالُ وَالنِّزَالُ إِلَى أَنِ اسْتَحْوَذَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ
الْمُوَفَّقِ عَلَى مَا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الزَّنْجُ بِبِلَادِ وَاسِطَ
وَأَرَاضِي دِجْلَةَ، هَذَا وَهُوَ شَابٌّ حَدَثٌ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالْحَرْبِ،
وَلَكِنْ سَلَّمَهُ اللَّهُ وَغَنَّمَهُ، وَأَعْلَى كَلِمَتِهِ، وَسَدَّدَ
رَمْيَتَهُ، وَأَجَابَ دَعْوَتَهُ، وَفَتَحَ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَسْبَغَ
نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الشَّابُّ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ
عَمِّهِ الْمُعْتَمِدُ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَضِدِ كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ نَاصِرُ دِينِ اللَّهِ مِنْ بَغْدَادَ
فِي صِفْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ، فَدَخَلَ وَاسِطَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَتَلَقَّاهُ ابْنُهُ وَأَخْبَرَهُ عَنِ
الْجُيُوشِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَمَا
تَحَمَّلُوا مِنْ أَعْبَاءِ الْجِهَادِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَرَاءِ
كُلِّهِمْ خِلَعًا سَنِيَّةً، ثُمَّ سَارَ بِجَمِيعِ الْجُيُوشِ إِلَى صَاحِبِ
الزَّنْجِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا، وَسَمَّاهَا الْمَنِيعَةَ،
فَقَاتَلُوا دُونَهَا قِتَالًا عَظِيمًا فَقَهَرَهُمْ، وَدَخَلَهَا عَنْوَةً وَهَرَبُوا
مِنْهَا، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ جَيْشًا فَلَحِقُوهُمْ إِلَى الْبَطَائِحِ
يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ، وَغَنِمَ أَبُو أَحْمَدَ مِنَ الْمَنِيعَةِ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَاسْتَنْقَذَ مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ خَمْسَةَ آلَافِ
امْرَأَةٍ، وَأَمَرَ بِإِرْسَالِهِنَّ إِلَى أَهَالِيهِنَّ بِوَاسِطَ، ثُمَّ
أَمَرَ بِهَدْمِ سُورِ الْبَلَدِ وَطَمِّ خَنْدَقِهَا وَجَعَلَهَا بَلْقَعًا
بَعْدَمَا كَانَتْ لِلْبَشَرِ مَجْمَعًا، وَعَادَتْ يَبَابًا بَعْدَ كَوْنِهَا
لِلْخَبِيثِ جَنَابًا.
ثُمَّ سَارَ الْمُوَفَّقُ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا:
الْمَنْصُورَةُ. مِنْ إِنْشَاءِ الزَّنْجِ أَيْضًا وَبِهَا سُلَيْمَانُ بْنُ
جَامِعٍ، فَحَاصَرَهَا وَقَاتَلُوهُ دُونَهَا فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ، وَرَمَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ أَحْمَدَ بْنَ مَهْدِيٍّ
بِسَهْمٍ فَأَصَابَهُ فِي دِمَاغِهِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ
صَاحِبِ الزَّنْجِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا، وَأَصْبَحَ النَّاسُ
مُحَاصِرِينَ مَدِينَةَ الزَّنْجِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَالْجُيُوشُ الْمُوَفَّقِيَّةُ مُرَتَّبَةٌ أَحْسَنَ
تَرْتِيبٍ، فَتَقَدَّمَ الْمُوَفَّقُ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، وَابْتَهَلَ
إِلَى اللَّهِ فِي الدُّعَاءِ، وَاجْتَهَدَ فِي حِصَارِهَا، فَهَزَمَ اللَّهُ
مُقَاتِلَتَهَا، وَانْتَهَى إِلَى
خَنْدَقِهَا ; فَإِذَا هُوَ قَدْ حُصِّنَ غَايَةَ التَّحْصِينِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا حَوْلَ الْبَلَدِ خَمْسَةَ خَنَادِقَ وَخَمْسَةَ أَسْوَارٍ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاوَزَ سُورًا قَاتَلُوهُ دُونَ الْآخَرِ فَيَقْهَرُهُمْ وَيَجُوزُهُ إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَلَدِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ وَأَسَرَ مِنْ نِسَاءِ الزَّنْجِ وَمِنْ حَلَائِلِ سُلَيْمَانَ بْنِ جَامِعٍ وَذَوِيهِ نِسَاءً كَثِيرَةً وَصِبْيَانًا، وَاسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مِنَ النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَوَاسِطَ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ فَسَيَّرَهُمْ إِلَى أَهَالِيهِمْ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ أَمَرَ بِهَدْمِ خَنَادِقِهَا وَأَسْوَارِهَا وَرَدْمِ خَنَادِقِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَأَقَامَ بِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَبَعَثَ فِي آثَارِ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الزَّنْجِ، فَكَانَ لَا يُؤْتَى بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا اسْتَمَالَهُ إِلَى الْخَيْرِ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَصَفْحٍ، وَأَضَافَهُ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ مَقْصُودُهُ رُجُوعَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْأَهْوَازِ فَأَجْلَاهُمْ عَنْهَا، وَطَرَدَهُمْ مِنْهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ ; مِنْهُمْ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَصْرِيُّ، وَكَانَ رَئِيسًا فِيهِمْ مُطَاعًا، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَتَبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - كِتَابًا يَدْعُوهُ فِيهِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَآثِمِ وَالْمَظَالِمِ وَالْمَحَارِمِ وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَخَرَابِ الْبُلْدَانِ وَاسْتِحْلَالِ الْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، يَبْذُلُ لَهُ الْأَمَانَ إِنْ هُوَ رَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الزَّنْجِ جَوَابًا.
ذِكْرُ مَسِيرِ أَبِي أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقِ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي فِيهَا صَاحِبُ الزَّنْجِ، وَهِيَ
الْمُخْتَارَةُ ; لِيُحَاصِرَهَا
لَمَّا كَتَبَ أَبُو أَحْمَدَ إِلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ يَدْعُوهُ إِلَى الْحَقِّ
فَلَمْ يُجِبْهُ، اسْتِهَانَةً بِهِ، رَكِبَ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ قَرِيبٍ مِنْ
خَمْسِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ قَاصِدًا إِلَى مَدِينَتِهِ الَّتِي أَنْشَأَهَا
وَسَمَّاهَا الْمُخْتَارَةَ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا وَجَدَهَا فِي غَايَةِ
الْإِحْكَامِ، وَقَدْ حَوَّطَ عَلَيْهَا مِنْ آلَاتِ الْحِصَارِ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَقَدِ الْتَفَّ عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ نَحْوٌ مَنْ ثَلَاثمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ
بِسَيْفٍ وَرُمْحٍ وَمِقْلَاعٍ، وَمَنْ يَكْثُرُ سَوَادُهُمْ، فَقَدَّمَ
الْمُوَفَّقُ وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَقَدَّمَ حَتَّى
وَقَفَ تَحْتَ قَصْرِ الْمَلِكِ فَحَاصَرَهُ مُحَاصَرَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا،
وَتَعَجَّبَ الزَّنْجُ مِنْ إِقْدَامِهِ وَجُرْأَتِهِ، مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ،
وَحَدَاثَةِ عُمُرِهِ فَتَرَاكَمَتِ الزُّنُوجُ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ،
فَهَزَمَهُمْ، وَأَثْبَتَ بَهْبُوذَ أَكْبَرَ أُمَرَائِهِ بِالسِّهَامِ
وَالْحِجَارَةِ، ثُمَّ خَامَرَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الزَّنْجِ
وَأَجْنَادِهِ إِلَى الْمُوَفَّقِ، فَأَكْرَمَهُمْ وَأَعْطَاهُمْ خِلَعًا
سَنِيَّةً، فَرَغِبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ فَصَارُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ
رَكِبَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ فِي يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ،
وَنَادَى فِي النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْأَمَانِ إِلَّا صَاحِبَ الزَّنْجِ
فَتَحَوَّلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ جَيْشِهِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَابْتَنَى الْمُوَفَّقُ تِجَاهَ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ مَدِينَةً سَمَّاهَا
الْمُوَفَّقِيَّةَ، وَأَمَرَ بِحَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَالتِّجَارَاتِ إِلَيْهَا،
فَاجْتَمَعَ بِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَشْيَاءِ وَصُنُوفِهَا مَا لَمْ يَجْتَمِعْ
فِي
بَلَدٍ قَبْلَهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهَا،
وَامْتَلَأَتْ مِنَ الْمَعَايِشِ وَالْأَرْزَاقِ وَصُنُوفِ التِّجَارَاتِ
وَالسُّكَّانِ وَالدَّوَابِّ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا بَنَاهَا لِيَسْتَعِينَ
بِهَا عَلَى قِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
عَظِيمَةٌ، وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ نَاشِبَةً بَيْنَهُمْ حَتَّى انْسَلَخَتْ
هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ مُحَاصِرُونَ الْبَلَدَ الْخَبِيثَ وَمَنْ فِيهِ، وَقَدْ
تَحَوَّلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَصَارُوا عَلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ بَعْدَ أَنْ
كَانُوا مَعَهُ، فَبَلَغَ عَدَدُهُمْ قَرِيبًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا مِنَ
الْأُمَرَاءِ الْخَوَاصِّ وَالْأَجْنَادِ، وَالْمُوَفَّقُ وَأَصْحَابُهُ -
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - كُلُّ مَا لَهُمْ فِي زِيَادَةٍ وَقُوَّةٍ وَنَصْرٍ
وَظَفَرٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ سَمُّوَيْهِ. وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ شَاذَانُ. وَبَحْرُ بْنُ
نَصْرٍ الْخَوْلَانِيُّ. وَعَبَّاسٌ التَّرَقُفِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادِ
بْنِ بَكْرِ بْنِ حَمَّادٍ أَبُو بَكْرٍ
الْمُقْرِئُ صَاحِبُ خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ، بِبَغْدَادَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عُزَيْزٍ الْأَيْلِيُّ. وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ حَيْكَانُ، وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ رَاوِي " مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ " عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا اسْتَأْمَنَ جَعْفَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ
بِالسَّجَّانِ - وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ صَاحِبِ الزَّنْجِ
وَثِقَاتِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ - الْمُوَفَّقَ فَأَمَّنَهُ وَفَرِحَ بِهِ
وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُ فَرَكِبَ فِي سُمْرَتِهِ فَوَقَفَ تُجَاهَ قَصْرِ
الْمَلِكِ، فَنَادَى فِي النَّاسِ وَأَعْلَمَهُمْ بِكَذِبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ
وَفُجُورِهِ، وَأَنَّهُ فِي غُرُورٍ هُوَ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، فَاسْتَأْمَنَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَبَرَدَ قِتَالُ الزَّنْجِ عِنْدَ
ذَلِكَ إِلَى رَبِيعٍ الْآخَرِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ الْمُوَفَّقُ أَصْحَابَهُ
بِمُحَاصَرَةِ السُّورِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا نَقَبُوا السُّورَ أَنْ لَا
يَدْخُلُوا الْبَلَدَ حَتَّى يَأْمُرَهُمْ، فَنَقَبُوا السُّورَ حَتَّى انْثَلَمَ
ثُمَّ عَجَّلُوا الدُّخُولَ فَدَخَلُوا، فَقَاتَلَهُمُ الزَّنْجُ فَهَزَمَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ وَتَقَدَّمُوا إِلَى وَسَطِ الْمَدِينَةِ فَجَاءَتْهُمُ الزَّنْجُ
مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَخَرَجَتْ عَلَيْهِمُ الْكَمَائِنُ مِنْ أَمَاكِنَ لَا
يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا
وَاسْتَلَبُوهُمْ، وَفَرَّ الْبَاقُونَ، فَلَامَهُمْ أَبُو أَحْمَدَ عَلَى
مُخَالَفَتِهِ مِنَ الْعَجَلَةِ، وَأَجْرَى الْأَرْزَاقَ عَلَى ذُرِّيَّةِ مَنْ
قُتِلَ مِنْهُمْ، فَحَسُنَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ جِدًّا، وَظَفِرَ أَبُو
الْعَبَّاسِ ابْنُ الْمُوَفَّقِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ،
كَانُوا يَجْلِبُونَ الطَّعَامَ إِلَى الزَّنْجِ فَقَتَلَهُمْ، وَظَفِرَ
بِبَهْبُوذَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ
الْفَتْحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْظَمِ الرَّزَايَا عِنْدَ الزَّنْجِ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَبَعْثَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ مَنًّا مِنْ مِسْكٍ، وَخَمْسِينَ
مَنًّا مِنْ عَنْبَرٍ، وَمِائَتَيْ مَنٍّ مِنْ عُودٍ، وَفِضَّةً بِقِيمَةِ مِائَةِ
أَلْفٍ، وَثِيَابًا مِنْ وَشْيٍ
وَغِلْمَانًا كَثِيرَةً جِدًّا.
وَفِيهَا خَرَجَ مَلِكُ الرُّومِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الصَّقْلَبِيَّةِ فَحَاصَرَ
أَهْلَ مَلَطْيَةَ فَأَعَانَهُمْ أَهْلُ مَرْعَشَ فَفَرَّ الْخَبِيثُ خَاسِئًا.
وَغَزَا الصَّائِفَةَ مِنْ نَاحِيَةِ الثُّغُورِ عَامِلُ ابْنِ طُولُونَ فَقَتَلَ
مِنَ الرُّومِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ الْمُتَقَدِّمُ.
وَفِيهَا قُتِلَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُجُسْتَانِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ. وَأَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ. وَأَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ
الضَّبِّيُّ، وَعِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، الْمِصْرِيُّ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، وَقَدْ
صَحِبَ الشَّافِعِيَّ وَرَوَى عَنْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَهَدَ الْمُوَفَّقُ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - فِي تَخْرِيبِ
سُورِ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فَخَرَّبَ مِنْهُ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَتَمَكَّنَ الْجُيُوشُ مِنَ الْعُبُورِ إِلَى الْبَلَدِ، وَلَكِنْ جَاءَهُ فِي
أَثْنَاءِ هَذِهِ الْحَالَةِ سَهْمٌ فِي صَدْرِهِ مِنْ يَدِ رَجُلٍ رُومِيٍّ
يُقَالُ لَهُ: قِرْطَاسٌ. فَكَادَ يَقْتُلُهُ، فَاضْطَرَبَ الْحَالُ لِذَلِكَ
وَهُوَ يَتَجَلَّدُ وَيَحُضُّ عَلَى الْقِتَالِ مَعَ ذَلِكَ. وَأَقَامَ بِبَلَدِهِ
الْمُوَفَّقِيَّةِ أَيَّامًا يَتَدَاوَى، وَاضْطَرَبَتِ الْأَحْوَالُ، وَخَافَ
النَّاسُ جِدًّا مِنْ صَاحِبِ الزَّنْجِ، وَأَشَارُوا عَلَى الْمُوَفَّقِ
بِالْمَسِيرِ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَوِيَتْ عِلَّتُهُ ثُمَّ مَنَّ
اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعَافِيَةِ فِي شَعْبَانَ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ
فَرَحًا شَدِيدًا، فَنَهَضَ مُسْرِعًا إِلَى الْحِصَارِ، فَوَجَدَ الْخَبِيثَ قَدْ
رَمَّمَ كَثِيرًا مِمَّا كَانَ الْمُوَفَّقُ قَدْ خَرَّبَهُ وَهَدَمَهُ، فَأَمَرَ
بِتَخْرِيبِهِ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا قَرُبَ مِنْهُ، ثُمَّ لَازَمَ الْحِصَارَ
وَمَا انْفَكَّ حَتَّى فَتَحَ الْمَدِينَةَ الْغَرْبِيَّةَ، وَخَرَّبَ قُصُورَ
صَاحِبِ الزَّنْجِ وَدُورَ أُمَرَائِهِ، وَاسْتَلَبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَغَنِمَ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً، وَأَسَرَ خَلْقًا
مِنْ نِسَاءِ الزَّنْجِ، وَاسْتَنْقَذَ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَصِبْيَانِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَأَمَرَ بِرَدِّهِمْ إِلَى أَهْلِيهِمْ
مُكَرَّمِينَ، وَقَدْ تَحَوَّلَ صَاحِبُ الزَّنْجِ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
وَعَمِلَ الْجُسُورَ وَالْقَنَاطِرَ الْحَائِلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصُولِ
السُّمَيْرِيَّاتِ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ بِتَخْرِيبِهَا وَقَطْعِ
الْجُسُورِ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا بَرِحَ حَتَّى
تَسَلَّمَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ أَيْضًا وَاسْتَحْوَذَ
عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ،
وَفَرَّ الْخَبِيثُ ذَاهِبًا وَكَرَّ هَارِبًا وَتَرَكَ حَلَائِلَهُ وَأَوْلَادَهُ
وَحَوَاصِلَهُ، فَأَخَذَهَا الْمُوَفَّقُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَشَرْحُ ذَلِكَ كُلِّهِ يَطُولُ جِدًّا. وَقَدْ حَرَّرَهُ مَبْسُوطًا ابْنُ
جَرِيرٍ وَلَخَّصَهُ مَبْسُوطًا ابْنُ الْأَثِيرِ، وَاخْتَصَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ
وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.
وَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَمِدُ أَنَّ أَخَاهُ أَبَا أَحْمَدَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى أُمُورِ الْخِلَافَةِ وَصَارَ هُوَ الْحَاكِمَ الْآمِرَ
النَّاهِيَ الَّذِي إِلَيْهِ تُجْلَبُ الْأَمْوَالُ وَيُحْمَلُ الْخَرَاجُ، وهُوَ
الَّذِي يُوَلِّي وَيَعْزِلُ، كَتَبَ إِلَى أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ يَشْكُو
إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ طُولُونَ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى
عِنْدِهِ بِبِلَادِ مِصْرَ وَوَعَدَهُ النَّصْرَ وَالْقِيَامَ مَعَهُ،
فَاسْتَغْنَمَ غَيْبَةَ أَخِيهِ الْمُوَفَّقِ وَرَكِبَ فِي جُمَادَى الْأُولَى
وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ، وَقَدْ أَرْصَدَ لَهُ أَحْمَدُ بْنُ
طُولُونَ جَيْشًا بِالرَّقَّةِ يَتَلَقَّوْنَهُ، فَلَمَّا اجْتَازَ الْخَلِيفَةُ
بِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجٍ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَعَامَّةِ الْجَزِيرَةِ
اعْتَقَلَهُ عِنْدَهُ عَنِ الْمَسِيرِ إِلَى ابْنِ طُولُونَ، وَقَيَّدَ أَعْيَانَ
الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، وَعَاتَبَ الْخَلِيفَةَ وَلَامَهُ عَلَى هَذَا
الصَّنِيعِ أَشَدَّ اللَّوْمِ، ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْعَوْدَ إِلَى سَامَرَّا وَمَنْ
مَعَهُ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَيْهَا فِي غَايَةِ الذُّلِّ
وَالْإِهَانَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْمُوَفَّقَ ذَلِكَ شَكَرَ سَعْيَ إِسْحَاقَ وَوَلَّاهُ جَمِيعَ
أَعْمَالِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَكَتَبَ
إِلَى أَخِيهِ أَنْ يَلْعَنَ ابْنَ طُولُونَ فِي دَارِ الْعَامَّةِ، فَلَمْ
يُمْكِنِ الْمُعْتَمِدَ إِلَّا إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ كَارِهٌ، وَكَانَ
ابْنُ طُولُونَ قَدْ قَطَعَ ذِكْرَ الْمُوَفَّقِ فِي الْخُطَبِ وَأَسْقَطَ اسْمَهُ
عَنِ الطِّرَازَاتِ.
وَفِيهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَتْ
فِتْنَةٌ بِمَكَّةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْمُوَفَّقِ وَأَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ،
فَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ طُولُونَ مِائَتَانِ وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ،
واسْتَلَبَهُمْ أَصْحَابُ الْمُوَفَّقِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَفِيهَا قَطَعَتِ الْأَعْرَابُ عَلَى الْحَجِيجِ الطَّرِيقَ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ
خَمْسَةَ آلَافِ بَعِيرٍ بِأَحْمَالِهَا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُنْقِذٍ الْخَوْلَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ مُخَالِدٍ مَوْلَى
الْمُعْتَصِمِ، وَكَانَ مِنْ دُعَاةِ الْمُعْتَزِلَةِ، أَخَذَ الْكَلَامَ عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ الْمُعْتَزِلِيِّ. وَسُلَيْمَانُ بْنِ حَفْصٍ
الْمُعْتَزِلِيُّ صَاحِبُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَأَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ. وَعِيسَى
ابْنُ الشَّيْخِ ابْنِ السَّلِيلِ الشَّيْبَانِيُّ نَائِبُ أَرْمِينِيَّةَ
وَدِيَارِ بَكْرٍ. وَأَبُو فَرْوَةَ يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرًّهَاوِيُّ، أَحَدُ
الضُّعَفَاءِ.
سَنَةُ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ صَاحِبِ الزَّنْجِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمُوَفَّقَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِ مَدِينَةِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَهِيَ
الْمُخْتَارَةُ وَاحْتَازَ مَا كَانَ بِهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَقَتَلَ مَنْ
كَانَ بِهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبَى مَنْ وَجَدَ فِيهَا مِنَ النِّسَاءِ
وَالْأَطْفَالِ، وَقَدْ هَرَبَ صَاحِبُ الزَّنْجِ عَنْ حَوْمَةِ الْجِلَادِ
وَالنِّزَالِ، وَسَارَ إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ طَرِيدًا شَرِيدًا بِشَرِّ حَالٍ،
عَادَ الْمُوَفَّقُ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - إِلَى مَدِينَتِهِ الْمُوَفَّقِيَّةِ
مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ لُؤْلُؤَةُ غُلَامُ أَحْمَدَ بْنِ
طُولُونَ مُنَابِذًا لِسَيِّدِهِ سَمِيعًا مُطِيعًا لِلْمُوَفَّقِ، فَكَانَ
وُرُودُهُ عَلَيْهِ فِي ثَالِثِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَأَكْرَمَهُ
وَعَظَّمَهُ وَأَعْطَاهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَبَعَثَهُ
طَلِيعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ لِقِتَالِ صَاحِبِ الزَّنْجِ وَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ فِي
الْجُيُوشِ الْكَثِيفَةِ الْهَائِلَةِ وَرَاءَهُ، فَقَصَدُوا الْخَبِيثَ وَقَدْ
تَحَصَّنَ بِبَلْدَةٍ أُخْرَى، فَلَمْ يَزَلْ مُحَاصِرًا لَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ
مِنْهَا ذَلِيلًا وَهُوَ صَاغِرٌ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا كَانَ بِهَا مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْمَغَانِمِ، ثُمَّ بَعَثَ السَّرَايَا وَالْجُيُوشَ وَرَاءَهُ،
فَأَسَرُوا عَامَّةَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَحُمَاتِهِ ; مِنْهُمْ
سُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، فَاسْتَبْشَرَ النَّاسُ بِأَسْرِهِ وَكَبَّرُوا فَرَحًا
بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ، وَحَمَلَ الْمُوَفَّقُ بِمَنِّ مَعَهُ حَمْلَةً
وَاحِدَةً عَلَى أَصْحَابِ الْخَبِيثِ فَاسْتَحَرَّ فِيهِمُ الْقَتْلُ، وَمَا
انْجَلَتِ الْحَرْبُ حَتَّى جَاءَ الْبَشِيرُ بِقَتْلِ
الْخَبِيثِ صَاحِبِ الزَّنْجِ فِي
الْمَعْرَكَةِ، وَأَتَى بِرَأْسِهِ مَعَ غُلَامِ لُؤْلُؤَةَ فَتَى أَحْمَدَ بْنِ
طُولُونَ فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُوَفَّقُ أَنَّهُ رَأَسُهُ بَعْدَ شَهَادَةِ
الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ، خَرَّ سَاجِدًا
لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ثُمَّ انْكَفَأَ رَاجِعًا إِلَى الْمُوَفَّقِيَّةِ،
وَرَأْسُ الْخَبِيثِ تُحْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ،
فَدَخَلَ الْبَلَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ
بِذَلِكَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، ثُمَّ جِيءَ بِأَنْكَلَايَ وَلَدِ
صَاحِبِ الزَّنْجِ وَأَبَانِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُهَلَّبِيِّ، مُسَعَّرِ حَرْبِهِمْ،
مَأْسُورَيْنِ، وَمَعَهُمَا قَرِيبٌ مِنْ خَمْسَةِ آلَافِ أَسِيرٍ، فَتَمَّ
السُّرُورُ، وَهَرَبَ قِرْطَاسٌ الَّذِي رَمَى الْمُوَفَّقَ فِي صَدْرِهِ بِذَلِكَ
السَّهْمِ إِلَى رَامَهُرْمُزَ فَأُخِذَ وَبُعِثَ بِهِ إِلَى الْمُوَفَّقِ
فَقَتَلَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ وَلَدُ الْمُوَفَّقِ. وَاسْتَأْمَنَ مَنْ بَقِيَ
مِنْ جُيُوشِ الزَّنْجِ فَأَمَّنَهُمُ الْمُوَفَّقُ، وَنَادَى فِي النَّاسِ
بِالْأَمَانِ، وَأَنْ يَرْجِعَ كُلُّ مَنْ كَانَ أُخْرِجَ مِنْ دِيَارِهِ بِسَبَبِ
فِتْنَةِ الزَّنْجِ إِلَى أَوْطَانِهِمْ وَبُلْدَانِهِمْ، ثُمَّ قَدَّمَ وَلَدَهُ
أَبَا الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ وَمَعَهُ رَأْسُ الْخَبِيثِ
يُحْمَلُ لِيَرَاهُ أَهْلُ بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً
بَقِيتْ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا بِبَغْدَادَ، وَانْتَهَتْ أَيَّامُ صَاحِبِ الزَّنْجِ الْمُدَّعِي
الْكَذَّابِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ ظُهُورُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقُتِلَ يَوْمَ السَّبْتِ
لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. وَكَانَتْ
دَوْلَتُهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قِيلَ فِي انْقِضَاءِ دَوْلَةِ
الزَّنْجِ وَمَا كَانَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ ; مِنْ
ذَلِكَ قَوْلُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَسْلَمِيِّ:
أَقُولُ وَقَدْ جَاءَ الْبَشِيرُ بِوَقْعِةٍ أَعَزَّتْ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا
كَانَ وَاهِيًا جَزَى اللَّهُ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ بَعْدَمَا
أُبِيحَ حِمَاهُمْ خَيْرَ مَا كَانَ جَازِيَا تَفَرَّدَ - إِذْ لَمْ يَنْصُرِ
اللَّهُ نَاصِرٌ
بِتَجْدِيدِ دِينٍ كَانَ أَصْبَحَ بَالِيَا وَتَجْدِيدِ مُلْكٍ قَدْ وَهَى بَعْدَ
عِزِّهِ
وَأَخْذٍ بِثَارَاتٍ تُبِيرُ الْأَعَادِيَا وَرَدِّ عِمَارَاتٍ أُزِيلَتْ
وَأُخْرِبَتْ
لِيَرْجِعَ فَيْءٌ قَدْ تَخَرَّمَ وَافِيَا وَتَرْجِعَ أَمْصَارٌ أُبِيحَتْ
وَأُحْرِقَتْ
مِرَارًا فَقَدْ أَمْسَتْ قَوَاءً عَوَافِيَا وَيَشْفِي صُدُورَ الْمُسْلِمِينَ
بِوَقْعَةٍ
يُقِرُّ بِهَا مِنَّا الْعُيُونَ الْبَوَاكِيَا وَيُتْلَى كِتَابُ اللَّهِ فِي
كُلِّ مَسْجِدٍ
وَيُلْقَى دُعَاءُ الطَّالِبِيِّينَ خَاسِيَا فَأَعْرَضَ عَنْ أَحْبَابِهِ
وَنَعِيمِهِ
وَعَنْ لَذَّةِ الدُّنْيَا وَأَصْبَحَ عَارِيَا
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، هَذَا طَرَفٌ مِنْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَتِ الرُّومُ فِي مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ،
فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ طَرَسُوسَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ
فَبَيَّتُوهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى الصَّبَاحِ
نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَقُتِلَ الْمُقَدَّمُ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَهُوَ بِطْرِيقُ الْبَطَارِقَةِ،
وَجُرِحَ أَكْثَرُ الْبَاقِينَ، وَغَنِمَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً
عَظِيمَةً ; مِنْ ذَلِكَ سَبْعُ صُلْبَانٍ مَنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَصَلِيبُهُمُ
الْأَعْظَمُ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مٍنْ ذَهَبٍ صَامِتٍ مُكَلَّلٍ بِالْجَوَاهِرِ،
وَأَرْبَعَةُ كَرَاسٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَمِائَتَا كُرْسِيٍّ مِنْ فِضَّةٍ، وَآنِيَةٌ كَثِيرَةٌ،
وَعَشَرَةُ آلَافِ عَلَمٍ مِنْ دِيبَاجٍ، وَغَنِمُوا حَرِيرًا كَثِيرًا وَخَمْسَةَ
عَشَرَ أَلْفَ دَابَّةٍ وَسُرُوجًا وَسِلَاحًا وَسُيُوفًا مُحَلَّاةً، وَشَيْئًا
كَثِيرًا جِدًّا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ أَوَّلًا وَآخِرًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ طُولُونَ.
أَبُو الْعَبَّاسِ أَمِيرُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَبَانِي الْجَامِعِ بِهَا،
الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ، وَقَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ وَالْعَوَاصِمَ وَالثُّغُورَ
مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ طُولُونَ مِنَ الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ
أَهْدَاهُمْ نُوحُ بْنُ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ السَّامَانِيُّ، عَامِلُ بُخَارَى
إِلَى الْمَأْمُونِ فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ، وَيُقَالُ: إِلَى الرَّشِيدِ فِي
سَنَةِ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ.
وُلِدَ أَحْمَدُ هَذَا فِي سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ
عِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَمَاتَ أَبُوهُ طُولُونَ فِي سَنَةِ
ثَلَاثِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ.
وَحَكَى ابْنُ خِلِّكَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ وَإِنَّمَا تَبَنَّاهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ مِنْ جَارِيَةٍ تُرْكِيَّةٍ اسْمُهَا هَاشِمُ.
وَنَشَأَ أَحْمَدُ هَذَا فِي صِيَانَةٍ وَعَفَافٍ وَدِرَاسَةٍ لِلْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ، مَعَ حُسْنِ الصَّوْتِ، وَكَانَ يَعِيبُ عَلَى أَوْلَادِ التُّرْكِ
مَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُنْكَرَاتِ،
وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً اسْمُهَا هَاشِمُ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْ بَعْضِ
مَشَايِخِ مِصْرَ أَنَّ طُولُونَ لَمْ يَكُنْ أَبَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ قَدْ
تَبَنَّاهُ، وَأَنَّهُ كَانَ ظَاهِرَ النَّجَابَةِ مِنْ صِغَرِهِ، وَأَنَّهُ
اتَّفَقَ أَنْ بَعَثَهُ طُولُونَ فِي حَاجَةٍ لِيَأْتِيَهُ بِهَا مِنْ قَصْرِ
الْإِمَارَةِ، فَذَهَبَ، فَإِذَا حَظِيَّةٌ مِنْ حَظَايَا أَبِيهِ مَعَ بَعْضِ
الْخَدَمِ فِي فَاحِشَةٍ، فَأَخَذَ حَاجَتَهُ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا، وَكَرَّ
رَاجِعًا إِلَيْهِ سَرِيعًا، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَى مِنْ
ذَلِكَ، فَتَوَهَّمَتِ الْحَظِيَّةُ أَنْ يَكُونَ أَحْمَدُ قَدْ أَخْبَرَ طُولُونَ
بِمَا رَأَى، فَجَاءَتْ إِلَى طُولُونَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَحْمَدَ
جَاءَنِي الْآنَ إِلَى الْمَكَانِ الْفُلَانِيِّ وَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي، وَانْصَرَفَتْ إِلَى قَصْرِهَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهَا، فَاسْتَدْعَى أَحْمَدَ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَخَتَمَهُ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: أَنْ إِذَا وَصَلَ إِلَيْكَ حَامِلُ هَذَا الْكِتَابِ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَابْعَثْ بِرَأْسِهِ سَرِيعًا إِلَيَّ. فَذَهَبَ أَحْمَدُ وَهُوَ لَا يَدْرِي مَا فِي الْكِتَابِ، فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِقَصْرِ تِلْكَ الْحَظِيَّةِ، فَاسْتَدْعَتْهُ إِلَيْهَا، فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ بِهَذَا الْكِتَابِ لِأُوَصِّلَهُ إِلَى فُلَانٍ. فَقَالَتْ: هَلُمَّ، فَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ - وَأَرَادَتْ أَنْ تَحْبِسَهُ عِنْدَهَا ; لِيَكْتُبَ لَهَا كِتَابًا، لِتُحَقِّقَ فِي ذِهْنِ الْمَلِكِ مَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَرْسَلَتْ بِذَلِكَ الْكِتَابِ مَعَ الْخَادِمِ الَّذِي كَانَتْ هِيَ وَإِيَّاهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَجَلَسَ أَحْمَدُ يَكْتُبُ لَهَا الْكِتَابَ، وَذَهَبَ ذَلِكَ الْخَادِمُ إِلَى ذَلِكَ الْأَمِيرِ بِالْكِتَابِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، وَأَرْسَلَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمَلِكِ طُولُونَ، فَتَعَجَّبَ الْمَلِكُ وَقَالَ: أَيْنَ أَحْمَدُ ؟ فَطُلَبَ لَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، أَخْبِرْنِي كَيْفَ صَنَعْتَ مُنْذُ خَرَجْتَ مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ، وَلَمَّا سَمِعَتْ تِلْكَ الْحَظِيَّةُ بِأَنَّ رَأْسَ الْخَادِمِ قَدْ أُتِيَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ سَقَطَ فِي يَدَيْهَا، وَتَوَهَّمَتْ أَنَّ الْمَلِكَ قَدْ تَحَقَّقَ الْحَالَ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ
تَعْتَذِرُ وَتَسْتَغْفِرُ مِمَّا
وَقَعَ مِنْهَا مَعَ الْخَادِمِ، وَاعْتَرَفَتْ بِالْحِقِّ وَبَرَّأَتْ سَاحَةَ
أَحْمَدَ، فَحَظِيَ عِنْدَهُ، وَأَوْصَى لَهُ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ.
ثُمَّ وَلِيَ نِيَابَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ لِلْمُعْتَزِّ، فَدَخَلَهَا
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا إِحْسَانًا كَثِيرًا،
وَأَنْفَقَ فِيهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَمِنْ صَدَقَاتِهِ، وَاسْتَغَلَّ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ أَرْبَعَةَ آلَافِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَبَنَى بِهَا الْجَامِعَ، وَغَرِمَ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ فَرَاغُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ،
وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ. وَكَانَتْ لَهُ مَائِدَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ
يَحْضُرُهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَكَانَ يَتَصَدَّقُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِنْ
خَالِصِ مَالِهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ. وَقَالَ لَهُ وَكِيلُهُ يَوْمًا: إِنَّهُ
تَأْتِينِي الْمَرْأَةُ وَعَلَيْهَا الْإِزَارُ وَبِذْلَةٌ وَهَيْئَةٌ
فَتَسْأَلُنِي أَفَأُعْطِيَهَا ؟ فَقَالَ: مَنْ مَدَّ يَدَهُ إِلَيْكَ فَأَعْطِهِ.
وَكَانَ مِنْ أَحْفَظِ النَّاسِ لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَطْيَبِهِمْ
صَوْتًا بِهِ.
وَقَدْ قِيلَ - فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ خَلِّكَانَ: إِنَّهُ قَتَلَ صَبْرًا نَحْوًا
مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ نَفْسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَنَى
الْبِيمَارِسْتَانَ، فَغَرِمَ عَلَيْهِ سِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى
الْمَيْدَانِ مِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَكَانَ لَهُ صَدَقَاتٌ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، وَإِحْسَانٌ زَائِدٌ، ثُمَّ مَلَكَ دِمَشْقَ بَعْدَ أَمِيرِهَا أَمَاجُورَ
فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ أَيْضًا.
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ بِهَا
حَرِيقٌ عِنْدَ كَنِيسَةِ مَرْيَمَ، فَنَهَضَ بِنَفْسِهِ إِلَيْهِ وَمَعَهُ أَبُو
زُرْعَةَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْحَافِظُ الدِّمَشْقِيُّ، وَكَاتِبُهُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، ثُمَّ أَمَرَ
كَاتِبَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ مَالِ الْأَمِيرِ سَبْعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
تُصْرَفُ إِلَى أَهْلِ الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي أُحْرِقَتْ، فَصَرَفَ
إِلَيْهِمْ جَمِيعَ قِيمَةِ مَا ذَكَرُوهُ، وَبَقِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُوَزَّعَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ،
ثُمَّ أَمَرَ بِمَالٍ عَظِيمٍ يُفَرَّقُ عَلَى فُقَرَاءِ دِمَشْقَ وَغُوطَتِهَا،
فَأَقَلُّ مَا حَصَلَ لِلْفَقِيرِ دِينَارٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَحَاصَرَ بِهَا صَاحِبَهَا سِيمَا حَتَّى
قَتَلَهُ، وَتَسَلَّمَ الْبَلَدَ - كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ -
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي أَوَائِلِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ مِنْ عِلَّةٍ أَصَابَتْهُ مِنْ أَكْلِ لَبَنِ الْجَوَامِيسِ،
فَأَصَابَهُ ذَرَبٌ، فَدَاوَاهُ الْأَطِبَّاءُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، فَكَانَ
يَأْكُلُ مِنْهُ فِي الْخُفْيَةِ، فَمَاتَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ شَيْئًا كَثِيرًا
جِدًّا ; مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةٌ
وَثَلَاثُونَ وَلَدًا ; مِنْهُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، فَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
خُمَارَوَيْهِ، وَسَيَأْتِي مَا كَانَ مَنْ أَمْرِهِ.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْغِلْمَانِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ غُلَامٍ، وَمِنَ
الْمُوَالَى سَبْعَةُ آلَافِ مَوْلًى، وَمِنَ الْبِغَالِ وَالْخَيْلِ وَالْجِمَالِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَإِنَّمَا تَغَلَّبَ عَلَى الْبِلَادِ لِاشْتِغَالِ
الْمُوَفَّقِ طَلْحَةَ ابْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَنْهُ بِحَرْبِ صَاحِبِ الزَّنْجِ
وَقَدْ كَانَ الْمُوَفَّقُ نَائِبَ أَخِيهِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ - وَهُوَ
وَالِدُ الْمُعْتَضِدِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ سَهْلٍ الْكَاتِبُ.
صَاحِبُ كِتَابِ " الْخَرَاجِ "، قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَرْقِيِّ.
وَأُسِيدُ بْنُ عَاصِمٍ الْجَمَّالُ.
وَبَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ الْمِصْرِيُّ.
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَالْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ.
صَاحِبُ طَبَرِسْتَانَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَسِتَّةَ أَيَّامٍ، وَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ
زَيْدٍ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا يَعْرِفُ الْفِقْهَ وَالْعَرَبِيَّةَ، قَالَ
لَهُ شَاعِرٌ فِي جُمْلَةِ قَصِيدَةٍ مَدَحَهُ بِهَا:
اللَّهُ فَرْدٌ وَابْنُ زَيْدٍ فَرْدُ
فَقَالَ: وَيْلَكَ، لَا تَقُلْ، هَلَّا قُلْتَ:
اللَّهُ فَرْدٌ وَابْنُ زَيْدٍ عَبْدُ
ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -
وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالتُّرَابِ، وَلَمْ يُعْطِ ذَلِكَ الشَّاعِرَ شَيْئًا.
وَامْتَدَحَهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ فِي أَوَّلِ قَصِيدَتِهِ:
لَا تَقُلْ بُشْرَى وَلَكِنْ بُشْرَيَانِ عِزَّةُ الدَّاعِي وَيَوْمُ
الْمِهْرَجَانِ
فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ: لَوِ ابْتَدَأَتْ بِالْمِصْرَاعِ الثَّانِي
لَكَانَ أَحْسَنَ، وَأَبْعَدَ لَكَ أَنْ تَبْتَدِئَ شِعْرَكَ بِحَرْفِ " لَا
". فَقَالَ لَهُ الشَّاعِرُ: لَيْسَ فِي الدُّنْيَا كَلِمَةٌ أَجْلَّ مَنْ
قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَقَالَ: أَصَبْتَ. وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ
سَنِيَّةٍ.
وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
عَفَّانَ الْعَامِرِيُّ.
وَدَاودُ بْنُ عَلِيٍّ.
الْأَصْبَهَانِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ، إِمَامُ
أَهْلِ الظَّاهِرِ، رَوَى عَنْ أَبِي ثَوْرٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ،
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَمَةَ الْقَعْنَبِيِّ، وَمُسَدَّدِ بْنِ مُسَرْهَدٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، وَرَوَى
عَنْهُ ابْنُهُ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ، وَزَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى
السَّاجِيُّ.
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ فَقِيهًا زَاهِدًا وَفِي كُتُبِهِ حَدِيثٌ كَثِيرٌ،
وَالرِّوَايَةُ عَنْهُ عَزِيزَةٌ جِدًّا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ مِائَتَيْنِ، وَقِيلَ: فِي
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ. وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ
الشِّيرَازِيُّ فِي " طَبَقَاتِهِ " أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ أَصْبَهَانَ
وَوُلِدَ بِالْكُوفَةِ، وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ وَأَنَّهُ انْتَهَتْ إِلَيْهِ
رِيَاسَةُ الْعِلْمِ بِهَا، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ أَرْبَعُمِائَةِ صَاحِبِ
طَيْلَسَانٍ أَخْضَرَ، وَكَانَ مِنَ
الْمُتَعَصِّبِينَ لِلشَّافِعِيِّ، وَصَنَّفَ مَنَاقِبَهُ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ حَسَنَ الصَّلَاةِ وَالتَّوَاضُعِ.
وَقَدْ قَالَ الْأَزْدِيُّ: تُرِكَ حَدِيثُهُ. وَلَمْ يُتَابَعِ الْأَزْدِيُّ
عَلَى ذَلِكَ.
لَكِنْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ بِسَبَبِ
كَلَامِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَنَّ لَفْظَهُ بِهِ مَخْلُوقٌ، كَمَا نُسِبَ إِلَى
الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ مِنَ
الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَلَكِنْ حَصَرَ نَفْسَهُ بِنَفْيِهِ الْقِيَاسَ
الصَّحِيحَ، فَضَاقَ بِذَلِكَ ذَرْعُهُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْفِقْهِ،
فَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَشْيَاءَ قَطْعِيَّةٍ صَارَ إِلَيْهَا بِسَبَبِ
اتِّبَاعِهِ الظَّاهِرَ الْمُجَرَّدَ مِنْ غَيْرِ تَفَهُّمٍ لِمَعْنَى النَّصِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ الْقِيَاسِيُّونَ بَعْدَهُ فِي الِاعْتِدَادِ
بِخِلَافِهِ، وَأَنَّهُ هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ مَعَ خِلَافِهِ
أَمْ لَا ؟ عَلَى أَقْوَالٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ.
صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ
"
وَالْقَاضِي بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ.
الْحَاكِمُ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى
أَنْ تُوُفِّيَ مَسْجُونًا فِي حَبْسِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ ; لِكَوْنِهِ لَمْ
يَخْلَعِ الْمُوَفَّقَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ، وَكَانَ عَالِمًا عَابِدًا زَاهِدًا
كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالْمُحَاسَبَةِ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ شَغَرَ مَنْصِبُ
الْقَضَاءِ بَعْدَهُ بِمِصْرَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ خَلِّكَانَ
تَرْجَمَتَهُ فِي الْوَفَيَاتِ.
ابْنُ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ قَاضِيهَا،
النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْبَدِيعَةِ الْمُفِيدَةِ
الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى عُلُومٍ جَمَّةٍ نَافِعَةٍ، اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ،
وَسَمِعَ بِهَا الْحَدِيثَ عَلَى إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَطَبَقَتِهِ، وَأَخَذَ
اللُّغَةَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَذَوِيهِ، وَصَنَّفَ وَجَمَعَ
وَأَلَّفَ الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ ; فَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ " الْمَعَارِفِ
" " وَأَدَبُ الْكَاتِبِ " الَّذِي شَرَحَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
السَّيِّدِ الْبَطْلَيُوسِيُّ، وَكِتَابُ " مُشْكِلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
"، " وَغَرِيبُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ "، " وَعُيُونُ
الْأَخْبَارِ "، " وَإِصْلَاحُ الْغَلَطِ "، وَكِتَابُ "
الْخَيْلِ "، وَكِتَابُ " الْأَنْوَاءِ "، وَكِتَابُ "
الْمَسَائِلِ وَالْجَوَابَاتِ "، وَكِتَابُ " الْمَيْسِرِ وَالْقِدَاحِ
"، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي
الَّتِي بَعْدَهَا. وَمَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ،
وَلَمْ يُجَاوِزِ السِّتِّينَ، وَرَوَى عَنْهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ جَمِيعَ
مُصَنَّفَاتِهِ. وَقَدْ وَلِيَ
وَلَدُهُ أَحْمَدُ قَضَاءَ مِصْرَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
وَتُوُفِّيَ بِهَا بَعْدَ سَنَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّاغَانِيُّ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ.
وَمُصَعَبُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ.
وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مَلِكُ الرُّومِ ابْنُ الصَّقْلَبِيَّةِ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا ابْتَدَأَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى بِبِنَاءِ مَدِينَةِ لَارِدَةَ مِنْ
بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ عَنْ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ
وَأَمَرَ بِلَعْنِهِ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَفَوَّضَ أَمْرَ خُرَاسَانَ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ طَاهِرٍ، وَبَعَثَ جَيْشًا إِلَى عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ فَهُزِمَ
عَمْرٌو.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ ابْنِ
الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ وَبَيْنَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ
; وَذَلِكَ أَنَّ خُمَارَوَيْهِ لَمَّا مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ بِلَادَ مِصْرَ وَالشَّامِ
جَاءَهُ جَيْشٌ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ، عَلَيْهِمْ إِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ
نَائِبُ الْجَزِيرَةِ وَابْنُ أَبِي السَّاجِ فَقَاتَلُوهُ بِأَرْضِ شَيْرَزَ،
فَامْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِ الشَّامِ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَنْجَدُوا بِأَبِي
الْعَبَّاسِ ابْنِ الْمُوَفَّقِ، فَقَدِمَ إِلَيْهِمْ فَكَسَرَ جَيْشَ
خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَتَسَلَّمَ دِمَشْقَ وَاحْتَازَهَا، ثُمَّ سَارَ
نَحْوَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى بِلَادِ الرَّمْلَةِ عِنْدَ مَاءٍ عَلَيْهِ
طَوَاحِينُ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ، فَبِذَلِكَ تُسَمَّى هَذِهِ وَقْعَةَ
الطَّوَاحِينِ، ثُمَّ كَانَتِ النَّوْبَةُ أَوَّلًا لِأَبِي الْعَبَّاسِ عَلَى
خُمَارَوَيْهِ، فَهَزَمَهُ حَتَّى هَرَبَ خُمَارَوَيْهِ، لَا يَلْوِي عَلَى
شَيْءٍ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى دَخَلَ الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ، فَأَقْبَلَ
أَبُو الْعَبَّاسِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى نَهْبِ مُعَسْكَرِهِمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ
كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ كَمِينٌ لِجَيْشِ خُمَارَوَيْهِ وَهُمْ مَشْغُولُونَ
بِالْغَنِيمَةِ فَوَضَعَتِ الْمِصْرِيُّونَ فِيهِمُ السُّيُوفَ، فَقُتِلَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَانْهَزَمَ
الْجَيْشُ، وَهَرَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ
الْمُعْتَضِدُ، فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى وَصَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَلَمْ يَفْتَحْ
لَهُ أَهْلُهَا بَابَهَا، فَانْصَرَفَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى طَرَسُوسَ وَبَقِيَ
الْجَيْشَانِ الْمِصْرِيُّ وَالْعِرَاقِيُّ يَقْتَتِلَانِ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَمِيرٌ. ثُمَّ كَانَ الظَّفَرُ لِلْمِصْرِيِّينَ ; لِأَنَّهُمْ
أَقَامُوا أَبَا الْعَشَائِرِ أَخَا خُمَارَوَيْهِ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا،
فَغَلَبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَاسْتَقَرَّتْ أَيْدِيهِمْ عَلَى دِمَشْقَ وَسَائِرِ
الشَّامِ وَهَذِهِ مِنْ أَعْجَبِ الْوَقَعَاتِ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بِأَرْضِ الْأَنْدَلُسِ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ.
وَفِيهَا دَخَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ ابْنَا
الْحُسَيْنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا
مِنْ أَهْلِهَا، وَأَخَذَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَتَعَطَّلَتِ الصَّلَوَاتُ فِي
الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَرْبَعَ جُمَعٍ لَمْ يَحْضُرِ النَّاسُ فِيهَا جُمْعَةً
وَلَا جَمَاعَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَرَتْ بِمَكَّةَ فِتْنَةٌ أُخْرَى وَاقْتَتَلَ النَّاسُ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَيْضًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ.
تِلْمِيذُ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْبَصْرِيُّ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الطَّهْرَانِيُّ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ.
وَيُوسُفُ بْنُ مُسْلِمٍ.
وَبُورَانُ بِنْتُ الْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ.
زَوْجَةُ الْمَأْمُونِ وَيُقَالُ: إِنَّ اسْمَهَا خَدِيجَةُ، وَبُورَانُ لَقَبٌ
لَهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. عَقَدَ عَلَيْهَا الْمَأْمُونُ بِفَمِ الصِّلْحِ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ، وَلَهَا عَشْرُ سِنِينَ، فَنَثَرَ أَبُوهَا
عَلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَنَادِقَ الْمِسْكِ، مَكْتُوبٌ فِي وَرَقَةٍ وَسَطَ
كُلِّ بُنْدُقَةٍ اسْمَ قَرْيَةٍ، أَوْ مِلْكٍ، أَوْ جَارِيَةٍ، أَوْ غُلَامٍ،
أَوْ فَرَسٍ، فَمَنِ الْتَقَطَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَلَكَهَ، وَنَثَرَ عَلَى
عَامَّةِ النَّاسِ الدَّنَانِيرَ وَنَوَافِجَ
الْمِسْكِ وَبِيصَ الْعَنْبَرِ،
وَأَنْفَقَ عَلَى الْمَأْمُونِ وَعَسْكَرِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ تِلْكَ الْأَيَّامَ
خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا تَرَحَّلَ الْمَأْمُونُ عَنْهُ
أَطْلَقَ لَهُ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَقْطَعُهُ فَمَ الصِّلْحِ
وَبَنَى بِهَا فِي سَنَةِ عَشْرٍ. فَلَمَّا جَلَسَ الْمَأْمُونُ فَرَشُوا لَهُ
حَصِيرًا مَنْ ذَهَبٍ، وَنَثَرُوا عَلَى قَدَمَيْهِ أَلْفَ حَبَّةِ جَوْهَرٍ،
وَهُنَاكَ تَوْرٌ مَنْ ذَهَبٍ فِيهِ شَمْعَةٌ مِنْ عَنْبَرٍ زِنَةُ أَرْبَعِينَ
مَنًّا مِنْ عَنْبَرٍ، فَقَالَ: هَذَا سَرَفٌ. وَنَظَرَ إِلَى ذَلِكَ الْحَبِّ
عَلَى الْحَصِيرِ فَقَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ أَبَا نُوَاسٍ حَيْثُ يَقُولُ فِي
صِفَةِ الْخَمْرِ:
كَأَنَّ صُغْرَى وَكُبْرَى مِنْ فَوَاقِعِهَا حَصْبَاءُ دُرٍّ عَلَى أَرْضٍ مِنَ
الذَّهَبِ
ثُمَّ أَمَرَ بِالدُّرِّ فَجُمِعَ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهَا وَقَالَ: هَذَا
نِحْلَةٌ مِنِّي لَكَ، وَسَلِي حَاجَتَكِ. فَقَالَتْ لَهَا جَدَّتُهَا: سَلِي
سَيِّدَكِ فَقَدِ اسْتَنْطَقَكِ. فَقَالَتْ: أَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ
يَرْضَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمَهْدِيِّ فَرَضِيَ عَنْهُ، ثُمَّ أَرَادَ
الِاجْتِمَاعَ بِهَا فَإِذَا هِيَ حَائِضٌ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ،
ثُمَّ تُوُفِّيَ الْمَأْمُونُ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ،
وَتَأَخَّرَتْ هِيَ بَعْدَهُ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَلَهَا ثَمَانُونَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا سَارَ نَائِبُ قَزْوِينَ وَهُوَ أَذْكُوتِكِينُ
فِي أَرْبَعَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ
صَاحِبِ طَبَرِسْتَانَ بَعْدَ أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ بِالرِّيِّ،
فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ مِنَ الدَّيْلَمِ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا فَهَزَمَهُ أَذْكُوتِكِينُ وَغَنِمَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، وَقَتَلَ مِنْ
أَصْحَابِهِ سِتَّةَ آلَافٍ، وَدَخَلَ الرَّىَّ فَأَخَذَ مِنْ أَهْلِهَا مِائَةَ
أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفَرَّقَ عُمَّالَهُ فِي نُوَاحِي الرَّىِّ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ صَاحِبِ
ثَغْرِ طَرَسُوسَ - وَهُوَ يَازْمَانُ الْخَادِمُ - فَثَارَ أَهْلُ طَرَسُوسَ
عَلَى أَبِي الْعَبَّاسِ فَأَخْرَجُوهُ عَنْهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا دَخَلَ حَمْدَانُ بْنُ حَمْدُونَ وَهَارُونُ الشَّارِي مَدِينَةَ
الْمَوْصِلِ وَصَلَّى بِهِمُ الشَّارِي فِي جَامِعِهَا الْأَعْظَمِ.
وَفِيهَا عَاثَتْ بَنُو شَيْبَانَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَسَعَوْا فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا.
وَفِيهَا تَحَرَّكَتْ بَقِيَّةُ الزَّنْجِ فِي أَرْضِ الْبَصْرَةِ وَنَادَوْا: يَا
أَنْكِلَايُ، يَا مَنْصُورُ.
وَكَانَ أَنْكِلَايُ ابْنُ صَاحِبِ
الزَّنْجِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جَامِعٍ، وَأَبَانُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُهَلَّبِيُّ،
وَجَمَاعَةٌ مِنْ وُجُوهِ أُمَرَائِهِمْ فِي حَبْسِ الْمُوَفَّقِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِمْ، فَقُتِلُوا وَحُمِلَتْ رُءُوسُهُمْ إِلَيْهِ وَصُلِبَتْ أَبْدَانُهُمْ
بِبَغْدَادَ، وَسَكَنَتِ الشُّرُورُ.
وَفِيهَا صَلُحَ أَمْرُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَتَرَاجَعَ النَّاسُ
إِلَيْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بِبِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَتَسَلَّمَتِ
الرُّومُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَلَدَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْأَنْدَلُسِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا قَدِمَ صَاعِدُ بْنُ مُخَلَّدٍ الْكَاتِبُ مِنْ فَارِسَ إِلَى وَاسِطَ
فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ الْقُوَّادَ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ، فَدَخَلَ فِي أُبَّهَةٍ
عَظِيمَةٍ، وَلَكِنْ ظَهَرَ مِنْهُ تِيهٌ وَعُجْبٌ شَدِيدٌ، فَأَمَرَ الْمُوَفَّقُ
عَمَّا قَرِيبٍ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِهِ وَأَمْوَالِهِ
وَحَوَاصِلِهِ، وَاسْتَكْتَبَ مَكَانَهُ أَبَا الصَّقْرِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ
بُلْبُلٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
الْعَبَّاسِيُّ، أَمِيرُ الْحَجِّ مُنْذُ دَهْرٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْجَشَّاشُ. وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُطَارِدٍ الْعُطَارِدِيُّ التَّمِيمِيُّ، رَاوِي السِّيرَةِ
عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ يَسَارٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَبُو عُتْبَةَ الْحِجَازِيُّ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ. وَسُلَيْمَانُ بْنُ
وَهْبٍ الْوَزِيرُ، فِي حَبْسِ الْمُوَفَّقِ. وَشُعَيْبُ بْنُ بَكَّارٍ، يَرْوِي
عَنْ أَبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأَنْمَاطِيُّ، وَيُلَقَّبُ بِكِيلَجَةَ، وَهُوَ مِنْ تَلَامِيذِ يَحْيَى بْنِ
مَعِينٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ. وَمُحَمَّدُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُنَادِي. وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ الْحِمْصِيُّ.
وَأَبُو مَعْشَرٍ الْمُنَجِّمُ.
وَاسْمُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَلْخِيُّ، أُسْتَاذُ عَصْرِهِ فِي
صِنَاعَةِ التَّنْجِيمِ، وَلَهُ فِيهِ التَّصَانِيفُ الْمَشْهُورَةُ، كَ "
الْمَدْخَلِ "، وَ " الزِّيجِ "، وَ " الْأُلُوفِ "
وَغَيْرِهَا، وَتَكَلَّمَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّسْيِيرِ وَكَذَلِكَ
بِالْأَحْكَامِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ
وَلَهُ إِصَابَاتٌ عَجِيبَةٌ. ثُمَّ حَكَى أَنَّ بَعْضَ الْمُلُوكِ تَطَلَّبَ
رَجُلًا، فَذَهَبَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَاخْتَفَى وَخَافَ مِنْ أَبِي مَعْشَرٍ
الْمُنَجِّمِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْمَلِكَ بِصَنْعَتِهِ، فَعَمَدَ إِلَى
طَسْتٍ فَمَلَأَهُ دِمَاءً، وَوَضَعَ أَسْفَلَهُ هَاوَنًا وَجَلَسَ عَلَى ذَلِكَ
الْهَاوَنِ، فَاسْتَدْعَى الْمَلِكُ أَبَا مَعْشَرٍ، فَضَرَبَ رَمْلَهُ وَحَرَّرَ
أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا عَجِيبٌ ! أَجِدُ هَذَا الرَّجُلَ جَالِسًا عَلَى
جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي وَسَطِ بَحْرٍ مِنْ دَمٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا فِي
الدُّنْيَا. ثُمَّ أَعَادَ الضَّرْبَ فَوَجَدَهُ كَذَلِكَ، فَتَعَجَّبَ الْمَلِكُ
أَيْضًا، وَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِأَمَانِ الْمَذْكُورِ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ
يَدَيِ الْمَلِكِ سَأَلَهُ أَيْنَ اخْتَفَى ؟ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرِهِ،
فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الصَّادِقِ مِنْ عِلْمِ الرَّجَزِ، وَالطُّرَفِ، وَاخْتِلَاجِ الْأَعْضَاءِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ هَذَا،
وَلَيْسَ بِالصَّادِقِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ إِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ
وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ نَائِبِ قِنَّسْرِينَ وَغَيْرِهَا
بَعْدَمَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ، وَكَاتَبَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ خُمَارَوَيْهِ
صَاحِبَ مِصْرَ، وَخَطَبَ لَهُ بِبِلَادِهِ، وَقَدِمَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى
الشَّامِ فَاجْتَمَعَ بِهِ ابْنُ أَبِي السَّاجِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى إِسْحَاقَ
بْنِ كِنْدَاجَ فَتَوَاقَعَا، فَانْهَزَمَ ابْنُ كِنْدَاجَ، وَهَرَبَ إِلَى
قَلْعَةِ مَارْدِينَ فَحَاصَرَهُ بِهَا، ثُمَّ ظَهَرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي
السَّاجِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْمَوْصِلِ وَبِلَادِ الْجَزِيرَةِ وَخَطَبَ بِهَا
لِخُمَارَوَيْهِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جِدًّا.
وَفِيهَا قَبَضَ الْمُوَفَّقُ عَلَى لُؤْلُؤٍ غُلَامِ ابْنِ طُولُونَ، وَصَادَرَهُ
بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسَجَنَهُ، فَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ لِي
ذَنْبٌ إِلَّا كَثْرَةُ مَالِي. ثُمَّ أُخْرِجَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ السِّجْنِ
وَهُوَ فَقِيرٌ ذَلِيلٌ، فَعَادَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي أَيَّامِ
هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ، وَمَعَهُ غُلَامٌ وَاحِدٌ. وَهَذَا جَزَاءُ كُفْرِ
نِعْمَةِ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا عَدَا أَوْلَادُ مَلِكِ الرُّومِ عَلَى أَبِيهِمْ فَقَتَلُوهُ،
وَتَمَلَّكَ بَعْدَهُ أَحَدُ أَوْلَادِهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ.
صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ أَبْيَضَ
مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ، رَبْعَةً أَوْقَصَ، يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ،
وَكَانَ عَاقِلًا لَبِيبًا، وَكَانَ يُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ الْمُشْتَبِهَةَ،
وَخَلَّفَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ذَكَرًا، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ
الْمُنْذِرُ، فَأَحْسَنَ إِلَى النَّاسِ فَأَحَبُّوهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبِي الْهَيْثَمِ الذُّهْلِيِّ.
الَّذِي كَانَ أَمِيرَ خُرَاسَانَ فِي حَبْسِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا
الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الْبُخَارِيَّ مِنْ بُخَارَى، فَدَعَا عَلَيْهِ،
فَلَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَبْقَ فِي الْإِمْرَةِ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ
شَهْرٍ حَتَّى احْتِيطَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَأُرْكِبَ
حِمَارًا وَنُودِيَ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ، ثُمَّ سُجِنَ، فَمَاتَ فِيهِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ تَعَرَّضَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ
وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا - أَيْضًا - مِنَ الْأَعْيَانِ: إِسْحَاقُ بْنُ
سَيَّارٍ. وَحَنْبَلُ بْنُ
إِسْحَاقَ، ابْنُ عَمِّ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَحَدُ الرُّوَاةِ الْمَشْهُورِينَ عَنْهُ، عَلَى
أَنَّهُ قَدِ اتُّهِمَ فِي بَعْضِ مَا يَرْوِيهِ وَيَحْكِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَبُو أُمَيَّةَ الطَّرَسُوسِيُّ. وَالْفَتْحُ بْنُ شُخْرُفٍ، أَحَدُ مَشَايِخِ
الصُّوفِيَّةِ ذَوِي الْأَحْوَالِ وَالْكَرَامَاتِ وَالْمَقَامَاتِ وَالْكَلِمَاتِ
النَّافِعَاتِ، وَوَهِمَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي قَوْلِهِ فِي " كَامِلِهِ
": إِنَّ أَبَا دَاوُدَ صَاحِبَ " السُّنَنِ " تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، بَلْ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي.
ابْنُ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ.
صَاحِبُ " السُّنَنِ "، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
يَزِيدَ، ابْنُ مَاجَهْ الْقَزْوِينِيُّ مَوْلَى رَبِيعَةَ، صَاحِبُ كِتَابِ
" السُّنَنِ " الْمَشْهُورَةِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى عَمَلِهِ وَعِلْمِهِ
وَتَبَحُّرِهِ وَاطِّلَاعِهِ وَاتِّبَاعِهِ لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي
الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ كِتَابًا،
وَأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ بَابٍ، وَيَحْتَوِي عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ،
كُلُّهَا جِيَادٌ سِوَى الْيَسِيرِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ
الرَّازِيِّ أَنَّهُ انْتَقَدَ مِنْهَا بِضْعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، رُبَّمَا
يُقَالُ: إِنَّهَا مَوْضُوعَةٌ، أَوْ مُنْكَرَةٌ جِدًّا. وَلَهُ تَفْسِيرٌ حَافِلٌ
وَتَارِيخٌ كَامِلٌ مِنْ لَدُنِ الصَّحَابَةِ إِلَى عَصْرِهِ.
قَالَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلِيلِيُّ
الْقَزْوِينِيُّ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ وَيَعْرِفُ يَزِيدُ
بِمَاجَهْ مَوْلَى رَبِيعَةَ، عَالِمٌ بِهَذَا الشَّأْنِ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ
فِي التَّارِيخِ، وَالسُّنَنِ، ارْتَحَلَ إِلَى الْعِرَاقَيْنِ وَمِصْرَ
وَالشَّامِ. ثُمَّ ذَكَرَ طَرَفًا مِنْ مَشَايِخِهِ، وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُمْ فِي
كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ: وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْكِبَارُ الْقُدَمَاءُ ; ابْنُ سِيبَوَيْهِ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عِيسَى الصَّفَّارُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ الْقَطَّانُ، وَجَدِّي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَزِيدَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ عَنْ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَصَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ، وَتَوَلَّى
دَفْنَهُ مَعَ أَخِيهِ الْآخَرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ وَبَيْنَ عَمْرِو
بْنِ اللَّيْثِ بِفَارِسَ، فَقَصَدَهُ أَبُو أَحْمَدَ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَمْرٌو
مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَيَتْبَعُهُ، ثُمَّ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ
وَلَا مُوَاجَهَةٌ، وَقَدْ تَحَيَّزَ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ مُقَدَّمُ
جَيْشِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَهُوَ أَبُو طَلْحَةَ شَرْكَبٌ الْجَمَّالُ،
ثُمَّ أَرَادَ الْعَوْدَ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ،
وَأَبَاحَ مَالَهُ لِوَلَدِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ، وَذَلِكَ
بِالْقُرْبِ مِنْ شِيرَازَ.
وَفِيهَا غَزَا يَازْمَانُ الْخَادِمُ - نَائِبُ طَرَسُوسَ - بِلَادَ الرُّومِ،
فَأَوْغَلَ فِيهَا فَقَتَلَ وَغَنِمَ وَسَلِمَ.
وَفِيهَا دَخَلَ صِدِّيقٌ الْفَرْغَانِيُّ سَامَرَّا، فَنَهَبَ دُورَ التُّجَّارِ
بِهَا، وَكَرَّ رَاجِعًا، وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِمَّنْ يَحْرُسُ
الطُّرُقَاتِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ يَقْطَعُهَا وَضَعُفَ الْجُنْدُ
بِسَامَرَّا عَنْ مُقَاوَمَتِهِ.
وَمِمَّا تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْأَصَمِّ، أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظِمِ ": كَانَ حَافِظًا فَاضِلًا،
رَوَى عَنْ حَرْمَلَةَ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زِيَادٍ، أَبُو يَعْقُوبَ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَ
عَنْ هُدْبَةَ، وَعَنْهُ ابْنُ مَخْلَدٍ. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْهَا.
أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الصُّغْدِيُّ، يَرْوِي عَنْ آدَمَ بْنِ
أَبِي إِيَاسٍ، وَأَبِي الْيَمَانِ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَعَنْهُ ابْنُ
صَاعِدٍ وَابْنُ السَّمَاكِ، وَكَانَ ثِقَةً، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
الْحَسَنُ بْنُ مُكْرَمِ بْنِ حَسَّانَ بْنِ عَلِيٍّ الْبَزَّارُ، سَمِعَ
عَفَّانَ، وَأَبَا النَّضْرِ، وَيَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ
الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ مَخْلَدٍ النَّجَّادُ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي
رَمَضَانَ مِنْهَا عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَاسِطِيُّ،
الْمُلَقَّبُ بِكُرْدُوسٍ، رَوَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ مَخْلَدٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:
صَدُوقٌ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:
ثِقَةٌ. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ،
الْمَعْرُوفُ بِعَبْدُوسٍ، رَوَى عَنْ شَبَابَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ،
وَعَنْهُ الْمَحَامِلِيُّ، وَابْنُ السَّمَّاكِ، وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ،
وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَعْدٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، أَصْلُهُ مِنْ
بِلْخَ وَسَكَنَ بَغْدَادَ رَوَى عَنْ سُرَيْجِ بْنِ يُونُسَ، وَعَفَّانَ،
وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا
وَالْبَغَوِيُّ، وَالْمَحَامِلِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَآدَابٍ
وَمُلَحٍ، تُوُفِّيَ بِوَاسِطَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ زِيَادٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَقِيلَ: أَبُو
بَكْرٍ الدُّولَابِيُّ، سَمِعَ أَبَا النَّضْرِ، وَأَبَا الْيَمَانِ، وَأَبَا
مُسْهِرٍ، وَعَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ
مَخْلَدٍ، وَابْنُ السَّمَّاكِ، وَكَانَ ثِقَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ ابْنِ أَبِي السَّاجِ وَبَيْنَ
خُمَارَوَيْهِ، فَاقْتَتَلَا عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْعُقَابِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ
فَغُلِبَ ابْنُ أَبِي السَّاجِ وَانْهَزَمَ، وَكَانَتْ حَوَاصِلُهُ بِحِمْصَ،
فَبَعَثَ خُمَارَوَيْهِ مَنْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا، فَأَخَذَهَا وَمَنَعَ مِنْهُ
حِمْصَ فَذَهَبَ إِلَى حَلَبٍ فَمَنَعَهُ خُمَارَوَيْهِ، فَسَارَ إِلَى الرَّقَّةِ
فَاتَّبَعَهُ، فَذَهَبَ إِلَى الْمَوْصِلِ ثُمَّ انْهَزَمَ مِنْهَا خَوْفًا مِنْ
خُمَارَوَيْهِ وَوَصَلَ خُمَارَوَيْهِ إِلَى الْبَلَدِ، وَاتَّخَذَ لَهُ بِهَا
سَرِيرًا طَوِيلَ الْقَوَائِمِ، وَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ فِي الْفُرَاتِ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ فَسَارَ وَرَاءَهُ ;
لِيَظْفَرَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَقْدِرْ، وَقَدِ الْتَقَيَا فِي بَعْضِ
الْأَيَّامِ، فَصَبَرَ لَهُ ابْنُ أَبِي السَّاجِ صَبْرًا عَظِيمًا، فَسَلِمَ
وَانْصَرَفَ إِلَى أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بِبَغْدَادَ، فَأَكْرَمَهُ
وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ، وَرَجَعَ إِسْحَاقُ
بْنُ كِنْدَاجَ إِلَى دِيَارِ بِكْرٍ وَمُضَرَ مِنَ الْجَزِيرَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا سَجَنَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ
ابْنَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدَ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، وَكَانَ سَبَبَ
ذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَامْتَنَعَ أَنْ
يَسِيرَ إِلَّا إِلَى الشَّامِ الَّتِي كَانَ عَمُّهُ الْمُعْتَمِدُ وَلَّاهُ
إِيَّاهَا، فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ، فَثَارَتِ الْأُمَرَاءُ
وَاخْتَبَطَتْ بَغْدَادُ وَرَكِبَ الْمُوَفَّقُ إِلَى بَغْدَادَ وَقَالَ
لِلنَّاسِ: أَتَظُنُّونَ أَنَّكُمْ
أَشْفَقُ عَلَى وَلَدِي مِنِّي ؟ فَسَكَنَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَرَاجَعُوا
إِلَى مَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ أَفْرَجَ عَنْهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَارَ رَافِعٌ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ أَخِي
الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْعَلَوِيِّ، فَأَخَذَ مِنْهُ مَدِينَةَ جُرْجَانَ
فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى أَسْتَرَابَاذَ فَحَصَرَهُ بِهَا سَنَتَيْنِ، فَغَلَا بِهَا
السِّعْرُ حَتَّى بِيعَ الْمِلْحُ بِهَا وَزْنُ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ،
فَهَرَبَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ مِنْهَا لَيْلًا إِلَى سَارِيَةَ، ثُمَّ أَخَذَ
مِنْهُ رَافِعٌ بِلَادًا كَثِيرَةً بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُدَّةٍ مُتَطَاوِلَةٍ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا - أَوْ فِي صِفْرٍ - كَانَتْ وَفَاةُ الْمُنْذِرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُقْوِيِّ صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ
عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ
شَهْرًا وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ طَوِيلًا، بِوَجْهِهِ أَثَرُ
جُدَرِيٍّ، جَوَادًا مُمَدَّحًا، يُحِبُّ الشُّعَرَاءَ وَيَصِلُهُمْ بِمَالٍ
كَثِيرٍ، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ سِتَّةَ ذُكُورٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَامْتَلَأَتْ بِلَادُ
الْأَنْدَلُسِ فِي أَيَّامِهِ فِتَنًا وَشُرُورًا حَتَّى هَلَكَ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَجَّاجُ الْمَرُّوذِيُّ صَاحِبُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، كَانَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَذْكِيَاءِ، وَكَانَ أَحْمَدُ
يُقَدِّمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ وَيَأْنَسُ بِهِ
وَيَبْعَثُهُ فِي الْحَاجَةِ
وَيَقُولُ: قُلْ مَا شِئْتَ. وَهُوَ الَّذِي أَغْمَضَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَكَانَ
فِيمَنْ غَسَّلَهُ أَيْضًا، وَقَدْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَدَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً،
وَحَصَلَتْ لَهُ رِفْعَةٌ عَظِيمَةٌ، شَيَّعَهُ إِلَى سَامَرَّا حِينَ أَرَادَ
الْغَزْوَ خَمْسُونَ أَلْفًا.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَالِبِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مِرْدَاسٍ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْبَاهِلِيُّ الْبَصْرِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ خَلِيلٍ، سَكَنَ
بَغْدَادَ وَرَوَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الشَّاذَكُونِيِّ، وَشَيْبَانَ
بْنِ فَرُّوخَ، وَقُرَّةَ بْنِ حَبِيبٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ السَّمَّاكِ
وَابْنُ مَخْلَدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَبُو حَاتِمٍ
وَغَيْرُهُ أَحَادِيثَ رَوَاهَا مُنْكَرَةً عَنْ شُيُوخٍ مَجْهُولِينَ، قَالَ
أَبُو حَاتِمٍ: وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَفْتَعِلُ الْحَدِيثَ، كَانَ رَجُلًا
صَالِحًا. وَكَذَّبَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَرَوَى ابْنُ عَدِيٍّ
عَنْهُ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِوَضْعِ الْحَدِيثِ لِيُرَقِّقَ بِهِ قُلُوبَ النَّاسِ.
وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا يَقْتَاتُ الْبَاقِلَاءَ الصِّرْفَ، وَحِينَ مَاتَ
أُغْلِقَتْ أَسْوَاقُ بَغْدَادَ وَحَضَرَ النَّاسُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ
حُمِلَ فِي زَوْرَقٍ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدُفِنَ بِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُلَاعِبٍ، رَوَى عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
ثِقَةً دَيِّنًا عَالِمًا فَاضِلًا، انْتَشَرَ بِهِ عِلْمٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْحَدِيثِ.
وَأَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السُّكَّرِيُّ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ،
صَاحِبُ التَّصَانِيفِ.
وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ، أَبُو يَعْقُوبَ النَّيْسَابُورِيُّ،
كَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعِنْدَهُ اخْتَفَى فِي
زَمَنِ الْمِحْنَةِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ الْعَطَّارُ
الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: كَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ مُعَدَّلًا
عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَيَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ:
صَاحِبُ " السُّنَنِ "، وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ
إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِمْرَانَ، أَبُو دَاوُدَ
الْأَزْدِيُّ السِّجِسْتَانِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الرَّحَّالِينَ
الْجَوَّالِينَ فِي الْآفَاقِ وَالْأَقَالِيمِ، جَمَعَ وَصَنَّفَ وَخَرَّجَ
وَأَلَّفَ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَعَنْ مَشَايِخِ الْبُلْدَانِ فِي الشَّامِ
وَمِصْرَ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَهُ
" السُّنَنُ " الْمَشْهُورَةُ الْمُتَدَاوَلَةُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ،
الَّتِي قَالَ فِيهَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: يَكْفِي الْمُجْتَهِدَ
مَعْرِفَتُهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ. وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ ;
مِنْهُمُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّسَائِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ
سَلْمَانَ النَّجَّادُ، وَهُوَ آخِرُ
مَنْ رَوَى عَنْهُ فِي الدُّنْيَا. سَكَنَ أَبُو دَاوُدَ الْبَصْرَةَ وَقَدِمَ
بَغْدَادَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَحَدَّثَ بِكِتَابِهِ " السُّنَنِ " بِهَا،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ صَنَّفَهُ بِهَا، وَعَرَضَهُ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ
فَاسْتَجَادَهُ وَاسْتَحْسَنَهُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْقَارِيُّ الدِّينَوَرِيُّ، بِلَفْظِهِ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا الْحُسَيْنِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ
الْفَرْضِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ دَاسَهْ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا
دَاوُدَ يَقُولُ: كَتَبْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، انْتَخَبْتُ مِنْهَا مَا ضَمَّنْتُهُ
هَذَا الْكِتَابَ - يَعْنِي كِتَابَ " السُّنَنِ " - جَمَعْتُ فِيهِ
أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةِ حَدِيثٍ ; ذَكَرْتُ الصَّحِيحَ وَمَا
يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ، وَيَكْفِي الْإِنْسَانَ لِدِينِهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ
أَحَادِيثَ ; أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ
وَالثَّانِي: قَوْلُهُمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ
وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَرْضَى
لِأَخِيهِ مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُالْحَلَّالُ بَيِّنٌ،
وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ وَحُدِّثْتُ عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَنْبَلِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الْخَلَّالَ
قَالَ: أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ
الْإِمَامُ الْمُقَدَّمُ فِي زَمَانِهِ
رَجُلٌ لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ تَخْرِيجَ الْعُلُومِ وَبَصَرِهِ
بِمَوَاضِعِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، رَجُلٌ وَرِعٌ مُقَدَّمٌ، قَدْ
سَمِعَ مِنْهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثًا وَاحِدًا كَانَ أَبُو دَاوُدَ
يَذْكُرُهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ الْأَصْبَهَانِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ
يَرْفَعُونَ مِنْ قَدْرِهِ وَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَا يَذْكُرُونَ أَحَدًا فِي
زَمَانِهِ مِثْلَهُ. قُلْتُ: الْحَدِيثُ الَّذِي كَتَبَهُ عَنْهُ وَسَمِعَهُ
مِنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ هُوَ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ
عَنْ أَبِي الْعُشَرَاءِ الدَّارِمِيِّ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الْعَتِيرَةِ، فَحَسَّنَهَا
".
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَغَيْرُهُ: أُلِينَ لِأَبِي دَاوُدَ
الْحَدِيثُ كَمَا أُلِينَ لِدَاودَ الْحَدِيدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَحَدَ
حُفَّاظِ الْإِسْلَامِ لِلْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَسَنَدِهِ، فِي أَعْلَى دَرَجَةِ
النُّسُكِ وَالْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالْوَرَعِ، مِنْ فُرْسَانِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُشَبَّهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي هَدْيِهِ وَدَلِّهِ وَسَمْتِهِ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ
يُشْبِهُهُ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ يُشْبِهُ عَلْقَمَةَ، وَكَانَ مَنْصُورٌ يُشْبِهُ
إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ سُفْيَانُ يُشْبِهُ مَنْصُورًا، وَكَانَ وَكِيعٌ يُشْبِهُ
سُفْيَانَ، وَكَانَ أَحْمَدُ يُشْبِهُ وَكِيعًا، وَكَانَ أَبُو دَاوُدَ يُشْبِهُ
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ: كَانَ لِأَبِي دَاوُدَ كُمٌّ وَاسِعٌ وَكُمٌّ ضَيَّقٌ،
فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ ؟ فَقَالَ: هَذَا الْوَاسِعُ
لِلْكُتُبِ، وَالْآخَرُ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ مَوْلِدُ أَبِي دَاوُدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ،
وَتُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ
شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ ; عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ قَبْرِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي كتَابِنَا " التَّكْمِيلِ "، وَذَكَرْنَا
ثَنَاءَ الْأَئِمَّةِ عَلَيْهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْعَنْبَسِ الصَّيْمَرِيُّ
الشَّاعِرُ، كَانَ مُجِيدًا فِي شِعْرِهِ، أَدِيبًا، كَثِيرَ الْمُلَحِ، وَكَانَ
هَجَّاءً، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
كَمْ مَرِيضٌ قَدْ عَاشَ مِنْ بَعْدِ يَأْسٍ بَعْدَ مَوْتِ الطَّبِيبِ
وَالْعُوَّادِ قَدْ يُصَادُ الْقَطَا فَيَنْجُو سَلِيمًا
وَيَحُلُّ الْقَضَاءُ بِالصَّيَّادِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أُعِيدَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ إِلَى شُرْطَةِ
بَغْدَادَ وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الْفُرُشِ وَالْمَقَاعِدِ وَالسُّتُورِ، ثُمَّ
أُسْقِطَ اسْمُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَعُزِلَ عَنْ ذَلِكَ وَوَلِيَ عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ.
وَفِيهَا وَلَّى الْمُوَفَّقُ ابْنَ أَبِي السَّاجِ نِيَابَةَ أَذْرَبِيجَانَ.
وَفِيهَا قَصَدَ هَارُونُ الشَّارِي الْخَارِجِيُّ مَدِينَةَ الْمَوْصِلِ فَنَزَلَ
شَرْقِيَّ دِجْلَتِهَا، فَحَاصَرَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَشْرَافُ أَهْلِهَا
فَاسْتَأْمَنُوهُ فَأَمَّنَهُمْ، وَرَجَعَ عَنْهُمْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ
أَمِيرُ الْحَرَمَيْنِ وَالطَّائِفِ، وَلَمَّا رَجَعَ حُجَّاجُ الْيَمَنِ نَزَلُوا
فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، فَجَاءَهُمْ سَيْلٌ فَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ حَتَّى
غَرَّقَهُمْ كُلَّهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " وَابْنُ الْأَثِيرِ
فِي " كَامِلِهِ "، أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ انْفَرَجَ تَلٌّ فِي
أَرْضِ الْبَصْرَةِ يُعْرَفُ بِتَلِّ بَنِيَ شَقِيقٍ عَنْ سَبْعَةِ أَقْبُرٍ فِي
مِثْلِ الْحَوْضِ، وَفِيهِ سَبْعَةٌ، أَبْدَانُهُمْ صَحِيحَةٌ وَأَكْفَانُهُمْ،
يَفُوحُ مِنْهُمْ رِيحُ الْمِسْكِ،
أَحَدُهُمْ شَابٌّ لَهُ جُمَّةٌ
وَعَلَى شَفَتَيْهِ بَلَلٌ كَأَنَّهُ قَدْ شَرِبَ مَاءً، وَكَأَنَّ عَيْنَيْهِ
مُكَحَّلَتَانِ، وَبِهِ ضَرْبَةٌ فِي خَاصِرَتِهِ، وَأَرَادَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ
أَنْ يَأْخُذَ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا فَإِذَا هُوَ قَوِيٌ كَشَعْرِ الْحَيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرْزَةَ، الْحَافِظُ صَاحِبُ "
الْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ، لَهُ حَدِيثٌ كَثِيرٌ وَرِوَايَةٌ عَالِيَةٌ.
وَبَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، صَاحِبُ "
الْمُسْنَدِ " الْمُبَوَّبِ عَلَى الْفِقْهِ، رَوَى فِيهِ عَنْ أَلْفٍ
وَسِتِّمِائَةِ صَحَابِيٍّ، وَقَدْ فَضَّلَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَلَى " مُسْنَدِ
" الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَعِنْدِي فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ
" مُسْنَدَ أَحْمَدَ " أَجْوَدُ مِنْهُ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ هُوَ
بِبِلَادِهِمْ، وَلَا وَقَعَ لَهُمْ رِوَايَتُهُ، وَلَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ
وَوَقَفَ عَلَى مَا فِيهِ لِمَا فَضَّلَ عَلَيْهِ مُسْنَدًا مِنَ الْمُسْنَدَاتِ،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيٌّ قَدْ سَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ جَمِيعَ "
الْمُسْنَدِ "، وَزَادَ عَلَيْهِ، كَمَا قَدْ يَسَّرَ اللَّهُ مِنَ
الزِّيَادَاتِ الَّتِي أَلْحَقْنَاهَا بِ " مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَدْ رَحَلَ بَقِيٌّ إِلَى الْعِرَاقِ،
فَسَمِعَ مِنَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ
بِالْعِرَاقِ
وَغَيْرِهَا، يَزِيدُونَ عَلَى
الْمِائَتَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ شَيْخًا، وَلَهُ تَصَانِيفُ أُخَرُ،
وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا عَابِدًا، زَاهِدًا، مُجَابَ الدَّعْوَةِ ;
ذَكَرَ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إِنَّ ابْنِي قَدْ
أَسَرَتْهُ الْإِفْرِنْجُ، وَإِنِّي لَا أَنَامُ اللَّيْلَ مِنْ شَوْقِي إِلَيْهِ،
وَلِي دُوَيْرَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَهَا لِأَسْتَفِكَّهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ
تَسِيرَ إِلَى أَحَدٍ يَأْخُذُهَا لِأَسْعَى فِي فِكَاكِهِ، فَلَيْسَ لِي لَيْلٌ
وَلَا نَهَارٌ، وَلَا صَبْرٌ وَلَا قَرَارٌ. فَقَالَ: نَعَمْ، انْصَرِفِي حَتَّى
نَنْظُرَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَطْرَقَ الشَّيْخُ وَحَرَّكَ
شَفَتَيْهِ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لِوَلَدِهَا بِالْخَلَاصِ، فَذَهَبَتِ
الْمَرْأَةُ، فَمَا كَانَ إِلَّا عَنْ قَلِيلٍ حَتَّى جَاءَتْ وَابْنُهَا مَعَهَا،
فَقَالَتِ: اسْمَعْ خَبَرَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَقَالَ: كَيْفَ كَانَ أَمْرُكَ
؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِيمَنْ يَخْدُمُ الْمَلِكَ، وَنَحْنُ فِي الْقُيُودِ،
فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ أَمْشِي إِذْ سَقَطَ الْقَيْدُ مِنْ رِجْلِي،
فَأَقْبَلَ الْمُوَكِّلُ بِنَا فَشَتَمَنِي، وَقَالَ: فَكَكْتَ الْقَيْدَ مِنْ رِجْلَيْكَ
؟ فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ وَلَمْ أَشْعُرْ. فَجَاءُوا
بِالْحَدَّادِ فَأَعَادَهُ وَشَدَّ مِسْمَارَهُ وَأَيَّدَهُ، ثُمَّ قُمْتُ
فَسَقَطَ أَيْضًا، فَأَعَادُوهُ وَأَكَّدُوهُ، فَسَقَطَ أَيْضًا، فَسَأَلُوا
رُهْبَانَهُمْ فَقَالُوا: لَهُ وَالِدَةٌ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالُوا: إِنَّهُ
قَدِ اسْتُجِيبَ دُعَاؤُهَا، أَطْلِقُوهُ. فَأَطْلَقُونِي وَخَفَرُونِي حَتَّى
وَصَلْتُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ. فَسَأَلَهُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ عَنِ
السَّاعَةِ الَّتِي سَقَطَ فِيهَا الْقَيْدُ مِنْ رِجْلَيْهِ، فَإِذَا هِيَ
السَّاعَةُ الَّتِي دَعَا فِيهَا اللَّهَ لَهُ.
صَاعِدُ بْنُ مَخْلَدٍ الْكَاتِبُ، كَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ،
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
" مُنْتَظَمِهِ "، وَتَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
كَامِلِهِ "، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ تِيهٌ وَحُمْقٌ، وَقَدْ يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ.
ابْنُ قُتَيْبَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الدِّينَوَرِيُّ، ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ الْعُلَمَاءِ وَالْأُدَبَاءِ
وَالْحُفَّاظِ الْأَذْكِيَاءِ رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرِ
وَاحِدٍ، وَلَهُ التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ الْمَشْهُورَةُ الْأَنِيقَةُ ; كَ:
" غَرِيبِ الْقُرْآنِ " وَ " مُشْكِلِهِ " وَ "
الْمَعَارِفِ "، وَ " أَدَبِ الْكَاتِبِ "، وَ " عُيُونِ
الْأَخْبَارِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا مِنَ
الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَتَّهِمُونَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي
مَنْزِلِهِ شَيْءٌ مِنْ تَصَانِيفِهِ، وَكَانَ سَبَبَ وَفَاتِهِ أَنَّهُ أَكَلَ
لُقْمَةً مِنْ هَرِيسَةٍ فَإِذَا هِيَ حَارَّةٌ، فَصَاحَ صَيْحَةً شَدِيدَةً،
ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ، ثُمَّ أَفَاقَ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ
يَتَشَهَّدُ إِلَى أَنْ مَاتَ وَقْتَ السَّحَرِ، أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَجَبٍ،
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ. وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو قِلَابَةَ
الرَّقَاشِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ، وَلَكِنْ
غَلَبَ عَلَيْهِ لَقَبُ: أَبُو قِلَابَةَ. سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَرَوْحَ
بْنَ عُبَادَةَ، وَأَبَا دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ
صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ
وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ صَدُوقًا عَابِدًا، يُصَلِّي فِي
كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ
رَكْعَةٍ، وَرَوَى مِنْ حِفْظِهِ سِتِّينَ أَلْفَ حَدِيثٍ، غَلَطَ فِي بَعْضِهَا
لَا عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الصَّائِغُ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَأَبُو الرَّدَّادِ الْمُؤَذِّنُ،
وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الرَّدَّادِ، الْمُؤَذِّنُ صَاحِبُ الْمِقْيَاسِ بِمِصْرَ، الَّذِي هُوَ مُسَلَّمٌ
إِلَيْهِ وَإِلَى ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. قَالَهُ الْقَاضِي ابْنُ
خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَطَبَ يَازْمَانُ نَائِبُ طَرَسُوسَ لِخُمَارَوَيْهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ
هَادَاهُ بِذَهَبٍ كَثِيرٍ وَتُحَفٍ هَائِلَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قَدِمَ قَائِدٌ عَظِيمٌ مِنْ أَصْحَابِ خُمَارَوَيْهِ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْمَظَالِمَ بِبَغْدَادَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَنُودِيَ فِي
النَّاسِ: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ وَلَوْ عِنْدَ الْأَمِيرِ النَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ، أَوْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ
فَلْيَحْضُرْ.
وَسَارَ فِي النَّاسِ سِيرَةً حَسَنَةً، وَأَظْهَرَ صَرَامَةً لَمْ يُرَ
مِثْلُهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي الْعَنْبَسِ أَبُو إِسْحَاقَ الْكُوفِيُّ
قَاضِي بَغْدَادَ بَعْدَ ابْنِ سَمَاعَةَ سَمِعَ يَعْلَى بْنَ عُبَيْدٍ
وَغَيْرَهُ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ. تُوُفِّيَ عَنْ
ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا دَيِّنًا صَالِحًا.
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى.
أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الصُّوفِيَّةِ بِالْعِبَادَةِ
وَالْمُجَاهَدَةِ وَالْوَرَعِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي ذَلِكَ،
وَلَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَصَبْرٌ عَلَى الشَّدَائِدِ وَضِيقِ الْحَالِ.
وَرَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشَّارٍ صَاحِبِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ
وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِذَا بَكَتْ أَعْيُنُ
الْخَائِفِينَ، فَقَدْ كَاتَبُوا اللَّهَ بِدُمُوعِهِمْ. وَقَوْلُهُ: الْعَافِيَةُ
تَسْتُرُ الْبَرَّ وَالْفَاجِرَ، فَإِذَا جَاءَتِ الْبَلْوَى تَبَيَّنَ عِنْدَهَا
الرِّجَالُ. وَقَولُهُ: كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَقَوْلُهُ: الِاشْتِغَالُ بِوَقْتٍ مَاضٍ تَضْيِيعُ وَقْتٍ حَاضِرٍ. وَقَوْلُهُ:
ذُنُوبُ الْمُقَرَّبِينَ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ. وَقَالَ: الرِّضَا قَبْلَ
الْقَضَاءِ تَفْوِيضٌ، وَالرِّضَا مَعَ الْقَضَاءِ تَسْلِيمٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ
مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. فَقَالَ: يَا عَجَبًا لِمَنْ لَمْ يَرَ مُحْسِنًا غَيْرَ
اللَّهِ، كَيْفَ لَا يَمِيلُ إِلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ ؟ ! قُلْتُ: وَهَذَا
الْحَدِيثُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَلَكِنَّ كَلَامَهُ عَلَيْهِ أَحْسَنُ.
وَقَالَ ابْنُهُ سَعِيدٌ: طَلَبْتُ
مِنْ أَبِي دَانِقَ فِضَّةٍ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، اصْبِرْ فَلَوْ أَحَبَّ
أَبُوكَ أَنْ يَرْكَبَ الْمُلُوكُ إِلَى بَابِهِ مَا تَأْبَّوْا عَلَيْهِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ قَالَ: أَصَابَنِي مَرَّةً جُوعٌ
شَدِيدٌ فَهَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ طَعَامًا، فَقُلْتُ: هَذَا يُنَافِي
التَّوَكُّلَ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَهُ صَبْرًا، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ يَقُولُ:
وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مِنَّا قَرِيبٌ وَأَنَّا لَا نُضَيِّعُ مَنْ أَتَانَا
وَيَسْأَلُنَا الْقِرَى جَهْدًا وَصَبْرًا
كَأَنَّا لَا نَرَاهُ وَلَا يَرَانَا
قَالَ: فَقُمْتُ وَمَشَيْتُ فَرَاسِخَ بِلَا زَادٍ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ: الْمُحِبُّ يَتَعَلَّلُ إِلَى مَحْبُوبِهِ
بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يَتَسَلَّى عَنْهُ بِشَيْءٍ، يَتَّبِعُ آثَارَهُ، وَلَا
يَدَعُ اسْتِخْبَارَهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أُسَائِلُكُمْ عَنْهَا فَهَلْ مِنْ مُخْبِرٍ فَمَا لِي بِنُعْمَى بَعْدَ
مَكَّتِنَا عِلْمُ
فَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي أَيْنَ خَيَّمَ أَهْلُهَا وَأَيُّ بِلَادِ اللَّهِ إِذْ
ظَعَنُوا أَمُّوا
إِذًا لَسَلَكْنَا مَسْلَكَ الرِّيحِ خَلْفَهَا وَلَوْ أَصْبَحَتْ نُعْمَى وَمِنْ
دُونِهَا النَّجْمُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سِنَانِ بْنِ دَلَّوَيْهِ بْنِ مُوسَى الطَّيَالِسِيُّ الْحَافِظُ، يُلَقَّبُ:
زَغَاثَ، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا نُعَيْمٍ، وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو حَاتِمِ الرَّازِيُّ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مِهْرَانَ أَبُو حَاتِمٍ
الّحَنْظَلِيُّ الرَّازِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ
الْعَارِفِينَ بِعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَهُوَ قَرِينُ
أَبِي زَرْعَةَ، الرَّازِيِّ، تَغَمَّدَهُمَا اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، سَمِعَ
الْكَثِيرَ وَطَافَ الْأَقْطَارَ وَالْأَمْصَارَ، وَرَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ
الْكِبَارِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَيُونُسُ بْنُ عَبْدِ
الْأَعْلَى، وَهَمَا أَكْبَرُ مِنْهُ، وَقِدَمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا،
وَرَوَى عَنْهُ مِنْ أَهْلِهَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا، وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ لِابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَا بُنَيَّ، مَشِيتُ عَلَى قَدَمَيَّ فِي
طَلَبِ الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ فَرْسَخٍ. وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
لَهُ شَيْءٌ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَأَنَّهُ مَكَثَ
ثَلَاثًا لَا يَأْكُلُ شَيْئًا حَتَّى اسْتَقْرَضَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ نِصْفَ
دِينَارٍ. وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
وَالْفُقَهَاءِ.
وَكَانَ يَتَحَدَّى مَنْ حَضَرَ
عِنْدَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَقُولُ: مَنْ أَغْرَبَ عَلَيَّ
بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ صَحِيحٍ فَلَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ أَتَصَدَّقُ بِهِ. قَالَ:
وَمُرَادِي أَنْ أَسْمَعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي، فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ.
كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي حَاتِمٍ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ الْحَسَنِ أَبُو جَعْفَرٍ
الْكُوفِيُّ الْخَزَّازُ الْمَعْرُوفُ بِالْحُنَيْنِيِّ، لَهُ مُسْنَدٌ كَبِيرٌ،
رَوَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، وَالْقَعْنَبِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ،
وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ السَّمَّاكِ،
وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَزَّازُ، سَمِعَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ
خَمْسِمِائَةِ شَيْخٍ، وَلَكِنْ لَمْ يُحَدِّثْ إِلَّا بِالْيَسِيرِ، وَتُوُفِّيَ
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَثَمَّ مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدَانَ الْبَزَّازُ، عَنِ الْقَعْنَبِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ مَشْهُورٌ. تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
كَامِلِهِ ": وَتُوُفِّيَ فِيهَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جُوَانَ
الْإِمَامُ الْفَسَوِيُّ، وَكَانَ يَتَشَيَّعُ. وَيَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ
مَعْقِلٍ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ، وَالِدُ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
الْأَصَمِّ. عُرَيْبُ الْمُغَنِّيَةُ الْمَأْمُونِيَّةُ، قِيلَ: إِنَّهَا ابْنَةُ
جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى الْبَرْمَكِيِّ. فَأَمَّا
يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ جُوَانَ.
فَهُوَ أَبُو يُوسُفَ بْنُ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْفَارِسِيُّ الْفَسَوِيُّ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ مِنَ الثِّقَاتِ
; مِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، وَدُحَيْمٌ، وَأَبُو الْجُمَاهِرِ،
وَسُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّمَشْقِيُّونَ، وَسَعِيدُ بْنُ
مَنْصُورٍ، وَأَبُو عَاصِمٍ، وَمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى،
وَالْقَعْنَبِيُّ. وَرَوَى عَنْهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، وَأَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي دَاوُدَ، وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَابْنُ خِرَاشٍ، وَابْنُ
خُزَيْمَةَ وَأَبُو عَوَانَةَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ وَخَلْقٌ سِوَاهُمْ، وَصَنَّفَ
كِتَابَ " التَّارِيخِ وَالْمَعْرِفَةِ "، وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ
الْمُفِيدَةِ النَّافِعَةِ، وَقَدْ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْبُلْدَانِ
النَّائِيَةِ، وَتَغَرَّبَ عَنْ وَطَنِهِ فِي ذَلِكَ نَحْوَ ثَلَاثِينَ سَنَةً،
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ فِي
اللَّيْلِ عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ فِي زَمَنِ الرِّحْلَةِ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ
لَيْلَةٍ إِذْ وَقَعَ شَيْءٌ عَلَى بَصَرِي فَلَمْ أُبْصِرْ مَعَهُ السِّرَاجَ،
فَجَعَلْتُ أَبْكِي
عَلَى مَا فَاتَنِي مِنْ ذَهَابِ
بَصَرِي، وَمَا يَفُوتُنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابَةِ حَدِيثِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْغُرْبَةِ،
ثُمَّ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ. فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ مَا
أَنَا فِيهِ مِنَ الْغُرْبَةِ، وَمَا فَاتَنِي مِنْ كِتَابَةِ السُّنَّةِ.
فَقَالَ: " ادْنُ مِنِّي " فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى
عَيْنِي، وَجَعَلَ كَأَنَّهُ يَقْرَأُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ
اسْتَيْقَظْتُ فَأَبْصَرْتُ وَجَلَسْتُ أُسَبِّحُ اللَّهَ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ، وَالْحَاكِمُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ وَقَالَ: هُوَ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ
بِفَارِسَ، وَقَدِمَ نَيْسَابُورَ وَسَمِعَ مِنْهُ مَشَايِخُنَا، وَقَدْ نَسَبَهُ
بَعْضُهُمْ إِلَى التَّشَيُّعِ. وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ
اللَّيْثِ صَاحِبَ فَارِسَ بَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِي عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَقَالَ لَهُ وَزِيرُهُ: أَيُّهَا
الْأَمِيرُ، إِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ فِي شَيْخِنَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
السِّجْزِيِّ، إِنَّمَا يَتَكَلَّمُ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الصَّحَابِيِّ.
فَقَالَ: دَعُوهُ مَا لِي وَلِلصَّحَابَةِ، إِنِّي إِنَّمَا حَسِبْتُهُ
يَتَكَلَّمُ فِي شَيْخِنَا عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ السِّجْزِيِّ.
قُلْتُ: وَمَا أَظُنُّ هَذَا صَحِيحًا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ، فَإِنَّهُ
إِمَامٌ مُحَدِّثٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ قَبْلَ أَبِي
حَاتِمٍ بِشَهْرٍ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْبَصْرَةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ بِكَ
رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي
وَأَمَرَنِي أَنَّ أُمْلِيَ الْحَدِيثَ
فِي السَّمَاءِ كَمَا كُنْتُ أُمْلِيهِ فِي الْأَرْضِ، فَجَلَسْتُ لِلْإِمْلَاءِ
فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ وَجَلَسَ حَوْلِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ;
مِنْهُمْ جِبْرِيلُ يَكْتُبُونَ مَا أُمْلِيهِ مِنَ الْحَدِيثِ بِأَقْلَامِ
الذَّهَبِ.
وَأَمَّا عُرَيْبُ الْمَأْمُونِيَّةُ.
فَقَدْ تَرْجَمَهَا الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ "
وَحَكَى قَوْلًا لِبَعْضِهِمْ أَنَّهَا ابْنَةُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
خَالِدٍ الْبَرْمَكِيِّ، سُرِقَتْ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عِنْدَ ذَهَابِ دَوْلَةِ
الْبَرَامِكَةِ، وَبِيعَتْ فَاشْتَرَاهَا الْمَأْمُونُ ابْنُ الرَّشِيدِ، ثُمَّ
رَوَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ
امْرَأَةً قَطُّ أَحْسَنَ وَجْهًا، وَأَدَبًا وَغِنَاءً وَضَرْبًا وَشِعْرًا
وَلَعِبًا بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ مِنْهَا، وَمَا تَشَاءُ أَنْ تَجِدَ خَصْلَةً
حَسَنَةً طَرِيفَةً بَارِعَةً فِي امْرَأَةٍ إِلَّا وَجَدْتَهَا فِيهَا. وَقَدْ
كَانَتْ شَاعِرَةً مُطَبِّقَةً فَصِيحَةً بَلِيغَةً، وَكَانَ الْمَأْمُونُ
يَتَعَشَّقُهَا، ثُمَّ أَحَبَّهَا بَعْدَهُ الْمُعْتَصِمُ، وَكَانَتْ هِيَ
تَتَعَشَّقُ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ، وَرُبَّمَا
أَدْخَلَتْهُ إِلَيْهَا فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، قَبَّحَهَا اللَّهُ، عَلَى مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهَا فِي " تَارِيخِهِ "، ثُمَّ
تَعَشَّقَتْ صَالِحًا الْمُنْذِرِيَّ، وَتَزَوَّجَتْهُ سِرًّا، وَكَانَتْ تَقُولُ
فِيهِ الشِّعْرَ، وَرُبَّمَا غَنَّتْهُ بَيْنَ يَدِيِ الْمُتَوَكِّلِ وَهُوَ لَا
يَشْعُرُ فَيَمَنْ هُوَ، فَتَضْحَكُ جَوَارِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَتَقُولُ: يَا
سَحَّاقَاتُ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَمَلِكُنَّ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ عَسَاكِرَ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ شِعْرِهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهَا لَمَّا
دَخَلَتْ عَلَى الْمُتَوَكِّلِ
تَعُودُهُ مِنْ حُمَّى أَصَابَتْهُ فَقَالَتْ:
أَتَوْنِي فَقَالُوا بِالْخَلِيفَةِ عِلَّةٌ فَقُلْتُ وَنَارُ الشَّوْقِ تُوقَدُ
فِي صَدْرِي
أَلَا لَيْتَ بِي حُمَّى الْخَلِيفَةِ جَعْفَرٍ فَكَانَتْ بِيَ الْحُمَّى وَكَانَ
لَهُ أَجْرِي
كَفَى حُزْنًا إِنْ قِيلَ حُمَّ فَلَمْ أَمُتْ مِنَ الْحُزْنِ إِنِّي بَعْدَ هَذَا
لَذُو صَبْرٍ
جُعِلْتُ فِدَاءً لِلْخَلِيفَةِ جَعْفَرٍ وَذَاكَ قَلِيلٌ لِلْخَلِيفَةِ مِنْ
شُكْرِ
وَلَمَّا عُوفِيَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فَغَنَّتْهُ مِنْ قِيلِهَا:
شُكْرًا لِأَنْعُمِ مَنْ عَافَاكَ مِنْ سَقَمِ دُمْتَ الْمُعَافَى مِنَ الْآلَامِ
وَالسَّقَمِ
عَادَتْ بِنُورِكَ لِلْأَيَّامِ بَهْجَتُهَا وَاهْتَزَّ نَبْتُ رِيَاضِ الْجُودِ
وَالْكَرَمِ
مَا قَامَ للدِّينِ بَعْدَ الْمُصْطَفَى مَلِكٌ أَعَفُّ مِنْكَ وَلَا أَرْعَى
عَلَى الذِّمَمِ
فَعَمَّرَ اللَّهُ فِينَا جَعْفَرًا وَنَفَى بِنُورِ سُنَّتِهِ عَنَّا دُجَى
الظُّلَمِ
وَلَهَا فِي عَافِيَتِهِ أَيْضًا:
حَمِدْنَا الَّذِي عَافَى الْخَلِيفَةَ جَعْفَرًا عَلَى رُغْمِ أَشْيَاخِ
الضَّلَالَةِ وَالْكُفْرِ
وَمَا كَانَ إِلَّا مِثْلَ بَدْرٍ أَصَابَهُ كُسُوفٌ قَلِيلٌ ثُمَّ أَجْلَى عَنِ
الْبَدْرِ
سَلَامَتُهُ لِلدِّينِ عِزٌّ وَقُوَّةٌ
وَعِلَّتُهُ لِلدِّينِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ
مَرِضْتَ فَأَمْرَضْتَ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا وَأَظْلَمَتِ الْأَمْصَارُ مِنْ
شِدَّةِ النَّعْرِ
فَلَمَّا اسْتَبَانَ النَّاسُ مِنْكَ إِفَاقَةً أَفَاقُوا وَكَانُوا كَالنِّيَامِ
عَلَى الْجَمْرِ
سَلَامَةُ دُنْيَانَا سَلَامَةُ جَعْفَرٍ فَدَامَ مُعَافًى سَالِمًا آخِرَ
الدَّهْرِ
إِمَامٌ يَعُمُّ النَّاسَ بِالْفَضْلِ وَالْتُّقَى قَرِيبًا مِنَ التَّقْوَى
بَعِيدًا مِنَ الْوِزْرِ
وَلَهَا مِنَ الْأَشْعَارِ الرَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِيمَا
ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: بَلَغَنِي أَنَّ مَوْلِدَهَا فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَتْ سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
بِسُرَّ مَنْ رَأَى، وَلَهَا سِتٌّ وَتِسْعُونَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ طَلَعَ نَجْمٌ
ذُو جُمَّةٍ، ثُمَّ صَارَتِ الْجُمَّةُ ذُؤَابَةً. قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
غَارَ مَاءُ النِّيلِ وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ وَلَا بَلَغَنَا فِي
الْأَخْبَارِ السَّالِفَةِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِمِصْرَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
جِدًّا. قَالَ: وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
وَهْبٍ بِالْوِزَارَةِ. وَقَالَ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَدِمَ الْمُوَفَّقُ
أَبُو أَحْمَدَ مِنَ الْغَزْوِ فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى النَّهْرَوَانِ
فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَهُوَ مَرِيضٌ بِالنِّقْرِسِ، فَاسْتَمَرَّ فِي دَارِهِ فِي أَوَائِلِ
صَفَرٍ، وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ كَمَا سَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَتِ
الْقَرَامِطَةُ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَهُمْ فِرْقَةٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ
الْمَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الْفَلَاسِفَةِ مِنَ الْفُرْسِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ
نُبُوَّةَ زَرَادِشْتَ وَمَزْدَكَ، وَكَانَا يُبِيحَانِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ
هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ إِلَى بَاطِلٍ، وَأَكْثَرُ مَا
يَدْخُلُونَ مِنْ جِهَةِ الرَّافِضَةِ، لِأَنَّهُمْ أَقَلُّ النَّاسِ عِنْدَهُمْ
وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ عُقُولًا، وَيُقَالُ لَهُمُ: الْإِسْمَاعِيلِيَّةُ ;
لِانْتِسَابِهِمْ إِلَى إِسْمَاعِيلَ الْأَعْرَجِ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ.
وَيُقَالُ لَهُمُ: الْقَرَامِطَةُ، قِيلَ: نِسْبَةً إِلَى قِرْمِطِ بْنِ
الْأَشْعَثِ الْبَقَّارِ. وَقِيلَ: إِنَّ رَئِيسَهُمْ كَانَ فِي أَوَّلِ
دَعْوَتِهِ يَأْمُرُ مَنِ اتَّبَعَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَمَّا يُرِيدُ تَدْبِيرَهُ مِنَ
الْمَكِيدَةِ. ثُمَّ اتَّخَذَ نُقَبَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ، وَأَسَّسَ لِأَتْبَاعِهِ
دَعْوَةً وَمَسْلَكًا، وَدَعَا إِلَى إِمَامٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ.
وَيُقَالُ لَهُمُ: الْبَاطِنِيَّةُ ;
لِأَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ وَيُبْطِنُونَ الْكُفْرَ الْمَحْضَ.
وَالْخُرَّمِيَّةُ وَالْبَابَكِيَّةُ، نِسْبَةً إِلَى بَابَكَ الْخُرَّمِيِّ
الَّذِي ظَهَرَ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَصِمِ فَلَمْ يَزَلْ يَبْعَثُ خَلْفَهُ
الْجُيُوشَ حَتَّى جِيءَ بِهِ أَسِيرًا فَقَتَلَهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ.
وَيُقَالُ لَهُمُ: الْمُحَمِّرَةُ ; نِسْبَةً إِلَى صَبْغِ الْحُمْرَةِ شِعَارًا،
مُضَاهَاةً لِسَوَادِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَيُقَالُ لَهُمُ: التَّعْلِيمِيَّةُ ;
نِسْبَةً إِلَى التَّعَلُّمِ مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، وَتَرْكِ الرَّأْيِ
وَمُقْتَضَى الْعَقْلِ. وَيُقَالُ لَهُمُ: السَّبْعِيَّةُ ; نِسْبَةً إِلَى
الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّزَةَ السَّيَّارَةَ
مُدَبِّرَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ فِيمَا يَزْعُمُونَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ. وَهِيَ
الْقَمَرُ فِي الْأُولَى، وَعُطَارِدُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي
الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمِرِّيخُ فِي الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي
فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْبَابَكِيَّةِ جَمَاعَةٌ يُقَالُ:
إِنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَيْلَةً هُمْ وَنِسَاؤُهُمْ، ثُمَّ
يُطْفِئُونَ الْمِصْبَاحَ وَيَنْتَهِبُونَ النِّسَاءَ، فَمَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ
امْرَأَةٌ حَلَّتْ لَهُ. وَيَقُولُونَ: هَذَا اصْطِيَادٌ مُبَاحٌ. لَعَنَهُمُ
اللَّهُ. وَقَدْ بَسَطَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ
مِنْ تَارِيخِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُنْتَظَمِ تَفْصِيلَ قَوْلِهِمْ، لَعَنَهُمُ
اللَّهُ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ الْمَشْهُورُ فِي كِتَابِهِ " هَتْكُ الْأَسْتَارِ وَكَشْفُ
الْأَسْرَارِ " فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ، وَرَدَّ عَلَى
كِتَابِهِمُ الَّذِي جَمَعَهُ بَعْضُ قُضَاتِهِمْ بِدِيَارِ مِصْرَ فِي أَيَّامِ
الْفَاطِمِيِّينَ الَّذِي سَمَّاهُ " الْبَلَاغَ الْأَعْظَمَ وَالنَّامُوسَ
الْأَكْبَرَ " جَعَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ دَرَجَةً، أَوَّلُ دَرَجَةٍ أَنْ
يَدْعُوَ مَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ أَوَّلًا - إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ -
إِلَى الْقَوْلِ بِتَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ،
ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِذَا وَافَقَهُ
عَلَى ذَلِكَ إِلَى تَفْضِيلِ عَلِيٍّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ،
ثُمَّ يَتَرَقَّى بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَبِّهِمَا لِأَنَّهُمَا ظَلَمَا عَلِيًّا وَأَهْلَ
الْبَيْتِ، ثُمَّ يَتَرَقَّى بِهِ إِلَى تَجْهِيلِ الْأُمَّةِ وَتَخْطِئَتِهَا فِي
مُوَافَقَةِ أَكْثَرِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي الْقَدْحِ فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ. وَقَدْ ذَكَرَ لِمُخَاطَبَتِهِ لِمَنْ يُرِيدُ
أَنْ يُخَاطِبَهُ بِذَلِكَ شُبَهًا وَضَلَالَاتٍ، لَا تَرُوجُ إِلَّا عَلَى كُلِّ
غَبِيٍّ جَاهِلٍ شَقِيٍّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [ الذَّارِيَاتِ:
7 - 9 ] أَيْ يَضِلُّ بِهِ مَنْ هُوَ ضَالٌّ. وَقَالَ تَعَالَى فَإِنَّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ
الْجَحِيمَ [ الصَّافَّاتِ: 161 - 163 ] وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ
[ الْأَنْعَامِ: 112 - 113 ] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ،
وَمَضْمُونُهَا أَنَّ الْجَهْلَ وَالضَّلَالَ لَا يَنْقَادُ لَهَا إِلَّا شِرَارُ
النَّاسِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
إِنْ هُوَ مُسْتِحْوِذًا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَى أَضْعَفِ الْمَجَانِينِ
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ لَهُمْ مَقَامَاتٌ فِي الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ
وَالسَّخَافَةِ وَالرُّعُونَةِ مَا لَا يَنْبَغِي لِضَعِيفِ عَقْلٍ أَوْ دِينٍ
أَوْ تَصَوُّرٍ سَمَاعُهُ، مِمَّا فَتَحَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ مِنَ الْأَبْوَابِ
وَأَنْوَاعِ الْجَهَالَاتِ، وَرُبَّمَا أَفَادَ بَعْضُهُمْ إِبْلِيسَ أَشْيَاءَ
لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ جُنْدِ
إِبْلِيسَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى صَارَ إِبْلِيسُ مِنْ جُنْدِي
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ تَحَرَّكَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
ثُمَّ اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِمْ، عَلَى مَا
سَنَذْكُرُهُ، حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى أَنْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
فَسَفَكُوا فِيهِ دِمَاءَ الْحَجِيجِ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ
الْمُكَرَّمَةِ وَكَسَرُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ،
وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُمْ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
فَمَكَثَ غَائِبًا عَنْ مَوْضِعِهِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ شَيْئَانِ ; أَحَدُهُمَا ظُهُورُ هَؤُلَاءِ،
وَالثَّانِي مَوْتُ حُسَامِ الْإِسْلَامِ وَنَاصِرِ الدِّينِ أَبِي أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقِ، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ بُحْبُوحَةَ
جَنَّتِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، لَكِنْ أَبْقَى اللَّهَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ
وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنَ الْمُوَفَّقَ الْمُلَقَّبَ
بِالْمُعْتَضِدِ. وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا فَاتِكًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ رَحِمَهُ اللَّهُ
هُوَ الْأَمِيرُ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ الْمُوَفَّقُ بِاللَّهِ أَبُو
أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ - طَلْحَةُ - بْنُ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، كَانَ مُوَلِدُهُ فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ أَخُوهُ الْمُعْتَمِدُ حِينَ صَارَتْ إِلَيْهِ
الْخِلَافَةُ قَدْ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْوِلَايَةِ بَعْدَ أَخِيهِ جَعْفَرٍ،
وَلَقَّبَهُ الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ، ثُمَّ لَمَّا قَتَلَ صَاحِبَ الزَّنْجِ
وَكَسَرَ جَيْشَهُ تَلَقَّبَ بِنَاصِرِ دِينِ اللَّهِ، وَصَارَ إِلَيْهِ الْعَقْدُ
وَالْحَلُّ وَالْوِلَايَةُ
وَالْعَزْلُ، وَإِلَيْهِ يُجْبَى الْخَرَاجُ. وَكَانَ يُخْطَبُ لَهُ عَلَى
الْمَنَابِرِ، فَيُقَالُ: اللَّهُمَّ أَصْلِحِ الْأَمِيرَ النَّاصِرَ لِدِينِ
اللَّهِ أَبَا أَحْمَدَ الْمُوَفَّقَ بِاللَّهِ وَلِيَّ عَهْدِ الْمُسْلِمِينَ
أَخَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ قَبْلَ أَخِيهِ
الْمُعْتَمِدِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ غَزِيرَ الْعَقْلِ
حَسَنَ التَّدْبِيرِ كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا مِقْدَامًا رَئِيسًا،
حَسَنَ الْمُحَادَثَةِ وَالْمُجَالَسَةِ عَادِلًا حَسَنَ السِّيرَةِ، يَجْلِسُ
لِلْمَظَالِمِ وَعِنْدَهُ الْقُضَاةُ فَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنَ الظَّالِمِ،
وَكَانَ عَالِمًا بِالْأَدَبِ وَالنَّسَبِ وَالْفِقْهِ وَسِيَاسَةِ الْمُلْكِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَهُ مَحَاسِنُ وَمَآثِرُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ مَرَضُ النِّقْرِسِ فِي السَّفَرِ،
ثُمَّ قَدِمَ إِلَى بَغْدَادَ وَهُوَ عَلِيلٌ فَاسْتَقَرَّ فِي دَارِهِ فِي
أَوَائِلِ صَفَرٍ، وَقَدْ تَزَايَدَ بِهِ الْمَرَضُ وَتَوَرَّمَتْ رِجْلُهُ حَتَّى
عَظُمَتْ جَدًّا، وَكَانَ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْأَشْيَاءُ الْمُبَرِّدَةُ
كَالثَّلْجِ وَنَحْوِهِ، وَكَانَ يَحْمِلُ سَرِيرَهُ أَرْبَعُونَ رَجُلًا
بِالنَّوْبَةِ، عِشْرُونَ عِشْرُونَ. فَقَالَ لَهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا
أَظُنُّكُمْ إِلَّا قَدْ مَلِلْتُمْ مِنِّي فَيَا لَيْتَنِي كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ
آكُلُ كَمَا تَأْكُلُونَ، وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ وَأَرْقُدُ كَمَا تَرْقُدُونَ،
فِي عَافِيَةٍ. وَقَالَ أَيْضًا: فِي دِيوَانِي مِائَةُ أَلْفِ مُرْتَزِقٍ لَيْسَ
فِيهِمْ أَسْوَأُ حَالًا مِنِّي. ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ
الْحُسَيْنِيِّ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَلَهُ سَبْعٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً تَنْقُصُ شَهْرًا وَأَيَّامًا.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوَفَّقُ، اجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ عَلَى
أَخْذِ الْبَيْعَةِ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ أَبِي
الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ، فَبَايَعَ لَهُ الْمُعْتَمِدُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ بَعْدَ
ابْنِهِ
الْمُفَوَّضِ وَخُطِبَ لَهُ عَلَى
الْمَنَابِرِ بَعْدَ الْمُفَوَّضِ. وَجَعَلَ إِلَيْهِ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ
مِنَ الْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ وَالْقَطْعِ وَالْوَصْلِ وَالْعَقْدِ وَالْحَلِّ،
وَلُقِّبَ الْمُعْتَضِدَ بِاللَّهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا:
إِدْرِيسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْفَقْعَسِيُّ الْمَوْصِلِيُّ. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:
وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ وَالصَّلَاحِ. وَإِسْحَاقُ بْنُ كِنْدَاجَ نَائِبُ
الْجَزِيرَةِ وَكَانَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَامَ
بِمَا كَانَ إِلَيْهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ. وَيَازَامَانُ نَائِبُ طَرَسُوسَ
جَاءَهُ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ مِنْ بَلْدَةٍ كَانَ يُحَاصِرُهَا بِبِلَادِ الرُّومِ،
فَمَاتَ مِنْهُ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِطَرَسُوسَ، فَوَلِيَ نِيَابَةَ الثَّغْرِ بَعْدَهُ أَحْمَدُ الْعُجَيْفِيُّ
بِأَمْرِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْ قَرِيبٍ
بِابْنِ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ طُولُونَ. وَعَبْدَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ
قَبَّحَهُ اللَّهُ. ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ "
أَنَّ هَذَا الشَّقِيَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ كَثِيرًا فِي بِلَادِ
الْعَدُوِّ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَالْمُسْلِمُونَ
مُحَاصِرُونَ لِبَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، إِذْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فِي
ذَلِكَ الْحِصْنِ فَهَوِيَهَا، فَرَاسَلَهَا: وَمَا السَّبِيلُ إِلَيْكِ. فَقَالَتْ: أَنْ تَتَنَصَّرَ وَتَصْعَدَ إِلَيَّ، فَأَجَابَهَا إِلَى ذَلِكَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَمَا رَاعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهَا، فَاغْتَمَّ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ غَمًّا شَدِيدًا، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مُدَّةٍ مَرُّوا عَلَيْهِ وَهُوَ مَعَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا فُلَانُ مَا فَعَلَ قِرَاءَتُكَ ؟ مَا فَعَلَ عِلْمُكَ ؟ مَا فَعَلَ صِيَامُكَ وَصَلَاتُكَ ؟ فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنِّي أُنْسِيتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ إِلَّا قَوْلَهُ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [ الْحِجْرِ: 2، 3 ].
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خُلِعَ جَعْفَرٌ الْمُفَوَّضُ مِنَ الْعَهْدِ،
وَاسْتَقَلَّ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ الْمُعْتَمِدُ أَبُو الْعَبَّاسِ
ابْنُ الْمُوَفَّقِ، وَلُقِّبَ بِالْمُعْتَضِدِ، وَجُعِلَ إِلَيْهِ السَّلْطَنَةُ
كَمَا كَانَ أَبُوهُ، وَخَطْبَ بِذَلِكَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، فَفِي ذَلِكَ يَقُولُ يَحْيَى بْنُ
عَلِيٍّ يُهَنِّئُ الْمُعْتَضِدَ:
لِيَهْنِكَ عَقْدٌ أَنْتَ فِيهِ الْمُقَدَّمُ حَبَاكَ بِهِ رَبٌّ بِفَضْلِكَ
أَعْلَمُ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَصْبَحَتْ وَالِيَ عَهْدِنَا
فَأَنْتَ غَدًا فِينَا الْإِمَامُ الْمُعَظَّمُ وَلَا زَالَ مَنْ وَالَاكَ فِينِا
مُبَلَّغًا
مُنَاهُ وَمَنْ عَادَاكَ يَشْجَى وَيَنْدَمُ وَكَانَ عَمُودُ الدِّينِ فِيهِ
تَأَوُّدٌ
فَعَادَ بِهَذَا الْعَهْدِ وَهْوَ مُقَوَّمُ وَأَصْبَحَ وَجْهُ الْمُلْكِ
جَذْلَانَ ضَاحِكًا
يُضِيءُ لَنَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ يُظْلِمُ فَدُونَكَ فَاشْدُدْ عَقْدَ مَا قَدْ
حَوَيْتَهُ
فَإِنَّكَ دُونَ النَّاسِ فِيهِ الْمُحَكَّمُ
وَفِيهَا نُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يُمَكَّنَ أَحَدٌ مِنَ الْقُصَّاصِ
وَالطُّرُقِيَّةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنَ الْجُلُوسِ فِي
الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الطُّرُقَاتِ وَأَنْ لَا تُبَاعَ كُتُبُ الْكَلَامِ
وَالْفَلْسَفَةِ وَالْجَدَلِ بَيْنَ
النَّاسِ، وَذَلِكَ بِهِمَّةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُعْتَضِدِ سُلْطَانِ
الْإِسْلَامِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ حُرُوبٌ بَيْنَ هَارُونَ الشَّارِي وَبَيْنَ
بَنِي شَيْبَانَ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَثِيرِ
فِي كَامِلِهِ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ لَيْلَةَ
الْإِثْنَيْنِ لِتِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْهُ وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ.
هُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ ابْنُ الْمُتَوَكِّلِ
عَلَى اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ اسْتَمَرَّتْ أَيَّامُهُ فِي الْخِلَافَةِ ثَلَاثًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَيَّامٍ وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ خَمْسِينَ
سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ أَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَتَأَخَّرَ بَعْدَهُ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَلَمْ
يَكُنْ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ كُلُّهُ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِتَدْبِيرِ الْخِلَافَةِ إِلَى الْمُوَفَّقِ، وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّ
الْمُعْتَمِدَ طَلَبَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ فَلَمْ
يَحْصُلْ لَهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
أَلَيْسَ مِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ مِثْلِي يَرَى مَا قَلَّ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ
وَتُؤْخَذُ بِاسْمِهِ الدُّنْيَا جَمِيعًا وَمَا مِنْ ذَاكَ شَيْءٌ فِي يَدَيْهِ
إِلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ طُرًّا
وَيُمْنَعُ بَعْضَ مَا يُجْبَى إِلَيْهِ
وَكَانَ أَوَّلَ خَلِيفَةٍ انْتَقَلَ مِنْ سَامَرَّا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا
بُنِيَتْ سَامَرَّا، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ، بَلْ
جَعَلُوا دَارَ إِقَامَتِهِمْ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ سَبَبَ هَلَاكِهِ فِي مَا
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ، أَنَّهُ شَرِبَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ شَرَابًا كَثِيرًا
وَتَعَشَّى عَشَاءً كَثِيرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْقَصْرِ الْحَسَنِيِّ
مِنْ بَغْدَادَ وَحِينَ مَاتَ أَحْضَرَ الْمُعْتَضِدُ الْقُضَاةَ وَالْأَعْيَانَ
وَأَشْهَدَهُمْ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، ثُمَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ ثُمَّ حُمِلَ فَدُفِنَ بِسَامَرَّا، وَفِي صَبِيحَةِ الْعَزَاءِ بُويِعَ
لِلْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ.
خِلَافَةُ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ
الْمُوَفَّقِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ خُلَفَاءِ بَنِي
الْعَبَّاسِ وَرِجَالِهِمْ، وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لَهُ صَبِيحَةَ مَوْتِ
الْمُعْتَمِدِ، وَذَلِكَ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَقَدْ كَانَ أَمْرُ
الْخِلَافَةِ دَاثِرًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ بِهِمَّتِهِ وَعَدْلِهِ وَشَهَامَتِهِ
وَصَرَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَاسْتَوْزَرَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ
بْنِ وَهْبٍ وَوَلَّى مَوْلَاهُ بَدْرًا الشُّرْطَةَ فِي بَغْدَادَ وَجَاءَتْهُ
هَدَايَا عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ، وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ
خُرَاسَانَ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَاللِّوَاءِ،
فَنَصَبَهُ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فِي دَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَحًا
وَسُرُورًا بِذَلِكَ، وَعَزَلَ رَافِعَ بْنَ هَرْثَمَةَ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ.
وَدَخَلَهَا عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فَلَمْ يَزَلْ يَتَّبِعُ رَافِعًا مِنْ بَلَدٍ
إِلَى بَلَدٍ حَتَّى قَتَلَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا سَيَأْتِي
وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَصَفَتْ إِمْرَةُ خُرَاسَانَ لِعَمْرِو
بْنِ اللَّيْثِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَصَّاصِ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ مِنْ خُمَارَوَيْهِ صَاحِبِ
مِصْرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَتَزَوَّجَ الْمُعْتَضِدُ بِابْنَةِ
خُمَارَوَيْهِ فَجَهَّزَهَا أَبُوهَا بِجِهَازٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ حَتَّى
قِيلَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْهَوَاوِينِ الذَّهَبِ مِائَةُ هَاوُنَ، فَحُمِلَ
ذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ صُحْبَةَ
الْعَرُوسِ وَكَانَ وَقْتًا مَشْهُودًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَمَلَّكَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ قَلْعَةَ
مَارْدِينَ وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لِإِسْحَاقَ بْنِ كِنْدَاجَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ وَهِيَ آخِرُ
حَجَّةٍ حَجَّهَا بِالنَّاسِ، وَكَانَ يَحُجُّ بِالنَّاسِ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَمِدُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَرْجَمَتُهُ
قَرِيبًا.
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ خَيْثَمَةَ
صَاحِبُ التَّارِيخِ وَغَيْرِهِ، سَمِعَ أَبَا نُعَيْمٍ وَعَفَّانَ وَأَخَذَ
عِلْمَ الْحَدِيثِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعِلْمَ
النَّسَبِ عَنْ مُصْعَبٍ الزُّبَيْرِيِّ وَأَيَّامَ النَّاسِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيِّ، وَأَخَذَ الْأَدَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلَّامٍ الْجُمَحِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا مَشْهُورًا، وَفِي
تَارِيخِهِ هَذَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَفَرَائِدُ غَزِيرَةٌ.
رَوَى عَنْهُ الْبَغَوِيُّ وَابْنُ صَاعِدٍ
وَابْنُ أَبِي دَاوُدَ وَابْنُ الْمُنَادِي، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَخَاقَانُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّوفِيُّ كَانَتْ لَهُ أَحْوَالٌ
وَكَرَامَاتٌ.
وَنَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ، السَّامَانِيُّ أَحَدُ
مُلُوكِهِمُ الْأَكَابِرِ، وَقَدْ كَانُوا مِنْ سُلَالَةِ الْأَكَاسِرَةِ كَانَ
جَدُّهُمْ سَامَانُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَأَصْلُهُ
مِنْ ذُرِّيَّةِ بَهْرَامَ بْنِ أَزْدَشِيرَ بْنِ سَابُورَ ثُمَّ كَانَ ابْنُهُ
أَسَدٌ مِنْ عُقَلَاءَ الرِّجَالِ وَخَلَّفَ نُوحًا وَأَحْمَدَ وَيَحْيَى
وَإِلْيَاسَ وَقَدْ وَلِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَمْلَكَةَ نَاحِيَةٍ
مِنَ النَّوَاحِي وَهُمُ السَّامَانِيَّةُ.
الْبَلَاذُرِيُّ الْمُؤَرِّخُ.
أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ جَابِرِ بْنِ دَاوُدَ أَبُو
الْحَسَنِ، وَيُقَالُ أَبُو جَعْفَرٍ، وَيُقَالُ أَبُو بَكْرٍ - الْبَغْدَادِيُّ
الْبَلَاذُرِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ. سَمِعَ هِشَامَ بْنَ
الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَأَبَا الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيَّ وَجَمَاعَةً
وَعَنْهُ يَحْيَى بْنُ النَّدِيمِ وَأَحْمَدُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَبُو يُوسُفَ
يَعْقُوبُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ قَرْقَارَةَ الْأَزْدِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ أَدِيبًا رَاوِيَةً، لَهُ كُتُبٌ جِيَادٌ،
وَمَدَحَ الْمَأْمُونَ بِمَدَائِحَ، وَجَالَسَ الْمُتَوَكِّلَ، وَتُوُفِّيَ
أَيَّامَ الْمُعْتَمِدِ وَوُسْوِسَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ
الْبَلَاذُرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي مَحْمُودٌ الْوَرَّاقُ: قُلْ مِنَ الشِّعْرِ مَا
يَبْقَى لَكَ ذِكْرُهُ، وَيَزُولُ عَنْكَ إِثْمُهُ. فَقُلْتُ:
اسْتَعْدِّي يَا نَفْسُ لِلْمَوْتِ وَاسْعَيْ لِنَجَاةٍ فَالْحَازِمُ
الْمُسْتَعِدُّ قَدْ تَبَيَّنْتِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَيِّ
خُلُودٌ وَلَا مِنَ الْمَوْتِ بُدُّ إِنَّمَا أَنْتِ مُسْتَعِيرَةٌ مَا سَوْ
فَ تَرُدِّينَ وَالْعَوَارِي تُرَدُّ أَنْتِ تَسْهَيْنَ وَالْحَوَادِثُ لَا تَسْ
هُو وَتَلْهِينَ وَالْمَنَايَا تَجِدُّ أَيُّ مُلْكٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَيُّ
حَظٍّ
لِامْرِئٍ حَظُّهُ مِنَ الْأَرْضِ لَحْدُ لَا تُرَجِّي الْبَقَاءَ فِي مَعْدِنِ
الْمَوُ
تِ وَدَارٍ حُتُوفُهَا لَكِ وِرْدُ كَيْفَ يَهْوَى امْرُؤٌ لَذَاذَةَ أَيَّا
مٍ عَلَيْهِ الْأَنْفَاسُ فِيْهَا تُعَدُّ
التِّرْمِذِيُّ.
وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ.
وَقِيلَ: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ بْنِ سَوْرَةَ بْنِ السَّكَنِ.
وَيُقَالُ: مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شَدَّادٍ أَبُو عِيسَى
السُّلَمِيُّ التِّرْمِذِيُّ الضَّرِيرُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ أَكْمَهَ.
وَهُوَ أَحَدُ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الْمَشْهُورَةُ، مِنْهَا " الْجَامِعُ " وَ " الشَّمَائِلُ "
وَ " أَسْمَاءُ الصَّحَابَةِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكِتَابُ "
الْجَامِعِ " أَحَدُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا
الْعُلَمَاءُ فِي سَائِرِ الْآفَاقِ، وَجَهَالَةُ ابْنِ حَزْمٍ لِأَبِي عِيسَى
حَيْثُ قَالَ فِي " مُحَلَّاهُ
": وَمَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ ؟ - لَا تَضُرُّهُ فِي
دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَلَا تَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ
تَحُطُّ مِنْ مَنْزِلَةِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ الْحُفَّاظِ.
وَكَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى
دَلِيلِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَشَايِخَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ". وَرَوَى
عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْبُخَارِيُّ فِي غَيْرِ " الصَّحِيحِ "، وَالْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ
الشَّاشِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ "، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
مَحْبُوبٍ الْمَحْبُوبِيُّ رَاوِي " الْجَامِعِ " عَنْهُ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ الْمُنْذِرِ شَكَّرُ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْخَلِيلِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي كِتَابِهِ " عُلُومِ الْحَدِيثِ
": مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ شَدَّادٍ الْحَافِظُ مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ لَهُ كِتَابٌ فِي السُّنَنِ وَكَلَامٌ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.
رَوَى عَنْهُ ابْنُ مَحْبُوبٍ وَالْأَجِلَّاءُ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِالْأَمَانَةِ
وَالْعِلْمِ، مَاتَ بَعْدَ الثَّمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ. كَذَا قَالَ فِي تَارِيخِ
وَفَاتِهِ. وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ سُلَيْمَانَ الْغُنْجَارُ فِي " تَارِيخِ بُخَارَى ": مُحَمَّدُ
بْنُ عِيسَى بْنِ سَوْرَةَ بْنِ مُوسَى بْنِ الضَّحَّاكِ السُّلَمِيُّ
التِّرْمِذِيُّ الْحَافِظُ دَخَلَ بُخَارَى وَحَدَّثَ بِهَا وَهُوَ صَاحِبُ "
الْجَامِعِ " وَ " التَّارِيخِ " تُوُفِّيَ بِالتِّرْمِذِ لَيْلَةَ
الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ. وَذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ
بْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، فَقَالَ: كَانَ مِمَّنْ جَمَعَ وَصَنَّفَ وَحَفِظَ وَذَاكَرَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: كَتَبَ عَنِّي الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ:لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُجْنِبُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرِي وَغَيْرُكَ وَرَوَى ابْنُ نُقْطَةَ فِي تَقْيِيدِهِ عَنِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَنَّفْتُ هَذَا الْمُسْنَدَ الصَّحِيحَ فَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْحِجَازِ فَرَضُوا بِهِ وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ الْعِرَاقِ فَرَضُوا بِهِ وَعَرَضْتُهُ عَلَى عُلَمَاءِ خُرَاسَانَ فَرَضُوا بِهِ وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ هَذَا الْكِتَابُ فَكَأَنَّمَا فِي بَيْتِهِ نَبِيٌّ يَتَكَلَّمُ. قَالُوا: وَجُمْلَةُ " الْجَامِعِ " مِائَةٌ وَإِحْدَى وَخَمْسُونَ كِتَابًا وَكِتَابُ " الْعِلَلِ " صَنَّفَهُ بِسَمَرْقَنْدَ وَكَانَ فَرَاغُهُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى مِنْ سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ نُقْطَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيَّ سَمِعْتُ أَبَا إِسْمَاعِيلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: كِتَابُ التِّرْمِذِيِّ عِنْدِي أَفْيَدُ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، قُلْتُ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْفَائِدَةِ مِنْهُمَا إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ التَّامَّةِ، وَهَذَا كِتَابٌ قَدْ شَرَحَ أَحَادِيثَهُ وَبَيَّنَهَا، فَيَصِلُ إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمَا، قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْعَمَى بَعْدَ أَنْ رَحَلَ وَسَمِعَ وَكَتَبَ وَذَاكَرَ وَنَاظَرَ وَصَنَّفَ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي بَلَدِهِ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا قَتَلَ الْمُعْتَضِدُ رَجُلًا مِنْ أُمَرَاءِ الزَّنْجِ
كَانَ قَدْ لَجَأَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ وَيُعْرَفُ بِشَيْلَمَةَ ذُكِرَ لَهُ
أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إِلَى رَجُلٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ وَقَدْ أَفْسَدَ
جَمَاعَةً فَاسْتَدْعَى بِهِ فَقَرَّرَهُ فَلَمْ يُقِرَّ، وَقَالَ: لَوْ كَانَ
تَحْتَ قَدَمَيَّ مَا أَقْرَرْتُ بِهِ. فَأَمَرَ بِهِ فَشُدَّ عَلَى عَمُودِ
خَيْمَةٍ ثُمَّ لَوَّحَهُ عَلَى النَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ جِلْدُهُ عَنْ
عِظَامِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَصَلْبِهِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ. وَفِي أَوَّلِ صَفَرٍ رَكِبَ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُوَفَّقِ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ
أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالُ
لَهُ تَوْبَاذُ. وَكَانَ مَعَ الْمُعْتَضِدِ حَادٍ جَيِّدُ الْحُدَاءِ فَقَالَ فِي
تِلْكَ اللَّيَالِي يَحْدُو لِلْمُعْتَضِدِ:
فَأَجْهَشْتُ لَلتَّوْبَاذِ حِينَ رَأَيْتُهُ وَهَلَّلْتُ لِلّرَّحْمَنِ حِينَ
رَآنِي وَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ
بِظِلِّكَ فِي أَمْنٍ وَلِينِ زَمَانِي فَقَالَ مَضَوْا وَاسْتَخْلَفُونِي
مَكَانَهُمْ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْقَى عَلَى الْحَدَثَانِ
قَالَ: فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَا الْمُعْتَضِدِ، وَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَبْقَى
عَلَى الْحَدَثَانِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ
الْمُعْتَضِدُ بِتَسْهِيلِ عَقَبَةِ حُلْوَانَ فَغَرِمَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ وَكَانَ النَّاسُ يَلْقَوْنَ مِنْهَا شِدَّةً عَظِيمَةً، وَفِيهَا
وَسَّعَ الْمُعْتَضِدُ جَامِعَ الْمَنْصُورِ بِإِضَافَةِ دَارِ الْمَنْصُورِ
إِلَيْهِ، وَغَرِمَ عَلَيْهِ عِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَتِ الدَّارُ
قِبْلِيَّةً فَبَنَاهَا مَسْجِدًا عَلَى حِدَةٍ وَفَتَحَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ
عَشَرَ بَابًا وَحَوَّلَ الْمِنْبَرَ وَالْمِحْرَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ لِيَكُونَ
فِي قِبْلَةِ الْجَامِعِ عَلَى عَادَتِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَزَادَ بَدْرٌ
مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ الْمُسْقِطَاتِ مِنْ قَصْرِ الْمَنْصُورِ الْمَعْرُوفَةِ
بِالْبَدْرِيَّةِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ.
ذِكْرُ بِنَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ
أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا الْمُعْتَضِدُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ
سَكَنَهَا مِنَ الْخُلَفَاءِ إِلَى آخَرِ دَوْلَتِهِمْ وَكَانَتْ أَوَّلًا دَارًا
لِلْحَسَنِ بْنِ سَهْلٍ تُعْرَفُ بِالْقَصْرِ الْحَسَنِيِّ ثُمَّ صَارَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ لِابْنَتِهِ بُورَانَ الَّتِي تَزَوَّجَ بِهَا الْمَأْمُونُ فَعَمَّرَتْ
فِيهَا حَتَّى اسْتَنْزَلَهَا الْمُعْتَضِدُ عَنْهَا فَأَجَابَتْهُ إِلَى ذَلِكَ
ثُمَّ أَصْلَحَتْ مَا وَهَى مِنْهَا وَرَمَّمَتْ مَا كَانَ قَدْ شَعِثَ فِيهَا
وَفَرَشَتْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْمَفَارِشِ،
وَأَسْكَنَتْ فِيهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَأَعَدَّتْ
بِهَا الْمَآكِلَ الشَّهِيَّةَ وَمَا يَحْسُنُ ادِّخَارُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ
ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِمَفَاتِيحِهَا إِلَى الْمُعْتَضِدِ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
أَذْهَلَهُ مَا رَأَى فِيهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ ثُمَّ وَسَّعَهَا وَزَادَ فِيهَا
وَجَعَلَ لَهَا سُورًا حَوْلَهَا وَكَانَتْ قَدْرَ مَدِينَةِ
شِيرَازَ وَبَنَى الْمَيْدَانَ ثُمَّ
بَنَى قَصْرًا مُشْرِفًا عَلَى دِجْلَةَ، ثُمَّ بَنَى الْمُكْتَفِي التَّاجَ،
ثُمَّ كَانَتْ أَيَّامُ الْمُقْتَدِرِ فَزَادَ فِيهَا زِيَادَاتٍ عَظِيمَةً
جِدًّا، وَتَأَخَّرَتْ آثَارُهَا إِلَى أَيَّامِ التَّتَارِ الَّذِينَ خَرَّبُوا
بَغْدَادَ وَسَبَوْا مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْحَرَائِرِ الْآمِنَاتِ، كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَخَمْسِينَ
وَسِتِّمِائَةٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِي يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ بُوَرَانُ
سَلَّمَتْ دَارَ الْخِلَافَةِ إِلَى الْمُعْتَمِدِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَعِشْ إِلَى
أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ.
وَفِيهَا زُلْزِلَتْ أَرْدَبِيلُ سِتَّ مَرَّاتٍ فَتَهَدَّمَتْ دُورُهَا وَلَمْ
يَبْقَ مِنْهَا مِائَةُ دَارٍ وَمَاتَ تَحْتَ الرَّدْمِ مِائَةُ أَلْفٍ
وَخَمْسُونَ أَلْفًا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا غَارَتِ الْمِيَاهُ بِبِلَادِ الرَّيِّ وَطَبَرِسْتَانَ حَتَّى بِيعَ
الْمَاءُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ هُنَالِكَ
جَدَّا.
وَفِيهَا غَزَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ بِلَادَ التُّرْكِ
فَفَتَحَ مَدِينَةَ مَلِكِهِمْ وَأَسَرَ امْرَأَتَهُ الْخَاتُونَ وَأَبَاهُ
وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ أَسِيرٍ وَغَنِمَ مِنَ الدَّوَابِّ
وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا، أَصَابَ الْفَارِسُ أَلْفَ
دِرْهَمٍ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَبَّاسِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارِ بْنِ أَيُّوبَ.
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمَشْهُورُ بِالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ.
وَأَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ
مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو جَعْفَرٍ الْبَغْدَادِيُّ.
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْحَنَفِيَّةِ، تَفَقَّهَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ
وَهُوَ أُسْتَاذُ أَبِي جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيِّ وَكَانَ ضَرِيرًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَغَيْرِهِ وَقَدِمَ مِصْرَ فَحَدَّثَ بِهَا مِنْ
حَفِظِهِ وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
وَثَّقَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي " تَارِيخِ مِصْرَ ".
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ الْأَزْهَرِ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْبِرْتِيُّ الْقَاضِي بِوَاسِطَ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ
" رَوَى عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي سَلَمَةَ التَّبُوذَكِيِّ
وَأَبِي نُعَيْمٍ وَأَبِي الْوَلِيدِ وَخَلْقٍ وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا تَفَقَّهَ
بِأَبِي سُلَيْمَانَ الْجَوْزَجَانِيِّ صَاحِبِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَقَدْ
حَكَمَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُعْتَزِّ
فَلَمَّا كَانَ أَيَّامُ الْمُوَفَّقِ طَلَبَ مِنْهُ وَمِنْ إِسْمَاعِيلَ
الْقَاضِي أَنْ يُعْطِيَاهُ مَا بِأَيْدِيِهِمَا مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى
الْمَوْقُوفَةِ فَبَادَرَ إِلَى ذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي وَاسْتَنْظَرَهُ
إِلَى ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْبِرْتِيُّ هَذَا ثُمَّ بَادَرَ إِلَى كُلِّ
مَنْ أَنِسَ مِنْهُ رُشْدًا مِنَ الْيَتَامَى فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ فَلَمَّا
طُولِبَ بِهِ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ دَفَعْتُهُ إِلَى أَهْلِهِ.
فَعُزِلَ عَنِ الْقَضَاءِ وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَتَعَبَّدَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي
ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَقَدْ دَخَلَ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إِلَيْهِ
وَصَافَحَهُ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ عَمِلَ
بِسُنَّتِي وَأَثَرِي.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَعْفَرُ بْنُ الْمُعْتَمِدِ وَكَانَ يُسَامِرُ أَبَاهُ وَرَاشِدٌ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِمَدِينَةِ الدِّينَوَرِ فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ مُصَنِّفُ الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمَذْهَبِ الْجَهْمِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ". وَمَسْرُورٌ الْخَادِمُ وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ. وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُوسُفَ أَبُو إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْحَسَنَةِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ وَشَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ. وَهِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ الْمُحَدِّثُ الْمَشْهُورُ وَقَدْ وَقَعَ لَنَا مِنْ حَدِيثِهِ طَرَفٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَلِمُوا وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ. وَفِيهَا تَكَامَلَ غَوْرُ الْمِيَاهِ بِبِلَادِ الرَّيِّ
وَطَبَرِسْتَانَ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا وَجَهَدَ النَّاسُ وَقَحَطُوا
حَتَّى أَكَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا حَاصَرَ الْمُعْتَضِدُ قَلْعَةَ مَارْدِينَ وَكَانَتْ بِيَدِ حَمْدَانَ
بْنِ حَمْدُونَ فَفَتَحَهَا
قَسْرًا وَأَخَذَ مَا كَانَ فِيهَا
ثُمَّ أَمَرَ بِتَخْرِيبِهَا فَهُدِّمَتْ، وَفِيهَا وَصَلَتْ قَطْرُ النَّدَى
بِنْتُ خُمَارَوَيْهِ نَائِبِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي
تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ وَمَعَهَا مِنَ الْجِهَازِ شَيْءٌ عَظِيمٌ حَتَّى قِيلَ إِنَّهُ
كَانَ فِي الْجِهَازِ مِائَةُ هَاوُنٍ مِنْ ذَهَبٍ غَيْرَ الْفِضَّةِ وَمَا
يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْقُمَاشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى ثُمَّ بَعْدَ
كُلِّ حِسَابٍ مَعَهَا مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ لِتَشْتَرِيَ بِهَا مِنَ
الْعِرَاقِ مَا قَدْ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِمَّا لَا يَتَهَيَّأُ مِثْلُهُ
بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ وَوَلَّى وَلَدَهُ
عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ نِيَابَةَ الرِّىِّ وَقَزْوِينَ وَزَنْجَانَ وَقُمَّ
وَهَمَذَانَ وَالدِّينَوَرِ وَجَعَلَ عَلَى كِتَابَتِهِ أَحْمَدَ بْنَ الْأَصْبَغِ
وَوَلَّى عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ نِيَابَةَ أَصْبَهَانَ
وَنَهَاوَنْدَ وَالْكَرْخِ ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَصَابَ
الْحُجَّاجَ فِي الْأَجْفُرِ مَطَرٌ عَظِيمٌ فَغَرِقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، كَانَ
الرَّجُلُ يَغْرَقُ فِي الرَّمْلِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى خَلَاصِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ الْحَافِظُ صَاحِبُ كِتَابِ
الْمُصَنَّفَاتِ، مِنْهَا فِي صِفِّينَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّائِيُّ بِالْكُوفَةِ فِي جُمَادَى مِنْهَا
وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ.
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْجَبَلِيِّ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ يُفْتِي النَّاسَ
بِالْحَدِيثِ وَكَانَ يُوصَفُ بِالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ.
ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا الْقُرَشِيُّ.
مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ
سُفْيَانَ بْنِ قَيْسٍ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا الْحَافِظُ
الْمُصَنِّفُ الْمَشْهُورُ، لَهُ التَّصَانِيفُ النَّافِعَةُ الشَّائِعَةُ
الذَّائِعَةُ فِي الرَّقَائِقِ وَغَيْرِهَا، تَزِيدُ عَلَى مِائَةِ مُصَنَّفٍ.
سَمِعَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيَّ وَخَالِدَ بْنَ خِرَاشٍ
وَعَلِيَّ بْنَ الْجَعْدِ وَخَلْقًا، وَكَانَ مُؤَدِّبًا لِلْمُعْتَضِدِ وَابْنِهِ
عَلِيِّ ابْنِ الْمُعْتَضِدِ الْمُلَقَّبِ بِالْمُكْتَفِي، وَكَانَ لَهُ عَلَيْهِ
فِي كُلِّ شَهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا حَافِظًا ذَا
مُرُوءَةٍ، لَكِنْ قَالَ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ: إِلَّا أَنَّهُ كَانَ
يَرْوِي عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، وَكَانَ
هَذَا الرَّجُلُ كَذَّابًا يَضَعُ لِلْكَلَامِ إِسْنَادًا،
وَيَرْوِي أَحَادِيثَ مُنْكَرَةً،
وَمِنْ شِعْرِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ جَلَسَ أَصْحَابٌ لَهُ
يَنْتَظِرُونَهُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَجَاءَ الْمَطَرُ فَحَالَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رُقْعَةً فِيهَا:
أَنَا مُشْتَاقٌ إِلَى رُؤْيَتِكُمْ يَا أَخِلَّائِي وَسَمْعِي وَالْبَصَرْ كَيْفَ
أَنْسَاكُمْ وَقَلْبِي عِنْدَكُمْ
حَالَ فِيمَا بَيْنَنَا هَذَا الْمَطَرْ
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
سَبْعِينَ سَنَةً وَصَلَّى عَلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي وَدُفِنَ
بِالشُّونِيزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ الْحَافِظُ
الْكَبِيرُ الشَّهِيرُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ الْمَوَّازِ الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، لَهُ
اخْتِيَارَاتٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ، فَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي خَامِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ دَخَلَ
الْمُعْتَضِدُ بِزَوْجَتِهِ ابْنَةِ خُمَارَوَيْهِ وَكَانَ قُدُومُهَا بَغْدَادَ
صُحْبَةَ عَمِّهَا وَصُحْبَةَ ابْنِ الْجَصَّاصِ وَكَانَ الْخَلِيفَةُ غَائِبًا
وَكَانَ دُخُولُهَا إِلَيْهِ يَوْمًا مَشْهُودًا امْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ
الْمُرُورِ فِي الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا نَهَى الْمُعْتَضِدُ النَّاسَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي يَوْمِ النَّيرُوزِ
مَا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ إِيقَادِ النِّيرَانِ وَصَبِّ الْمَاءِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُشَابِهَةِ لِأَفْعَالِ الْمَجُوسِ وَمَنَعَ مِنْ
حَمْلِ هَدَايَا الْفَلَّاحِينَ إِلَى الْمُقْطَعِينِ فِي هَذَا الْيَوْمِ
وَأَمَرَ بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ إِلَى الْحَادِي عَشَرَ مِنْ حَزِيرَانَ، وَسُمِّيَ
النَّيرُوزَ الْمُعْتَضِدِيَّ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَائِرِ
الْعُمَّالِ.
فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ
الْمَاذَرَائِيُّ مِنْ دِمَشْقَ عَلَى الْبَرِيدِ فَأَخْبَرَ الْمُعْتَضِدَ
بِاللَّهِ بِأَنَّ خُمَارَوَيْهِ ذَبَحَهُ بَعْضُ خُدَّامِهِ عَلَى فِرَاشِهِ
وَوَلَّوْا بَعْدَهُ وَلَدَهُ جِيشًا ثُمَّ قَتَلُوهُ وَنَهَبُوا دَارَهُ ثُمَّ
وَلَّوْا هَارُونَ بْنَ خُمَارَوَيْهِ وَقَدِ الْتَزَمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ تُحْمَلُ إِلَى بَابِ
الْخَلِيفَةِ فَأَقَرَّهُ الْمُعْتَضِدُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ
الْمُكْتَفِي عَزَلَهُ وَوَلَّى مَكَانَهُ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْوَاثِقِيَّ
فَاصْطَفَى أَمْوَالَ آلِ طُولُونَ وَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِمْ.
وَفِيهَا أُطْلِقَ لُؤْلُؤَةُ غُلَامُ
أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مِنَ السِّجْنِ فَعَادَ إِلَى مِصْرَ فِي أَذَلِّ حَالٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْأَمِيرُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو حَنِيفَةَ الدِّينَوَرِيُّ اللُّغَوِيُّ صَاحِبُ
كِتَابِ " النَّبَاتِ ".
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَبُو
إِسْحَاقَ الْأَزْدِيُّ الْقَاضِي أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ
وَسَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْصَارِيَّ وَالْقَعْنَبِيَّ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَكَانَ حَافِظًا
فَقِيهًا مَالِكِيًّا جَمَعَ وَصَنَّفَ وَشَرَحَ فِي الْمَذْهَبِ عِدَّةَ
مُصَنَّفَاتٍ فِي التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ
وَلِيَ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ بَعْدَ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ عُزِلَ ثُمَّ وَلِيَ وَصَارَ مُقَدَّمَ الْقُضَاةِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فُجَاءَةً لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ
ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ صَاحِبُ الْمُسْنَدِ
الْمَشْهُورِ.
خُمَارَوَيْهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
بُويِعَ
لَهُ بِمُلْكِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ بَعْدَ أَبِيهِ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فَقَصَدَهُ الْمُعْتَضِدُ بْنُ الْمُوَفَّقِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ فَاقْتَتَلُوا
قِتَالًا شَدِيدًا فِي أَرْضِ الرَّمْلَةِ وَقِيلَ فِي أَرْضِ الصَّعِيدِ،
فَانْهَزَمَ خُمَارَوَيْهِ هَارِبًا عَلَى حِمَارٍ، وَكَرَّ جَيْشُهُ عَلَى
الْمُعْتَضِدِ، فَهَرَبَ كَمَا قَدَّمْنَا، ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ
وَتَصَافَيَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
عَدَا الْخَدَمُ مِنَ الْخِصْيَانِ عَلَى خُمَارَوَيْهِ فَذَبَحُوهُ وَهُوَ عَلَى
فِرَاشِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ اتَّهَمَهُمْ بِجَوَارِيهِ، فَمَاتَ عَنْ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ هَارُونُ بْنُ
خُمَارَوَيْهِ وَهُوَ آخِرُ الطُّولُونِيَّةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِيمَنْ تُوَفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ عُثْمَانَ بْنَ
سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ أَبَا سَعِيدٍ الدَّارِمِيَّ الْفَقِيهَ الشَّافِعِيَّ،
أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الْبُوَيْطِيِّ صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ.
الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ مُوسَى بْنِ زُهَيْرِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ بْنِ بَاذَانَ مَلِكِ الْيَمَنِ. وَقَدْ أَسْلَمَ بَاذَانُ
فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيُّ الْأَدِيبُ الْفَقِيهُ الْعَابِدُ الْحَافِظُ
الرَّحَّالُ تَلْمَذَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ رَوَى عَنْهُ الْفَوَائِدَ فِي
الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَقَرَأَ عَلَى خَلَفِ بْنِ هِشَامٍ
الْبَزَّارِ وَتَعَلَّمَ اللُّغَةَ مِنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَكَانَ ثِقَةً
كَبِيرَ الْقَدْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ خَلِّادٍ أَبُو الْعَيْنَاءِ الْبَصْرِيُّ الضَّرِيرُ الشَّاعِرُ الْأَدِيبُ الْبَلِيغُ اللُّغَوِيُّ تِلْمِيذُ الْأَصْمَعِيِّ وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِأَبِي الْعَيْنَاءِ لِأَنَّهُ قَالَ لِأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ: كَيْفَ تُصَغِّرُ عَيْنًا ؟ فَقَالَ: عُيَيْنًا يَا أَبَا الْعَيْنَاءِ. فَبَقِيَ لَهُ. وَلَهُ مَعْرِفَةٌ تَامَّةٌ بِالْأَدَبِ وَالْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْمُعْتَضِدُ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدًا بِلَادَ
الْمَوْصِلِ لِقِتَالِ هَارُونَ الشَّارِي الْخَارِجِيِّ فَظَفِرَ بِهِ، وَهُزِمَ
أَصْحَابُهُ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ
إِلَى بَغْدَادَ أَمَرَ بِصَلْبِ هَارُونَ وَكَانَ صُفْرِيًّا، فَلَمَّا صُلِبَ
قَالَ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وَكَانَ
الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدُونَ قَدْ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ
قِتَالًا شَدِيدًا مَعَ الْخَلِيفَةِ، فَأَطْلَقَ الْخَلِيفَةُ أَبَاهُ حَمْدَانَ
بْنَ حَمْدُونَ مِنَ الْقُيُودِ بَعْدَمَا كَانَ قَدْ سَجَنَهُ حِينَ أَخَذَ
قَلْعَةَ مَارْدِينَ مِنْ يَدِهِ وَهَدَمَهَا عَلَيْهِ فَأَطْلَقَهُ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا كَتَبَ الْمُعْتَضِدُ إِلَى الْآفَاقِ بِرَدِّ مَا فَضُلَ عَنْ سِهَامِ
ذَوِي الْفَرْضِ إِذَا لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَذَلِكَ
عَنْ فُتْيَا أَبِي حَازِمٍ الْقَاضِي، وَقَدْ قَالَ فِي فُتْيَاهُ: إِنَّ هَذَا
اتِّفَاقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ تَفَرَّدَ
بَرَدِّ مَا فَضُلَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَوَافَقَ عَلِيُّ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ لِأَبِي حَازِمٍ، أَفْتَى الْقَاضِي
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بِقَوْلِ زَيْدٍ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ
الْمُعْتَضِدُ، وَأَمْضَى فُتْيَا أَبِي حَازِمٍ وَمَعَ هَذَا وَلَّى الْقَاضِيَ
يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ قَضَاءَ الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعَا
سَنِيَّةً أَيْضًا، وَقَلَّدَ أَبَا حَازِمٍ قَضَاءَ أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ
وَكَذَلِكَ لِابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعًا سَنِيَّةً
أَيْضًا.
وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ فَاسْتُنْقِذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا حَاصَرَتِ الصَّقَالِبَةُ الرُّومَ فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
فَاسْتَعَانَ مَلِكُ الرُّومِ بِمَنْ عِنْدَهُ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ
وَأَعْطَاهُمْ سِلَاحًا كَثِيرًا فَخَرَجُوا مَعَهُمْ فَهَزَمُوا الصَّقَالِبَةَ
ثُمَّ خَافَ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ غَائِلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَفَرَّقَهُمْ فِي
الْبِلَادِ.
وَفِيهَا خَرَجَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ لِبَعْضِ أَشْغَالِهِ
فَخَلَفَهُ فِيهَا رَافِعُ بْنُ هَرْثَمَةَ وَدَعَا عَلَى مَنَابِرِهَا
لِمُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْمُطَّلِبِيِّ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجَعَ
إِلَيْهِ عَمْرٌو وَحَاصَرَهُ فِيهَا وَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَخْرَجَهُ
مِنْهَا وَقَتَلَهُ عَلَى بَابِهَا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمُعْتَضِدُ وَزِيرَهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
سُلَيْمَانَ لِقِتَالِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي دُلَفٍ فَلَمَّا
وَصَلَ إِلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُ عُمَرُ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُ وَأَخَذَهُ مَعَهُ
إِلَى الْخَلِيفَةِ فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ أَبُو إِسْحَاقَ
الثَّقَفِيُّ السَّرَّاجُ النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَدْخُلُ
إِلَى مَنْزِلِهِ - وَكَانَ بِقَطِيعَةِ الرَّبِيعِ فِي الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ
مِنْ بَغْدَادَ - وَيَنْبَسِطُ فِيهِ وَيُفْطِرُ عِنْدَهُ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ
الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَازِمٍ أَبُو الْقَاسِمِ
الْخُتَّلِيُّ وَلَيْسَ هُوَ
بِالَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي
السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ سَمِعَ دَاوُدَ بْنَ عَمْرٍو وَعَلِيَّ بْنَ
الْجَعْدِ وَخَلْقًا كَثِيرًا وَقَدْ لَيَّنَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فَقَالَ: لَيْسَ
بِالْقَوِيِّ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ سَنَةً.
سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ التُّسْتَرِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ أَحَدُ
أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ لَقِيَ ذَا النُّونِ الْمِصْرِيَّ، وَمِنْ كَلَامِ سَهْلٍ
الْحَسَنِ قَوْلُهُ: أَمْسِ قَدْ مَاتَ وَالْيَوْمُ فِي النَّزْعِ وَغَدٌ لَمْ
يُولَدْ وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
مَا مَضَى فَاتَ وَالْمُؤَمَّلُ غَيْبٌ وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ سُلُوكُهُ عَلَى يَدِ خَالِهِ
مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ خِرَاشٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْحَافِظُ الْمَرْوَزِيُّ أَحَدُ الْجَوَّالِينَ الرَّحَّالِينَ حُفَّاظِ
الْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَقَدْ يَتَسَتَّرُ
بِشَيْءٍ مِنَ التَّشَيُّعِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: شَرِبْتُ بَوْلِي فِي هَذَا الشَّأْنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ. يَعْنِي أَنَّهُ
اضْطُرَّ إِلَى ذَلِكَ فِي الْأَسْفَارِ فِي طَلَبِهِ الْحَدِيثَ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ عَبْدِ الْمَلِكِ، الْأُمَوِيُّ
الْبَصْرِيُّ قَاضِي سَامَرَّا وَقَدْ وَلِيَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ سَمِعَ أَبَا الْوَلِيدِ وَأَبَا عُمَرَ
الْحَوْضِيَّ وَعَنْهُ النَّجَّادُ وَابْنُ صَاعِدٍ وَابْنُ قَانِعٍ، وَحَمَلَ
النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا.
ابْنُ الرُّومِيِّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِي الشِّعْرِ عَلِيُّ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ جُرَيْجٍ أَبُو
الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرُّومِيِّ وَهُوَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ وَكَانَ شَاعِرًا مَشْهُورًا مُطْبِقًا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا مَدَحْتَ الْبَاخِلِينَ فَإِنَّمَا تُذَكِّرُهُمْ مَا فِي سِوَاهُمْ
مِنَ الْفَضْلِ
وَتُهْدِي لَهُمْ غَمًّا طَوِيلًا
وَحَسْرَةً فَإِنْ مَنَعُوا مِنْكَ النَّوَالَ فَبِالْعَدْلِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا كَسَاكَ الدَّهْرُ سِرْبَالَ صِحَّةٍ وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتٍ يَلَذُّ
وَيَعْذُبُ
فَلَا تَغْبِطَنَّ الْمُتْرَفِينَ فَإِنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَكْسُوهُمُ
الدَّهْرُ يَسْلُبُ
وَقَالَ أَيْضًا:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ فَلَا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ
فَإِنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
إِذَا انْقَلَبَ الصَّدِيقُ غَدًا عَدُوًّا مُبِينًا وَالْأُمُورُ إِلَى
انْقِلَابِ
وَلَوْ كَانَ الْكَثِيرُ يَطِيبُ كَانَتْ مُصَاحَبَةُ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّوَابِ
وَلَكِنْ قَلَّ مَا اسْتَكْثَرْتَ إِلَّا وَقَعْتَ عَلَى ذِئَابٍ فِي ثِيَابِ
فَدَعْ عَنْكَ الْكَثِيرَ فَكَمْ كَثِيرٍ يُعَافُ وَكَمْ قَلِيلٍ مُسْتَطَابِ
وَمَا اللُّجَجِ الْمِلَاحُ بِمُرْوِيَاتٍ وَيَكْفِي الرِّيُّ فِي النُّطَفِ
الْعِذَابِ
وَقَالَ أَيْضًا:
وَمَا الْحَسَبُ الْمَوْرُوثُ لَا دَرَّ دَرُّهُ بِمُحْتَسَبٍ إِلَّا بِآخَرَ
مُكَتَسَبْ
فَلَا تَتَّكِلْ إِلَّا عَلَى مَا فَعَلْتَهُ وَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ يُورَثُ
بِالنَّسَبْ
فَلَيْسَ يَسُودُ الْمَرْءُ إِلَّا
بِنَفْسِهِ وَإِنَّ عَدَّ آبَاءً كِرَامًا ذَوِي حَسَبْ
إِذَا الْعُودُ لَمْ يُثْمِرْ وَإِنْ كَانَ شُعْبَةً مِنَ الْمُثْمِرَاتِ
اعْتَدَّهُ النَّاسُ فِي الْحَطَبْ
وَلِلْمَجْدِ قَوْمٌ سَاوَرُوهُ بِأَنْفُسٍ كِرَامٍ وَلَمْ يَعْبَوْا بِأُمٍّ
وَلَا بِأَبْ
وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ:
قَلْبِي مِنَ الطَّرْفِ السَّقِيمِ سَقِيمُ لَوْ أَنَّ مَنْ أَشْكُو إِلَيْهِ
رَحِيمُ
فِي وَجْهِهَا أَبَدًا نَهَارٌ وَاضِحٌ مِنْ فَرْعِهَا لَيْلٌ عَلَيْهِ بَهِيمُ
إِنْ أَقْبَلَتْ فَالْبَدْرُ لَاحَ وَإِنْ مَشَتْ فَالْغُصْنُ رَاحَ وَإِنْ رَنَتْ
فَالرِّيمُ
نَعِمَتْ بِهَا عَيْنِي فَطَالَ عَذَابُهَا وَلَكَمْ عَذَابٌ قَدْ جَنَاهُ نَعِيمُ
نَظَرَتْ فَأَقَصَدَتِ الْفُؤَادَ بِسَهْمِهَا ثُمَّ انْثَنَتْ نَحْوِي فَكِدْتُ
أَهِيمُ
وَيْلَاهُ إِنْ نَظَرَتْ وَإِنْ هِيَ أَعْرَضَتْ وَقْعُ السِّهَامِ وَنَزْعُهُنَّ
أَلِيمُ
يَا مُسْتَحِلَّ دَمِي مُحَرِّمَ رَحْمَتِي مَا أَنْصَفَ التَّحْلِيْلُ
وَالتَّحْرِيمُ
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ، مِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ:
آرَاؤُكُمْ وَوَجُوهُكُمْ وَسُيُوفُكُمْ
فِي الْحَادِثَاتِ إِذَا دَجَوْنَ نُجُومُ
مِنْهَا مَعَالِمُ لِلْهُدَى وَمَصَابِحٌ تَجْلُو الدُّجَى وَالْأُخْرَيَاتُ
رُجُومُ
وَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَنَّهُ
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَقِيلَ فِي سَنَةِ
سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَذَكَرَ أَنَّ سَبَبَ وَفَاتِهِ أَنَّ وَزِيرَ الْمُعْتَضِدِ
الْقَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ كَانَ يَخَافُ مَنْ هَجْوِهِ وَلِسَانِهِ
فَدَسَّ إِلَيْهِ مَنْ أَطْعَمَهُ وَهُوَ بِحَضْرَتِهِ خُشْكَنَانَجَةً مَسْمُومَةً
فَلَمَّا أَحَسَّ بِالسُّمِّ قَامَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِلَى أَيْنَ ؟
قَالَ: إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَعَثْتَنِي إِلَيْهِ، قَالَ: سَلِّمْ عَلَى
وَالِدِي، فَقَالَ: لَسْتُ أَجْتَازُ عَلَى النَّارِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ أَبُو بَكْرٍ الْبَاغَنْدِيُّ
الْوَاسِطِيُّ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ كَانَ
يَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ وَمَعَ هَذَا تَكَلَّمُوا فِيهِ وَضَعَّفُوهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ حَرْبٍ أَبُو جَعْفَرٍ الضَّبِّيُّ الْمَعْرُوفُ
بِتَمْتَامٍ سَمِعَ
عَفَّانَ وَقَبِيصَةَ وَالْقَعْنَبِيَّ
وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَرُبَّمَا أَخْطَأَ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ عَنْ
تِسْعِينَ سَنَةً.
الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ
صَاحِبُ الدِّيوَانِ الْمَشْهُورِ، اسْمُهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبَادَةَ، وَيُقَالُ:
الْوَلِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ يَحْيَى أَبُو عُبَادَةَ الطَّائِيُّ
الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ أَصْلُهُ مِنَ مَنْبِجَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَمَدَحَ
الْمُتَوَكِّلَ وَالرُّؤَسَاءَ وَكَانَ شِعْرُهُ فِي الْمَدْحِ خَيْرًا مِنْهُ فِي
الْمَرَاثِي فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: الْمَدِيحُ لِلرَّجَاءِ
وَالْمَرَاثِي لِلْوَفَاءِ وَبَيْنَهُمَا بُعْدٌ. وَقَدْ رَوَى شِعْرَهُ
الْمُبَرِّدُ وَابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ وَابْنُ الْمَرْزُبَانِ، وَقِيلَ لَهُ:
إِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّكَ أَشْعَرُ مِنْ أَبِي تَمَّامٍ، فَقَالَ: لَوْلَا
أَبُو تَمَّامٍ مَا أَكَلْتُ الْخُبْزَ، كَانَ أَبُو تَمَّامٍ أُسْتَاذَنَا وَقَدْ
كَانَ الْبُحْتُرِيُّ شَاعِرًا مُطْبِقًا فَصِيحًا بَلِيغًا رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ
فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا عَنْ ثَمَانِينَ
سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا دَخَلَ رَأَسُ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ إِلَى بَغْدَادَ
فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِنَصْبِهِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ إِلَى الظُّهْرِ
ثُمَّ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى اللَّيْلِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا خَلَعَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
يَعْقُوبَ بِالْقَضَاءِ بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ عِوَضًا عَنِ ابْنِ أَبِي
الشَّوَارِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ وَأَيَّامٍ وَهِيَ شَاغِرَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ ظَهَرَتْ بِمِصْرَ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَحُمْرَةٌ فِي
الْأُفُقِ حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ صَاحِبِهِ فَيَرَاهُ
أَحْمَرَ اللَّوْنِ جَدًّا وَكَذَلِكَ الْجُدْرَانُ فَمَكَثُوا كَذَلِكَ مِنَ
الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَدْعُونَ اللَّهَ
وَيَتَضَرَّعُونَ حَتَّى كَشَفَ عَنْهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ الْمُعْتَضِدُ عَلَى لَعْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ عَلَى الْمَنَابِرِ فَحَذَّرَهُ وَزِيرُهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْعَامَّةَ تُنْكِرُ قُلُوبُهُمْ
وَهُمْ يَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَجَوَامِعِهِمْ فَلَمْ
يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَأَمْضَاهُ وَكُتِبَتْ نُسَخٌ بِلَعْنِ
مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ فِيهَا ذَمَّهُ وَذَمَّ ابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَجَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَأَوْرَدَ فِيهَا أَحَادِيثَ بَاطِلَةً فِي
ذَمِّ مُعَاوِيَةَ وَقُرِئَتْ فِي
الْجَانِبَيْنِ مِنْ بَغْدَادَ
وَنُهِيَتِ الْعَامَّةُ عَنِ التَّرَحُّمِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَالتَّرَضِّي
عَنْهُ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْوَزِيرُ حَتَّى قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَذَا الصَّنِيعَ مِمَّا يُرَغِّبُ الْعَامَّةَ فِي
الطَّالِبِيِّينَ وَقَبُولِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ. فَوَجَمَ لِذَلِكَ
الْمُعْتَضِدُ وَتَرَكَ مَا كَانَ عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِخَوْفِهِ عَلَى
الْمُلْكِ وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَزِيرَ كَانَ نَاصِبِيًّا
يُبْغِضُ عَلِيًّا فَكَانَ هَذَا مِنْ هَفَوَاتِ الْمُعْتَضِدِ، سَامَحَهُ
اللَّهُ.
وَفِيهَا نُودِيَ فِي الْبُلْدَانِ: لَا يَجْتَمِعِ الْعَامَّةُ عَلَى قَاصٍّ
وَلَا كَاهِنٍ وَلَا مُنَجِّمٍ وَلَا جَدَلِيٍّ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَأَنْ لَا
يَهْتَمُّوا لِأَمْرِ النَّوْرُوزِ ثُمَّ أَطْلَقَ لَهُمْ أَمْرَ النَّوْرُوزِ
فَكَانُوا يَصُبُّونَ الْمِيَاهَ عَلَى الْمَارَّةِ فَتَوَسَّعَتِ الْعَامَّةُ فِي
ذَلِكَ وَغَلَوْا فِيهِ حَتَّى جَعَلُوا يَصُبُّونَ الْمِيَاهَ عَلَى الْجُنْدِ
وَعَلَى أَصْحَابِ الشُّرَطِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ هَفَوَاتِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَعَدَ الْمُنَجِّمُونَ
النَّاسَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَقَالِيمِ سَتَغْرَقُ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ مِنْ
كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ وَالسُّيُولِ وَزِيَادَةِ الْأَنْهَارِ فَأَكْذَبَهُمُ
اللَّهُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا، فَلَمْ تَكُنْ سَنَةٌ أَقَلَّ مَطَرًا مِنْهُ
وَقَلَّتِ الْعُيُونُ جِدًّا وَقَحَطَتِ النَّاسُ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ حَتَّى
اسْتَسْقَى النَّاسُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ مِرَارًا كَثِيرَةً،
وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ يَتَبَدَّى بِاللَّيْلِ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ شَخْصٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ
مَشْهُورٌ، فَإِذَا أَرَادُوا أَخْذَهُ انْهَزَمَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ وَالْعَطَفَاتِ الَّتِي بِدَارِ الْخِلَافَةِ فَلَا يُطَّلَعُ لَهُ عَلَى خَبَرٍ، فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ الْمُعْتَضِدُ قَلَقًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِتَجْدِيدِ سُورِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَالِاحْتِفَاظِ بِهِ وَأَمَرَ الْحَرَسَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِشِدَّةِ الِاحْتِرَاسِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالْمُعَزِّمِينَ وَمَنْ يُعَانِي عَلِمَ السِّحْرِ وَأَمَرَ الْمَجَانِينَ فَعَزَّمُوا وَاجْتَهَدُوا فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَعْيَاهُمْ أَمْرُهُ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ اطُّلِعَ عَلَى جَلِيَّةِ خَبَرِهِ وَحَقِيقَةِ أَمْرِهِ، أَنَّهُ كَانَ خَادِمًا خَصِيًّا مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ يَتَعَشَّقُ بَعْضَ الْجَوَارِي مِنْ خَوَاصِّ الْحَظَايَا اللَّاتِي لَا يَصِلُ مِثْلُهُ إِلَى النَّظَرِ إِلَيْهَا فَكَانَ قَدِ اتَّخَذَ لِحًى مُخْتَلِفَةَ الْأَلْوَانِ فَيَلْبَسُ الْوَاحِدَةَ وَيَتَبَدَّى فِي اللَّيْلِ فِي شَكْلٍ مُزْعِجٍ فَيَنْزَعِجُ الْجَوَارِي وَالْخَدَمُ وَيَثُورُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَيَقْصِدُونَهُ فَيَدْخُلُ فِي بَعْضِ الْعَطَفَاتِ وَيَخْلَعُهَا وَيَجْعَلُهَا فِي كُمِّهِ، ثُمَّ يُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَدَمِ الْمُتَطَلِّبِينَ لِكَشْفِ هَذَا الْأَمْرِ وَيَسْأَلُ هَذَا وَهَذَا مَا الْخَبَرُ ؟ وَالسَّيْفُ فِي يَدِهِ فِي صِفَةِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ رُهِبَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجَوَارِي يَتَمَكَّنُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى تِلْكَ الْمَعْشُوقَةِ وَمُلَاحَظَتِهَا وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهَا بِمَا يُرِيدُهُ مِنْهَا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ إِلَى زَمَنِ الْمُقْتَدِرِ فَبُعِثَ فِي سَرِيَّةٍ إِلَى طَرَسُوسَ فَنَمَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجَارِيَةُ وَانْكَشَفَ زَيْفُهُ وَمِحَالُهُ وَأَهْلَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اضْطَرَبَ
الْجَيْشُ عَلَى هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بِمِصْرَ فَأَقَامُوا لَهُ بَعْضَ
أُمَرَاءِ أَبِيهِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ وَيُصْلِحُ الْأَحْوَالَ وَهُوَ أَبُو
جَعْفَرِ بْنُ أَبَّا فَبَعَثَ إِلَى دِمَشْقَ وَكَانَتْ قَدْ مَنَعَتْ بَيْعَةَ
جَيْشِ ابْنِ خُمَارَوَيْهِ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ
أَبِيهِ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ
بَدْرٍ الْحَمَامِيِّ وَالْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَاذَرَائِيِّ فَأَصْلَحَا
أَمْرَهَا وَاسْتَعْمَلَا عَلَى نِيَابَتِهَا طُغْجَ بْنَ جُفٍّ وَرَجَعَا إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ. وَالْأُمُورُ مُخْتَلِفَةٌ جِدًّا، وَهَكَذَا يَكُونُ انْقِضَاءُ
الدُّوَلِ فِي أَوَاخِرِهَا، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا
مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ الرَّعْدِ: 11 ]
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْمُبَارَكِ أَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي.
الزَّاهِدُ النَّيْسَابُورِيُّ يُلَقَّبُ بِحَمْكَوَيْهِ الْعَابِدِ سَمِعَ
قُتَيْبَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرَهُمْ وَاسْتَمْلَى الزَّاهِدُ
النَّيْسَابُورِيُّ عَلَى الْمَشَايِخِ سِتًّا وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَ
فَقِيرًا رَثَّ الْهَيْئَةِ زَاهِدًا دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أَبِي عُثْمَانَ
سَعِيدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ التَّذْكِيرَ فَبَكَى أَبُو
عُثْمَانَ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنَّمَا أَبْكَانِي رَثَاثَةُ ثِيَابِ رَجُلٍ
كَبِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَا أُجِلُّهُ
عَنْ أَنْ أُسَمِّيَهُ فِي هَذَا
الْمَجْلِسِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُلْقُونَ الْخَوَاتِيمَ وَالثِّيَابَ
وَالدَّرَاهِمَ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ بَيْنَ يَدَيِ
الشَّيْخِ أَبِي عُثْمَانَ فَنَهَضَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو الْمُسْتَمْلِي
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا الَّذِي قَصَدَنِي الشَّيْخُ بِكَلَامِهِ
وَلَوْلَا أَنِّي كَرِهْتُ أَنْ يُتَّهَمَ بِإِثْمٍ لَسَتَرْتُ مَا سَتَرَهُ.
فَتَعَجَّبَ الشَّيْخُ مِنْ إِخْلَاصِهِ ثُمَّ أَخَذَ أَبُو عَمْرٍو ذَلِكَ
الْمُجْتَمِعَ مِنَ الْمَالِ بَيْنَ يَدَيِ الشَّيْخِ فَمَا خَرَجَ مِنْ بَابِ
الْمَسْجِدِ حَتَّى تَصَدَّقَ بِجَمِيعِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَحَاوِيجِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ.
ابْنِ مَيْمُونِ بْنِ سَعْدٍ أَبُو يَعْقُوبَ الْحَرْبِيُّ سَمِعَ عَفَّانَ
وَأَبَا نُعَيْمٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ أَسَنَّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ
بِثَلَاثِ سِنِينَ وَلَمَّا تُوُفِّيَ إِسْحَاقُ نُودِيَ لَهُ بِالْبَلَدِ
فَقَصَدَ النَّاسُ دَارَهُ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَاعْتَقَدَ بَعْضُ الْعَامَّةِ
أَنَّهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فَجَعَلُوا يَقْصِدُونَ دَارَهُ، فَيَقُولُ
لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: لَيْسَ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَصَدْتُمْ وَغْدًا
تَأْتُونَهُ أَيْضًا. فَمَا عُمِّرَ بَعْدَهُ إِلَّا دُونَ السَّنَةِ، رَحِمَهُمَا
اللَّهُ.
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو يَعْقُوبَ السَّدُوسِيُّ عُمِّرَ تِسْعِينَ سَنَةً
وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا.
إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْفَقِيهُ أَبُو يَعْقُوبَ
الْإِسْفِرَايِينِيُّ
الشَّافِعِيُّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ
كَانَتْ إِلَيْهِ الْحِسْبَةُ بِبَغْدَادَ وَإِمَامَةُ جَامِعِ الرُّصَافَةِ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْعَتَّابِيُّ مِنْ وَلَدِ عَتَّابِ بْنِ
أَسِيدٍ بِصْرِيٌ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ عَنْ أَزْهَرَ السَّمَّانِ وَأَبِي
عَاصِمٍ النَّبِيلِ.
يَزِيدُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ طَهْمَانَ أَبُو خَالِدٍ الدَّقَّاقُ وَيُعْرَفُ
بِالْبَادَا. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ الْبَادِي
لِأَنَّهُ وُلِدَ تَوْأَمًا وَكَانَ هُوَ الْأَوَّلَ فِي الْمِيلَادِ. رَوَى عَنْ
يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا عَالِمًا عَامِلًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا خَرَجَ صَالِحُ بْنُ مُدْرِكٍ الطَّائِيُّ عَلَى الْحَاجِّ بِالْأَجْفُرِ
فَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَخَدَمَهُمْ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَخَذَ
مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ أَلْفَا أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا يَوْمَ الْأَحَدِ لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْهُ
ارْتَفَعَتْ بِنَوَاحِي الْكُوفَةِ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا ثُمَّ سَقَطَتْ
أَمْطَارٌ بِرُعُودٍ وَبُرُوقٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا وَسَقَطَ فِي بَعْضِ الْقُرَى
مَعَ الْمَطَرِ حِجَارَةٌ بِيضٌ وَسُودٌ وَسَقَطَ بَرَدٌ كِبَارٌ وَزْنُ
الْبَرَدَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَاقْتَلَعَتِ الرِّيَاحُ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ مِمَّا حَوْلَدِجْلَةَ وَزَادَتْ
دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً حَتَّى خِيفَ عَلَى بَغْدَادَ مِنَ الْغَرَقِ.
وَفِيهَا غَزَا رَاغِبٌ الْخَادِمُ مَوْلَى الْمُوَفَّقِ بِلَادَ الرُّومِ
فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً وَأَسَرَ ذَرَارِيَّ كَثِيرَةً جِدًّا وَقَتَلَ مِنْ
أَسَارَى الرِّجَالِ الَّذِينَ تَحَصَّلُوا مَعَهُ ثَلَاثَةَ آلَافِ رَقَبَةٍ
ثُمَّ عَادَ سَالِمًا مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُدَ
الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الشَّيْخِ صَاحِبُ آمِدَ فَقَامَ بِأَمْرِهَا مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ فَقَصَدَهُ الْمُعْتَضِدُ وَمَعَهُ ابْنُهُ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ فَحَاصَرَهُ بِهَا فَخَرَجَ إِلَيْهِ
سَامِعًا مُطِيعًا فَتَسَلَّمَهَا مِنْهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَكْرَمَ أَهْلَهُ
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا وَلَدَهُ الْمُكْتَفِي ثُمَّ سَارَ
إِلَى قِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمِ فَتَسَلَّمَهَا عَنْ كِتَابِ هَارُونَ بْنِ
خُمَارَوَيْهِ وَإِذْنِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَمُصَالَحَتِهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا ابْنُ الْإِخْشِيدِ بِأَهْلِ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ
اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ حُصُونًا كَثِيرَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَيْسَمٍ
أَبُو إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا تَخَرَّجَ بِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَرَوَى عَنْهُ كَثِيرًا.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إِمَامٌ مُصَنِّفٌ عَالِمٌ
بِكُلِّ شَيْءٍ بَارِعٌ فِي كُلِّ عِلْمٍ صَدُوقٌ كَانَ يُقَاسُ بِأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ فِي زُهْدِهِ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ:
أَجْمَعَ عُقَلَاءُ كُلِّ أُمَّةٍ أَنَّ مَنْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الْقَدَرِ لَمْ
يَتَهَنَّ بِعَيْشِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: الرَّجُلُ الَّذِي يُدْخِلُ غَمَّهُ عَلَى
نَفْسِهِ وَلَا يُدْخِلُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَقَدْ كَانَتْ بِي شَقِيقَةٌ مُنْذُ
خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ وَلِيَ عَشْرُ
سِنِينَ أُبْصِرُ بِفَرْدِ عَيْنٍ مَا أَخْبَرْتُ بِهَا أَحَدًا قَطُّ. وَذَكَرَ
أَنَّهُ مَكَثَ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ مَا يَسْأَلُ أَهْلَهُ
غَدَاءً وَلَا عَشَاءً بَلْ إِنْ جَاءُوهُ بِشَيْءٍ أَكْلَهُ وَإِلَّا طَوَى إِلَى
اللَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْفَقَ فِي بَعْضِ الرَّمَضَانَاتِ
عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَأَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ
وَنِصْفًا، وَمَا كُنَّا نَعْرِفُ مِنْ هَذِهِ الْطَّبَائِخِ شَيْئًا إِنَّمَا
هُوَ بَاذِنْجَانٌ مَشْوِيٌّ أَوْ بَاقَةُ فِجْلٍ أَوْ نَحْوُ هَذَا.
وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَضِدُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَرَدَّهَا فَرَجَعَ
الرَّسُولُ وَقَالَ: يَقُولُ لَكَ الْخَلِيفَةُ فِرِّقْهَا عَلَى مَنْ تَعْرِفُ
مِنْ فُقَرَاءَ جِيرَانِكَ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ نَجْمَعْهُ وَلَا نُسْأَلُ
عَنْ جَمْعِهِ فَلَا نُسْأَلُ عَنْ تَفْرِيقِهِ، قُلْ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
إِمَّا يَتْرُكُنَا وَإِلَّا نَتَحَوَّلُ مِنْ بَلَدِهِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَعُودُهُ
فَقَامَتِ ابْنَتُهُ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَأَنَّهُ
لَا طَعَامَ لَهُمْ إِلَّا الْخَبْزَ الْيَابِسَ بِالْمِلْحِ وَرُبَّمَا عُدِمُوا
الْمِلْحَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيمُ: يَا بُنَيَّةُ
تَخَافِينَ الْفَقْرَ ؟ انْظُرِي
إِلَى تِلْكَ الزَّاوِيَةِ فَفِيهَا
اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ جُزْءٍ قَدْ كَتَبْتُهَا فِي الْعِلْمِ، فَفِي كُلِّ يَوْمٍ
بِيعِي مِنْهَا جُزْءًا بِدِرْهَمٍ، فَمَنْ عِنْدَهُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ
دِرْهَمٍ فَلَيْسَ بِفَقِيرٍ.
ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي عِنْدَ بَابِ الْأَنْبَارِ وَكَانَ الْجَمْعُ
كَثِيرًا جِدًّا.
الْمُبَرِّدُ النَّحْوِيُّ.
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْأَكْبَرِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَزْدِيُّ
الثُّمَالِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْمِبْرِّدِ النَّحْوِيُّ الْبَصْرِيُّ إِمَامٌ فِي
اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ
السِّجِسْتَانِيِّ وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتَا فِيمَا يَنْقُلُهُ وَكَانَ مُنَاوِئًا
لِثَعْلَبٍ وَلَهُ كِتَابُ " الْكَامِلِ " فِي الْأَدَبِ وَإِنَّمَا
سُمِّيَ بِالْمِبْرِّدِ لِأَنَّهُ اخْتَبَأَ مِنَ الْوَالِي عِنْدَ أَبِي حَاتِمٍ
تَحْتَ الْمُزَمَّلَةِ.
قَالَ الْمُبَرِّدُ: دَخَلْنَا يَوْمًا عَلَى الْمَجَانِينِ نَزُورُهُمْ أَنَا
وَأَصْحَابٌ مَعِي بِالرَّقَّةِ، فَإِذَا فِيهِمْ شَابٌّ قَرِيبُ الْعَهْدِ
بِالْمَكَانِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ نَاعِمَةٌ، فَلَمَّا أَبْصَرَ بِنَا قَالَ:
حَيَّاكُمُ اللَّهُ مِمَّنْ أَنْتُمْ ؟ قُلْنَا: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ:
بِأَبِي الْعِرَاقُ وَأَهْلُهَا أَنْشِدُونِي أَوْ أُنْشِدُكُمْ ؟ قَالَ
الْمُبَرِّدُ: فَقُلْتُ: بَلْ أَنْشِدْنَا أَنْتَ. فَقَالَ:
اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي كَمِدٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَبُثُّ مَا أَجِدُ
رُوحَانِ لِي رُوحٌ تَضَمَّنَهَا
بَلَدٌ وَأُخْرَى حَازَهَا بَلَدُ وَأَرَى الْمُقِيمَةَ لَيْسَ يَنْفَعُهَا
صَبْرٌ وَلَا يَقْوَى لَهَا جَلَدُ وَأَظُنُّ غَائِبَتِي كَشَاهِدَتِي
بِمَكَانِهَا تَجِدُ الَّذِي أَجِدُ
قَالَ الْمُبَرِّدُ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَظَرِيفٌ فَزِدْنَا مِنْهُ.
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَمَّا أَنَاخُوا قُبَيْلَ الصُّبْحِ عِيرَهُمُ وَرَحَّلُوهَا فَثَارَتْ
بِالْهَوَى الْإِبِلُ
وَأَبْرَزَتْ مِنْ خِلَالِ السِّجْفِ نَاظِرَهَا تَرْنُو إِلَيَّ وَدَمْعُ
الْعَيْنِ يَنْهَمِلُ
وَوَدَّعَتْ بِبَنَانٍ عَقْدُهُ عَنَمٌ نَادَيْتُ لَا حَمَلَتْ رِجْلَاكَ يَا
جَمَلُ
وَيْلِي مِنَ الْبَيِنِ مَاذَا حَلَّ بِي وَبِهِمْ مِنْ نَازِلِ الْبَيْنِ حَانَ
الْبَيْنُ وَارْتَحَلُوا
يَا رَاحِلَ الْعِيسِ عَجِّلْ كَيْ أُوَدِّعَهُمْ يَا رَاحِلَ الْعِيسِ فِي
تَرْحَالِكَ الْأَجَلُ
إِنِّي عَلَى الْعَهْدِ لَمْ أَنْقُضْ مَوَدَّتَهُمْ فَلَيْتَ شِعْرِي لِطُولِ
الْعَهْدِ مَا فَعَلُوا
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْبُغَضَاءِ الَّذِينَ مَعِي: مَاتُوا، فَقَالَ الشَّابُّ:
إِذًا أَمُوتُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ، فَتَمَطَّى وَاسْتَنَدَ إِلَى سَارِيَةٍ
عِنْدَهُ وَمَاتَ وَمَا بَرِحْنَا حَتَّى دَفَنَّاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمَاتَ
الْمُبَرِّدُ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا وَقَعَ تَسَلُّمُ آمِدَ مِنِ ابْنِ الشَّيْخِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ
وَوَصَلَ كِتَابُ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ مِنْ
مِصْرَ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَهُوَ مُخَيِّمٌ بِآمِدَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ
قِنِّسْرِينَ وَالْعَوَاصِمَ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى إِمْرَةِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ تَرَحَّلَ عَنْ آمِدَ قَاصِدًا
الْعِرَاقَ وَأَمَرَ بِهَدْمِ سُورِ آمِدَ فَهَدَمَ الْبَعْضَ وَلَمْ يَقْدِرْ
عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُهَنِّئُهُ بِفَتْحِ آمِدَ:
اسْلَمْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَدُمْ فِي غِبْطَةٍ وَلْيَهْنِكَ النَّصْرُ
فَلَرُبَّ حَادِثَةٍ نَهَضْتَ لَهَا
مُتَقَدِّمًا فَتَأَخَّرَ الدَّهْرُ لَيْثٌ فَرَائِسُهُ اللُّيُوثُ فَمَا
يَبْيَضُّ مِنْ دَمِهَا لَهُ ظُفْرُ
وَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ جَاءَتْهُ هَدِيَّةُ عَمْرِو بْنِ
اللَّيْثِ مِنْ نَيْسَابُورَ فَكَانَ وُصُولُهَا بَغْدَادَ يَوْمَ الْخَمِيسِ
لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَكَانَ مَبْلَغُهَا مَا قِيمَتُهُ
أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ خَارِجًا عَنْ دَوَابَّ وَسُرُوجٍ وَغَيْرِ
ذَلِكَ.
وَفِيهَا تَحَارَبَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ وَعَمْرُو بْنُ
اللَّيْثِ وَذَلِكَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ اللَّيْثِ لَمَّا قَتَلَ رَافِعَ بْنَ
هَرْثَمَةَ وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ سَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ
مَا وَرَاءَ النَّهْرِ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ خُرَاسَانَ
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ
فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ إِسْمَاعِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ:
إِنَّكَ قَدْ وُلِّيتَ دُنْيَا عَرِيضَةً فَاقْتَنِعْ بِهَا عَنْ مَا فِي يَدِي
مِنْ هَذِهِ الْبِلَادِ. فَلَمْ يَقْبَلْ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ فِي جُيُوشٍ عَظِيمَةٍ جِدًّا فَالْتَقَيَا عِنْدَ بَلْخَ
فَهُزِمَ أَصْحَابُ عَمْرٍو وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ فَلَمَّا جِيءَ بِهِ
إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ قَامَ إِلَيْهِ وَقَبَّلَ بَيْنِ عَيْنَيْهِ
وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ وَأَمَّنَهُ وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي
أَمْرِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ قَدْ مَلُّوهُ وَضَجِرُوا
مِنْ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ كِتَابُ الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَتَسَلَّمَ
حَوَاصِلَهُ وَأَمْوَالَهُ فَسَلَبَهُ إِيَّاهَا فَآلَ بِهِ الْحَالُ بَعْدَ أَنْ
كَانَ مَطْبَخُهُ يُحْمَلُ عَلَى سِتِّمِائَةِ جَمَلٍ إِلَى الْقَيْدِ
وَالسِّجْنِ. وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ عَمْرًا كَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ
مُقَاتِلٍ لَمْ يُصَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا أُسِرَ سِوَاهُ.
ظُهُورُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ
وَلَعَنَهُمْ
وَهْمْ أَخْبَثُ مِنَ الزَّنْجِ وَأَشَدُّ فَسَادًا كَانَ ظُهُورُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِنَوَاحِي الْبَصْرَةِ فَالْتَفَّ عَلَيْهِ
مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ بِشَرٌ كَثِيرٌ وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ جِدًّا
وَقَتَلَ مَنْ حَوْلَهُ مَنْ أَهْلِ الْقُرَى، ثُمَّ صَارَ إِلَى الْقَطِيفِ
قَرِيبًا مِنَ الْبَصْرَةِ وَرَامَ دُخُولَهَا فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ
الْمُعْتَضِدُ إِلَى نَائِبِهَا يَأْمُرُهُ بِتَحْصِينِ سُورِهَا فَعَمَّرُوهُ
وَجَدَّدُوا مَعَالِمَهُ بِنَحْوٍ مَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، فَامْتَنَعَتِ
الْبَصْرَةُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَتَغَلَّبَ أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ عَلَى هَجَرَ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ الْبِلَادِ
وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.
وَكَانَ أَصْلُ أَبِي سَعِيدٍ
الْجَنَّابِيِّ هَذَا أَنَّهُ كَانَ سِمْسَارًا فِي الطَّعَامِ يَبِيعُهُ
وَيَحْسِبُ لِلنَّاسِ الْأَثْمَانَ فَقَدِمَ رَجُلٌ بِهِ يُقَالُ لَهُ يَحْيَى
بْنُ الْمَهْدِيِّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ فَدَعَا أَهْلَ
الْقَطِيفِ إِلَى بَيْعَةِ الْمَهْدِيِّ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ
عَلِيُّ بْنُ الْعَلَاءِ بْنِ حَمْدَانَ الزِّيَادِيُّ وَسَاعَدَهُ فِي
الدَّعْوَةِ إِلَى الْمَهْدِيِّ وَجَمَعَ الشِّيعَةَ الَّذِينَ كَانُوا
بِالْقَطِيفِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنِ اسْتَجَابَ أَبُو
سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ هَذَا - قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَى
أَمْرِهِمْ وَأَظْهَرَ فِيهِمُ الْقَرْمَطَةَ فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَالْتَفُّوا
عَلَيْهِ فَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ وَصَارَ هُوَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِيهِمْ.
وَأَصْلُهُ مِنْ بَلْدَةٍ هُنَاكَ يُقَالُ لَهَا جَنَّابَةُ وَسَيَأْتِي مَا
يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ أَصْحَابِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَمِنْ عَجَائِبِ مَا
وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - ثُمَّ رَوَى بِسَنَدِهِ - أَنَّ
امْرَأَةً تَقَدَّمَتْ إِلَى قَاضِي الرَّيِّ فَادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا
بِصَدَاقِهَا خَمْسَمِائَةَ دِينَارٍ فَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَجَاءَتْ
بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهَا بِهِ، فَقَالُوا: نُرِيدُ أَنْ تُسْفِرَ لَنَا عَنْ
وَجْهِهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهَا الزَّوْجَةُ أَمْ لَا، فَلَمَّا صَمَّمُوا
عَلَى ذَلِكَ، قَالَ الزَّوْجُ: لَا تَفْعَلُوا هِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا تَدَّعِيهِ.
فَأَقَرَّ بِمَا ادَّعَتْ لِيَصُونَ زَوْجَتَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهَا.
فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: وَإِذْ قَدْ أَرَادَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حِلٍّ مِنْ
صَدَاقِي عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ الْمَشَاهِيرِ:
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ فِيمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا
الذَّهَبِيُّ.
وَقَدْ أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبَانٍ.
أَبُو يَعْقُوبَ النَّخَعِيُّ الْأَحْمَرُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الطَّائِفَةُ
الْإِسْحَاقِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ النُّوبَخْتِيِّ
وَالْخَطِيبُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ يَعْتَقِدُ
إِلَهِيَّةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى الْحَسَنِ
ثُمَّ الْحُسَيْنِ وَأَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَدِ اتَّبَعَهُ
عَلَى هَذَا الْكُفْرِ خَلْقٌ مِنَ الْحَمِيرِ قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ.
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْأَحْمَرُ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَبْرَصَ وَكَانَ يَطْلِي
بِرَصَهُ بِمَا يُغَيِّرُ لَوْنَهُ. وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ النُّوبَخْتِيُّ
أَقْوَالًا عَظِيمَةً فِي الْكُفْرِ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَوَى شَيْئًا مِنَ
الْحِكَايَاتِ وَالْمُلَحِ عَنِ الْمَازِنِيِّ وَطَبَقَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا
أَقَلُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ.
بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ يَزِيدَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْدَلُسِيُّ
الْحَافِظُ أَحَدُ عُلَمَاءِ الْغَرْبِ لَهُ " التَّفْسِيرُ " وَ "
الْمُسْنَدُ " وَ " السُّنَنُ وَالْآثَارُ " الَّتِي فَضَّلَهَا
ابْنُ حَزْمٍ عَلَى تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وَمُصَنَّفِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَفِيمَا زَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ نَظَرٌ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا وَوَصَفَهُ
بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ رَحِمَهُ
اللَّهُ
وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِهَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
وَالْحُسَيْنُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ مُوسَى.
أَبُو عَلِيٍّ الْخَيَّاطُ رَوَى عَنْ أَبِي بِلَالٍ الْأَشْعَرِيِّ وَعَنْهُ
أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ ثِقَةً رَأَى فِي مَنَامِهِ - وَقَدْ كَانَتْ
بِهِ عِلَّةٌ - قَائِلًا يَقُولُ لَهُ كُلْ لَا وَاشْرَبْ لَا، فَفَسَّرَهُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ [ النُّورِ:
35 ] فَأَكَلَ زَيْتُونًا وَشَرِبَ زَيْتًا فَبَرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ تِلْكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَنْمَاطِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِمُرَبَّعٍ تِلْمِيذُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا.
عَبْدُ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ الْمُصَنِّفُ.
وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ
".
مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُوسَى
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ كُدَيْمٍ أَبُو الْعَبَّاسِ
الْقُرَشِيُّ الْبَصْرِيُّ الْكُدَيْمِيُّ وَهُوَ ابْنُ امْرَأَةِ رَوْحِ بْنِ
عُبَادَةَ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ وَسَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ
وَأَبَا دَاوُدَ الطَّيَالِسِيَّ وَالْأَصْمَعِيَّ وَخَلْقًا، وَعَنْهُ ابْنُ
السَّمَّاكِ وَالنَّجَّادُ وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ
الْقَطِيعِيُّ وَقَدْ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا مُغْرِبًا، تَكَلَّمَ فِيهِ
النَّاسُ لِإِغْرَابِهِ فِي الرِّوَايَاتِ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي
كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ.
دُفِنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةٍ وَصَلَّى عَلَيْهِ
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ.
يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ تَحِيَّةَ أَبُو يُوسُفَ الْوَاسِطِيُّ سَمِعَ مِنْ
يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا بِأَرْبَعَةِ
أَحَادِيثَ وَوَعَدَ النَّاسَ أَنْ يُحَدِّثَهُمْ مِنَ الْغَدِ فَمَاتَ مِنْ
لَيْلَتِهِ عَنْ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْوَلِيدُ أَبُو عُبَادَةَ الْبُحْتُرِيُّ فِيمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا
الذَّهَبِيُّ وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ صُحْبَةِ أَبِي
سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَأَفْسَدُوا فِي بِلَادِ هَجَرَ
فَجَهَّزَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيفًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ
الْعَبَّاسَ بْنَ عَمْرٍو الْغَنَوِيَّ وَأَمَّرَهُ عَلَى الْيَمَامَةِ
وَالْبَحْرَيْنِ لِيُحَارِبَ أَبَا سَعِيدٍ هَذَا فَالْتَقَوْا هُنَالِكَ،
وَالْعَبَّاسُ فِي عَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَأَسَرَهُمْ أَبُو سَعِيدٍ
كُلَّهُمْ، فَنَجَا مِنْ بَيْنِهِمْ كُلِّهِمُ الْأَمِيرُ وَحْدَهُ، وَقُتِلَ
الْبَاقُونَ عَنْ آخِرِهِمْ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْ أَبِي سَعِيدٍ قَبَّحَهُ
اللَّهُ. وَهَذَا عَجِيبٌ جِدًّا وَهُوَ عَكْسُ وَاقِعَةِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ،
فَإِنَّهُ أُسِرَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ وَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا،
وَيُقَالُ: إِنَّ الْعَبَّاسَ لَمَّا قَتَلَ أَبُو سَعِيدٍ أَصْحَابَهُ صَبْرًا
بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْعَبَّاسُ يَنْظُرُ، أَقَامَ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ أَيَّامًا
ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَحَمَلَهُ عَلَى رَوَاحِلَ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى صَاحِبِكِ
فَأَخْبِرْهُ بِمَا رَأَيْتَ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي أَوَاخِرِ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمَّا وَقَعَ هَذَا انْزَعَجَ النَّاسُ
لِذَلِكَ انْزِعَاجًا عَظِيمًا جِدًّا، وَهَمَّ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِالْجَلَاءِ
مِنْهَا فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ نَائِبُهَا أَحْمَدُ الْوَاثِقِيُّ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بِلَادِ طَرَسُوسَ وَكَانَ نَائِبُهَا ابْنُ
الْإِخْشِيدِ قَدْ تُوُفِّيَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي وَاسْتَخْلَفَ
عَلَى الثَّغْرِ أَبَا ثَابِتٍ
فَطَمِعَتِ الرُّومُ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَحَشَدُوا عَسَاكِرَهُمْ إِلَى
هُنَالِكَ، فَالتَقَاهُمْ أَبُو ثَابِتٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَتِهِمْ
فَقَتَلُوا مِنْ أَصْحَابِهِ جَمَاعَةً وَأَسَرُوهُ فِيمَنْ أَسَرُوا، فَاجْتَمَعَ
أَهْلُ الثَّغْرِ عَلَى ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ فَوَلَّوْهُ أَمْرَهُمْ وَذَلِكَ
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ.
وَفِيهَا قُتِلَ:
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ الْعَلَوِيُّ.
أَمِيرُ طَبَرِسْتَانَ وَالدَّيْلَمِ وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا ظَفِرَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ بِعَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ نَائِبِ
خُرَاسَانَ ظَنَّ مُحَمَّدٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ لَا يُجَاوِزُ عَمَلَهُ وَأَنَّ خُرَاسَانَ
قَدْ خَلَتْ لَهُ فَارْتَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ يُرِيدُهَا وَسَبَقَهُ إِلَى
خُرَاسَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ الْزَمْ عَمَلَكَ
وَلَا تُجَاوِزْهُ إِلَى غَيْرِهِ. فَلَمْ يَقْبَلْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا
مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الَّذِي كَانَ يَنُوبُ عَنْ رَافِعِ بْنِ هَرْثَمَةَ
فَلَمَّا الْتَقَيَا هَرَبَ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ خَدِيعَةً فَسَارَ
الْجَيْشُ وَرَاءَهُ فِي الطَّلَبِ فَكَرَّ عَلَيْهِمْ رَاجِعًا فَانْهَزَمُوا
مِنْهُ فَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ وَجُرِحَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ
جِرَاحَاتٍ شَدِيدَةً فَمَاتَ بِسَبَبِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ وَأُسِرَ وَلَدُهُ
زَيْدٌ فَبُعِثَ بِهِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ فَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ
بُخَارَى.
وَقَدْ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ هَذَا فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ السِّيرَةِ
فِيمَا وَلِيَهُ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَكَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ، فَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ يَوْمًا خَصْمَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا مُعَاوِيَةُ وَاسْمُ
الْآخَرِ عَلِيٌّ، فَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَكُمَا ظَاهِرٌ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيُّهَا
الْأَمِيرُ لَا تَغْتَرَّنَّ بِنَا فَإِنَّ أَبِي كَانَ مِنْ كِبَارِ الشِّيعَةِ
وَإِنَّمَا سَمَّانِي مُعَاوِيَةَ مُدَارَاةً لِمَنْ بِبَلَدِنَا مِنَ السُّنَّةِ،
وَهَذَا كَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ النَّوَاصِبِ فَسَمَّاهُ عَلِيًّا تُقَاةً
لَكُمْ. فَتَبَسَّمَ مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ": وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا
إِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ، عَدِيُّ
رَبِيعَةَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى دِيَارِ رَبِيعَةَ مِنَ الْجَزِيرَةِ فَوُلِّيَ
مَكَانَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُعْتَمِرِ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ أَبِي
عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ. وَفَهْدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فَهْدٍ الْأَزْدِيُّ
الْمَوْصِلِيُّ وَكَانَ مِنَ الْأَعْيَانِ وَذَكَرَ هُوَ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ
الْجَوْزِيِّ أَنَّ قَطْرَ النَّدَى بِنْتَ خُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
طُولُونَ امْرَأَةَ الْمُعْتَضِدِ تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَجَبٍ مِنْهَا وَدُفِنَتْ دَاخِلَ قَصْرِ
الرُّصَافَةِ.
وَيَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَيُّوبَ أَبُو بَكْرٍ الْمُطَّوِّعِيُّ سَمِعَ
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ وَعَنْهُ النَّجَّادُ
وَالْخُلْدِيُّ، كَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ قِرَاءَةَ " قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ " إِحْدَى وَثَلَاثِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا: أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ صَاحِبُ
السُّنَّةِ
وَالْمُصَنَّفَاتِ وَهُوَ:
أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ الضَّحَّاكِ.
ابْنِ مَخْلَدٍ النَّبِيلِ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا
كِتَابُ " السُّنَّةِ " فِي أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ
السَّلَفِ وَكَانَ حَافِظًا كَبِيرًا جَلِيلًا، قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ أَصْبَهَانَ
بَعْدَ صَالِحِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَانَ قَدْ طَافَ الْبِلَادَ فِي
طَلَبِ الْحَدِيثِ وَصَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ
مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً كَرَامَةٌ هَائِلَةٌ كَانَ
هُوَ وَاثْنَانِ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ فِي سَفَرٍ فَنَزَلُوا يَوْمًا عَلَى
رَمْلٍ أَبْيَضَ فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا يُقَلِّبُهُ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا خَبِيصًا يَكُونُ بِلَوْنِ هَذَا. فَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ
مِنْ أَنْ أَقْبَلَ أَعْرَابِيٌّ وَبِيَدِهِ قَصْعَةٌ فِيهَا خَبِيصٌ بِلَوْنِ
ذَلِكَ الرَّمْلِ فِي بَيَاضِهِ فَأَكَلُوا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ
يَقُولُ: لَا أُحِبُّ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسِي مُبْتَدِعٌ وَلَا طَعَّانٌ وَلَا
لَعَّانٌ وَلَا فَاحِشٌ وَلَا بَذِيءٌ وَلَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ
وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَصْبَهَانَ
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفَ
قَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: يُؤْنِسُنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
اتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَصَائِبُ عَدِيدَةٌ مِنْهَا أَنَّ الرُّومَ
قَصَدُوا بِلَادَ الرَّقَّةِ فِي جَحَافِلَ مِنَ الْبَحْرِ وَالْبَرِّ فَقَتَلُوا
خَلْقًا وَأَسَرُوا نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَمِنْهَا أَنَّ بِلَادَ أَذْرَبِيجَانَ أَصَابَ أَهْلَهَا وَبَاءٌ شَدِيدٌ حَتَّى
لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى دَفْنِ الْمَوْتَى فَتُرِكُوا فِي الطُّرُقِ
لَا يُوَارَوْنَ عَنِ الْأَبْصَارِ. وَمِنْهَا أَنَّ بِلَادَ أَرْدَبِيلَ
أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ إِلَى ثُلْثِ اللَّيْلِ ثُمَّ
زُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ أَيَّامًا فَتَهَدَّمَتِ
الدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَخُسِفَ بِآخَرِينَ مِنْهُمْ وَكَانَ جُمْلَةُ مَنْ
مَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ مِائَةَ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَفِيهَا اقْتَرَبَ الْقَرَامِطَةُ مِنَ
الْبَصْرَةِ فَخَافَ أَهْلُهَا خَوْفًا شَدِيدًا وَهَمُّوا بِالرَّحِيلِ مِنْهَا
فَمَنَعَهُمْ وَالِيهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بِشْرُ بْنُ مُوسَى بْنِ صَالِحٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ.
وُلِدَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَمِائَةٍ
وَسَمِعَ مِنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ
حَدِيثًا وَاحِدًا وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنْ هَوْذَةَ بْنِ خَلِيفَةَ وَالْحَسَنِ
بْنِ مُوسَى الْأَشْيَبِ وَأَبِي نُعَيْمٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ
وَالْأَصْمَعِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ: ابْنُ الْمُنَادِي وَابْنُ مَخْلَدٍ
وَابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ وَالْخُلْدِيُّ
وَالْخُطَبِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الصَّوَّافِ وَغَيْرُهُمْ
وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا حَافِظًا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ وَكَانَ
أَحْمَدُ يُكْرِمُهُ.
وَمِنْ شِعْرِهِ:
ضَعُفْتُ وَمَنْ جَازَ الثَّمَانِينَ يَضْعُفُ وَيُنْكَرُ مِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ
يُعْرَفُ وَيَمْشِي رُوَيْدًا كَالْأَسِيرِ مُقَيَّدًا
يُدَانِي خُطَاهُ فِي الْحَدِيدِ وَيَرْسُفُ
ثَابِتُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ هَارُونَ - وَيُقَالُ: زَهْرُونُ - ابْنُ ثَابِتِ بْنِ
كَرَايَا بْنِ إِبْرَاهِيمَ الصَّابِئِيُّ الْفَيْلَسُوفُ الْحَرَّانَيُّ صَاحِبُ
التَّصَانِيفِ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ حَرَّرَ كِتَابَ إِقْلِيدِسَ الَّذِي عَرَّبَهُ
حُنَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ الْعَبَّادِيُّ، وَكَانَ أَصْلُهُ صَيْرَفِيًّا
بِحَرَّانَ فَتَرَكَ ذَلِكَ وَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ الْأَوَائِلِ فَنَالَ مِنْهُ
رُتْبَةً سَامِيَةً عِنْدَ أَهْلِهِ ثُمَّ صَارَ
إِلَى بَغْدَادَ فَعَظُمَ شَأْنُهُ
بِهَا وَكَانَ يَدْخُلُ مَعَ الْمُنَجِّمِينَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَهُوَ بَاقٍ
عَلَى دِينِ الصَّابِئَةِ وَحَفِيدُهُ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ لَهُ تَارِيخٌ أَجَادَ
فِيهِ وَأَحْسَنَ وَكَانَ بَلِيغًا مَاهِرًا حَاذِقًا بَالِغًا. وَعَمُّهُ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ كَانَ طَبِيبًا عَارِفًا أَيْضًا. وَقَدْ
سَرَدَهُمْ كُلَّهُمْ فِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ.
الْحَسَنُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَهْمِ أَبُو الْحَسَنِ الشِّيعِيُّ مِنْ شِيعَةِ
الْمَنْصُورِ لَا مِنَ الرَّوَافِضِ حَدَّثَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ
وَحَكَى عَنْ بِشَرٍ الْحَافِي وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ وَزِيرُ الْمُعْتَضِدِ كَانَ
حَظِيًّا عِنْدَهُ وَقَدْ عَزَّ عَلَيْهِ وَفَاتُهُ وَتَأَلَّمَ لِفَقْدِهِ
وَأَهَمَّهُ مَنْ يَجْعَلُهُ مِنْ بَعْدِهِ فَعَقَدَ لِوَلَدِهِ الْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْوِزَارَةَ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ جَبْرًا لِمُصَابِهِ بِهِ.
وَأَبُو الْقَاسِمِ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بَشَّارٍ الْمَعْرُوفُ
بِالْأَنْمَاطِيِّ أَحَدُ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "
طَبَقَاتِهِمْ ".
وَهَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ عِيسَى أَبُو
مُوسَى الْهَاشِمِيُّ إِمَامُ النَّاسِ فِي الْحَجِّ. سَمِعَ وَحَدَّثَ وَتُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا عَاثَتِ الْقَرَامِطَةُ بِسَوَادِ الْكُوفَةِ فَظِفَرَ بَعْضُ الْعُمَّالِ
بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَبَعَثَ بِرَئِيسِهِمْ إِلَى الْمُعْتَضِدِ وَكَانَ يُقَالُ
لَهُ: أَبُو الْفَوَارِسِ، فَنَالَ مِنَ الْعَبَّاسِ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ،
فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَتْ أَضْرَاسُهُ وَخُلِعَتْ يَدَاهُ ثُمَّ قُطِعَتَا مَعَ
رِجْلَيْهِ ثُمَّ قُتِلَ وَصُلِبَ بِبَغْدَادَ، وَأُشْهِرَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ دِمَشْقَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ فَقَاتَلَهُمْ
نَائِبُهَا طُغْجُ بْنُ جُفٍّ مِنْ جِهَةِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ
فَهَزَمُوهُ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ
ذَلِكَ بِسِفَارَةِ يَحْيَى بْنِ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرُوَيْهِ الَّذِي ادَّعَى
عِنْدَ الْقَرَامِطَةِ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ كَذَبَ فِي ذَلِكَ، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّهُ
قَدِ اتَّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ مِائَةُ أَلْفٍ، وَأَنَّ نَاقَتَهُ مَأْمُورَةٌ
حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ نُصِرَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَرَاجَ
ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَلَقَّبُوهُ الشَّيْخَ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي
الْأَصْبَغِ وَسُمُّوا بِالْفَاطِمِيِّينَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ
جَيْشًا كَثِيفًا فَهَزَمُوهُ ثُمَّ اجْتَازُوا بِالرُّصَافَةِ فَأَحْرَقُوا
جَامِعَهَا وَلَمْ يَجْتَازُوا بِقَرْيَةٍ إِلَّا انْتَهَبُوهَا وَلَمْ يَزَلْ
ذَلِكَ دَأْبَهُمْ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُمْ نَائِبُهَا
فَهَزَمُوهُ مَرَّاتٍ وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَانْتَهَبُوا
مِنْ أَمْوَالِهَا شَيْئًا كَثِيرًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ الْحَالِ الشَّدِيدَةِ
اتَّفَقَ مَوْتُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. أَحْسَنَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُعْتَضِدِ
أَحْمَدُ بْنُ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ الْمُلَقَّبِ بِنَاصِرِ
دِينِ اللَّهِ - وَاسْمُ أَبِي أَحْمَدَ مُحَمَّدٌ، وَقِيلَ: طَلْحَةُ - ابْنُ
جَعْفَرٍ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ
هَارُونَ الرَّشِيدِ، أَبُو الْعَبَّاسِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، الْخَلِيفَةُ
الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ، وُلِدَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ، وَكَانَ أَسْمَرَ نَحِيفَ
الْجِسْمِ مُعْتَدِلَ الْقَامَةِ قَدْ وَخَطَهُ الشَّيْبُ، وَفِي مُقَدَّمِ
لِحْيَتِهِ طُولٌ، وَفِي رَأْسِهِ شَامَةٌ بَيْضَاءُ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ
بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَاسْتَوْزَرَ عُبَيْدَ
اللَّهِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ، وَوَلَّى الْقَضَاءَ إِسْمَاعِيلَ بْنَ
إِسْحَاقَ وَيُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ وَابْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ وَكَانَ أَمْرُ
الْخِلَافَةِ قَدْ ضَعُفَ فِي أَيَّامِ عَمِّهِ الْمُعْتَمِدِ عَلَى اللَّهِ،
فَلَمَّا وَلِيَ الْمُعْتَضِدُ أَقَامَ شِعَارَهَا وَرَفَعَ مَنَارَهَا وَشَيَّدَ
دَعَائِمَهَا وَحِيطَانَهَا، وَأَطَّدَ أَرْكَانَهَا.
وَكَانَ شُجَاعًا فَاضِلًا مِنْ رِجَالَاتِ قُرَيْشٍ حَزْمًا وَجُرْأَةً وَغَزْوًا
وَعِزًّا وَإِقْدَامًا وَحُرْمَةً، وَكَذَلِكَ كَانَ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ الْمُعْتَضِدَ اجْتَازَ
فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِقَرْيَةٍ
فِيهَا مَقْثَأَةٌ فَوَقَفَ صَاحِبُهَا صَائِحًا مُسْتَصْرِخًا بِالْخَلِيفَةِ فَاسْتَدْعَى بِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: إِنَّ بَعْضَ الْجَيْشِ أَخَذُوا لِي شَيْئًا مِنَ الْقِثَّاءِ وَهُمْ مِنْ غِلْمَانِكَ فَقَالَ: أَتَعْرِفُهُمْ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَعَرَضَهُمْ عَلَيْهِ فَعَرَفَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَقْيِيدِهِمْ وَحَبْسِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ نَظَرَ النَّاسُ ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ مَصْلُوبِينَ عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ وَاسْتَنْكَرُوا وَعَابُوا ذَلِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَقَالُوا قَتَلَ ثَلَاثَةً بِسَبَبِ قِثَّاءٍ أَخَذُوهُ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمَرَ الْخَوَاصُّ مُسَامِرَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلْيَتَلَطَّفْ فِي مُخَاطَبَتِهِ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَفَهِمَ الْخَلِيفَةُ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ كَلَامٍ يُرِيدُ أَنْ يُبْدِيَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي أَعْرِفُ أَنَّ فِي نَفْسِكَ كَلَامًا فَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا آمِنٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لَهُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ عَلَيْكَ تَسَرَّعَكَ فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَفَكْتُ دَمًا حَرَامًا مُنْذُ وُلِّيتُ الْخِلَافَةَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: فَعَلَامَ قَتَلْتَ أَحْمَدَ بْنَ الطَّيِّبِ وَقَدْ كَانَ خَادِمَكَ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ جِنَايَةٌ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّهُ دَعَانِي إِلَى الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا هَذَا أَنَا ابْنُ عَمِّ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَا مُنْتَصِبٌ فِي مَنْصِبِهِ فَأَكْفُرُ حَتَّى أَكُونَ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ ؟ فَقَتَلْتُهُ عَلَى الْكُفْرِ وَالزَّنْدَقَةِ. فَقُلْتُ لَهُ: فَمَا بَالُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلْتَهُمْ فِي الْقِثَّاءِ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ وَإِنَّمَا كَانُوا لُصُوصًا قَدْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ، فَوَجَبَ قَتْلُهُمْ فَبَعَثْتُ فَجِئْتُ بِهِمْ مِنَ السِّجْنِ فَقَتَلْتُهُمْ وَأَرَيْتُ النَّاسَ أَنَّهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا الْقِثَّاءَ وَأَرْدَتُ بِذَلِكَ أَنْ أُرْهِبَ الْجَيْشَ لِئَلَّا يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَتَعَدَّوْا عَلَى
النَّاسِ وَيَكُفُّوا عَنِ الْأَذَى.
ثُمَّ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَانَ حَبَسَهُمْ بِسَبَبِ
الْقِثَّاءِ فَأَطْلَقَهُمْ بَعْدَمَا اسْتَتَابَهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ
وَرَدَّهُمْ إِلَى أَرْزَاقِهِمُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَخَرَجَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا فَعَسْكَرَ بِبَابِ
الشَّمَّاسِيَّةِ وَنَهَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدٌ مِنْ بُسْتَانِ أَحَدٍ شَيْئًا فَأُتِيَ
بِأَسْوَدَ قَدْ أَخَذَ عِذْقًا مَنْ بُسْرٍ فَتَأَمَّلَهُ طَوِيلًا ثُمَّ أَمَرَ
بِضَرْبِ عُنُقِهِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ: إِنَّ الْعَامَّةَ
يُنْكِرُونَ هَذَا وَيَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ وَلَمْ يَكْفِهِ أَنْ
يَقْطَعَ يَدَهُ حَتَّى قَتَلَهُ وَإِنِّي لَمْ أَقْتُلْ هَذَا عَلَى سَرِقَتِهِ
وَإِنَّمَا هَذَا الْأَسْوَدُ لَهُ خَبَرٌ طَرِيفٌ، هَذَا رَجُلٌ مِنَ الزَّنْجِ
كَانَ قَدِ اسْتَأْمَنَ فِي حَيَاةِ أَبِي، وَإِنَّهُ تَقَاوَلَ هُوَ وَرَجُلٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضَرَبَ الْمُسْلِمَ فَقَطَعَ يَدَهُ فَمَاتَ الْمُسْلِمُ
فَأَهْدَرَ أَبِي دَمَ الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ تَأْلِيفًا لِلزَّنْجِ فَآلَيْتُ
عَلَى نَفْسِي لَئِنْ أَنَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَأَقْتُلَنَّهُ، فَمَا وَقَعَتْ
عَيْنِي عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ، فَقَتَلْتُهُ بِذَلِكَ الرَّجُلِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ الضَّبِّيُّ سَمِعْتُ أَبَا
الْوَلِيدِ حَسَّانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا
الْعَبَّاسِ بْنَ سُرَيْجٍ يَقُولُ سَمِعْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ
الْقَاضِيَ يَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى الْمُعْتَضِدِ وَعَلَى رَأْسِهِ أَحْدَاثٌ
رُومٌ صِبَاحُ الْوُجُوهِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِمْ، فَرَآنِي الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا
أَتَأَمَّلُهُمْ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الْقِيَامَ أَشَارَ إِلَيَّ فَمَكَثْتُ
سَاعَةً، فَلَمَّا خَلَا
قَالَ لِي: أَيُّهَا الْقَاضِي
وَاللَّهِ مَا حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى حَرَامٍ قَطُّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَاكِمِ عَنْ حَسَّانَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ
سُرَيْجٍ عَنِ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا
عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا قَدْ جُمِعَ
لَهُ فِيهِ الرُّخَصُ مِنْ زَلَلِ الْعُلَمَاءِ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
إِنَّمَا جَمَعَ هَذَا زِنْدِيقٌ. فَقَالَ: كَيْفَ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّ مَنْ أَبَاحَ
النَّبِيذَ لَمْ يُبِحِ الْمُتْعَةَ، وَمَنْ أَبَاحَ الْغِنَاءَ لَمْ يُبِحِ
النَّبِيذَ، وَمَنْ جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ
دِينُهُ. فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ عَنْ صَافِي الْحُرَمِيِّ الْخَادِمِ قَالَ:
انْتَهَى الْمُعْتَضِدُ وَأَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى مَنْزِلِ شَغْبَ وَابْنُهُ
الْمُقْتَدِرُ جَعْفَرٌ جَالِسٌ فِيهِ وَحَوْلَهُ نَحْوٌ مَنْ عَشْرٍ مِنَ
الْوَصَائِفِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي سِنِّهِ عِنْدَهُ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ طَبَقٌ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ عُنْقُودُ عِنَبٍ، وَكَانَ الْعِنَبُ إِذْ
ذَاكَ عَزِيزًا جِدًّا، وَهُوَ يَأْكُلُ عِنَبَةً وَاحِدَةً ثُمَّ يُفَرِّقُ عَلَى
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُلَسَائِهِ عِنَبَةً عِنَبَةً، فَتَرَكَهُ الْمُعْتَضِدُ
وَجَلَسَ نَاحِيَةً فِي بَيْتٍ مَهْمُومًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ وَاللَّهِ لَوْلَا النَّارُ وَالْعَارُ
لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْغُلَامَ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِ صَلَاحًا لِلْأُمَّةِ.
فَقُلْتُ: أُعِيذُكَ بِاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْعَنِ الشَّيْطَانَ.
فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا صَافِي إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ فِي غَايَةِ السَّخَاءِ
لِمَا أَرَاهُ يَفْعَلُ مَعَ الصِّبْيَانِ فَإِنَّ طِبَاعَ الصِّبْيَانِ تَأْبَى
الْكَرَمَ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْكَرَمِ وَإِنَّ النَّاسَ مِنْ بَعْدِي لَا
يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ هُوَ مِنْ وَلَدِي فَسَيَلِي عَلَيْهِمُ
الْمُكْتَفِي ثُمَّ
لَا تَطُولُ أَيَّامُهُ لِعِلَّتِهِ
الَّتِي بِهِ وَهِيَ دَاءُ الْخَنَازِيرِ، ثُمَّ يَمُوتُ فَيُوَلَّى عَلَى
النَّاسِ جَعْفَرٌ هَذَا، فَيَصَرِفُ جَمِيعَ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى
الْحَظَايَا لِشَغَفِهِ بِهِنَّ وَقُرْبِ عَهْدِهِ مِنْ تَشَبُّهِهِ بِهِنَّ
فَتَضِيعُ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَتُعَطَّلُ الثُّغُورُ وَتَكْثُرُ الْفِتَنُ
وَالْهَرْجُ وَالْخَوَارِجُ وَالشُّرُورُ. قَالَ صَافِي: وَاللَّهِ لَقَدْ
شَاهَدْتُ مَا قَالَهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ بَعْضِ خَدَمِ الْمُعْتَضِدِ قَالَ: كَانَ
الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا نَائِمًا وَقْتَ الْقَائِلَةِ وَنَحْنُ حَوْلَ سَرِيرِهِ
فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، فَصَرَخَ بِنَا فَجِئْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ:
وَيَحْكُمُ اذْهَبُوا إِلَى دِجْلَةَ فَأَوَّلُ سَفِينَةٍ تَجِدُونَهَا فَارِغَةً
مُنْحَدِرَةً فَأْتُونِي بِمَلَّاحِهَا وَاحْتَفِظُوا بِالسَّفِينَةِ، فَذَهَبْنَا
سِرَاعًا فَوَجَدْنَا مَلَّاحًا فِي سُمَيْرِيَّةٍ فَارِغَةٍ مُنْحَدِرًا
فَأَتَيْنَا بِهِ الْخَلِيفَةَ، فَلَمَّا رَأَى الْمَلَّاحُ الْخَلِيفَةَ كَادَ
يَتْلَفُ، فَصَاحَ بِهِ الْخَلِيفَةُ صَيْحَةً عَظِيمَةً فَكَادَتْ رُوحُ
الْمَلَّاحِ تَخْرُجُ، فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: وَيْحَكَ يَا مَلْعُونُ
اصْدُقْنِي عَنْ قِصَّتِكَ مَعَ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلْتَهَا الْيَوْمَ
وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: فَتَلَعْثَمَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كُنْتُ الْيَوْمَ سَحَرًا فِي مَشْرَعَتِيِ
الْفُلَانِيَّةِ، فَنَزَلَتِ امْرَأَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ
فَاخِرَةٌ وَحُلِيٌّ كَثِيرٌ وَجَوْهَرٌ، فَطَمِعْتُ فِيهَا وَاحْتَلْتُ عَلَيْهَا
حَتَّى سَدَدْتُ فَاهَا وَغَرَّقْتُهَا وَأَخَذْتُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهَا
مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، وَخَشِيتُ أَنْ أَرْجِعَ بِهِ إِلَى مَنْزِلِي
فَيَشْتَهِرُ خَبَرُهَا، فَأَرَدْتُ الذَّهَابَ إِلَى وَاسِطَ فَلَقِيَنِي
هَؤُلَاءِ الْخَدَمُ فَأَخَذُونِي، فَقَالَ لَهُ: وَأَيْنَ حُلِيُّهَا ؟ فَقَالَ: فِي
صَدْرِ السَّفِينَةِ تَحْتَ الْبَوَارِي. فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ ذَلِكَ
بِإِحْضَارِ الْحُلِيِّ فَجِيءَ بِهِ فَإِذَا هُوَ حُلِيٌّ كَثِيرٌ يُسَاوِي
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِتَغْرِيقِ الْمَلَّاحِ فِي
الْمَكَانِ الَّذِي غَرَّقَ فِيهِ الْمَرْأَةَ،
وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى عَلَى أَهْلِ
الْمَرْأَةِ لِيَحْضُرُوا حَتَّى يَتَسَلَّمُوا مَالَ وَلَيَّتِهِمْ، فَنَادَى
بِذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَسْوَاقِ بَغْدَادَ وَأَزِقَّتِهَا، فَحَضَرُوا
بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَ تِلْكَ
الْمَرْأَةِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ، فَقَالَ لَهُ خَدَمُهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيْنَ عَلِمْتَ هَذَا ؟ قَالَ: رَأَيْتُ فِي نَوْمِي تِلْكَ
السَّاعَةَ شَيْخًا أَبْيَضَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَالثِّيَابِ وَهُوَ يُنَادِي
يَا أَحْمَدُ يَا أَحْمَدُ خُذْ أَوَّلَ مَلَّاحٍ يَنْحَدِرُ السَّاعَةَ فَاقْبِضْ
عَلَيْهِ وَقَرِّرْهُ عَنْ خَبَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي قَتَلَهَا الْيَوْمَ
وَسَلَبَهَا، فَأَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَكَانَ مَا شَاهَدْتُمْ.
وَعَنْ خَفِيفٍ السَّمَرْقَنْدِيِّ الْحَاجِبِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ مَوْلَايَ
الْمُعْتَضِدِ فِي بَعْضِ مُتَصَيَّدَاتِهِ وَكَانَ قَدِ انْقَطَعَ عَنِ
الْعَسْكَرِ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرِي، إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا أَسَدٌ فَقَصَدَ
قَصْدَنَا، فَقَالَ لِيَ الْمُعْتَضِدُ: يَا خَفِيفُ أَفِيكَ خَيْرٌ ؟ قُلْتُ: لَا
وَاللَّهِ يَا مَوْلَايَ. قَالَ: وَلَا أَنْ تُمْسِكَ فَرَسِي وَأَنْزِلُ أَنَا ؟
فَقُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ فَأَمْسَكْتُهَا، وَغَرَزَ
أَطْرَافَ ثِيَابِهِ فِي مِنْطَقَتِهِ وَاسْتَلَّ سَيْفَهُ وَرَمَى بِقِرَابِهِ
إِلَيَّ، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الْأَسَدِ فَوَثَبَ الْأَسَدُ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ
الْمُعْتَضِدُ بِالسَّيْفِ فَأَطَارَ يَدَهُ، فَاشْتَغَلَ الْأَسَدُ بِيَدِهِ
فَضَرَبَهُ ثَانِيَةً عَلَى هَامَتِهِ فَفَلَقَهَا، فَخَرَّ الْأَسَدُ صَرِيعًا،
فَدَنَا مِنْهُ فَمَسَحَ سَيْفَهُ فِي صُوفِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيَّ فَأَغْمَدَ
سَيْفَهُ فِي قِرَابِهِ ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ ثُمَّ عُدْنَا إِلَى الْعَسْكَرِ،
قَالَ: وَصَحِبْتُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فَوَاللَّهِ مَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ ذَلِكَ
لِأَحَدٍ، فَمَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَعْجَبُ، مِنْ شَجَاعَتِهِ أَمْ مِنْ
عَدَمِ احْتِفَالِهِ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ، أَمْ مِنْ عَدَمِ
عَتْبِهِ عَلَيَّ حَيْثُ ضَنِنْتُ بِنَفْسِي عَنْهُ ؟ وَاللَّهِ مَا عَاتَبَنِي
فِي ذَلِكَ قَطُّ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ
عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ أَنَّهُ اجْتَازَ بِزَوْرَقٍ فِيهِ خَمْرٌ
مَعَ مَلَّاحٍ فَقَالَ: مَا هَذِهِ ؟ وَلِمَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ
خَمْرٌ لِلْمُعْتَضِدِ، فَصَعِدَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَيْهَا فَجَعَلَ يَضْرِبُ
الدِّنَانَ بِعَمُودٍ فِي يَدِهِ حَتَّى كَسَرَهَا كُلَّهَا إِلَّا دَنًّا
وَاحِدًا تَرَكَهُ، وَاسْتَغَاثَ الْمَلَّاحُ فَجَاءَتِ الشُّرْطَةُ فَأَخَذُوا
أَبَا الْحُسَيْنِ فَأَوْقَفُوهُ بَيْنَ يَدِيِ الْمُعْتَضِدِ فَقَالَ لَهُ: مَنْ
أَنْتَ ؟ فَقَالَ: مُحْتَسِبٌ. فَقَالَ: وَمَنْ وَلَّاكَ الْحِسْبَةَ ؟ فَقَالَ:
الَّذِي وَلَّاكَ الْخِلَافَةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ
ثُمَّ رَفَعَهَا، فَقَالَ: مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ ؟ فَقَالَ:
شَفَقَةً عَلَيْكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْكَ. فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ
رَفَعَهُ، فَقَالَ: وَلِمَ تَرَكْتَ مِنَ الدِّنَانِ وَاحِدًا ؟ فَقَالَ: إِنِّي
أَقْدَمْتُ عَلَيْهَا فَكَسَرْتُهَا إِجْلَالًا لِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَلَمْ أُبَالِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى هَذَا الدَّنِّ
فَتَخَوَّفْتُ عَلَى نَفْسِي كِبْرًا عَلَى أَنِّي قَدْ أَقْدَمْتُ عَلَى
مِثْلِكَ، فَتَرَكْتُهُ. فَقَالَ لَهُ الْمُعْتَضِدُ: اذْهَبْ فَقَدْ أَطْلَقْتُ
يَدَكَ فَغَيِّرْ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ تُغَيِّرَهُ مِنَ الْمُنْكَرِ. فَقَالَ لَهُ
النُّورِيُّ: الْآنَ نَقَصَ عَزْمِي عَنِ التَّغْيِيرِ، فَقَالَ: وَلِمَ ؟
فَقَالَ: لِأَنِّي كُنْتُ أُغَيِّرُ عَنِ اللَّهِ وَأَنَا الْآنَ أُغَيِّرُ عَنْ
شُرْطِيٍّ، فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: أُحِبُّ أَنْ تُخْرِجَنِي مِنْ
بَيْنِ يَدَيْكَ سَالِمًا، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَصَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ
فَأَقَامَ بِهَا مُخْتَفِيًا خَشْيَةَ أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ فِي حَاجَةٍ
عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ الْمُعْتَضِدُ رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الْهَاشِمِيُّ عَنْ شَيْخٍ مِنَ التُّجَّارِ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ
مَالٌ كَثِيرٌ فَمَاطَلَنِي وَمَنَعَنِي حَقِّي
وَجَعَلَ كُلَّمَا جِئْتُ أُطَالِبُهُ حَجَبَنِي عَنْهُ وَيَأْمُرُ غِلْمَانَهُ يُؤْذُونَنِي فَاشْتَكَيْتُ عَلَيْهِ إِلَى الْوَزِيرِ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا وَإِلَى أَوْلِيَاءِ الْأَمْرِ مِنَ الدَّوْلَةِ فَلَمْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا وَمَا زَادَهُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْعًا وَجُحُودًا فَأَيِسْتُ مِنَ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَدَخَلَنِي هَمٌّ مِنْ جِهَتِهِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ وَأَنَا حَائِرٌ إِلَى مَنْ أَشْتَكِي إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ: أَلَا تَأْتِي فَلَانًا الْخَيَّاطَ إِمَامَ مَسْجِدٍ هُنَاكَ، فَقُلْتُ: وَمَا عَسَى أَنْ يَصْنَعَ خَيَّاطٌ مَعَ هَذَا الظَّالِمِ، وَأَعْيَانُ الدَّوْلَةِ لَمْ يَقْطَعُوا فِيهِ، فَقَالَ لِي: هُوَ أَقْطَعُ وَأَخْوَفُ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ مَنِ اشْتَكَيْتَ إِلَيْهِ فَاذْهَبْ إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ تَجِدَ عِنْدَهُ فَرَجًا. قَالَ: فَقَصَدْتُهُ غَيْرَ مُحْتَفِلٍ فِي أَمْرِهِ فَذَكَرْتُ لَهُ حَاجَتِي وَمَا لِيَ وَمَا لَقِيتُ مِنْ هَذَا الظَّالِمِ فَقَامَ مَعِي فَحِينَ عَايَنَهُ الْأَمِيرُ قَامَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ وَاحْتَرَمَهُ وَبَادَرَ إِلَى قَضَاءِ حَقِّي الَّذِي عَلَيْهِ فَأَعْطَانِيهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِلَى الْأَمِيرِ كَبِيرُ أَمْرٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: ادْفَعْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ حَقَّهُ وَإِلَّا أَذَّنْتُ. فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْأَمِيرِ وَدَفَعَ إِلِيَّ حَقِّي، قَالَ التَّاجِرُ: فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ الْخَيَّاطِ مَعَ رَثَاثَةِ حَالِهِ وَضِعْفِ بِنْيَتِهِ كَيْفَ انْطَاعَ ذَلِكَ الْأَمِيرُ لَهُ ثُمَّ إِنِّي عَرَضْتُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنِّي شَيْئًا، وَقَالَ: لَوْ أَرَدْتُ هَذَا لَكَانَ لِي مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحْصَى. فَسَأَلْتُهُ عَنْ خَبَرِهِ وَذَكَرْتُ لَهُ تَعَجُّبِي مِنْهُ وَأَلْحَحْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَنَا هَاهُنَا رَجُلٌ تُرْكِيٌّ شَابٌّ حَسَنٌ أَمِيرٌ، فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ قَدْ خَرَجَتْ مِنَ الْحَمَّامِ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ مُرْتَفِعَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ، فَقَامَ إِلَيْهَا وَهُوَ سَكْرَانٌ فَتَعَلَّقَ بِهَا يُرِيدُهَا عَلَى نَفْسِهَا لِيُدْخِلَهَا مُنْزِلَهُ، وَهِيَ تَأْبَى عَلَيْهِ وَتَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهَا: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنَا امْرَأَةٌ ذَاتُ زَوْجٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ يُرِيدُنِي عَلَى نَفْسِي لِيُدْخِلَنِي مَنْزِلَهُ وَقَدْ حَلَفَ زَوْجِي بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا أَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ وَمَتَى بَتُّ هَاهُنَا طُلِّقْتُ مِنْهُ وَلَحِقَنِي بِسَبَبِ ذَلِكَ عَارٌ لَا تَدْحَضُهُ الْأَيَّامُ وَلَا تَغْسِلُهُ الْمَدَامِعُ. قَالَ الْخَيَّاطُ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَأَنْكَرْتُ
عَلَيْهِ وَأَرَدْتُ خَلَاصَ الْمَرْأَةِ مِنْ يَدَيْهِ فَضَرَبَنِي بِدَبُّوسٍ فِي يَدِهِ فَشَجَّ رَأْسِي وَغَلَبَ الْمَرْأَةَ عَلَى نَفْسِهَا وَأَدْخَلَهَا مَنْزِلَهُ قَهْرًا فَرَجَعْتُ أَنَا فَغَسَلْتُ الدَّمَ عَنَى وَعَصَبْتُ رَأْسِي وَصَلَّيْتُ بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، ثُمَّ قُلْتُ لِلْجَمَاعَةِ: إِنَّ هَذَا قَدْ فَعَلَ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ فَقُومُوا مَعِي إِلَيْهِ لِنُنْكِرَ عَلَيْهِ وَنُخَلِّصَ الْمَرْأَةَ مِنْهُ فَقَامَ النَّاسُ مَعِي فَهَجَمْنَا عَلَيْهِ دَارَهُ، فَثَارَ إِلَيْنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غِلْمَانِهِ بِأَيْدِيهِمُ الْعِصِيُّ وَالدَّبَابِيسُ يَضْرِبُونَ النَّاسَ وَقَصَدَنِي هُوَ مِنْ بَيْنِهِمْ فَضَرَبَنِي ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا حَتَّى أَدْمَانِي وَأَخْرَجَنَا مِنْ مَنْزِلِهِ وَنَحْنُ فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ، فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي وَأَنَا لَا أَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ وَكَثْرَةِ الدِّمَاءِ فَنِمْتُ عَلَى فِرَاشِي فَلَمْ يَأْخُذْنِي نَوْمٌ وَتَحَيَّرْتُ مَاذَا أَصْنَعُ حَتَّى أُنْقِذَ الْمَرْأَةَ مِنْ يَدِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِتَرْجِعَ فَتَبِيتَ فِي مَنْزِلِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَى زَوْجِهَا الطَّلَاقُ فَأُلْهِمْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ لِلصُّبْحِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ لِكَيْ يَظُنَّ أَنَّ الصُّبْحَ قَدْ طَلَعَ فَيُخْرِجَهَا مِنْ مَنْزِلِهِ فَتَذْهَبَ إِلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا فَصَعِدْتُ الْمَنَارَةَ وَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى بَابِ دَارِهِ وَأَنَا أَتَكَلَّمُ عَلَى عَادَتِي قَبْلَ الْأَذَانِ هَلْ أَرَى الْمَرْأَةَ قَدْ خَرَجَتْ ثُمَّ أَذَّنْتُ فَلَمْ تَخْرُجْ ثُمَّ صَمَّمْتُ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ أَقَمْتُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الصَّبَاحَ، فَبَيْنَا أَنَا أَنْظُرُ هَلْ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا ؟ إِذِ امْتَلَأَتِ الطَّرِيقُ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وَهُمْ يَقُولُونَ: أَيْنَ الَّذِي أَذَّنَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ فَقُلْتُ: هَأَنَذَا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ يُعِينُونِي عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلَتُ، فَقَالُوا: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَخَذُونِي وَذَهَبُوا بِي لَا أَمْلِكُ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا، وَمَا زَالُوا بِي حَتَّى أَدْخَلُونِي عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ جَالِسًا فِي مَقَامِ الْخِلَافَةِ ارْتَعَدْتُ مِنَ الْخَوْفِ وَفَزِعْتُ فَزَعًا شَدِيدًا، فَقَالَ: ادْنُ. فَدَنَوْتُ، فَقَالَ لِي: لِيَسْكُنْ رَوْعُكَ وَلِيَهْدَأْ قَلْبُكَ. وَمَا زَالَ يُلَاطِفُنِي حَتَّى اطْمَأْنَنْتُ وَذَهَبَ خَوْفِي، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ
عَلَى أَنْ أَذَّنْتَ هَذِهِ السَّاعَةَ وَقَدْ بَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ أَكْثَرُ مِمَّا مَضَى مِنْهُ، فَتَغُرُّ بِذَلِكَ الصَّائِمَ وَالْمُسَافِرَ وَالْمُصَلِّيَ وَغَيْرَهُمْ. فَقُلْتُ: يُؤَمِّنُنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أَقُصَّ عَلَيْهِ خَبَرِي ؟ فَقَالَ: أَنْتَ آمِنٌ. فَذَكَرْتُ لَهُ الْقِصَّةَ، قَالَ: فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ الْأَمِيرِ وَالْمَرْأَةِ مِنْ سَاعَتِهِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ كَانَا، فَأُحْضِرَا سَرِيعًا، فَبَعَثَ بِالْمَرْأَةِ إِلَى زَوْجِهَا مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ جِهَتِهِ ثِقَاتٍ، وَمَعَهُنَّ ثِقَةٌ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَ زَوْجَهَا بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهَا وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهَا، فَإِنَّهَا مُكْرَهَةٌ وَمَعْذُورَةٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ذَلِكَ الشَّابِّ الْأَمِيرِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ لَكَ مِنَ الرِّزْقِ ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الْمَالِ ؟ وَكَمْ عِنْدَكَ مِنَ الْجَوَارِي وَالزَّوْجَاتِ ؟ فَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا كَثِيرًا. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ أَمَا كَفَاكَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ حَتَّى انْتَهَكْتَ حُرْمَةَ اللَّهِ وَتَعَدَّيْتَ حُدُودَهُ وَتَجَرَّأْتَ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَا كَفَاكَ ذَلِكَ حَتَّى عَمِدْتَ إِلَى رَجُلٍ أَمَرَكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَاكَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَضَرَبْتَهُ وَأَهَنْتَهُ وَأَدْمَيْتَهُ. فَلَمْ يَكُنْ لَهُ جَوَابٌ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُعِلَ فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ وَفِي عُنُقِهِ غُلٌّ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُدْخِلَ فِي جُوَالِقَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ بِالدَّبَابِيسِ ضَرْبًا شَدِيدًا حَتَّى خَفَتَ صَوْتُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي فِي دِجْلَةَ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بَدْرًا صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ يَحْتَاطَ عَلَى مَا فِي دَارِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَ يَتَنَاوَلُهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حِلِّهَا، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْخَيَّاطِ: كُلَّمَا رَأَيْتَ مُنْكَرًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا وَلَوْ عَلَى هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ - فَأَعْلِمْنِي بِهِ، فَإِنِ اتَّفَقَ اجْتِمَاعُكَ بِي وَإِلَّا فَعَلَامَةُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَنْ تُؤَذِّنَ فِي مِثْلِ وَقْتِ أَذَانِكَ هَذَا. قَالَ: فَبِهَذَا السَّبَبِ لَا آمُرُ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الدَّوْلَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ أَوْ أَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا بَادَرَ إِلَى امْتِثَالِهِ وَقَبُولِهِ خَوْفًا مِنَ الْمُعْتَضِدِ وَمَا احْتَجْتُ أَنْ أُؤَذِّنَ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ إِلَى الْآنِ.
وَذَكَرَ الْوَزِيرُ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ
وَخَادِمٌ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ يَذُبُّ بِمِذَبَّةٍ فِي يَدِهِ إِذْ حَرَّكَهَا
فَجَاءَتْ فِي قَلَنْسُوَةِ الْخَلِيفَةِ فَسَقَطَتْ عَنْ رَأْسِهِ فَأَعْظَمْتُ
أَنَا ذَلِكَ جِدًّا وَخِفْتُ مِنْ هَوْلِ مَا وَقَعَ وَلَمْ يَكْتَرِثِ
الْخَلِيفَةُ لِذَلِكَ، بَلْ أَخَذَ قَلَنْسُوَتَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ
ثُمَّ قَالَ لِبَعْضِ الْخَدَمِ: مُرْ هَذَا الْبَائِسَ فَلْيَذْهَبْ لِرَاحَتِهِ
فَإِنَّهُ قَدْ نَعَسَ، وَزِيدُوا فِي عِدَّةِ مَنْ يَذُبُّ بِالنَّوْبَةِ. قَالَ
الْوَزِيرُ: فَأَخَذْتُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْخَلِيفَةِ وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى
حِلْمِهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَائِسَ لَمْ يَتَعَمَّدْ مَا وَقَعَ مِنْهُ
وَإِنَّمَا نَعَسَ وَلَيْسَ الْعِتَابُ وَالْمُعَاتَبَةُ إِلَّا عَلَى
الْمُتَعَمِّدِ لَا عَلَى الْمُخْطِئِ وَالسَّاهِي.
وَقَالَ خَفِيفٌ السَّمَرْقَنْدِيُّ الْحَاجِبُ: لَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى
الْمُعْتَضِدِ بِمَوْتِ وَزِيرِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَتَحَقَّقَ
ذَلِكَ خَرَّ سَاجِدًا طَوِيلًا، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ
كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَخْدِمُكَ وَيَنْصَحُ لَكَ. فَقَالَ: إِنَّمَا سَجَدْتُ
شُكْرًا لِلَّهِ أَنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ وَلَمْ أُؤْذِهِ، ثُمَّ اسْتَشَارَ
الْحَاضِرِينَ فِيمَنْ يَسْتَوْزِرُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَذَكَرَ هُوَ رَجُلَيْنِ،
أَحَدُهُمَا جَرَادَةُ، وَكَانَ حَازِمَ الرَّأْيِ قَوِيًّا وَالْآخَرُ أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ فَعَدَلَ بِهِ بَدْرٌ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ
عَنْهُمَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَسَفَّهَ
رَأْيَهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَوَلَّاهُ وَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَزِّيهِ فِي
أَبِيهِ وَيُهَنِّيهِ بِالْوِزَارَةِ، فَمَا لَبِثَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ حَتَّى وَلِيَ الْمُكْتَفِي الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ
الْمُعْتَضِدِ حَتَّى قَتَلَ بَدْرًا، وَكَانَ الْمُعْتَضِدُ يَنْظُرُ إِلَى مَا
بَيْنَهُمَا مِنَ الْعَدَاوَةِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ وَهَذِهِ فِرَاسَةٌ
عَظِيمَةٌ وَتَوَسُّمٌ قَوِيٌّ.
وَقَدْ رُفِعَ يَوْمًا إِلَى
الْمُعْتَضِدِ أَنَّ قَوْمًا يَجْتَمِعُونَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسْتَشَارَ
وَزِيرَهُ فِي أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَبَ بَعْضُهُمْ وَيُحْرَقَ
بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: وَيْحَكَ لَقَدْ بَرَّدْتَ لَهَبَ غَضَبِي عَلَيْهِمْ
بِقَسْوَتِكَ هَذِهِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّعِيَّةَ وَدِيعَةُ اللَّهِ عِنْدَ
سُلْطَانِهَا وَأَنَّهُ سَائِلُهُ عَنْهَا، وَلَمْ يُقَابِلْهُمْ بِمَا قَالَ
الْوَزِيرُ فِيهِمْ.
وَلِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ صِفْرًا
مِنَ الْمَالِ وَكَانَتِ الْأَحْوَالُ فَاسِدَةً وَالْأَعْرَابُ تَعِيثُ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا فِي كُلِّ جِهَةٍ فَلَمْ يَزَلْ بِرَأْيِهِ وَتَسْدِيدِهِ
حَتَّى كَثُرَتِ الْأَمْوَالُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَصَلَحَتِ الْأَحْوَالُ فِي
سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْآفَاقِ وَالْمَحَالِّ.
وَمِنْ شِعْرِهِ فِي جَارِيَةٍ لَهُ تُوُفِّيَتْ فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا
عَظِيمًا، فَقَالَ:
يَا حَبِيبًا لَمْ يَكُنْ يَعْ دِلُهُ عِنْدِي حَبِيبُ أَنْتَ عَنْ عَيْنِي
بَعِيدٌ
وَمِنَ الْقَلْبِ قَرِيبُ لَيْسَ لِي بَعْدَكَ فِي شَيْ
ءٍ مِنَ اللَّهْوِ نَصِيبُ لَكَ مِنْ قَلْبِي عَلَى قَلْبِي
وَإِنْ بِنْتَ رَقِيبُ وَحَيَاتِي مِنْكَ مُذْ غِبْ
تَ خَيَالٌ مَا يَغِيبُ لَوْ تَرَانِي كَيْفَ لِي بَعْ
دَكَ عَوْلٌ وَنَحِيبُ وَفُؤَادِي حَشْوُهُ مِنْ
حَرْقِ الْحُزْنِ لَهِيبُ
لَتَيَقَّنْتَ بِأَنِّي
بِكَ مَحْزُونٌ كَئِيبُ ما أَرَى نَفْسِي وَإِنْ طَيَّ
بْتُهَا عَنْكَ تَطِيبُ لَيْسَ دَمْعٌ لِيَ يَعْصِي
نِي وَصَبْرِي مَا يُجِيبُ
وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا:
لَمْ أَبْكِ لِلدَّارِ وَلَكِنْ لِمَنْ قَدْ كَانَ فِيهَا مَرَّةً سَاكِنَا
فَخَانَنِي الدَّهْرُ بِفُقْدَانِهِ وَكُنْتُ مِنْ قَبْلُ لَهُ آمِنَا
وَدَّعْتُ صَبْرِي عِنْدَ تَوْدِيعِهِ وَبَانَ قَلْبِي مَعَهُ ظَاعِنَا
وَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُعْتَزِّ يُعَزِّيهِ وَيُسَلِّيهِ عَنْ مُصِيبَتِهِ فِيهَا:
يَا إِمَامَ الْهُدَى بِنَا لَا بِكَ الْغَ مُّ وَأَفْنَيْتَنَا وَعِشْتَ سَلِيمًا
أَنْتَ عَلَّمْتَنَا عَلَى النِّعَمِ الشُّكْ رَ وَعِنْدَ الْمَصَائِبِ
التَّسْلِيمَا
فَاسْلُ عَنْ مَا مَضَى فَإِنَّ الَّتِي كَا نَتْ سُرُورًا صَارَتْ ثَوَابًا
عَظِيمَا
قَدْ رَضِينَا بَأَنْ نَمُوتَ وَتَحْيَى إِنَّ عِنْدِي فِي ذَاكَ حَظًّا جَسِيمَا
مَنْ يَمُتْ طَائِعًا لِمَوْلَاهُ فَقَدْ أُعْ طِيَ فَوْزًا وَمَاتَ مَوْتًا
كَرِيمَا
وَاجْتَمَعَ يَوْمًا عِنْدَ الْمُعْتَضِدِ نُدَمَاؤُهُ، فَلَمَّا انْقَضَى
السَّمَرُ وَصَارَ إِلَى حَظَايَاهُ وَنَامَ الْقَوْمُ السُّمَّارُ نَبَّهَهُمْ
مِنْ نَوْمِهُمْ خَادِمٌ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ: يَقُولُ لَكُمْ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ أَصَابَهُ أَرَقٌ مِنْ بَعْدِكُمْ، وَقَدْ عَمِلَ
بَيْتًا أَعْيَاهُ ثَانِيهِ، فَمَنْ
عَمِلَ ثَانِيَهُ فَلَهُ جَائِزَةٌ،
وَهُوَ هَذَا الْبَيْتُ:
وَلَمَّا انْتَبَهْنَا لِلْخَيَالِ الَّذِي سَرَى إِذَا الدَّارُ قَفْرَى
وَالْمَزَارُ بَعِيدُ
قَالَ: فَجَلَسَ الْقَوْمُ مِنْ فُرُشِهِمْ يُفَكِّرُونَ فِي ثَانِيهِ، فَبَدَرَ
وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَالَ:
فَقُلْتُ لِعَيْنِي عَاوِدِي النَّوْمَ وَاهْجَعِي لَعَلَّ خَيَالًا طَارِقًا
سَيَعُودُ
قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ بِهِ الْخَادِمُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ، وَقَعَ مِنْهُ
مَوْقِعًا جَيِّدًا وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ.
وَاسْتَعْظَمَ الْمُعْتَضِدُ يَوْمًا مِنْ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ قَوْلَ الْحَكَمِ
بْنِ عَمْرٍو الْمَازِنِيِّ الْبَصْرِيِّ:
لَهْفِي عَلَى مَنْ أَطَارَ النَّوْمَ فَامْتَنَعَا وَزَادَ قَلْبِي عَلَى
أَوْجَاعِهِ وَجَعَا
كَأَنَّمَا الشَّمْسُ مِنْ أَعْطَافِهِ طَلَعَتْ حُسْنًا أَوِ الْبَدْرُ مِنْ
أَزْرَارِهِ طَلَعَا
مُسْتَقْبَلٌ بِالَّذِي يَهْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ مِنْهُ الْإِسَاءَةُ مَعْذُورٌ
بِمَا صَنَعَا
فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إِسَاءَتَهُ مِنَ الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُمَا
شَفَعَا
وَلَمَّا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ - اشْتَدَّ وَجَعُ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ
بِاللَّهِ، فَاجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْقُوَّادِ ; مِنْهُمْ يُونُسُ الْخَادِمُ
وَغَيْرُهُ إِلَى الْوَزِيرِ
الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فَأَشَارُوا بِأَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ
لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِلْمُكْتَفِي بِاللَّهِ عَلِيِّ بْنِ الْمُعْتَضِدِ
بِاللَّهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَتَأَكَّدَتِ الْبَيْعَةُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ
كَثِيرٌ.
وَحِينَ حَضَرَتِ الْمُعْتَضِدَ الْوَفَاةُ أَنْشَدَ لِنَفْسِهِ:
تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ لَا تَبْقَى وَخُذْ صَفْوَهَا مَا إِنْ
صَفَتْ وَدَعِ الرَّنْقَا
وَلَا تَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ إِنِّي أَمِنْتُهُ فَلَمْ يُبْقِ لِي حَالًا وَلَمْ
يَرْعَ لِي حَقًّا
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى
خُلُقٍ خَلْقَا
وَأَخْلَيْتُ دَارَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِعٍ فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا
وَمَزَّقْتُهُمْ شَنْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ
أَجْمَعَ لِي رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي فَهَاأَنَذَا فِي حُفْرَتِي
عَاجِلًا أُلْقَى
وَلَمْ يُغْنِ عَنِّي مَا جَمَعْتُ وَلَمْ أَجِدْ لِذِي مَلِكِ الْأَحْيَاءِ فِي
حِينِهَا رِفْقَا
وَأَفْسَدْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّي
بِمَصْرَعِهِ أَشْقَى
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بَعْدَ مَوْتِيَ مَا أَلْقَى إِلَى نِعْمَةٍ لِلَّهِ أَمْ
نَارِهِ أُلْقَى
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ بَقِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْخَمْسِينَ.
فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ، عَلِيًّا الْمُكْتَفِيَ،
وَجَعْفَرًا الْمُقْتَدِرَ، وَهَارُونَ، وَمِنَ الْبَنَاتِ إِحْدَى عَشْرَةَ
بِنْتًا، وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ بِنْتًا. وَتَرَكَ فِي بَيْتِ
الْمَالِ سَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ
أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ يُمْسِكُ عَنْ صَرْفِ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ
وَجْهِهَا، فَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يُبَخِّلُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَجْعَلُهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْحَدِيثِ،
الِاثْنَيْ عَشَرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَى أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ الْعَبَّاسِيُّ
ابْنَ عَمِّهِ، الْمُعْتَضِدَ بِمَرْثَاةٍ حَسَنَةٍ يَقُولُ فِيهَا:
يَا دَهْرُ وَيْحَكَ مَا أَبْقَيْتَ لِي أَحَدًا وَأْنَتَ وَالِدُ سُوءٍ تَأْكُلُ
الْوَلَدَا
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بَلْ ذَا كُلُّهُ قَدَرٌ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَاحِدًا
صَمَدًا
يَا سَاكِنَ الْقَبْرِ فِي غَبْرَاءَ مِظْلِةٍ بِالظَّاهِرِيَّةِ مُقْصَى الدَّارِ
مُنْفَرِدَا
أَيْنَ الْجُيُوشُ الَّتِي قَدْ كُنْتَ تَسْحَبُهَا أَيْنَ الْكُنُوزُ الَّتِي
أَحْصَيْتَهَا عَدَدَا
أَيْنَ السَّرِيرُ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَمْلَؤُهُ مَهَابَةً مَنْ رَأَتْهُ
عَيْنُهُ ارْتَعَدَا
أَيْنَ الْأَعَادِي الْأُلَى ذَلَّلْتَ صَعْبَهُمُ أَيْنَ اللُّيُوثُ الَّتِي
صَيَّرْتَهَا نَقَدًا
أَيْنَ الْوُفُودُ عَلَى الْأَبْوَابِ عَاكِفَةً وِرْدَ الْقَطَا صَفْوَ مَاءٍ
جَالَ وَاطَّرَدَا
أَيْنَ الرِّجَالُ قِيَامًا فِي مَرَاتِبِهِمْ مَنْ رَاحَ مِنْهُمْ وَلَمْ
يُطْمَرْ فَقَدْ سَعِدَا
أَيْنَ الْجِيَادُ الَّتِي
حَجَّلْتَهَا بِدَمٍ وَكُنَّ يَحْمِلْنَ مِنْكَ الضَّيْغَمَ الْأَسَدَا
أَيْنَ الرِّمَاحُ الَّتِي غَذَّيْتَهَا مُهَجًا مُذْ مِتَّ مَا وَرَدَتْ قَلْبًا
وَلَا كَبِدًا
أَيْنَ السُّيُوفُ وَأَيْنَ النَّبْلُ مُرْسَلَةً يُصِبْنَ مَنْ شِئْتَ مِنْ
قِرْنٍ وَإِنْ بَعُدَا
أَيْنَ الْمَجَانِيقُ أَمْثَالُ الْفِيُولِ إِذَا رَمَيْنَ حَائِطَ حِصْنٍ قَائِمٍ
قَعَدَا
أَيْنَ الْقُصُورُ الَّتِي شَيَّدْتَهَا فَعَلَتْ وَلَاحَ فِيهَا سَنَا
الْإِبْرِيزِ فَاتَّقَدَا
أَيْنَ الْجِنَانُ الَّتِي تَجْرِي جَدَاوِلُهَا وَتَسْتَجِيبُ إِلَيْهَا
الطَّائِرَ الْغَرِدَا
أَيْنَ الْوَصَائِفُ كَالْغِزْلَانِ رَائِحَةً يَسْحَبْنَ مَنْ حُلَلٍ مَوْشِيَّةٍ
جُدُدًا
أَيْنَ الْمَلَاهِي وَأَيْنَ الرَّاحُ تَحْسَبُهَا يَاقُوتَةً كُسِيَتْ مِنْ
فِضَّةٍ زَرَدًا
أَيْنَ الْوُثُوبُ إِلَى الْأَعْدَاءِ مُبْتَغِيًا صَلَاحَ مُلْكِ بَنِي
الْعَبَّاسِ إِذْ فَسَدَا
مَا زِلْتَ تَقْسِرُ مْنِهُمْ كُلَّ قَسْوَرَةٍ وَتَحْطِمُ الْعَاتِيَ الْجَبَّارَ
مُعْتَمِدَا
ثُمَّ انْقَضَيْتَ فَلَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ حَتَّى كَأَنَّكَ يَوْمًا لَمْ تكُنْ
أَحَدَا
لَا شَيْءَ يَبْقَى سُوَى خَيْرٍ تُقَدِّمُهُ مَا دَامَ مُلْكٌ لِإِنْسَانٍ وَلَا
خَلَدَا
ذَكَرَهَا ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ ".
خِلَافَةُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ
عَلِيِّ ابْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَلَيْسَ فِي الْخُلَفَاءِ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَى هَذَا وَعَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ إِلَّا
هَذَا، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْهَادِي وَالْمُسْتَضِيءُ
بِأَمْرِ بِاللَّهِ.
وَحِينَ وَلِيَ الْمُكْتَفِي كَثُرَتِ الْفِتَنُ وَانْتَشَرَتْ فِي الْبِلَادِ
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زَلْزَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا وَفِي
رَمَضَانَ تَسَاقَطَ وَقْتَ السَّحَرِ مِنَ السَّمَاءِ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ
يَزَلِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَمَّا أَفْضَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ كَانَ بِالرَّقَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ
وَأَعْيَانُ الْأُمَرَاءِ فَرَكِبَ فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي يَوْمٍ مَشْهُودٍ
وَذَلِكَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَمَانٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ أَمَرَ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ الصَّفَّارِ
وَكَانَ مُعْتَقَلًا فِي سِجْنِ أَبِيهِ وَأَمَرَ بِتَخْرِيبَ الْمَطَامِيرَ
الَّتِي كَانَ اتَّخَذَهَا أَبُوهُ لِلسِّجْنِ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ جَامِعٍ
مَكَانَهَا وَخَلَعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَلَى الْوَزِيرِ الْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ سِتَّ خِلَعٍ وَقَلَّدَهُ سَيْفًا
وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَبَعْضَ
شَهْرٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ انْتَشَرَتِ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُعْتَضِدِ
فِي الْآفَاقِ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْحَجِيجِ وَتَسَمَّى بَعْضُهُمْ
بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَبَعَثَ الْمُكْتَفِي إِلَيْهِمْ جُيُوشًا كَثِيرَةً
وَأَنْفَقَ أَمْوَالًا غَزِيرَةً حَتَّى أَطْفَأَ اللَّهُ بَعْضَ شَرِّهِمْ،
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ طَاعَةِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ وَكَاتَبَهُ أَهْلُ الرَّىِّ بَعْدَ قَتْلِهِ
مُحَمَّدَ بْنَ زَيْدٍ الطَّالِبِيَّ فَصَارَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمُوا
إِلَيْهِ الْبَلَدَ فَاسْتَحْوَذَ
عَلَيْهَا فَقَصَدَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بِالْجُيُوشِ فَقَهَرَهُ
وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَفِي يَوْمِ
التَّاسِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ فِي زَمَنِ
الصَّيْفِ وَعَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصَّيْفِ فَهَبَّتْ رِيحٌ بَارِدَةٌ جِدًّا
حَتَّى احْتَاجَ النَّاسُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى الِاصْطِلَاءِ بِالنَّارِ وَلَبِسُوا
الْفِرَاءَ والْمَحْشُوَّاتِ وَجَمَدَ الْمَاءُ كَفَصْلِ الشِّتَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَكَذَا وَقَعَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ قَالَ: وَهَبَّتْ
رِيحٌ عَاصِفٌ بِالْبَصْرَةِ فَاقْتَلَعَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ نَخِيلِهَا
وَخُسِفَ بِمَوْضِعٍ مِنْهَا فَمَاتَ تَحْتَهُ سِتَّةُ آلَافِ نَسَمَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ فِي رَجَبٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً ثُمَّ سَكَنَتْ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَحَدُ الصُّوفِيَّةِ الْكِبَارِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَهُوَ مِنْ
أَقْرَانِ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ.
وَأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَضِدُ بِاللَّهِ غَلَبَ عَلَيْهِ سُوءُ
الْمِزَاجِ وَالْجَفَافُ لِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ وَكَانَ الْأَطِبَّاءُ يَصِفُونَ
لَهُ مَا يُرَطِّبُ بَدَنَهُ لَهُ فَيَسْتَعْمِلُ ضِدَّ ذَلِكَ حَتَّى سَقَطَتْ
قُوَّتُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ وَفَاتِهِ فِي تَرْجَمَتِهِ آنِفًا.
بَدْرٌ غُلَامُ الْمُعْتَضِدِ وَرَأْسُ الْجَيْشِ
كَانَ الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْوَزِيرُ قَدْ عَزَمَ فِي حَيَاةِ
الْمُعْتَضِدِ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ الْخِلَافَةَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُعْتَضِدِ
وَفَاوَضَ بِذَلِكَ بَدْرًا هَذَا فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ وَأَبَى إِلَّا
الْبَيْعَةَ لِأَوْلَادِ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا وَلِيَ الْمُكْتَفِي خَافَ
الْوَزِيرُ مِنْ غَائِلَةِ مَا كَانَ أَسَرَّ بِهِ إِلَى بَدْرٍ فَعَمِلَ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْمُكْتَفِي، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى احْتَاطَ الْخَلِيفَةُ عَلَى
حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ وَهُوَ بِوَاسِطَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ،
فَقَدِمَ، فَأَمَرَ الْوَزِيرُ مَنْ قَتَلَهُ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ثُمَّ قَطَعَ رَأْسَهُ
وَبَقِيَتْ جُثَّتُهُ أَخَذَهَا أَهْلُهُ ثُمَّ بَعَثُوهَا فِي تَابُوتٍ إِلَى
مَكَّةَ فَدُفِنَ بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْصَى بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ أَعْتَقَ
كُلَّ مَمْلُوكٍ لَهُ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَحِينَ أُرِيدُ قَتْلُهُ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَتَلُوهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَهْمِ بْنِ مُحْرِزِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْبَغْدَادِيُّ، سَمِعَ خَلَفَ بْنَ
هِشَامٍ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَمُحَمَّدَ
بْنَ سَعْدٍ وَغَيْرَهُمْ وَعَنْهُ
الْخُطَبِيُّ والطُّومَارِيُّ وَكَانَ عَسِرًا فِي التَّحْدِيثِ إِلَّا لِمَنْ
لَازَمَهُ وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَخْبَارِ وَالنَّسَبِ
وَالشِّعْرِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي
الْفِقْهِ، تُوُفِّيَ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
وَقَدْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
عُمَارَةُ بْنُ وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى أَبُو رِفَاعَةَ الْفَارِسِيُّ صَاحِبُ
التَّارِيخِ عَلَى السِّنِينَ، وُلِدَ بِمِصْرَ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ
كَاتِبِ اللَّيْثِ وَغَيْرِهِ.
عَمْرُو بْنُ اللَّيْثِ الصَّفَّارُ أَحَدُ الْأُمَرَاءِ الْكِبَارِ قُتِلَ فِي
السِّجْنِ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمُكْتَفِي بَغْدَادَ.
سَنَةُ تِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا أَقْبَلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ أَبُو قَاسِمٍ
الْقِرْمِطِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالشَّيْخِ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ مِنَ
الْقَرَامِطَةِ، فَعَاثَ بِنَاحِيَةِ الرَّقَّةِ فَسَادًا فَجَهَّزَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا فِي نَحْوِ عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ.
وَفِيهَا رَكِبَ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي مِنْ بَغْدَادَ إِلَى سَامَرَّا
يُرِيدُ الْإِقَامَةَ بِهَا فَثَنَى رَأْيَهُ عَنْ ذَلِكَ الْوَزِيرُ الْقَاسِمُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكْرَوَيْهِ بْنِ مَهْرَوَيْهِ عَلَى بَابِ
دِمَشْقَ قَتَلَهُ جَيْشُ الْمِصْرِيِّينَ زَرَقَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ
بِمِزْرَاقٍ مِنْ نَارٍ فَحَرَقَهُ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَانَ قَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنْ جَيْشِهَا مِنْ أَصْحَابِ طُغْجِ بْنِ جُفٍّ نَائِبِهَا، ثُمَّ
مَنَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ بِقَتْلِهِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ
فَرَحًا شَدِيدًا، فَقَامَ بِأَمْرِ الْقَرَامِطَةِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ
الْحُسَيْنُ، وَتَسَمَّى بِأَحْمَدَ وَتَكَنَّى بِأَبِي الْعَبَّاسِ وَتَلَقَّبَ
بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَطَاعَتْهُ الْقَرَامِطَةُ، كَمَا كَانُوا يُطِيعُونَ
أَخَاهُ، فَحَاصَرَ دِمَشْقَ فَصَالَحَهُ أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ ثُمَّ سَارَ إِلَى
حِمْصَ فَافْتَتَحَهَا وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِهَا ثُمَّ سَارَ إِلَى
حَمَاةَ وَمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ فَقَهَرَ أَهْلَ تِلْكَ النَّوَاحِي
وَاسْتَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ وَكَانَ يَقْتُلُ الدَّوَابَّ
وَالصِّبْيَانَ فِي الْمَكَاتِبِ وَيُبِيحُ لِمَنْ مَعَهُ وَطْءَ النِّسَاءِ، فَرُبَّمَا
وَطِئَ الْوَاحِدَةَ
الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ مِنَ
الرِّجَالِ فَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدًا هَنَأَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْآخَرَ
فَكَتَبَ أَهْلُ الشَّامِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَشْكُونَ إِلَيْهِ مَا يَلْقُونَ
مِنْ هَذَا اللَّعِينِ فَجَهَّزَ الْمُكْتَفِي جُيُوشًا كَثِيفَةً وَأَنْفَقَ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً لِحَرْبِهِ، وَرَكِبَ فِي رَمَضَانَ فَنَزَلَ الرَّقَّةَ
وَبَثَّ الْجُيُوشَ فِي كُلِّ جَانِبٍ لِقِتَالِ الْقِرْمِطِيِّ وَكَانَ
الْقِرْمِطِيُّ يَكْتُبُ إِلَى أَصْحَابِهِ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ الْمَنْصُورِ
بِاللَّهِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْحَاكِمِ
بِحُكْمِ اللَّهِ الدَّاعِي إِلَى كِتَابِ اللَّهِ الذَّابِّ عَنْ حَرِيمِ اللَّهِ
الْمُخْتَارِ مِنْ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ. وَكَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ
سُلَالَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ فَاطِمَةَ وَهُوَ كَاذِبٌ أَفَّاكٌ
أَثِيمٌ قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَدَاوَةً
لِقُرَيْشٍ ثُمَّ لِبَنِيِّ هَاشِمٍ، ثُمَّ دَخَلَ سُلَمْيَةَ فَلَمْ يَدَعْ بِهَا
أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى قَتَلَهُ وَقَتَلَ أَوْلَادَهُ وَاسْتَبَاحَ
نِسَاءَهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ ثَغْرَ طَرَسُوسَ أَبُو الْعَشَائِرِ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ
عِوَضًا عَنْ مُظَفَّرِ بْنِ حَاجٍّ ; لِشَكْوَى أَهْلِ الثَّغْرِ مِنْهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّيْبَانِيُّ كَانَ إِمَامًا
ثِقَةً حَافِظًا ثَبْتًا مُكْثِرًا
عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَرَوَى عَنْ أَبِيهِ مِنْهُ، سَمِعَ
مِنْهُ " الْمُسْنَدَ " ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَ " التَّفْسِيرَ
" مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، مِنْ ذَلِكَ سَمَاعٌ وَمِنْ
ذَلِكَ وِجَادَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ " وَ
" الْمُقَدَّمُ وَالْمُؤَخَّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ " وَ "
التَّارِيخُ " وَ " حَدِيثُ شُعْبَةَ " وَ " جَوَابَاتُ
الْقُرْآنِ " وَ " الْمَنَاسِكُ الْكَبِيرُ " وَ " الصَّغِيرُ
" وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ وَحَدِيثُ الشُّيُوخِ.
قَالَ: وَمَا زِلْنَا نَرَى أَكَابِرَ شُيُوخِنَا يَشْهَدُونَ لَهُ بِمَعْرِفَةِ
الرِّجَالِ وَعِلَلِ الْحَدِيثِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْكُنَى وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى
طَلَبِ الْحَدِيثِ فِي الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا وَيَذْكُرُونَ عَنْ أَسْلَافِهِمُ
الْإِقْرَارَ لَهُ بِذَلِكَ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَسْرَفَ فِي تَقْرِيظِهِ
لَهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَزِيَادَةِ السَّمَاعِ لِلْحَدِيثِ عَنْ أَبِيهِ.
وَلَمَّا مَرِضَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ تُدْفَنُ ؟ فَقَالَ: صَحَّ عِنْدِي أَنَّ
بِالْقَطِيعَةِ نَبِيًّا مَدْفُونًا وَلَأَنْ أَكُونَ فِي جِوَارِ نَبِيٍّ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ فِي جِوَارِ أَبِي. فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً كَمَا مَاتَ لَهَا أَبُوهُ،
وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا جِدًّا،
وَصَلَّى عَلَيْهِ زُهَيْرٌ ابْنُ أَخِيهِ وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ بَابِ التِّبْنِ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الرِّبَاطِيُّ
الْمَرْوَزِيُّ صَحِبَ أَبَا تُرَابٍ النَّخْشَبِيَّ وَكَانَ الْجُنَيْدُ
يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ. عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ
الْمَعْرُوفُ بِأَبِي الْآذَانِ كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا. مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ
بْنِ الْفَرَجِ أَبُو مَيْسَرَةَ الْهَمْدَانِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ
"، وَكَانَ أَحَدَ الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ وَالْمُصَنِّفِينَ
الْمُنْصِفِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الزَّقَّاقُ.
أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ وَعُبَّادِهِمْ رَوَى عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ
قَالَ: رَأَيْتُ إِبْلِيسَ فِي الْمَنَامِ وَكَأَنَّهُ عُرْيَانٌ، فَقُلْتُ: أَلَا
تَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ ؟ فَقَالَ: هَؤلَاءِ أُنَاسٌ وَأَنَا أَتَلَعَّبُ بِهِمْ
كَمَا يَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْكُرَةِ إِنَّمَا النَّاسُ جَمَاعَةٌ غَيْرُ
هَؤُلَاءِ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ ؟ فَقَالَ: قَوْمٌ فِي مَسْجِدِ
الشُّونِيزِيِّ فَقَدْ أَضْنَوْا
قَلْبِي وَأَنْحَلُوا جَسَدِي كُلَّمَا هَمَمْتُ بِهِمْ أَشَارُوا إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَأَكَادُ أَحْتَرِقُ.
قَالَ: فَانْتَبَهْتُ وَلَبِسْتُ ثِيَابِي وَقَصَدْتُ مَسْجِدَ الشُّونِيزِيِّ،
فَإِذَا فِيهِ ثَلَاثَةٌ جُلُوسٌ وَرُءُوسُهُمْ فِي مُرَقَّعَاتِهِمْ، فَرَفَعَ
أَحَدُهُمْ رَأْسَهُ مِنْ جَيْبِهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَنْتَ
كُلَّمَا قِيلَ لَكَ شَيْءٌ تُقْبِلُ ؟ فَإِذَا هُمْ أَبُو بَكْرٍ الزَّقَّاقُ،
وَأَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ، وَأَبُو حَمْزَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُلْوِيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ تِلْمِيذُ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ جَرَتْ وَقْعَةٌ هَائِلَةٌ بَيْنَ الْقَرَامِطَةِ وَجُنْدِ
الْخَلِيفَةِ فَهُزِمَتِ الْقَرَامِطَةُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَأَسِرَ
رَئِيسُهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ زَكْرَوَيْهِ، الْمُلَقَّبُ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ: ذُو الشَّامَةِ، وَقَدْ تَسَمَّى كَمَا
ذَكَرْنَا بِأَحْمَدَ، وَتَكَنَّى بِأَبِي الْعَبَّاسِ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ
خَلْقٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ جَدَّا، فَلَمَّا
أُسِرَ حُمِلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ فِي جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ رُءُوسِ
أَصْحَابِهِ، أُدْخِلَ بَغْدَادَ عَلَى فِيلٍ مَشْهُورٍ لِلنَّاسِ، فَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِعَمَلِ دَكَّةٍ مُرْتَفِعَةٍ فَأُجْلِسَ عَلَيْهَا الْقِرْمِطِيُّ،
وَجِيءَ بِأَصْحَابِهِ فَجَعَلَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ
يَنْظُرُ، وَقَدْ جَعَلَ فِي فَمِهِ خَشَبَةً مُعْتَرِضَةً مَشْدُودَةً إِلَى
قَفَاهُ ثُمَّ أُنْزِلَ فَضُرِبَ مِائَتَيْ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ
وَرَجْلَاهُ وَكُوِيَ ثُمَّ أُحْرِقَ وَحُمِلَ رَأْسُهُ عَلَى خَشَبَةٍ وَطِيفَ
بِهِ فِي أَرْجَاءِ بَغْدَادَ وَذَلِكَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْأَتْرَاكُ بِلَادَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِي جَحَافِلَ
عَظِيمَةٍ فَبَيَّتَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا
وَجَمًّا غَفِيرًا مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ].
وَفِيهَا بَعَثَ مِلْكُ الرُّومِ عَشَرَةَ صُلْبَانٍ مَعَ كُلِّ صَلِيبٍ عَشَرَةُ
آلَافٍ فَأَغَارُوا
عَلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ وَقَتَلُوا
خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَبَوْا أُنَاسًا مِنَ الذُّرِّيَّةِ.
وَفِيهَا دَخَلَ نَائِبُ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ فَفَتَحَ مَدِينَةَ
أَنْطَاكِيَةَ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ تُعَادِلُ
عِنْدَهُمُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ وَخَلَّصَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَةَ آلَافِ
أَسِيرٍ وَأَخَذَ مِنَ الرُّومِ سِتِّينَ مَرْكَبًا وَغَنِمَ شَيْئًا عَظِيمًا
جِدًّا، فَبَلَغَ نَصِيبُ كُلٍّ مِنَ الْغُزَاةِ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَيْدِ بْنِ سَيَّارٍ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ مَوْلَاهُمُ الْمُلَقَّبُ بِثَعْلَبٍ إِمَامُ
الْكُوفِيِّينَ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ مِائَتَيْنِ سَمِعَ
مُحَمَّدَ بْنَ زِيَادِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ
وَالْقَوَارِيرِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ ابْنُ الْأَنْبَارِي وَابْنُ عَرَفَةَ
وَأَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ، وَكَانَ ثِقَةً حُجَّةً دَيِّنًا صَالِحًا مَشْهُورًا
بِالصِّدْقِ وَالْحِفْظِ وَذُكِرَ أَنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْقَوَارِيرِيِّ مِائَةَ
أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ
مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَامِعِ
وَفِي يَدِهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَهُ صَمَمٌ شَدِيدٌ
فَصَدَمَتْهُ فَرَسٌ فَأَلْقَتْهُ فِي هُوَّةٍ
فَاضْطَرَبَ دِمَاغُهُ فَمَاتَ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ: وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ "
الْفَصِيحِ " وَهُوَ صَغِيرُ الْحَجْمِ كَثِيرُ الْفَائِدَةِ وَلَهُ كِتَابُ
" الْمَصُونِ " وَ " اخْتِلَافُ النَّحْوِيِّينَ " وَ "
مَعَانِي الْقُرْآنِ " وَكِتَابُ " الْقِرَاءَاتِ " وَ "
مَعَانِي الشِّعْرِ " وَ " مَا يَلْحَنُ فِيهِ الْعَامَّةُ "
وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَيْضًا، وَمِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ:
إِذَا كُنْتَ قُوتَ النَّفْسِ ثُمَّ هَجَرْتَهَا فَكَمْ تَلْبَثُ النَّفْسُ
الَّتِي أَنْتَ قُوتُهَا سَتَبْقَى بَقَاءَ الضَّبِّ فِي الْمَاءِ أَوْ كَمَا
يَعِيشُ بِبَيْدَاءِ الْمَهَامِهِ حُوتُهَا أَغَرَّكَ مِنِّي أَنْ تَصَبَّرْتُ
جَاهِدًا
وفي النَّفْسِ مِنِّي مِنْكَ مَا سَيُمِيتُهَا فَلَوْ كَانَ مَا بِي بِالصُّخُورِ
لَهَدَّهَا
وَبِالرِّيحِ مَا هَبَّتْ وَطَالَ خُفُوتُهَا فَصَبْرًا لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُ
بَيْنَنَا
فَأَشْكُو هُمُومًا مِنْكَ فِيكَ لَقِيتُهَا
الْقَاسِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ وَهْبٍ الْوَزِيرُ،
تَوَلَّى بَعْدَ أَبِيهِ الْوِزَارَةَ فِي آخِرِ أَيَّامِ الْمُعْتَضِدِ ثُمَّ
وَزَرَ لِوَلَدِهِ الْمُكْتَفِي مِنْ بَعْدِهِ. فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ فَبَعَثَ
إِلَى السُّجُونِ فَأَطْلَقَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْمَظْلُومِينَ ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَقَدْ قَارَبَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ
سَنَةً، وَقَدْ كَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ جِدًّا، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْلَاكِ
مَا يَعْدِلُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ شَدَّادٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَصْرِيُّ الْقَاضِي بِوَاسِطَ الْمَعْرُوفُ بِالْجُذُوعِيِّ.
حَدَّثَ عَنْ مُسَدَّدٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَابْنِ نُمَيْرٍ
وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْقُضَاةِ الْأَجْوَادِ الْعُدُولِ
الْأُمَنَاءِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الصَّائِغُ، وَقُنْبُلٌ أَحَدُ مَشَاهِيرِ الْقُرَّاءِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ فِي نَحْوٍ مَنْ عَشَرَةِ آلَافِ
مُقَاتِلٍ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
لِقِتَالِ هَارُونَ بْنِ خُمَارَوَيْهِ فَبَرَزَ إِلَيْهِ هَارُونُ فَاقْتَتَلَا
فَقَهَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَجَمَعَ آلَ طُولُونَ وَكَانُوا سَبْعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا فَقَتَلَهُمْ وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ
وَانْقَضَتْ دَوْلَةُ الطُّولُونِيَّةِ عَنِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَكَتَبَ
بِالْفَتْحِ إِلَى الْمُكْتَفِي.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ أَمِيرُ
الْحَاجِّ فِي السِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ.
أَحَدُ الْمَشَايِخِ الْمُعَمَّرِينَ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا
مِمَّنْ مَعَهُ مِحْبَرَةٌ سِوَى النَّظَّارَةِ وَيَسْتَمْلِي عَلَيْهِ سَبْعَةُ
مُسْتَمْلِينَ كَلٌّ يُبَلِّغُ صَاحِبَهُ وَيَكْتُبُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُمْ
قِيَامٌ وَكَانَ كُلَّمَا حَدَّثَ بِعَشَرَةِ آلَافِ حَدِيثٍ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ
وَلَمَّا فُرِغَ مِنْ قِرَاءَةِ السُّنَنِ عَلَيْهِ عَمِلَ مَأْدُبَةً غَرِمَ
عَلَيْهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَالَ: شَهِدْتُ الْيَوْمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُبِلَتْ شَهَادَتِي وَحْدِي أَفَلَا
أَعْمَلُ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَرَوَى ابْنُ
الْجَوْزِيِّ وَالْخَطِيبُ عَنْ أَبِي
مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ.
قَالَ: خَرَجْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمَنْزِلِ بِلَيْلٍ فَمَرَرْتُ بِحَمَّامٍ
وَعَلَيَّ جَنَابَةٌ فَدَخَلْتُهُ، فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَدَخَلَ حَمَّامَكَ
أَحَدٌ بَعْدُ ؟ فَقَالَ: لَا، فَدَخَلْتُ، فَلَمَّا فَتَحْتُ بَابَ الْحَمَّامِ
الدَّاخِلَ إِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: أَبَا مُسْلِمٍ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، ثُمَّ
أَنْشَأَ يَقُولُ:
لَكَ الْحَمْدُ إِمَّا عَلَى نِعْمَةٍ وَإِمَّا عَلَى نِقْمَةٍ تَدْفَعُ تَشَاءُ
فَتَفْعَلُ مَا شِئْتَهُ
وَتَسْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَا تُسْمَعُ
قَالَ: فَبَادَرْتُ فَخَرَجْتُ، فَقُلْتُ لِلْحَمَّامِيِّ: أَنْتَ زَعَمْتَ
أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ حَمَّامَكَ أَحَدٌ، فَقَالَ: نَعَمْ وَمَا ذَاكَ ؟
فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ كَذَا.
قَالَ: أَوَسَمِعْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي هَذَا رَجُلٌ مِنَ
الْجَانِّ يَتَبَدَّى لَنَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَيُنْشِدُ الْأَشْعَارَ
وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ حَسَنٍ فِيهِ مَوَاعِظُ، فَقُلْتُ: هَلْ حَفِظْتَ مِنْ
شِعْرِهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، ثُمَّ أَنْشَدَنِي مِنْ شِعْرِهِ:
أَيُّهَا الْمُذْنِبُ الْمُفَرِّطُ مَهْلًا كَمْ تَمَادَى وَتَرْكَبُ الذَّنْبَ
جَهْلًا
كَمْ وَكَمْ تُسْخِطُ الْجَلِيلَ بِفِعْلٍ سَمِجٍ وَهْوَ يُحْسِنُ الصُّنْعَ
فِعْلًا
كَيْفَ تَهْدَا جُفُونُ مَنْ لَيْسَ يَدْرِي أَرَضِيَ عَنْهُ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ
أَمْ لَا
عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو حَازِمٍ الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ
كَانَ مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ الْفُقَهَاءِ وَمِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ،
وَرِعًا نَزِهَا كَثِيرَ الصِّيَانَةِ وَالدِّيَانَةِ
وَالْأَمَانَةِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " آثَارًا حَسَنَةً وَأَفْعَالًا جَمِيلَةً رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا الْتَفَّ عَلَى أَخِي الْحُسَيْنِ الْقِرْمِطِيِّ الْمَعْرُوفِ بِذِي
الشَّامَةِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَ مَقْتَلِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ -
خَلَائِقُ مِنَ الْقَرَامِطَةِ وَالْأَعْرَابِ وَاللُّصُوصِ بِطَرِيقِ الْفُرَاتِ
فَعَاثَ بِهِمْ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ثُمَّ قَصَدَ طَبَرِيَّةَ فَامْتَنَعُوا
مِنْ إِيوَائِهِ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ بِهَا خَلْقًا مِنَ الرِّجَالِ
وَأَخَذَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى
الْبَادِيَةِ وَدَخَلَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مِنْهُمْ إِلَى هِيتَ فَقَتَلُوا
أَهْلَهَا إِلَّا الْقَلِيلَ وَأَخَذُوا مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً حَمَلُوهَا
عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافِ بَعِيرٍ فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي
جَيْشًا فَقَاتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا رَئِيسَهُمْ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَنَبَغَ
رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ يُقَالُ لَهُ الدَّاعِيَةُ بِالْيَمَنِ فَحَاصَرَ
صَنْعَاءَ فَدَخَلَهَا قَهْرًا وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا ثُمَّ سَارَ إِلَى
بَقِيَّةِ مُدُنِ الْيَمَنِ فَأَكْثَرَ فِيهَا الْفَسَادَ وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ
الْعُبَّادِ ثُمَّ قَاتَلَهُ أَهْلُ صَنْعَاءَ فَظَفِرُوا بِهِ وَهَزَمُوهُ
فَانْحَازَ إِلَى بَعْضِ مُدُنِهَا وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا الْمُظَفَّرَ
بْنَ حَاجٍّ نَائِبًا وَخَلَعَ عَلَيْهِ، فَسَارَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَزَلْ بِهَا
حَتَّى مَاتَ.
وَفِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى دَخَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ نَحْوٌ
مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ إِلَى الْكُوفَةِ وَالنَّاسُ فِي عِيدِهِمْ، فَنَادَوْا: يَا
ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ، يَعْنُونَ الْمَصْلُوبَ بِبَغْدَادَ، وَشِعَارُهُمْ: يَا
أَحْمَدُ يَا مُحَمَّدُ، يَعْنُونَ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ، فَبَادَرَ النَّاسُ
الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ فَوَلَجَ خَلْفَهُمُ الْقَرَامِطَةُ فَرَمَتْهُمُ
الْعَامَّةُ بِالْحِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ
عِشْرِينَ، وَرَجَعَ الْبَاقُونَ خَاسِئِينَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهُ الْخَلَنْجِيُّ فَخَلَعَ الطَّاعَةَ
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُنْدِ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدَ
بْنَ كَيْغَلَغَ نَائِبَ دِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا فَرَكِبَ إِلَيْهِ فَاقْتَتَلَا
بِظَاهِرِ مِصْرَ فَهَزَمَهُ الْخَلَنْجِيُّ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً فَبَعَثَ
الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا آخَرَ فَهَزَمُوا الْخَلَنْجِيَّ وَهَرَبَ
فَاسْتَتَرَ بِمِصْرَ، فَأُحْضِرَ، وَسُلِّمَ إِلَى الْأَمِيرِ الْخَلِيفَةِ
وَانْطَفَأَ خَبَرُهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا اشْتَغَلَ الْجَيْشُ بِأَمْرِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بَعَثَ
زَكْرَوَيْهِ بْنُ مَهْرَوَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِهِ الْحُسَيْنِ بِبَغْدَادَ
- جَيْشًا صُحْبَةَ رَجُلٍ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، يُقَالُ لَهُ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، فَقَصَدَ بُصْرَى وَأَذْرِعَاتَ وَالْبَثْنِيَّةَ،
فَحَارَبَهُ أَهْلُهَا، ثُمَّ أَمَّنَهُمْ، فَلَمَّا أَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُمْ
قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ، وَرَامَ الدُّخُولَ إِلَى دِمَشْقَ فَقَاتَلَهُ نَائِبُ
أَحْمَدَ بْنِ كَيْغَلَغَ بِدِمَشْقَ وَهُوَ صَالِحُ بْنُ الْفَضْلِ فَهَزَمَهُ
الْقِرْمِطِيُّ وَقُتِلَ صَالِحٌ فِيمَنْ قُتِلَ وَحَاصَرَ دِمَشْقَ فِلْمْ
يُمْكِنْهُ فَتْحُهَا فَانْصَرَفَ إِلَى طَبَرِيَّةَ فَقَتَلُوا أَكْثَرَ
أَهْلِهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَنَهَبُوا مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، ثُمَّ سَارُوا
إِلَى هِيتَ فَفَعَلُوا كَذَلِكَ، ثُمَّ جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا
فَأَخَذَ رَئِيسَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَنَجَا بَقِيَّتُهُمْ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى
الْكُوفَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمْ يَنْتَجِ لَهُمْ
أَمْرٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ زَكْرَوَيْهِ
بْنِ مَهْرُوَيْهِ وَهُوَ مُخْتَفٍ فِي بَلَدِهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِ مِنَ
الْقَرَامِطَةِ، إِذَا أُلِحَّ فِي طَلَبِهِ نَزَلَ بِئْرًا قَدِ اتَّخَذَهَا،
وَعَلَى بَابِهِ تَنُّورٌ فَتَقُومُ امْرَأَةٌ تَسْجُرُهُ وَتَخْبِزُ فِيهِ فَلَا
يَشْعُرُ أَحَدٌ بِأَمْرِهِ أَصْلًا، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا
كَثِيفًا فَقَاتَلَهُمْ زَكْرَوَيْهِ بِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَطَاعَهُ فَهَزَمَ جَيْشَ
الْخَلِيفَةِ وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا فَتَقَوَّى
بِهِ وَاشْتَدَّ أَمْرُهُ فَنَدَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا آخَرَ
فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ نَائِبُ خُرَاسَانَ
وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ طَائِفَةً كَبِيرَةً مِنْ بِلَادِ الْأَتْرَاكِ.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الرُّومُ عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِ حَلَبَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ النَّاشِي الشَّاعِرُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُعْتَزِلِيُّ أَصْلُهُ مِنَ
الْأَنْبَارِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ فَمَاتَ
بِهَا وَكَانَ يُعَاكِسُ الشُّعَرَاءَ وَيَرُدُّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ
وَالْعَرُوضِيِّينَ وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ هَوَسٌ
وَلَهُ قَصِيدَةٌ حَسَنَةٌ فِي نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي " السِّيرَةِ ".
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي عِدَّةِ عُلُومٍ مِنْ
جُمْلَتِهَا عِلْمُ الْمَنْطِقِ، وَكَانَ ذَكِيًّا فَطِنًا، وَلَهُ قَصِيدَةٌ فِي
فُنُونٍ مِنَ الْعُلُومِ عَلَى رَوِيٍّ وَاحِدٍ تَبْلُغُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَيْتٍ
وَلَهُ عِدَّةُ تَصَانِيفَ جَمِيلَةٌ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ: وَأَمَّا
النَّاشِي الْأَصْغَرُ فَسَيَأْتِي.
عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَزَّارُ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي ثَوْرٍ،
كَانَ عِنْدَهُ فِقْهُ أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ النُّبَلَاءِ.
نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْكِنْدِيُّ
الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِنَصْرَكَ كَانَ أَحَدَ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ
الْمَشْهُورِينَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ الذُّهْلِيُّ نَائِبُ
بخُاَرَى قَدْ ضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَصَنَّفَ لَهُ " الْمُسْنَدَ "،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبُخَارَى فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اعْتَرَضَ زَكْرَوَيْهِ - لَعَنَهُ
اللَّهُ - وَأَصْحَابُهُ الْحُجَّاجَ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَهَمْ قَافِلُونَ
مِنْ مَكَّةَ فَقَتَلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَسَبَى
نِسَاءَهُمْ فَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَهُ مِنْهُمْ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَعِدَّةُ مَنْ قُتِلَ عِشْرِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ وَكَانَتْ نِسَاءُ
الْقَرَامِطَةِ يَطُفْنَ بَيْنَ الْقَتْلَى مِنَ الْحُجَّاجِ بِالْمَاءِ صِفَةَ
أَنَّهُنَّ يَسْقِينَ الْجَرْحَى فَمَنْ كَلَّمَهُنَّ مِنَ الْجَرْحَى قَتَلْنَهُ
وَأَجْهَزْنَ عَلَيْهِ لَعَنَهُنَّ اللَّهُ وَقَبَّحَ أَزْوَاجَهُنَّ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ زَكْرَوَيْهِ لَعَنَهُ اللَّهُ
لَمَّا بَلَغَ الْخَلِيفَةَ خَبَرُ الْحَجِيجِ وَمَا أَوْقَعَ بِهِمُ الْخَبِيثُ
زَكْرَوَيْهِ جَهَّزَ إِلَيْهِ جَيْشًا كَثِيفًا فَالْتَقَوْا مَعَهُ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا قُتِلَ مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَضُرِبَ زَكْرَوَيْهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - بِالسَّيْفِ فِي
رَأْسِهِ فَوَصَلَتِ الضَّرْبَةُ إِلَى دِمَاغِهِ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَمَاتَ
بَعْدَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ فَفَتَحُوا عَنْ بَطْنِهِ وَصَبَّرُوهُ وَحَمَلُوهُ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ إِلَى بَغْدَادَ وَاحْتَوَى الْعَسْكَرُ عَلَى
مَا كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِقَتْلِ أَصْحَابِ الْقِرْمِطِيِّ وَأَنْ يُطَافَ بِرَأْسِ
الْقِرْمِطِيِّ فِي سَائِرِ بِلَادِ خُرَاسَانَ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ النَّاسُ عَنِ
الْحَجِّ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ، وَأَطْلَقَ مَنْ كَانَ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ
مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ.
وَفِيهَا غَزَا أَحْمَدُ بْنُ كَيْغَلَغَ نَائِبُ دِمَشْقَ بِلَادَ الرُّومِ مِنْ
نَاحِيَةِ طَرَسُوسَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَسَرَ
مِنْ ذَرَارِيهِمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسْلَمَ بَعْضُ
الْبَطَارِقَةِ مِنَ الرُّومِ، وَجَاءَ مَعَهُ بِنَحْوٍ مَنْ مِائَتَيْ أَسِيرٍ
كَانُوا فِي حِصْنِهِ، فَأَرْسَلَ مِلْكُ الرُّومِ جَيْشًا فِي طَلَبِهِ، فَرَكِبَ
هُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَبَسَ الرُّومَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً وَغَنِمَ مِنْهُمْ غَنِيمَةً كَثِيرَةً جِدًّا، وَلَمَّا
قَدِمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مَا
تَمَنَّاهُ.
وَفِيهَا ظَهَرَ بِالشَّامِ رَجُلٌ فَادَّعَى أَنَّهُ السُّفْيَانِيُّ فَأُخِذَ
وَبُعِثَ بِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَادَّعَى أَنَّهُ مُوَسْوَسٌ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَرْوَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِعُبَيْدٍ الْعِجْلِ، كَانَ حَافِظًا
مُكْثِرًا مُتْقِنًا ثِقَةً مُقَدَّمًا فِي حِفْظِ
الْمُسْنَدَاتِ تُوُفِّيَ فِي صِفْرٍ
مِنْهَا.
صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْأَسَدِيُّ
أَسَدُ خُزَيْمَةَ الْمَعْرُوفُ بِجَزَرَةَ ; لِأَنَّهُ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ
الْمَشَايِخِ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ كَانَتْ لَهُ خَرَزَةٌ يَرْقِي بِهَا
الْمَرِيضَ، فَقَرَأَهَا هُوَ جَزَرَةً تَصْحِيفًا مِنْهُ فَلُقِّبَ بِذَلِكَ
لِذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا جَوَّالًا رَحَّالًا طَافَ الشَّامَ
وَمِصْرَ وَخُرَاسَانَ وَانْتَقَلَ مِنْ بَغْدَادَ فَسَكَنَ بُخَارَى، وَكَانَ
ثِقَةً صَدُوقًا أَمِينًا وَلَهُ رِوَايَةٌ كَثِيرَةٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ
وَسُؤَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، كَانَ مَوْلِدُهُ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ عَشْرٍ
وَمِائَتَيْنِ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْمَعْرُوفُ
بِالْبَيَاضِيِّ لِأَنَّهُ حَضَرَ مَجْلِسَ الْخَلِيفَةِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ
الْبَيَاضِ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ: مَنْ ذَاكَ الْبَيَاضِيُّ ؟ فَعُرِفَ بِهِ
وَكَانَ ثِقَةً رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ قَتَلَتْهُ
الْقَرَامِطَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدٌ ابْنُ الْإِمَامِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ
بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ جَمِيلَ
الطَّرِيقَةِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ
بِهَا، وَقَتَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ
هَذِهِ السَّنَةَ فِيمَنْ قَتَلُوا مِنَ الْحَجِيجِ.
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيُّ.
الْفَقِيهُ، وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَنَشَأَ بِنَيْسَابُورَ وَاسْتَوْطَنَ
سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْأَحْكَامِ،
وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ وَسَمِعَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْكَثِيرَ النَّافِعَ
وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْمُفِيدَةَ الْحَافِلَةَ النَّافِعَةَ، وَكَانَ مِنْ
أَحْسَنِ النَّاسِ صَلَاةً وَأَكْثَرِهِمْ فِيهَا خُشُوعًا، وَقَدْ صَنَّفَ
كِتَابًا عَظِيمًا فِي الصَّلَاةِ.
رَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ مِنْ مِصْرَ
قَاصِدًا مَكَّةَ فَرَكِبْتُ الْبَحْرَ وَمَعِي جَارِيَةٌ فَغَرِقَتِ السَّفِينَةُ
فَذَهَبَ لِي فِي الْمَاءِ أَلْفَا جُزْءٍ وَسَلِمْتُ أَنَا وَالْجَارِيَةُ
فَلَجَأْنَا إِلَى جَزِيرَةٍ فَطَلَبْنَا بِهَا مَاءً فَلَمْ نَجِدْ فَوَضَعْتُ
رَأْسِي عَلَى فَخِذِ الْجَارِيَةِ وَيَئِسْتُ مِنَ الْحَيَاةِ فَبَيْنَا أَنَا
كَذَلِكَ إِذَا رَجُلٌ قَدْ أَقْبَلَ وَفِي يَدِهِ كُوزٌ، فَقَالَ: هَاهَ،
فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُ مِنْهُ وَسَقَيْتُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ ذَهَبَ فَلَمْ
أَدْرِ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلَ وَلَا إِلَى أَيْنَ ذَهَبَ. وَقَدْ كَانَ مِنْ
أَكْرَمِ النَّاسِ وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا، وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ
يَصِلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَيَصِلُهُ أَخُوهُ إِسْحَاقُ بْنُ
أَحْمَدَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ أَيْضًا، وَيَصِلُهُ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ
بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَيُنْفِقُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَقِيلَ لَهُ: لَوِ ادَّخَرْتَ
شَيْئًا لِنَائِبَةٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَنَا كُنْتُ بِمِصْرَ أُنْفِقُ
فِي كُلِّ سَنَةٍ عِشْرِينَ دِرْهَمًا، فَرَأَيْتُ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لِي شَيْءٌ
مِنْ هَذَا لَا يَتَهَيَّأُ لِي فِي السَّنَةِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَكَانَ
مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ إِذَا دَخَلَ عَلَى
إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ
السَّامَانِيِّ يَنْهَضُ لَهُ وَيُكْرِمُهُ فَعَاتَبَهُ يَوْمًا أَخُوهُ
إِسْحَاقُ، فَقَالَ لَهُ: تَقُومُ لِرَجُلٍ فِي مَجْلِسِ حُكْمِكَ وَأَنْتَ مَلِكُ
خُرَاسَانَ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ: فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَأَنَا مُشَتَّتُ الْقَلْبِ،
فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ
يَقُولُ: " يَا إِسْمَاعِيلُ ثَبِّتْ مُلْكَكَ وَمُلْكَ بَنِيكَ
بِتَعْظِيمِكَ مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ وَذَهَبَ مُلْكُ أَخِيكَ بِاسْتِخْفَافِهِ
بِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ ".
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُحَمَّدُ بْنُ
نَصْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَجَلَسُوا فِي
بَيْتٍ يَكْتُبُونَ الْحَدِيثَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
شَيْءٌ يَقْتَاتُونَهُ فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ مَنْ يَسْعَى لَهُمْ فِي
شَيْءٍ يَأْكُلُونَهُ، لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ ضَرُورَتَهُمْ فَجَاءَتِ الْقُرْعَةُ
عَلَى أَحَدِهِمْ، فَنَهَضَ إِلَى الصَّلَاةِ فَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَدْعُو اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْقَيْلُولَةِ، فَرَأَى نَائِبُ مِصْرَ -
وَأَظُنُّهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ - فِي مَنَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: " أَنْتَ
هَاهُنَا وَالْمُحَمَّدُونَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ يَقْتَاتُونَهُ "
فَانْتَبَهَ الْأَمِيرُ مِنْ مَنَامِهِ
فَسَأَلَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ؟ فَذُكِرَ لَهُ هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةُ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ بِأَلْفِ
دِينَارٍ فَدَخَلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَأَزَالَ اللَّهُ ضَرُورَتَهُمْ وَيَسَّرَ
لَهُمْ.
وَقَدْ بَلَغَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ سِنًّا عَالِيَةً وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ
وَلَدًا فَأَتَاهُ يَوْمًا إِنْسَانٌ فَبَشَّرَهُ بِوَلَدٍ ذَكَرٍ قَدْ وُلِدَ
لَهُ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ [ إِبْرَاهِيمَ: 39 ]
فَاسْتَفَادَ الْحَاضِرُونَ مِنْ ذَلِكَ فَوَائِدَ، مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ وُلِدَ
لَهُ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ وَلَدٌ ذَكَرٌ بَعْدَمَا كَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ فِي
ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ سَمَّاهُ يَوْمَ مَوْلِدِهِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ قَبْلَ
السَّابِعِ، وَمِنْهَا اقْتِدَاؤُهُ بِالْخَلِيلِ فِي تَسْمِيَتِهِ أَوَّلَ وَلَدٍ
لَهُ إِسْمَاعِيلَ.
مُوسَى بْنُ هَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عِمْرَانَ الْمَعْرُوفُ وَالِدُهُ
بِالْحَمَّالِ.
وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ
وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَغَيْرَهُمَا وَكَانَ إِمَامَ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي حِفْظِ
الْحَدِيثِ وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ وَالْإِتْقَانِ، وَكَانَ ثِقَةً شَدِيدَ
الْوَرَعِ عَظِيمَ الْهَيْبَةِ.
قَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْحَافِظُ الْمِصْرِيُّ: كَانَ أَحْسَنَ
النَّاسِ كَلَامًا عَلَى الْحَدِيثِ: عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ثُمَّ مُوسَى
بْنُ هَارُونَ ثُمَّ الدَّارَقُطْنِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا كَانَتِ الْمُفَادَاةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ وَكَانَ مِنْ
جُمْلَةِ مَنِ اسْتُنْقِذَ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ مِنْ نِسَاءٍ وَرِجَالٍ نَحْوٌ
مَنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ صِفْرٍ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا عَادِلًا
حَسَنَ السِّيرَةِ فِي رَعِيَّتِهِ حَلِيمًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ
الَّذِي كَانَ يُحْسِنُ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرً الْمَرْوَزِيِّ وَيُعَظِّمُهُ
وَيُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ وَيَقُومُ لَهُ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ، وَقَدْ وَلِيَ
بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ بِالْوِلَايَةِ
وَالتَّشْرِيفِ. وَقَدْ تَذَاكَرَ النَّاسُ عِنْدَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ ذَاتَ
لَيْلَةٍ الْفَخْرَ بِالْأَنْسَابِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ
عِصَامِيًّا لَا عِظَامِيًّا، أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَخِرَ بِنَفْسِهِ لَا
بِنَسَبِهِ وَبَلَدِهِ وَجَدِّهِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَبِجِدِّي سَمَوْتُ لَا بِجُدُودِي
وَقَالَ آخَرُ:
حَسْبِي فَخَارًا وَشِيمَتِي أَدَبِي وَلَسْتُ مِنْ هَاشِمٍ وَلَا الْعَرَبِ
إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا
لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا كَانَتْ:
وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَلِيِّ بْنُ
الْمُعْتَضِدِ. وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ، وَذِكْرُ وَفَاتِهِ:
أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيٌّ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ
أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ ابْنِ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ
الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ بْنِ الْمَهْدِيِّ
بْنِ الْمَنْصُورِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ
الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ مَنِ اسْمُهُ عَلِيٌّ سِوَاهُ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخُلَفَاءِ مَنْ
يُكَنَّى بِأَبِي مُحَمَّدٍ سِوَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُوسَى الْهَادِي،
وَالْمُسْتَضِيءِ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَكَانَ مُوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ
- فِي حَيَاتِهِ - فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَعُمُرُهُ نَحْوٌ
مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ جَمِيلًا
رَقِيقَ اللَّوْنِ حَسَنَ الشِّعْرِ وَافِرَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا وَلَمَّا
مَاتَ أَبُوهُ الْمُعْتَضِدُ وَبَاشَرَ هُوَ مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ دَخَلَ
عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَأَنْشَدَهُ:
أَجَلُّ الرَّزَايَا أَنْ يَمُوتَ إِمَامٌ وَأَسْنَى الْعَطَايَا أَنْ يَقُومَ
إِمَامُ
فَأَسْقَى الَّذِي مَاتَ الْغَمَامُ وَجَادَهُ وَدَامَتْ تَحِيَّاتٌ لَهُ
وَسَلَامُ
وَأَبْقَى الَّذِي قَامَ الْإِلَهُ وَزَادَهُ مَوَاهِبَ لَا يَفْنَى لَهُنَّ
دَوَامُ
وَتَمَّتْ لَهُ الْآمَالُ وَاتَّصَلَتْ بِهَا فَوَائِدُ مَوْصُولٌ بِهِنَّ تَمَامُ
هُوَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ يَكْفِيهِ كُلَّمَا عَنَاهُ بِرُكْنٍ مِنْهُ لَيْسَ
يُرَامُ
فَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ.
وَقَدْ كَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَنْ لِي بَأَنْ يَعْلَمَ مَا أَلْقَى فَيَعْرِفَ الصَّبْوَةَ وَالْعِشْقَا
مَا زَالَ لِي عَبْدًا وَحُبِّي لَهُ صَيَّرَنِي عَبْدًا لَهُ رِقَّا
الْعِتْقُ مِنْ شَأْنِي وَلَكِنَّنِي مِنْ حُبِّهِ لَا أَمْلِكُ الْعِتْقَا
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: عَلَيٌّ مُتَوَكِّلٌ عَلَى رَبِّهِ وَكَانَ لَهُ مِنَ
الْوَلَدِ مُحَمَّدٌ وَجَعْفَرٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ وَمُوسَى وَعَبْدُ اللَّهِ
وَهَارُونُ وَالْفَضْلُ وَعِيسَى وَالْعَبَّاسُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ.
وَفِي أَيَّامِهِ فُتِحَتْ أَنْطَاكِيَةُ وَاسْتُنْقِذَتْ مِنْ أَيْدِي الرُّومِ
وَكَانَ فِيهَا مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ،
وَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَنَائِمِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا كَمَا
تَقَدَّمَ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ سَأَلَ عَنْ أَخِيهِ أَبِي الْفَضْلِ
جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ فَصَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ بَالِغٌ فَأَحْضَرَهُ فِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَحْضَرَ الْقُضَاةَ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ
قَدْ جَعَلَ الْخِلَافَةَ إِلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَقَّبَهُ بِالْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ. وَتُوُفِّيَ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، رَحِمَهُ
اللَّهُ. وَقِيلَ: فِي آخِرِ يَوْمِ السَّبْتِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
وَقِيلَ: بَعْدَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ الْأَحَدِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ وَدُفِنَ فِي دَارِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ
عَنْ ثِنْتَيْنِ، وَقِيلَ: عَنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَكَانَ
قَدْ أَوْصَى بِصَدَقَةٍ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ سِتِّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ كَانَ قَدْ جَمَعَهَا
وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِدَاءِ الْخَنَازِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
خِلَافَةُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْفَضْلِ
جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ
جُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ وَقْتَ السَّحَرِ لِأَرْبَعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي
سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَلَمْ يَلِ الْخِلَافَةَ
أَحَدٌ قَبْلَهُ أَصْغَرَ سِنًّا مِنْهُ، وَلَمَّا أُجْلِسَ فِي مَنْصِبِ
الْخِلَافَةِ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ
بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ بَيْعَةَ الْعَامَّةِ
وَكُتِبَ اسْمُهُ عَلَى الرُّقُومِ وَغَيْرِهَا: الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ. وَكَانَ
فِي بَيْتِ مَالِ الْخَاصَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَفِي
بَيْتِ مَالِ الْعَامَّةِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَنَيِّفٌ، وَكَانَتِ
الْجَوَاهِرُ الثَّمِينَةُ فِي الْحَوَاصِلِ مِنْ لَدُنْ بَنَى أُمَيَّةَ
وَأَيَّامِ بَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ تَنَاهَى جَمْعُهَا فَمَا زَالَ يُفَرِّقُهَا
فِي حَظَايَاهُ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى أَنْفَدَهَا، وَقَدِ اسْتَوْزَرَ جَمَاعَةً
مِنَ الْكُتَّابِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُمْ، مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَلَّاهُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ
ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ ثُمَّ عَزَلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَدْ
تَقَصَّى ذِكْرَهُمْ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ، وَكَانَ لَهُ مِنَ
الْخَدَمِ وَالْحُجَّابِ وَالْحُشْمَةِ التَّامَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ
جَدًّا وَكَانَ كَرِيمًا جِدًّا،
وَفِيهِ عِبَادَةٌ مَعَ هَذَا كُلِّهِ، وَكَثْرَةُ صَلَاةٍ وَصِيَامِ تَطَوُّعٍ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ أَوَّلَ وِلَايَتِهِ فَرَّقَ مِنَ الْأَغْنَامِ
وَالْأَبْقَارِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رَأْسٍ وَمِنَ الْإِبِلِ أَلْفَيْ بَعِيرٍ،
وَرَدَّ الرُّسُومَ وَالْكُلَفَ وَالْأَرْزَاقَ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي
أَوَائِلِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَأَطْلَقَ أَهْلَ الْحُبُوسِ الَّذِينَ يَجُوزُ
إِطْلَاقُهُمْ، وَوَكَلَ أَمْرَ ذَلِكَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ
بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ قَدْ بُنِيَتْ أَبْنِيَةٌ فِي الرَّحْبَةِ دَخْلُهَا فِي
كُلِّ شَهْرٍ أَلْفُ دِينَارٍ فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا لِيُوسِّعَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ الطُّرُقَاتِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَيَّامِهِ
وَتَرْجَمِتِهِ فِيمَا بَعْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُوحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو إِسْحَاقَ
الْمُزَكِّي الْحَافِظُ الزَّاهِدُ إِمَامُ أَهْلِ عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ فِي
مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ وَالْعِلَلِ، وَقَدْ سَمِعَ خَلْقًا مِنَ
الْمَشَايِخِ الْكِبَارِ وَدَخَلَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَذَاكَرَهُ وَكَانَ
مَجْلِسُهُ مَهِيبًا وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ وَكَانَ لَا
يَمْلِكُ إِلَّا دَارَهُ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا وَحَانُوتًا يَسْتَغِلُّهُ
كُلَّ شَهْرٍ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا يُنْفِقُهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَكَانَ
لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَكَانَ يُطْبَخُ لَهُ الْجَزَرُ بِالْخَلِّ
فَيَتَأَدَّمُ بِهِ طُولَ الشِّتَاءِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيٍّ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ: لَمْ تَرَ عَيْنَايَ مِثْلَهُ.
أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ أَحَدُ
أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ، أَبُو الْحُسَيْنِ النُّورِيُّ، وَيُعْرَ فُ بِابْنِ الْبَغَوِيِّ
أَصْلُهُ مِنْ خُرَاسَانَ وَحَدَّثَ عَنْ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ ثُمَّ صَارَ هُوَ
مِنْ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ.
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْمَغَازِلِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَعْبَدَ مِنْ
أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ. قِيلَ لَهُ: وَلَا الْجُنَيْدُ ؟ قَالَ: وَلَا
الْجُنَيْدُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: صَامَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَعْلَمُ بِهِ أَحَدٌ
لَا مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ. وَتُوُفِّيَ فِي مَسْجِدٍ وَهُوَ
مُقَنَّعٌ، فَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَامَانَ السَّامَانِيُّ.
أَحَدُ مُلُوكِ خُرَاسَانَ لِلْخُلَفَاءِ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عَمْرَو بْنَ
اللَّيْثِ الصَّفَّارَ الْخَارِجِيَّ وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
الْمُعْتَضِدِ فَوَلَّاهُ خُرَاسَانَ ثُمَّ وَلَّاهُ الْمُكْتَفِي الرَّىَّ وَمَا
وَرَاءَ النَّهْرِ وَبِلَادَ التُّرْكِ فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا
وَبَنَى الرُّبُطَ فِي الطُّرُقَاتِ، يَسَعُ الرِّبَاطُ مِنْهَا أَلْفَ فَارِسٍ
وَأَوْقَفَ عَلَيْهِمْ أَوْقَافًا جَزِيلَةً وَقَدْ أَهْدَى إِلَيْهِ طَاهِرُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ اللَّيْثِ هَدَايَا عَظِيمَةً، مِنْهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ
جَوْهَرَةً زِنَةُ كُلِّ جَوْهَرَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَّبْعَةِ مَثَاقِيلَ
إِلَى الْعَشَرَةِ، وَبَعْضُهَا أَحْمَرُ وَبَعْضُهَا أَزْرَقُ قِيمَتُهَا مِائَةُ
أَلْفِ دِينَارٍ،
فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْخَلِيفَةِ
الْمُعْتَضِدِ وَشَفَعَ فِي طَاهِرٍ فَشَفَّعَهُ فِيهِ، وَلَمَّا مَاتَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ وَبَلَغَ الْمُكْتَفِيَ مَوْتُهُ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ
أَبِي نُوَاسٍ:
لَنْ يَخْلُفَ الدَّهْرُ مِثْلَهُمْ أَبَدًا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ شَأْنُهُمْ
عَجَبُ
الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ.
صَاحِبُ " عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ " وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْمَرِيُّ الْحَافِظُ رَحَلَ وَسَمِعَ
مِنَ الشُّيُوخِ وَأَدْرَكَ خَلْقًا، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ
وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَالْخُلْدِيُّ
وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ وَحُفَّاظِ الْحَدِيثِ صَدُوقًا ثَبْتًا وَقَدْ
كَانَ يُشَبِّكُ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ مِنَ الْكِبَرِ لِأَنَّهُ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ وَكَانَ يُكَنَّى أَوَّلًا بِأَبِي الْقَاسِمِ ثُمَّ بِأَبِي
عَلِيٍّ وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ لِلْبَرْتِيِّ عَلَى الْقَصْرِ وَأَعْمَالِهَا
وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ الْمَعْمَرِيُّ بِأُمِّهِ أُمِّ الْحَسَنِ بِنْتِ أَبِي
سُفْيَانَ صَاحِبِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِإِحْدَى عَشْرَةَ
لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ، وَاسْمُ أَبِي
شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ أَبُو شُعَيْبٍ الْأُمَوِيُّ
الْحَرَّانِيُّ الْمُؤَدِّبُ الْمُحَدِّثُ ابْنُ الْمُحَدِّثِ وُلِدَ سَنَةَ
سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَسَمِعَ أَبَاهُ وَجَدَّهُ وَعَفَّانَ بْنَ مُسْلِمٍ وَأَبَا خَيْثَمَةَ، كَانَ
صَدُوقًا ثِقَةً مَأْمُونًا، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمُكْتَفِي ابْنُ الْمُعْتَضِدِ، تَقَدَّمَ ذِكْرُ
تَرْجَمَتِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ أَبُو
جَعْفَرٍ التِّرْمِذِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالزُّهْدِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ ثِقَةٌ، كَانَ مَأْمُونًا نَاسِكًا
وَقَالَ الْقَاضِي أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ: لَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
بِالْعِرَاقِ أَرْأَسُ مِنْهُ وَلَا أَشَدُّ وَرَعًا، وَكَانَ مِنَ التَّقَلُّلِ
فِي الْمَطْعَمِ عَلَى حَالَةٍ عَظِيمَةٍ فَقْرًا وَوَرَعًا وَصَبْرًا وَكَانَ
يُنْفِقُ فِي كُلِّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَكَانَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا
شَيْئًا وَكَانَ قَدِ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُوَّادِ وَالْجُنْدِ
عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُعْتَزِّ الْخِلَافَةَ عِوَضًا عَنْهُ، فَأَجَابَهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا
يُسْفَكُ بِسَبَبِهِ دَمٌ، وَكَانَ الْمُقْتَدِرُ قَدْ خَرَجَ لِلَّعِبِ
بِالصَّوَالِجَةِ فَقَصَدَ إِلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ، يُرِيدُ أَنْ
يَفْتِكَ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُقْتَدِرُ الضَّجَّةَ بَادَرَ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ فَأَغْلَقَهَا دُونَ الْجَيْشِ، وَاجْتَمَعَ الْقُوَّادُ
وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، فَبَايَعُوا عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الْمُعْتَزِّ وَخُوطِبَ بِالْخِلَافَةِ وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي بِاللَّهِ،
وَقَالَ الصُّولِيُّ: إِنَّمَا لَقَّبُوهُ الْمُنْتَصِفَ بِاللَّهِ وَاسْتَوْزَرَ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ وَبَعَثَ إِلَى الْمُقْتَدِرِ
يَأْمُرُهُ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ
لِيَنْتَقِلَ هُوَ إِلَيْهَا، فَأُجِيبَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَرَكِبَ
الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ مِنَ الْغَدِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ
لِيَتَسَلَّمَهَا فَقَاتَلَهُ الْخَدَمُ وَمَنْ فِيهَا وَلَمْ يُسَلِّمُوهَا
إِلَيْهِ وَهَزَمُوهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَخْلِيصِ أَهْلِهِ وَبَعْضِ مَالِهِ
إِلَّا بِالْجَهْدِ الْجَهِيدِ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمُ ارْتَحَلَ مِنْ
فَوْرِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ فَتَفَرَّقَ نِظَامُ ابْنِ الْمُعْتَزِّ وَجَمَاعَتِهِ
فَأَرَادَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى سَامَرَّا
لِيَنْزِلَهَا فَلَمْ يَتْبَعْهُ
أَحَدٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ فَدَخَلَ دَارَ ابْنِ الْجَصَّاصِ فَاسْتَجَارَ بِهِ،
وَوَقَعَ النَّهْبُ فِي الْبَلَدِ وَاخْتَبَطَ النَّاسُ وَبَعَثَ الْمُقْتَدِرُ
إِلَى أَصْحَابِ ابْنِ الْمُعْتَزِّ فَقَبَضَ عَلَيْهِمْ وَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ
وَأَعَادَ ابْنَ الْفُرَاتِ إِلَى الْوِزَارَةِ فَجَدَّدَ الْبَيْعَةَ
لِلْمُقْتَدِرِ وَأَرْسَلَ إِلَى دَارِ ابْنِ الْجَصَّاصِ فَكَبَسهَا وَأَحْضَرَ
ابْنَ الْمُعْتَزِّ وَابْنَ الْجَصَّاصِ فَصَادَرَ ابْنَ الْجَصَّاصِ بِمَالٍ
جَزِيلٍ جِدًّا، يُقَالُ: إِنَّهُ وَزَنَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ
ثُمَّ أَطْلَقَهُ وَاعْتَقَلَ ابْنَ الْمُعْتَزِّ فَلَمَّا دَخَلَ فِي رَبِيعٍ
الْآخَرِ لَيْلَتَانِ ظَهَرَ لِلنَّاسِ مَوْتُهُ وَأُخْرِجَتْ جُثَّتُهُ
فَسُلِّمَتْ إِلَى أَهْلِهِ فَدُفِنَ، وَصَفَحَ الْمُقْتَدِرُ عَنْ بَقِيَّةِ مَنْ
بَقِيَ فِي هَذِهِ الْفِتْنَةِ حَتَّى لَا تَفْسَدَ نِيَّاتُ النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا يُعْرَفُ خَلِيفَةٌ خُلِعَ ثُمَّ أُعِيدَ سِوَى
الْأَمِينِ وَالْمُقْتَدِرِ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ لِأَرْبَعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَقَطَ
بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى الْأَسْطِحَةِ مِنْهُ نَحْوٌ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ وَهَذَا يُسْتَغْرَبُ فِي بَغْدَادَ جِدًّا وَلَمْ
تَخْرُجِ السَّنَةُ حَتَّى خَرَجَ النَّاسُ لِلِاسْتِسْقَاءِ مِنْ تَأَخُّرِ
الْمَطَرِ عَنْ أَيَّامِهِ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا خُلِعَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَأُمِرَ بِالْمَسِيرِ
إِلَى طَرَسُوسَ لِغَزْوِ الرُّومِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِأَنْ لَا يُسْتَخْدَمَ أَحَدٌ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الدَّوَاوِينِ وَأُلْزِمُوا بُيُوتَهُمْ وَأُمِرُوا
بِلُبْسِ الْعَسَلِيِّ وَجَعْلِ الرِّقَاعِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ
لِيُعْرَفُوا بِهَا وَأَلْزِمُوا
بِالذُّلِّ حَيْثُ كَانُوا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْهَاشِمِيُّ وَرَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ قِلَّةِ الْمَاءِ
بِالطَّرِيقِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي عَتَّابٍ أَبُو بَكْرٍ الْبَغْدَادِيُّ
الْحَافِظُ.
وَيُعَرَفُ بِأَخِي مَيْمُونٍ رَوَى عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ
وَغَيْرِهِ وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ أَنْ
يُحَدِّثَ وَإِنَّمَا يُسْمَعُ مِنْهُ فِي الْمُذَاكَرَاتِ، تُوُفِّيَ فِي
شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ أَبُو بَكْرٍ الطَّائِيُّ الْأَثْرَمُ،
تِلْمِيذُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، سَمِعَ عَفَّانَ وَأَبَا الْوَلِيدِ
وَالْقَعْنَبِيَّ وَأَبَا نُعَيْمٍ وَخَلْقًا كَثِيرًا وَكَانَ حَاذِقًا صَادِقًا
قَوِيَّ الذَّاكِرَةِ، كَانَ ابْنُ مَعِينٍ يَقُولُ عَنْهُ: كَانَ أَحَدُ
أَبَوَيْهِ جِنِّيًّا. لِسُرْعَةِ فَهْمِهِ وَحِفْظِهِ وَحِذْقِهِ، وَلَهُ كُتُبٌ
مُصَنَّفَةٌ فِي الْعِلَلِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَكَانَ مِنْ بُحُورِ
الْعِلْمِ.
خَلَفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْعُكْبَرِيُّ سَمِعَ الْحَدِيثَ وَكَانَ ظَرِيفًا، لَهُ
ثَلَاثُونَ خَاتَمًا وَثَلَاثُونَ عُكَّازًا يَلْبَسُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ
الشَّهْرِ خَاتَمًا وَيَأْخُذُ فِي يَدِهِ عُكَّازًا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ ذَلِكَ
فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَكَانَ لَهُ سَوْطٌ مُعَلَّقٌ فِي مَنْزِلِهِ فَإِذَا
سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، يَقُولُ: لِيَرْهَبَ الْعِيَالُ مِنْهُ
ابْنُ الْمُعْتَزِّ الشَّاعِرُ الَّذِي بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ بِاللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى
اللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بِاللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الرَّشِيدِ
هَارُونَ، يُكَنَّى ابْنَ الْمُعْتَزِّ أَبَا الْعَبَّاسِ، الشَّاعِرُ
الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ الْفَصِيحُ الْبَلِيغُ الْمُطْبِقُ، وَقُرَيْشٌ
قَادَةُ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْمُبَرِّدَ
وَثَعْلَبًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحَكَمِ وَالْآدَابِ شَيْءٌ كَثِيرٌ،
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: أَنْفَاسُ الْحَيِّ خُطَاهُ. أَهْلُ الدُّنْيَا رَكْبٌ
يُسَارُ بِهِمْ وَهُمْ نِيَامٌ. رُبَّمَا أَوْرَدَ الطَّمَعُ وَلَمْ يُصْدِرْ.
رُبَّمَا شَرِقَ شَارِبُ الْمَاءِ قَبْلَ رِيِّهِ. مَنْ تَجَاوَزَ الْكَفَافَ لَمْ
يُغْنِهِ الْإِكْثَارُ، كُلَّمَا عَظُمَ قَدْرُ الْمُنَافَسِ فِيهِ عَظُمَتِ
الْفَجِيعَةُ بِهِ. مَنِ ارْتَحَلَهُ الْحِرْصُ أَضْنَاهُ الطَّلَبُ. الْحِرْصُ يُنْقِصُ
مِنْ قَدْرِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَزِيدُ فِي حَظِّهِ. أَشْقَى النَّاسِ
أَقْرَبُهُمْ مِنَ
السُّلْطَانِ كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ
الْأَشْيَاءِ إِلَى النَّارِ أَسْرَعُهَا احْتِرَاقًا. مَنْ شَارَكَ السُّلْطَانَ
فِي عِزِّ الدُّنْيَا شَارَكَهُ فِي ذُلِّ الْآخِرَةِ. يَكْفِيكَ مِنَ الْحَاسِدِ
أَنَّهُ يَغْتَمُّ وَقْتَ سُرُورِكَ. الْفُرْصَةُ سَرِيعَةُ الْفَوْتِ بَعِيدَةُ
الْعَوْدِ. الْأَسْرَارُ إِذَا كَثُرَ خُزَّانُهَا ازْدَادَتْ ضَيَاعًا. الْعَزْلُ
يَضْحَكُ مِنْ تِيهِ الْوِلَايَةِ. الْجَزَعُ أَتَعَبُ مِنَ الصَّبْرِ. لَا تَشِنْ
وَجْهَ الْعَفْوِ بِالتَّقْرِيعِ. تَرِكَةُ الْمَيِّتِ عِزٌّ لِلْوَرَثَةِ. إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ وَحِكَمِهِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ فِي الْحِكَمِ مِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَعْنَى الْأَخِيرَ
قَوْلُهُ
سَابِقْ إِلَى مَالِكَ وُرَّاثَّهُ مَا الْمَرْءُ فِي الدُّنْيَا بِلَبَّاثِ كَمْ
صَامِتٍ يَخْنُقُ أَكْيَاسَهُ
قَدْ صَاحَ فِي مِيزَانِ مِيرَاثِ
وَلَهُ أَيْضًا:
يا ذَا الْغِنَى وَالسَّطْوَةِ الْقَاهِرَهْ وَالدَّوْلَةِ النَّاهِيَةِ
الْآمِرَهْ
وَيَا شَيَاطِينَ بَنِي آدَمَ وَيَا عَبِيدَ الشَّهْوَةِ الْفَاجِرَهْ
انْتَظِرُوا الدُّنْيَا فَقَدِ أَقْرَبَتْ وَعَنْ قَلِيلٍ تَلِدُ الْآخِرَهْ
وَلَهُ أَيْضًا:
ابْكِ يا نَفْسُ وَهَاتِي تَوْبَةً
قَبْلَ الْمَمَاتِ
قَبْلَ أَنْ يَفْجَعَنَا الدَّهْ رُ بِبَيْنٍ وَشَتَاتِ
لَا تَخُونِينِي إِذَا مِ تُّ وَقَامَتْ بِي نُعَاتِي
إِنَّمَا الْوَافِي بِعَهْدِي مَنْ وَفَى بَعْدَ وَفَاتِي
قَالَ الصُّولِيُّ: نَظَرَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ الْخَلِيفَةِ
إِلَى جَارِيَةٍ فَأَعْجَبَتْهُ فَمَرِضَ مِنْ حُبِّهَا فَدَخَلَ أَبُوهُ عَلَيْهِ
عَائِدًا، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَيُّهَا الْعَاذِلُونَ لَا تَعْذِلُونِي وَانْظُرُوا حُسْنَ وَجْهِهَا
تَعْذُرُونِي
وَانْظُرُوا هَلْ تَرَوُنَ أَحْسَنَ مِنْهَا إِنْ رَأَيْتُمْ شَبِيهَهَا
فَاعْذِلُونِي
قَالَ: فَفَحَصَ أَبُوهُ عَنِ الْقَضِيَّةِ وَاسْتَعْلَمَ خَبَرَ الْجَارِيَةِ
ثُمَّ بَعَثَ إِلَى سَيِّدِهَا فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ
وَبَعَثَهَا إِلَيْهِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَ
الْقُوَّادُ وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ هَذَا، وَلُقِّبَ بِالْمُرْتَضِي
وَالْمُنْتَصِفِ بِاللَّهِ فَمَا مَكَثَ فِي الْخِلَافَةِ إِلَّا يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ ثُمَّ غَالَبَ الْمُقْتَدِرُ وَقَتَلَ عَامَّةَ مَنْ خَرَجَ
عَلَيْهِ وَاعْتَقَلَهُ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، وَوَكَلَ بِهِ يُونُسَ
الْخَادِمَ، فَقُتِلَ فِي أَوَائِلِ رَبِيعٍ الْآخَرِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا
مِنْهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَنْشَدَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ حَيَاتِهِ:
يَا نَفْسُ صَبْرًا لَعَلَّ الْخَيْرَ
عُقْبَاكِ خَانَتْكَ مِنْ بَعْدِ طُولِ الْأَمْنِ دُنْيَاكِ
مَرَّتْ بِنَا سَحَرًا طَيْرٌ فَقُلْتُ لَهَا طُوبَاكِ يَا لَيْتَنِي إِيَّاكِ
طُوبَاكِ
إِنْ كَانَ قَصْدُكِ شَرْقًا فَالسَّلَامُ عَلَى شَاطِي الصَّرَاةِ ابْلِغِي إِنْ
كَانَ مَسْرَاكِ
مِنْ مُوثَقٍ بِالْمَنَايَا لَا فِكَاكَ لَهُ يَبْكِي الدِّمَاءَ عَلَى إِلْفٍ
لَهُ بَاكِي
فَرُبَّ آمِنَةٍ جَاءَتْ مَنِيَّتُهَا وَرُبَّ مُفْلِتَةٍ مِنْ بَيْنِ أَشْرَاكِ
أَظُنُّهُ آخِرَ الْأَيَّامِ مِنْ عُمُرِي وَأَوْشَكَ الْيَوْمَ أَنْ يَبْكِي لِيَ
الْبَاكِي
وَلَمَّا قُدِّمَ لِيُقْتَلَ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَقُلْ لْلشَّامِتِينَ بِنَا رُوَيْدًا أَمَامَكُمُ الْمَصَائِبُ وَالْخُطُوبُ
هُوَ الدَّهْرُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِلَيْكُمُ مِنْهُ ذُنُوبُ
ثُمَّ كَانَ ظُهُورُ قَتْلِهِ لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً،
مِنْهَا: " طَبَقَاتُ الشُّعَرَاءِ " وَكِتَابُ " أَشْعَارِ
الْمُلُوكِ " وَكِتَابُ " الْآدَابِ " وَكِتَابُ " الْبَدِيعِ
" وَكِتَابٌ فِي الْغِنَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَذَكَرَ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ
الْأُمَرَاءِ خَلَعُوا الْمُقْتَدِرَ وَبَايَعُوهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً ثُمَّ
تَمَزَّقَ شَمْلُهُ وَاخْتَفَى فِي بَيْتِ ابْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِىِّ ثُمَّ
ظُهِرَ عَلَيْهِ فَقُتِلَ وَصُودِرَ ابْنُ الْجَصَّاصِ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ
وَبَقِيَ مَعَهُ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
قِيلَ: وَكَانَ أَسْمَرَ اللَّوْنِ مَسْنُونَ الْوَجْهِ يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ
عَاشَ خَمْسِينَ
سَنَةً وَذَكَرَ شَيْئًا مِنْ
كَلَامِهِ وَأَشْعَارِهِ رَحِمَهُ اللِّهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَبِيبٍ.
أَبُو حُصَيْنٍ الْوَادِعِيُّ الْقَاضِي صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " مِنْ
أَهْلِ الْكُوفَةِ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ
الْيَرْبُوعِيِّ وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَجَنْدَلِ بْنِ وَالِقٍ،
وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالنَّجَّادُ وَالْمَحَامِلِيُّ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ ثِقَةً تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْكَاتِبُ عَمُّ
الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْأَخْبَارِ
وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي ذَلِكَ رَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ
شَبَّةَ وَغَيْرِهِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَنْ
ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا غَزَا الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا الصَّائِفَةَ وَفَادَى مُؤْنِسٌ الْخَادِمٌ
الْأُسَارَى الَّذِينَ بِأَيْدِي الرُّومِ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ ثَابِتِ بْنِ سِنَانٍ أَنَّهُ رَأَى فِي أَيَّامِ
الْمُقْتَدِرِ بِبَغْدَادَ امْرَأَةً بِلَا ذِرَاعَيْنِ وَلَا عَضُدَيْنِ
وَإِنَّمَا كَفَّاهَا مُلْصَقَانِ بِكَتِفَيْهَا لَكِنْ لَا تَعْمَلُ بِهِمَا
شَيْئًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَعْمَلُ بِرِجْلَيْهَا مَا تَعْمَلُهُ النِّسَاءُ
بِأَيْدِيهنَّ مِنَ الْغَزَلِ وَمَشْطِ الرَّأْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَتَأَخَّرَتِ الْأَمْطَارُ عَنْ بَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَارْتَفَعَتِ
الْأَسْعَارُ بِهَا وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ
تَعَالَى جَاءَهَا سَيْلٌ عَظِيمٌ بِحَيْثُ إِنَّ أَرْكَانَ الْبَيْتِ غَرِقَتْ
مِنَ السُّيُولِ، وَإِنَّ زَمْزَمَ فَاضَتْ وَلَمْ يُرَ ذَلِكَ قَبْلَ هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفَّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ.
أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ ابْنُ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيُّ ابْنُ
الظَّاهِرِيِّ كَانَ عَالِمًا بَارِعًا
أَدِيبًا شَاعِرًا فَقِيهًا مَاهِرًا، وَهُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ "
الزُّهَرَةِ " اشْتَغَلَ عَلَى أَبِيهِ وَتَبِعَهُ فِي مَذْهَبِهِ وَمَا
كَانَ يَسْلُكُهُ يَخْتَارُهُ مِنَ الطَّرِيقِ وَيَرْتَضِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ
يُحِبُّهُ وَيُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ.
قَالَ رُوَيْمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ دَاوُدَ إِذْ دَخَلَ
ابْنُهُ مُحَمَّدٌ بَاكِيًا، فَقَالَ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ الصِّبْيَانَ
يُلَقِّبُونَنِي عُصْفُورَ الشَّوْكِ، فَضَحِكَ أَبُوهُ فَاشْتَدَّ غَضَبُ
وَلَدِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَضَرُّ عَلَيَّ مِنْهُمْ، فَضَمَّهُ أَبَوْهُ
إِلَيْهِ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا الْأَلْقَابُ إِلَّا مِنَ
السَّمَاءِ مَا أَنْتَ يَا بُنَيَّ إِلَّا عُصْفُورُ الشَّوْكِ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ أُجْلِسَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ هَذَا فِي مَكَانِهِ فِي
الْحَلْقَةِ فَاسْتَصْغَرَهُ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَسَأَلَهُ سَائِلٌ يَوْمًا
عَنْ حَدِّ السُّكْرِ فَقَالَ: إِذَا عَزَبَتْ عَنْهُ الْهُمُومُ وَبَاحَ
بِسِرِّهِ الْمَكْتُومِ. فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَقَدِ ابْتُلِيَ
بِحُبِّ صَبِيٍّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ جَامِعٍ وَيُقَالُ مُحَمَّدُ بْنُ
زُخْرُفٍ، فَاسْتَعْمَلَ الْعَفَافَ وَالدِّينَ فِي حُبِّهِ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبَهُ فِيهِ حَتَّى كَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ فِي ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَدَخَلَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا
عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا عَنْهُ:
" مَنْ عَشِقَ فَكَتَمَ فَعَفَّ
فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا " وَقَدْ قِيلَ عَنْهُ إِنَّهُ كَانَ يُبِيحُ
الْعِشْقَ بِشَرْطِ الْعَفَافِ.
وَحَكَى هُوَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَعَشَّقُ مُنْذُ كَانَ فِي
الْكُتَّابِ وَأَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابَ " الزُّهَرَةِ " فِي ذَلِكَ مِنْ
صِغَرِهِ، وَرُبَّمَا وَقَفَ أَبُوهُ دَاوُدُ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَكَانَ
يَتَنَاظَرُ هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ كَثِيرًا بِحَضْرَةِ
الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ فَيَعْجَبُ النَّاسُ مِنْ
مُنَاظَرَتِهِمَا وَحُسْنِهَا. وَقَدْ قَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ يَوْمًا فِي
مُنَاظَرَتِهِ: أَنْتَ بِكِتَابِ " الزُّهَرَةِ " أَشْهَرُ مِنْكَ
بِهَذَا. فَقَالَ لَهُ: تُعَيِّرُنِي بِكِتَابِ " الزُّهَرَةِ "
وَأَنْتَ لَا تُحْسِنُ تَسْتَتِمُّ قِرَاءَتَهُ وَهُوَ كِتَابٌ جَمَعْنَاهُ
هَزْلًا فَاجْمَعْ أَنْتَ مِثْلَهُ جِدًّا.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: كُنْتُ يَوْمًا أَنَا
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُدَ رَاكِبَيْنَ: فَإِذَا جَارِيَةٌ تُغَنِّي بِشَيْءٍ
مِنْ شِعْرِهِ:
أَشْكُو عَلِيلَ فُؤَادٍ أَنْتَ مُتْلِفَهُ شَكْوَى عَلِيلٍ إِلَى إِلْفٍ
يُعَلِّلُهُ سُقْمِي تَزِيدُ عَلَى الْأَيَّامِ كَثْرَتُهُ
وَأَنْتَ فِي عُظْمِ مَا أَلْقَى تُقَلِّلُهُ اللَّهُ حَرَّمَ قَتْلِي فِي
الْهَوَى أَسَفًا
وَأَنْتَ يَا قَاتِلِي ظُلْمًا تُحَلِّلُهُ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ: كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى
اسْتِرْجَاعِ هَذَا ؟ فَقُلْتُ:
هَيْهَاتَ سَارَتْ بِهِ الرُّكْبَانُ.
كَانَتْ وَفَاةُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَجَلَسَ ابْنُ سُرَيْجٍ لَعَزَاهُ وَقَالَ: مَا آسَى
إِلَّا عَلَى التُّرَابِ الَّذِي أَكَلَ لِسَانَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ
وَخَلْقٍ وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَالْبَاغَنْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ
وَلَهُ كِتَابٌ فِي التَّارِيخِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ وَقَدْ وَثَّقَهُ
صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ وَغَيْرُهُ وَكَذَّبَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَقَالَ: هُوَ كَذَّابٌ بَيِّنُ الْأَمْرِ. وَتَعَجَّبَ
مِمَّنْ يَرْوِي عَنْهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ مِنْ
بَيْتِ الْإِمَارَةِ وَالْحِشْمَةِ، بَاشَرَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ مُدَّةً ثُمَّ
خُرَاسَانَ ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ يَعْقُوبُ بْنُ اللَّيْثِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ فَأَسَرَهُ، وَبَقِيَ مَعَهُ يَطُوفُ بِهِ فِي الْآفَاقِ أَرْبَعَ
سِنِينَ ثُمَّ نَجَا فِي بَعْضِ الْوَقَعَاتِ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا
بِبَغْدَادَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْصَارِىُّ الْخَطْمِىُّ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ سَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَلِيَّ بْنَ
الْجَعْدِ وَغَيْرَهُمْ وَحَدَّثَ عَنْهُ النَّاسُ وَهُوَ شَابٌّ، وَقَرَءُوا
عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَكَانَ يَنْتَحِلُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَوَلِيَ قَضَاءَ
الرَّيِّ وَالْأَهْوَازِ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا نَبِيلًا عَفِيفًا فَصِيحًا
كَثِيرَ الْحَدِيثِ، تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالِدُ
الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، قَاتِلِ الْحَلَّاجِ وَكَانَ
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ هَذَا مِنْ أَكَابِرِ الْقُضَاةِ وَأَعْيَانِ
الْعُلَمَاءِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمِائَتَيْنِ وَسَمِعَ سُلَيْمَانَ بْنَ
حَرْبٍ وَعَمْرَو بْنَ مَرْزُوقٍ وَهُدْبَةَ وَمُسَدَّدًا، وَغَيْرَهُمْ. وَكَانَ
ثِقَةً، وَقَدْ وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَوَاسِطَ وَالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ
مِنْ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً نَزِهًا عَفِيفًا شَدِيدَ الْحُرْمَةِ جَاءَهُ
يَوْمًا بَعْضُ خَدَمِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ فَرُفِعَ فِي الْمَجْلِسِ،
فَأَمَرَهُ حَاجِبُ الْقَاضِي أَنْ يُسَاوِيَ خَصْمَهُ، فَامْتَنَعَ إِدْلَالًا
بِجَاهِهِ عِنْدَهُ فَنَهَرَهُ الْقَاضِي وَقَالَ: ائْتُونِي بِدَلَّالِ النَّخْسِ
حَتَّى أَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ وَأَبْعَثَ بِثَمَنِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ،
وَجَاءَ حَاجِبُ الْقَاضِي، فَأَخْذَهُ بِيَدِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَ خَصْمِهِ،
فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ
رَجَعَ الْخَادِمُ إِلَى الْمُعْتَضِدِ فَبَكَى بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْقَاضِي فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ بَاعَكَ لَأَجَزْتُ بَيْعَهُ وَلَمَا اسْتَرْجَعْتُكَ أَبَدًا، فَلَيْسَ خُصُوصِيَّتُكَ عِنْدِي تُزِيلُ مَرْتَبَةَ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ عَمُودُ السُّلْطَانِ وَقِوَامُ الْأَدْيَانِ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
فِيهَا قَدِمَ الْقَاسِمُ بْنُ سِيمَا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَمَعَهُ الْأُسَارَى وَالْعُلُوجُ بِأَيْدِيهِمْ أَعْلَامٌ عَلَيْهَا صُلْبَانٌ
مِنْ ذَهَبٍ وَخَلْقٌ مِنَ الْأُسَارَى.
وَفِيهَا قَدِمَتْ هَدَايَا مِنْ نَائِبِ خُرَاسَانَ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِىِّ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ غُلَامًا
بِمَرَاكِبِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ وَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَخَمْسُونَ
بَازِيًّا وَخَمْسُونَ جَمَلًا تَحْمِلُ مِنْ مُرْتَفِعِ الثِّيَابَ وَخَمْسُونَ
رِطْلًا مِنْ مِسْكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا فُلِجَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَقُلِّدَ مَكَانَهُ عَلَى الْجَانِبِ
الشَّرْقِيِّ وَالْكَرْخِ ابْنَهُ مُحَمَّدٌ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا أُخِذَ رَجُلَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا أَبُو كَثِيرَةَ
وَالْآخَرُ يُعْرَفُ بِالشِّمْرِيِّ فَذَكَرَا أَنَّهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَجُلٍ
يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ وَأَنَّهُ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الرُّومَ قَصَدَتِ اللَّاذِقِيَّةَ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ
بِأَنَّ رِيحًا صَفْرَاءَ هَبَّتْ بِحَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ فَمَاتَ مِنْ حَرِّهَا
بِشَرٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الْفَضْلُ الْهَاشِمِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ.
الزِّنْدِيقُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ الزَّنَادِقَةِ الْمُلْحِدِينَ
- عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - كَانَ أَبُوهُ يَهُودِيًّا
فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ حَرَّفَ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا
عَادَى ابْنُهُ الْقُرْآنَ بِالْقُرْآنِ وَأَلْحَدَ فِيهِ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي
الرَّدِّ عَلَى الْقُرْآنِ سَمَّاهُ " الدَّامِغَ " وَكِتَابًا فِي
الرَّدِّ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا سَمَّاهُ "
الزُّمُرُّدَ " وَلَهُ كِتَابُ " التَّاجِ " فِي مَعْنَى ذَلِكَ
وَلَهُ كِتَابُ " الْفَرِيدِ " وَكِتَابُ " إِمَامَةِ الْمَفْضُولِ
".
وَقَدِ انْتَصَبَ لِلرَّدِّ عَلَى كُتُبِهِ هَذِهِ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمُ الشَّيْخُ
أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيُّ شَيْخُ
الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ وَقَدْ أَجَادَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ
أَبُو هَاشِمٍ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ
أَبِي عَلِيٍّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: قَرَأْتُ كِتَابَ الْمُلْحِدِ
الْجَاهِلِ السَّفِيهِ ابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ فِلْمْ أَجِدْ فِيهِ إِلَّا
السَّفَهَ وَالْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ.
قَالَ: وَقَدْ وَضَعَ كِتَابًا فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَفْيِ الصَّانِعِ
وَتَصْحِيحِ مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ التَّوْحِيدِ
وَوَضَعَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ، وَنَسَبَهُ
إِلَى الْكَذِبِ، وَطَعَنَ عَلَى الْقُرْآنِ وَوَضَعَ كِتَابًا لِلْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى وَفَضَّلَ دِينَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، يَحْتَجُّ لَهُمْ فِيهَا
عَلَى إِبْطَالِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي تُبَيِّنُ خُرُوجَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ،
نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " طَرَفًا مِنْ
كَلَامِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَطَعْنِهِ عَلَى الْآيَاتِ وَالشَّرِيعَةِ وَرَدَّ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَقَلُّ وَأَخَسُّ وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ يُلْتَفَتَ
إِلَيْهِ وَإِلَى جَهْلِهِ وَكَلَامِهِ وَهَذَيَانِهِ وَسَفَهِهِ وَخِذْلَانِهِ
وَتَمْوِيهِهِ وَتَرْوِيجِهِ وَطُغْيَانِهِ.
وَقَدْ أَسْنَدَ إِلَيْهِ حِكَايَاتٍ مِنَ الْمَسْخَرَةِ وَالِاسْتِهْتَارِ
وَالْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ، مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ، وَمِنْهَا مَا هُوَ
مُفْتَعَلٌ عَلَيْهِ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ وَعَلَى طَرِيقِهِ وَمَسْلَكِهِ
فِي الْكُفْرِ وَالتَّسَتُّرِ
بِالْمَسْخَرَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ [ التَّوْبَةِ: 65، 66 ].
وَقَدْ كَانَ أَبُو عِيسَى الْوَرَّاقُ مُصَاحِبًا لِابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ -
قَبَّحَهُمَا اللَّهُ - فَلَمَّا عَلِمَ النَّاسُ بِأَمْرِهِمَا طَلَبَ
السُّلْطَانُ أَبَا عِيسَى، فَأُودِعَ السِّجْنَ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَأَمَّا ابْنُ
الرَّاوَنْدِيِّ فَهَرَبَ وَلَجَأَ إِلَى ابْنِ لَاوِي الْيَهُودِيِّ وَصَنَّفَ
لَهُ فِي مُدَّةِ مُقَامِهِ عَنْهُ كِتَابَهُ الَّذِي سَمَّاهُ " الدَّامِغَ
لِلْقُرْآنِ " فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا أَيَّامًا يَسِيرَةً حَتَّى
مَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ أُخِذَ وَصُلِبَ.
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ: وَرَأَيْتُ فِي كِتَابٍ مُحَقَّقٍ أَنَّهُ
عَاشَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً مَعَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ مِنَ التَّوَغُّلِ
فِي الْمَخَازِي، لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُ وَلَا رَحِمَ عِظَامَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ "
وَدَلَّسَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْرَحْهُ بِشَيْءٍ وَلَا كَأَنَّ الْكَلْبَ أَكَلَ
لَهُ عَجِينًا عَلَى عَادَتِهِ فِي الْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، فَالشُّعَرَاءُ
يُطِيلُ تَرَاجِمَهُمْ، وَالْعُلَمَاءُ يَذْكُرُ لَهُمْ تَرْجَمَةً يَسِيرَةً،
وَالزَّنَادِقَةُ يَتْرُكُ ذِكْرَ
زَنْدَقَتِهِمْ وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ وَقَدْ وَهِمَ وَهْمًا فَاحِشًا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَوَفَّى فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا أَرَّخَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ.
الْجُنَيْدُ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجُنَيْدِ أَبُو الْقَاسِمِ الْخَزَّازُ
وَيُقَالُ الْقَوَارِيرِيُّ أَصْلُهُ مِنْ نَهَاوَنْدَ وُلِدَ بِبَغْدَادَ
وَنَشَأَ بِهَا وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَتَفَقَّهَ
بِأَبَى ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْكَلْبِيٍّ وَكَانَ يُفْتِي
بِحَضْرَتِهِ وَعُمُرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " وَاشْتُهِرَ بِصُحْبَةِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ
الْمُحَاسِبِيِّ وَخَالِهِ سَرِيٍّ السَّقَطِيِّ وَلَازَمَ التَّعَبُّدَ،
وَتَكَلَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ وَكَانَ وِرْدُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
ثَلَاثَمِائَةِ رَكْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً لَا يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَعْرِفُ سَائِرَ فُنُونِ
الْعِلْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ
يَتْلُو الْقُرْآنَ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ رَفَقْتَ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: مَا أَحَدٌ
أَحْوَجَ إِلَى ذَلِكَ مِنِّي الْآنَ وَهَذَا أَوَانُ طَيِّ صَحِيفَتِي.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ صَاحِبِ
الشَّافِعِيِّ، وَيُقَالُ: كَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَكَانَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَصْحَبُهُ وَيُلَازِمُهُ.
قَالَ: وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْعَارِفِ، فَقَالَ: مِنْ نَطَقَ عَنْ سِرِّكَ
وَأَنْتَ سَاكِتٌ وَكَانَ يَقُولُ: مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأِ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا
يُقْتَدَى بِهِ فِي مَذْهَبِنَا وَطَرِيقَتِنَا. وَرَأَى بَعْضُهُمْ مَعَهُ
سُبْحَةً، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَتَّخِذُ سُبْحَةً ؟ فَقَالَ:
طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ لَا أُفَارِقُهُ.
وَقَالَ لَهُ خَالُهُ السِّرِيُّ
السَّقَطِيُّ: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ فَلَمْ يَرَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مَوْضِعًا،
فَرَأَى فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ
يَقُولُ لَهُ: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ، فَغَدَا عَلَى خَالِهِ فَقَالَ لَهُ
خَالُهُ: لَمْ تُصَدِّقْنَا حَتَّى قِيلَ لَكَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ عَلَى
النَّاسِ، فَجَاءَهُ يَوْمًا شَابٌّ نَصْرَانِيٌّ فِي صُورَةِ مُسْلِمٍ، فَقَالَ
لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَاتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ
اللَّهِ ؟ قَالَ: فَأَطْرَقْتُ ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِي إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ:
أَسْلِمْ فَقَدْ آنَ وَقْتُ إِسْلَامِكَ. قَالَ: فَأَسْلَمَ الْغُلَامُ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: مَا انْتَفَعْتُ بِشَيْءٍ انْتِفَاعِي بِأَبْيَاتٍ
سَمِعْتُهَا مِنْ جَارِيَةٍ تُغَنِّي بِهَا فِي غُرْفَةٍ وَهِيَ تَقُولُ:
إِذَا قُلْتُ أَهْدَى الْهَجْرُ لِي حُلَلَ الْبِلَى تَقُولِينَ لَوْلَا الْهَجْرُ
لَمْ يَطِبِ الْحُبُّ وَإِنْ قُلْتُ هَذَا الْقَلْبُ أَحْرَقَهُ الْجَوَى
تَقُولِي بِنِيرَانِ الْجَوَى شَرُفَ الْقَلْبُ وَإِنْ قُلْتُ مَا أَذْنَبْتُ
قَالَتْ مُجِيبَةً
حَيَاتُكَ ذَنْبٌ لَا يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
قَالَ: فَصُعِقْتُ وَصِحْتُ فَخَرَجَ صَاحِبُ الدَّارِ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي مَا
لَكَ ؟ قُلْتُ: مِمَّا سَمِعْتُ.
فَقَالَ: هِيَ هِبَةٌ مِنِّي إِلَيْكَ، فَقُلْتُ: قَدْ قَبِلْتُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ
لِوَجْهِ اللَّهِ، ثُمَّ زَوَّجْتُهَا لِرَجُلٍ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدًا صَالِحًا
حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ ثَلَاثِينَ حِجَّةً.
سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو عُثْمَانَ الْوَاعِظُ.
وُلِدَ بِالرَّيِّ وَنَشَأَ بِهَا ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى نَيْسَابُورَ فَسَكَنَهَا
إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا وَقَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ وَيُقَالُ إِنَّهُ كَانَ مُجَابَ
الدَّعْوَةِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْكَرِيمَ بْنُ هَوَازِنَ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
مُحَمَّدٍ الشَّعْرَانِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ يَقُولُ مُنْذُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا أَقَامَنِي اللَّهُ فِي حَالٍ فَكَرِهْتُهُ وَلَا
نَقَلَنِي إِلَى غَيْرِهَا فَسَخِطْتُهُ.
وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ يُنْشِدُ:
أَسَأْتُ وَلَمْ أُحْسِنْ وَجِئْتُكَ هَارِبًا وَأَيْنَ لِعَبْدٍ عَنْ مَوَالِيهِ
مَهْرَبُ
يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا فَإِنْ خَابَ ظَنُّهُ فَمَا أَحَدٌ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ
أَخْيَبُ
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُّ أَعْمَالِكَ أَرْجَى عِنْدَكَ ؟ فَقَالَ:
إِنِّي لَمَّا تَرَعْرَعْتُ وَأَنَا بِالرَّيِّ وَكَانُوا يُرِيدُونَنِي عَلَى
التَّزْوِيجِ فَأَمْتَنِعُ فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا
عُثْمَانَ قَدْ أَحْبَبْتُكَ حُبًّا أَذْهَبَ نَوْمِي وَقَرَارِي وَأَنَا أَسْأَلُكَ
بِمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ وَأَتَوَسَّلُ بِهِ إِلَيْكَ لَمَا تَزَوَّجْتَنِي،
فَقُلْتُ: أَلِكِ وَالِدٌ ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ.
فَأَحْضَرَتْهُ فَاسْتَدْعَى
بِالشُّهُودِ فَتَزَوَّجْتُهَا فَلَمَّا خَلَوْتُ بِهَا إِذَا هِيَ عَوْرَاءُ
عَرْجَاءُ مُشَوَّهَةُ الْخَلْقِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا
قَدَّرْتَهُ لِي، وَكَانَ أَهْلُ بَيْتِي يَلُومُونَنِي عَلَى تَزْوِيجِي بِهَا
فَكُنْتُ أَزِيدُهَا بِرًّا وَإِكْرَامًا وَرُبَّمَا احْتَبَسَتْنِي عِنْدَهَا
وَمَنَعَتْنِي مِنَ الْحُضُورِ إِلَى بَعْضِ الْمَجَالِسِ وَكَأَنِّي فِي بَعْضِ
أَوْقَاتِي عَلَى الْجَمْرِ وَأَنَا لَا أُبْدِي لَهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
فَمَكَثْتُ كَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَمَا شَيْءٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ
حِفْظِي عَلَيْهَا مَا كَانَ فِي قَلْبِهَا مِنْ جِهَتِي.
سَمْنُونُ بْنُ حَمْزَةَ
وَيُقَالُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ وِرْدُهُ
فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَمْسَمِائَةِ رَكْعَةٍ وَسَمَّى نَفْسَهُ سُمْنُونًا
الْكَذَّابَ لِدَعْوَاهُ فِي قَوْلِهِ:
فَلَيْسَ لِي فِي سِوَاكَ حَظٌّ فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي
فَابْتُلِيَ بِعِسَارِ الْبَوْلِ فَكَانَ يَطُوفُ عَلَى الْمَكَاتِبِ، وَيَقُولُ
لِلصِّبْيَانِ: ادْعُوا لِعَمِّكُمُ الْكَذَّابِ، وَلَهُ كَلَامٌ مَتِينٌ فِي
الْمَحَبَّةِ وَوُسْوِسَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ وَلَهُ كَلَامٌ فِي الْمَحَبَّةِ
مُسْتَقِيمٌ.
صَافِي الْحُرَمِيُّ.
كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَرُءُوسِ
الدَّوْلَةِ الْمُقْتَدِرِيَّةِ، أَوْصَى فِي مَرَضِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ
غُلَامِهِ الْقَاسِمِ شَيْءٌ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ حَمَلَ غُلَامُهُ الْقَاسِمُ
إِلَى الْوَزِيرِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَسَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْطَقَةً
مِنَ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةً فَاسْتَمَرَّ غُلَامُهُ عَلَى إِمْرَتِهِ وَمَنْزِلَتِهِ
إِسْحَاقُ بْنُ حُنَيْنِ بْنِ إِسْحَاقَ.
أَبُو يَعْقُوبَ الْعِبَادِيُّ نِسْبَةً إِلَى قَبَائِلَ الْحِيرَةِ الطَّبِيبُ
ابْنُ الطَّبِيبِ، لَهُ وَلِأَبِيهِ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْفَنِّ
وَكَانَ أَبُوهُ يُعَرِّبُ كَلَامَ أَرُسْطَاطَالِيسَ وَغَيْرِهِ مِنْ حُكَمَاءِ
الْيُونَانِ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الشِّيعِيُّ الَّذِي أَقَامَ الدَّعْوَةَ لِلْمَهْدِيِّ وَهُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ مَيْمُونٍ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ وَقَدْ زَعَمَ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْ أَهْلِ التَّارِيخِ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ،
وَالْمَقْصُودُ الْآنَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيَّ هَذَا دَخَلَ
بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ وَحْدَهُ لَا مَالَ مَعَهُ وَلَا رِجَالَ فَلَمْ يَزَلْ
يَعْمَلُ الْحِيلَةَ حَتَّى انْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِ أَبِي مُضَرَ زِيَادَةِ
اللَّهِ آخَرِ مُلُوكِ بَنِي الْأَغْلَبِ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ
وَاسْتَدْعَى حِينَئِذٍ مَخْدُومَهُ الْمَهْدِيَّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ
فَقَدِمَ فَلَمْ يَخْلُصْ إِلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ شَدَائِدَ طِوَالٍ وَحُبِسَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَاسْتَنْقَذَهُ الشِّيعِيُّ وَسَلَّمَهُ الْمَمْلَكَةَ فَنَدَّمَهُ أَخُوهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ لَهُ: مَاذَا صَنَعْتَ ؟ وَهَلَّا كُنْتَ اسْتَبْدَدْتَ بِالْأَمْرِ دُونَ هَذَا ؟ فَنَدِمَ وَشَرَعَ يَعْمَلُ الْحِيلَةَ فِي الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَشْعَرَ الْمَهْدِيُّ بِذَلِكَ فَدَسَّ إِلَيْهِمَا مَنْ قَتَلَهُمَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِمَدِينَةِ رَقَّادَةَ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ مِنْ إِقْلِيمِ إِفْرِيقِيَّةَ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا ظَهَرَتْ ثَلَاثَةُ كَوَاكِبَ مُذَنَّبَةٍ
أَحَدُهَا فِي رَمَضَانَ وَاثْنَانِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ تَبْقَى أَيَّامًا ثُمَّ
تَضْمَحِلُّ.
وَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ بِأَرْضِ فَارِسَ مَاتَ بِسَبَبِهِ سَبْعَةُ آلَافِ
إِنْسَانٍ.
وَفِيهَا غَضِبَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْفُرَاتِ وَعَزَلَهُ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ فَنُهِبَتْ
أَقْبَحَ نَهْبٍ وَاسْتَوْزَرَ أَبَا عَلِيٍّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ وَكَانَ قَدِ الْتَزَمَ لِأُمِّ وَلَدِ الْمُعْتَضِدِ
بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ حَتَّى سَعَتْ فِي وِلَايَتِهِ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ هَدَايَا كَثِيرَةٌ مِنَ الْأَقَالِيمِ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ
وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ مِنَ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ اسْتُخْرِجَتْ مَنْ كَنْزٍ وُجِدَ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ
مَوَانِعَ كَمَا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنْ جَهَلَةِ بَنِي آدَمَ حِيلَةً وَمَكْرًا
وَخَدِيعَةً لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَ الْأَغْشَامِ وَالْجَهَلَةِ الطَّغَامِ مِنْ
قَلِيلِي الْعُقُولِ وَالْأَحْلَامِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذَا الْكَنْزِ ضِلْعُ إِنْسَانٍ
طُولُهُ أَرْبَعَةُ أَشْبَارِ وَعَرْضُهُ شِبْرٌ وَذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ
عَادٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ هَدِيَّةِ مِصْرَ تَيْسٌ لَهُ
ضَرْعٌ يَحْلُبُ لَبَنًا وَمِنْ
ذَلِكَ بِسَاطٌ أَرْسَلَهُ ابْنُ أَبِي
السَّاجِ فِي جُمْلَةِ هَدَايَاهُ طُولُهُ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سِتُّونَ
ذِرَاعًا عُمِلَ فِي عَشْرِ سِنِينَ لَا قِيمَةَ لَهُ وَهَدَايَا فَاخِرَةٌ
أَرْسَلَهَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ مِنْ
بِلَادِ خُرَاسَانَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَبَّاسِيُّ
أَمِيرُ الْحَجِيجِ مِنْ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَبُو عَمْرٍو الْخَفَّافُ.
الْحَافِظُ، كَانَ يُذَاكِرُ بِمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، سَمِعَ إِسْحَاقَ بْنَ
رَاهَوَيْهِ وَطَبَقَتَهُ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، سَرَدَهُ نَيِّفًا
وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، سَأَلَهُ سَائِلٌ فَأَعْطَاهُ
دِرْهَمَيْنِ فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً فَحَمِدَ اللَّهَ فَجَعَلَهَا
عَشْرَةً ثُمَّ مَا زَالَ يَزِيدُهُ وَيَحْمَدُ السَّائِلُ اللَّهَ حَتَّى
جَعَلَهَا مِائَةً، فَقَالَ: جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَاقِيَةً بَاقِيَةً،
فَقَالَ لِلسَّائِلِ: وَاللَّهِ لَوْ لَزِمْتَ الْحَمْدَ لَأَزِيدَنَّكَ وَلَوْ
إِلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.
الْبُهْلُولُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ.
ابْنِ حَسَّانَ بْنِ سِنَانٍ أَبُو مُحَمَّدٍ التَّنُوخِيُّ سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ
بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ وَسَعِيدَ بْنَ مَنْصُورٍ وَمُصْعَبًا الزُّبَيْرِيَّ
وَغَيْرَهُمْ وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ آخِرُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ
الْجُرْجَانِيُّ الْحَافِظُ وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا ضَابِطًا بَلِيغًا فَصِيحًا
فِي خُطَبِهِ تُوُفِّيَ فِيهَا عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
آمِينَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَحْمَدَ أَبُو عَلِيٍّ الْخِرَقِيُّ.
صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، كَانَ خَلِيفَةً لِلْمَرُّوذِيِّ تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ
الْفِطْرِ وَدُفِنَ عِنْدَ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيُّ.
حَجَّ عَلَى قَدَمَيْهِ سَبْعًا وَتِسْعِينَ حَجَّةً وَكَانَ يَمْشِي فِي
اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ حَافِيًا كَمَا يَمْشِي الرَّجُلُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ
وَكَانَ الْمُشَاةُ يَأْتَمُّونَ بِهِ فَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ وَقَالَ
مَا رَأَيْتُ ظُلْمَةً مُنْذُ سِنِينَ كَثِيرَةٍ وَكَانَتْ قَدَمَاهُ مَعَ
كَثْرَةِ مَشْيِهِ كَأَنَّهُمَا قَدَمَا عَرُوسٍ مُتْرَفَةٍ وَلَهُ كَلَامٌ
مَلِيحٌ نَافِعٌ وَلَمَّا مَاتَ أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَانِبِ شَيْخِهِ
عَلِيِّ بْنِ رَزِينٍ فَهُمَا عَلَى جَبَلِ الطُّورِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ، كَانَ أَبُوهُ يَسْتَعِينُ
بِهِ فِي جَمْعِ التَّارِيخِ وَكَانَ فَهِمًا حَاذِقًا حَافِظًا تُوُفِّيَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ.
أَحَدُ حُفِّاظِهِ وَالْمُكْثِرِينَ مِنْهُ كَانَ يَحْفَظُ طَرِيقَةَ
الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ مَعًا.
قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ كَانَ ابْنُ كَيْسَانَ أَنْحَى مِنَ الشَّيْخَيْنِ
الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى.
أَبُو سَعِيدٍ سَكَنَ دِمَشْقَ رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ
الْجَوْهَرِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرِهِمْ
رَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ وَغَيْرُهُ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
هَذَا يُدْعَى بِحَامِلِ كَفَنِهِ وَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ.
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ تُوُفِّيَ فَغُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ
وَدُفِنَ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَ نَبَّاشٌ لِيَسْرِقَ كَفَنَهُ فَفَتَحَ
عَلَيْهِ قَبْرَهُ فَلَمَّا حَلَّ عَنْهُ كَفَنُهُ اسْتَوَى جَالِسًا وَفَرَّ
النَّبَّاشُ هَارِبًا مِنَ الْفَزَعِ وَنَهَضَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى هَذَا
فَأَخَذَ كَفَنَهُ مَعَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْقَبْرِ وَقَصَدَ مَنْزِلَهُ فَوَجَدَ
أَهْلَهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَدَقَّ عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَقَالُوا: مَنْ هَذَا
؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ. فَقَالُوا: يَا هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَزِيدَنَا
حُزْنًا إِلَى حُزْنِنَا. فَقَالَ: افْتَحُوا وَاللَّهِ أَنَا فُلَانٌ، فَعَرَفُوا
صَوْتَهُ فَلَمَّا رَأَوْهُ فَرِحُوا بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا وَأَبْدَلَ اللَّهُ
حُزْنَهُمْ سُرُورًا ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ
النَّبَّاشِ.
وَكَأَنَّهُ قَدْ أَصَابَتْهُ سَكْتَةٌ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ مَاتَ حَقِيقَةً
فَقَدَّرَ اللَّهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَنْ بَعَثَ لَهُ هَذَا النَّبَّاشَ
فَفَتَحَ عَلَيْهِ قَبْرَهُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ حَيَاتِهِ فَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ عِدَّةَ سِنِينَ ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
فَاطِمَةُ الْقَهْرَمَانِيَّةُ.
غَضَبَ عَلَيْهَا الْمُقْتَدِرُ مَرَّةً فَصَادَرَهَا وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا
أَخَذَ مِنْهَا مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ ثُمَّ غَرِقَتْ فِي طَيَّارَةٍ لَهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِمِائَةٍ
مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَثُرَ مَاءُ دِجْلَةَ وَتَرَاكَمَتِ الْأَمْطَارُ بِبَغْدَادَ
وَتَنَاثَرَتْ نُجُومٌ كَثِيرَةٌ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ
مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ بِبَغْدَادَ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ
وَكَلِبَتِ الْكِلَابُ حَتَّى الذِّئَابُ بِالْبَادِيَةِ وَكَانَتْ تَقْصِدُ
النَّاسَ وَالْبَهَائِمَ بِالنَّهَارِ فَمَنْ عَضَّتْهُ أَهْلَكَتْهُ.
وَفِيهَا انْحَسَرَ جَبَلٌ بِالدِّينَوَرِ يُعْرَفُ بِالتَّلِّ فَخَرَجَ مِنْ
تَحْتِهِ مَاءٌ عَظِيمٌ غَرَّقَ عِدَّةً مِنَ الْقُرَى.
وَفِيهَا سَقَطَتْ شِرْذِمَةٌ مِنْ جَبَلِ لُبْنَانَ إِلَى الْبَحْرِ.
وَفِيهَا حَمَلَتْ بَغْلَةٌ وَوَضَعَتْ مُهْرَةً.
وَفِيهَا صُلِبَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجُ وَهُوَ حَيٌّ أَرْبَعَةَ
أَيَّامٍ، يَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَيَوْمَيْنِ فِي الْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْحَجِيجِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ فِي السِّنِينَ
قَبْلَهَا، وَهُوَ الْفَضْلُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ
الْعَبَّاسِيُّ أَثَابَهُ اللَّهُ وَتَقَبَّلَ مِنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأَحْوَصُ بْنُ الْمُفَضَّلِ.
ابْنِ غَسَّانَ بْنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ خَالِدِ
بْنِ غَلَّابٍ، أَبُو أُمَيَّةَ الْغَلَّابِيُّ الْقَاضِي بِالْبَصْرَةِ
وَغَيْرِهَا. رَوَى عَنْ أَبِيهِ التَّارِيخَ اسْتَتَرَ عِنْدَهُ مَرَّةً ابْنُ
الْفُرَاتِ فَلَمَّا أُعِيدَ إِلَى الْوِزَارَةِ وَلَّاهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ
وَالْأَهْوَازِ وَوَاسِطَ وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا فَلَمَّا نُكِبَ ابْنُ
الْفُرَاتِ قَبَضَ عَلَيْهِ نَائِبُ الْبَصْرَةِ فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ فَلَمْ
يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَاتَ فِيهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَا نَعْلَمُ قَاضِيًا مَاتَ فِي السِّجْنِ سِوَاهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ.
ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُصْعَبٍ أَبُو أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ وَلِيَ إِمْرَةَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ وَعَنْهُ الصُّولِيُّ
وَالطَّبَرَانِيُّ وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا شَاعِرًا، وَمِنْ شِعْرِهِ:
حَقُّ التَّنَائِي بِيَنَ أَهْلِ الْهَوَى تَكَاتَبٌ يُسْخِنُ عَيْنَ النَّوَى
وَفِي التَّدَانِي لَا انْقَضَى عُمْرُهُ
تَزَاوُرٌ يَشْفِي غَلِيلَ الْجَوَى
وَاتَّفَقَ لَهُ مَرَّةً أَنَّ
جَارِيَةً لَهُ مَرِضَتْ فَاشْتَهَتْ ثَلْجًا وَكَانَ حَظِيَّةً عِنْدَهُ جِدًّا
فَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا عِنْدَ رَجُلٍ، فَسَاوَمَهُ الْوَكِيلُ عَلَى رِطْلٍ مِنْهُ
فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إِلَّا كُلُّ رِطْلٍ بِالْعِرَاقِيِّ بِخَمْسَةِ آلَافِ
دِرْهَمٍ وَذَلِكَ لِعِلْمِ صَاحِبِ الثَّلْجِ بِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَرَجَعَ
الْوَكِيلُ لِيُشَاوِرَهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ اشْتَرِ وَلَوْ بِمَا عَسَاهُ أَنْ
يَكُونَ، فَرَجَعَ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الثَّلْجِ: لَا أَبِيعُهُ إِلَّا
بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَاشْتَرَاهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ثُمَّ اشْتَهَتِ الْجَارِيَةُ
ثَلْجًا أَيْضًا - وَذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهَا - فَرَجَعَ فَاشْتَرِي مِنْهُ
رِطْلًا آخَرَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ثُمَّ آخَرَ بِعَشَرَةٍ أُخْرَى، وَبَقِيَ عِنْدَ
صَاحِبِ الثَّلْجِ رِطْلَانِ فَنَطَفَتْ نَفْسُهُ إِلَى أَكْلِ رِطْلٍ مِنْهُ
لِيَقُولَ أَكَلْتُ رِطْلًا مِنَ الثَّلْجِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَأَكَلَهُ وَبَقِيَ
عِنْدَهُ رِطْلٌ، فَجَاءَهُ الْوَكِيلُ فَامْتَنَعَ أَنْ يَبِيعَهُ الرِّطْلَ
إِلَّا بِثَلَاثِينَ أَلْفًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، فَشُفِيَتِ الْجَارِيَةُ
وَتَصَدَّقَتْ بِمَالٍ جَزِيلٍ فَاسْتَدْعَى سَيِّدُهَا صَاحِبَ الثَّلْجِ
فَأَعْطَاهُ مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ مَالًا جَزِيلًا جِدًّا، فَصَارَ مِنْ
أَغْنَى النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَكْثَرِهِمْ مَالًا، وَاسْتَخْدَمَهُ ابْنُ
طَاهِرٍ عِنْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي حُدُودِ الثَّلَاثِمِائَةِ تَقْرِيبًا:
الصَّنَوْبَرِيُّ الشَّاعِرُ.
وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مَرَّارٍ أَبُو بَكْرٍ
الضَّبِّيُّ الصَّنَوْبَرِيُّ الْحَنْبَلِيُّ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ شَاعِرًا مُحْسِنًا
وَقَدْ حَكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ
سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ لَطَائِفِ أَشْعَارِهِ،
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
لَا النَّوْمُ أَدْرِي بِهِ وَلَا الْأَرَقُ يَدْرِي بِهَذَيْنِ مَنْ بِهِ رَمَقُ
إِنَّ دُمُوعِي مِنْ طُولِ مَا اسْتَبَقَتْ كَلَّتْ فَمَا تَسْتَطِيعُ تَسْتَبِقُ
وَلِي مَلِيكٌ لَمْ تَبْدُ صُورَتُهُ مُذْ كَانَ إِلَّا صَلَّتْ لَهُ الْحَدَقُ
نَوَيْتُ تَقْبِيلَ نَارِ وَجْنَتِهِ وَخِفْتُ أَدْنُو مِنْهَا فَأَحْتَرِقُ
وَلَهُ أَيْضًا:
شَمْسٌ غَدَا يُشْبِهُ شَمْسًا غَدَتْ وَحَدُّهَا فِي النُّورِ مِنْ حَدِّهِ
تَغِيبُ فِي فِيهِ وَلَكِنَّهَا مِنْ بَعْدِ ذَا تَطْلُعُ فِي خَدِّهِ
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي
الْفَضْلِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيِّ، قَالَ: أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرٍ
الصَّنَوْبَرِيُّ فَقَالَ:
هَدَمَ الشَّيْبُ مَا بَنَاهُ الشَّبَابُ وَالْغَوَانِي وَمَا عُضِبْنَ غِضَابُ
قَلَبَ الْآبِنُوسَ عَاجًا فَلِلْأَعْ يُنِ مِنْهُ وَلِلْقُلُوبِ انْقِلَابُ
وَضَلَالٌ فِي الرَّأْيِ أَنْ يُشْنَأَ الْبَا زِي عَلَى حُسْنِهِ وَيُهْوَى
الْغُرَابُ
وَلَهُ أَيْضًا، وَقَدْ أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي ابْنٍ لَهُ فُطِمَ،
فَجَعَلَ يَبْكِي عَلَى ثَدْيِهِ:
مَنَعُوهُ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ
مِنْ جَمِيعِ الْوَرَى وَمِنْ وَالِدَيْهِ
مَنَعُوهُ غِذَاءَهُ وَلَقَدْ كَا نَ مُبَاحًا لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ
عَجَبًا مِنْهُ ذَا عَلَى صِغَرِ السِّ نِّ هَوَى فَاهْتَدَى الْفِرَاقُ إِلَيْهِ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ.
بْنِ الْمُوَلَّدِ أَبُو إِسْحَاقَ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ الرَّقِّيُّ أَحَدُ
مَشَايِخِهَا رَوَى الْحَدِيثَ وَصَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْجَلَّاءِ
الدِّمَشْقِيَّ وَالْجُنَيْدَ وَغَيْرَ وَاحِدٍ، وَرَوَى عَنْهُ تَمَّامُ بْنُ
مُحَمَّدٍ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ
عَسَاكِرَ مِنْ شِعْرِهِ قَوْلَهُ:
لَكَ مِنِّي عَلَى الْبِعَادِ نَصِيبُ لَمْ يَنَلْهُ عَلَى الدُّنُوِّ حَبِيبُ
وَعَلَى الطَّرْفِ مِنْ سِوَاكَ حِجَابٌ وَعَلَى الْقَلْبِ مِنْ هَوَاكَ رَقِيبُ
زِينَ فِي نَاظِرِي هَوَاكَ وَقَلْبِي وَالْهَوَى فِيهِ زَائِغٌ وَمَشُوبُ
كَيْفَ يُغْنِي قُرْبُ الطَّبِيبِ عَلِيلًا أَنْتَ أَسْقَمْتَهُ وَأَنْتَ
الطَّبِيبُ
وَقَوْلَهُ:
الصَّمْتُ أَمْنٌ مِنْ كُلِّ نَازِلَةٍ مَنْ نَالَهُ نَالَ أَفْضَلَ الْقِسَمِ
مَا نَزَلَتْ بِالرِّجَالِ نَازِلَةٌ أَعْظَمُ ضُرًّا مِنْ لَفْظَةٍ بِفَمِ
عَثْرَةُ هَذَا اللِّسَانِ مُهْلِكَةٌ لَيْسَتْ لَدَيْنَا كَعَثْرَةِ الْقَدَمِ
احْفَظْ لِسَانًا يُلْقِيكَ فِي تَلَفٍ فَرُبَّ قَوْلٍ أَذَلَّ ذَا كَرَمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا غَزَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ الصَّائِفَةَ فَفَتَحَ حُصُونًا
كَثِيرَةً مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَقَتَلَ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ مُحَمَّدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ وِزَارَتِهِ
وَقَلَّدَهَا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ الْوُزَرَاءِ
وَأَقْصَدِهِمْ لِلْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْأَمْرَاضُ الدَّمَوِيَّةُ بِبَغْدَادَ فِي تَمُّوزَ وَآبَ
فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا.
وَفِيهَا وَصَلَتْ هَدَايَا صَاحِبِ عُمَانَ وَفِيهَا بَبَّغَةٌ بَيْضَاءُ
وَغَزَالٌ أَسْوَدُ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى بَابَ الشَّمَّاسِيَّةِ عَلَى
الْخَيْلِ ثُمَّ انْحَدَرَ إِلَى دَارِهِ فِي دِجْلَةَ، وَكَانَتْ أَوَّلَ رَكْبَةٍ
رَكِبَهَا جَهْرَةً لِلْعَامَّةِ.
وَفِيهَا اسْتَأْذَنَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ
فِي مُكَاتَبَةِ رَأْسِ الْقَرَامِطَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بَهْرَامَ
الْجَنَّابِيِّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا طَوِيلًا يَدْعُوهُ
فِيهِ إِلَى
السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَيُوَبِّخُهُ
عَلَى مَا يَتَعَاطَاهُ أَصْحَابُهُ مِنْ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ وَالزِّكْوَاتِ
وَارْتِكَابِ الْمُنْكِرَاتِ وَإِنْكَارِهِمْ عَلَى مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ
وَيُسَبِّحُهُ وَيَحْمَدُهُ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالدِّينِ وَاسْتِرْقَاقِهِمُ
الْحَرَائِرَ ثُمَّ تُوعَّدَهُ بِالْحَرْبِ وَتَهَدَّدَهُ بِالْقَتْلِ، فَلَمَّا
سَارَ بِالْكِتَابِ نَحْوَهُ، قُتِلَ أَبُو سَعِيدٍ قَبْلَ أَنْ يَصِلَهُ،
قَتَلَهُ بَعْضُ خَدَمِهِ وَعَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ سَعِيدٍ،
فَغَلَبَهُ عَلَى ذَلِكَ أَخُوهُ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبَى سَعِيدٍ،
فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَ الْوَزِيرِ إِلَيْهِمْ أَجَابَهُ بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ
هَذَا الَّذِي تَنْسِبُ إِلَيْنَا مِمَّا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَكُمْ
إِلَّا مِنْ طَرِيقِ مَنْ يُشَنِّعُ عَلَيْنَا، وَإِذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ
يَنْسِبُنَا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ فَكَيْفَ يَدْعُونَا إِلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ لَهُ ؟
وَفِيهَا جِيءَ بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ إِلَى بَغْدَادَ وَهُوَ
مَشْهُورٌ عَلَى جَمَلٍ وَغُلَامٌ لَهُ رَاكِبٌ جَمَلًا آخَرَ يُنَادِي عَلَيْهِ:
هَذَا أَحَدُ دُعَاةِ الْقَرَامِطَةِ فَاعْرِفُوهُ. ثُمَّ حُبِسَ ثُمَّ أُحْضِرَ
إِلَى مَجْلِسِ الْوَزِيرِ فَنَاظَرَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
وَلَا يَعْرِفُ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَا الْفِقْهِ وَلَا اللُّغَةِ وَلَا
الْأَخْبَارِ وَلَا الشِّعْرِ شَيْئًا، وَكَانَ الَّذِي نُقِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ
وُجِدَتْ لَهُ رِقَاعٌ يَدْعُو فِيهَا النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ
بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرُّمُوزِ، يَقُولُ فِي مُكَاتَبَاتِهِ كَثِيرًا: تَبَارَكَ ذُو
النُّورِ الشَّعْشَعَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى:
تَعَلُّمُكَ الطُّهُورَ وَالْفُرُوضَ أَجْدَى عَلَيْكَ مِنْ رَسَائِلَ لَا تَدْرِي
مَا تَقُولُ فِيهَا وَمَا أَحْوَجَكَ إِلَى الْأَدَبِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ
حَيًّا صَلْبَ الِاشْتِهَارِ لَا الْقَتْلِ، ثُمَّ أُنْزِلَ فَأُجْلِسَ فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ، فَجَعَلَ يُظْهِرُ لَهُمْ أَنَّهُ عَلَى السُّنَّةِ وَأَنَّهُ
زَاهِدٌ حَتَّى اغْتَرَّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْخُدَّامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ
دَارِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْجَهَلَةِ وَالطَّغَامِ حَتَّى صَارُوا يَتَبَرَّكُونَ
بِهِ وَيَتَمَسَّحُونَ بِثِيَابِهِ. وَسَيَأْتِي مَا صَارَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ
حَتَّى قُتِلَ بِإِجْمَاعِ
الْفُقَهَاءِ.
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي آخِرِهَا بِبَغْدَادَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ جِدًّا
مَاتَ بِسَبَبِهِ بِشْرٌ كَثِيرٌ وَلَا سِيَّمَا بِالْحَرْبِيَّةِ، غُلِّقَتْ
عَامَّةُ دُورِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِئِ بْنِ خَالِدٍ الشَّافِعِيُّ.
جَمَعَ الْعِلْمَ وَالزُّهْدَ، مِنْ تَلَامِيذِهِ أَبُو بَكْرٍ
الْإِسْمَاعِيلِيُّ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ.
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْمُسْتَفَاضِ أَبُو بَكْرٍ الْفِرْيَابِيُّ قَاضِي
الدِّينَوَرِ طَافَ الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ
الْمَشَايِخِ الْكَثِيرِينَ، مِثْلِ قُتَيْبَةَ وَأَبِي كُرَيْبٍ وَعَلِيِّ بْنِ
الْمَدِينِيِّ، وَعَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي وَالنَّجَّادُ
وَأَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَخَلْقٌ. وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً
حَافِظًا حُجَّةً، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوًا مِنْ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَالْمُسْتَمْلُونَ عَنْهُ فَوْقَ الثَّلَاثِمِائَةِ
وَأَصْحَابُ الْمَحَابِرِ نَحْوًا مِنْ
عَشَرَةِ آلَافٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ قَدْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْرًا قَبْلَ
وَفَاتِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَكَانَ يَأْتِيهِ فَيَقِفُ عِنْدَهُ، ثُمَّ لَمْ
يُقَضَ لَهُ الدَّفْنُ فِيهِ، بَلْ دُفِنَ فِي مَكَانٍ آخَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
حَيْثُ كَانَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْجَنَّابِىُّ الْقِرْمِطَيُّ.
وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامَ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَهُوَ رَأْسُ
الْقَرَامِطَةِ وَالَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي بِلَادِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا
وَالَاهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الرَّاسِبِيُّ كَانَ يَلِي بِلَادَ وَاسِطَ إِلَى
شَهْرَزُورَ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ خَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا،
فَمِنْ ذَلِكَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
نَحْوُ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْخَزِّ أَلْفُ ثَوْبٍ، وَمِنَ الْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ أَلْفُ رَأْسٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ.
يُعْرَفُ بِالْأَحْنَفِ كَانَ قَدْ وَلِيَ قَضَاءَ مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ
نِيَابَةً عَنْ أَبِيهِ حِينَ فُلِجَ فَمَاتَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَتُوُفِّيَ أَبُوهُ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةٌ
وَسَبْعُونَ يَوْمًا، وَدُفِنَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ الْبَرْدَعِيُّ الْحَافِظُ، وَابْنُ نَاجِيَةَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ بِأَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ بِالرُّومِ
بَأْسًا شَدِيدًا وَقَدْ أَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ بِطْرِيقًا،
فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَفِيهَا خَتَنَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ خَمْسَةً مِنْ أَوْلَادِهِ، فَغَرِمَ
عَلَى هَذَا الْخِتَانِ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، مِنْ ذَلِكَ خَمْسَةُ
آلَافٍ نِثَارًا وَمِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ خَتَنَ قَبْلَهُمْ وَمَعَهُمْ
خَلْقًا مِنَ الْيَتَامَى وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِالْمَالِ وَالْكَسَاوِي،
وَهَذَا صَنِيعٌ حَسَنٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا صَادَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا عَلِيٍّ ابْنَ الْجَصَّاصِ بِسِتَّةَ عَشَرَ
أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ غَيْرَ الْآنِيَةِ وَالثِّيَابِ الثَّمِينَةِ.
وَفِيهَا أَدْخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ أَوْلَادَهُ إِلَى الْمَكْتَبِ
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا بَنَى الْوَزِيرُ الْمَارَسْتَانَ بِالْحَرْبِيَّةِ مِنْ بَغْدَادَ
وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
جِدًّا، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ،
وَقَطَعَتِ الْأَعْرَابُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ الطَّرِيقَ عَلَى
الرَّاجِعِينَ مِنَ الْحَجِيجِ وَأَخَذُوا مِنْهُمْ أَمْوَالًا كَثِيرَةً،
وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيِ امْرَأَةٍ
حُرَّةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بِشْرُ بْنُ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورٍ.
أَبُو الْقَاسِمِ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ يُعْرَفُ بِغُلَامِ
عِرْقٍ وَعِرْقٌ خَادِمٌ مِنْ خُدَّامِ السُّلْطَانِ، كَانَ يَلِي الْبَرِيدَ
فَقَدِمَ مَعَهُ بِهَذَا الرَّجُلِ مِصْرَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِيهَا.
بِدْعَةُ جَارِيَةُ عُرَيْبَ الْمُغَنِّيَةِ بُذِلَ لِسَيِّدَتِهَا فِيهَا مِائَةُ
أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنْ بَعْضِ مَنْ رَغِبَ فِيهَا
فَعَرَضَتْ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ مُفَارَقَةَ سَيِّدَتِهَا فَأَعْتَقَتْهَا
سَيِّدَتُهَا فِي يَوْمِهَا ذَلِكَ. وَتَأَخَّرَتْ وَفَاتُهَا إِلَى هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ تَرَكَتْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْأَمْلَاكِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ
رَجُلٌ.
الْقَاضِي أَبُو زُرْعَةَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الشَّافِعِيُّ.
قَاضِي مِصْرَ ثُمَّ دِمَشْقَ
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَكَمَ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِالشَّامِ، وَأَشَاعَهُ بِهَا، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ مِنْ حِينِ مَاتَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَثَبَتَ عَلَى مَذْهَبِ الْأَوْزَاعِيِّ بَقَايَا كَثِيرُونَ لَمْ يُفَارِقُوهُ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا مِنْ سَادَاتِ الْقُضَاةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَسَلَمَ، وَصَارَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَفَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً وَضِيَاعًا عَلَى
الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَاسْتَدْعَى بِالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا وَقَفَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قُدِمَ إِلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الْأَعْرَابِ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَدَوْا عَلَى الْحَجِيجِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَمْ
تَتَمَالَكِ الْعَامَّةُ أَنْ عَدَتْ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ، فَأُخِذَ
بَعْضُهُمْ فَعُوقِبَ لِكَوْنِهِ افْتَاتَ عَلَى السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ شَدِيدٌ فِي سُوقِ النَّجَّارِينَ بِبَغْدَادَ فَأَحْرَقَ
السُّوقَ بِكَمَالِهِ وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ
الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمْ يَمْرَضْ فِي خِلَافَتِهِ
مَعَ طُولِهَا إِلَّا هَذِهِ الْمَرْضَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ
وَلَمَّا خَافَ الْوَزِيرُ عَلَى الْحُجَّاجِ مِنْ شَأْنِ الْقَرَامِطَةِ كَتَبَ
إِلَيْهِمْ رِسَالَةً لِيَشْغَلَهُمْ بِهَا عَنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَاتَّهَمَهُ
بَعْضُ الْكُتَّابِ بِمُرَاسِلَتِهِ الْقَرَامِطَةَ، فَلَمَّا انْكَشَفَ أَمْرُهُ
وَمَا قَصَدَهُ حَظِيَ عِنْدَ النَّاسِ بِذَلِكَ جِدًّا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
النَّسَائِيُّ أَحْمَدُ.
بْنُ شُعَيْبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سِنَانِ بْنِ بَحْرِ بْنِ دِينَارٍ أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ
صَاحِبُ " السُّنَنِ "، الْإِمَامُ فِي عَصْرِهِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى
أَضْرَابِهِ وَأَشْكَالِهِ وَفُضَلَاءِ دَهْرِهِ رَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ
وَاشْتَغَلَ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ وَالِاجْتِمَاعِ بِالْأَئِمَّةِ الْحُذَّاقِ،
وَمَشَايِخُهُ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ مُشَافَهَةً قَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي
كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَتَرْجَمْنَاهُ أَيْضًا هُنَالِكَ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ،
وَقَدْ جَمَعَ السُّنَنَ الْكَبِيرَ وَانْتَخَبَ مِنْهُ مَا هُوَ أَقَلُّ حَجْمًا
مِنْهُ بِمَرَّاتٍ، وَقَدْ وَقَعَ لِي سَمَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقَدْ أَبَانَ فِي
تَصْنِيفِهِ عَنْ حِفْظٍ وَإِتْقَانٍ وَصِدْقٍ وَإِيمَانٍ وَتَوْفِيقٍ وَعَلَمٍ
وَعِرْفَانٍ.
قَالَ الْحَاكِمُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ
مُقَدَّمٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يُذْكَرُ بِهَذَا الْعِلْمِ مَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ،
وَكَانَ يُسَمِّي كِتَابَهُ الصَّحِيحَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ: إِنَّ
لِلنِّسَائِيِّ شَرْطًا فِي الرِّجَالِ أَشَدَّ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمِ بْنِ
الْحَجَّاجِ وَكَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ
الْإِمَامُ فِي الْحَدِيثِ بِلَا مُدَافَعَةٍ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ: سَمِعْتُ مَشَايِخَنَا بِمِصْرَ
يَعْتَرِفُونَ لَهُ بِالتَّقَدُّمِ وَالْإِمَامَةِ وَيَصِفُونَ مِنَ اجْتِهَادِهِ
فِي الْعِبَادَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمُوَاظَبَتِهِ عَلَى الْحَجِّ
وَالِاجْتِهَادِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا
وَكَانَتْ لَهُ
أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَسُرِّيَّتَانِ
وَكَانَ كَثِيرَ الْجِمَاعِ حَسَنَ الْوَجْهِ مُشْرِقَ اللَّوْنِ، قَالُوا:
وَكَانَ يَقْسِمُ لِلْإِمَاءِ كَمَا يَقْسِمُ لِلْحَرَائِرِ. وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ كَثِيرَ الْحَدِيثِ
وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْ أَحَدٍ سِوَى النَّسَائِيِّ. وَقَالَ: رَضِيتُ بِهِ حُجَّةً
بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ كَانَ
النَّسَائِيُّ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ ثِقَةً ثَبْتًا حَافِظًا. وَكَانَ
خُرُوجُهُ مِنْ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَالَ ابْنُ
عَدِيٍّ سَمِعْتُ مَنْصُورًا الْفَقِيهَ وَأَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ
الطَّحَاوِيَّ يَقُولَانِ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ إِمَامٌ مِنْ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَذَلِكَ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ وَشَهِدُوا لَهُ بِالْفَضْلِ وَالتَّقَدُّمِ فِي هَذَا الشَّأْنِ
وَالْحِفْظِ وَالْمَعْرِفَةِ.
وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِمَدِينَةِ حِمْصَ سَمِعْتُهُ مِنْ شَيْخِنَا الْحَافِظِ
أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - عَنْ رِوَايَةِ
الطَّبَرَانِيِّ فِي " مُعْجَمِهِ الْأَوْسَطِ " حَيْثُ قَالَ:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ الْحَاكِمُ بِحِمْصَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنَ النِّسَاءِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ وَكَانَ فِي
غَايَةِ الْحُسْنِ، وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِنْدِيلٌ، وَكَانَ يَأْكُلُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ دِيكًا، وَيَشْرَبُ عَلَيْهِ نَقِيعَ الزَّبِيبِ الْحَلَالَ، وَقَدْ قِيلَ
عَنْهُ: إِنَّهُ كَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّشَيُّعِ. قَالُوا:
وَدَخَلَ إِلَى دِمَشْقَ فَسَأَلَهُ أَهْلُهَا أَنْ يُحَدِّثَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ
مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: أَمَا يَكْفِي مُعَاوِيَةَ أَنْ يَذْهَبَ رَأْسًا بِرَأْسٍ
حَتَّى يُرْوَى لَهُ فَضَائِلُ ؟ فَقَامُوا إِلَيْهِ فَجَعَلُوا يَطْعَنُونَ فِي
حِضْنَيْهِ حَتَّى أُخْرِجَ مِنَ
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَسَارَ مِنْ عِنْدِهِمْ، فَقَصَدَ مَكَّةَ فَمَاتَ بِهَا
فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَبْرُهُ بِهَا. هَكَذَا حَكَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيِّ عَنْ مَشَايِخِهِ. وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ أَفْقَهَ مَشَايِخِ مِصْرَ فِي عَصْرِهِ وَأَعْرَفَهُمْ
بِالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ مِنَ الْآثَارِ وَأَعْرَفَهُمْ بِالرِّجَالِ، فَلَمَّا
بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ حَسَدُوهُ فَخَرَجَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَسُئِلَ عَنْ
فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ فَأَمْسَكَ عَنْهُ فَضَرَبُوهُ فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ:
أَخْرِجُونِي إِلَى مَكَّةَ فَأَخْرَجُوهُ وَهُوَ عَلِيلٌ فَتُوُفِّيَ بِمَكَّةَ
مَقْتُولًا شَهِيدًا. قَالَ الْحَاكِمُ: مَعَ مَا رُزِقَ النَّسَائِيُّ مِنَ
الْفَضَائِلِ رُزِقَ الشَّهَادَةَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، مَاتَ بِمَكَّةَ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ نُقْطَةَ
فِي " تَقْيِيدِهِ ": نَقَلْتُ مِنْ خَطِّ أَبِي عَامِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
سَعْدُونَ الْعَبْدَرِيِّ الْحَافِظِ: مَاتَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
النَّسَائِيُّ بِالرَّمْلَةِ مَدِينَةِ فِلَسْطِينَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثَلَاثَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَدُفِنَ
بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا صَنَّفَ " الْخَصَائِصَ
" فِي فَضْلِ عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ رَأَى أَهْلَ دِمَشْقَ
حِينَ قَدِمَهَا فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ عِنْدَهُمْ نُفْرَةٌ مِنْ
عَلِيٍّ وَسَأَلُوهُ عَنْ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مَا قَالَ، فَدَفَعُوهُ فِي
حِضْنَيْهِ فَمَاتَ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ يُونُسَ وَأَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ
أَنَّهُ تُوُفِّيَ بِفِلَسْطِينَ فِي
صِفْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَ مَوْلِدُ النَّسَائِيِّ فِي سَنَةِ خَمْسَ
عَشْرَةَ أَوْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ تَقْرِيبًا عَنْ قَوْلِهِ رَحِمَهُ
اللَّهُ، فَكَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ.
بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَطَاءٍ أَبُو
الْعَبَّاسِ الشَّيْبَانِيُّ النِّسْوِيُّ مُحَدِّثُ خُرَاسَانَ وَقَدْ كَانَ
يُضْرَبُ آبَاطُ الْإِبِلِ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ رَحَلَ
إِلَى الْآفَاقِ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي ثَوْرٍ وَكَانَ يُفْتِي بِمَذْهَبِهِ
وَأَخَذَ الْأَدَبَ عَنْ أَصْحَابِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ وَكَانَتْ إِلَيْهِ
الرِّحْلَةُ بِخُرَاسَانَ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا اتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ هُوَ
وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِمِصْرَ فِي رِحْلَتِهِمْ لِطَلَبِ الْحَدِيثِ
فَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْحَالُ حَتَّى مَكَثُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُونَ
فِيهَا شَيْئًا وَلَا يَجِدُونَ مَا يَبِيعُونَهُ لِلْقُوتِ وَاضْطَرَّهُمُ
الْحَالُ إِلَى تَجَشُّمِ السُّؤَالِ وَأَنِفَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْ ذَلِكَ
وَعَزَّتْ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعَتْ كُلَّ الِامْتِنَاعِ وَالْحَاجَةُ
تَضْطَرُّهُمْ إِلَى تَعَاطِي ذَلِكَ فَاقْتَرَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيَهُمْ
يَقُومُ بِأَعْبَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فَوَقَعَتِ الْقَرْعَةُ عَلَى الْحَسَنِ بْنِ
سُفْيَانَ هَذَا فَقَامَ عَنْهُمْ فَاخْتَلَى فِي زَاوِيَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي
هُمْ فِيهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا وَاسْتَغَاثَ بِاللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ وَسَأَلَهُ بِأَسْمَائِهِ الْعِظَامِ فَمَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ
حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْمَسْجِدَ شَابٌّ حَسَنُ الْهَيْئَةِ مَلِيحُ
الْوَجْهِ، فَقَالَ: أَيْنَ الْحَسَنُ
بْنُ سُفْيَانَ ؟ فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: الْأَمِيرُ طُولُونَ يَقْرَأُ
عَلَيْكُمُ السَّلَامَ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ فِي تَقْصِيرِهِ عَنْكُمْ وَهَذِهِ
مِائَةُ دِينَارٍ لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، فَقُلْنَا لَهُ: مَا الْحَامِلُ لَهُ
عَلَى ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَخْتَلِيَ الْيَوْمَ بِنَفْسِهِ
فَبَيْنَمَا هُوَ الْآنَ نَائِمٌ إِذْ جَاءَهُ فَارِسٌ فِي الْهَوَاءِ بِيَدِهِ
رُمْحٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَنْزِلَ وَوَضَعَ عَقِبَ الرُّمْحِ فِي خَاصِرَتِهِ
فَوَكَزَهُ وَقَالَ: قُمْ فَأَدْرِكِ الْحَسَنَ بْنَ سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ،
قُمْ فَأَدْرِكْهُمْ، قُمْ فَأَدْرِكْهُمْ فَإِنَّهُمْ مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
جِيَاعٌ فِي الْمَسْجِدِ الْفُلَانِيِّ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ:
أَنَا رِضْوَانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ. فَاسْتَيْقَظَ الْأَمِيرُ وَخَاصِرَتُهُ
تُؤْلِمُهُ أَلَمًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْحَالِ إِلَيْكُمْ.
ثُمَّ جَاءَ لِزِيَارَتِهِمْ وَاشْتَرَى مَا حَوْلَ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَوَقَفَهُ
عَلَى الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا.
وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا
الشَّأْنِ وَفُرْسَانِهِ وَحُفَّاظِهِ وَقَدِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْحُفَّاظِ مِنْهُمُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ، فَقَرَءُوا عَلَيْهِ شَيْئًا
مِنَ الْحَدِيثِ وَجَعَلُوا يَقْلِبُونَ الْأَسَانِيدَ لِيَسْتَعْلِمُوا مَا
عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ، فَمَا قَلَبُوا شَيْئًا إِلَّا رَدَّهُمْ فِيهِ إِلَى
الصَّوَابِ وَعُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ تِسْعُونَ سَنَةً، وَهُوَ فِي هَذَا السِّنِّ
حَافِظٌ ضَابِطٌ لَا يَشِذُّ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ:
الْعَبْسِيُّ كُوفِيٌّ وَالْعَيْشِيُّ بَصْرِيٌّ وَالْعَنْسِيُّ مِصْرِيٌّ.
رُوَيْمُ بْنُ أَحْمَدَ.
وَيُقَالُ: ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُوَيْمِ بْنِ يَزِيدَ
أَبُو الْحَسَنِ، وَيُقَالُ: أَبُو
الْحُسَيْنِ، وَيُقَالُ: أَبُو مُحَمَّدٍ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ
عَالِمًا بِالْقُرَآنِ وَمَعَانِيهِ، وَكَانَ مُتَفَقِّهًا عَلَى مَذْهَبِ دَاوُدَ
بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ رُوَيْمٌ يَكْتُمُ حُبَّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً،
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَصَوَّفَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي
بَابِهِ، فَتَرَكَ التَّصَوُّفَ وَلَبِسَ الْخَزَّ وَالْقَصَبَ وَالدَّبِيقِيَّ
وَرَكِبَ الْخَيْلَ وَأَكَلَ الطَّيِّبَاتِ وَبَنَى الدُّورَ.
زُهَيْرُ بْنُ صَالِحٍ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النَّجَّادُ،
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ ثِقَةً مَاتَ وَهُوَ شَابٌّ.
أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ.
شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ شَيْخُ
الطَّائِفَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي زَمَانِهِ، وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ أَبُو
الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَلِلْجُبَّائِيِّ تَفْسِيرٌ
حَافِلٌ مُطَوَّلٌ، لَهُ فِيهِ اخْتِيَارَاتٌ غَرِيبَةٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ
رَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِيهِ، وَقَالَ: كَأَنَّ
الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ أَهْلِ جُبَّاءَ. كَانَ مَوْلِدُ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ
فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ابْنُ بَسَّامٍ الشَّاعِرُ.
أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ نَصْرِ بْنِ
بَسَّامٍ
الْبَسَّامِيُّ الشَّاعِرُ الْمُطْبِقُ
لِلْهِجَاءِ فَلَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا حَتَّى هَجَاهُ حَتَّى أَبَاهُ وَأُمَّهُ
أُمَامَةَ بِنْتَ حَمْدُونَ النَّدِيمِ وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ شِعْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي تَخْرِيبِ
الْمُتَوَكِّلِ قَبْرَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَمْرِهِ بِأَنْ يُزْرَعَ
وَيُمْحَى رَسْمُهُ، وَكَانَ شَدِيدَ التَّحَامُلِ عَلَى عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ،
فَلَمَّا وَقَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ قَالَ ابْنُ بَسَّامٍ هَذَا فِي ذَلِكَ:
تَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ أُمَيَّةُ قَدْ أَتَتْ قَتْلَ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهَا
مَظْلُومًا فَلَقَدْ أَتَاهُ بَنُو أَبِيهِ بِمِثْلِهِ
هَذَا لَعَمْرُكَ قَبْرُهُ مَهْدُومًا أَسِفُوا عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا
شَارَكُوا
فِي قَتْلِهِ فَتَتَبَّعُوهُ رَمِيمَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ وَزِيرَهُ أَبَا الْحَسَنِ
عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بْنِ الْجَرَّاحِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أُمِّ مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ نُفْرَةٌ شَدِيدَةٌ فَسَأَلَ الْوَزِيرُ
أَنْ يُعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ فَعُزِلَ وَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ
أَمْلَاكِهِ.
وَطُلِبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ فَأُعِيدَ إِلَى
الْوِزَارَةِ بَعْدَ عَزْلِهِ عَنْهَا خَمْسَ سِنِينَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ سَبْعَ خِلَعٍ وَأَطْلَقَ إِلَيْهِ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةَ تُخُوتِ ثِيَابٍ وَمِنَ الْخَيْلِ
وَالْبِغَالِ وَالْجِمَالِ شَيْئًا كَثِيرًا وَأُقْطِعَ الدَّارَ الَّتِي
بِالْمُخَرِّمِ فَسَكَنَهَا فَعَمِلَ فِيهَا ضِيَافَةً تِلْكَ اللَّيْلَةَ،
فَسَقَى فِيهَا أَرْبَعِينَ أَلْفَ رِطْلٍ مِنَ الثَّلْجِ.
وَفِي الصَّيْفِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتُهِرَ بِبَغْدَادَ أَنَّ حَيَوَانًا
عَجِيبًا يُقَالُ لَهُ الزَّبْزَبُ يَطُوفُ بِاللَّيْلِ يَأْكُلُ الْأَطْفَالَ
مِنَ الْأَسِرَّةِ وَيَعْدُو عَلَى النَّائِمِ فَرُبَّمَا قَطَعَ يَدَ الرَّجُلِ
وَثَدْيَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ نَائِمٌ فَجَعَلَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ عَلَى
أَسْطِحَتِهِمْ بِالنُّحَاسِ مِنَ الْهَوَاوِينِ وَالطُّسُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
يُنَفِّرُونَهُ عَنْهُمْ حَتَّى كَانَتْ بَغْدَادُ
تَرْتَجُّ مِنْ شَرْقِهَا وَغَرْبِهَا
وَاصْطَنَعَ النَّاسُ لِأَوْلَادِهِمْ مِكَبَّاتٍ مِنَ السَّعَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَاغْتَنَمَتِ اللُّصُوصُ هَذِهِ الشَّوْشَةَ فَكَثُرَ النُّقُوبُ وَأَخْذُ
الْأَمْوَالِ فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِأَنْ يُؤْخَذَ حَيَوَانٌ مِنْ كِلَابِ
الْمَاءِ فَيُصْلَبَ عَلَى الْجِسْرِ لِيَسْكُنَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ فَفَعَلَ
فَسَكَنَ النَّاسُ وَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ.
وَقُلِّدَ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ الطَّبِيبُ الْمُؤَرِّخُ أَمْرَ
الْمَارَسْتَانَاتِ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَكَانَتْ خَمْسَةً.
وَرَدَ كِتَابٌ مِنَ خُرَاسَانَ بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا قُبُورَ شُهَدَاءَ قُتِلُوا
فِي سَنَةِ سَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ مَكْتُوبَةٌ أَسْمَاؤُهُمْ فِي رِقَاعٍ
مَرْبُوطَةٍ بِآذَانِهِمْ وَأَجْسَادُهُمْ طَرِيَّةٌ كَمَا هِيَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحُصَيْنِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ لَبِيدِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ عُطَارِدَ بْنِ
حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ الْمُلَقَّبُ فَرُّوْجَةَ
قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا.
يُوسُفُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ.
أَبُو يَعْقُوبَ الرَّازِيُّ سَمِعَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَصَحِبَ ذَا
النُّونِ الْمِصْرِيَّ، وَرَوَى عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ. رَوَى
الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ
إِلَيْهِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ذَا
النُّونِ يَحْفَظُ اسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ فَقَصَدَهُ لِيُعَلِّمَهُ إِيَّاهُ.
قَالَ: فَلَمَّا وَرَدْتُ عَلَيْهِ اسْتَهَانَ بِي وَكَانَ لِي لِحْيَةٌ طَوِيلَةٌ
وَمَعِي رِكْوَةٌ طَوِيلَةٌ فَجَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا فَنَاظَرَ ذَا النُّونِ
فَأَسْكَتَ ذَا النُّونِ، فَنَاظَرْتُ أَنَا الرَّجُلَ فَأَسْكَتُّهُ، فَقَامَ ذُو
النُّونِ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيَّ وَهُوَ شَيْخٌ وَأَنَا شَابٌّ، وَاعْتَذَرَ
إِلَيَّ فَخَدَمْتُهُ سَنَةً ثُمَّ سَأَلْتُهُ أَنْ يُعَلِّمَنِي الِاسْمَ
الْأَعْظَمَ فَلَمْ يَبْعُدْ مِنِّي وَوَعَدَنِي، فَمَكَثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ
سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَخْرَجَ إِلَيَّ طَبَقًا عَلَيْهِ مِكَبَّةٌ مَشْدُودًا
بِمَنْدِيلٍ، وَقَالَ لِيَ: اذْهَبْ بِهَذَا إِلَى صَاحِبِنَا فَلَانٍ.
قَالَ: فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ فِي الطَّرِيقِ مَا هَذَا الَّذِي أَرْسَلَنِي بِهِ،
فَلَمَّا وَصَلْتُ الْجِسْرَ فَتَحْتُهُ فَإِذَا فِيهِ فَأْرَةٌ فَقَفَزَتْ
وَذَهَبَتْ، فَاغْتَظْتُ غَيْظًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: ذُو النُّونِ يَسْخَرُ بِي
فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا حَنِقٌ، فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ إِنَّمَا
اخْتَبَرْتُكَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَمِينًا عَلَى فَأْرَةٍ فَأَنْ لَا تَكُونُ
أَمِينًا عَلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، اذْهَبْ عَنِّي فَلَا
أَرَاكَ بَعْدَهَا.
وَقَدْ رُئِيَ أَبُو الْحُسَيْنِ الرَّازِيُّ هَذَا فِي الْمَنَامِ بَعْدَ
مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِقَوْلِي
عِنْدَ الْمَوْتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي نَصَحْتُ لِلنَّاسَ قَوْلًا وَخُنْتُ نَفْسِي
فِعْلًا فَهَبْ لِي خِيَانَةَ فِعْلِي لِنُصْحِ قَوْلِي.
يَمُوتُ بْنُ الْمُزَرَّعِ بْنِ يَمُوتَ.
أَبُو بَكْرٍ الْعَبْدِيُّ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَهُوَ ثَوْرِيٌّ، كَانَ ابْنَ
أُخْتِ الْجَاحِظِ قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
الْمَازِنِيِّ وَأَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ وَأَبِي الْفَضْلِ الرِّيَاشِيِّ
وَكَانَ صَاحِبَ أَخْبَارٍ وَآدَابٍ وَمُلَحٍ
وَقَدْ كَانَ غَيَّرَ اسْمَهُ بِمُحَمَّدٍ، فِلْمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ إِلَّا الْأَوَّلُ، وَكَانَ إِذَا ذَهَبَ يَعُودُ مَرِيضًا فَدَقَّ الْبَابَ، فَقِيلَ: مَنْ ؟ فَيَقُولُ: ابْنُ الْمُزَرَّعِ وَلَا يَذْكُرُ اسْمَهُ لِئَلَّا يَتَفَاءَلُ أَهْلُ الْمَرِيضِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ فِي طَلَبِ الْمُفَادَاةِ وَالْهُدْنَةِ
وَهُوَ شَابٌّ حَدَثُ السِّنِّ وَمَعَهُ شَيْخٌ مِنْهُمْ وَعِشْرُونَ غُلَامًا،
فَلَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ شَاهَدَ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا وَذَلِكَ أَنَّ
الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ أَمَرَ بِالِاحْتِفَالِ بِذَلِكَ
لِيُشَاهَدَ مَا فِيهِ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ، فَرَكِبَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ
يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مِائَةَ أَلْفٍ وَسِتِّينَ أَلْفًا مَا بَيْنَ فَارِسٍ
وَرَاجِلٍ فِي الْأَسْلِحَةِ التَّامَّةِ، وَغِلْمَانُ الْخَلِيفَةِ سَبْعَةُ
آلَافٍ، أَرْبَعَةُ آلَافٍ بِيضٌ وَثَلَاثَةُ آلَافٍ سُودٌ، وَهُمْ فِي غَايَةِ
الْمَلَابِسِ وَالْعُدَدِ، وَالْحَجَبَةُ يَوْمَئِذٍ سَبْعُمِائَةِ حَاجِبٍ
وَأَمَّا الطَّيَّارَاتُ الَّتِي بِدِجْلَةَ والزِّبَارِبُ وَالْسُّمَيْرِيَّاتُ
فَشَيْءٌ كَثِيرٌ مُزَيَّنَةٌ، فَحِينَ دَخَلَ الرَّسُولُ دَارَ الْخِلَافَةِ
شَاهَدَ أَمْرًا أَدْهَشَهُ وَرَأَى مِنَ الْحِشْمَةِ وَالزِّينَةِ وَالْحُرْمَةِ
مَا يُبْهِرُ الْأَبْصَارَ وَحِينَ اجْتَازَ بِالْحَاجِبِ ظَنَّ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ
فَقِيلَ لَهُ هَذَا الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ، فَمَرَّ بِالْوَزِيرِ فِي أُبَّهَتِهِ
فَظَنَّهُ الْخَلِيفَةُ، فَقِيلَ لَهُ هَذَا الْوَزِيرُ، وَقَدْ زُيِّنَتْ دَارُ
الْخِلَافَةِ بِزِينَةٍ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، كَانَ فِيهَا مِنَ السُّتُورِ
يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ سِتْرٍ، مِنْهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ
سِتْرٍ وَخَمْسُمِائَةِ مُذَهَّبَةٍ، وَقَدْ بُسِطَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اثْنَانِ
وَعِشْرُونَ أَلْفَ بِسَاطٍ، وَفِيهَا مِنَ الْوُحُوشِ قُطْعَانٌ مُتَآنِسَةٌ
بِالنَّاسِ، بِحَيْثُ تَأْكُلُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَمِائَةُ سَبُعٍ مَعَ
السَّبَّاعَةِ ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى
دَارِ الشَّجَرَةِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ بِرْكَةٍ فِيهَا مَاءٌ صَافٍ، وَفِي
وَسَطِ ذَلِكَ الْمَاءِ شَجَرَةٌ مَنْ ذَهَبَ وَفِضَّةٍ لَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ
غُصْنًا أَكْثَرُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِيَ الشَّمَارِيخِ وَالْأَوْرَاقِ
الْمُلَوَّنَةِ عَلَيْهَا طُيُورٌ مَصْبُوغَةٌ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَاللَّآلِئِ، وَهِيَ تُصَوِّتُ بِأَنْوَاعِ الْأَصْوَاتِ مِنَ الْمَاءِ
الْمُسَلَّطِ عَلَيْهَا، وَالشَّجَرَةُ بِكَمَالِهَا تَتَمَايَلُ كَمَا تَتَمَايَلُ
الْأَشْجَارُ بِحَرَكَاتٍ عَجِيبَةٍ تُدْهِشُ مَنْ يَرَاهَا، ثُمَّ أُدْخِلَ إِلَى
مَكَانٍ يُسَمُّونَهُ الْفِرْدَوْسَ، فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ
وَالْآلَاتِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَحُسْنًا وَفِي دَهَالِيزِهِ
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ جَوْشَنٍ مُذَهَّبَةٍ، فَمَا زَالَ كُلَّمَا مَرَّ
عَلَى مَكَانٍ أَدْهَشَهُ وَأَخَذَ بِبَصَرِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْخَلِيفَةِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ آبِنُوسَ قَدْ فُرِشَ
بالدَّيْبَقِيِّ الْمُطَرَّزِ بِالذَّهَبِ وَعَنْ يَمِينِ السَّرِيرِ تِسْعَةُ
عُقُودٍ مُعَلَّقَةٍ وَعَنْ يَسَارِهِ تِسْعَةٌ أُخْرَى مِنْ أَفْخَرِ
الْجَوَاهِرِ يَعْلُو ضَوْؤُهَا عَلَى ضَوْءِ النَّهَارِ، فَأُوقِفَ الرَّسُولُ
وَالَّذِي مَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ عَلَى نَحْوٍ مَنْ مِائَةِ ذِرَاعٍ
وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ وَالتُّرْجُمَانُ دُونَ الْوَزِيرِ، فَجَعَلَ الْخَلِيفَةُ يُخَاطِبُ
الْوَزِيرَ، وَالْوَزِيرُ يُخَاطِبُ التُّرْجُمَانَ وَالتُّرْجُمَانُ
يُخَاطِبُهُمَا، ثُمَّ خَلَعَ عَلَيْهِمَا وَأَطْلَقَ لَهُمَا خَمْسِينَ سَقْرَقًا
فِي كُلِّ سَقْرَقٍ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأُخْرِجَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَطِيفَ بِهِمَا فِي بَقِيَّةِ دَارِ الْخِلَافَةِ وَعَلَى حَافَّاتِ دِجْلَةَ
الْفِيَلَةُ وَالزَّرَافَاتُ وَالسِّبَاعُ وَالْفُهُودُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا
مِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
سُلَيْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو مُوسَى.
النَّحْوِيُّ الْكُوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَامِضِ، صَحِبَ ثَعْلَبًا
أَرْبَعِينَ سَنَةً وَخَلَفَهُ فِي حَلْقَتِهِ وَصَنَّفَ " غَرِيبَ
الْحَدِيثِ " وَ " خَلْقَ الْإِنْسَانِ " وَ " الْوُحُوشَ
" وَ " النَّبَاتَ " وَكَانَ دَيِّنًا صَالِحًا رَوَى عَنْهُ أَبُو
عُمَرَ الزَّاهِدُ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وَدُفِنَ
بِبَابِ التِّبْنِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِيرَوَيْهِ الْحَافِظُ. وَعِمْرَانُ بْنُ مُجَاشِعٍ.
وَأَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ. وَقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ
يَحْيَى الْمُطَرِّزُ الْمُقْرِئُ أَحَدُ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ سَمِعَ أَبَا
كُرَيْبٍ وَسُوَيْدَ بْنَ سَعِيدٍ، وَعَنْهُ الْخُلْدِيُّ وَابْنُ الْجَعَّابِيِّ،
تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ مُسْتَهَلُّ هَذِهِ السَّنَةِ -
فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَتْهُ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ،
وَجَلَسَ فِيهِ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الطَّبِيبُ وَرُتِّبَتْ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ
وَالْخَدَمُ وَالْقَوْمَةُ وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ سِتَّمِائَةَ
دِينَارٍ، وَأَشَارَ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِبِنَاءِ
مَارَسْتَانَ فَقَبِلَ مِنْهُ وبُنِيَ وَسُمِّيَ الْمُقْتَدِرِيَّ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ أُمَرَاءِ الصَّوَائِفِ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُصُونِ فِي بِلَادِ الرُّومِ.
وَفِيهَا شَغَبَ الْعَامَّةُ وَأَرْجَفُوا بِمَوْتِ الْمُقْتَدِرِ، فَرَكِبَ فِي
الْجَحَافِلِ حَتَّى بَلَغَ الثُّرَيَّا وَرَجَعَ مِنْ بَابِ الْعَامَّةِ وَوَقَفَ
طَوِيلًا لِيَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الشَّمَّاسِيَّةِ وَانْحَدَرَ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ فِي دِجْلَةَ فَسَكَنَتِ الْفِتَنُ.
وَفِيهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ الْوِزَارَةَ وَخَلَعَ
عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَخَلْفَهُ أَرْبَعُمِائَةِ غُلَامٍ لِنَفْسِهِ،
ثُمَّ تَبَيَّنَ عَجْزُهُ، فَأَخْرَجَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى وَجَعَلَهُ مَعَهُ
لِيُنْفِذَ الْأُمُورَ وَيَنْظُرَ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ
بْنُ مُقْلَةَ مِمَّنْ يَكْتُبُ أَيْضًا بِحَضْرَةِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ
الْوَزِيرِ، ثُمَّ صَارَتِ الْمُنْزِلَةُ كُلُّهَا لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى
وَاسْتَقَلَّ بِالْوِزَارَةِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
وَفِيهَا أَمَرَتِ السَّيِّدَةُ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ قَهْرَمَانَةً لَهَا تُعْرَفُ
بِثَمِلَ أَنْ تَجْلِسَ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي بَنَتْهَا بِالرُّصَافَةِ فِي
كُلِّ يَوْمِ جُمْعَةٍ، وَأَنْ تَنْظُرَ فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي تُرْفَعُ
إِلَيْهَا فِي الْقِصَصِ، وَحَضَرَ فِي مَجْلِسِهَا
الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ.
أَبُو الْقَاسِمِ الْكِلَابِيُّ الشَّافِعِيُّ سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ مِسْكِينٍ
وَغَيْرَهُ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا ثِقَةً، عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَكَانَ يُحِبُّ الْخَلْوَةَ وَالِانْقِبَاضَ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا.
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ الْمُكْثِرِينَ
الْمُعَمَّرِينَ.
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُرَيْجٍ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْقَاضِي بِشِيرَازَ صَنَّفَ نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةِ مُصَنَّفٍ
وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَكَانَ يُلَقَّبُ بِالْبَازِ
الْأَشْهَبِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ
الْأَنْمَاطِيِّ، وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ،
وَعَنْهُ انْتَشَرَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْآفَاقِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ. تُوُفِّيَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا عَنْ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ الْخَامِسَ وَالْعِشْرِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ
أَشْهُرٍ، وَقَبْرُهُ يُزَارُ.
أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَلَّاءُ بَغْدَادِيٌّ سَكَنَ الشَّامَ وَصَحِبَ أَبَا
التُّرَابِ النَّخْشَبِيَّ وَذَا
النُّونِ الْمِصْرِيَّ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ
لِأَبَوَيَّ وَأَنَا شَابٌّ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَهِبَانِي لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَقَالَا: قَدْ وَهَبْنَاكَ لِلَّهِ، فَغِبْتُ عَنْهُمَا مُدَّةً
طَوِيلَةً ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى بَلَدِنَا عِشَاءً فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ،
فَانْتَهَيْتُ إِلَى الْبَابِ فَدَقَقْتُهُ، فَقَالَا: مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ:
أَنَا وَلَدُكُمَا فُلَانٌ، فَقَالَا: إِنَّهُ قَدْ كَانَ لَنَا وَلَدٌ
وَوَهَبْنَاهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَنَحْنُ مِنَ الْعَرَبِ لَا نَرْجِعُ فِيمَا
وَهَبْنَا. وَلَمْ يَفْتَحَا لِيَ الْبَابَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ.
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَهُوَ أَخُو الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ كَانَ إِلَيْهِ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِالْأُرْدُنِّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى بْنِ زِيَادٍ.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوَالِيقِيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِعَبْدَانَ،
الْأَهْوَازِيُّ وُلِدَ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ، كَانَ أَحَدَ
الْحُفَّاظِ الْأَثْبَاتِ، يَحْفَظُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ، جَمَعَ الْمَشَايِخَ
وَالْأَبْوَابَ، رَوَى عَنْ هُدْبَةَ وَكَامِلِ بْنِ طَلْحَةَ وَغَيْرِهِمْ،
وَعَنْهُ ابْنُ صَاعِدٍ وَالْمَحَامِلِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
مُحَمَّدُ بْنُ بَابْشَاذَ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ.
سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ
الْعَنْبَرِيِّ وَبِشْرِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَقَدِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَفِي حَدِيثِهِ
غَرَائِبُ وَمَنَاكِيرُ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
مُحْمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَهْرَيَارَ.
أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ الْبَلْخِيُّ الْأَصْلِ رَوَى عَنِ الْفَلَّاسِ وَبِشْرِ
بْنِ مُعَاذٍ وَعَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْجِعَابِيِّ،
كَذَّبَهُ ابْنُ نَاجِيَةَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
مُحَمَّدُ بْنُ خَلَفِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ صَدَقَةَ بْنِ زِيَادٍ.
أَبُو بَكْرٍ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِوَكِيعٍ كَانَ عَالِمًا
فَاضِلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ فَقِيهًا قَارِئًا نَحْوِيًّا لَهُ
مُصَنَّفَاتٌ مِنْهَا كِتَابُ " الْعَدَدِ " وَلِيَ الْقَضَاءَ
بِالْأَهْوَازِ وَحَدَّثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرِ بْنِ
بَكَّارٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ وَأَبُو عَلِيٍّ
الصَّوَّافُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِذَا مَا غَدَتْ طَلَّابَةُ الْعِلْمِ تَبْتَغِي مِنَ الْعِلْمِ يَوْمًا مَا
يُخَلَّدُ فِي الْكُتْبِ غَدَوْتُ بِتَشْمِيرٍ وَجِدٍّ عَلَيْهِمْ
وَمِحْبَرَتِي أُذْنِي وَدَفْتَرُهَا قَلْبِي
مَنْصُورُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُمَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَقِيهُ أَحَدُ
أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْمَذْهَبِ وَلَهُ الشِّعْرُ
الْحَسَنُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَيَظْهَرُ فِي
شِعْرِهِ التَّشَيُّعُ وَكَانَ
جُنْدِيًّا كُفَّ بَصَرُهُ وَسَكَنَ الرَّمْلَةَ ثُمَّ قَدِمَ مِصْرَ حَتَّى
كَانَتْ وَفَاتُهُ بِهَا.
أَبُو نَصْرٍ الْمُحِبُّ.
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَانَ لَهُ كَرَمٌ وَسَخَاءٌ وَمُرُوءَةٌ، وَمَرَّ
بِسَائِلٍ سَأَلَ وَهُوَ يَقُولُ: شَفِيعِي إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَقَّ أَبُو نَصْرٍ إِزَارَهُ وَأَعْطَاهُ نِصْفَهُ
ثُمَّ مَشَى خُطْوَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَأَعْطَاهُ النِّصْفَ الْآخَرَ،
وَقَالَ: هَذَا نَذَالَةٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ حَرِيقٌ بِالْكَرْخِ فِي الْبَاقِلَّانِيِّينَ هَلَكَ
فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا دُخِلَ بِأُسَارَى مِنَ الْكَرْخِ نَحْوٍ مِنْ
مِائَةٍ وَخَمْسِينَ أَسِيرًا أَنْقَذَهُمُ الْأَمِيرُ بَدْرٌ الْحَمَامِيُّ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ انْقَضَّ كَوْكَبٌ عَظِيمٌ غَالِبُ الضَّوْءِ وَتَقَطَّعَ
ثَلَاثَ قِطَعٍ وَسُمِعَ بَعْدَ انْقِضَاضِهِ صَوْتُ رَعْدٍ شَدِيدٍ هَائِلٍ مِنْ
غَيْرِ غَيْمٍ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ.
وَفِيهَا عُزِلَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَنِ الْوِزَارَةِ وَأُعِيدَ إِلَيْهَا
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْفُرَاتِ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ.
وَفِيهَا كَسَرَتِ الْعَامَّةُ أَبْوَابَ السُّجُونِ فَأَخْرَجُوا مَنْ كَانَ
بِهَا، فَأَدْرَكَتِ الشُّرْطَةُ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ السِّجْنِ فَلَمْ
يَفُتْهُمْ أَحَدٌ مِنْهُمْ، بَلْ رُدُّوا إِلَى السُّجُونِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو أُمِّ
مُوسَى الْقَهْرَمَانَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى.
أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ " الْمَشْهُورِ،
سَمِعَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَطَبَقَتَهُ وَكَانَ حَافِظًا خَيِّرًا
حَسَنَ
التَّصْنِيفِ عَدْلًا فِيمَا يَرْوِيهِ
ضَابِطًا لِمَا يُحَدِّثُ بِهِ.
إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سَلَمَةَ.
أَبُو يَعْقُوبَ الْبَزَّازُ الْكُوفِيُّ، رَحَلَ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ
وَكَتَبَ الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ " الْمُسْنَدَ " وَاسْتَوْطَنَ بَغْدَادَ
وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ، رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ الْحَافِظُ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَعْرَجُ
النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَوَى عَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ
وَالْأَزْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا
عَارِفًا، تُوُفِّيَ بِحَلَبَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ.
الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ شَيْخُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي السُّنَّةِ
وَالْحَدِيثِ.
عَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَزْهَرِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيُّ، كَانَ
أَوَّلًا مُتْرَفًا ثُمَّ كَانَ زَاهِدًا عَابِدًا يَبْقَى الْأَيَّامَ لَا
يَأْكُلُ فِيهَا شَيْئًا، وَكَانَ يَقُولُ: أَلْهَانِي الشَّوْقُ عَنِ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا لَا أَمُوتُ بِمَا يَمُوتُونَ،
بِالْأَعْلَالِ وَالْأَسْقَامِ إِنَّمَا هُوَ
دُعَاءٌ وَإِجَابَةٌ، أُدْعَى
فَأُجِيبُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي جَمَاعَةٍ إِذْ قَالَ:
لَبَّيْكَ، وَوَقَعَ مَيِّتًا.
ومُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ صَاحِبُ " الْمُسْنَدِ "
وَابْنُ ذَرِيحٍ الْعُكْبَرِيُّ وَالْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
غَلَتِ الْأَسْعَارُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ فَاضْطَرَبَتِ الْعَامَّةُ
وَقَصَدُوا دَارَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الَّذِي ضَمِنَ قَرَايَا مِنَ
الْخَلِيفَةِ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَعَدَوْا فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ وَكَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْخَطِيبِ، فَمَنَعُوهُ الْخُطْبَةَ
وَكَسَرُوا الْمَنَابِرَ وَدِكَكَ الشُّرَطِ وَحَرَقُوا جُسُورًا كَثِيرَةً،
وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِقِتَالِ الْعَامَّةِ ثُمَّ نَقَضَ الضَّمَانَ الَّذِي
كَانَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ ضَمِنَهُ فَانْحَطَّتِ الْأَسْعَارُ وَبِيعَ
الْكُرُّ بِنَاقِصِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ فَطَابَتْ أَنْفُسُ النَّاسِ بِذَلِكَ
وَسَكَنُوا.
وَفِي تَمُّوزَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ جِدًّا حَتَّى نَزَلَ
النَّاسُ عَنِ الْأَسْطِحَةِ وَتَدَثَّرُوا بِاللُّحُفِ وَالْأَكْسِيَةِ وَوَقَعَ
فِي شِتَاءِ هَذِهِ السَّنَةِ ثَلْجٌ عَظِيمٌ وَكَانَ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ
جِدًّا بِحَيْثُ أَضَرَّ ذَلِكَ بِبَعْضِ النَّخِيلِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا أَحْمَدُ بْنُ الْعَبَّاسِ أَخُو الْقَهْرَمَانَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ الْفَقِيهُ.
رَاوِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ
أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ.
بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحِمَّانِيُّ أَحَدُ الْوَضَّاعِينَ
لِلْأَحَادِيثِ رَوَى عَنْ خَالِهِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلِّسِ وَأَبِي نُعَيْمٍ
وَمُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبِي
عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَغَيْرِهِمْ أَحَادِيثَ، كُلُّهَا وَضَعَهَا
هُوَ فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَحَكَى عَنْ يَحْيَى بْنِ
مَعِينٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَبِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ أَخْبَارًا
كُلُّهَا كَذِبٌ.
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي
الْفَوَارِسِ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ الصَّلْتِ يَضَعُ الْحَدِيثَ.
إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ وَالْمُفَضَّلُ الْجَنَدِيُّ وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَهْبٍ الدِّينَوَرِيُّ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ يَعْقُوبَ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ النَّحْوِيُّ التَّوَّزِيُّ سَكَنَ بَغْدَادَ
وَرَوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ شَبَّةَ، وَعَنْهُ أَبُو عَمْرِو بْنُ السَّمَّاكِ،
وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا
فَعِلْمُكَ فِي الْبَيْتِ لَا يَنْفَعُ وَتَحْضُرُ بِالْجَهْلِ فِي مَجْلِسٍ
وَعِلْمُكَ فِي الْكُتْبِ مُسْتَوْدَعُ وَمَنْ يَكُ فِي دَهْرِهِ هَكَذَا
يَكُنْ دَهْرَهُ الْقَهْقَرَى يَرْجِعُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ حَرِيقٌ كَثِيرٌ فِي نُوَاحِي بَغْدَادَ بِسَبَبِ زِنْدِيقٍ قُتِلَ
فَأَلْقَى مَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ الْحَرِيقَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فَهَلَكَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا قَلَّدَ الْمُقْتَدِرُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ
بِلَادَ مِصْرَ وَالشَّامِ وَلَقَبَّهُ الْمُظَفَّرَ وَكَتَبَ بِذَلِكَ فِي
الْمُرَاسَلَاتِ إِلَى الْآفَاقِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا أُحْضِرَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ
الطَّبَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى دَارِ الْوَزِيرِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ
لِمُنَاظَرَةِ الْحَنَابِلَةِ فِي أَشْيَاءَ نَقَمُوهَا عَلَيْهِ فَلَمْ
يَحْضُرُوا وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.
وَقَدَّمَ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنِ الْعَبَّاسِ لِلْخَلِيفَةِ بُسْتَانًا بَنَاهُ
وَسَمَّاهُ النَّاعُورَةَ قِيمَتُهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَفَرَشَ مَسَاكِنَهُ
بِأَنْوَاعِ الْمَفَارِشِ الْمُفْتَخِرَةِ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ وَلِنَذْكُرْ
شَيْئًا مِنْ تَرْجَمَتِهِ وَسِيرَتِهِ وَكَيْفِيَّةِ قَتْلِهِ، عَلَى وَجْهِ
الْإِيجَازِ وَبَيَانِ الْمَقْصُودِ بِطَرِيقِ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ.
وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْ سِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ وَكَشْفِ سَرِيرَتِهِ
وَأَقْوَالِهِ
الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ مَحْمِيٍّ الْحَلَّاجُ أَبُو مُغِيثٍ، وَيُقَالُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ،
كَانَ جَدُّهُ مَجُوسِيًّا اسْمُهُ
مَحْمِيٌّ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ نَشَأَ بِوَاسِطَ، وَيُقَالُ بِتُسْتَرَ، وَدَخَلَ
بَغْدَادَ وَتَرَدَّدَ إِلَى مَكَّةَ مِرَارًا لِلْحَجِّ وَجَاوَرَ بِهَا
سَنَوَاتٍ مُتَفَرِّقَةً، وَكَانَ يُصَابِرُ نَفْسَهُ وَيُجَاهِدُهَا فَلَا
يَجْلِسُ إِلَّا تَحْتَ السَّمَاءِ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ فِي الْحَرِّ
وَالْبَرْدِ وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا بَعْضَ قُرْصٍ وَيَشْرَبُ قَلِيلًا مِنَ
الْمَاءِ مَعَهُ وَذَلِكَ وَقْتَ الْفُطُورِ مُدَّةَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ وَيَجْلِسُ
عَلَى صَخْرَةٍ فِي قُبَالَةِ الْحَرَمِ فِي جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ وَقَدْ صَحِبَ
جَمَاعَةً مِنْ سَادَاتِ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ كَالْجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ
وَعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَالصُّوفِيَّةُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ
فَأَكْثَرَهُمْ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْحَلَّاجُ مِنْهُمْ وَأَبَى أَنْ يَعُدَّهُ
فِيهِمْ، وَقَبِلَهُ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ
الْبَغْدَادِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ الشِّيرَازِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ وَصَحَّحُوا لَهُ حَالَهُ
وَدَوَّنُوا كَلَامَهُ حَتَّى قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ
عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحُسَيْنِ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَاذِيَّ وَعُوتِبَ
فِي شَيْءٍ حُكِيَ عَنِ الْحَلَّاجِ فِي الرُّوحِ،
فَقَالَ لِمَنْ عَاتَبَهُ: إِنْ كَانَ
بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ مُوَحِّدٌ فَهُوَ الْحَلَّاجُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: وَسَمِعْتُ مَنْصُورَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ،
يَقُولُ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ، يَقُولُ: كُنْتُ أَنَا وَالْحُسَيْنُ بْنُ
مَنْصُورٍ شَيْئًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّهُ أَظْهَرَ وَكَتَمْتُ. وَقَدْ رُوِيَ
عَنِ الشِّبْلِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ رَأَى الْحَلَّاجَ
مَصْلُوبًا: أَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ؟
قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِينَ نَفَوْهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ نَسَبُوهُ إِلَى
الشَّعْبَذَةِ فِي فِعْلِهِ وَإِلَى الزَّنْدَقَةِ فِي عَقْدِهِ.
قَالَ: وَلَهُ إِلَى الْآنِ أَصْحَابٌ يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ وَيَغْلُونَ فِيهِ،
وَقَدْ كَانَ الْحَلَّاجُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ حُلْوَ الْمَنْطِقِ وَلَهُ شِعْرٌ
عَلَى طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ.
قُلْتُ: لَمْ يَزَلِ النَّاسُ مُنْذُ قُتِلَ الْحَلَّاجُ مُخْتَلِفِينَ فِي
أَمْرِهِ. فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَحُكِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ
إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ وَأَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُمَخْرِقًا مُمَوِّهًا
مُشَعْبِذًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَكْثَرِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُمْ. وَمِنْهُمْ
طَائِفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَجْمَلُوا الْقَوْلَ فِيهِ وَغَرَّهُمْ ظَاهِرُهُ
وَلَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى بَاطِنِهِ، وَقَدْ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فِيهِ
تَعْبُدٌ وَتَأَلُّهٌ وَسُلُوكٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ يَسْلُكُ بِهِ
فِي عِبَادَتِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ
أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ
قَالَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا
كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مَنَ الْيَهُودِ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادِنَا كَانَ فِيهِ
شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى. وَلِهَذَا دَخَلَ عَلَى الْحَلَّاجِ بَابُ الْحُلُولِ
وَالِاتِّحَادِ فَصَارَ مِنْ أَهْلِ الِانْحِلَالِ وَالْإِلْحَادِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ تَقَلَّبَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ
وَتَرَدَّدَ إِلَى الْبُلْدَانِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ
أَنَّهُ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَحَّ أَنَّهُ دَخَلَ
إِلَى الْهِنْدِ لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ، وَقَالَ: أَدْعُو بِهِ إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ. وَكَانَأَهْلُ الْهِنْدِ يُكَاتِبُونَهُ بِالْمُغِيثِ.
وَيُكَاتِبُهُ أَهْلُ تُرْكِسْتَانَ بِالْمُقِيتِ. وَيُكَاتِبُهُ أَهْلُ
خُرَاسَانَ بِالْمُمَيِّزِ. وَأَهْلُ فَارِسَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ.
وَأَهْلُ خُوزَسْتَانَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ حَلَّاجِ الْأَسْرَارِ.
وَكَانَ بَعْضُ الْبَغَادِدَةِ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ يَقُولُونَ لَهُ:
الْمُصْطَلِمُ. وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ لَهُ الْمُحَيِّرُ.
وَيُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ الْحَلَّاجَ أَهْلُ الْأَهْوَازِ ; لِأَنَّهُ كَانَ
يُكَاشِفُهُمْ عَنْ مَا فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ قَالَ لِحَلَّاجٍ:
اذْهَبْ لِي فِي حَاجَةِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: إِنِّي مَشْغُولٌ، فَقَالَ:
اذْهَبْ فَأَنَا أَسُدُّ عَنْكَ، فَذَهَبَ وَرَجَعَ سَرِيعًا فَإِذَا جَمِيعُ مَا
فِي ذَلِكَ الْمَخْزَنِ قَدْ حَلَجَهُ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَشَارَ بِالْمِرْوَدِ
فَامْتَازَ الْحَبُّ عَنِ الْقُطْنِ، وَفِي صِحَّةِ هَذَا نَظَرٌ. وَقِيلَ:
لِأَنَّ أَبَاهُ كَانَ حَلَّاجًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ذَا
حُلُولٍ
فِي بَدْءِ أَمْرِهِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ
مِنْهَا شِعْرُهُ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
جُبِلَتْ رُوحُكَ فِي رُوحِي كَمَا يُجْبَلُ الْعَنْبَرُ بِالْمِسْكِ الْفَتِقْ
فَإِذَا مَسَّكَ شَيْءٌ مَسَّنِي
فَإِذَا أَنْتَ أَنَا لَا نَفْتَرِقْ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
مُزِجَتْ رُوحُكَ فِي رُوحِي كَمَا تُمْزَجُ الْخَمْرَةُ بِالْمَاءِ الزُّلَالْ
فَإِذَا مَسَّكَ شَيْءٌ مَسَّنِي فَإِذَا أَنْتَ أَنَا فِي كُلِّ حَالْ
وَلَهُ أَيْضًا:
قَدْ تَحَقَّقْتُكَ فِي سِرِّ ي فَخَاطَبَكَ لِسَانِي
فَاجْتَمَعْنَا لِمَعَانٍ وَافْتَرَقْنَا لِمَعَانِ
إِنْ يَكُنْ غَيَّبَكَ التَّعْ ظِيمُ عَنْ لَحْظِ الْعَيَانِ
فَلَقَدْ صَيَّرَكَ الْوَجْ دُ مِنَ الْأَحْشَاءِ دَانِ
وَقَدْ أُنْشِدَ لِابْنِ عَطَاءٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ:
أُرِيدُكَ لَا أُرِيدُكَ لِلثَّوَابِ وَلَكِنِّي أُرِيدُكَ لِلْعِقَابِ
وَكُلُّ مَآرِبِي قَدْ نِلْتُ مِنْهَا سِوَى مَلْذُوذِ وَجْدِي بِالْعَذَابِ
فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: هَذَا مِمَّا يَتَزَايَدُ بِهِ عَذَابُ الشَّغَفِ
وَهُيَامُ الْكَلَفِ وَاحْتِرَاقُ الْأَسَفِ فَإِذَا صَفَا وَوَفَا عَلَا إِلَى
مَشْرَبٍ عَذْبٍ وَهَطْلٍ مِنَ الْحَقِّ دَائِمٍ سَكِبٍ.
وَقَدْ أُنْشِدَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَفِيفٍ قَوْلُ الْحَلَّاجِ:
سُبْحَانَ مَنْ أَظْهَرَ نَاسُوتُهُ
سِرَّ سَنَا لَاهُوتِهِ الثَّاقِبِ
ثُمَّ بَدَا فِي خَلْقِهِ ظَاهِرًا فِي صُورَةِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ
حَتَّى لَقَدْ عَايَنَهُ خَلْقُهُ كَلَحْظَةِ الْحَاجِبِ بِالْحَاجِبِ
فَقَالَ ابْنُ خَفِيفٍ: عَلَى مَنْ يَقُولُ هَذَا لَعْنَةُ اللَّهِ. فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّ هَذَا مِنْ شِعْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ، فَقَالَ: رُبَّمَا يَكُونُ
مَقُولًا عَلَيْهِ.
وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مِنَ الشِّعْرِ قَوْلُهُ:
أَرْسَلْتَ تَسْأَلُ عَنِّي كَيْفَ كُنْتُ وَمَا لَاقَيْتُ بَعْدَكَ مِنْ هَمٍّ
وَمِنْ حَزَنِ
لَا كُنْتُ إِنْ كُنْتُ أَدْرِي كَيْفَ كُنْتُ وَلَا لَا كُنْتُ إِنْ كُنْتُ
أَدْرِي كَيْفَ لَمْ أَكُنِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَيُرْوَى لِسَمْنُونٍ لَا لِلْحَلَّاجِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَتَى سَهِرَتْ عَيْنِي لِغَيْرِكَ أَوْ بَكَتْ فَلَا أُعْطِيَتْ مَا أَمَّلَتْ
وَتَمَنَّتِ
وَإِنْ أَضْمَرَتْ نَفْسِي سِوَاكَ فَلَا رَعَتْ رِيَاضَ الْمُنَى مِنْ
وَجْنَتَيْكَ وَجُنَّتِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
دُنْيَا تُغَالِطُنِي كَأَنِّ ي لَسْتُ
أَعْرِفُ حَالَهَا
حَظَرَ الْمَلِيكُ حَرَامَهَا وَأَنَا احْتَمَيْتُ حَلَالَهَا
فَوَجَدْتُهَا مُحْتَاجَةً فَوَهَبْتُ لَذَّتَهَا لَهَا
وَقَدْ كَانَ الْحَلَّاجُ يَتَلَوَّنُ فِي مَلَابِسِهِ، فَتَارَةً يَلْبَسُ
لِبَاسَ الصُّوفِيَّةِ، وَتَارَةً يَتَجَرَّدُ فِي مَلَابِسَ زَرِيَّةٍ، وَتَارَةً
يَلْبَسُ لِبَاسَ الْأَجْنَادِ وَيُعَاشِرُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا، وَقَدْ رَآهُ
بَعْضُهُمْ فِي ثِيَابٍ رَثٍّ وَبِيَدِهِ رِكْوَةٌ وَعُكَّازٌ وَهُوَ سَائِحٌ،
فَقَالَ لَهُ: مَا هَذِهِ الْحَالَةُ يَا حَلَّاجُ ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَئِنْ أَمْسَيْتُ فِي ثَوْبَيْ عَدِيمٍ لَقَدْ بَلِيَا عَلَى حُرٍّ كَرِيمِ
فَلَا يَغْرُرْكَ أَنْ أَبْصَرْتَ حَالًا مُغَيَّرَةً عَنِ الْحَالِ الْقَدِيمِ
فَلِي نَفْسٌ سَتَتْلَفُ أَوْ سَتَرْقَى لَعَمْرُكَ بِي إِلَى أَمْرٍ جَسِيمِ
وَمِنْ مُسْتَجَادِ كَلَامِهِ، وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ أَنْ يُوصِيَهُ بِشَيْءٍ
يَنْفَعُهُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ شَغَلَتْكَ
عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِظْنِي. فَقَالَ: كُنْ مَعَ الْحَقِّ
بِحُكْمِ مَا أَوْجَبَ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: عِلْمُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخَرِينَ مَرْجِعُهُ إِلَى أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: حُبُّ الْجَلِيلِ، وَبُغْضُ
الْقَلِيلِ، وَاتِّبَاعُ التَّنْزِيلِ، وَخَوْفُ التَّحْوِيلِ. قُلْتُ: وَقَدْ
أُصِيبَ الْحَلَّاجُ فِي الْمَقَامَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَلَمْ يَتَّبِعِ
التَّنْزِيلَ وَلَمْ يَبْقَ عَلَى
الِاسْتِقَامَةِ، بَلْ تَحَوَّلَ
مِنْهَا إِلَى الِاعْوِجَاجِ وَالْبِدْعَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: حُكِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
الْمَكِّيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أُمَاشِي الْحَلَّاجَ فِي بَعْضِ أَزِقَّةِ
مَكَّةَ وَكُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَسَمِعَ قِرَاءَتِي، فَقَالَ: يُمْكِنُنِي
أَنْ أَقُولَ مِثْلَ هَذَا. فَفَارَقَتْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَحَدَّثَنِي مَسْعُودُ بْنُ نَاصِرٍ أَنْبَأَنَا ابْنُ
بَاكُوَيْهِ الشِّيرَازِيُّ سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ الطَّبَرِيَّ، يَقُولُ:
النَّاسُ فِيهِ - يَعْنِي حُسَيْنَ بْنَ مَنْصُورٍ - بَيْنَ قَبُولٍ وَرَدٍّ،
وَلَكِنْ سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الرَّازِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَمْرَو
بْنَ عُثْمَانَ يَلْعَنُهُ وَيَقُولُ: لَوْ قَدَرْتُ عَلَيْهِ لَقَتَلْتُهُ
بِيَدِي، فَقُلْتُ: أَيْشِ الَّذِي وَجَدَ الشَّيْخُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: قَرَأْتُ
آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ: يُمْكِنُنِي أَنْ أُؤَلِّفَ مِثْلَهُ
وَأَتَكَلَّمَ بِهِ.
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ الطَّبَرِيُّ: وَسَمِعْتُ أَبَا يَعْقُوبَ الْأَقْطَعَ، يَقُولُ:
زَوَّجْتُ ابْنَتِي مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حُسْنِ
طَرِيقَتِهِ وَاجْتِهَادِهِ، فَبَانَ لِي بَعْدَ مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ أَنَّهُ
سَاحِرٌ مُحْتَالٌ خَبِيثٌ كَافِرٌ.
قُلْتُ: كَانَ تَزْوِيجُهُ بِهَا بِمَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْحُسَيْنِ بِنْتُ أَبِي
يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ، فَأَوْلَدَهَا وَلَدَهُ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ
مَنْصُورٍ، وَقَدْ ذَكَرَ سِيرَةَ أَبِيهِ كَمَا سَاقَهَا مِنْ طَرِيقِهِ
الْخَطِيبُ.
وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي
بَابِ " حِفْظِ قُلُوبِ الْمَشَايِخِ " أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ
دَخَلَ عَلَى الْحَلَّاجِ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَهُوَ يَكْتُبُ شَيْئًا فِي
أَوْرَاقٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا ؟
فَقَالَ: هُوَ ذَا أُعَارِضُ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ فَلَمْ يُفْلِحْ
بَعْدَهَا، وَأَنْكَرَ عَلَى أَبِي يَعْقُوبَ الْأَقْطَعِ تَزْوِيجَهُ إِيَّاهُ
ابْنَتَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ كُتُبًا كَثِيرَةً يَلْعَنُهُ فِيهَا
وَيُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْهُ، فَشَرَدَ الْحَلَّاجُ فِي الْبِلَادِ فَعَاثَ
يَمِينًا وَشِمَالًا وَجَعَلَ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ -
عَزَّ وَجَلَّ - وَيَسْتَعِينُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِيَلِ وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبَهُ وَشَأْنَهُ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ بِهِ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ
عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فَقَتَلَهُ بِسَيْفِ الشَّرْعِ الَّذِي لَا يَقَعُ
إِلَّا بَيْنَ كَتِفَيْ زِنْدِيقٍ، وَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُسَلِّطَهُ
عَلَى صِدِّيقٍ كَيْفَ وَقَدْ تَهَجَّمَ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَأَرَادَ
مُعَارَضَتَهُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ الْكَرِيمِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ [ الْحَجِّ: 25 ] وَلَا إِلْحَادَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا، وَقَدْ أَشْبَهَ
فِي حَالِهِ هَذَا كَفَّارَ قُرَيْشٍ فِي مُعَانَدَتِهِمُ، الَّذِينَ قَالَ
تَعَالَى فِيهِمْ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا
لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
[ الْأَنْفَالِ: 31 ].
ذِكْرُ أَشْيَاءَ مِنْ حِيَلِ الْحَلَّاجِ
رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّ الْحَلَّاجَ أَنْفَذَ رَجُلًا بَيْنَ
يَدَيْهِ إِلَى بَعْضِ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَأَقَامَ بِتِلْكَ الْبَلْدَةِ
يُظْهِرُ لَهُمُ الصَّلَاحَ وَالنُّسُكَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَقَامَ فِيهِمْ
مُدَّةً عَلَى
ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ
قَدْ عَمِيَ، فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ زَمِنَ،
وَكَانَ أَوَّلًا يُقَادُ إِلَى الْمَسْجِدِ ثُمَّ صَارَ يُحْمَلُ، فَمَكَثَ
سَنَةً كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: سَيَرِدُ عَلَى هَذِهِ الْبَلْدَةِ
رَجُلٌ صَالِحٌ يَكُونُ شِفَاؤُكَ عَلَى يَدَيْهِ، فَمَا كَانَ مِنْ قَرِيبٍ
حَتَّى كَانَ الْوَقْتُ الَّذِي وَاعَدَهُ فِيهِ الْحَلَّاجُ، وَدَخَلَ
الْحَلَّاجُ الْبَلْدَةَ مُخْتَفِيًا وَعَلَيْهِ ثِيَابُ صُوفٍ بِيضٌ فَلَزِمَ
سَارِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ يَتَعَبَّدُ فِيهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَحَدٍ،
فَابْتَدَرَ النَّاسُ إِلَى ذَلِكَ الْمُتَعَامِي الْمُتَزَامِنِ، فَقِيلَ لَهُ:
قَدِمَ رَجُلٌ صَالِحٌ فَهَلُمَّ إِلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَكَلَّمَهُ فَعَرَفَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنِّي
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ
وَهُوَ يَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا، فَعَسَى أَنْ يَكُونَ أَنْتَ إِيَّاهُ.
فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّاسُ حُضُورٌ
مُتَكَاثِرُونَ يَنْظُرُونَ مَاذَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِ، فَفَتَحَ الرَّجُلُ
عَيْنَيْهِ وَقَامَ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ، فَضَجَّ النَّاسُ وَعَظَّمُوا
الْحَلَّاجَ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقٍّ، فَأَقَامَ عِنْدَهُمْ
مُدَّةً ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَبَقِيَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عِنْدَهُمْ
عِدَّةَ شُهُورٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيَّ أَنْ رَدَّ
عَلَيَّ بَصَرِي وَشَفَانِي وَيَنْبَغِي أَنْ أُجَاهِدَ فِي سَبِيلِهِ بِثَغْرِ
طَرَسُوسَ فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَجَمَعُوا لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَالًا جَزِيلًا
أُلُوفًا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، ثُمَّ وَدَّعَهُمْ وَوَدَّعُوهُ، فَذَهَبَ
إِلَى الْحَلَّاجِ فَاقْتَسَمَا ذَلِكَ الْمَالَ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ أَنَّ الْحَلَّاجَ لَهُ
أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَخْتَبِرَهُ فَجِئْتُهُ فَسَلَّمْتُ
عَلَيْهِ فَقَالَ لِي: تَشَهَّ عَلَيَّ السَّاعَةَ شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَشْتَهِي
سَمَكًا طَرِيًّا، فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَغَابَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَ وَمَعَهُ
سَمَكَةٌ تَضْطَرِبُ
وَرِجْلَاهُ عَلَيْهِمَا الطِّينُ،
فَقَالَ: دَعَوْتُ اللَّهَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ بِالْبَطَائِحِ لِآتِيَكَ
بِهَذِهِ، فَخُصْتُ الْأَهْوَازَ وَهَذَا الطِّينُ مِنْهَا. فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتَ
أَدْخَلْتَنِي مَنْزِلَكَ لِأَكْشِفَ أَمْرَكَ فَإِنْ ظَهَرْتُ عَلَى شَيْءٍ
وَإِلَّا آمَنْتُ بِكَ، فَقَالَ: ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَلَمْ أَجِدْ فِي الْبَيْتِ
مَنْفَذًا إِلَى غَيْرِهِ فَتَحَيَّرْتُ فِي أَمْرِهِ ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا
تَأْزِيرٌ فَكَشَفْتُهُ فَإِذَا مِنَ وَرَائِهِ بَابٌ فَدَخَلْتُ فَخَرَجْتُ
مِنْهُ إِلَى بُسْتَانٍ هَائِلٍ فِيهِ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ الْجَدِيدَةِ
وَالْمُعَتَّقَةِ قَدْ أُحْسِنُ إِبْقَاؤُهَا وَإِذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ
مُعَدَّةٌ لِلْأَكْلِ وَإِذَا هُنَاكَ بِرْكَةٌ كَبِيرَةٌ فِيهَا سَمَكٌ كَثِيرٌ
كِبَارٌ فَدَخَلْتُهَا فَأَخْرَجْتُ مِنْهَا وَاحِدَةً، فَنَالَ رِجْلِي مِنَ
الطِّينِ كَمَا نَالَ رَجْلَيْهِ وَجِئْتُ إِلَى الْبَابِ فَقُلْتُ لَهُ: افْتَحْ
قَدْ آمَنْتُ بِكَ، فَلَمَّا خَرَجْتُ وَرَآنِي عَلَى مِثْلِ حَالِهِ جَرَى
وَرَائِي لِيَقْتُلَنِي فَضَرَبْتُهُ بِالسَّمَكَةِ فِي وَجْهِهِ، وَقُلْتُ: يَا
عَدُوَّ اللَّهِ أَتْعَبْتَنِي فِي هَذَا الْيَوْمِ. وَلَمَّا خَلَصْتُ مِنْهُ لَقِيَنِي
بَعْدَ ذَلِكَ فَضَاحَكَنِي، وَقَالَ: لَا تُفْشِ هَذَا لِأَحَدٍ أَبْعَثْ
إِلَيْكَ مَنْ يَقْتُلُكَ عَلَى فِرَاشِكَ.
قَالَ: فَلَمْ أُحَدِّثْ بِهِ أَحَدًا حَتَّى صُلِبَ. وَقَدْ قَالَ يَوْمًا
لِرَجُلٍ: آمِنْ بِي حَتَّى أَبْعَثَ لَكَ بِعُصْفُورَةٍ تَأْخُذُ مِنْ ذَرْقِهَا
وَزْنَ حَبَّةٍ فَتَضَعُهُ عَلَى كَذَا وَكَذَا رِطْلًا مِنْ نُحَاسٍ، فَيَصِيرُ
ذَهَبًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: آمِنْ بِي أَنْتَ حَتَّى أَبْعَثَ إِلَيْكَ
بِفِيلٍ إِذَا اسْتَلْقَى عَلَى قَفَاهُ بَلَغَتْ قَوَائِمُهُ السَّمَاءَ وَإِذَا
أَرَدْتَ أَنْ تُخْفِيَهُ وَضَعْتَهُ فِي إِحْدَى عَيْنَيْكَ. قَالَ: فَبُهِتَ
وَسَكَتَ.
وَلَمَّا وَرَدَ بَغْدَادَ جَعَلَ
يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ وَيُظْهِرُ أَشْيَاءَ مِنَ الْمَخَارِيقِ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يُرَوِّجُ عَلَى
الرَّافِضَةِ لِقِلَّةِ عُقُولِهِمْ وَضِعْفِ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ الْحَقِّ
وَالْبَاطِلِ فَاسْتَدْعَى يَوْمًا بِرَئِيسٍ مِنَ الرَّافِضَةِ فَدَعَاهُ إِلَى
الْإِيمَانِ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي رِجْلٌ أُحِبُّ النِّسَاءَ
وَإِنِّي أَصْلَعُ الرَّأْسِ وَقَدْ شِبْتُ فَإِنْ أَنْتَ أَذْهَبْتَ عَنِّي هَذَا
وَهَذَا آمَنْتُ أَنَّكَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ أَنَّكَ
نَبِيٌّ وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ.
قَالَ: فَبُهِتَ الْحَلَّاجُ وَلَمْ يُحِرْ إِلَيْهِ جَوَابًا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ الْحَلَّاجُ
مُتَلَوِّنًا كَثِيرَ التَّلَوُّنِ، تَارَةً يَلْبَسُ الْمُسُوحَ وَتَارَةً
يَلْبَسُ الدُّرَّاعَةَ وَتَارَةً يَلْبَسُ الْقَبَاءَ وَهُوَ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ
عَلَى مَذْهَبِهِمْ، إِنْ كَانُوا أَهْلَ سُنَّةٍ أَوْ رَافِضَةً أَوْ
مُعْتَزِلَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا أَقَامَ بِالْأَهْوَازِ جَعَلَ يُنْفِقُ مِنْ دَرَاهِمَ يُخْرِجُهَا
يُسَمِّيهَا دَرَاهِمَ الْقُدْرَةِ، فَسُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ
الْجُبَّائِيُّ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يُنَالُ
بِالْحِيلَةِ وَلَكِنْ أَدْخِلُوهُ بَيْتًا لَا مَنْفَذَ لَهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ
يُخْرِجَ لَكُمْ جَوْزَتَيْنِ مِنْ شَوْكٍ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَلَّاجَ كَلَامُ
أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ تَحَوَّلَ مِنَ الْأَهْوَازِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَخْلَدٍ أَنْبَأَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُطَبِيُّ
فِي " تَارِيخِهِ " قَالَ: وَظَهَرَ أَمْرُ رَجُلٍ يُعْرَفُ بِالْحَلَّاجِ يُقَالُ لَهُ: الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَكَانَ فِي حَبْسِ السُّلْطَانِ بِسِعَايَةٍ وَقَعَتْ بِهِ، وَذَلِكَ فِي وِزَارَةِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْأُولَى وَذُكِرَ عَنْهُ ضُرُوبٌ مِنَ الزَّنْدَقَةِ وَوَضْعِ الْحِيَلِ عَلَى تَضْلِيلِ النَّاسِ مِنْ جِهَاتٍ تُشْبِهُ الشَّعْوَذَةَ وَالسِّحْرَ وَادِّعَاءَ النُّبُوَّةِ فَكَشَفَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عِنْدَ قَبْضِهِ عَلَيْهِ وَانْتَهَى خَبَرُهُ إِلَى السُّلْطَانِ - يَعْنِي الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ - فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا رُمِيَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَعَاقَبَهُ وَصَلَبَهُ حَيًّا أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً فِي رَحْبَةِ الْجِسْرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ غُدْوَةً وَيُنَادَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ عَنْهُ ثُمَّ يُنْزَلُ بِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ فَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ سِنِينَ كَثِيرَةً يُنْقَلُ مِنْ حَبْسٍ إِلَى حَبْسٍ حَتَّى حُبِسَ بِأَخَرَةٍ فِي دَارِ السُّلْطَانِ فَاسْتَغْوَى جَمَاعَةً مِنْ غِلْمَانِ السُّلْطَانِ وَمَوَّهَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَمَالَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنْ حِيَلِهِ حَتَّى صَارُوا يَحْمُونَهُ وَيَدْفَعُونَ عَنْهُ وَيُرَفِّهُونَهُ، ثُمَّ رَاسَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَتَراقَى بِهِ الْأَمْرُ حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ وَسُعِيَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَقُبِضَ عَلَيْهِمْ وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى تَصْدِيقِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ وَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِلِسَانِهِ بِذَلِكَ وَانْتَشَرَ خَبَرُهُ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي قَتْلِهِ فَأَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِتَسْلِيمِهِ إِلَى حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَأَمَرَ أَنْ يَكْشِفَهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَيَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ فَجَرَى فِي ذَلِكَ خُطُوبٌ طِوَالٌ، ثُمَّ اسْتَيْقَنَ السُّلْطَانُ أَمْرَهُ وَوَقَفَ عَلَى مَا ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَإِحْرَاقِهِ بِالنَّارِ، فَأُحْضِرَ مَجْلِسَ الشُّرْطَةِ بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ فَضُرِبَ بِالسِّيَاطِ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ سَوْطٍ وَقُطِعَتْ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ وَضُرِبَتْ عُنُقُهُ
وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ بِالنَّارِ وَنُصِبَ رَأْسُهُ لِلنَّاسِ عَلَى سُورِ
الْجِسْرِ الْجَدِيدِ وَعُلِّقَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ إِلَى جَانِبِ رَأْسِهِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ:
سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْوَاعِظَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ
الرَّازِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُمْشَاذٍ: حَضَرَ عِنْدَنَا بِالدِّينَوَرِ
رَجُلٌ وَمَعَهُ مِخْلَاةٌ، فَمَا كَانَ يُفَارِقُهَا بِاللَّيْلِ وَلَا
بِالنَّهَارِ، فَفَتَّشُوا الْمِخْلَاةَ فَوَجَدُوا فِيهَا كِتَابًا لِلْحَلَّاجِ
عُنْوَانُهُ: مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ. فَبُعِثَ
بِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَسُئِلَ الْحَلَّاجُ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَرَّ أَنَّهُ
كَتَبَهُ فَقَالُوا لَهُ كُنْتَ تَدَّعِي النُّبُوَّةَ فَصِرْتَ تَدَّعِي
الْأُلُوهِيَّةَ وَالرُّبُوبِيَّةَ ؟! فَقَالَ: لَا وَلَكِنَّ هَذَا عَيْنُ
الْجَمْعِ عِنْدَنَا، هَلِ الْكَاتِبُ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَا وَالْيَدُ آلَةٌ ؟
فَقِيلَ لَهُ: مَعَكَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: نَعَمْ، ابْنُ عَطَاءٍ وَأَبُو
مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الشِّبْلِيُّ، فَسُئِلَ الْجَرِيرِيُّ
عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ يَقُولُ بِهَذَا كَافِرٌ. وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يُمْنَعُ. وَسُئِلَ ابْنُ عَطَاءٍ عَنْ
ذَلِكَ فَقَالَ بِقَوْلِ الْحَلَّاجِ فِي ذَلِكَ، فَعُوقِبَ حَتَّى كَانَ سَبَبَ
هَلَاكِهِ.
ثُمَّ رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الرَّازِيِّ أنَّ الْوَزِيرَ حَامِدَ بْنَ الْعَبَّاسِ لَمَّا حَضَرَ
الْحَلَّاجُ سَأَلَهُ عَنِ اعْتِقَادِهِ فَأَقَرَّ بِهِ فَكَتَبَهُ فَسَأَلَ عَنْ
ذَلِكَ فُقَهَاءَ بَغْدَادَ فَأَنْكَرُوا ذَلِكَ، وَقِيلَ لِلْوَزِيرِ: إِنَّ
أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ عَطَاءٍ يَقُولُ
بِهَذَا. فَطَلَبَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ،
وَجَاءَ فَجَلَسَ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ
لَا يَقُولُ بِهَذَا فَهُوَ بِلَا اعْتِقَادٍ. فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: وَيْحَكَ
تُصَوِّبُ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ ؟ فَقَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا، عَلَيْكَ
بِمَا نُصِّبْتَ لَهُ مَنْ أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ وَظُلْمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ،
فَمَا لَكَ وَلِكَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ ؟ فَأَمَرَ الْوَزِيرُ بِضَرْبِ
شِدْقَيْهِ وَنَزْعِ خُفَّيْهِ وَأَنْ يُضْرَبَ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ، فَمَا
زَالَ يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأَمَرَ
بِسَجْنِهِ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ إِنَّ الْعَامَّةَ تَتَشَوَّشُ
بِهَذَا. فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ
أَخْبَثَ قِتْلَةٍ وَاقْطَعْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. ثُمَّ مَاتَ ابْنُ عَطَاءٍ
بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقُتِلَ الْوَزِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ شَرَّ قِتْلَةٍ،
وَقُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأَحْرِقَتْ دَارُهُ. وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ
بَغْدَادَ عَلَى كُفْرِ الْحَلَّاجِ وَزَنْدَقَتِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ
وَصَلْبِهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ: حِينَ أُحْضِرَ
الْحَلَّاجُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَبْلَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا وَسُئِلَ
عَنْهُ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا وَمَا جَاءَ بِهِ حَقًّا فَمَا يَقُولُهُالْحَلَّاجُ
بَاطِلٌ وَكَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ قَدْ رَأَيْتُ الْحَلَّاجَ وَخَاطَبْتُهُ
فَرَأَيْتُهُ جَاهِلًا يَتَعَاقَلُ
وَغَبِيًّا يَتَبَالَغُ وَفَاجِرًا
يَتَعَبَّدُ.
وَلَمَّا صُلِبَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَنُودِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ
سَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَقَدْ جِيءَ بِهِ لِيُصْلَبَ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ
يَقُولُ: مَا أَنَا بِالْحَلَّاجِ وَلَكِنْ أُلْقِيَ عَلَيَّ شَبَهُهُ وَغَابَ.
فَلَمَّا أُدْنِيَ إِلَى الْخَشَبَةِ لِيُصْلَبَ عَلَيْهَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
يَا مُعِينُ الضَّنَا عَلَيَّ أَعِنِّي عَلَى الضَّنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
سَمِعْتُهُ وَهُوَ مَصْلُوبٌ يَقُولُ: إِلَهِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ الرَّغَائِبِ
أَنْظُرُ إِلَى الْعَجَائِبِ إِلَهِي إِنَّكَ تَتَوَدَّدُ إِلَى مَنْ يُؤْذِيكَ
فَكَيْفَ بِمَنْ يُؤْذَى فِيكَ.
ذِكْرُ صِفَةِ مَقْتَلِ الْحَلَّاجِ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الْحَلَّاجُ قَدْ قَدِمَ
آخِرَ قَدْمَةٍ إِلَى بَغْدَادَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ
وَكَانَ الْوَزِيرَ إِذْ ذَاكَ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ فَبَلَغَهُ أَنَّ
الْحَلَّاجَ قَدْ أَضَلَّ خَلْقًا مِنَ الْحَشَمِ وَالْحُجَّابِ فِي دَارِ
السُّلْطَانِ وَمِنْ غِلْمَانِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْحَاجِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ
فِي جُمْلَةِ مَا ادَّعَاهُ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّ الْجِنَّ
يَخْدِمُونَهُ
وَيُحْضِرُونَ لَهُ مَا يَخْتَارُهُ
وَيَشْتَهِيهِ، وَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَحْيَا عِدَّةً مِنَ الطَّيْرِ. وَذُكِرَ
لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
الْقُنَّائِيُّ الْكَاتِبُ يَعْبُدُ الْحَلَّاجَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ،
فَطَلَبَهُ وَكَبَسَ مَنْزِلَهُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ
وَوَجَدَ فِي مَنْزِلِهِ أَشْيَاءَ بِخَطِّ الْحَلَّاجِ مُكْتَتَبَةً بِمَاءِ
الذَّهَبِ فِي وَرَقِ الْحَرِيرِ مُجَلَّدَةً بِأَفْخَرِ الْجُلُودِ، وَوَجَدَ
عِنْدَهُ سَفَطًا فِيهِ مِنْ رَجِيعِ الْحَلَّاجِ وَبَوْلِهِ وَأَشْيَاءَ مِنْ
آثَارِهِ وَبَقِيَّةِ خُبْزٍ مِنْ زَادِهِ، فَطَلَبَ الْوَزِيرُ مِنَ
الْمُقْتَدِرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَمْرِ الْحَلَّاجِ فَفَوَّضَ أَمْرَهُ
إِلَيْهِ فَاسْتَدْعَى بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَلَّاجِ فَتَهَدَّدَهُمْ
فَاعْتَرَفُوا لَهُ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ وَأَنَّهُ
يُحْيِي الْمَوْتَى، وَأَنَّهُمْ كَاشَفُوا الْحَلَّاجَ فَجَحَدَ ذَلِكَ
وَكَذَّبَهُمْ، وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ أَوِ
النُّبُوَّةَ وَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ أَعْبُدُ اللَّهَ وَأُكْثِرُ الصَّوْمَ
وَالصَّلَاةَ وَفِعْلَ الْخَيْرِ، وَلَا أَعْرِفُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَجَعَلَ لَا
يَزِيدُ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَالتَّوْحِيدِ، وَيُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:
سُبْحَانَكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. وَكَانَتْ عَلَيْهِ
مِدْرَعَةٌ سَوْدَاءُ وَفِي رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا وَهِيَ وَاصِلَةٌ
إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَكَانَ قَبْلَ احْتِيَاطِ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَلَيْهِ فِي
حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ نَصْرٍ الْقُشُورَيِّ الْحَاجِبِ مَأْذُونًا لِمَنْ يَدْخُلُ
إِلَيْهِ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ تَارَةً بِالْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ،
وَتَارَةً مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الْفَارِسِيَّ، وَكَانَ نَصْرٌ الْحَاجِبُ
هَذَا قَدِ افْتُتِنَ بِهِ،
وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ
وَكَانَ قَدْ أَدْخَلَهُ عَلَى الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ فَرَقَاهُ مِنْ وَجَعٍ
حَصَلَ فَاتَّفَقَ زَوَالُهُ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِوَالِدَتِهِ السَّيِّدَةِ أُمِّ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ فَزَالَتْ عِلَّتُهَا فَنَفَقَ سُوقُهُ وَحَظِيَ فِي
دَارِ السُّلْطَانِ، فَلَمَّا انْتَشَرَ الْكَلَامُ فِيهِ سُلِّمَ إِلَى
الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَحَبَسَهُ فِي قُيُودٍ كَثِيرَةٍ فِي
رِجْلَيْهِ وَجَمَعَ لَهُ الْفُقَهَاءَ، فَأَجْمَعُوا عَلَى كُفْرِهِ
وَزَنْدَقَتِهِ وَأَنَّهُ سَاحِرٌ مُمَخْرِقٌ، وَرَجَعَ عَنْهُ رَجُلَانِ
صَالِحَانِ مِمَّنْ كَانَ اتَّبَعَهُ، أَحَدُهُمَا أَبُو عَلِيٍّ هَارُونُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُورَاجِيُّ، وَالْآخَرُ يُقَالُ لَهُ الدَّبَّاسُ فَذَكَرَا
مِنْ فَضَائِحِهِ وَمَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ النَّاسَ مِنَ الْكَذِبِ
وَالْفُجُورِ وَالْمَخْرَقَةِ وَالسِّحْرِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ
أُحْضِرَتْ زَوْجَةُ ابْنِهِ سُلَيْمَانَ فَذَكَرَتْ عَنْهُ فَضَائِحَ كَثِيرَةً،
مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَغْشَاهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَانْتَبَهَتْ،
فَقَالَ: قُومِي إِلَى الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَطَأَهَا
وَأَمَرَتْهَا ابْنَتُهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، فَقَالَتْ: أَوَيَسْجُدُ بِشَرٌ
لِبَشَرٍ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ. ثُمَّ
أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ تَحْتِ بَارِيَةٍ هُنَالِكَ مَا أَحَبَّتْ،
فَوَجَدَتْ تَحْتَهَا دَنَانِيرَ كَثِيرَةً مَبْدُورَةً.
وَلَمَّا كَانَ مُعْتَقَلًا فِي دَارِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ دَخَلَ عَلَيْهِ
بَعْضُ الْغِلْمَانِ وَمَعَهُ طَبَقُ فِيهِ طَعَامٌ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، فَوَجَدَهُ
قَدْ مَلَأَ الْبَيْتَ مِنْ سَقْفِهِ إِلَى أَرْضِهِ، فَذُعِرَ ذَلِكَ الْغُلَامُ،
وَأَلْقَى مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَلِكَ الطَّبَقِ وَالطَّعَامِ وَرَجَعَ
مَحْمُومًا فَمَرِضَ عِدَّةَ أَيَّامٍ.
وَلَمَّا كَانَ آخِرُ مَجْلِسٍ أُحْضِرَ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ
يُوسُفَ وَجِيءَ بِالْحَلَّاجِ وَقَدْ أُحْضِرَ لَهُ كِتَابٌ مِنْ دُورِ بَعْضِ
أَصْحَابِهِ، وَفِيهِ: مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ
وَلَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ فَلْيَبْنِ
فِي دَارِهِ بَيْتًا لَا يَنَالُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ وَلَا يُمَكِّنُ
أَحَدًا مِنْ دُخُولِهِ فَإِذَا كَانَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ وَلْيَطُفْ بِهِ كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ ثُمَّ يَفْعَلُ فِي دَارِهِ
مَا يَفْعَلُهُ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ ثُمَّ يَسْتَدْعِي بِثَلَاثِينَ يَتِيمًا
فَيُطْعِمُهُمْ مِنْ طَعَامِهِ وَيَتَوَلَّى خِدْمَتَهُمْ بِنَفْسِهِ ثُمَّ
يَكْسُوهُمْ قَمِيصًا قَمِيصًا وَيُعْطِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَةَ
دَرَاهِمَ - أَوْ قَالَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ - فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَامَ لَهُ
مَقَامَ الْحَجِّ، وَإِنَّ مَنْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي
الْيَوْمِ الرَّابِعِ عَلَى وَرَقَاتِ هِنْدَبَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ صِيَامِ
رَمَضَانَ.
وَمَنْ صَلَّى فِي لَيْلَةٍ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ
أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ جَاوَرَ
بِمَقَابِرِ الشُّهَدَاءِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُصَلِّي
وَيَدْعُو وَيَصُومُ ثُمَّ لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خُبْزِ
الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ الْجَرِيشِ أَغْنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي
بَقِيَّةِ عُمُرِهِ.
فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ؟ فَقَالَ مِنْ
كِتَابِ " الْإِخْلَاصِ " لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. فَقَالَ لَهُ:
كَذَبْتَ يَا حَلَالَ الدَّمِ قَدْ سَمِعْنَا كِتَابَ " الْإِخْلَاصِ "
لِلْحَسَنِ بِمَكَّةَ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا. فَأَقْبَلَ الْوَزِيرُ
حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ
قُلْتَ: يَا حَلَالَ الدَّمِ فَاكْتُبْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَرَقَةِ. وَأَلَحَّ
عَلَيْهِ وَقَدَّمَ لَهُ الدَّوَاةَ فَكَتَبَ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ،
وَكَتَبَ مَنْ حَضَرَ خُطُوطَهُمْ فِيهَا، وَأَنْفَذَهَا الْوَزِيرُ إِلَى
الْمُقْتَدِرِ، وَجَعَلَ الْحَلَّاجُ يَقُولُ لَهُمْ: ظَهْرِي حِمًى وَدَمِي
حَرَامٌ وَمَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَتَأَوَّلُوا عَلَيَّ وَاعْتِقَادِي
الْإِسْلَامُ وَمَذْهَبِي السُّنَّةُ، وَتَفْضِيلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَلَيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ وَسَعِيدٍ وَعَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
الْجَرَّاحِ وَلِي كُتُبٌ فِي
السُّنَّةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْوَرَّاقِينَ فَاللَّهَ اللَّهَ فِي دَمِي. فَلَا
يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ، وَجَعَلَ يُكَرِّرُ ذَلِكَ وَهُمْ
يَكْتُبُونَ خُطُوطَهُمْ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ وَرُدَّ الْحَلَّاجُ إِلَى
مَحْبِسِهِ وَتَأَخَّرَ جَوَابُ الْمُقْتَدِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى سَاءَ
ظَنُّ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَقُولُ
لَهُ: إِنَّ أَمْرَ الْحَلَّاجِ قَدِ اشْتَهَرَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ اثْنَانِ
وَقَدِ افْتَتَنَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِهِ. فَجَاءَ الْجَوَابُ بِأَنْ يُسَلَّمَ
إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ فَلْيَضْرِبْهُ أَلْفَ
سَوْطٍ فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا ضُرِبَتُ عُنُقُهُ. فَفَرِحَ الْوَزِيرُ بِذَلِكَ
وَطَلَبَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ فَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ وَبَعَثَ مَعَهُ طَائِفَةً
مِنْ غِلْمَانِهِ يُوَصِّلُونَهُ مَعَهُ إِلَى مَحَلِّ الشُّرْطَةِ مِنَ
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُسْتَنْقَذَ مِنْ أَيْدِيهِمْ
وَذَلِكَ بَعْدَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ
مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى بَغْلٍ عَلَيْهِ
إِكَافٌ وَحَوْلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِ السِّيَاسَةِ عَلَى مِثْلِ شَكْلِهِ،
فَاسْتَقَرَّ مَنْزِلُهُ بِدَارِ الشُّرْطَةِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَذُكِرَ
أَنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَيَدْعُو دُعَاءً كَثِيرًا.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الشَّاشِيَّ
يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْحَدِيدِ - يَعْنِي - الْمِصْرِيَّ: لَمَّا كَانَتِ
اللَّيْلَةُ الَّتِي قُتِلَ فِي صَبِيحَتِهَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ قَامَ
مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا كَانَ آخِرَ اللَّيْلِ قَامَ
قَائِمًا فَتَغَطَّى بِكِسَائِهِ وَمَدَّ يَدَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ فَتَكَلَّمَ
بِكَلَامٍ جَائِزِ الْحِفْظِ، فَكَانَ مِمَّا حَفِظْتُ أَنْ قَالَ: نَحْنُ
شَوَاهِدُكَ فَلَوْ دَلَّتْنَا عِزَّتُكَ لَتَبَدَّى مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ
وَمَشِيئَتِكَ، وَأَنْتَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ،
تَتَجَلَّى لِمَا تَشَاءُ مِثْلَ تَجَلِّيكَ فِي مَشِيئَتِكَ
كَأَحْسَنِ الصُّورَةِ، وَالصُّورَةُ
فِيهَا الرُّوحُ النَّاطِقَةُ بِالْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَالْقُدْرَةِ، ثُمَّ
أَوْعَزْتَ إِلَيَّ شَاهِدَكَ لِأَنِّي فِي ذَاتِكَ الْهُوِيُّ، كَيْفَ أَنْتَ
إِذَا مَثَلْتَ بِذَاتِي عِنْدَ عَقِيبِ كَرَاتِي، وَدَعَوْتَ إِلَى ذَاتِي
بِذَاتِي، وَأَبْدَيْتَ حَقَائِقَ عُلُومِي وَمُعْجِزَاتِي، صَاعِدًا فِي
مَعَارِجِي إِلَى عُرُوشِ أَزَلِيَّاتِي عِنْدَ الْقَوْلِ مِنْ بِرِيَّاتِي،
إِنِّي احْتُضِرْتُ وَقُتِلْتُ وَصُلِبْتُ وَأُحْرِقْتُ وَاحْتُمِلْتُ سَافِيَاتِي
الذَّارِيَاتِ، وَلَجَجْتُ فِي الْجَارِيَاتِ وَإِنَّ ذَرَّةً مِنْ يَنْجُوجٍ
مَكَانَ هَالُوكِ مُتَجَلَّيَاتِي لَأَعْظَمُ مِنَ الرَّاسِيَاتِ. ثُمَّ أَنْشَأَ
يَقُولُ:
أَنْعَى إِلَيْكَ نُفُوسًا طَاحَ شَاهِدُهَا فِيمَا وَرَا الْحَيْثِ أَوْ فِي
شَاهِدِ الْقِدَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ قُلُوبًا طَالَمَا هَطَلَتْ
سَحَائِبُ الْوَحْيِ فِيهَا أَبْحُرُ الْحِكَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ لِسَانَ الْحَقِّ
مِنْكَ وَمَنْ
أَوْدَى وَتَذْكَارُهُ فِي الْوَهْمِ كَالْعَدَمِ أَنْعَى إِلَيْكَ بَيَانًا
تَسْتَكِينُ لَهُ
أَقْوَالُ كُلِّ فَصِيحٍ مِقْوَلٍ فَهِمِ أَنْعَى إِلَيْكَ إِشَارَاتِ الْعُقُولِ
مَعًا
لَمْ يَبْقَ مِنْهُنَّ إِلَّا دَارِسُ الْعِلْمِ أَنْعَى وَحُبِّكَ أَخْلَاقًا
لِطَائِفَةٍ
كَانَتْ مَطَايَاهُمْ مِنْ مَكْمَدِ الْكِظَمِ مَضَى الْجَمِيعُ فَلَا عَيْنٌ
وَلَا أَثَرٌ
مُضِيَّ عَادٍ وَفِقْدَانَ الْأُلَى إِرَمِ وَخَلَّفُوا مَعْشَرًا يَحْذُونَ
لِبْسَتَهُمْ
أَعْمَى مِنَ الْبُهْمِ بَلْ أَعْمَى مِنَ النَّعَمِ
قَالُوا: وَلَمَّا أُخْرِجَ الْحَلَّاجُ مِنَ الْمَنْزِلِ الَّذِي بَاتَ فِيهِ
لِيُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْقَتْلِ أَنْشَدَ:
طَلَبْتُ الْمُسْتَقَرَّ بِكُلِّ
أَرْضٍ فَلَمْ أَرَ لِي بِأَرْضٍ مُسْتَقَرَّا
أَطَعْتُ مَطَامِعِي فَاسْتَعْبَدَتْنِي وَلَوْ أَنِّي قَنَعْتُ لَعِشْتُ حُرَّا
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا حِينَ قَدِمَ إِلَى الْجِذْعِ لِيُصْلَبَ،
وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، ثُمَّ مَشَى وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ وَفِي
رِجْلَيْهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَيْدًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَتَمَايَلُ:
نَدِيمِي غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْحَيْفِ
سَقَانِي مِثْلَ مَا يَشْرَ بُ فِعْلَ الضَّيْفِ بِالضَّيْفِ
فَلَمَّا دَارَتِ الْكَأْسُ دَعَا بِالنِّطْعِ وَالسَّيْفِ
كَذَا مَنْ يَشْرَبُ الرَّاحَ مَعَ التِّنِّينِ فِي الصَّيْفِ
ثُمَّ قَالَ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ
آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [ الشُّورَى: 18 ]
ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى فُعِلَ بِهِ مَا فُعِلَ، قَالُوا: ثُمَّ
قُدِّمَ فَضُرِبَ أَلْفَ سَوْطٍ ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ سَاكِتٌ مَا نَطَقَ بِكَلِمَةٍ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ لَوْنُهُ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ جَعَلَ يَقُولُ مَعَ كُلِّ سَوْطٍ أَحَدٌ أَحَدٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عِيسَى الْقَصَّارَ
يَقُولُ: آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا الْحَلَّاجُ حِينَ قُتِلَ أَنْ قَالَ:
حَسْبُ الْوَاحِدِ إِفْرَادُ الْوَاحِدِ لَهُ. فَمَا سَمِعَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ
أَحَدٌ مِنَ الْمَشَايِخِ إِلَّا رَقَّ لَهُ وَاسْتَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ
مِنْهُ.
وَقَالَ السُّلَمِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْبَجَلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ
أَبَا الْفَاتِكِ الْبَغْدَادِيَّ وَكَانَ صَاحِبَ الْحَلَّاجِ قَالَ: رَأَيْتُ
فِي النَّوْمِ بَعْدَ ثَلَاثٍ مِنْ قَتْلِ الْحَلَّاجِ كَأَنِّي وَاقِفٌ بَيْنَ
يَدَيْ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَا أَقُولُ: يَا رَبِّ مَا فَعَلَ الْحُسَيْنُ
بْنُ مَنْصُورٍ ؟ فَقَالَ: كَاشَفْتُهُ بِمَعْنًى فَدَعَا الْخَلْقَ إِلَى
نَفْسِهِ، فَأَنْزَلْتُ بِهِ مَا رَأَيْتَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَزِعَ عِنْدَ ذَلِكَ جَزَعًا شَدِيدًا وَبَكَى
بُكَاءً كَثِيرًا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ
الصَّيْرَفِيُّ قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حَيَّوَيْهِ: لَمَّا
أُخْرِجَ الْحُسَيْنُ الْحَلَّاجُ لِيُقْتَلَ مَضَيْتُ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ
وَلَمْ أَزَلْ أُزَاحِمُ حَتَّى رَأَيْتُهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا
يَهُولَنَّكُمْ هَذَا الْأَمْرُ فَإِنِّي عَائِدٌ إِلَيْكُمْ بَعْدَ ثَلَاثِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ قُتِلَ.
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ يُضْرَبُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الصَّمَدِ وَالِي الشُّرْطَةِ: ادْعُ بِي إِلَيْكَ فَإِنَّ عِنْدِي نَصِيحَةً
تَعْدِلُ فَتْحَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ قِيلَ لِي
إِنَّكَ سَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا
وَلَيْسَ إِلَى رَفْعِ الضَّرْبِ عَنْكَ سَبِيلٌ، ثُمَّ قُطِعَتْ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ، وَحُزَّ رَأْسُهُ، وَأُحْرِقَتْ جُثَّتُهُ، وَأُلْقِيَ بِرَمَادِهَا
فِي دِجْلَةَ وَنُصِبَ الرَّأْسُ يَوْمَيْنِ بِبَغْدَادَ عَلَى الْجِسْرِ ثُمَّ
حُمِلَ إِلَى خُرَاسَانَ وَطِيفَ بِهِ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَعَلَ
أَصْحَابُهُ يَعِدُونَ أَنْفُسَهُمْ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ رَأَى الْحَلَّاجَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ فِي طَرِيقِ النَّهْرَوَانِ فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ
هَؤُلَاءِ الْبَقَرِ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنِّي أَنَا هُوَ الْمَضْرُوبُ
الْمَقْتُولُ إِنِّي لَسْتُ بِهِ وَإِنَّمَا أُلْقِيَ شَبَهِي عَلَى رَجُلٍ
فَفُعِلَ بِهِ مَا رَأَيْتُمْ. وَكَانُوا بِجَهْلِهِمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا قُتِلَ
عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ الْحَلَّاجِ وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ:
إِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيُ صَادِقًا فَلَعَلَّ دَابَّةً - يَعْنِي مِنَ
الشَّيَاطِينِ - تَبَدَّى عَلَى صُورَتِهِ لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ كَمَا ضَلَّتْ
فِرْقَةُ النَّصَارَى بِالْمَصْلُوبِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَاتَّفَقَ أَنَّ دِجْلَةَ زَادَتْ فِي هَذَا الْعَامِ
زِيَادَةً كَثِيرَةً، فَقَالُوا: إِنَّمَا زَادَتْ لِأَنَّ رَمَادَ الْحَلَّاجِ
خَالَطَهَا، وَنُودِيَ بِبَغْدَادَ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْ كُتُبِ
الْحَلَّاجِ شَيْئًا وَلَا يَبِيعُهُ. وَكَانَ قَتْلُ الْحَلَّاجِ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي "
الْوَفَيَاتِ " وَحَكَى اخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِ، وَنَقَلَ عَنِ
الْغَزَالِيِّ فِي " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " أَنَّهُ كَانَ
يَتَأَوَّلُ كَلَامَهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى مَا يَلِيقُ، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ إِمَامِ
الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ
كَانَ يَذُمُّهُ وَيَقُولُ إِنَّهُ
اتَّفَقَ هُوَ وَالْجَنَّابِيُّ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ عَلَى إِفْسَادِ عَقَائِدِ
النَّاسِ وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، فَكَانَ الْجَنَّابِيُّ فِي هَجَرَ
وَالْبَحْرَيْنِ وَابْنُ الْمُقَفَّعِ بِبِلَادِ التُّرْكِ وَدَخَلَ الْحَلَّاجُ
الْعِرَاقَ فَحَكَمَ صَاحِبَاهُ عَلَيْهِ بِالْهَلَكَةِ لِعَدَمِ انْخِدَاعِ
أَهْلِ الْعِرَاقِ بِالْبَاطِلِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَهَذَا لَا يَنْتَظِمُ فَإِنَّ ابْنَ
الْمُقَفَّعِ كَانَ قَبْلَ الْحَلَّاجِ بِدَهْرٍ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَيَّامِ
السَّفَّاحِ وَالْمَنْصُورِ وَمَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ أَوْ
قَبْلَهَا وَلَعَلَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ أَرَادَ ابْنَ الْمُقَفَّعِ
الْخُرَاسَانِيَّ الَّذِي ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَدْنَى الْقَمَرَ وَاسْمُهُ
عَطَاءٌ، وَقَدْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْحَلَّاجِ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ
نُصَحِّحَ كَلَامَ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَنَذْكُرَ ثَلَاثَةً قَدِ اجْتَمَعُوا
فِي وَقْتٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، فَيَكُونُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَلَّاجَ، وَابْنَ
الشَّلْمَغَانِيِّ - يَعْنِي أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ -
وَالْقِرْمِطِيَّ الْجَنَّابِيَّ، وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي
سَعِيدٍ الْحَسَنِ بْنِ بَهْرَامَ، الَّذِي قَتَلَ الْحُجَّاجَ وَأَخَذَ
الْحَجَرَ، وَرَدَمَ زَمْزَمَ بِالْقَتْلَى وَنَهَبَ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ، كَمَا
سَيَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا، ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُلَخَّصًا هَاهُنَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَهُوَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَدَمِيُّ حَدَّثَ عَنْ يُوسُفَ
بْنِ مُوسَى الْقَطَّانِ وَالْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ وَغَيْرِهِمَا. وَكَانَ
يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ، وَكَانَ لَهُ خَتْمَةٌ يَتَدَبَّرُ فِيهَا
مَعَانِيَ الْقُرْآنِ، يَتْلُوهَا مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَمَاتَ وَلَمْ
يَخْتِمْهَا، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَلَّاجِ
وَأَظْهَرَ مُوَافَقَتَهُ، فَعَاقَبَهُ الْوَزِيرُ حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ
بِالضَّرْبِ عَلَى شِدْقَيْهِ وَأَمَرَ بِنَزْعِ خُفَّيْهِ وَضَرْبِهِ بِهِمَا
عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى سَالَ الدَّمُ مِنْ مَنْخِرَيْهِ، وَمَاتَ بَعْدَ سَبْعَةِ
أَيَّامٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ قَدْ دَعَا عَلَى الْوَزِيرِ أَنْ تُقْطَعَ يَدَاهُ
وَرِجْلَاهُ وَيُقْتَلَ شَرَّ قِتْلَةٍ، فَمَا مَاتَ الْوَزِيرُ إِلَّا كَذَلِكَ.
وَأَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَارُونَ الطَّبِيبُ الْحَرَّانِيُّ. وَأَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدُونَ النَّدِيمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أُطْلِقَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مِنَ الضِّيقِ وَكَانَ مُعْتَقَلًا
وَرُدَّتْ إِلَيْهِ أَمْوَالُهُ وَأُعِيدَ إِلَى عَمَلِهِ وَأُضِيفَ إِلَيْهِ
بُلْدَانٌ أُخْرَى وَوُظِّفَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ خَمْسُمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ يَحْمِلُهَا إِلَى الْحَضْرَةِ فَبَعَثَ حِينَئِذٍ إِلَى مُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْأَدَمِيِّ الْقَارِئَ وَكَانَ
قَدْ قَرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ حِينَ اعْتُقِلَ وَأُشْهِرَ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٍ: 102 ] فَخَافَ
الْقَارِئُ سَطْوَتَهُ وَاسْتَعْفَى مِنْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَقَالَ لَهُ
مُؤْنِسٌ: اذْهَبْ وَأَنَا شَرِيكُكَ فِي الْجَائِزَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ
قَرَأَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ
لِنَفْسِي [ يُوسُفَ: 54 ] فَقَالَ: بَلْ أُحِبُّ أَنْ تَقْرَأَ ذَلِكَ الْعُشْرَ
الَّذِي قَرَأَتْهُ عِنْدَ إِشْهَارِي وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ
الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِي إِلَى اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ
وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا مَرِضَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ فَجَاءَهُ هَارُونُ ابْنُ
الْمُقْتَدِرِ لِيَعُودَهُ، فَبَسَطَ لَهُ الطَّرِيقَ فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ
دَارِهِ تَحَامَلَ وَخَرَجَ إِلَيْهِ فَبَلَّغَهُ سَلَامَ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ
مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ
عَزَمَ عَلَى عِيَادَتِهِ فَاسْتَعْفَى مِنْ
مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَرَكِبَ عَلَى
جُهْدٍ عَظِيمٍ حَتَّى سَلَّمَ عَلَى الْخَلِيفَةِ حَتَّى لَا يُكَلِّفَهُ
الرُّكُوبَ إِلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُبِضَ عَلَى الْقَهْرَمَانَةِ أُمِّ مُوسَى وَمَنْ
يَنْتَسِبُ إِلَيْهَا، فَكَانَ حَاصِلُ مَا حُمِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ
جِهَتِهَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَّى
الْمُقْتَدِرُ مَنْصِبَ الْقَضَاءِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنَ الْحُسَيْنِ
بْنِ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيَّ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْأُشْنَانِيِّ وَكَانَ مِنْ
حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَاءِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْتَسِبًا بِبَغْدَادَ.
وَفِيهَا عُزِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ عنْ شُرْطَةِ بَغْدَادَ
وَوَلِيَهَا نَازُوكُ وَخُلِعَ عَلَيْهِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ ظَهَرَ كَوْكَبٌ لَهُ ذَنَبٌ طُولُهُ ذِرَاعَانِ،
وَذَلِكَ فِي بُرْجِ السُّنْبُلَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا وَصَلَتْ هَدَايَا نَائِبِ مِصْرَ
وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْمَاذَرَائِيِّ، وَفِيهَا بَغْلَةٌ مَعَهَا فُلُوُّهَا
وَغُلَامٌ يَصِلُ لِسَانُهُ إِلَى طَرَفِ أَنْفِهِ، وَفِي هَذِا الشَّهْرِ
قُرِئَتِ الْكُتُبُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِمَا كَانَ مِنَ الْفُتُوحِ بِبِلَادِ
الرُّومِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ انْشَقَّ بِأَرْضِ
وَاسِطَ فُلُوعٌ مِنَ الْأَرْضِ سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا أَكْبَرُهَا طُولُهُ
أَلْفُ ذِرَاعٍ وَأَقَلُّهَا مِائَتَا ذِرَاعٍ وَأَنَّهُ غَرِقَ مِنْ أُمَّهَاتِ
الْقُرَى أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةِ قَرْيَةٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْهَاشِمِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ سَعِيدٍ
أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ مَوْلَى الْأَنْصَارِ، وَيُعْرَفُ بِالْوَرَّاقِ،
أَحَدُ أَئِمَّةِ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ
تَصَانِيفُ حَسَنَةٌ فِي التَّارِيخِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ.
قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَكَانَ يُضَعَّفُ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ قَاصِدٌ إِلَى
الْحَجِّ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بِالْعَرْجِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَالِبٍ الْإِمَامُ أَبُو
جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَكَانَ أَسْمَرَ أَعْيَنَ مَلِيحَ الْجِسْمِ مَدِيدَ الْقَامَةِ فَصِيحَ
اللِّسَانِ، رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ
فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَلَهُ " التَّارِيخُ " الْحَافِلُ، وَ "
التَّفْسِيرُ " الْكَامِلُ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ
فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَمِنْ ذَلِكَ " تَهْذِيبُ الْآثَارِ "
لَكِنْ لَمْ يُتِمَّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
يَكْتُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعِينَ وَرَقَةً.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: اسْتَوْطَنَ ابْنُ جَرِيرٍ بَغْدَادَ
وَأَقَامَ بِهَا إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ وَكَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ،
يُحْكَمُ بِقَوْلِهِ وَيُرْجَعُ إِلَيْهِ لِمَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِهِ وَكَانَ قَدْ
جَمَعَ مِنَ الْعُلُومِ مَا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ
وَكَانَ حَافِظًا لِكِتَابِ اللَّهِ عَارِفًا بِالْقِرَاءَاتِ، بَصِيرًا
بِالْمَعَانِي، فَقِيهًا فِي الْأَحْكَامِ عَالِمًا بِالسُّنَنِ وَطُرُقِهَا
وَصَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا عَارِفًا بِأَقْوَالِ
الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ،
عَارِفًا بِأَيَّامِ النَّاسِ وَأَخْبَارِهِمْ، وَلَهُ الْكِتَابُ الْمَشْهُورُ
فِي تَارِيخِ الْأُمَمِ وَالْمُلُوكِ، وَكِتَابٌ فِي التَّفْسِيرِ لَمْ يُصَنِّفْ
أَحَدٌ مِثْلَهُ وَكِتَابٌ سَمَّاهُ " تَهْذِيبَ الْآثَارِ " لَمْ أَرَ
سِوَاهُ فِي مَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ، وَلَهُ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، وَتَفَرَّدَ بِمَسَائِلَ
حُفِظَتْ عَنْهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَبَلَغَنِي عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي
طَاهِرٍ الْفَقِيهِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ
إِلَى الصِّينِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ كِتَابُ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ
الطَّبَرِيِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ. وَرَوَى
الْخَطِيبُ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ
خُزَيْمَةَ أَنَّهُ طَالَعَ " التَّفْسِيرَ " لِابْنِ جَرِيرٍ فِي
سِنِينَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ ثُمَّ قَالَ: مَا أَعْلَمُ عَلَى أَدِيمِ
الْأَرْضِ أَعْلَمَ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَلَقَدْ ظَلَمَتْهُ الْحَنَابِلَةُ.
وَقَالَ لِرَجُلٍ رَحَلَ إِلَى بَغْدَادَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَشَايِخِ،
وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ سَمَاعٌ مِنِ ابْنِ جَرِيرٍ لِأَنَّ الْحَنَابِلَةَ كَانُوا
يَمْنَعُونَ أَنْ يَجْتَمِعَ بِهِ أَحَدٌ فَقَالَ: لَوْ كَتَبْتَ عَنْهُ لَكَانَ
خَيْرًا لَكَ مِنْ كُلِّ مَنْ كَتَبْتَ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْقِيَامِ فِي
الْحَقِّ لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَحُسْنِ الْقِرَاءَةِ
عَلَى أَحْسَنِ الصِّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الصَّالِحِينَ، وَهُوَ أَحَدُ
الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِمِصْرَ فِي أَيَّامِ الْأَمِيرِ طُولُونَ،
وَهُمْ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ
جَرِيرٍ هَذَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ
الْمَرْوَزِيِّ وَكَانَ الَّذِي قَامَ
يُصَلِّي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَقِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ
نَصْرٍ، فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ بِبَرَكَةِ صَلَاتِهِ. وَقَدْ أَرَادَ الْخَلِيفَةُ
الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ وَقْفٍ
تَكُونُ شُرُوطُهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، فَقِيلَ لَهُ: لَا
يَقْدِرُ عَلَى اسْتِحْضَارِ ذَلِكَ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ. وَطَلَبَ
مِنْهُ ذَلِكَ فَكَتَبَهَا، فَاسْتَدْعَاهُ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ:
سَلْ حَاجَتَكَ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي، فَقَالَ: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلَنِي
شَيْئًا، فَقَالَ: أَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَقَدَّمَ
أَمْرُهُ إِلَى الشُّرْطَةِ حَتَّى يَمْنَعُوا السُّؤَّالَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى مَقْصُورَةِ الْجَامِعِ، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ،
وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ مَغَلِّ قَرْيَةٍ تَرَكَهَا لَهُ أَبُوهُ
بِطَبَرِسْتَانَ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
إِذَا أَعْسَرْتُ لَمْ يَعْلَمْ رَفِيقِي وَأَسْتَغْنِي فَيَسْتَغِنِي صَدِيقِي
حَيَائِي حَافِظٌ لِي مَاءَ وَجْهِي
وَرِفْقِي فِي مُطَالَبَتِي رَفِيقِي وَلَوْ أَنِّي سَمَحْتُ بِبَذْلِ وَجْهِي
لَكُنْتُ إِلَى الْغِنَى سَهْل َ الطَّرِيقِ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
خُلُقَانِ لَا أَرْضَى طَرِيقَهُمَا بَطَرُ الْغِنَى وَمَذَلَّةُ الْفَقْرِ
فَإِذَا غَنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدَّهْرِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مِنْ عَشِيَّةِ يَوْمِ الْأَحَدِ
لِيَوْمَيْنِ بَقِيَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ عَشْرٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ بِخَمْسٍ أَوْ سِتِّ سِنِينَ وَفِي
شَعْرِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ سَوَادٌ
كَثِيرٌ، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الرَّعَاعِ مِنْ عَوَامِّ
الْحَنَابِلَةِ مَنَعُوا مِنْ دَفَنِهِ نَهَارًا وَنَسَبُوهُ إِلَى الرَّفْضِ،
وَمِنَ الْجَهَلَةِ مَنْ رَمَاهُ بِالْإِلْحَادِ، وَحَاشَاهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ
ذَاكَ أَيْضًا. بَلْ كَانَ أَحَدَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فِي الْعِلْمِ بِكِتَابِ
اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا تَقَلَّدُوا ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ حَيْثُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيهِ وَيَرْمِيهِ
بِالْعَظَائِمِ وَيَرْمِيهِ بِالرَّفْضِ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَ النَّاسُ
مِنْ سَائِرِ الْبَلَدِ وَصَلَّوْا عَلَيْهِ بِدَارِهِ وَدُفِنَ بِهَا، وَمَكَثَ
النَّاسُ يَتَرَدَّدُونَ إِلَى قَبْرِهِ شُهُورًا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، رُحِمَهُ
اللَّهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَأَيْتُ لَهُ كِتَابًا جَمَعَ فِيهِ أَحَادِيثَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي
مُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ، وَكِتَابًا جَمَعَ فِيهِ طُرُقَ حَدِيثِ الطَّيْرِ،
وَنُسِبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ مَسْحِ الْقَدَمَيْنِ فِي الْوُضُوءِ
وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْغَسْلَ، وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنْهُ هَذَا، فَمِنَ
الْعُلَمَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ اثْنَانِ، أَحَدُهُمَا شِيعِيٌّ
وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ ذَلِكَ، وَيُنَزِّهُونَ أَبَا جَعْفَرٍ مِنْ هَذِهِ
الصِّفَاتِ، وَالَّذِي عُوِّلَ عَلَيْهِ كَلَامُهُ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ
يُوجِبُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ وَيُوجِبُ مَعَ الْغَسْلِ دَلْكَهُمَا، وَلَكِنَّهُ
عَبَّرَ عَنِ الدَّلْكِ بِالْمَسْحِ فَلَمْ يَفْهَمْ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ
مُرَادَهُ جَيِّدًا، فَنَقَلُوا عَنْهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ
الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ
حَيْثُ يَقُولُ:
حَدَثٌ مُفْظِعٌ وَخَطْبٌ جَلِيلٌ دَقَّ عَنِ مِثْلِهِ اصْطِبَارُ الصَّبُورِ
قَامَ نَاعِي الْعُلُومِ أَجْمَعِ لَمَّا قَامَ نَاعِي مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرِ
فَهَوَتْ أَنْجُمٌ لَهَا زَاهِرَاتٌ مُؤْذِنَاتٌ رُسُومُهَا بِالدُّثُورِ
وَتَغَشَّى ضَيَاءَهَا النَّيِّرَ الْإِشْ رَاقِ ثَوْبُ الدُّجُنَّةِ الدَّيْجُورِ
وَغَدَا رَوْضُهَا الْأَنِيقُ هَشِيمًا
ثُمَّ عَادَتْ سُهُولُهَا كَالْوُعُورِ
يَا أَبَا جَعْفَرٍ مَضَيْتَ حَمِيدًا غَيْرَ وَانٍ فِي الْجِدِّ وَالتَّشْمِيرِ
بَيْنَ أَجْرٍ عَلَى اجْتِهَادِكَ مَوْفُو رٍ وَسَعْيٍ إِلَى التُّقَى مَشْكُورِ
مُسْتَحِقًّا بِهِ الْخُلُودَ لَدَى جَنَّ ةِ عَدْنٍ فِي غِبْطَةٍ وَسُرُورِ
وَلِأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيهِ مَرْثَاةٌ طَوِيلَةٌ
طَنَّانَةٌ، أَوْرَدَهَا الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِتَمَامِهَا، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ
أَمِيرُ الْقَرَامِطَةِ فِي أَلْفٍ وَسَبْعِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَى الْبَصْرَةِ
لَيْلًا، نَصَبَ السَّلَالِمَ الشَّعْرَ فِي سُورِهَا، فَدَخَلَهَا قَوْمُهُ
وَفَتَحُوا أَبْوَابَهَا، وَقَتَلُوا مَنْ لَقُوهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَهَرَبَ
أَكْثَرُ النَّاسِ، فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الْمَاءِ، فَغَرِقَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ، وَمَكَثَ بِهَا سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ مَنْ شَاءَ
مِنْ نِسَائِهَا وَذَرَارِيِّهَا، وَيَغْنَمُ مَا يَخْتَارُهُ مِنْ أَمْوَالِ
أَهْلِهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ هَجَرَ وَذَلِكَ لَمَّا بَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ جُنْدًا مِنْ قِبَلِهِ فَرَّ وَتَرَكَ الْبَلَدَ يَبَابًا، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ عَنِ الْوِزَارَةِ حَامِدَ بْنَ
الْعَبَّاسِ وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى، وَرَدَّ إِلَى الْوِزَارَةِ أَبَا الْحَسَنِ
بْنَ الْفُرَاتِ الْوِلَايَةَ الثَّالِثَةَ، وَسَلَّمَ إِلَيْهِ حَامِدَ بْنَ
الْعَبَّاسِ، وَعَلِيَّ بْنَ عِيسَى، فَأَمَّا حَامِدٌ فَإِنَّ الْمُحَسِّنَ بْنَ
الْوَزِيرِ ضَمِنَهُ مِنَ الْمُقْتَدِرِ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَتَسَلَّمَهُ فَعَاقَبَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَأَخَذَ مِنْهُ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً لَا تُحْصَى
كَثْرَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهِ مَعَ
مُوَكَّلِينَ عَلَيْهِ إِلَى وَاسِطٍ لِيَحْتَاطُوا عَلَى أَمْوَالِهِ هُنَاكَ
وَحَوَاصِلِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْقُوهُ سُمًّا فِي الطَّرِيقِ، فَسَقَوْهُ
ذَلِكَ فِي بَيْضٍ مَشْوِيٍّ، كَانَ قَدْ طَلَبَهُ مِنْهُمْ، فَمَاتَ فِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ عِيسَى فَإِنَّهُ صُودِرَ
بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَصُودِرَ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ كُتَّابِهِ،
فَكَانَ جُمْلَةُ مَا أُخِذَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَعَ مَا كَانَ صُودِرَتْ بِهِ
الْقَهْرَمَانَةُ مِنَ الذَّهَبِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، آلَافَ أَلْفٍ مِنَ
الدَّنَانِيرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَأَشَارَ الْوَزِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ عَلَى
الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَنْ يُبْعِدَ عَنْهُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَيَأْمُرَهُ
بِالذَّهَابِ إِلَى الشَّامِ - وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، وَقَدْ
فَتَحَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ بُلْدَانِهِمْ، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً جِدًّا
- فَسَأَلَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى سَلْخِ رَمَضَانَ، وَكَانَ قَدْ أَعْلَمَ
الْخَلِيفَةَ بِمَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ ابْنُ الْوَزِيرِ مِنْ تَعْذِيبِ النَّاسِ
وَمُصَادَرَتِهِمُ الْأَمْوَالَ، فَأَجَابَ الْخَلِيفَةُ الْوَزِيرَ إِلَى
إِبْعَادِ مُؤْنِسٍ فَأَخْرَجَهُ إِلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْجَرَادُ، وَأَفْسَدَ كَثِيرًا مِنَ الْغَلَّاتِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا أُمِرَ بِرَدِّ بَقِيَّةِ الْمَوَارِيثِ إِلَى ذَوِي
الْأَرْحَامِ.
وَفِيهَا فِي النِّصْفِ مِنْ رَمَضَانَ أُحْرِقَ عَلَى بَابِ الْعَامَّةِ صُورَةُ
مَانِي وَأَرْبَعَةُ أَعْدَالٍ مِنْ كُتُبِ الزَّنَادِقَةِ، فَسَقَطَ مِنْهَا
ذَهَبٌ كَثِيرٌ كَانَتْ مُحَلَّاةً بِهِ.
وَفِيهَا اتَّخَذَ أَبُو الْحَسَنِ
بْنُ الْفُرَاتِ الْوَزِيرُ مَارَسْتَانًا فِي دَرْبِ الْفَضْلِ، يُنْفِقُ
عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَتَيْ دِينَارٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَلَّالُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْجَامِعِ لِعُلُومِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَلَمْ
يُصَنَّفْ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَثْلُ هَذَا الْكِتَابِ، وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَسَعْدَانَ بْنِ نَصْرٍ
وَغَيْرِهِمَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ
لِيَوْمَيْنِ مَضَيَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الصُّوفِيَّةِ، أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ
أَحَدُ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ، وَكَانَ الْجُنَيْدُ
يُكْرِمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ، وَلَمَّا حَضَرَتِ الْجُنَيْدَ الْوَفَاةُ أَوْصَى
أَنْ يُجَالَسَ الْجَرِيرِيُّ، وَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَى الْجَرِيرِيِّ هَذَا شَأْنُ
الْحَلَّاجِ، فَكَانَ مِمَّنْ أَجْمَلَ الْقَوْلَ فِيهِ، عَلَى أَنَّ
الْجَرِيرِيَّ هَذَا مَذْكُورٌ بِالصَّلَاحِ وَالدِّيَانَةِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ
مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الزَّجَّاجُ صَاحِبُ " مَعَانِي الْقُرْآنِ " إِبْرَاهِيمُ بْنُ
السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ
كَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ
الْحَسَنَةُ،
مِنْهَا كِتَابُ " مَعَانِي
الْقُرْآنِ " وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْعَدِيدَةِ الْمُفِيدَةِ،
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يَخْرُطُ الزُّجَاجَ، فَأَحَبَّ عِلْمَ
النَّحْوِ، فَذَهَبَ إِلَى الْمُبَرِّدِ، فَكَانَ يُعْطِي الْمُبَرِّدَ كُلَّ
يَوْمٍ دِرْهَمًا، ثُمَّ اسْتَغْنَى الزَّجَّاجُ وَكَثُرَ مَالُهُ، وَلَمْ
يَقْطَعْ عَنِ الْمُبَرِّدِ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ حَتَّى مَاتَ الْمُبَرِّدُ وَقَدْ
كَانَ الزَّجَّاجُ مُؤَدِّبًا لِلْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا وَلِيَ
الْوِزَارَةَ كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ بِالرِّقَاعِ لِيُقَدِّمَهَا إِلَى
الْوَزِيرِ، فَحَصَلَ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَعَنْهُ أَخَذَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ وَأَبُو الْقَاسِمِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِيُّ، نُسِبَ إِلَيْهِ ; لِأَخْذِهِ
عَنْهُ، وَهُوَ صَاحِبُ كِتَابِ " الْجُمَلِ " فِي النَّحْوِ.
بَدْرٌ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ
وَهُوَ بَدْرٌ الْحَمَامِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: بَدْرٌ الْكَبِيرُ. كَانَ فِي آخِرِ
وَقْتٍ عَلَى نِيَابَةِ فَارِسَ وَوَلِيَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ.
حَامِدُ بْنُ الْعَبَّاسِ
اسْتَوْزَرَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ كَثِيرَ
الْمَالِ وَالْغِلْمَانِ، كَثِيرَ النَّفَقَاتِ، كَرِيمًا سَخِيًّا، كَثِيرَ
الْمُرُوءَةِ، وَلَهُ حِكَايَاتٌ تَدُلُّ عَلَى بَذْلِهِ وَإِعْطَائِهِ
الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يَجْمَعُ شَيْئًا كَثِيرًا، وُجِدَ
لَهُ فِي مَطْمُورَةٍ أُلُوفٌ مِنَ الذَّهَبِ، كَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ إِذَا
دَخَلَ إِلَيْهَا أَلْقَى فِيهَا أَلْفَ
دِينَارٍ، فَلَمَّا امْتَلَأَتْ،
طَمَّهَا، فَلَمَّا صُودِرَ، دَلَّ عَلَيْهَا، فَاسْتُخْرِجَ مِنْهَا مَالٌ
جَزِيلٌ جِدًّا، وَمَنْ أَكْبَرِ مَنَاقِبِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ
السُّعَاةِ فِي الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ الْحَلَّاجِ حَتَّى قُتِلَ، كَمَا
ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاةُ الْوَزِيرِ حَامِدِ بْنِ
الْعَبَّاسِ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَسْمُومًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُجَيْرٍ الْبُجَيْرِيُّ صَاحِبُ " الصَّحِيحِ
".
ابْنُ خُزَيْمَةَ، مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ صَالِحِ بْنِ بَكْرٍ السُّلَمِيُّ، مَوْلَى مُجَشِّرِ بْنِ مُزَاحِمٍ،
الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ، الْمُلَقَّبُ بِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ،
كَانَ مِنْ أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ وَبُحُورِهِ، وَمِمَّنْ طَافَ الْبُلْدَانَ،
وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَسَمَاعِ الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ
الْكَثِيرَ وَصَنَّفَ وَجَمَعَ، وَلَهُ كِتَابُ " الصَّحِيحِ " مِنْ
أَنْفَعِ الْكُتُبِ وَأَجَلِّهَا، وَهُوَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ، وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا قَلَّدْتُ أَحَدًا
مُنْذُ بَلَغْتُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ
مُطَوَّلَةً فِي كِتَابِنَا " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ
كِفَايَةٌ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ يُصَلِّي حِينَ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ
لِيَسْتَرْزِقَ اللَّهَ فِي صَلَاتِهِ حِينَ أَرْمَلَ هُوَ وَمُحَمَّدُ بْنُ
نَصْرٍ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ جَرِيرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ
هَارُونَ الرُّويَانِيُّ، وَقَدْ أَوْرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقَيْنِ
فِي تَرْجَمَتِهِ، وَذَلِكَ بِبَلَدِ مِصْرَ فِي دَوْلَةِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ،
فَرَزَقَهُمُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْوَ ذَلِكَ فِي
تَرْجَمَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الطَّبِيبُ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْكَبِيرِ فِي الطِّبِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْ
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا اعْتَرَضَ الْقِرْمِطِيُّ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ
بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ، وَلَعَنَ مَعَهُ أَبَاهُ -
لِلْحَجِيجِ وَهُمْ رَاجِعُونَ مِنْ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ قَدْ أَدَّوْا
فَرْضَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَقَطَعَ عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ، فَقَاتَلُوهُ دَفْعًا
عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَحَرِيمِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا
كَثِيرًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَأَسَرَ مِنْ
نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ مَا اخْتَارَهُ، وَاصْطَفَى مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا أَرَادَ،
فَكَانَ مَبْلَغُ مَا أَخَذَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا يُقَاوِمُ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَمِنَ الْأَمْتِعَةِ وَالْمَتَاجِرِ نَحْوَ ذَلِكَ، وَتَرَكَ بَقِيَّةَ
النَّاسِ - بَعْدَمَا أَخَذَ جِمَالَهُمْ وَزَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ عَلَى بُعْدِ الدِّيَارِ فِي الْبَرِّيَّةِ - بِلَا زَادٍ وَلَا
مَاءٍ وَلَا مَحْمَلٍ. وَقَدْ حَاجَفَ عَنِ النَّاسِ نَائِبُ الْكُوفَةِ أَبُو
الْهَيْجَاءِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ، فَقَهَرَهُ وَأَسَرَهُ، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ مَعَ الْقِرْمِطِيِّ
ثَمَانِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَعُمْرُهُ إِذْ ذَاكَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً،
قَصَمَهُ اللَّهُ.
وَلَمَّا انْتَهَى خَبَرُهُمْ إِلَى بَغْدَادَ قَامَ نِسَاؤُهُمْ وَأَهَالِيهِمْ
فِي النِّيَاحَةِ، وَنَشَرْنَ شُعُورَهُنَّ وَلَطَمْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَانْضَافَ
إِلَيْهِنَّ نِسَاءُ الَّذِينَ نُكِبُوا عَلَى يَدَيِ
الْوَزِيرِ ابْنِ الْفُرَاتِ، فَكَانَ
بِبَغْدَادَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْفَظَاعَةِ
وَالشَّنَاعَةِ، وَلَمَّا سَأَلَ الْخَلِيفَةُ عَنِ الْخَبَرِ، ذُكِرَ لَهُ أَنَّ
هَذِهِ نِسْوَةُ الْحَجِيجِ، وَمَعَهُنَّ نِسَاءُ الَّذِينَ صَادَرَهُمُ ابْنُ
الْفُرَاتِ، وَجَاءَتْ عَلَى يَدِ الْحَاجِبِ نَصْرٍ الْقُشُورِيِّ الْمَشُورَةُ
عَلَى الْوَزِيرِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا اسْتَوْلَى
هَذَا الْقِرْمِطِيُّ بِسَبَبِ إِبْعَادِكَ الْمُظَفَّرَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ،
فَطَمِعَ هَؤُلَاءِ فِي الْأَطْرَافِ، وَمَا أَشَارَ عَلَيْكَ بِإِبْعَادِهِ
إِلَّا ابْنُ الْفُرَاتِ. وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْوَزِيرِ
ابْنِ الْفُرَاتِ، يَقُولُ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَتَكَلَّمُونَ فِيكَ لِنُصْحِكَ
إِيَّايَ. وَأَرْسَلَ يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، فَرَكِبَ هُوَ وَوَلَدُهُ إِلَى
الْخَلِيفَةِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ، فَأَكْرَمَهُمَا وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمَا،
وَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، فَنَالَهُ أَذًى كَثِيرٌ مِنْ نَصْرٍ الْحَاجِبِ
وَغَيْرِهِ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، وَجَلَسَ الْوَزِيرُ فِي دَسْتِهِ،
فَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مُفَكِّرًا
فِي أَمْرِهِ، وَأَصْبَحَ كَذَلِكَ وَهُوَ يَنْشُدُ:
فَأَصْبَحَ لَا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا أَقُدَّامَهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ
وَرَاءَهُ
ثُمَّ جَاءَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمِيرَانِ مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ
الْمُقْتَدِرِ فَدَخَلَا عَلَيْهِ دَارَهُ إِلَى بَيْنِ حَرَمِهِ، وَأَخْرَجُوهُ
مَكْشُوفًا رَأْسُهُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْمَذَلَّةِ وَالْإِهَانَةِ،
فَأَرْكَبُوهُ فِي حَرَّاقَةٍ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَفَهِمَ النَّاسُ
ذَلِكَ، فَرَجَمُوا ابْنَ الْفُرَاتِ
بِالْآجُرِّ، وَتَعَطَّلَتِ
الْجَوَامِعُ، وَسَخَّمَتِ الْعَامَّةُ الْمَحَارِيبَ، وَلَمْ يُصَلِّ النَّاسُ
الْجُمُعَةَ فِيهَا، وَأُخِذَ خَطُّهُ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأُخِذَ خَطُّ
ابْنِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَسُلِّمَا إِلَى نَازُوكَ أَمِيرِ
الشُّرْطَةِ، فَاعْتُقِلَا حِينًا، وَخَلَّصَ مِنْهُمَا الْأَمْوَالَ، فَلَمَّا
قَدِمَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ سُلِّمَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ ابْنُ الْفُرَاتِ،
فَأَهَانَهُ غَايَةَ الْإِهَانَةِ بِالضَّرْبِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُ وَلِوَلَدِهِ
الْمُحَسِّنِ الْمُجْرِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحَسِّنٍ، ثُمَّ قُتِلَا بَعْدَ
ذَلِكَ. فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ هَذِهِ الثَّالِثَةُ ; عَشَرَةَ أَشْهُرٍ
وَأَيَّامًا. وَاسْتُوزِرَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَاقَانَ، وَذَلِكَ فِي تَاسِعِ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ لِيَحْضُرَ،
فَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَسُلِّمَ إِلَيْهِ ابْنُ الْفُرَاتِ
كَمَا ذَكَرْنَا، فَعَاقَبَهُ، وَشَفَعَ إِلَى الْخَاقَانِيِّ فِي أَنْ يُرْسِلَ
إِلَى عَلِيِّ بْنِ عِيسَى - وَكَانَ قَدْ صَارَ إِلَى صَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ
مَطْرُودًا - فَعَادَ إِلَى مَكَّةَ وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ أَنْ يَنْظُرَ
فِي أَمْرِ الشَّامِ وَمِصْرَ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ
بِالْمَسِيرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ لِأَجْلِ الْقَرَامِطَةِ، وَأَنْفَقَ
عَلَى خُرُوجِهِ إِلَى هُنَالِكَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَطْلَقَ
الْقِرْمِطِيُّ مَنْ كَانَ أَسَرَهُ مِنَ الْحَجِيجِ وَكَانُوا أَلْفَيْ رَجُلٍ
وَخَمْسَمِائَةِ امْرَأَةٍ، وَأَطْلَقَ أَبَا الْهَيْجَاءِ نَائِبَ الْكُوفَةِ
مَعَهُمْ أَيْضًا، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ مِنْهُ الْبَصْرَةَ
وَالْأَهْوَازَ، فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، وَرَكِبَ الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ
الْخَادِمُ فِي جَحَافِلَ إِلَى
بِلَادِ الْكُوفَةِ فَسَكَنَ أَمْرُهَا، ثُمَّ انْحَدَرَ مِنْهَا إِلَى وَاسِطٍ ;
خَوْفًا عَلَيْهَا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى الْكُوفَةِ يَاقُوتَ
الْخَادِمَ، فَتَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ وَانْصَلَحَتْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ رَجُلٌ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، فَادَّعَى
أَنَّهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ
طَائِفَةٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَالطَّغَامِ، وَالْتَفُّوا عَلَيْهِ، وَقَوِيَتْ
شَوْكَتُهُ فِي شَوَّالٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْوَزِيرُ جَيْشًا فَقَاتَلُوهُ
فَهَزَمُوهُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَتَفَرَّقَ بَقِيَّتُهُمْ.
وَهَذَا الْمُدَّعِي الْمَذْكُورُ هُوَ رَئِيسُ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ
وَأَوَّلُهُمْ. وَظَفِرَ نَازُوكُ نَائِبُ الشُّرْطَةِ بِثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
الْحَلَّاجِ وَهُمْ حَيْدَرَةُ، وَالشَّعْرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْصُورٍ،
فَطَالَبَهُمْ بِالرُّجُوعِ، فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، وَصَلَبَهُمْ
فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ ; لِكَثْرَةِ خَوْفِ النَّاسِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُمُ
اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْشٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ
النَّيْسَابُورِيُّ، كَانَ يَعِظُ النَّاسَ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ
الْحَسَنِ قَوْلُهُ: يَضْحَكُ الْقَضَاءُ مِنَ الْحَذَرِ، وَيَضْحَكُ الْأَجَلُ
مِنَ الْأَمَلِ، وَيَضْحَكُ التَّقْدِيرُ مِنَ التَّدْبِيرِ، وَتَضْحَكُ
الْقِسْمَةُ مِنَ الْجَهْدِ وَالْعَنَاءِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْفُرَاتِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَزِيرُ
وَلَّاهُ الْمُقْتَدِرُ الْوِزَارَةَ، ثُمَّ عَزَلَهُ، ثُمَّ وَلَّاهُ، ثُمَّ
عَزَلَهُ، ثُمَّ وَلَّاهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ هَذِهِ السَّنَةَ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ
ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، مَلَكَ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ
يَدْخُلُهُ مِنْ ضِيَاعِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَا أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ
يُنْفِقُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَيُجْرِي
عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَثَابَهُ اللَّهُ، وَكَانَ فِيهِ
كِفَايَةٌ وَنَهْضَةٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالْوِزَارَةِ وَالْحِسَابِ، يُقَالُ: إِنَّهُ
نَظَرَ يَوْمًا فِي أَلْفِ كِتَابٍ، وَوَقَّعَ عَلَى أَلْفِ رُقْعَةٍ، فَتَعَجَّبَ
مَنْ حَضَرَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَتْ فِيهِ مُرُوءَةٌ وَكَرَمٌ وَحُسْنُ سِيرَةٍ
فِي وِلَايَاتِهِ، غَيْرَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ ; فَإِنَّهُ ظَلَمَ وَغَشَمَ
وَصَادَرَ النَّاسَ عَنْ أَمْوَالِهِمْ، فَأَخَذَهُ اللَّهُ أَخْذَ عَزِيزٍ
مُقْتَدِرٍ. وَقَدْ كَانَ فِيهِ كَرَمٌ وَسَعَةٌ فِي النَّفَقَةِ، ذُكِرَ عِنْدَهُ
ذَاتَ لَيْلَةٍ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةُ وَأَهْلُ الْأَدَبِ
وَالشُّعَرَاءُ وَالْفُقَهَاءُ، فَأَطْلَقَ مِنْ مَالِهِ لِكُلِّ طَائِفَةٍ
عِشْرِينَ أَلْفًا.
وَكَتَبَ رَجُلٌ عَلَى لِسَانِهِ إِلَى نَائِبِ مِصْرَ كِتَابًا فِيهِ
الْوَصِيَّةُ بِهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ
اسْتَرَابَ بِهِ، وَقَالَ: مَا هَذَا خَطُّهُ، وَأَرْسَلَ بِهِ إِلَى الْوَزِيرِ،
فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ عَرَفَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَزُورٌ، وَاسْتَشَارَ
الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي الَّذِي زَوَّرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
يَنْبَغِي أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقْطَعُ إِبْهَامُهُ، وَقَالَ
الْآخَرُ: يُضْرَبُ ضَرْبًا عَنِيفًا. فَقَالَ الْوَزِيرُ: أَوْ خَيْرٌ مِنْ
ذَلِكَ ؟ فَأَخَذَ الْكِتَابَ،
وَكَتَبَ عَلَيْهِ: نَعَمْ هَذَا
خَطِّي، وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ أَصْحَابِي، فَلَا تَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا تَقْدِرُ
عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَّا وَصَلْتَهُ بِهِ. فَلَمَّا عَادَ الْكِتَابُ
أَحْسَنَ نَائِبُ مِصْرَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَوَصَلَهُ بِنَحْوٍ مِنْ
عِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاسْتَدْعَى ابْنُ الْفُرَاتِ يَوْمًا بِبَعْضِ الْكُتَّابِ، فَقَالَ لَهُ:
وَيْحَكَ ! إِنَّ نِيَّتِي فِيكَ سَيِّئَةٌ، وَإِنِّي فِي كُلِّ وَقْتٍ أُرِيدُ
أَنْ أَقْبِضَ عَلَيْكَ وَأُصَادِرَكَ مَالَكَ، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ مِنْ
لَيَالٍ أَنِّي قَدْ أَمَرْتُ بِالْقَبْضِ عَلَيْكَ، فَجَعَلْتَ تَمْتَنِعُ
مِنِّي، فَأَمَرْتُ جُنْدِي أَنْ تُقَاتِلَ، فَجَعَلُوا كُلَّمَا ضَرَبُوكَ
بِشَيْءٍ مِنْ سِهَامٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ السِّلَاحِ تَتَّقِي الضَّرْبَ
بِرَغِيفٍ فِي يَدِكَ، فَلَا يَصِلُ إِلَيْكَ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ، فَأَعْلِمْنِي
مَا قِصَّةُ هَذَا الرَّغِيفِ ؟ فَقَالَ: أَيُّهَا الْوَزِيرُ، إِنَّ أُمِّي
مُنْذُ كُنْتُ صَغِيرًا كَانَتْ تَضَعُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ تَحْتَ وِسَادَتِي
رَغِيفًا، ثُمَّ تُصْبِحُ فَتَتَصَدَّقُ بِهِ عَنِّي، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ
دَأْبَهَا حَتَّى مَاتَتْ. فَفَعَلْتُهُ بَعْدَهَا، فَأَنَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
أُبَيِّتُ تَحْتَ وِسَادَتِي رَغِيفًا، ثُمَّ أُصْبِحُ فَأَتَصَدَّقُ بِهِ،
فَعَجِبَ الْوَزِيرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَنَالُكَ مِنِّي سُوءٌ
أَبَدًا، وَلَقَدْ حَسُنَتْ نِيَّتِي فِيكَ وَأَحْبَبْتُكَ. وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ
خَلِّكَانَ تَرْجَمَتَهُ وَذَكَرَ بَعْضَ مَا أَوْرَدْنَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ
أَبُو بَكْرٍ الْأَزْدِيُّ الْوَاسِطِيُّ، الْمَعْرُوفُ بَالْبَاغَنْدِيِّ، سَمِعَ
مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنَ أَبِي شَيْبَةَ،
وَشَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، وَعَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ، وَخَلْقًا مِنْ أَهْلِ
الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ، وَرَحَلَ إِلَى
الْأَمْصَارِ الْبَعِيدَةِ، وَعُنِيَ
بِهَذَا الشَّأْنِ، وَاشْتَغَلَ فِيهِ فَأَفْرَطَ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا سَرَدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ بِأَسَانِيدِهَا فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَيُسَبِّحُ بِهِ حَتَّى يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَانَ يَقُولُ: أَنَا أُجِيبُ فِي ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّمَا أَثْبَتُ فِي الْحَدِيثِ مَنْصُورٌ أَوِ الْأَعْمَشُ ؟ فَقَالَ لَهُ: مَنْصُورٌ، مَنْصُورٌ. وَقَدْ كَانَ يُعَابُ بِالتَّدْلِيسِ، حَتَّى قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ، يُحَدِّثُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْ، وَرُبَّمَا سَرَقَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنَ الْمُحَرَّمِ انْقَضَّ
كَوْكَبٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْجَنُوبِ إِلَى الشَّمَالِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ،
فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا مِنْهُ، وَسُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الرَّعْدِ
الشَّدِيدِ.
وَفِي صَفَرٍ بَلَغَ الْخَلِيفَةَ الْمُقْتَدِرَ بِاللَّهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ
الرَّافِضَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدِ بَرَاثَا، فَيَنَالُونَ مِنَ
الصَّحَابَةِ، وَلَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ، وَيُكَاتِبُونَ الْقَرَامِطَةَ،
وَيَدْعُونَ إِلَى وِلَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الَّذِي ظَهَرَ بَيْنَ
الْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ، وَيَتَبَرَّءُونَ
مِنَ الْمُقْتَدِرِ وَمِمَّنْ يَتَّبِعُهُ، فَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِمْ،
وَاسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، فَأَفْتَوْا بِأَنَّهُ
مَسْجِدٌ ضِرَارٌ يُهْدَمُ كَمَا هُدِمَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ، فَضَرَبَ مَنْ
قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمُ الضَّرْبَ الْمُبَرِّحَ، وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ، فَهَدَمَهُ نَازُوكُ وَأَمَرَ
الْوَزِيرَ الْخَاقَانِيَّ، فَجَعَلَ مَكَانَهُ مَقْبَرَةً، فَدُفِنَ فِيهِ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَوْتَى.
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَاعْتَرَضَهُمْ أَبُو طَاهِرٍ
سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ
الْجَنَّابِيُّ الْقِرْمِطِيُّ -
لَعَنَهُمَا اللَّهُ - فَرَجَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَى بُلْدَانِهِمْ، وَلَمْ
يُمْكِنْهُمُ الْحَجُّ عَامَهُمْ هَذَا، وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلَ
مِنْهُ الْأَمَانَ لِيَذْهَبُوا فَأَمَّنَهُمْ. وَقَدْ قَاتَلَهُ جُنْدُ
الْخَلِيفَةِ، فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ فِيهِ شَيْئًا ; لِتَمَرُّدِهِ وَشِدَّةِ
بَأْسِ مَنْ مَعَهُ، وَانْزَعَجَ أَهْلُ بَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ وَتَرَحَّلَ أَهْلُ
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ خَوْفًا مِنَ
الْقَرَامِطَةِ، وَدَخَلَ الْقِرْمِطِيُّ إِلَى الْكُوفَةَ فَأَقَامَ بِهَا
سِتَّةَ أَيَّامٍ يَأْخُذُ مِنْ أَمْوَالِهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَثُرَ الرُّطَبُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ،
حَتَّى بِيعَ كُلُّ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ بِحَبَّةٍ، وَعُمِلَ مِنْهُ تَمْرٌ
وَحُمِلَ إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَعَزَلَ الْمُقْتَدِرُ وَزِيرَهُ الْخَاقَانِيَّ عَنِ الْوِزَارَةِ بَعْدَ سَنَةٍ
وَسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ، وَوَلِيَ مَكَانَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْخَصِيبِ الْخَصِيبِيُّ ; لِأَجْلِ
مَالٍ بَذَلَهُ مِنْ جِهَةِ زَوْجَةِ الْمُحَسِّنِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَكَانَ
ذَلِكَ الْمَالُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَقَرَّ الْخَصِيبِيُّ عَلِيَّ
بْنَ عِيسَى عَلَى الْإِشْرَافِ عَلَى دِيَارِ مِصْرَ وَبِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ
مُقِيمٌ بِمَكَّةَ يَسِيرُ إِلَيْهَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، فَيَعْمَلُ مَا
يَنْبَغِي عَمَلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ، شَرَّفَهَا اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ
أَبُو الْحَسَنِ الْغَضَائِرِيُّ،
سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَعَبَّاسًا
الْعَنْبَرِيَّ، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الثِّقَاتِ. قَالَ: جِئْتُ يَوْمًا
إِلَى السَّرِيِّ السَّقَطِيِّ، فَدَقَقْتُ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَخَرَجَ إِلَيَّ،
وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عِضَادَتَيِ الْبَابِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْغَلْ
مَنْ شَغَلَنِي عَنْكَ بِكَ. قَالَ: فَنَالَتْنِي بَرَكَةُ هَذِهِ الدَّعْوَةِ،
فَحَجَجْتُ عَلَى قَدَمِي مِنْ حَلَبَ إِلَى مَكَّةَ أَرْبَعِينَ حَجَّةً ذَاهِبًا
وَآيِبًا.
أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ الْحَافِظُ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الثَّقَفِيُّ مَوْلَاهُمْ، أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ
الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ، مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ،
سَمِعَ قُتَيْبَةَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَخَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
خُرَاسَانَ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْحِجَازِ، وَقَدْ حَدَّثَ
عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهُمَا أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَقْدَمُ مِيلَادًا
وَوَفَاةً، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ نَافِعَةٌ جِدًّا، وَكَانَ يُعَدُّ مِنْ
مُجَابِي الدَّعْوَةِ.
وَقَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّهُ يَرْقَى فِي سُلَّمٍ، فَصَعِدَ فِيهِ
تِسْعًا وَتِسْعِينَ دَرَجَةً، فَمَا أَوَّلَهَا عَلَى أَحَدٍ إِلَّا قَالَ لَهُ:
تَعِيشُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. فَكَانَ كَذَلِكَ. وَقَدْ وُلِدَ لَهُ
ابْنُهُ أَبُو عَمْرٍو، وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً. قَالَ الْحَاكِمُ:
فَسَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو يَقُولُ: فَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ عَلَى
أَبِي وَالنَّاسُ عِنْدَهُ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا عَمِلْتُهُ فِي لَيْلَةٍ، وَلِي
مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
كَتَبَ مَلِكُ الرُّومِ، وَهُوَ الدُّمُسْتُقُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى أَهْلِ
السَّوَاحِلِ أَنَّ يَحْمِلُوا إِلَيْهِ الْخَرَاجَ وَإِلَّا قَاتَلَهُمْ،
فَأَبَوْا عَلَيْهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَاثَ
فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَدَخَلَ مَلَطْيَةَ فَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا كَثِيرًا
وَأَسَرَ، وَأَقَامَ بِهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَجَاءَ أَهْلُهَا إِلَى
بَغْدَادَ يَسْتَنْجِدُونَ الْخَلِيفَةَ عَلَيْهِ.
وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ حَرِيقٌ فِي مَكَانَيْنِ، مَاتَ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ،
وَاحْتَرَقَ بِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دَارٍ وَدُكَّانٍ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ بِمَوْتِ
الدُّمُسْتُقِ مَلِكِ النَّصَارَى - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَقُرِئَتِ الْكُتُبُ
عَلَى الْمَنَابِرِ بِذَلِكَ، وَجَاءَتِ الْكُتُبُ مِنْ مَكَّةَ أَنَّ أَهْلَهَا
فِي غَايَةِ الِانْزِعَاجِ بِسَبَبِ اقْتِرَابِ الْقِرْمِطِيِّ إِلَيْهِمْ
وَقَصْدِهِ إِيَّاهُمْ، فَرَحَلُوا مِنْهَا إِلَى الطَّائِفِ وَتِلْكَ
النَّوَاحِي، وَهَبَّتْ رِيحٌ عَظِيمَةٌ بِنَصِيبِينَ اقْتَلَعَتِ الْأَشْجَارَ
وَهَدَمَتِ الْبُيُوتَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ لِثَمَانٍ مَضَيْنَ مِنْ
شَوَّالٍ مِنْهَا - وَهُوَ سَابِعُ كَانُونَ الْأَوَّلِ - سَقَطَ بِبَغْدَادَ
ثَلْجٌ عَظِيمٌ جِدًّا وَحَصَلَ بِسَبَبِهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ أَتْلَفَ
كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَمَدَتِ الْأَدْهَانُ حَتَّى
الْأَشْرِبَةُ، وَمَاءُ الْوَرْدِ، وَالْخَلُّ، وَالْخِلْجَانُ الْكِبَارُ،
وَدِجْلَةُ.
وَعَقَدَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ
مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ عَلَى مَتْنِ
دِجْلَةَ مِنْ فَوْقِ الْجَمْدِ، وَكُتِبَ عَنْهُ الْحَدِيثُ هُنَالِكَ، ثُمَّ
انْكَسَرَ الْبَرْدُ بِمَطَرٍ وَقَعَ، فَأَزَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَقَدِمَ الْحُجَّاجُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى بَغْدَادَ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ
مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ بِأَنَّ الْقَرَامِطَةَ قَدْ قَصَدُوا مَكَّةَ فَرَجَعُوا،
وَلَمْ يَتَهَيَّأِ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ
بِالْكُلِّيَّةِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ
الْخَصِيبِيَّ بَعْدَ سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ، وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ
وَحَبْسِهِ، وَذَلِكَ لِإِهْمَالِهِ أَمْرَ الْوِزَارَةِ وَالنَّظَرِ فِي
الْمَصَالِحِ ; لِاشْتِغَالِهِ بِالْخَمْرِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَيُصْبِحُ
مَخْمُورًا لَا عَقْلَ لَهُ، وَقَدْ وَكَلَ الْأُمُورَ إِلَى نُوَّابِهِ،
فَخَانُوا وَعَمِلُوا مَصَالِحَهُمْ، وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا الْقَاسِمِ عَبِيدَ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْوَذَانِيَّ نِيَابَةً عَنْ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى
حَتَّى يَقْدَمَ، ثُمَّ أَرْسَلَ فِي طَلَبِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى، وَهُوَ فِي
دِمَشْقَ فَقَدِمَ بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، فَنَظَرَ فِي الْمَصَالِحِ
الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَرَدَّ الْأُمُورَ إِلَى السَّدَادِ
وَالِاسْتِقَامَةِ، وَتَمَهَّدَتِ الْقَوَاعِدُ، وَاسْتَدْعَى بِالْخَصِيبِيِّ،
فَتَهَدَّدَهُ وَلَامَهُ وَنَاقَشَهُ عَلَى مَا كَانَ يَعْتَمِدُهُ وَيَفْعَلُهُ
فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ
الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ رَدَّهُ إِلَى السِّجْنِ.
وَفِيهَا أَخَذَ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالسَّعِيدِ
بِلَادَ الرَّيِّ وَسَكَنَهَا إِلَى سَنَةِ سِتَّ عَشْرَةَ.
وَفِيهَا غَزَتِ الصَّائِفَةُ مِنْ بِلَادِ طَرَسُوسَ بِلَادَ الرُّومِ، فَغَنِمُوا
وَسَلِمُوا. وَلَمْ
يَحُجَّ رَكْبُ الْعِرَاقِ ; خَوْفًا
مِنَ الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعْدٌ النُّوبِيُّ
صَاحِبُ بَابِ النُّوبِيِّ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ بِبَغْدَادَ، تُوُفِّيَ فِي
صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأُقِيمَ أَخُوهُ مَكَانَهُ فِي حِفْظِ هَذَا
الْبَابِ الَّذِي صَارَ يُنْسَبُ بَعْدَهُ إِلَيْهِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ. وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
لُبَابَةَ الْقُرْطُبِيُّ. وَنَصْرُ بْنُ الْقَاسِمِ الْفَرَائِضِيُّ الْحَنَفِيُّ
أَبُو اللَّيْثِ. سَمِعَ الْقَوَارِيرِيَّ وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ
عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، مُقْرِئًا جَلِيلًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا كَانَ قُدُومُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ الْوَزِيرِ مِنْ
دِمَشْقَ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ تَلَقَّاهُ النَّاسُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ،
فَمِنْهُمْ مَنْ لَقِيَهُ إِلَى الْأَنْبَارِ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ. وَحِينَ
دَخَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ خَاطَبَهُ الْخَلِيفَةُ فَأَحْسَنَ مُخَاطَبَتَهُ،
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَبَعَثَ وَرَاءَهُ بِالْفَرْشِ وَالْقُمَاشِ
وَعِشْرِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاسْتَدْعَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ،
فَأَنْشَدَ وَهُوَ فِي الْخِلْعَةِ:
مَا النَّاسُ إِلَّا مَعَ الدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا فَكَيْفَمَا انْقَلَبَتْ
يَوْمًا بِهِ انْقَلَبُوا يُعَظِّمُونَ أَخَا الدُّنْيَا فَإِنْ وَثَبَتْ
يَوْمًا عَلَيْهِ بِمَا لَا يَشْتَهِي وَثَبُوا
وَجَاءَتِ الْكُتُبُ بِأَنَّ الرُّومَ دَخَلُوا سُمَيْسَاطَ وَأَخَذُوا جَمِيعَ
مَا فِيهَا، وَنَصَبُوا فِيهَا خَيْمَةَ الْمُلْكِ، وَضَرَبُوا النَّاقُوسَ فِي
الْجَامِعِ بِهَا، فَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ بِالتَّجْهِيزِ
لِلْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً، ثُمَّ جَاءَتِ
الْكُتُبُ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَثَبُوا عَلَى الرُّومِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً جِدًّا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا تَجَهَّزَ مُؤْنِسٌ
لِلْمَسِيرِ جَاءَهُ بَعْضُ الْخَدَمِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ يُرِيدُ
أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْهِ إِذَا دَخَلَ لِوَدَاعِهِ، وَقَدْ حُفِرَتْ لَهُ زُبْيَةٌ
فِي دَارِ الْخِلَافَةِ مُغَطَّاةٌ ; لِيَتَرَدَّى فِيهَا، فَأَحْجَمَ عَنِ
الذَّهَابِ، وَجَاءَتِ الْأُمَرَاءُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِيَكُونُوا
مَعَهُ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ رُقْعَةً بِخَطِّهِ
يَحْلِفُ لَهُ فِيهَا أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي بَلَغَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ،
فَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَرَكِبَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ فِي غِلْمَانٍ قَلَائِلَ،
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ خَاطَبَهُ مُخَاطَبَةً عَظِيمَةً، وَحَلَفَ
لَهُ أَنَّهُ طَيِّبُ الْقَلْبِ عَلَيْهِ، وَلَهُ عِنْدَهُ الصَّفَاءُ الَّذِي
يَعْرِفُهُ، وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وَرَكِبَ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ، وَالْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى وَنَصْرٌ
الْحَاجِبُ فِي خِدْمَتِهِ لِتَوْدِيعِهِ، وَكِبَارُ الْأُمَرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ
مِثْلُ الْحَجَبَةِ، وَكَانَ خُرُوجُهُ يَوْمًا مَشْهُودًا، قَاصِدًا بِلَادَ
الثُّغُورِ لِقِتَالِ الرُّومِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى قُبِضَ عَلَى رَجُلٍ خَنَّاقٍ، قَدْ قَتَلَ خَلْقًا مِنَ
النِّسَاءِ ; لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْرِفُ الْعَطْفَ وَالتَّنْجِيمَ،
فَقَصَدَهُ النِّسَاءُ لِذَلِكَ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِالْمَرْأَةِ قَامَ
إِلَيْهَا، فَخَنَقَهَا بِوَتَرٍ، وَأَعَانَتْهُ امْرَأَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ
حَفَرَ لَهَا فِي دَارِهِ فَدَفَنَهَا، فَإِذَا امْتَلَأَتْ تِلْكَ الدَّارُ
انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَلَمَّا ظُهِرَ عَلَيْهِ وُجِدَ فِي دَارِهِ
سَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً قَدْ خَنَقَهُنَّ، ثُمَّ تُتُبِّعَتِ الدُّورُ الَّتِي
سَكَنَهَا، فَوَجَدُوا شَيْئًا كَثِيرًا قَدْ قُتِلَ مِنَ النِّسَاءِ، فَضُرِبَ
أَلْفَ سَوْطٍ، ثُمَّ صُلِبَ حَيًّا حَتَّى مَاتَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ ظُهُورُ الدَّيْلَمِ بِبِلَادِ الرَّيِّ فَكَانَ
فِيهِمْ مَلِكٌ غَلَبَ عَلَى أَمْرِهِمْ، يُقَالُ لَهُ: مَرْدَاوِيجُ، يَجْلِسُ
عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيرٌ مِنْ
فِضَّةٍ، وَيَقُولُ: أَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ دَاوُدَ. وَقَدْ سَارَ فِي أَهْلِ الرَّيِّ وَقَزْوِينَ وَأَصْبَهَانَ
سِيرَةً قَبِيحَةً جِدًّا، فَكَانَ يَقْتُلُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي
الْمُهُودِ، وَيَأْخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَبَرُوتِ
وَالشِّدَّةِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى مَحَارِمِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَقَتَلَهُ
الْأَتْرَاكُ، وَأَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرِّهِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ يُوسُفَ بْنِ أَبِي
السَّاجِ وَبَيْنَ أَبِي طَاهِرٍ الْقِرْمِطِيِّ عِنْدَ الْكُوفَةِ ; سَبَقَهُ
إِلَيْهَا أَبُو طَاهِرٍ، فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ: اسْمَعْ وَأَطِعْ، وَإِلَّا فَاسْتَعِدَّ
لِلْقِتَالِ يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. فَقَالَ:
هَلُمَّ. فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، اسْتَقَلَّ يُوسُفُ بْنُ أَبِي
السَّاجِ، وَكَانَ مَعَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا جَيْشُ الْقِرْمِطِيِّ، وَكَانَ
مَعَهُ أَلْفُ فَارِسٍ وَخَمْسُمِائَةِ رَاجِلٍ، فَقَالَ: وَمَا قِيمَةُ هَؤُلَاءِ
الْكِلَابِ ؟ وَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ يَكْتُبَ بِالْفَتْحِ قَبْلَ اللِّقَاءِ
إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا اقْتَتَلُوا ثَبَتَتِ الْقَرَامِطَةُ ثَبَاتًا
عَظِيمًا، وَنَزَلَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ،
لَعَنَهُ اللَّهُ، فَحَرَّضَ أَصْحَابَهُ، وَحَمَلَ بِهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً،
فَهَزَمُوا جُنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأَسَرُوا يُوسُفَ بْنَ أَبِي السَّاجِ
وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ جُنْدِ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى
الْكُوفَةِ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ وَشَاعَ بَيْنَ
النَّاسِ أَنَّ الْقِرْمِطِيَّ يُرِيدُ أَنْ يَقْصِدَ بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا،
فَانْزَعَجَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ، وَظَنُّوا صِدْقَهُ، فَاجْتَمَعَ الْوَزِيرُ
بِالْخَلِيفَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْأَمْوَالَ
إِنَّمَا تُدَّخَرُ لِتَكَوُّنَ عَوْنًا عَلَى قِتَالِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَإِنَّ
هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَقَعْ بَعْدَ زَمَنِ الصَّحَابَةِ أَفْظَعُ مِنْهُ، قَدْ
قَطَعَ هَذَا الْكَافِرُ طَرِيقَ الْحَجِّ عَلَى النَّاسِ، وَفَتَكَ فِي
الْمُسْلِمِينَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَإِنَّ بَيْتَ الْمَالِ لَيْسَ فِيهِ
شَيْءٌ، فَاتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَخَاطِبِ السَّيِّدَةَ -
يَعْنِي أُمَّهُ - فَإِنْ كَانَ عِنْدَهَا مَالٌ قَدِ ادَّخَرَتْهُ لِشِدَّةٍ،
فَهَذَا وَقْتُهُ، فَدَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَكَانَتْ هِيَ الَّتِي ابْتَدَأَتْهُ
بِذَلِكَ، وَبَذَلَتْ لَهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَكَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ
مِثْلُهَا فَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ إِلَى الْوَزِيرِ لِيَصْرِفَهَا فِي
تَنْفِيذِ الْجُيُوشِ نَحْوَ الْقَرَامِطَةِ، فَجَهَّزَ الْوَزِيرُ جَيْشًا ;
أَرْبَعِينَ أَلْفًا مَعَ أَمِيرٍ، يُقَالُ لَهُ: يَلْبَقُ، فَأَخَذُوا عَلَيْهِ
الطُّرُقَاتِ وَكَانَ يُرِيدُ دُخُولَ بَغْدَادَ ثُمَّ الْتَقَوْا مَعَهُ، فَلَمْ
يَلْبَثْ جَيْشُ الْخَلِيفَةِ أَنِ انْهَزَمَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَكَانَ يُوسُفُ بْنُ أَبِي السَّاجِ مَعَهُمْ مُقَيَّدًا فِي
خَيْمَةٍ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى مَحَلِّ الْوَقْعَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ
الْقِرْمِطِيُّ قَالَ: أَرَدْتَ أَنْ تَهْرُبَ ؟! ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ، وَرَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ مِنْ نَاحِيَةِ بَغْدَادَ إِلَى الْأَنْبَارِ
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى هِيتَ فَأَكْثَرَ أَهْلُ بَغْدَادَ الصَّدَقَةَ، وَكَذَلِكَ
الْخَلِيفَةُ وَأُمُّهُ وَالْوَزِيرُ ; شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى
صَرْفِهِ عَنْهُمْ هَذَا الْخَبِيثَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ الْمَهْدِيُّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ -
الَّذِي ظَهَرَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ - وَلَدَهُ أَبَا الْقَاسِمِ فِي جَيْشٍ،
فَانْهَزَمَ جَيْشُهُ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ خُلْقٌ كَثِيرٌ.
وَاخْتُطَّتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمَدِينَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ.
وَفِيهَا حَاصَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الدَّاخِلِ الْأُمَوِيُّ مَدِينَةَ
طُلَيْطُلَةَ وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، لَكِنَّهُمْ نَقَضُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ
عَلَيْهِ، فَفَتَحَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَهْلِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيُّ
الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَصَّاصِ الْجَوْهَرِيُّ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْبَغْدَادِيُّ، كَانَ ذَا مَالٍ عَظِيمٍ وَثَرْوَةٍ مُتَّسِعَةٍ جِدًّا،
وَكَانَ أَصْلُ نِعْمَتِهِ مِنْ بَيْتِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ كَانَ قَدْ
جَعَلَهُ جَوْهَرِيًّا لَهُ يَتَسَوَّقُ لَهُ مَا يَقَعُ مِنْ نَفَائِسِ
الْجَوَاهِرِ بِمِصْرَ، فَاكْتَسَبَ
بِسَبَبِ ذَلِكَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا.
قَالَ ابْنُ الْجَصَّاصِ: كُنْتُ يَوْمًا بِبَابِ ابْنِ طُولُونَ إِذْ خَرَجَتِ
الْقَهْرَمَانَةُ، وَبِيَدِهَا عِقْدٌ فِيهِ مِائَةُ حَبَّةٍ مِنَ الْجَوْهَرِ،
تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَتْ: أُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ
هَذَا فَتَخْرُطَهُ حَتَّى يَكُونَ أَصْغَرَ مِنْ هَذَا الْحَجْمِ، فَإِنَّ هَذَا
نَافِرٌ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ. فَأَخَذْتُهُ مِنْهَا، وَذَهَبْتُ بِهِ إِلَى
الْمَنْزِلِ وَحَصَّلْتُ جَوَاهِرَ أَصْغَرَ مِنْهَا تُسَاوِي أَقَلَّ مِنْ عُشْرِ
قِيمَةِ تِلْكَ الْجَوَاهِرِ بِكَثِيرٍ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، وَفُزْتُ أَنَا
بِذَلِكَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ، فَكَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَقَدِ اتَّفَقَ أَنَّهُ صُودِرَ فِي زَمَانِ الْمُقْتَدِرِ مُصَادَرَةً
عَظِيمَةً، أُخِذَ مِنْهُ مَا يُقَاوِمُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَبَقِيَ مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِي مَنْزِلِهِ كَأَنَّهُ
مَجْنُونٌ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ ؟! فَقَالَ: وَيْحَكَ ! أُخِذَ مِنِّي كَذَا
وَكَذَا، فَأَنَا أُحِسُّ أَنَّ رُوحِي سَتَخْرُجُ. فَعَذَرْتُهُ ثُمَّ أَخَذْتُ
فِي تَسْلِيَتِهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ دَارَكَ وَبَسَاتِينَكَ وَضِيَاعَكَ
الْبَاقِيَةَ لَكَ تُسَاوِي سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَاصْدُقْنِي كَمْ
بَقِيَ عِنْدَكَ مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَتَاعِ، فَإِذَا هُوَ يُسَاوِي
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُشَارِكُكَ
فِيهِ أَحَدٌ مِنَ التُّجَّارِ بِبَغْدَادَ، مَعَ مَا لَكَ مِنَ الْوَجَاهَةِ
عِنْدَ الدَّوْلَةِ وَالنَّاسِ. قَالَ: فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَتَسَلَّى عَمَّا كَانَ
عَلَيْهِ وَأَكَلَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا،
وَلَمَّا خَلَصَ مِنْ مُصَادَرَةِ الْمُقْتَدِرِ بِشَفَاعَةِ أُمِّهِ السَّيِّدَةِ
فِيهِ، حَكَى عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: نَظَرْتُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى
مِائَةِ خَيْشَةٍ، فِيهَا مَتَاعٌ رَثٌّ مِمَّا حُمِلَ إِلَيَّ مِنْ مِصْرَ،
وَهُوَ عِنْدَهُمْ بِدَارِ
مَضِيعَةٍ، وَكَانَ لِي فِي كُلِّ
حِمْلِ أَلْفُ دِينَارٍ مَوْضُوعَةٌ فِيهِ مِنْ مِصْرَ لَا يَشْعُرُ بِهَا أَحَدٌ،
فَاسْتَوْهَبْتُ ذَلِكَ مِنْ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَكَلَّمَتْ فِي ذَلِكَ
وَلَدَهَا، فَأَطْلَقَهُ لِي فَتَسَلَّمْتُهُ، فَإِذَا الذَّهَبُ لَمْ يَنْقُصْ
مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَدْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُغَفَّلًا شَدِيدَ التَّغَفُّلِ فِي كَلَامِهِ
وَأَفْعَالِهِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ أَشْيَاءُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِيُظْهِرَ أَنَّهُ مُغَفَّلٌ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَسْطِ وَالدُّعَابَةِ. وَاللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزْوِينِيُّ
وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْفَضْلِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ، رَوَى
عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَالْيَزِيدِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْمَرْزُبَانِيُّ
وَالْمُعَافَى وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ ثِقَةً فِي نَقْلِهِ فَقِيرًا فِي ذَاتِ
يَدِهِ، تَوَصَّلَ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ حَتَّى كَلَّمَ فِيهِ
الْوَزِيرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى فِي أَنْ يُرَتَّبَ لَهُ شَيْءٌ، فَلَمْ يُجِبْهُ
إِلَى ذَلِكَ، وَضَاقَ بِهِ الْحَالُ حَتَّى كَانَ يَأْكُلُ اللِّفْتَ النَّيِّئَ،
فَمَاتَ فَجْأَةً مِنْ كَثْرَةِ أَكْلِهِ، وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ، وَالْأَوْسَطُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ
مَسْعَدَةَ تِلْمِيذُ
سِيبَوَيْهِ، وَأَمَّا الْأَكْبَرُ
فَهُوَ أَبُو الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، مِنْ أَهْلِ
هَجَرَ وَهُوَ شَيْخُ سِيبَوَيْهِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ السَّرِيِّ السَّرَّاجُ النَّحْوِيُّ
صَاحِبُ " الْأُصُولِ " فِي النَّحْوِ. قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيُّ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَاثَ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ
سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، حَاصَرَ
الرَّحْبَةَ، فَدَخَلَهَا قَهْرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا،
وَطَلَبَ مِنْهُ أَهْلُ قِرْقِيسِيَا الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَبَعَثَ سَرَايَا
إِلَى مَا حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا أَيْضًا،
حَتَّى صَارَ النَّاسُ إِذَا سَمِعُوا بِذِكْرِهِ يَهْرُبُونَ مِنْ سَمَاعِ
اسْمِهِ، وَقَرَّرَ عَلَى الْأَعْرَابِ إِتَاوَةً يَحْمِلُونَهَا إِلَى هَجَرَ فِي
كُلِّ سَنَةٍ، عَنْ كُلِّ رَأْسٍ دِينَارَانِ، وَعَاثَ فِي نُوَاحِي الْمَوْصِلِ
وَسِنْجَارَ وَتِلْكَ الدِّيَارِ، وَقَتَلَ وَسَلَبَ وَنَهَبَ، فَقَصَدَهُ
مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ فَلَمْ يَتَوَاجَهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَلَدِهِ فَابْتَنَى
بِهَا دَارًا سَمَّاهَا دَارَ الْهِجْرَةِ، وَدَعَا إِلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي
بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَانِي الْمَهْدِيَّةِ وَتَفَاقَمَ أَمَرُهُ، وَكَثُرَ
أَتْبَاعُهُ، وَصَارُوا يَكْبِسُونَ الْقَرْيَةَ مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ،
فَيَقْتُلُونَ أَهْلَهَا، وَيَنْهَبُونَ أَمْوَالَهَا، وَرَامَ فِي نَفْسِهِ
دُخُولَ الْكُوفَةِ وَأَخْذَهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَعَصَمَهَا اللَّهُ
مِنْهُ. وَلَمَّا رَأَى الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى مَا يَفْعَلُ هَذَا
الْهَجَرِيُّ الْقِرْمِطِيُّ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَالْخَلِيفَةُ وَجَيْشُهُ
ضُعَفَاءُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، اسْتَعْفَى مِنَ الْوِزَارَةِ وَعَزَلَ نَفْسَهُ
عَنْهَا، فَسَعَى فِيهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ،
فَوَلِيَهَا بِسِفَارَةِ نَصْرٍ
الْحَاجِبِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيِّ - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مِنَ الْبَرِيدِ - وَيُقَالُ:
الْيَزِيدِيُّ. لِخِدْمَةِ جَدِّهِ يَزِيدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْحِمْيَرِيِّ. ثُمَّ
جَهَّزَ الْخَلِيفَةُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، فَاقْتَتَلُوا
مَعَ الْقَرَامِطَةِ، فَقَتَلُوا مِنَ الْقَرَامِطَةِ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَأَسَرُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً مِنْ أَشْرَافِهِمْ، وَدَخَلُوا مَعَ
مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ إِلَى بَغْدَادَ وَالْأَسَارَى بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَعْلَامٌ
مِنْ أَعْلَامِهِمْ بِيضٌ مُنَكَّسَةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ
عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [ الْقَصَصِ: 5 ] فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ
فَرَحًا شَدِيدًا وَطَابَتْ أَنْفُسُ أَهْلِ بَغْدَادَ وَانْكَسَرَ شَرُّ
الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ نَشَأُوا وَكَثُرُوا وَأَظْهَرُوا
رُءُوسَهُمْ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ، وَنَهَبُوا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى، وَفَوَّضُوا
أَمْرَهُمْ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: حُرَيْثُ بْنُ مَسْعُودٍ - لَا أَسْعَدَهُ
اللَّهُ - وَدَعَوْا إِلَى الْمَهْدِيِّ الَّذِي ظَهَرَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ
وَبَنَى الْمَهْدِيَّةَ جَدِّ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ وَهُمْ أَدْعِيَاءُ
فِيمَا ذَكَرُوا لَهُمْ مِنَ النَّسَبِ، كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنْ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ فِي
مَوْضِعِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَالْمُقْتَدِرِ، وَسَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّ نَازُوكَ أَمِيرَ الشُّرْطَةِ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَارُونَ
بْنِ غَرِيبٍ - وَهُوَ ابْنُ خَالِ الْمُقْتَدِرِ - فَانْتَصَرَ هَارُونُ عَلَى
نَازُوكَ، وَشَاعَ بَيْنَ الْعَامَّةِ أَنَّ هَارُونَ سَيَصِيرُ أَمِيرَ
الْأُمَرَاءِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ وَهُوَ بِالرَّقَّةِ،
فَأَسْرَعَ الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ وَاجْتَمَعَ بِالْخَلِيفَةِ فَتَصَالَحَا،
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ نَقَلَ هَارُونَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَقَوِيَتِ
الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا، وَانْضَمَّ إِلَى مُؤْنِسٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ
وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، وَانْقَضَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَمْرُ
كَذَلِكَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ الْأُمُورِ وَاضْطِرَابِهَا، وَكَثْرَةِ
الْفِتَنِ
وَانْتِشَارِهَا.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ الدَّاعِي الْعَلَوِيِّ
صَاحِبِ الرَّيِّ عَلَى يَدِ صَاحِبِ الدَّيْلَمِ وَسُلْطَانِهِمْ مَرْدَاوِيجَ
الْمُجْرِمِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُنَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو الْحَسَنِ الزَّاهِدِ
وَيُعْرَفُ بِالْحَمَّالِ، رَوَى الْحَدِيثَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ،
وَكَانَ يُضْرَبُ بِزُهْدِهِ الْمَثَلُ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ،
وَمَنْزِلَةٌ كَبِيرَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَكَانَ لَا يَقْبَلُ مِنَ السُّلْطَانِ
شَيْئًا، وَقَدْ أَنْكَرَ يَوْمًا عَلَى ابْنِ طُولُونَ شَيْئًا مِنَ
الْمُنْكَرَاتِ، وَأَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُلْقِي بَيْنَ
يَدَيِ الْأَسَدِ، فَكَانَ الْأَسَدُ يَشُمُّهُ وَيُحْجِمُ عَنْهُ، فَرُفِعَ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ، وَعَظَّمَهُ النَّاسُ جِدًّا.
وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ: كَيْفَ كَانَ حَالُكَ وَأَنْتَ بَيْنَ يَدَيِ
الْأَسَدِ ؟ فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ بَأْسٌ، قَدْ كُنْتُ أُفَكِّرُ فِي
سُؤْرِ السِّبَاعِ، أَهْوَ طَاهِرٌ أَمْ نَجِسٌ ؟
قَالُوا: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي عَلَى رَجُلٍ مِائَةَ
دِينَارٍ، وَقَدْ ذَهَبَتِ
الْوَثِيقَةُ، وَأَنَا أَخْشَى أَنْ
يُنْكِرَ الرَّجُلُ، فَأَسْأَلُكَ الدُّعَاءَ. فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَجُلٌ قَدْ
كَبُرْتُ، وَأَنَا أُحِبُّ الْحَلْوَاءَ، فَاذْهَبْ فَاشْتَرِ لِي مِنْهَا
رَطْلًا، وَأْتِنِي بِهِ حَتَّى أَدْعُوَ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاشْتَرَى،
ثُمَّ جَاءَ فَفَتَحَ الْوَرَقَةَ الَّتِي فِيهَا الْحَلْوَاءَ، فَإِذَا هِيَ
حُجَّتُهُ بِالْمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: أَهَذِهِ حُجَّتُكَ ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: خُذْهَا وَخُذِ الْحَلْوَاءَ فَأَطْعِمْهَا صِبْيَانَكَ.
وَلَمَّا تُوُفِّيَ خَرَجَ أَهْلُ مِصْرَ فِي جِنَازَتِهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ
وَإِكْرَامًا لَهُ.
وَمُحَمَّدُ بْنُ خُرَيْمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلٍ الْبَلْخِيُّ. وَأَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ الْحَافِظُ ابْنُ الْحَافِظِ،
رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَأَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، صَاحِبُ " الصَّحِيحِ "
الْمُخَرَّجِ عَلَى " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَقَدْ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ
الْمُكْثِرِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ. وَنَصْرٌ الْحَاجِبُ
لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ، كَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ، دَيِّنًا
عَاقِلًا، أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ فِي حَرْبِ الْقَرَامِطَةِ مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ مُحْتَسِبًا، فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ خَلْعُ الْمُقْتَدِرِ وَتَوْلِيَةُ الْقَاهِرِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَخِي الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ.
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ مُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ وَالْخَلِيفَةِ، فَالْتَفَّ الْأُمَرَاءُ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ
وَتَفَاقَمَ الْحَالُ وَآلَ إِلَى أَنِ اجْتَمَعُوا عَلَى خَلْعِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ، فَبَايَعُوهُ
بِالْخِلَافَةِ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِهَا، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ،
وَذَلِكَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقُلِّدَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ وِزَارَتَهُ، وَنُهِبَتْ دَارُ
الْمُقْتَدِرِ، وَأَخَذُوا مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَوُجِدَ لِأُمِّ
الْمُقْتَدِرِ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ قَدْ دَفَنَتْهَا فِي قَبْرٍ
بِتُرْبَتِهَا، فَحُمِلَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَأُخْرِجَ الْمُقْتَدِرُ
وَأُمُّهُ وَخَالَتُهُ وَخَوَاصُّ جَوَارِيهِ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَذَلِكَ
بَعْدَ مُحَاصَرَةِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَهَرَبِ مَنْ كَانَ بِهَا مِنَ الْحَجَبَةِ
وَالْخَدَمِ مِنْهَا، وَوَلِيَ نَازُوكُ الْحُجُوبَةَ مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ
مِنَ الشُّرْطَةِ، وَأُلْزِمَ الْمُقْتَدِرَ بِأَنْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
كِتَابًا بِالْخَلْعِ مِنَ الْخِلَافَةِ، وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ
جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ إِلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، فَقَالَ لِوَلَدِهِ أَبِي الْحُسَيْنِ: احْتَفِظْ بِهَذَا
الْكِتَابِ، فَلَا يَرَيَنَّهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ. فَلَمَّا أُعِيدَ
الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ رَدَّهُ إِلَيْهِ، فَشَكَرَهُ
عَلَى ذَلِكَ جِدًّا وَوَلَّاهُ قَضَاءَ الْقُضَاةِ. وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ
الْأَحَدِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ جَلَسَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ فِي
مَنْصِبِ الْخِلَافَةِ، وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ
بْنُ مُقْلَةَ، وَكَتَبَ إِلَى
الْعُمَّالِ بِالْآفَاقِ يُخْبِرُهُمْ بِوِلَايَةِ الْقَاهِرِ بِالْخِلَافَةِ
عِوَضًا عَنِ الْمُقْتَدِرِ، وَأَطْلَقَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى مِنَ السِّجْنِ،
وَزَادَ فِي أَقْطَاعِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ قَامُوا بِنَصْرِهِ،
مِنْهُمْ أَبُو الْهَيْجَاءِ بْنُ حَمْدَانَ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ جَاءَ الْجُنْدُ فَطَلَبُوا أَرْزَاقَهُمْ
وَشَغَبُوا، وَسَارَعُوا إِلَى نَازُوكَ فَقَتَلُوهُ - وَكَانَ مَخْمُورًا - ثُمَّ
صَلَبُوهُ، وَهَرَبَ الْوَزِيرُ ابْنُ مُقْلَةَ وَالْحَجَبَةُ، وَنَادَوْا: يَا
مُقْتَدِرُ يَا مَنْصُورُ. وَلَمْ يَكُنْ مُؤْنِسٌ يَوْمَئِذٍ حَاضِرًا، وَجَاءَتِ
الْجُنُودُ إِلَى بَابِهِ يُطَالِبُونَهُ بِالْمُقْتَدِرِ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ،
وَحَاجَفَ دُونَهُ خَدَمُهُ، فَلَمَّا رَأَى مُؤْنِسٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
تَسْلِيمِ الْمُقْتَدِرِ إِلَيْهِمْ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ، فَخَافَ أَنْ يَكُونَ
حِيلَةً عَلَيْهِ، ثُمَّ تَجَاسَرَ فَخَرَجَ، فَحَمَلَهُ الرِّجَالُ عَلَى
أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَسَأَلَ عَنْ أَخِيهِ
الْقَاهِرِ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ لِيَكْتُبَ لَهُمَا أَمَانًا،
فَمَا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ حَتَّى جَاءَهُ خَادِمٌ وَمَعَهُ رَأْسُ أَبِي
الْهَيْجَاءِ قَدِ احْتَزَّهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، وَجَاءَ
الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ فَجَلَسَ فِي الدَّسْتِ، وَاسْتَدْعَى بِالْقَاهِرِ
فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَدْنَاهُ إِلَيْهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا أَخِي، أَنْتَ لَا ذَنْبَ لَكَ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ
قُهِرْتَ. وَالْقَاهِرُ يَقُولُ: اللَّهَ اللَّهَ، نَفْسِي نَفْسِي يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا جَرَى عَلَيْكَ مِنِّي سُوءٌ أَبَدًا. وَعَادَ ابْنُ مُقْلَةَ،
فَكَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ يُعْلِمُهُمْ بِعَوْدِ الْمُقْتَدِرِ، وَتَرَاجَعَتِ
الْأُمُورُ إِلَى حَالِهَا الْأَوَّلِ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَقَرَّ الْمُقْتَدِرُ
فِي الْخِلَافَةِ كَمَا كَانَ، وَحُمِلَ رَأْسُ نَازُوكَ وَأَبِي الْهَيْجَاءِ
بْنِ حَمْدَانَ، فَنُودِيَ عَلَيْهِمَا: هَذَا جَزَاءُ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ.
وَهَرَبَ أَبُو السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ إِلَى الْمَوْصِلِ وَكَانَ ابْنُ نَفِيسٍ
مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى الْمُقْتَدِرِ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْخِلَافَةِ
خَرَجَ
مِنْ بَغْدَادَ مُتَنَكِّرًا، فَدَخَلَ
الْمَوْصِلَ ثُمَّ صَارَ إِلَى أَرْمِينِيَةَ ثُمَّ لَحِقَ بِمَدِينَةِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَتَنَصَّرَ مَعَ أَهْلِهَا، لَعَنَهُ اللَّهُ
وَإِيَّاهُمْ. وَأَمَّا مُؤْنِسٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَاطِنِ عَلَى
الْمُقْتَدِرِ وَإِنَّمَا وَافَقَ جَمَاعَةَ الْأُمَرَاءِ مُكْرَهًا، وَلِهَذَا
لَمَّا أُودِعَ الْمُقْتَدِرُ فِي دَارِهِ لَمْ يَنَلْهُ مِنْهُ سُوءٌ، بَلْ كَانَ
يُطَيِّبُ قَلْبَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَقَتَلَهُ لَمَّا طُلِبَ مِنْ دَارِهِ،
فَلِهَذَا لَمَّا عَادَ إِلَى الْخِلَافَةِ رَجَعَ إِلَى دَارِ مُؤْنِسٍ، فَبَاتَ
بِهَا عِنْدَهُ لِثِقَتِهِ بِهِ. وَقَرَّرَ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ عَلَى
الْوِزَارَةِ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ يُوسُفَ أَبَا عُمَرَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ،
وَجَعَلَ مُحَمَّدًا أَخَاهُ - وَهُوَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ - عِنْدَ وَالِدَتِهِ
بِصِفَةِ مُحْتَبَسٍ عِنْدَهَا، فَكَانَتْ تُحْسِنُ إِلَيْهِ غَايَةَ
الْإِحْسَانِ، وَتَشْتَرِي لَهُ السَّرَارِي وَتُكْرِمُهُ غَايَةَ الْإِكْرَامِ.
ذِكْرُ أَخْذِ الْقَرَامِطَةِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَمَا
كَانَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَجِيجِ، لَعَنَ اللَّهُ الْقَرَامِطَةَ
فِيهَا خَرَجَ رَكْبُ الْعِرَاقِ وَأَمِيرُهُمْ مَنْصُورٌ الدَّيْلَمِيُّ،
فَوَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ سَالِمِينَ، وَتَوَافَتِ الرُّكُوبُ هُنَاكَ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِالْقِرْمِطِيِّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي
جَمَاعَتِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَاسْتَبَاحَ
قِتَالَهُمْ، فَقَتَلَ النَّاسَ فِي رِحَابِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا حَتَّى فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَجَلَسَ أَمِيرُهُمْ أَبُو
طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ -
عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَالرِّجَالُ تُصْرَعُ حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، الَّذِي
هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ
يَقُولُ:
أَنَا بِاللَّهِ وَبِاللَّهِ أَنَا يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا
فَكَانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَا
يُجْدِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ يُقْتَلُونَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَطُوفُونَ
فَيُقْتَلُونَ فِي الطَّوَافِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَوْمَئِذٍ
يَطُوفُ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ أَخَذَتْهُ السُّيُوفُ، فَلَمَّا وَجَبَ،
أَنْشَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ:
تَرَى الْمُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ كَفِتْيَةِ الْكَهْفِ لَا يَدْرُونَ
كَمْ لَبِثُوا
ثُمَّ أَمَرَ الْقِرْمِطِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى
بِبِئْرِ زَمْزَمَ، وَدَفَنَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ وَحَتَّى فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ - وَيَا حَبَّذَا تِلْكَ الْقِتْلَةُ وَتِلْكَ الضِّجْعَةُ
- وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُكَفَّنُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ;
لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ مِنْ خِيَارِ الشُّهَدَاءِ،
وَهَدَمَ قُبَّةَ زَمْزَمَ، وَأَمَرَ بِقَلْعِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَنَزَعَ
كُسْوَتَهَا عَنْهَا، وَشَقَّقَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ
يَصْعَدَ إِلَى مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْتَلِعَهُ، فَسَقَطَ
عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَمَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَصَارَ إِلَى أُمِّهِ
الْهَاوِيَةِ، فَانْكَفَّ اللَّعِينُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمِيزَابِ، ثُمَّ
أَمَرَ بِأَنْ يُقْلَعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ
الْحَجَرَ بِمُثْقَلٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ ؟
أَيْنَ الْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ ؟
ثُمَّ قَلَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ - شَرَّفَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ
- وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ حِينَ رَاحُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ
ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى رَدُّوهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي
مَوْضِعِهِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ إِلَى بِلَادِهِ، تَبِعَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ هُوَ
وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَجُنْدُهُ وَسَأَلَهُ وَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَرُدَّ
الْحَجَرَ لِيُوضَعَ فِي مَكَانِهِ، وَبَذَلَ لَهُ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَفْعَلْ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فَقَاتَلَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ
فَقَتَلَهُ الْقِرْمِطِيُّ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ أَهْلِهِ وَجُنْدِهِ، وَاسْتَمَرَّ
ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَأَمْوَالُ الْحَجِيجِ.
وَقَدْ أَلْحَدَ هَذَا اللَّعِينُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلْحَادًا لَمْ
يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ
الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَوْثِقُ وِثَاقَهُ أَحَدٌ،
وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ ; أَنَّهُمْ كَانُوا
كُفَّارًا زَنَادِقَةً، وَقَدْ كَانُوا مُمَالِئِينِ لِلْفَاطِمِيِّينَ الَّذِينَ
نَبَغُوا فِي هَذِهِ السِّنِينَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ مِنْ أَرْضِ
الْمَغْرِبِ، وَيُلَقَّبُ أَمِيرُهُمْ بِالْمَهْدِيِّ، وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبِيدُ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ، وَقَدْ كَانَ صَبَّاغًا بِسَلَمْيَةَ
يَهُودِيًّا، فَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ، فَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيفٌ فَاطِمِيٌّ، فَصَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ
طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْبَرْبَرِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْجَهَلَةِ، وَصَارَتْ
لَهُ دَوْلَةٌ فَمَلَكَ مَدِينَةَ سِجِلْمَاسَةَ ثُمَّ ابْتَنَى مَدِينَةً
وَسَمَّاهَا الْمَهْدِيَّةَ وَكَانَ قَرَارُ مُلْكِهِ بِهَا، وَكَانَ هَؤُلَاءِ
الْقَرَامِطَةُ يُرَاسِلُونَهُ وَيَدْعُونَ إِلَيْهِ وَيَتَرَامَوْنَ عَلَيْهِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ: إِنَّمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ سِيَاسَةً وَدَوْلَةً
لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ
الْمَهْدِيَّ هَذَا كَتَبَ إِلَى أَبِي طَاهِرٍ الْقِرْمِطِيِّ يَلُومُهُ عَلَى
فِعْلِهِ بِمَكَّةَ، حَيْثُ سَلَّطَ النَّاسَ عَلَى الْكَلَامِ فِي عِرْضِهِمْ،
وَانْكَشَفَتْ أَسْرَارُهُمُ الَّتِي كَانُوا يُبْطِنُونَهَا بِمَا ظَهَرَ مِنْ
صَنِيعِهِمْ هَذَا الْقَبِيحَ، وَأَمَرَهُ بِرَدِّ مَا أَخَذَهُ مِنْهَا،
وَعَوْدِهِ إِلَيْهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَأَنَّهُ
قَدْ قَبِلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ أُسِرَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي أَيْدِي الْقَرَامِطَةِ، فَمَكَثَ فِي
أَيْدِيهِمْ مُدَّةً، ثُمَّ فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَحْكِي أَنَّ الَّذِي
أَسَرَهُ كَانَ يَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْخِدْمَةِ وَأَشَدِّهَا، وَكَانَ
يُعَرْبِدُ عَلَيْهِ إِذَا سَكِرَ، فَقَالَ لِي ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ سَكْرَانُ:
مَا تَقَولُ فِي مُحَمَّدِكُمْ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: كَانَ رَجُلًا
سَائِسًا. ثُمَّ قَالَ: مَا تَقَولُ فِي أَبِي بَكْرٍ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي،
فَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا مَهِينًا، وَكَانَ عُمَرُ فَظًّا غَلِيظًا، وَكَانَ
عُثْمَانُ جَاهِلًا أَحْمَقَ، وَكَانَ عَلِيٌّ مُمَخْرَقًا، أَلَيْسَ كَانَ
عِنْدَهُ أَحَدٌ يُعَلِّمُهُ مَا ادَّعَى أَنَّهُ فِي صَدْرِهِ مِنَ الْعِلْمِ ؟
أَمَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَلِّمَ هَذَا كَلِمَةً وَهَذَا كَلِمَةً ؟ ثُمَّ
قَالَ: هَذَا كُلُّهُ مَخْرَقَةٌ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ لِي: لَا
تُخْبِرْ بِهَذَا الَّذِي قُلْتُهُ لَكَ أَحَدًا. رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
" مُنْتَظَمِهِ ".
وَرَوَى عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يَوْمَ
اقْتُلِعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ وَهُوَ سَكْرَانُ، رَاكِبٌ
عَلَى فَرَسِهِ، فَصَفَّرَ لَهَا حَتَّى بَالَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي
مَكَانِ الطَّوَافِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَ إِلَى جَانِبِي فَقَتَلَهُ
ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا
حَمِيرُ، أَلَيْسَ قُلْتُمْ فِي بَيْتِكُمْ هَذَا وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [
آلُ عِمْرَانَ: 97 ] فَأَيْنَ الْأَمْنُ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَتَسْمَعُ
جَوَابًا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ: فَأَمِّنُوهُ.
قَالَ: فَثَنَى رَأْسَ فَرَسِهِ وَانْصَرَفَ.
وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُهُمْ هَاهُنَا سُؤَالًا فَقَالَ: قَدْ أَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ - وَكَانُوا نَصَارَى، وَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْهُمْ -
مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ يَقُولُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ
رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ شَرٌّ مِنَ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ، بَلْ وَمِنْ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ،
فَهَلَّا عُوجِلُوا بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا عُوجِلَ أَصْحَابُ الْفِيلِ ؟ وَقَدْ
أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ: بِأَنَّ أَصْحَابَ الْفِيلِ إِنَّمَا عُوقِبُوا إِظْهَارًا
لِشَرَفِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَلِمَا يُرَادُ بِهِ مِنَ التَّشْرِيفِ
وَالتَّعْظِيمِ بِإِرْسَالِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي كَانَ هَذَا الْبَيْتُ فِيهِ ; لِيُعْلَمَ
شَرَفُ هَذَا الرَّسُولِ الْكَرِيمِ الَّذِي هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ،
فَلَمَّا أَرَادَ هَؤُلَاءِ إِهَانَةَ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الَّتِي يُرَادُ
تَشْرِيفُهَا عَمَّا قَرِيبٍ، أَهْلَكَهُمْ سَرِيعًا عَاجِلًا، غَيْرَ آجِلٍ،
كَمَا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا
كَانَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الشَّرَائِعِ وَتَمْهِيدِ الْقَوَاعِدِ، وَالْعِلْمِ
بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ اللَّهِ بِشَرَفِ مَكَّةَ وَالْكَعْبَةِ، وَكُلُّ
مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَكْبَرِ الْمُلْحِدِينَ الْكَافِرِينَ ;
بِمَا تَبَيَّنَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجِ الْحَالُ إِلَى مُعَاجَلَتِهِمْ
بِالْعُقُوبَةِ، بَلْ أَخَّرَهُمُ الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ
الْأَبْصَارُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُمْهِلُ وَيُمْلِي
وَيَسْتَدْرِجُ، ثُمَّ يَأْخُذُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لِيُمْلِيَ لِلظَّالِمِ
حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٌ:
102 ]
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَحَدَ أَصْبَرُ
عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ; إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ
يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ
غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الْأَبْصَارُ [ إِبْرَاهِيمُ: 42 ] وَقَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ
تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [ آلِ عِمْرَانَ: 196، 197 ] وَقَالَ تَعَالَى:
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [ لُقْمَانَ:
24 ] وَقَالَ: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ
نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [ يُونُسَ: 70 ].
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَصْحَابِ أَبِي بَكْرٍ
الْمَرْوَزِيِّ الْحَنْبَلِيِّ وَبَيْنَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَامَّةِ، اخْتَلَفُوا
فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا [ الْإِسْرَاءِ: 79 ] فَقَالَتِ الْحَنَابِلَةُ: يُجْلِسُهُ مَعَهُ
عَلَى الْعَرْشِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الشَّفَاعَةُ
الْعُظْمَى، فَاقْتَتَلُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمْ
قَتْلَى، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ " أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى،
يُشَفَّعُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ يَأْتِيَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ
بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْمَقَامُ الَّذِي يَرْغَبُ إِلَيْهِ فِيهِ الْخَلْقُ
كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَيَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخَرُونَ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْمَوْصِلِ بَيْنَ الْعَامَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ
بِأَمْرِ الْمَعَاشِ، وَانْتَشَرَتْ، وَكَثُرَ أَهْلُ الشَّرِّ فِيهَا
وَاسْتَظْهَرُوا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ شُرُورٌ، ثُمَّ سَكَنَتْ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِبِلَادِ خُرَاسَانَ بَيْنَ بَنِي سَامَانَ وَأَمِيرِهِمْ
نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُلَقَّبِ بِالسَّعِيدِ.
وَخَرَجَ فِي شَعْبَانَ خَارِجِيٌّ بِالْمَوْصِلِ، وَخَرَجَ آخَرُ
بِالْبَوَازِيجِ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حَتَّى سَكَنَ
شَرُّهُمْ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُمْ.
وَفِيهَا الْتَقَى مُفْلِحٌ السَّاجِيُّ وَمَلِكُ الرُّومِ الدُّمُسْتُقُ،
فَهَزَمَهُ مُفْلِحٌ وَطَرَدَ وَرَاءَهُ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ بِبَغْدَادَ، تَحْمِلُ رَمْلًا أَحْمَرَ
يُشْبِهُ رَمْلَ أَرْضِ الْحِجَازِ، فَامْتَلَأَتْ مِنْهُ الْبُيُوتُ.
التالي ج27.و28. بمشيئة الله الواحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق