ج21.وج22.البداية والنهاية لابن كثير الحافظ
21. البداية والنهاية لابن كثير الحافظ عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنَى
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ - جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَفِتَنٌ مُنْتَشِرَةٌ بِبِلَادِ
الْمَشْرِقِ
وَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
خَازِمٍ. وَقَهَرَ عُمَّالَهَا وَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ
يَزِيدَ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ، قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مُلْكُ ابْنِ الزُّبَيْرِ
عَلَى تِلْكَ النَّوَاحِي، وَجَرَتْ بَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ هَذَا
وَبَيْنَ عَمْرِو بْنِ مَرْثَدٍ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَتَفْصِيلُهَا،
اكْتَفَيْنَا بِذِكْرِهَا إِجْمَالًا ; إِذْ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْصِيلِهَا
كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَهِيَ حُرُوبُ فِتْنَةٍ وَقِتَالُ بُغَاةٍ بَعْضِهِمْ فِي
بَعْضٍ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
يَزِيدَ - بَايَعَ أَهْلُ خُرَاسَانَ سَلْمَ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَبِيهِ،
وَأَحَبُّوهُ حَتَّى إِنَّهُمْ سَمَّوْا بِاسْمِهِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ أَكْثَرَ
مِنْ أَلْفِ غُلَامٍ مَوْلُودٍ، ثُمَّ نَكَثُوا وَاخْتَلَفُوا، فَخَرَجَ عَنْهُمْ
سَلْمٌ، وَتَرَكَ عَلَيْهِمُ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ.
وَفِيهَا اجْتَمَعَ مَلَأُ الشِّيعَةِ
عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ بِالْكُوفَةِ، وَتَوَاعَدُوا النَّخِيلَةَ ;
لِيَأْخُذُوا بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا
زَالُوا فِي ذَلِكَ مُجِدِّينَ، وَعَلَيْهِ عَازِمِينَ، مِنْ بَعْدِ مَقْتَلِ
الْحُسَيْنِ بِكَرْبَلَاءَ فِي الْعَاشِرِ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ إِحْدَى
وَسِتِّينَ، وَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنْ بَعْثِهِمْ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا حَصَلَ بِبِلَادِهِمْ خَذَلُوهُ وَتَخَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يَنْصُرُوهُ.
فَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
فَاجْتَمَعُوا فِي دَارِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ،
وَكَانَ رُءُوسُ الْقَائِمِينَ فِي ذَلِكَ خَمْسَةً ; سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ
الصَّحَابِيَّ، وَالْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ الْفَزَارِيَّ أَحَدَ كِبَارِ
أَصْحَابِ عَلِيٍّ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ الْأَزْدِيَّ،
وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَالٍ التَّيْمِيَّ، وَرِفَاعَةَ بْنَ شَدَّادٍ
الْبَجَلِيَّ، وَكُلُّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ خُطَبٍ وَمَوَاعِظَ عَلَى تَأْمِيرِ سُلَيْمَانَ
بْنِ صُرَدٍ عَلَيْهِمْ، فَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدْوا، وَتَوَاعَدُوا
النُّخَيْلَةَ ; أَنْ يَجْتَمِعَ مَنْ يَسْتَجِيبُ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ بِهَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ جَمَعُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ وَأَسْلِحَتِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا وَأَعَدُّوهُ لِذَلِكَ.
وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَى سَعْدِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَجَابَ لَهُ، وَدَعَا إِلَيْهِ سَعْدٌ مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ فَبَادَرُوا إِلَيْهِ بِالِاسْتِجَابَةِ وَالْقَبُولِ، وَتَمَالَئُوا عَلَيْهِ وَتَوَاعَدُوا النُّخَيْلَةَ فِي التَّارِيخِ الْمَذْكُورِ. وَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ، فَفَرِحَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْمَدَائِنِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَتَنَشَّطُوا لِأَمْرِهِمُ الَّذِي تَمَالَئُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، طَمِعُوا فِي الْأَمْرِ، وَاعْتَقَدْوا أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ ضَعُفُوا، وَلَمْ يَبْقَ مَنْ يُقِيمُ لَهُمْ أَمْرًا، فَغَدَوْا إِلَى سُلَيْمَانَ، وَاسْتَشَارُوهُ فِي الظُّهُورِ وَأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى النُّخَيْلَةِ قَبْلَ الْأَجَلِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَجَلُ الَّذِي وَاعَدُوا إِخْوَانَهُمْ فِيهِ. ثُمَّ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُعِدُّونَ السِّلَاحَ وَالْقُوَّةَ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِمْ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ عَمَدَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ نَائِبِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى الْكُوفَةِ، فَأَخْرَجُوهُ مِنَ الْقَصْرِ، وَاصْطَلَحُوا عَلَى عَامِرِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْمُلَقَّبُ دُحْرُوجَةَ، فَبَايَعَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَهُوَ يَسُدُّ الْأُمُورَ حَتَّى تَأْتِيَ نُوَّابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ - قَدِمَ أَمِيرَانِ إِلَى الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ; أَحَدُهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ عَلَى الْحَرْبِ وَالثَّغْرِ، وَالْآخَرُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ عَلَى الْخَرَاجِ، وَقَدْ كَانَ قَدْمُ قَبْلَهُمَا إِلَى
الْكُوفَةِ بِجُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ لِلنِّصْفِ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ - وَهُوَ الْمُخْتَارُ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ - فَوَجَدَ الشِّيعَةَ قَدِ الْتَفَتَ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ، وَعَظَّمُوهُ تَعْظِيمًا زَائِدًا، وَهُمْ مُعِدُّونَ لِلْحَرْبِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُمْ، دَعَا فِي الْبَاطِنِ إِلَى إِمَامَةِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَقَّبَهُ الْمَهْدِيَّ، فَاتَّبَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَفَارَقُوا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَصَارَتِ الشِّيعَةُ فِرْقَتَيْنِ ; الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ مَعَ سُلَيْمَانَ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَى النَّاسِ لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَفِرْقَةُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى إِمَامَةِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَذَلِكَ عَنْ غَيْرِ أَمْرِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِضَاهُ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّلُونَ عَلَيْهِ لِيُرَوِّجُوا عَلَى النَّاسِ بِهِ، وَلِيَتَوَصَّلُوا إِلَى أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَجَاءَتِ الْعَيْنُ الصَّافِيَةُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ نَائِبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَا تَمَالَأَ عَلَيْهِ فِرْقَتَا الشِّيعَةِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا ; مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى النَّاسِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى مَا يُرِيدُونَ، وَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُبَادِرَ إِلَيْهِمْ، وَيَحْتَاطَ عَلَيْهِمْ، وَيَبْعَثَ الشَّرَطَ وَالْمُقَاتِلَةَ فَيَقْمَعُهُمْ عَمَّا هُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ إِرَادَةِ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ، فَقَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ، وَذَكَرَ فِي خُطْبَتِهِ مَا بَلَغَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرِيدُ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَلَقَدْ عَلِمُوا أَنِّي لَسْتُ مِمَّنْ قَتَلَهُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَمِمَّنْ أُصِيبَ بِقَتْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ قَاتِلَهُ، وَإِنِّي لَا أَتَعَرَّضُ لِأَحَدٍ قَبْلَ أَنْ يَبْدَأَنِي بِالشَّرِّ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، فَلْيَعْمِدُوا إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ،. فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحُسَيْنَ وَخِيَارَ أَهْلِهِ ; فَلْيَأْخُذُوا مِنْهُ بِالثَّأْرِ ; وَلَا يَخْرُجُوا بِسُيُوفِهِمْ عَلَى أَهْلِ بَلَدِهِمْ، فَيَكُونُ فِيهِ حَتْفُهُمْ وَاسْتِئْصَالُهُمْ. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ الْأَمِيرُ الْآخَرُ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، لَا يَغُرَّنَّكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ كَلَامُ هَذَا الْمُدَاهِنِ، إِنَّا وَاللَّهِ قَدِ اسْتَيْقَنَّا أَنَّ قَوْمًا يُرِيدُونَ الْخُرُوجَ عَلَيْنَا،
وَلَنَأْخُذَنَّ الْوَالِدَ
بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدَ بِالْوَالِدِ، وَالْحَمِيمَ بِالْحَمِيمِ، وَالْعَرِيفَ
بِمَا فِي عِرَافَتِهِ، حَتَّى يَدِينُوا بِالْحَقِّ وَيَذِلُّوا لِلطَّاعَةِ.
فَوَثَبَ إِلَيْهِ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ فَقَطَعَ عَلَيْهِ
كَلَامَهُ، فَقَالَ: يَابْنَ النَّاكِثِينَ أَتُهَدِّدُنَا بِسَيْفِكَ وَغَشْمِكَ
؟ ! أَنْتَ وَاللَّهِ أَذَلُّ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّا لَا نَلُومُكَ عَلَى بُغْضِنَا
وَقَدْ قَتَلْنَا أَبَاكَ وَجَدَّكَ، وَإِنَّا لَنَرْجُوَ أَنَّ نُلْحِقَكَ
بِهِمَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ هَذَا الْقَصْرِ. وَسَاعَدَ الْمُسَيَّبَ بْنَ
نَجَبَةَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ، وَرَدَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
طَلْحَةَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُمَّالِ، وَجَرَتْ فِتْنَةٌ وَشَرٌّ كَثِيرٌ فِي
الْمَسْجِدِ، فَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ عَنِ
الْمِنْبَرِ، وَحَاوَلُوا أَنْ يُوقِعُوا بَيْنَ الْأَمِيرَيْنِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ
لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ ظَهَرَتِ الشِّيعَةُ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ
بِالسِّلَاحِ، وَأَظْهَرُوا مَا كَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى
النَّاسِ، وَرَكِبُوا مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ فَقَصَدُوا نَحْوَ
الْجَزِيرَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَأَمَّا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ فَإِنَّهُ
قَدْ كَانَ بَغِيضًا إِلَى الشِّيعَةِ مِنْ يَوْمِ طُعِنَ الْحَسَنُ، وَهُوَ
ذَاهِبٌ إِلَى الشَّامِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَلَجَأَ إِلَى الْمَدَائِنِ،
فَأَشَارَ الْمُخْتَارُ عَلَى عَمِّهِ، وَهُوَ نَائِبُ الْمَدَائِنِ بِأَنْ
يَقْبِضَ عَلَى الْحَسَنِ وَيَبْعَثَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَيَتَّخِذُ بِذَلِكَ
عِنْدَهُ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ، فَامْتَنَعَ عَمُّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَبْغَضَتْهُ
الشِّيعَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ
مَا كَانَ، وَقَتَلَهُ ابْنُ زِيَادٍ، كَانَ الْمُخْتَارُ يَوْمَئِذٍ
بِالْكُوفَةِ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ أَنَّهُ يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ بِنَصْرَةِ
مُسْلِمٍ، وَلَآخُذُنَّ بِثَأْرِهِ.
فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَضَرَبَ عَيْنَهُ بِقَضِيبٍ كَانَ بِيَدِهِ فَشَتَرَهَا، وَأَمَرَ بِسِجْنِهِ، فَلَمَّا بَلَغَ أُخْتَهُ سَجْنُهُ بَكَتْ وَجَزِعَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ عِنْدَهُ فِي إِخْرَاجِ الْمُخْتَارِ مِنَ السِّجْنِ، فَبَعَثَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنَّ سَاعَةَ وُقُوفِكَ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ تُخْرِجُ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ مِنَ السِّجْنِ، فَلَمْ يُمْكِنِ ابْنَ زِيَادٍ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَهُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ وَجَدْتُكَ بِالْكُوفَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْحِجَازِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَقْطَعَنَّ أَنَامِلَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ وَلَأَقْتُلَنَّ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَدَدَ مَنْ قُتِلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا. فَلَمَّا اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ بَايَعَهُ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ عِنْدَهُ، وَلَمَّا حَاصَرَهُ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ قَاتَلَ الْمُخْتَارُ دُونَهُ أَشَدَّ الْقِتَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَاضْطِرَابُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، نَقَمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَخَرَجَ مِنَ الْحِجَازِ، فَقَصَدَ الْكُوفَةَ فَدَخَلَهَا فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَالنَّاسُ يَتَهَيَّئُونَ لِلصَّلَاةِ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ بِمَلَأٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا سَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرُوا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِالْأَعْدَاءِ. وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى إِلَى سَارِيَةٍ هُنَالِكَ، حَتَّى أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ صَلَّى مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ وَعَظَّمُوهُ، وَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى إِمَامِهِ الْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَيُظْهِرُ الِانْتِصَارَ لِأَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يُقِيمَ شِعَارَهُمْ، وَيُظْهِرَ مَنَارَهُمْ، وَيَسْتَوْفِيَ ثَأْرَهُمْ، وَيَقُولَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ قَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ مِنَ الشِّيعَةِ، وَقَدْ خَشِيَ أَنْ يُبَادِرُوا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَ سُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ يُخَذِّلُهُمْ وَيَسْتَمِيلُهُمْ إِلَيْهِ، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنِّي
قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ قِبَلِ وَلِيِّ
الْأَمْرِ، وَمَعْدِنِ الْفَضْلِ، وَوَصِيِّ الْوَصِيِّ، وَالْإِمَامِ
الْمَهْدِيِّ، بِأَمْرٍ فِيهِ الشِّفَاءُ، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ، وَقَتْلُ
الْأَعْدَاءِ، وَتَمَامُ النَّعْمَاءِ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ
يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ، إِنَّمَا هُوَ عَشَمَةٌ مِنَ الْعَشَمِ، وَشَنٌّ
بَالٍ، لَيْسَ بِذِي تَجْرِبَةٍ لِلْأُمُورِ، وَلَا لَهُ عِلْمٌ بِالْحُرُوبِ،
إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ فَيَقْتُلَ نَفْسَهُ وَيَقْتُلَكُمْ، وَإِنِّي
إِنَّمَا أَعْمَلُ عَلَى مَثَلٍ قَدْ مُثِّلَ لِي، وَأَمَرٍ قَدْ بُيِّنَ لِي،
فِيهِ عِزُّ وَلِيِّكُمْ، وَقَتْلُ عَدُوِّكُمْ، وَشِفَاءُ صُدُورِكُمْ،
فَاسْمَعُوا مِنِّي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ثُمَّ أَبْشِرُوا وَتَبَاشَرُوا،
فَإِنِّي لَكُمْ بِكُلِّ مَا تَأْمَلُونَ وَتُحِبُّونَ كَفِيلٌ. فَالْتَفَّ
عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الشِّيعَةِ، وَلَكِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْهُمْ مَعَ
سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، فَلَمَّا خَرَجُوا مَعَ سُلَيْمَانَ إِلَى النُّخَيْلَةِ
قَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ
وَغَيْرِهِمَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ نَائِبِ الْكُوفَةِ: إِنَّ
الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ أَشَدُّ عَلَيْكَمْ مِنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
صُرَدٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ الشُّرَطَ فَأَحَاطُوا بِدَارِهِ، فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ
بِهِ إِلَى السِّجْنِ مُقَيَّدًا. وَقِيلَ: بِغَيْرِ قَيْدٍ. فَأَقَامَ بِهِ
مُدَّةً وَمَرِضَ فِيهِ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي عِيسَى أَنَّهُ قَالَ:
دَخَلْتُ إِلَيْهِ مَعَ حُمَيْدِ بْنِ مُسْلِمٍ الْأَزْدِيِّ نَعُودُهُ
وَنَتَعَاهَدُهُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَمَا وَرَبِّ الْبِحَارِ، وَالنَّخِيلِ
وَالْأَشْجَارِ، وَالْمَهَامِهِ وَالْقِفَارِ، وَالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ،
وَالْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ،
لَأَقْتُلَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ، بِكُلِّ لَدْنٍ خَطَّارٍ، وَمُهَنَّدٍ بَتَّارٍ، وَجُمُوعٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، لَيْسُوا بِمِيلٍ أَغْمَارٍ، وَلَا بِعُزَّلٍ أَشْرَارٍ، حَتَّى إِذَا أَقَمْتُ عَمُودَ الدِّينِ، وَجَبَرْتُ صَدْعَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَفَيْتُ غَلِيلَ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَدْرَكْتُ ثَأْرَ أَوْلَادِ النَّبِيِّينَ، لَمْ أَبْكِ عَلَى زَوَالِ الدُّنْيَا، وَلَمْ أَحْفِلْ بِالْمَوْتِ إِذَا دَنَا. قَالَ: وَكَانَ كُلَّمَا أَتَيْنَاهُ وَهُوَ فِي السِّجْنِ يُرَدِّدُ عَلَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ حَتَّى خَرَجَ.
ذِكْرُ هَدْمِ الْكَعْبَةِ
وَبِنَائِهَا فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَدَمَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَالَ جِدَارُهَا مِمَّا رُمِيَتْ
بِهِ مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، فَهَدَمَ الْجُدْرَانَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى
أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيُصَلُّونَ مِنْ وَرَاءِ
ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي تَابُوتٍ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ،
وَادَّخَرَ مَا كَانَ فِي الْكَعْبَةِ مِنْ حُلِيٍّ وَثِيَابٍ وَطِيبٍ عِنْدَ
الْخَزَّانِ، حَتَّى أَعَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِنَاءَهَا عَلَى مَا كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَهَا
عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا أَرَادَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَدْمَ الْبَيْتِ
شَاوَرَ النَّاسَ فِي هَدْمِهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ بِذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْشَى أَنْ
يَأْتِيَ بَعْدَكَ مَنْ يَهْدِمُهَا، فَلَا تَزَالُ تُهْدَمُ حَتَّى يَتَهَاوَنَ
النَّاسُ بِحُرْمَتِهَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا،
وَتَدَعَ بَيْتًا أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَأَحْجَارًا بُعِثَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ:
لَوِ احْتَرَقَ بَيْتُ أَحَدِكُمْ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجَدِّدَهُ، فَكَيْفَ
بِبَيْتِ رَبِّكُمْ ؟ ! ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ اسْتَخَارَ اللَّهَ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ غَدَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَبَدَأَ يَنْقُضُ
الرُّكْنَ إِلَى الْأَسَاسِ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى الْأَسَاسِ
وَجَدُوا أَصْلًا بِالْحَجَرِ
مُشَبَّكًا كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ، فَدَعَا ابْنُ الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَنَى الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ الْحَجَرَ فِيهِ،
وَجَعَلَ لِلْكَعْبةِ بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ بِالْأَرْضِ ; بَابٌ يُدْخَلُ
مِنْهُ وَبَابٌ يُخْرَجُ مِنْهُ، وَوَضَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِيَدِهِ،
وَشَدَّهُ بِفِضَّةٍ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَصَدَّعَ، وَجَعَلَ طُولَ
الْكَعْبَةِ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَكَانَ طُولُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ
ذِرَاعًا فَاسْتَقْصَرَهُ، وَزَادَ فِي وُسْعِ الْكَعْبَةِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ،
وَلَطَّخَ جُدْرَانَهَا بِالْمِسْكِ، وَسَتَرَهَا بِالدِّيبَاجِ، ثُمَّ اعْتَمَرَ
مِنْ مَسَاجِدِ عَائِشَةَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى وَسَعَى، وَأَزَالَ مَا
كَانَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَفِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالزُّبَالَةِ،
وَمَا كَانَ حَوْلَهَا مِنَ الدِّمَاءِ، وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قَدْ وَهَتْ مِنْ
أَعْلَاهَا إِلَى أَسْفَلِهَا مِنْ حِجَارَةِ الْمَنْجَنِيقِ، وَاسْوَدَّ
الرُّكْنُ، وَانْصَدَعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ النَّارِ الَّتِي كَانَتْ
حَوْلَ الْكَعْبَةِ.
وَكَانَ سَبَبُ تَجْدِيدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ لَهَا مَا ثَبَتَ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ، مِنْ
طُرُقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِكُفْرٍ
لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ وَلَأَدْخَلْتُ فِيهَا الْحَجَرَ، فَإِنَّ قَوْمَكِ
قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، وَلَجَعَلْتُ
لَهَا بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْ أَحَدِهِمَا
وَيَخْرُجُونَ مِنَ الْآخَرِ، وَلَأَلْصَقْتُ بَابَهَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ
قَوْمَكِ رَفَعُوا بَابَهَا لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا
". فَبَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ
خَالَتُهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا. ثُمَّ لَمَّا غَلَبَهُ
الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي،
وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ هَدَمَ الْحَائِطَ الشَّمَالِيَّ وَأَخْرَجَ الْحَجَرَ
كَمَا كَانَ أَوَّلًا، وَأَدْخَلَ الْحِجَارَةَ الَّتِي هَدَمَهَا إِلَى جَوْفِ
الْكَعْبَةِ فَرَضَّهَا فِيهَا، فَارْتَفَعَ الْبَابُ، وَسَدَّ الْغَرْبِيَّ، وَتِلْكَ
آثَارُهُ إِلَى الْآنَ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَهُ
فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ
بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَّا تَرَكْنَاهُ وَمَا تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ هَمَّ الْمَهْدِيُّ بْنُ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيُّ أَنْ يُعِيدَهَا
عَلَى مَا بَنَاهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَاسْتَشَارَ الْإِمَامَ مَالِكَ بْنَ
أَنَسٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا الْمُلُوكُ
مَلْعَبَةً. يَعْنِي يَتَلَاعَبُونَ فِي بِنَائِهَا بِحَسْبِ آرَائِهِمْ، فَهَذَا
يَرَى رَأْيَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهَذَا يَرَى رَأْيَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ
عَامِلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَخُوهُ عُبَيْدَةُ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا سَعِيدُ بْنُ نِمْرَانَ، وَامْتَنَعَ شُرَيْحٌ أَنْ يَحْكُمَ فِي زَمَانِ الْفِتْنَةِ، وَعَلَى الْبَصْرَةٍ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ التَّيْمِيُّ وَعَلَى قَضَائِهَا هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى خُرَاسَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ. وَكَانَ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَدِ اسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَذَلِكَ بَعْدَ ظَفَرِهِ بِالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ وَقَتْلِهِ لَهُ فِي الْوَقْعَةِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: إِنَّ فِيهَا دَخَلَ مَرْوَانُ مِصْرَ وَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا الَّذِي مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَحْدَمٍ. وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ مَرْوَانَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسِتِّينَ
فَفِيهَا اجْتَمَعَ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ
أَلْفًا، كُلُّهُمْ يَطْلُبُونَ الْأَخْذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ مِمَّنْ قَتَلَهُ.
وَقَدْ خَطَبَهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ حِينَ خَرَجُوا مِنَ الْكُوفَةِ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالنُّخَيْلَةِ، فَحَرَّضَهُمْ عَلَى
الْجِهَادِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ خَرَجَ مِنْكُمْ لِطَلَبِ الدُّنْيَا
ذَهَبِهَا وَحَرِيرِهَا فَلَيْسَ مَعَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا مَعَنَا
سُيُوفٌ عَلَى عَوَاتِقِنَا، وَرِمَاحٌ فِي أَكُفِّنَا، وَزَادٌ يَكْفِينَا حَتَّى
نَلْقَى عَدُوَّنَا. فَأَجَابُوهُ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ،
ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ بِقَصْدِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ، فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ بِمُقَاتَلَةِ مَنْ بِالْكُوفَةِ مِنْ رُءُوسِ
الْقَبَائِلِ مِنْ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ كَعُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
وَأَضْرَابِهِ، فَامْتَنَعَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ إِلَّا أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَهَّزَ إِلَيْهِ
الْجُيُوشَ، وَأَلَّبَ النَّاسَ عَلَيْهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ مَا طَلَبَهُ
مِنْهُ، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ، وَهَا هُوَ قَدْ أَقْبَلَ مِنَ
الشَّامِ قَاصِدًا
الْعِرَاقَ. فَصَمَّمَ النَّاسُ مَعَهُ
عَلَى هَذَا الرَّأْيِ.
فَلَمَّا أَزْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ أُمَرَاءُ الْكُوفَةِ مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ يَقُولَانِ لَهُ: إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَكُونَ
أَيْدِينَا وَاحِدَةً عَلَى ابْنِ زِيَادٍ. وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يَبْعَثُوا مَعَهُمْ جَيْشًا لِيُقَوِّيَهُمْ عَلَى مَا قَصَدُوا لَهُ، وَبَعَثُوا
إِلَيْهِ الْبَرِيدَ أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ حَتَّى يَقْدُمُوا عَلَيْهِ، فَتَهَيَّأَ
سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ لِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فِي رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ،
وَجَلَسَ فِي أُبَّهَتِهِ، وَالْجُيُوشُ مُحْدِقَةٌ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ فِي أَشْرَافِ
أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ غَيْرِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ ; لِئَلَّا يَطْمَعُوا
فِيهِمْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ
كُلِّهَا لَا يَبِيتُ إِلَّا فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يَزِيدَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ الْأَمِيرَانِ عِنْدَ
سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَا لَهُ وَأَشَارَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَذْهَبُوا
حَتَّى تَكُونَ أَيْدِيهِمْ كُلِّهِمْ وَاحِدَةً عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمُ ابْنِ
زِيَادٍ، وَيُجَهِّزُوا مَعَهُمْ جَيْشًا آخَرَ ; فَإِنَّ أَهْلَ الشَّامِ جَمْعٌ
كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهُمْ يُحَاجِفُونَ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ، فَامْتَنَعَ
سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِمَا وَقَالَ: إِنَّا قَدْ
خَرَجْنَا لِأَمْرٍ لَا نَرْجِعُ
عَنْهُ، وَلَا نَتَأَخَّرُ فِيهِ. فَانْصَرَفَ الْأَمِيرَانِ رَاجِعِينَ إِلَى
الْكُوفَةِ، وَانْتَظَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَأَصْحَابُهُ أَصْحَابَهُمُ
الَّذِينَ كَانُوا قَدْ وَاعَدُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَهْلِ
الْمَدَائِنِ أَنْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِمُ النُّخَيْلَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
فَلَمْ يَقْدُمُوا عَلَيْهِمْ وَلَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَقَامَ سُلَيْمَانُ بْنُ
صُرَدٍ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الذَّهَابِ لِمَا خَرَجُوا
لَهُ، وَقَالَ: لَوْ قَدْ سَمِعَ إِخْوَانُكُمْ بِمَسِيرِكُمْ لَلَحِقُوكُمْ سِرَاعًا.
فَخَرَجَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ مِنَ النُّخَيْلَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَسَارَ
بِهِمْ مَرَاحِلَ، مَا يَتَقَدَّمَونَ مَرْحَلَةً إِلَى نَحْوِ الشَّامِ إِلَّا
تَخَلَّفَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ مَعَهُ، فَلَمَّا مَرُّوا
بِقَبْرِ الْحُسَيْنِ صَاحُوا صَيْحَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَتَبَاكَوْا، وَبَاتُوا
عِنْدَهُ لَيْلَةً، وَظَلُّوا يَوْمًا يَدْعُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِ،
وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَتَرَضَّوْنَ عَنْهُ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَنْ لَوْ
كَانُوا مَاتُوا مَعَهُ شُهَدَاءَ.
قُلْتُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْعَزْمُ وَالِاجْتِمَاعُ قَبْلَ وُصُولِ الْحُسَيْنِ
إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَةِ لَكَانَ أَنْفَعَ لَهُ وَأَنْصُرَ مِنِ اجْتِمَاعِهِمْ
لِنُصْرَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ.
وَلَمَّا أَرَادُوا الِانْصِرَافَ جَعَلَ لَا يَسِيرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَتَّى
يَأْتِيَ الْقَبْرَ فَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى جَعَلُوا
يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنِ ازْدِحَامِهِمْ عِنْدَ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ، ثُمَّ سَارُوا قَاصِدِينَ الشَّامَ، فَلَمَّا اجْتَازُوا
بِقَرْقِيسِيَا تَحَصَّنَ مِنْهُمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: إِنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِكُمْ فَأَخْرِجْ إِلَيْنَا
سُوقًا، فَإِنَّا إِنَّمَا نُقِيمُ عِنْدَكُمْ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ. فَأَمَرَ
زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْ يُخْرَجَ السُّوقُ إِلَيْهِمْ،
وَأَمَرَ لِلرَّسُولِ إِلَيْهِ - وَهُوَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ الْفَزَارِيُّ - بِفَرَسٍ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ: أَمَّا الْمَالُ فَلَا، وَأَمَّا الْفَرَسُ فَنَعَمْ. وَبَعَثَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ وَرُءُوسِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ، إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِشْرِينَ جَزُورًا وَطَعَامًا وَعَلَفًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ فَشَيَّعَهُمْ، وَسَايَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ قَدْ وَجَّهُوا إِلَيْكُمْ جَيْشًا كَثِيفًا وَعَدَدًا كَثِيرًا مَعَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَشُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَدْهَمَ بْنِ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ الْغَنَوِيِّ، وَجَبَلَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْخَثْعَمِيِّ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ. ثُمَّ عَرَضَ عَلَيْهِمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ أَنْ يَدْخُلُوا مَدِينَتَهُ أَوْ يَكُونُوا عِنْدَ بَابِهَا، فَإِنْ جَاءَهُمْ أَحَدٌ كَانَ مَعَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا: قَدْ عَرَضَ عَلَيْنَا أَهْلُ بَلَدِنَا مِثْلَ ذَلِكَ فَامْتَنَعْنَا. قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَبَادِرُوهُمْ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَيَكُونَ الْمَاءُ وَالْمَدِينَةُ وَالْأَسْوَاقُ خَلْفَ ظُهُورِكُمْ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ مِنْهُ. ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِمَا يَعْتَمِدُونَهُ فِي حَالِ الْقِتَالِ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَالنَّاسُ خَيَرًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ، وَسَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ فَبَادَرَ إِلَى عَيْنِ الْوَرْدَةِ، فَنَزَلَ غَرْبِيَّهَا، وَأَقَامَ هُنَاكَ خَمْسًا قَبْلَ وُصُولِ أَعْدَائِهِ إِلَيْهِ.
وَقْعَةُ عَيْنِ وَرْدَةَ
وَاسْتَرَاحَ سُلَيْمَانُ وَأَصْحَابُهُ وَاطْمَأَنُّوا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ
قُدُومُ أَهْلِ الشَّامِ إِلَيْهِمْ خَطَبَ سُلَيْمَانُ أَصْحَابَهُ،
فَرَغَّبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَزَهَّدَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَحَثَّهُمْ عَلَى
الْجِهَادِ، وَقَالَ: إِنْ قُتِلْتُ فَالْأَمِيرُ عَلَيْكَمُ الْمُسَيَّبُ بْنُ
نَجَبَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، فَإِنْ
قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ.
ثُمَّ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُسَيَّبَ بْنَ نَجَبَةَ فِي أَرْبَعِمِائَةِ
فَارِسٍ، فَأَغَارُوا عَلَى جَيْشِ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ وَهُمْ
غَارُّونَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمَاعَةً وَجَرَحُوا آخَرِينَ، وَاسْتَاقُوا
نَعَمًا، وَأَتَى الْخَبَرُ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، فَأَرْسَلَ
بَيْنَ يَدَيْهِ الْحُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ فَصَبَّحَ سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَجَيْشَهُ
فَتَوَاقَفُوا فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى، وَحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ قَائِمٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَقَدْ
تَهَيَّأَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَدَعَا الشَّامِيُّونَ
أَصْحَابَ سُلَيْمَانَ إِلَى الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ،
وَدَعَا أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ الشَّامِيِّينَ إِلَى أَنْ يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ
عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ فَيَقْتُلُوهُ عَنِ الْحُسَيْنِ، وَامْتَنَعَ كُلٌّ
مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْ يُجِيبَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ الْآخَرَ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا عَامَّةَ يَوْمِهِمْ إِلَى اللَّيْلِ، وَكَانَتِ
الدَّائِرَةُ فِيهِ لِلْعِرَاقِيِّينَ عَلَى الشَّامِيِّينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا
أَصْبَحَ ابْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ فِي ثَمَانِيَةِ
آلَافِ فَارِسٍ، وَقَدْ أَنَّبَهُ وَشَتَمَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ،
فَاقْتَتَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْيَوْمِ
قِتَالًا لَمْ يَرَ الشِّيبُ
وَالْمُرْدُ مِثْلَهُ قَطُّ، لَا يَحْجِزُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَوْقَاتُ
الصَّلَوَاتِ إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ مِنَ الْيَوْمِ
الثَّالِثِ وَصَلَ إِلَى الشَّامِيِّينَ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ فِي عَشَرَةِ
آلَافٍ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى
حِينِ ارْتِفَاعِ الضُّحَى، ثُمَّ اسْتَدَارَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ
وَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَخَطَبَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ
النَّاسَ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا
عَظِيمًا جِدًّا، ثُمَّ تَرَجَّلَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ وَكَسَرَ جَفْنَ
سَيْفِهِ، وَنَادَى: يَا عِبَادَ اللَّهِ، مَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى
الْجَنَّةِ، وَالتَّوْبَةَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَالْوَفَاءَ بِعَهْدِهِ فَلْيَأْتِ
إِلَيَّ. فَتَرَجَّلَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرُونَ وَكَسَرُوا جُفُونَ سُيُوفِهِمْ،
وَحَمَلُوا حَتَّى صَارُوا فِي وَسَطِ الْقَوْمِ، وَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
مَقْتَلَةً عَظِيمَةً حَتَّى خَاضُوا فِي الدِّمَاءِ، وَقُتِلَ سُلَيْمَانُ بْنُ
صُرَدٍ، رَمَاهُ يَزِيدُ بْنُ الْحُصَيْنِ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ
وَقَعَ، ثُمَّ وَثَبَ، ثُمَّ وَقَعَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ،
فَقَاتَلَ بِهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ مَيَّالَةُ الذَّوَائِبِ وَاضِحَةَ اللَّبَاتِ وَالتَّرَائِبِ
أَنِّي غَدَاةَ الرَّوْعِ وَالتَّغَالُبِ
أَشْجَعُ مِنْ ذِي لِبْدَةٍ مُوَاثِبِ
قَطَّاعُ أَقْرَانٍ مَخُوفُ الْجَانِبِ
ثُمَّ قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَضَى فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ نَحْبَهُ،
وَلَحِقَ صَحْبَهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ
نُفَيْلٍ، فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا أَيْضًا وَهُوَ يَقُولُ:
رَحِمَ اللَّهُ أَخَوَيَّ، مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. وَحَمَلَ حِينَئِذٍ رَبِيعَةُ بْنُ الْمُخَارِقِ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ حَمْلَةً مُنْكَرَةً، وَتَبَارَزَ هُوَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ نُفَيْلٍ، ثُمَّ اتَّحَدَا فَحَمَلَ ابْنُ أَخِي رَبِيعَةَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ احْتَمَلَ عَمَّهُ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَالٍ، فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْجِهَادِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: الرَّوَاحَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَحَمَلَ بِالنَّاسِ فَفَرَّقَ مَنْ كَانَ حَوْلَهُ، ثُمَّ قُتِلَ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمُفْتِينَ، قَتَلَهُ أَدْهَمُ بْنُ مُحْرِزٍ الْبَاهِلِيُّ أَمِيرُ الْحَرْبِ سَاعَتَئِذٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِيِّينَ، فَأَخَذَ الرَّايَةَ رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، فَانْحَازَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ دَخَلَ الظَّلَامُ، وَرَجَعَ الشَّامِيُّونَ إِلَى رِحَالِهِمْ، وَانْشَمَرَ رِفَاعَةُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الشَّامِيُّونَ إِذَا الْعِرَاقِيُّونَ قَدْ كَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَلَمْ يَبْعَثُوا وَرَاءَهُمْ طَلَبًا وَلَا أَحَدًا، فَقَطَعَ رِفَاعَةُ بِمَنْ مَعَهُ الْخَابُورَ وَمَرَّ عَلَى قَرْقِيسِيَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ وَالْأَطِبَّاءَ فَأَقَامُوا ثَلَاثًا حَتَّى اسْتَرَاحُوا ثُمَّ رَحَلُوا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى هِيتَ إِذَا سَعْدُ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَدْ أَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدَائِنِ قَاصِدِينَ إِلَى نُصْرَتِهِمْ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ، وَنَعَوْا إِلَيْهِ أَصْحَابَهُمْ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ وَتَبَاكَوْا عَلَى إِخْوَانِهِمْ، وَانْصَرَفَ أَهْلُ الْمَدَائِنِ إِلَيْهَا، وَرَجَعَ رَاجِعَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيْهَا، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَإِذَا الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ كَمَا هُوَ فِي السِّجْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بَعْدُ، فَكَتَبَ إِلَى رِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ يُعَزِّيهِ فِيمَنْ قُتِلَ
مِنْهُمْ وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِمْ،
وَيَغْبِطُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَيَقُولُ:
مَرْحَبًا بِالَّذِينِ أَعْظَمَ اللَّهُ أُجُورَهُمْ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ،
وَاللَّهِ مَا خَطَا مِنْهُمْ أَحَدٌ خُطْوَةً إِلَّا كَانَ ثَوَابُ اللَّهِ لَهُ
فِيهَا أَعْظَمَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَإِنَّ سُلَيْمَانَ قَدْ قَضَى
مَا عَلَيْهِ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ رُوحَهُ فِي أَرْوَاحِ النَّبِيِّينَ
وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَبَعْدُ فَأَنَا الْأَمِيرُ الْمَأْمُونُ،
قَاتِلُ الْجَبَّارِينَ وَالْمُفْسِدِينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَأَعِدُّوا
وَاسْتَعَدُّوا وَأَبْشِرُوا، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ، وَالطَّلَبِ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْبَيْتِ. وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا
فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ قُدُومِهِمْ أَخْبَرَ النَّاسَ
بِهَلَاكِهِمْ عَنْ رَئِيِّهِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي إِلَيْهِ مِنَ الشَّيَاطِينِ،
فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَأْتِيهِ شَيْطَانٌ فَيُوحِي إِلَيْهِ قَرِيبًا مِمَّا
كَانَ يُوحِي شَيْطَانُ مُسَيْلِمَةَ إِلَيْهِ. وَكَانَ جَيْشُ سُلَيْمَانَ بْنِ
صُرَدٍ وَأَصْحَابِهِ يُسَمَّى بِجَيْشِ التَّوَّابِينَ.
وَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ الْخُزَاعِيُّ أَبُو مُطَرِّفٍ الْكُوفِيُّ
صَحَابِيًّا جَلِيلًا نَبِيلًا عَابِدًا زَاهِدًا، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "
وَغَيْرِهِمَا، وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ أَحَدُ مَنْ كَانَ
يَجْتَمِعُ الشِّيعَةُ فِي دَارِهِ لِبَيْعَةِ الْحُسَيْنِ، وَكَتَبَ إِلَى
الْحُسَيْنِ فِيمَنْ كَتَبَ بِالْقُدُومِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا
تَخَلَّوْا عَنْهُ، وَقُتِلَ بِكَرْبَلَاءَ، وَرَأَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ كَانُوا
سَبَبًا فِي قُدُومِهِ، وَأَنَّهُمْ خَذَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ هُوَ وَأَهْلُ
بَيْتِهِ، فَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا، ثُمَّ اجْتَمَعُوا فِي هَذَا الْجَيْشِ،
وَسَمَّوْا جَيْشَهُمْ جَيْشَ
التَّوَّابِينَ، وَسَمَّوْا سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ أَمِيرَ التَّوَّابِينَ،
فَقُتِلَ سُلَيْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ بِعَيْنِ
وَرْدَةَ، سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثًا وَتِسْعِينَ
سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا الْمُسَيَّبُ بْنُ نَجَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الْفَزَارِيُّ، فَإِنَّهُ
قَدِمَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ مِنَ الْعِرَاقِ وَشَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ،
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ وَشَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ صِفِّينَ وَغَيْرِهَا،
وَكَانَ أَحَدَ الْكِبَارِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ الْحُسَيْنِ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ وَرَأْسُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ إِلَى
مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ، وَكَتَبَ أُمَرَاءُ الشَّامِيِّينَ
إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ،
وَأَظْفَرَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ
مِنْ أَمْرِ الْجُنُودِ وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ قَالَ:
أَهْلَكَ اللَّهُ رُءُوسَ الضُّلَّالِ ; سُلَيْمَانَ بْنَ صُرَدٍ وَأَصْحَابَهُ.
وَعَلَّقَ الرُّءُوسَ بِدِمَشْقَ. وَكَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ قَدْ عَهِدَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدَيْهِ ; عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَأَخَذَ بَيْعَةَ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَفِيهَا دَخَلَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَأَخَذَاهَا مِنْ يَدِ نَائِبِهَا
الَّذِي كَانَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
جَحْدَمٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ مَرْوَانَ قَصَدَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ
نَائِبُهَا ابْنُ جَحْدَمٍ، فَقَابَلَهُ مَرْوَانُ لِيُقَاتِلَهُ، فَاشْتَغَلَ
بِهِ، وَخَلَصَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ مِنْ وَرَاءِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَحْدَمٍ، فَدَخَلَ مِصْرَ، فَمَلَكَهَا، وَهَرَبَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَدَخَلَ مَرْوَانُ إِلَى مِصْرَ، فَمَلَكَهَا وَجَعَلَ عَلَيْهَا
وَلَدَهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ.
وَفِيهَا بَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ مُصْعَبًا لِيَفْتَحَ لَهُ الشَّامَ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ مَرْوَانُ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ، فَتَلَقَّاهُ إِلَى
فِلَسْطِينَ، فَهَرَبَ مِنْهُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَرَّ رَاجِعًا،
وَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ، وَاسْتَقَرَّ مُلْكُ الشَّامِ وَمِصْرَ لِمَرْوَانَ.
وَفِيهَا جَهَّزَ مَرْوَانُ جَيْشَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مَعَ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ
الْقَيْنِيِّ لِيَأْخُذَ لَهُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا
سَنَذْكُرُهُ، وَالْآخَرُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ إِلَى الْعِرَاقِ
لِيَنْتَزِعَهُ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقُوا جَيْشَ التَّوَّابِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ عَيْنِ الْوَرْدَةِ ; قَتَلُوا أَكْثَرَ أَصْحَابِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ مَعَهُ وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ فَلَمَّا كَانُوا بِالْجَزِيرَةِ بَلَغَهُمْ مَوْتُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِأُمِّ خَالِدٍ امْرَأَةِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَهِيَ أُمُّ هَاشِمٍ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَرْوَانُ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا لِيُصَغِّرَ ابْنَهَا خَالِدًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكُوهُ بَعْدَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ، فَتَزَوَّجَ أُمَّهُ لِيُصَغِّرَ أَمْرَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ دَاخِلٌ إِلَى عِنْدِ مَرْوَانَ، إِذْ جَعَلَ مَرْوَانُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ عِنْدَ جُلَسَائِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ لَهُ فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ: يَابْنَ الرَّطْبَةِ الِاسْتِ. فَذَهَبَ خَالِدٌ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخْبَرَهَا بِمَا قَالَ لَهُ، فَقَالَتْ: اكْتُمْ ذَلِكَ، وَلَا تُعْلِمْهُ أَنَّكَ أَعْلَمْتَنِي بِذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا مَرْوَانُ قَالَ لَهَا: هَلْ ذَكَرَنِي خَالِدٌ عِنْدَكِ بِسُوءٍ ؟ فَقَالَتْ لَهُ: وَمَا عَسَاهُ يَقُولُ لَكَ وَهُوَ يُحِبُّكُ وَيُعَظِّمُكَ. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ رَقَدَ عِنْدَهَا، فَلَمَّا أَخَذَهُ النَّوْمُ عَمَدَتْ إِلَى وِسَادَةٍ، فَوَضَعَتْهَا عَلَى وَجْهِهِ، وَتَحَامَلَتْ عَلَيْهَا هِيَ وَجَوَارِيهَا حَتَّى مَاتَ غَمًّا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَالِثِ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ بِدِمَشْقَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِحْدَى وَسِتُّونَ وَقِيلَ: إِحْدَى وَثَمَانُونَ سَنَةً. وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ. وَقِيلَ: عَشَرَةَ أَشْهُرٍ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مَرْوَانَ بْنِ
الْحَكَمِ جَدِّ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُ
هُوَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَيُقَالُ: أَبُو الْحَكَمِ. وَيُقَالُ: أَبُو الْقَاسِمِ. وَهُوَ صَحَابِيٌّ
عِنْدَ طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْهُ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ،
وَفِي رِوَايَةٍ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "، عَنْ مَرْوَانَ
وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَرَوَى عَنْ عُمَرَ،
وَعُثْمَانَ، وَكَانَ كَاتِبُهُ، وَعَلِيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَبُسْرَةَ
بِنْتِ صَفْوَانَ الْأَسَدِيَّةِ، وَكَانَتْ حَمَاتَهُ. وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو
أَحْمَدَ: كَانَتْ خَالَتَهُ. وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِهَا حَمَاتَهُ
وَخَالَتَهُ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ،
وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَحْفَظْ عَنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيَ
سِنِينَ حِينَ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنَ التَّابِعِينَ. وَقَدْ
كَانَ مَرْوَانُ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَفُضَلَائِهَا.
رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ امْرَأَةً إِلَى أُمِّهَا، فَقَالَ: إِنَّ
جَرِيرًا الْبَجَلِيَّ يَخْطُبُ إِلَيْكُمْ أَسْلَمَ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ
الْمَشْرِقِ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، وَهُوَ سَيِّدُ شَبَابِ قُرَيْشٍ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَعُمَرُ. فَقَالَتِ
الْمَرْأَةُ: أَجَادٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: قَدْ
زَوَّجْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يُكْرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ، وَكَانَ كَاتِبَ
الْحُكْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ جَرَتْ قَضِيَّةُ الدَّارِ،
وَبِسَبَبِهِ حُصِرَ عُثْمَانُ فِيهَا، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ أُولَئِكَ أَنْ
يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ، فَامْتَنَعَ عُثْمَانُ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ
قَاتَلَ مَرْوَانُ يَوْمَ الدَّارِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ بَعْضَ أُولَئِكَ
الْخَوَارِجِ، وَكَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
رَمَى طَلْحَةَ بِسَهْمٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَقَتَلَهُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَ عَلِيٌّ
يَوْمَ الْجَمَلِ حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنْ مَرْوَانَ،
فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ تَعْطِفُنِي عَلَيْهِ رَحِمٌ مَاسَّةٌ،
وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ
تَرَى لِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ ؟ فَقَالَ: وَأَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ
اللَّهِ، الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللَّهِ، الشَّدِيدُ فِي حُدُودِ اللَّهِ،
فَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ. وَقَدِ
اسْتَنَابَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، يَعْزِلُهُ ثُمَّ يُعِيدُهُ
إِلَيْهَا، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ
مَرْوَانَ قَضَاءٌ، وَكَانَ يَتَّبِعُ قَضَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ وَذَكَرَ مَرْوَانَ يَوْمًا،
فَقَالَ: قَالَ مَرْوَانُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً،
ثُمَّ أَصْبَحْتُ فِيمَا أَنَا فِيهِ مِنْ هِرَاقَةِ الدِّمَاءِ وَهَذَا
الشَّأْنِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ شُرَيْحِ
بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ قَالَ: كَانَ مَرْوَانُ إِذَا ذَكَرَ الْإِسْلَامَ
قَالَ:
بِنِعْمَةِ رَبِّي لَا بِمَا قَدَّمَتْ يَدِي وَلَا بِبَرَاتِي إِنَّنِي كُنْتُ
خَاطِئَا
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي
النَّضْرِ، أَنَّهُ قَالَ: شَهِدَ مَرْوَانُ جِنَازَةً، فَلَمَّا صَلَّى عَلَيْهَا
انْصَرَفَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَصَابَ قِيرَاطًا وَحُرِمَ قِيرَاطًا.
فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ مَرْوَانُ، فَأَقْبَلَ يَجْرِي قَدْ بَدَتْ رُكْبَتَاهُ،
فَقَعَدَ
حَتَّى أُذِنَ لَهُ.
وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، أَنَّ مَرْوَانَ كَانَ أَسْلَفَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ حِينَ رَجَعَ
إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ سِتَّةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمَّا
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ لَا
يَسْتَرْجِعَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ شَيْئًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ
الْمَلِكِ بِذَلِكَ، فَامْتَنَعَ مِنْ قَبُولِهَا، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ
فَقَبِلَهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يُصَلِّيَانِ
خَلْفَ مَرْوَانَ وَلَا يُعِيدَانِهَا، وَيَعْتَدَّانِ بِهَا.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ،
عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ عَلَى
الصَّلَاةِ يَوْمَ الْعِيدِ مَرْوَانُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: خَالَفْتَ
السُّنَّةَ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: إِنَّهُ قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ
أَبُو سَعِيدٍ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا
فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ".
قَالُوا: وَلَمَّا كَانَ نَائِبًا بِالْمَدِينَةِ كَانَ إِذَا وَقَعَتْ مُعْضِلَةٌ
جَمَعَ مَنْ عِنْدِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِيهَا. قَالُوا:
وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ الصِّيعَانَ، فَأَخَذَ بِأَعْدَلَهَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ
الصَّاعُ، فَقِيلَ: صَاعُ مَرْوَانَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ
اللَّهَبِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: خَرَجَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ عِنْدِ مَرْوَانَ، فَلَقِيَهُ قَوْمٌ قَدْ
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالُوا: إِنَّهُ أَشْهَدَنَا الْآنَ عَلَى مِائَةِ رَقَبَةٍ
أَعْتَقَهَا السَّاعَةَ. قَالَ: فَغَمَزَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَدِي، وَقَالَ: يَا
أَبَا سَعِيدٍ، يَكٌّ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَقَبَةٍ. قَالَ
الزُّبَيْرُ: الْيَكُّ: الْوَاحِدُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا
جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو
أَبِي فُلَانٍ ثَلَاثِينَ رَجُلًا اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا، وَدِينَ
اللَّهِ دَخَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا ".
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى زَحْمُوَيْهِ، عَنْ
صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا بَلَغَ
بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ اتَّخَذُوا دِينَ اللَّهِ دَخَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ
خَوَلًا، وَمَالَ اللَّهِ دُوَلًا ". وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ
أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا بَلَغَ
بَنُو أُمَيَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا ". وَذَكَرَهُ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
وَرَوَاهُ الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِذَا بَلَغَ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ثَلَاثِينَ
رَجُلًا " فَذَكَرَهُ.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ
مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ، عَنِ ابْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا بَلَغَ بَنُو الْحَكَمِ ثَلَاثِينَ
اتَّخَذُوا مَالَ اللَّهِ بَيْنَهُمْ دُوَلًا، وَعِبَادَ اللَّهِ خَوَلًا،
وَكِتَابَ اللَّهِ دَغَلًا، فَإِذَا بَلَغُوا سِتَّةً وَتِسْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
كَانَ هَلَاكُهُمْ أَسْرَعَ مِنْ لَوْكِ تَمْرَةٍ ".وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ
فَقَالَ: " أَبُو الْجَبَابِرَةِ الْأَرْبَعَةِ ". وَهَذِهِ الطُّرُقُ
كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ.
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ بَنِي الْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ
وَيَرْقَوْنَ، فَأَصْبَحَ كَالْمُتَغَيِّظِ، وَقَالَ: " رَأَيْتُ بَنِي
الْحَكَمِ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِي نَزْوَ الْقِرَدَةِ ". فَمَا رُئِيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَجْمِعًا ضَاحِكًا بَعْدَ
ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. وَرَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ مُرْسَلًا، وَفِيهِ: فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: إِنَّمَا هِيَ
دُنْيَا أُعْطُوهَا. فَقَرَّتْ عَيْنُهُ. وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [ الْإِسْرَاءِ: 60 ].
يَعْنِي بَلَاءً لِلنَّاسِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَسَنَدُهُ إِلَى سَعِيدٍ ضَعِيفٌ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، فَلِهَذَا
أَضْرَبْنَا صَفْحًا عَنْ إِيرَادِهَا لِعَدَمِ صِحَّتِهَا.
وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ الْحَكَمُ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ،
وَقَدِمَ الْحَكَمُ الْمَدِينَةَ ثُمَّ
طَرَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، وَمَاتَ
بِهَا، وَمَرْوَانُ كَانَ أَكْبَرَ الْأَسْبَابِ فِي حِصَارِ عُثْمَانَ، لِأَنَّهُ
زَوَّرَ عَلَى لِسَانِهِ كِتَابًا إِلَى مِصْرَ بِقَتْلِ أُولَئِكَ الْوَفْدِ،
وَلَمَّا كَانَ مُتَوَلِّيًا عَلَى الْمَدِينَةِ لِمُعَاوِيَةَ كَانَ يَسُبُّ
عَلِيًّا كُلَّ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ:
لَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ أَبَاكَ الْحَكَمَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ عَلَى لِسَانِ
نَبِيِّهِ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْحَكَمَ وَمَا وَلَدَ " وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ لَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ مَرْوَانُ أَرْضَ الْجَابِيَةِ، أَعْجَبَهُ إِتْيَانُهُ إِلَيْهِ،
فَبَايَعَهُ، وَبَايَعَ لَهُ أَهْلَ الْأُرْدُنِّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا انْتَظَمَ
لَهُ الْأَمْرُ نَزَلَ عَنِ الْإِمْرَةِ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَيَكُونُ
لِمَرْوَانَ إِمْرَةُ حِمْصَ، وَلِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ نِيَابَةُ دِمَشْقَ.
وَكَانَتِ الْبَيْعَةُ لِمَرْوَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلنِّصْفِ مِنْ ذِي
الْقِعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ. قَالَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ
وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: وَكَانَتْ وَقْعَةُ مَرْجِ رَاهِطٍ فِي ذِي الْحِجَّةِ، مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ عِيدِ النَّحْرِ بِيَوْمَيْنِ.
قَالُوا: فَغَلَبَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَاسْتَوْسَقَ لَهُ مُلْكُ الشَّامِ
وَمِصْرَ، فَلَمَّا
اسْتَقَرَّ مُلْكُهُ فِي هَذِهِ
الْبِلَادِ بَايَعَ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ مِنْ
بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَالِدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -
وَتَرَكَ الْبَيْعَةَ لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ; لِأَنَّهُ كَانَ
لَا يَرَاهُ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ حَسَّانُ بْنُ
مَالِكٍ، وَإِنْ كَانَ خَالًا لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَهُوَ الَّذِي قَامَ
بِأَعْبَاءِ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ إِنَّ أُمَّ خَالِدٍ دَبَّرَتْ
أَمْرَ مَرْوَانَ فَسَمَّتْهُ، وَيُقَالُ: بَلْ وَضَعَتْ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ
نَائِمٌ وِسَادَةً، فَمَاتَ مَخْنُوقًا، ثُمَّ إِنَّهَا أَعْلَنَتِ الصُّرَاخَ
هِيَ وَجَوَارِيهَا وَصِحْنَ: مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَجْأَةً. فَقَامَ
مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي الْخِلَافَةِ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَذْعُورٍ: حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مَرْوَانُ: وَجَبَتِ الْجَنَّةُ لِمَنْ
خَافَ النَّارَ. وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: الْعِزَّةُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ حَرْبِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: كَانَ نَقْشُ خَاتَمِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
آمَنْتُ بِالْعَزِيزِ الرَّحِيمِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ عَنْ إِحْدَى - وَقِيلَ: ثَلَاثٍ - وَسِتِّينَ
سَنَةً.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ
إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَقَالَ خَلِيفَةُ: حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ قَالَ: مَاتَ
مَرْوَانُ بِدِمَشْقَ لِثَلَاثٍ
خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَشَرَةَ
أَشْهُرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ: كَانَ قَصِيرًا، أَحْمَرَ الْوَجْهِ،
أَوْقَصَ، دَقِيقَ الْعُنُقِ، كَبِيرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، وَكَانَ
يُلَقَّبُ: خَيْطُ بَاطِلٍ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ عُفَيْرٍ،
أَنَّ مَرْوَانَ مَاتَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ مِصْرَ بِالصِّنَّبْرَةِ، وَيُقَالُ:
بِلُدٍّ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِدِمَشْقَ، وَدُفِنَ بَيْنَ بَابِ
الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ.
خِلَافَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُوهُ فِي
ثَالِثِ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ،
جُدِّدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِدِمَشْقَ وَمِصْرَ وَأَعْمَالِهَا، فَاسْتَقَرَّتْ
يَدُهُ عَلَى مَا كَانَتْ يَدُ أَبِيهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ قَبْلَ
وَفَاتِهِ بَعَثَ بَعْثَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ
إِلَى الْعِرَاقِ لِيَنْتَزِعهَا مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَلَقِيَ فِي
طَرِيقِهِ جَيْشَ التَّوَّابِينَ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ عِنْدَ عَيْنِ
الْوَرْدَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا تَقَدَّمَ، مِنْ ظَفَرِهِ بِهِمْ،
وَقَتْلِهِ أَمِيرَهُمْ وَأَكْثَرَهُمْ. وَالْبَعْثُ الْآخَرُ مَعَ حُبَيْشِ بْنِ
دُلَجَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَرْتَجِعَهَا مِنْ نَائِبِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَسَارَ نَحْوَهَا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا هَرَبَ نَائِبُهَا جَابِرُ بْنُ
الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ، وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،
فَجَهَّزَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ مِنْ قِبَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ الْحَارِثُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، جَيْشًا مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى ابْنِ
دُلَجَةَ لِيُخْرِجُوهُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ حُبَيْشُ بْنُ
دُلَجَةَ سَارَ إِلَيْهِمْ، وَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ نَائِبًا عَلَى الْمَدِينَةِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ فِي طَلَبِ
حُبَيْشٍ، فَسَارَ فِي طَلَبِهِمْ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِالرَّبَذَةِ، فَرَمَى
يَزِيدُ بْنُ سِيَاهٍ حُبَيْشًا بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ،
وَهُزِمَ الْبَاقُونَ، وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ خَمْسُمِائَةٍ فِي الْمَدِينَةِ،
ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، فَقَتَلَهُمْ صَبْرًا،
وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى الشَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمَّا دَخَلَ يَزِيدُ بْنُ سِيَاهٍ الْأَسْوَارِيُّ
قَاتِلُ حُبَيْشِ بْنِ دُلَجَةَ إِلَى
الْمَدِينَةِ مَعَ عَبَّاسِ بْنِ
سَهْلٍ كَانَ عَلَيْهِ ثِيَابُ بَيَاضٍ وَهُوَ رَاكِبٌ بِرْذَوْنًا أَشْهَبَ،
فَمَا لَبِثَ أَنِ اسْوَدَّتْ ثِيَابُهُ وَدَابَّتُهُ مِمَّا يَتَمَسَّحُ النَّاسُ
بِهِ وَمِنْ كَثْرَةِ مَا صَبُّوا عَلَيْهِ مِنَ الطِّيبِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّتْ شَوْكَةُ الْخَوَارِجِ
بِالْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا قَتَلَ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ، وَهُوَ رَأْسُ الْخَوَارِجِ وَرَأْسُ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ، مُسْلِمُ بْنُ عُبَيْسٍ فَارِسُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، ثُمَّ
قَتَلَهُ رَبِيعَةُ السَّلِيطِيُّ، وَقُتِلَ بَيْنَهُمَا نَحْوُ خَمْسَةِ
أُمَرَاءَ، وَقُتِلَ فِي وَقْعَةِ الْخَوَارِجِ قُرَّةُ بْنُ إِيَاسٍ الْمُزَنِيُّ
أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَلَمَّا قُتِلَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ
رَأَّسَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَاحُوزَ، فَسَارَ
بِهِمْ إِلَى الْمَدَائِنِ فَقَتَلُوا أَهْلَهَا، ثُمَّ غَلَبُوا عَلَى
الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا، وَجَبَوُا الْأَمْوَالَ وَأَتَتْهُمُ الْأَمْدَادُ مِنَ
الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى أَصْفَهَانَ، وَعَلَيْهَا
عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ الرِّيَاحِيُّ، فَالْتَقَاهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَلَمَّا
قُتِلَ أَمِيرُ الْخَوَارِجِ ابْنُ مَاحُوزَ، كَمَا سَنَذْكُرُ، أَقَامُوا
عَلَيْهِمْ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ أَمِيرًا.
ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ قِصَّةَ قِتَالِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: دُولَابُ. وَكَانَتِ الدَّوْلَةُ لِلْخَوَارِجِ عَلَى
أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَخَافَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ أَنْ
يَدْخُلُوا الْبَصْرَةَ، فَبَعَثَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَعَزَلَ نَائِبَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ، الْمَعْرُوفَ بِبَبَّةَ، بِالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَعْرُوفِ بِالْقُبَاعِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ الْأَزْدِيَّ عَلَى عَمَلِ خُرَاسَانَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ قَالُوا لَهُ: إِنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لَكَ. فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَعَثَنِي عَلَى خُرَاسَانَ، وَلَسْتُ أَعْصِي أَمْرَهُ. فَاتَّفَقَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَعَ أَمِيرِهِمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى أَنْ كَتَبُوا كِتَابًا عَلَى لِسَانِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمُهَلَّبِ يَأْمُرُهُ فِيهِ بِالْمَسِيرِ لِلْخَوَارِجِ لِيَكُفَّهُمْ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ اشْتَرَطَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنْ يُقَوِّيَ جَيْشَهُ مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ، وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ كَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَأَمْضَى لَهُمْ ذَلِكَ وَسَوَّغَهُ. فَسَارَ إِلَيْهِمُ الْمُهَلَّبُ، وَكَانَ شُجَاعًا بَطَلًا صِنْدِيدًا، فَلَمَّا الْتَقَى هُوَ وَالْخَوَارِجُ أَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ فِي عُدَّةٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا مِنَ الدُّرُوعِ وَالزُّرُودِ وَالْخُيُولِ وَالسِّلَاحِ، وَذَلِكَ أَنَّ لَهُمْ مُدَّةً يَأْكُلُونَ تِلْكَ النَّوَاحِيَ، وَقَدْ صَارَ لَهُمْ تَحَمُّلٌ عَظِيمٌ مَعَ شَجَاعَةٍ لَا تُدَانَى، وَإِقَدْامٍ لَا يُسَامَى، وَقُوَّةٍ لَا تُبَارَى، وَسَبْقٍ إِلَى حَوْمَةِ الْوَغَى لَا يُجَارَى، فَلَمَّا تَوَاقَفَ النَّاسُ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: سِلَّى وَسِلِّبْرَى. اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبْرَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَبْرًا بَاهِرًا، وَكَانَ الْمُهَلَّبُ فِي نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفًا، ثُمَّ إِنَّ الْخَوَارِجَ حَمَلُوا حَمْلَةً مُنْكَرَةً، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْمُهَلَّبِ لَا يَلْوِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدٍ، وَلَا يَلْتَفِتُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ، وَوَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَلُّهُمْ، وَأَمَّا الْمُهَلَّبُ فَإِنَّهُ سَبَقَ الْمُنْهَزِمِينَ، فَوَقَفَ لَهُمْ بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَ يُنَادِي: إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ. فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ جَيْشِهِ ثَلَاثَةُ آلَافٍ مِنَ الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رُبَّمَا يَكِلُ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيُهْزَمُونَ، وَيُنْزِلُ النَّصْرَ عَلَى الْجَمْعِ الْيَسِيرِ فَيَظْهَرُونَ،
وَلَعَمْرِي مَا بِكُمُ الْآنَ مِنْ
قِلَّةٍ، وَأَنْتُمْ فُرْسَانُ أَهْلِ الْمِصْرَ وَأَهْلُ النَّصْرِ، وَمَا
أُحِبُّ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنِ انْهَزَمَ مَعَكُمُ الْآنَ، وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ
مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا. ثُمَّ قَالَ: عَزَمْتُ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ
مِنْكُمْ إِلَّا أَخَذَ عَشَرَةَ أَحْجَارٍ مَعَهُ، ثُمَّ امْشُوا بِنَا إِلَى
عَسْكَرِهِمْ ; فَإِنَّهُمُ الْآنَ آمِنُونَ، وَقَدْ خَرَجَتْ خُيُولُهُمْ فِي طَلَبِ
إِخْوَانِكُمْ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ
خَيْلُهُمْ حَتَّى تَسْتَبِيحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَتَقْتُلُوا أَمِيرَهُمْ.
فَفَعَلَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَزَحَفَ بِهِمْ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ
عَلَى عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا نَحْوًا مِنْ
سَبْعَةِ آلَافٍ، وَقَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْمَاحُوزِ فِي جَمَاعَةٍ
كَثِيرَةٍ مِنَ الْأَزَارِقَةِ، وَاحْتَازَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَقَدْ أَرْصَدَ الْمُهَلَّبُ خُيُولًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ
مِنْ طَلَبِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَجَعَلُوا يُقْتَطَعُونَ دُونَ قَوْمِهِمْ،
وَانْهَزَمَ فَلُّهُمْ إِلَى كَرْمَانَ وَأَرْضِ أَصْبَهَانَ، وَأَقَامَ
الْمُهَلَّبُ بِالْأَهْوَازِ حَتَّى قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى
الْبَصْرَةِ، وَعَزَلَ عَنْهَا الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
رَبِيعَةَ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَجَّهَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ
قَبْلَ مَهْلِكِهِ ابْنَهُ مُحَمَّدًا إِلَى الْجَزِيرَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ
مَسِيرِهِ إِلَى مِصْرَ. قُلْتُ: مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ هَذَا هُوَ وَالِدُ
مَرْوَانَ الْحِمَارِ، وَهُوَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، وَهُوَ
آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمِنْ يَدِهِ اسْتَلَبَ الْخِلَافَةَ
الْعَبَّاسِيُّونَ كَمَا سَيَأْتِي.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَخَاهُ
عُبَيْدَةَ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّاهَا أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَذَلِكَ
أَنَّ عُبَيْدَةَ خَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:
وَقَدْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعَ اللَّهُ
بِقَوْمِ صَالِحٍ فِي نَاقَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَلَمَّا
بَلَغَتْ أَخَاهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ وَعَزَلَهُ، فَسُمِّيَ
مُقَوِّمَ النَّاقَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي آخِرِهَا عَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْكُوفَةِ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْخَطْمِيَّ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مُطِيعٍ الَّذِي كَانَ أَمِيرَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ الْحَرَّةِ، لَمَّا
خَلَعُوا يَزِيدَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الطَّاعُونُ الْجَارِفُ
بِالْبَصْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": كَانَ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّمَا كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ.
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي ذَكَرَهُ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ وَغَيْرُهُ،
وَكَانَ مُعْظَمَ ذَلِكَ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
فَمَاتَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ سَبْعُونَ أَلْفًا،
وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْهُ أَحَدٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَفِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ مِنْهُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفًا، وَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ
الرَّابِعِ مَوْتَى إِلَّا قَلِيلًا مِنْ آحَادِ النَّاسِ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّ
أُمَّ الْأَمِيرِ بِهَا مَاتَتْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَنْ يَحْمِلُهَا، حَتَّى
اسْتَأْجَرُوا لَهَا أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ،
حَدَّثَنِي مَعْدِيٌّ، عَنْ رَجُلٍ
يُكَنَّى أَبَا النُّفَيْلِ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ زَمَنَ الطَّاعُونِ، قَالَ:
كُنَّا نَطُوفُ فِي الْقَبَائِلِ وَنَدْفِنُ الْمَوْتَى، فَلَمَّا كَثُرُوا لَمْ
نَقْوَ عَلَى الدَّفْنِ، فَكُنَّا نَدْخُلُ الدَّارَ، وَقَدْ مَاتَ أَهْلُهَا،
فَنَسُدُّ بَابَهَا. قَالَ: فَدَخَلْنَا دَارًا فَفَتَّشْنَاهَا، فَلَمْ نَجِدْ
فِيهَا أَحَدًا حَيًّا فَسَدَدْنَا بَابَهَا، فَلَمَّا مَضَتِ الطَّوَاعِينُ
كُنَّا نَطُوفُ نَنْزِعُ تِلْكَ السُّدَدِ عَنِ الْأَبْوَابِ، فَفَتَحْنَا سُدَّةَ
الْبَابِ الَّذِي كُنَّا فَتَّشْنَاهُ، فَإِذَا نَحْنُ بِغُلَامٍ فِي وَسَطِ
الدَّارِ طَرِيٍّ دَهِينٍ، كَأَنَّمَا أُخِذَ سَاعَتَئِذٍ مِنْ حِجْرِ أُمِّهِ.
قَالَ: وَنَحْنُ وُقُوفٌ عَلَى الْغُلَامِ نَتَعَجَّبُ مِنْهُ فَدَخَلَتْ كَلْبَةٌ
مِنْ شَقٍّ فِي الْحَائِطِ، فَجَعَلَتْ تَلُوذُ بِالْغُلَامِ، وَالْغُلَامُ
يَحْبُو إِلَيْهَا حَتَّى مَصَّ مِنْ لَبَنِهَا. قَالَ مَعْدِيٌّ: وَأَنَا
رَأَيْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ قَبَضَ عَلَى
لِحْيَتِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ - يَعْنِي أَكْمَلَ بِنَاءَهَا -
وَأَدْخَلَ فِيهَا الْحَجَرَ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ، يُدْخَلُ مِنْ
أَحَدِهِمَا، وَيُخْرَجُ مِنَ الْآخَرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، حَدَّثَنِي
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ خَالِدِ بْنِ رُسْتُمَ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ،
حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ جِيلٍ، أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَ كَانَ عَلَيْهَا
ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَسَمِعَهُ يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي أُمِّي أَسْمَاءُ بِنْتُ
أَبِي بَكْرٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِعَائِشَةَ: " لَوْلَا قُرْبُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَرَدَدْتُ
الْكَعْبَةَ عَلَى
أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ، فَأَزِيدُ فِي
الْكَعْبَةِ مِنَ الْحِجْرِ ". قَالَ: فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَحَفَرُوا
فَوَجَدُوا قِلَاعًا أَمْثَالَ الْإِبِلِ، فَحَرَّكُوا مِنْهَا صَخْرَةً،
فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَقَالَ: أَقِرُّوهَا عَلَى أَسَاسِهَا. فَبَنَاهَا ابْنُ
الزُّبَيْرِ، وَجَعَلَ لَهَا بَابَيْنِ، يُدْخَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَيُخْرَجُ
مِنَ الْآخَرِ.
قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ لَهُ طُرُقٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ عَائِشَةَ فِي
الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ وَالْمَسَانِيدِ، وَمَوْضُوعُ سِيَاقِ طُرُقِ ذَلِكَ فِي
كِتَابِ " الْأَحْكَامِ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ حُرُوبًا جَرَتْ بَيْنَ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِخُرَاسَانَ، وَبَيْنَ الْحَرِيشِ بْنِ هِلَالٍ
الْقُرَيْعِيِّ، يَطُولُ تَفْصِيلُهَا.
قَالَ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى الْكُوفَةِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ، وَعَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسِتِّينَ
وَفِيهَا وَثَبَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ الْكَذَّابُ
بِالْكُوفَةِ؛ لِيَأْخُذَ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - فِيمَا يَزْعُمُ -
وَأَخْرَجَ عَنْهَا عَامِلَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ، وَكَانَ سَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَصْحَابُ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ مَغْلُوبِينَ
إِلَى الْكُوفَةِ وَجَدُوا الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ الْكَذَّابَ
مَسْجُونًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يُعَزِّيهِمْ وَيَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا، وَقَالَ لَهُمْ فِيمَا كَتَبَ بِهِ
إِلَيْهِمْ خِفْيَةً: أَبْشِرُوا، فَإِنِّي لَوْ قَدْ خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ
جَرَّدْتُ فِيمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِنْ أَعْدَائِكُمُ السَّيْفَ،
فَجَعَلْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ رُكَامًا، وَقَتَلْتُهُمْ فَذًّا وَتَوْأَمًا،
فَرَحَّبَ اللَّهُ بِمَنْ قَارَبَ مِنْكُمْ وَاهْتَدَى، وَلَا يُبْعِدُ اللَّهُ
إِلَّا مَنْ أَبَى وَعَصَى. فَلَمَّا وَصَلَهُمُ الْكِتَابُ
قَرَءُوهُ سِرًّا وَرَدُّوا إِلَيْهِ:
إِنَّا كَمَا تُحِبُّ، فَمَتَى أَحْبَبْتَ أَخْرَجْنَاكَ مِنْ مَحْبَسِكَ.
فَكَرِهَ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ مَكَانِهِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ لِنُوَّابِ
الْكُوفَةِ، فَتَلَطَّفَ فَكَتَبَ إِلَى زَوْجِ أُخْتِهِ صَفِيَّةَ - وَكَانَتِ
امْرَأَةً صَالِحَةً - وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
يَسْأَلُهُ أَنْ يَشَفَعَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ مَحْبِسِهِ عِنْدَ نَائِبَيِ
الْكُوفَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
طَلْحَةَ، فَكَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَيْهِمَا يَشْفَعُ عِنْدَهُمَا فِيهِ فَلَمْ
يُمْكِنْهُمَا رَدُّهُ، وَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إِلَيْهِمَا ابْنُ عُمَرَ: قَدْ
عَلِمْتُمَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مِنَ الْوُدِّ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ
الْمُخْتَارِ مِنَ الْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِ، وَأَنَا أُقْسِمُ عَلَيْكُمَا لَمَا
خَلَّيْتُمَا سَبِيلَهُ، وَالسَّلَامُ. فَاسْتُدْعِيَا بِهِ فَضَمِنَهُ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَحْلَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ إِنْ هُوَ بَغَى
لِلْمُسْلِمِينَ غَائِلَةً فَعَلَيْهِ أَلْفُ بَدَنَةٍ يَنْحَرُهَا تُجَاهَ
الْكَعْبَةِ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ - مِنْ عَبْدٍ وَأَمَةٍ - حُرٌّ، فَالْتَزَمَ
لَهُمَا بِذَلِكَ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَجَعَلَ يَقُولُ: قَاتَلَهُمَا اللَّهُ،
أَمَّا حَلِفِي بِاللَّهِ، فَإِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي، وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ،
وَأَمَّا إِهْدَائِي أَلْفَ بَدَنَةٍ فَيَسِيرٌ، وَأَمَّا عِتْقِي مَمَالِيكِي
فَوَدِدْتُ أَنَّهُ قَدِ اسْتَتَمَّ لِي هَذَا الْأَمْرُ وَلَا أَمْلِكُ
مَمْلُوكًا وَاحِدًا.
وَاجْتَمَعَتِ الشِّيعَةُ عَلَيْهِ، وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَبَايَعُوهُ فِي
السِّرِّ. وَكَانَ الَّذِي يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ لَهُ وَيُحَرِّضُ النَّاسَ
عَلَيْهِ خَمْسَةً ; وَهُمُ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَ يَزِيدُ
بْنُ أَنَسٍ، وَ أَحْمَرُ بْنُ شُمَيْطٍ ; وَرِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ، وَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ الْجُشَمِيُّ، وَلَمْ يَزَلْ أَمْرُهُ يَقْوَى وَيَشْتَدُّ
وَيَسْتَفْحِلُ وَيَرْتَفِعُ، حَتَّى عَزَلَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ
الْكُوفَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، وَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ
طَلْحَةَ، وَبَعْثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ نَائِبًا عَلَيْهَا، وَبَعَثَ
الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ نَائِبًا عَلَى الْبَصْرَةِ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى الْكُوفَةِ،
فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، خَطَبَ النَّاسَ، وَقَالَ فِي
خُطْبَتِهِ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ
أَمَرَنِي أَنْ أَسِيرَ فِيكُمْ بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ. فَقَامَ إِلَيْهِ السَّائِبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ:
لَا نَرْضَى إِلَّا بِسِيرَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي سَارَ بِهَا فِي
بِلَادِنَا، وَلَا نُرِيدُ سِيرَةَ عُثْمَانَ - وَتَكَلَّمَ فِيهِ - وَلَا سِيرَةَ
عُمَرَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ لِلنَّاسِ إِلَّا خَيْرًا. وَصَدَّقَهُ عَلَى
مَا قَالَ بَعْضُ أُمَرَاءِ الشِّيعَةِ، فَسَكَتَ الْأَمِيرُ وَقَالَ: إِنِّي
سَأَسِيرُ فِيكُمْ بِمَا تُحِبُّونَ مِنْ ذَلِكَ.
وَجَاءَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ الْعِجْلِيُّ إِلَى
ابْنِ مُطِيعٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ مِنْ رُءُوسِ
أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ، وَلَسْتُ آمَنُ الْمُخْتَارَ، فَابْعَثْ إِلَيْهِ
فَارْدُدْهُ إِلَى السِّجْنِ، فَإِنَّ عُيُونِي قَدْ أَخْبَرُونِي أَنَّ أَمْرَهُ
قَدِ اسْتَجْمَعَ لَهُ، وَكَأَنَّكَ بِهِ وَقَدْ وَثَبَ بِالْمِصْرِ. فَبَعَثَ
إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعٍ زَائِدَةَ بْنَ قُدَامَةَ، وَأَمِيرًا آخَرَ
مَعَهُ، فَدَخَلَا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَالَا لَهُ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. فَدَعَا
بِثِيَابِهِ وَأَمَرَ بِإِسْرَاجِ
دَابَّتِهِ، وَتَهَيَّأَ لِلذَّهَابِ
مَعَهُمَا، فَقَرَأَ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الْآيَةَ. فَأَلْقَى
الْمُخْتَارُ نَفْسَهُ وَأَمَرَ بِقَطِيفَةٍ أَنْ تُلْقَى عَلَيْهِ، وَأَظْهَرَ
أَنَّهُ مَرِيضٌ، وَقَالَ: أَخْبِرَا الْأَمِيرَ بِحَالِي، فَرَجَعَا إِلَى ابْنِ
مُطِيعٍ فَاعْتَذَرَا عَنْهُ، فَصَدَّقَهُمَا وَلَهَا عَنْهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَزْمَ الْمُخْتَارُ عَلَى
الْخُرُوجِ لِطَلَبِ ثَأْرِ الْحُسَيْنِ - فِيمَا يَزْعُمُ - فَلَمَّا صَمَّمَ
عَلَى ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الشِّيعَةُ وَثَبَّطُوهُ عَنِ الْخُرُوجِ
الْآنَ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، ثُمَّ أَنَفَذُوا طَائِفَةً مِنْهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ
ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَمْرِ الْمُخْتَارِ وَمَا دَعَاهُمْ
إِلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا بِهِ كَانَ مُلَخَّصُ مَا قَالَ لَهُمْ: إِنَّا
لَا نَكْرَهُ أَنْ يَنْصُرَنَا اللَّهُ بِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَدْ كَانَ
الْمُخْتَارُ بَلَغَهُ مَخْرَجُهُمْ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ،
فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُكَذِّبَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ،
فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهَمَّ
بِالْخُرُوجِ قَبْلَ رُجُوعٍ أُولَئِكَ، وَجَعَلَ يَسْجَعُ لَهُمْ سَجْعًا مِنْ
سَجْعِ الْكُهَّانِ بِذَلِكَ، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا سَجَعَ بِهِ.
فَلَمَّا رَجَعُوا أَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
قَوِيَ أَمْرُ الشِّيعَةِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي
عُبَيْدٍ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ أُمَرَاءَ الشِّيعَةِ قَالُوا لِلْمُخْتَارِ:
اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ أُمَرَاءِ
الْكُوفَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُطِيعٍ وَهُمْ أَلْبٌ عَلَيْنَا، وَإِنَّهُ إِنْ بَايَعَكَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ
الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ وَحَدَهُ أَغْنَانَا عَنْ جَمِيعِ مَنْ سِوَاهُ. فَبَعَثَ
إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْعُونَهُ إِلَى الدُّخُولِ
مَعَهُمْ فِي الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَذَكَّرُوهُ سَابِقَةَ أَبِيهِ
مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: قَدْ أَجَبْتُكُمْ إِلَى مَا
سَأَلْتُمْ، عَلَى أَنْ أَكُونَ أَنَا وَلِيَّ أَمْرِكُمْ. فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا
لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْمَهْدِيَّ قَدْ بَعَثَ الْمُخْتَارَ إِلَيْنَا وَزِيرًا
لَهُ وَدَاعِيًا إِلَيْهِ. فَسَكَتَ عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ،
فَرَجَعُوا إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَخْبَرُوهُ، فَمَكَثَ ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ
فَقَامَ إِلَيْهِ وَاحْتَرَمَهُ وَأَكْرَمَهُ وَجَلَسَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ
الْمُخْتَارُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ، وَأَخْرَجَ لَهُ كِتَابًا عَلَى لِسَانِ
ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنَ
الشِّيعَةِ، فِيمَا قَامُوا فِيهِ مِنْ نُصْرَةِ آلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: إِنَّهُ قَدْ جَاءَتْنِي كُتُبُ مُحَمَّدِ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ بِغَيْرِ هَذَا النِّظَامِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ: إِنَّ هَذَا
زَمَانٌ وَذَاكَ زَمَانٌ. فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: فَمَنْ يَشْهَدُ
أَنَّ هَذَا كِتَابُهُ. فَتَقَدَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ
فَشَهِدُوا بِذَلِكَ. فَقَامَ ابْنُ الْأَشْتَرِ مِنْ مَجْلِسِهِ وَأَجْلَسَ
الْمُخْتَارَ فِيهِ وَبَايَعَهُ، وَدَعَا لَهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَشَرَابٍ مِنْ
عَسَلٍ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ - وَكَانَ حَاضِرًا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ هُوَ وَأَبُوهُ -:
فَلَمَّا انْصَرَفَ الْمُخْتَارُ، قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: يَا
شَعْبِيُّ، وَمَاذَا تَرَى فِيمَا شَهِدَ بِهِ هَؤُلَاءِ ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُمْ
قُرَّاءٌ وَأُمَرَاءٌ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَلَا أَرَاهُمْ يُشْهِدُونَ إِلَّا
بِمَا يَعْلَمُونَ. قَالَ:
وَكَتَمْتُهُ مَا فِي نَفْسِي مِنِ
اتِّهَامِهِمْ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَخْرُجُوا لِلْأَخْذِ بِثَأْرِ
الْحُسَيْنِ، وَكُنْتُ عَلَى رَأْيِ الْقَوْمِ.
ثُمَّ جَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَخْتَلِفُ إِلَى الْمُخْتَارِ فِي مَنْزِلِهِ هُوَ
وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَوْمِهِ، ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُ الشِّيعَةِ عَلَى أَنْ
يَكُونَ خُرُوجُهُمْ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ; سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ.
وَقَدْ بَلَغَ ابْنَ مُطِيعٍ أَمْرُ الْقَوْمِ وَمَا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ،
فَبَعَثَ الشُّرَطَ فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْكُوفَةِ، وَأَلْزَمَ
كُلَّ أَمِيرٍ بِحِفْظِ نَاحِيَتِهِ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا
كَانَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ قَاصِدًا
إِلَى دَارِ الْمُخْتَارِ فِي مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ وَعَلَيْهِمُ
الدُّرُوعُ تَحْتَ الْأَقْبِيَةِ، فَلَقِيَهُ إِيَاسُ بْنُ مُضَارِبٍ فَقَالَ
لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ إِنَّ
أَمَرَكَ لِمُرِيبٌ، فَوَاللَّهِ لَا أَدْعُكَ حَتَّى أُحْضِرَكَ إِلَى الْأَمِيرِ
فَيَرَى فِيكَ رَأْيَهُ. فَتَنَاوَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ رُمْحًا مِنْ
يَدِ رَجُلٍ فَطَعَنَهُ فِي ثُغْرَةِ نَحْرِهِ، فَسَقَطَ وَأَمَرَ رَجُلًا
فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، فَهَذَا طَائِرٌ صَالِحٌ.
ثُمَّ طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْمُخْتَارِ أَنْ يَخْرُجَ فِي هَذِهِ
اللَّيْلَةِ، فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِالنَّارِ أَنْ تُرْفَعَ، وَأَنْ يُنَادَى
بِشِعَارِ أَصْحَابِهِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ، يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. ثُمَّ
نَهَضَ الْمُخْتَارُ فَجَعْلَ يَلْبَسُ دِرْعَهُ وَسِلَاحَهُ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ حَسْنَاءُ
الطَّلَلْ وَاضِحَةُ الْخَدَّيْنِ عَجْزَاءُ الْكَفَلْ أَنِّي غَدَاةَ الرَّوْعِ
مِقْدَامٌ بَطَلْ
وَخَرَجَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، فَجَعَلَ يَتَقَصَّدُ
الْأُمَرَاءَ الْمُوَكَّلِينَ بِنَوَاحِي الْبَلَدِ، فَيَطْرُدُهُمْ عَنْ
أَمَاكِنِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَيُنَادِي بِشِعَارِ الْمُخْتَارِ. وَبَعَثَ
الْمُخْتَارُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ فَنَادَى بِشِعَارِ الْمُخْتَارِ: يَا
ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا،
وَجَاءَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَاقْتَتَلَ هُوَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ دَارِهِ
وَحَصَرَهُ حَتَّى جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَطَرَدَهُ عَنْهُ.
فَرَجَعَ شَبَثٌ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَجْمَعَ
الْأُمَرَاءَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَنْهَضَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّ أَمْرَ الْمُخْتَارِ
قَدْ قَوِيَ وَاسْتَفْحَلَ، وَجَاءَتِ الشِّيعَةُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ إِلَى
الْمُخْتَارِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ قَرِيبٌ مِنْ
أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ عَبَّى جَيْشَهُ وَصَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ،
فَقَرَأَ فِيهَا: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي الثَّانِيَةِ.
قَالَ بَعْضُ مَنْ سَمِعَهُ: فَمَا سَمِعْتُ إِمَامًا أَفْصَحَ لَهْجَةً مِنْهُ.
وَقَدْ جَهَّزَ ابْنُ مُطِيعٍ جَيْشًا؛ ثَلَاثَةَ آلَافٍ عَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ
رِبْعِيٍّ، وَأَرْبَعَةَ آلَافٍ أُخْرَى مَعَ رَاشِدِ بْنِ إِيَاسِ بْنِ
مُضَارِبٍ، فَوَجَّهَ الْمُخْتَارُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي
سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ رَاجِلٍ إِلَى رَاشِدِ بْنِ إِيَاسٍ،
وَبَعْثَ نُعَيْمَ بْنَ هُبَيْرَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتِّمِائَةِ
رَاجِلٍ إِلَى شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ. فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ
فَإِنَّهُ هَزَمَ قِرْنَهُ رَاشِدَ
بْنَ إِيَاسٍ وَقَتْلَهُ وَأَرْسَلَ
إِلَى الْمُخْتَارِ يُبَشِّرُهُ، وَأَمَّا نُعَيْمُ بْنُ هُبَيْرَةَ فَإِنَّهُ
لَقِيَ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ فَهَزَمَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ وَقَتْلَهُ
وَجَاءَ فَأَحَاطَ بِالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَحَصَرَهُ، وَأَقْبَلَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ نَحْوَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ،
فَاعْتَرَضَ لَهُ حَسَّانُ بْنُ فَائِدِ الْعَبْسِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ أَلْفَيْ
فَارِسٍ مِنْ جِهَةِ ابْنِ مُطِيعٍ، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً، فَهَزَمَهُ
إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ أَقْبَلَ نَحْوَ الْمُخْتَارِ، فَوَجَدَ شَبَثَ بْنَ
رِبْعِيٍّ قَدْ حَصَرَ الْمُخْتَارَ وَجَيْشَهُ، فَمَا زَالَ حَتَّى طَرَدَهُمْ
عَنْهُ، وَكَرُّوا رَاجِعِينَ. وَخَلَصَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْمُخْتَارِ،
وَارْتَحَلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ فِي ظَاهِرِ الْكُوفَةِ
فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ: اعْمِدْ بِنَا إِلَى قَصْرِ
الْإِمَارَةِ، فَلَيْسَ دُونَهُ أَحَدٌ يَرُدُّ عَنْهُ. فَوَضَعُوا مَا مَعَهُمْ
مِنَ الْأَثْقَالِ وَأَجْلَسُوا هُنَالِكَ ضَعَفَةَ الْمَشَايِخِ وَالرِّجَالِ.
وَاسْتَخْلَفَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ،
وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ، وَعَبَّأَ الْمُخْتَارُ
جَيْشَهُ كَمَا كَانَ، وَسَارَ نَحْوَ الْقَصْرِ، فَبَعَثَ ابْنُ مُطِيعٍ عَمْرَو
بْنَ الْحَجَّاجِ فِي أَلْفَيْ رَجُلٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ
بْنَ أَنَسٍ، وَسَارَ هُوَ وَابْنُ الْأَشْتَرِ أَمَامَهُ حَتَّى دَخَلَ
الْكُوفَةَ مِنْ بَابِ الْكُنَاسَةِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ مُطِيعٍ شَمِرَ بْنَ ذِي
الْجَوْشَنِ - الَّذِي قَتَلَ الْحُسَيْنَ - فِي أَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ، فَبَعَثَ
إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ الْهَمَذَانِيَّ، وَسَارَ
الْمُخْتَارُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى سِكَّةِ شَبَثٍ، وَإِذَا
نَوْفَلُ بْنُ مُسَاحِقِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَخْرَمَةَ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَخَرَجَ ابْنُ مُطِيعٍ مِنَ الْقَصْرِ
فِي النَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ شَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ، فَتَقَدَّمَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى الْجَيْشِ الَّذِي مَعَ نَوْفَلِ بْنِ
مُسَاحِقٍ. فَهَزَمَهُمْ وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّةِ ابْنِ مُسَاحِقٍ فَمَتَّ
إِلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ، فَأَطْلَقَهُ، فَكَّانِ لَا يَنْسَاهَا بَعْدُ لِابْنِ
الْأَشْتَرِ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ الْمُخْتَارُ بِجَيْشِهِ إِلَى الْكُنَاسَةِ وَحَصَرُوا ابْنَ
مُطِيعٍ بِقَصْرِهِ ثَلَاثًا، وَمَعَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ سِوَى عَمْرِو بْنِ
حُرَيْثٍ، فَإِنَّهُ لَزِمَ دَارَهُ، فَلَمَّا ضَاقَ الْحَالُ عَلَى ابْنِ مُطِيعٍ
وَأَصْحَابِهِ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ أَنْ
يَأْخُذَ لَهُ وَلَهُمْ مِنَ الْمُخْتَارِ أَمَانًا، فَقَالَ: مَا كُنْتُ
لِأَفْعَلَ هَذَا وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُطَاعٌ بِالْحِجَازِ وَبِالْبَصْرَةِ.
فَقَالَ لَهُ: فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَذْهَبَ بِنَفْسِكَ مُخْتَفِيًا حَتَّى
تَلْحَقَ بِصَاحِبِكَ فَتُخْبِرَهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَبِمَا كَانَ
مِنَّا فِي نَصْرِهِ وَإِقَامَةِ دَوْلَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَ
ابْنُ مُطِيعٍ مُخْتَفِيًا حَتَّى دَخَلَ دَارَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ،
فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ أَخْذَ الْأُمَرَاءُ لَهُمْ أَمَانًا مِنْ أَمِيرِهِمُ
ابْنِ الْأَشْتَرِ فَأَمَّنَهُمْ، فَخَرَجُوا مِنَ الْقَصْرِ وَجَاءُوا إِلَى
الْمُخْتَارِ فَبَايَعُوهُ، وَجَاءَ الْمُخْتَارُ فَدَخْلَ الْقَصْرَ فَبَاتَ
فِيهِ، وَأَصْبَحَ أَشْرَافُ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَعَلَى بَابِ الْقَصْرِ،
فَخَرَجَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ النَّاسَ
خُطْبَةً بَلِيغَةً، ثُمَّ دَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَقَالَ: فَوَالَّذِي
جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا مَكْفُوفًا وَالْأَرْضَ فِجَاجًا سُبُلًا، مَا
بَايَعْتُمْ بَعْدَ بَيْعَةِ عَلِيٍّ أَهْدَى مِنْهَا، ثُمَّ نَزَلَ فَدَخَلَ
وَدَخَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ،
وَالطَّلَبِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ الْبَيْتِ، وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى
الْمُخْتَارِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ مُطِيعٍ فِي دَارِ أَبِي مُوسَى،
فَأَرَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ
قَوْلَهُ، حَتَّى كَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُرِيهِ أَنَّهُ لَا
يَسْمَعُ قَوْلَهُ. فَسَكَتَ الرَّجُلُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَعْثَ
الْمُخْتَارُ إِلَى ابْنِ مُطِيعٍ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ:
اذْهَبْ فَقَدْ أُخْبِرْتُ بِمَكَانِكَ، - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا قَبْلَ ذَلِكَ -
فَذَهَبَ ابْنُ مُطِيعٍ إِلَى الْبَصْرَةِ وَكْرِهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مَغْلُوبٌ. وَشَرَعَ الْمُخْتَارُ يَتَحَبَّبُ
إِلَى النَّاسِ بِحُسْنِ السِّيرَةِ وَوَجَدَ فِي بَيْتِ الْمَالِ تِسْعَةَ آلَافِ
أَلْفٍ، فَأَعْطَى الْجَيْشَ الَّذِينَ حَضَرُوا مَعَهُ الْقِتَالَ نَفَقَاتٍ
كَثِيرَةً. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى شُرْطَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ
الشَّاكِرِيَّ، وَقَرَّبَ أَشْرَافَ النَّاسِ فَكَانُوا جُلَسَاءَهُ، فَشَقَّ
ذَلِكَ عَلَى الْمَوَالِي الَّذِينَ قَامُوا بِنَصْرِهِ، وَقَالُوا لِأَبِي
عَمْرَةَ كِيسَانَ مَوْلَى عُرَيْنَةَ، وَكَانَ عَلَى حَرَسِهِ: قَدَّمَ وَاللَّهِ
أَبُو إِسْحَاقَ الْعَرَبَ وَتَرَكَنَا، فَأَنْهَى ذَلِكَ أَبُو عَمْرَةَ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلْ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، ثُمَّ قَالَ إِنَّا مِنَ
الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ [ السَّجْدَةِ: 22 ] فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَمْرَةَ:
أَبْشِرُوا فَإِنَّهُ سَيَقْتُلُهُمْ وَيُقَرِّبُكُمْ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ
وَسَكَتُوا.
ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ الْأُمَرَاءَ إِلَى النَّوَاحِي وَالْبُلْدَانِ
وَالْأَقَالِيمِ وَالرَّسَاتِيقِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَعَقَدَ
الْأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ. وَقَرَّرَ الْإِمَارَةَ وَالْوِلَايَاتِ، وَجَعَلَ
يَجْلِسُ لِلنَّاسِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَلَمَّا طَالَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ اسْتَقْضَى شُرَيْحًا،
فَتَكَلَّمَ فِي شُرَيْحٍ طَائِفَةٌ
مِنَ الشِّيعَةِ، وَقَالُوا إِنَّهُ شَهِدَ عَلَى حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَإِنَّهُ
لَمْ يُبَلِّغْ عَنْ هَانِئِ بْنِ عُرْوَةَ مَا أَرْسَلَهُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَزَلَهُ عَنِ الْقَضَاءِ، فَلَمَّا بَلَغَ شُرَيْحًا
ذَلِكَ تَمَارَضَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ، فَجَعَلَ الْمُخْتَارُ مَكَانَهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَجَعَلَ مَكَانَهُ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مَالِكٍ الطَّائِيَّ قَاضِيًا.
فَصْلٌ ( تَتَبُّعُ الْمُخْتَارِ لِقَتَلَةِ الْحُسَيْنِ )
ثُمَّ شَرَعَ الْمُخْتَارُ يَتَتَبَّعُ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ مِنْ شَرِيفٍ
وَوَضِيعٍ فَيَقْتُلُهُ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنْ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ كَانَ قَدْ جَهَّزَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ مِنْ دِمَشْقَ لِيَدْخُلَ
الْكُوفَةَ، فَإِنْ هُوَ ظَفِرَ بِهَا فَلْيُبِحْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَجَعَلَ
لَهُ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَسَارَ ابْنُ زِيَادٍ قَاصِدًا
الْكُوفَةَ فَلَقِيَ جَيْشَ التَّوَّابِينَ بِعَيْنِ الْوَرْدَةِ - كَمَا
ذَكَرْنَا - ثُمَّ سَارَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْجَزِيرَةِ فَوَجَدَ بِهَا
قَيْسَ عَيْلَانَ، وَهُوَ مِنْ أَنْصَارِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ كَانَ
مَرْوَانُ أَصَابَ مِنْهُمْ قَتْلَى كَثِيرَةً يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَهُمْ
أَلْبٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى ابْنِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِهِ، فَتَعَوَّقَ
عَنِ الْمَسِيرِ سَنَةً وَهُوَ مُحَاصِرٌ قَيْسَ عَيْلَانَ بِالْجَزِيرَةِ، ثُمَّ
وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ، فَانْحَازَ نَائِبُهَا عَنْهُ إِلَى تَكْرِيتَ،
وَكَتَبَ
إِلَى الْمُخْتَارِ يُعْلِمُهُ
بِذَلِكَ، فَنَدَبَ الْمُخْتَارُ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ فِي ثَلَاثَةِ آلَافٍ
اخْتَارَهَا، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَأُمِدُّكَ بِالرِّجَالِ بَعْدَ الرِّجَالِ. فَقَالَ
لَهُ لَا تُمِدَّنِي إِلَّا بِالدُّعَاءِ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ إِلَى
ظَاهِرِ الْكُوفَةِ فَوَدَّعَهُ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ لَهُ: لِيَكُنْ خَبَرُكَ
فِي كُلِّ يَوْمٍ عِنْدِي، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ فَنَاجِزْهُمْ، وَلَا
تُؤَخِّرْ فُرْصَةً.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَخْرَجِهِمْ مِنَ الْكُوفَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ جَهَّزَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مَعَ رَبِيعَةَ بْنِ
مُخَارِقٍ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَالْأُخْرَى مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْلَةَ
ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَقَالَ: أَيُّكُمْ سَبَقَ فَهُوَ الْأَمِيرُ، وَإِنْ
سَبَقْتُمَا مَعًا فَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ أَسَنُّكُمَا، فَسَبَقَ رَبِيعَةُ
بْنُ مُخَارِقٍ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ فَالْتَقَيَا فِي طَرَفِ أَرْضِ
الْمَوْصِلِ مِمَّا يَلِي الْكُوفَةَ، فَتَوَاقَفَا هُنَالِكَ، وَيَزِيدُ بْنُ
أَنَسٍ مَرِيضٌ مُدْنَفٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُحَرِّضُ قَوْمَهُ عَلَى الْجِهَادِ
وَيَدُورُ عَلَى الْأَرْبَاعِ وَهُوَ مَحْمُولٌ مُضْنًى رَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ،
وَهُوَ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: يَا شُرْطَةَ اللَّهِ، اصْبِرُوا تُؤَجَرُوا،
وَقَاتِلُوا عَدُوَّكُمْ تَظْفَرُوا، ثُمَّ نَزَلَ فَوُضِعَ لَهُ سَرِيرُهُ بَيْنَ
الصَّفَّيْنِ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: قَاتِلُوا عَنْ أَمِيرِكُمْ إِنْ شِئْتُمْ أَوْ
فِرُّوا عَنْهُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنْ هَلَكْتُ فَالْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ضَمْرَةَ الْعُذْرِيُّ رَأْسُ الْمَيْمَنَةِ، فَإِنْ هَلَكَ
فَسِعْرُ بْنُ أَبِي سِعْرٍ رَأْسُ الْمَيْسَرَةِ. وَكَانَ وَرْقَاءُ بْنُ عَازِبٍ
الْأَسَدِيُّ عَلَى الْخَيْلِ، وَهُوَ وَهَؤُلَاءِ، الثَّلَاثَةُ أُمَرَاءُ
الْأَرْبَاعِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي
يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ عِنْدَ إِضَاءَةِ الصُّبْحِ،
فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالشَّامِيُّونَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَاضْطَرَبَتْ كُلٌّ مِنَ
الْمَيْمَنَتَيْنِ وَالْمَيْسَرَتَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَ وَرْقَاءُ عَلَى الْخَيْلِ
فَهَزَمَهَا، وَفَرَّ الشَّامِيُّونَ، وَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ رَبِيعَةُ بْنُ
مُخَارِقٍ، وَاحْتَازَ جَيْشُ الْمُخْتَارِ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ، وَرَجَعَ
فُرَّارُهُمْ فَلَقَوُا الْأَمِيرَ الْآخَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمْلَةَ
فَقَالَ: مَا خَبَرُكُمْ ؟ فَأَخْبَرُوهُ فَرَجَعَ بِهِمْ وَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ
يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ فَانْتَهَى إِلَيْهِمْ عِشَاءً، فَبَاتَ النَّاسُ
مُتَحَاجِزِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَوَاقَفُوا عَلَى تَعْبِئَتِهِمْ وَذَلِكَ
يَوْمَ الْأَضْحَى مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا
فَهَزَمَ جَيْشُ الْمُخْتَارِ جَيْشَ الشَّامِيِّينَ أَيْضًا، وَقَتَلُوا
أَمِيرَهُمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمْلَةَ، وَاحْتَوَوْا عَلَى مَا فِي
مُعَسْكَرِهِمْ، وَأَسَرُوا مِنْهُمْ ثَلَاثَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَجَاءُوا بِهِمْ
إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ عَلَى آخَرِ رَمَقٍ، فَأَمَرَ بِضَرْبِ
أَعْنَاقِهِمْ.
وَمَاتَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ خَلِيفَتُهُ
وَرْقَاءُ بْنُ عَامِرٍ وَدَفَنَهُ، وَسَقَطَ فِي أَيْدِي أَصْحَابِهِ وَجَعَلُوا
يَتَسَلَّلُونَ رَاجِعِينَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَقَالَ لَهُمْ وَرْقَاءُ: يَا
قَوْمُ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ زِيَادٍ قَدْ
أَقْبَلَ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا مِنَ الشَّامِ، وَلَا أَرَى لَكُمْ بِهِمْ
طَاقَةً، وَقَدْ هَلَكَ أَمِيرُنَا وَتَفَرَّقَ عَنَّا طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ
مِنْ أَصْحَابِنَا، فَلَوِ انْصَرَفْنَا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِنَا وَنُظْهِرُ
أَنَّا إِنَّمَا انْصَرَفْنَا حُزْنًا مِنَّا عَلَى أَمِيرِنَا لَكَانَ خَيْرًا
لَنَا مِنْ أَنْ نَلْقَاهُمْ فَيَهْزِمُونَا، وَنَرْجِعَ مَغْلُوبِينَ. فَاتَّفَقَ
رَأْيُ الْأُمَرَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَرَجَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ.
فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمْ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَأَنَّهُمْ قَدْ كَرُّوا
رَاجِعِينَ، وَبَلَغَهُمْ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَنَسٍ قَدْ هَلَكَ، أَرْجَفَ أَهْلُ
الْكُوفَةِ بِالْمُخْتَارِ، وَقَالُوا: قُتِلَ يَزِيدُ بْنُ أَنَسٍ فِي
الْمَعْرَكَةِ
وَانْهَزَمَ جَيْشُهُ وَعَمَّا قَلِيلٍ يَقْدَمُ عَلَيْكُمُ ابْنُ زِيَادٍ فَيَسْتَأْصِلُكُمْ وَيَشْتَفُّ خَضْرَاءَكُمْ، ثُمَّ تَمَالَئُوا عَلَى الْخُرُوجِ عَلَى الْمُخْتَارِ وَقَالُوا: هُوَ كَذَّابٌ، وَاتَّفَقُوا عَلَى حَرْبِهِ وَقِتَالِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَقَالُوا: هُوَ كَذَّابٌ قَدْ قَدَّمَ مَوَالِيَنَا عَلَى أَشْرَافِنَا، وَزَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَقَوِّلٌ عَلَيْهِ. وَانْتَظَرُوا بِخُرُوجِهِمْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْكُوفَةِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ قَدْ عَيَّنَهُ الْمُخْتَارُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ لِلِقَاءِ ابْنِ زِيَادٍ فَلَمَّا خَرَجَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ اجْتَمَعَ أَشْرَافُ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ فِي جَيْشِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَغَيْرِهِمْ فِي دَارِ شَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ وَثَبُوا فَرَكِبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ مَعَ أَمِيرِهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْكُوفَةِ وَقَصَدُوا قَصْرَ الْإِمَارَةِ، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ عَمْرَو بْنَ تَوْبَةَ بَرِيدًا إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ سَرِيعًا، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى أُولَئِكَ يَقُولُ لَهُمْ: مَاذَا تَنْقِمُونَ ؟ فَإِنِّي أُجِيبُكُمْ إِلَى جَمِيعِ مَا تَطْلُبُونَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُثَبِّطَهُمْ عَنْ مُنَاهَضَتِهِ حَتَّى يَقْدَمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ وَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ لَا تُصَدِّقُونِي فِي أَمْرِ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَابْعَثُوا مِنْ جِهَتِكُمْ وَأَبْعَثُ مِنْ جِهَتِي مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَزَلْ يُطَاوِلُهُمْ حَتَّى قَدِمَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَانْقَسَمَ هُوَ وَالنَّاسُ فِرْقَتَيْنِ فَتَكَفَّلَ الْمُخْتَارُ بِأَهْلِ الْيَمَنِ، وَتَكَفُّلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ
بِمُضَرَ، وَعَلَيْهِمْ شَبَثُ بْنُ
رِبْعِيٍّ، وَكَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمُخْتَارِ، حَتَّى لَا يَتَوَلَّى ابْنُ
الْأَشْتَرِ النَّخَعِيُّ قِتَالَ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَيَحْنُوَ
عَلَيْهِمْ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ شَدِيدًا عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ اقْتَتَلَ النَّاسُ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَثُرَتِ
الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَرَتْ فُصُولٌ وَأَحْوَالٌ
حَرْبِيَّةٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهَا، وَقُتِلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ؛
مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ،
وَسَبْعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِهِ، وَقُتِلَ مِنْ مُضَرَ
بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَيُعَرَفُ هَذَا الْيَوْمُ بِجَبَّانَةِ السَّبِيعِ.
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ
سِتٍّ وَسِتِّينَ ثُمَّ كَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُخْتَارِ عَلَيْهِمْ، وَأَسَرَ
مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَعَرَضُوا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَالَ:
انْظُرُوا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَهِدَ مَقْتَلَ الْحُسَيْنِ فَاقْتُلُوهُ،
فَقُتِلَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَقَتَلَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ
مَنْ كَانَ يُؤْذِيهِمْ وَيُسِيءُ إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُخْتَارِ، ثُمَّ
أَطْلَقَ الْبَاقِينَ، وَهَرَبَ عَمْرُو بْنُ الْحَجَّاجِ الزُّبِيدِيُّ، وَكَانَ
مِمَّنْ شَهِدَ قَتْلَ الْحُسَيْنِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ مِنَ الْأَرْضِ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ شَمِرِ بْنِ ذِي الْجَوْشَنِ أَمِيرِ السَّرِيَّةِ الَّتِي
قَتَلَتْ حُسَيْنًا
وَهَرَبَ أَشْرَافُ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَكَانَ مِمَّنْ هَرَبَ
لِقَصْدِهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَبَعَثَ الْمُخْتَارُ فِي أَثَرِهِ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: زَرْبِيٌّ. فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ شَمِرٌ لِأَصْحَابِهِ: تَقَدَّمُوا وَذَرُونِي وَرَاءَكُمْ بِصِفَةِ أَنَّكُمْ قَدْ هَرَبْتُمْ وَتَرَكْتُمُونِي حَتَّى يَطْمَعَ فِيَّ هَذَا الْعِلْجُ. فَسَاقُوا وَتَأَخَّرَ شَمِرٌ فَأَدْرَكَهُ زَرْبِيٌّ فَعَطْفَ عَلَيْهِ شَمِرٌ، فَدَقَّ ظَهْرَهُ فَقَتَلَهُ، وَسَارَ شَمِرٌ وَتَرْكَهُ، وَكَتَبَ كِتَابًا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ يُنْذِرُهُ بِقُدُومِهِ عَلَيْهِ، وَوِفَادَتِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ فَرَّ مِنْ هَذِهِ الْوَقْعَةِ يَهْرُبُ إِلَى مُصْعَبٍ بِالْبَصْرَةِ، وَبَعَثَ شَمِرٌ الْكِتَابَ مَعَ عِلْجٍ مِنْ عُلُوجِ قَرْيَةٍ قَدْ نَزَلَ عِنْدَهَا يُقَالُ لَهَا الْكَلْتَانِيَّةُ عِنْدَ نَهْرٍ إِلَى جَانِبِ تَلٍّ هُنَاكَ، فَذَهَبَ ذَلِكَ الْعِلْجُ فَلَقِيَهُ عِلْجٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ: إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قَالَ: إِلَى مُصْعَبٍ. قَالَ مِمَّنْ ؟ قَالَ مِنْ شَمِرٍ. فَقَالَ: اذْهَبْ مَعِي إِلَى سَيِّدِي. وَإِذَا سَيِّدُهُ أَبُو عَمْرَةَ أَمِيرُ حَرَسِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ قَدْ رَكِبَ فِي طَلَبِ شَمِرٍ، فَدَلَّهُ الْعِلْجُ عَلَى مَكَانِهِ فَقَصَدَهُ أَبُو عَمْرَةَ، وَقَدْ أَشَارَ أَصْحَابُ شَمِرٍ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا كُلُّهُ فَرَقٌ مِنَ الْكَذَّابِ، وَاللَّهِ لَا أَرْتَحِلُ مِنْ هَاهُنَا إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى أَمْلَأَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ كَابَسَهُمْ أَبُو عَمْرَةَ فِي الْخَيْلِ فَأَعْجَلَهُمْ أَنْ يَرْكَبُوا أَوْ يَلْبَسُوا أَسْلِحَتَهُمْ، وَثَارَ إِلَيْهِمْ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ فَطَاعَنَهُمْ بِرُمْحِهِ وَهُوَ عُرْيَانُ، ثُمَّ دَخَلَ خَيْمَتَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَيْفًا وَهُوَ يَقُولُ:
نَبَّهْتُمُ لَيْثَ عَرِينٍ بَاسِلَا
جَهْمًا مُحَيَّاهُ يَدُقُّ الْكَاهِلَا لَمْ يُرَ يَوْمًا عَنْ عَدُوٍّ نَاكِلَا
إِلَّا كَذَا مُقَاتِلًا أَوْ قَاتِلَا يُبْرِحْهُمُ ضَرْبًا وَيُرْوِي
الْعَامِلَا
ثُمَّ مَا زَالَ يُنَاضِلُ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمَّا سَمِعَ
أَصْحَابُهُ، وَهُمْ مُنْهَزِمُونَ صَوْتَ التَّكْبِيرِ وَقَوْلَ أَصْحَابِ
الْمُخْتَارِ: اللَّهُ أَكْبَرُ قُتِلَ الْخَبِيثُ. عَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: وَلَمَّا خَرَجَ
الْمُخْتَارُ مِنْ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ، وَأَقْبَلَ إِلَى الْقَصْرِ - يَعْنِي
مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْقِتَالِ - نَادَاهُ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ بِأَعْلَى
صَوْتِهِ، وَكَانَ فِي الْأَسْرَى:
امْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ يَا خَيْرَ مَعَدْ وَخَيْرَ مَنْ حَلَّ بِشِحْرٍ
وَالْجَنَدْ
وَخَيْرَ مَنْ لَبَّى وَصَامَ وَسَجَدْ
قَالَ: فَبَعَثَهُ إِلَى السِّجْنِ، فَاعْتَقَلَهُ لَيْلَةً، ثُمَّ أَطْلَقُهُ
مِنَ الْغَدِ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْمُخْتَارِ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَلَا أَخْبِرْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنَّا
نَزَوْنَا نَزْوَةً كَانَتْ عَلَيْنَا
خَرَجْنَا لَا نَرَى الضُّعَفَاءَ شَيْئًا وَكَانَ خُرُوجُنَا بَطَرًا وَحَيْنًا
نَرَاهُمْ فِي مَصَافِهِمُ قَلِيلًا وَهُمْ مِثْلُ الدَّبَا حِينَ الْتَقَيْنَا
بَرَزْنَا إِذْ رَأَيْنَاهُمْ فَلَمَّا رَأَيْنَا الْقَوْمَ قَدْ بَرَزُوا
إِلَيْنَا
رَأَيْنَا مِنْهُمُ ضَرْبًا وَطَحْنًا وَطَعْنًا صَائِبًا حَتَّى انْثَنَيْنَا
نُصِرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ كُلَّ يَوْمٍ بِكُلِّ كَتِيبَةٍ تَنْعَى حُسَيْنَا
كَنَصْرِ مُحَمَّدٍ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَيَوْمَ الشِّعْبِ إِذْ لَاقَى حُنَيْنَا
فَأَسْجِحْ إِذْ مَلَكْتَ فَلَوْ مَلَكْنَا لَجُرْنَا فِي الْحُكُومَةِ
وَاعْتَدَيْنَا
تَقَبَّلْ تَوْبَةً مِنِّي فَإِنِّي سَأَشْكُرُ إِذْ جَعَلْتَ النَّقْدَ دَيْنَا
وَجَعَلَ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ يَحْلِفُ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَائِكَةَ
تَقَاتِلُ عَلَى الْخُيُولِ الْبُلْقِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَأَنَّهُ
لَمْ يَأْسِرْهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةِ، فَأَمَرَهُ
الْمُخْتَارُ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ فَيُخْبِرُ النَّاسَ بِذَلِكَ. فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ
فَأَخْبَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا نَزَلَ خَلَا بِهِ الْمُخْتَارُ، فَقَالَ
لَهُ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّكَ لَمْ تَرَ الْمَلَائِكَةَ، وَإِنَّمَا
أَرَدْتَ
بِقَوْلِكَ هَذَا أَنِّي لَا
أَقْتُلُكَ، وَلَسْتُ أَقْتُلُكَ فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ لَا تُفْسِدْ عَلَيَّ
أَصْحَابِي. فَذَهَبَ سُرَاقَةُ إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ يَقُولُ:
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ أَنِّي رَأَيْتُ الْبُلْقَ دُهْمًا مُصْمِتَاتِ
كَفَرْتُ بِوَحْيِكُمْ وَجَعَلْتُ نَذْرًا عَلَيَّ قِتَالَكُمْ حَتَّى الْمَمَاتِ
رَأَتْ عَيْنَايَ مَا لَمْ تُبْصِرَاهُ كِلَانَا عَالِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ
إِذَا قَالُوا أَقُولُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ وَإِنْ خَرَجُوا لَبِسْتُ لَهُمْ
أَدَاتِي
قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ الْمُخْتَارُ أَصْحَابَهُ فَحَرَّضَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ
تِلْكَ عَلَى تَتَبُّعِ مَنْ قَتَلَ الْحُسَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ
الْمُقِيمِينَ بِهَا، فَقَالَ: مَا دِينُنَا تَرْكُ قَوْمٍ قَتَلُوا حُسَيْنًا
يَمْشُونَ فِي الدُّنْيَا أَحْيَاءً آمِنِينَ، بِئْسَ نَاصِرُ آلِ مُحَمَّدٍ،
إِنِّي إِذًا كَذَّابٌ كَمَا سَمَّيْتُمُونِي أَنْتُمْ، فَإِنِّي بِاللَّهِ
أَسْتَعِينُ عَلَيْهِمْ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي سَيْفًا
أَضْرِبُهُمْ، وَرُمْحًا أَطْعَنُهُمْ، وَطَالِبَ وَتْرِهِمْ، وَالْقَائِمَ
بِحَقِّهِمْ، وَإِنَّهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ
قَتَلَهُمْ، وَأَنْ يُذِلَّ مَنْ جَهِلَ حَقَّهُمْ، فَسَمُّوهُمْ ثُمَّ
اتْبَعُوهُمْ حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ لِيَ الطَّعَامُ
وَالشَّرَابُ حَتَّى أُطَهِّرَ الْأَرْضَ
مِنْهُمْ، وَأَنْفِي مَنْ فِي
الْمِصْرِ مِنْهُمْ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُ مَنْ فِي الْكُوفَةِ مِنْهُمْ
وَكَانُوا يَأْتُونَ بِهِمْ حَتَّى يُوقَفُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَأْمُرُ
بِقَتْلِهِمْ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْقِتْلَاتِ مِمَّا يُنَاسِبُ مَا فَعَلُوا،
وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَ أَطْرَافَهُ
وَتَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْمَى بِالنِّبَالِ حَتَّى يَمُوتَ،
فَأَتَوْهُ بِمَالِكِ بْنِ بَشِيرٍ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: أَنْتَ الَّذِي
نَزَعْتَ بُرْنُسَ الْحُسَيْنِ عَنْهُ ؟ فَقَالَ: خَرَجْنَا وَنَحْنُ كَارِهُونَ،
فَامْنُنْ عَلَيْنَا. فَقَالَ: اقْطَعُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. فَفَعَلُوا بِهِ
ذَلِكَ، ثُمَّ تَرَكُوهُ يَضْطَرِبُ حَتَّى مَاتَ، وَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أَسَيْدٍ الْجُهَنِيَّ وَغَيْرَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ.
مَقْتَلُ خَوْلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ الَّذِي احْتَزَّ رَأْسَ
الْحُسَيْنِ
بَعْثَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ أَبَا عَمْرَةَ صَاحِبَ حَرَسِهِ، فَكَبَسَ
بَيْتَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِمُ امْرَأَتُهُ، فَسَأَلُوهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ:
لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ. وَأَشَارَتْ بِيَدِهَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ
مُخْتَفٍ فِيهِ، وَكَانَتْ تُبْغِضُهُ مِنْ لَيْلَةِ قَدِمَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ
مَعَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَتْ تَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْمُهَا الْعَيُوفُ
بِنْتُ مَالِكِ بْنِ نَهَارِ بْنِ عَقْرَبٍ الْحَضْرَمِيِّ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ
فَوَجَدُوهُ قَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ قَوْصَرَّةً، فَحَمَلُوهُ إِلَى
الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِ وَأَنْ يُحَرَّقَ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَبَعْثَ الْمُخْتَارُ إِلَى حَكِيمِ
بْنِ فُضَيْلٍ السِّنْبِسِيِّ - وَكَانَ قَدْ سَلَبَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ - فَأُخِذَ، فَذَهَبَ أَهْلُهُ
إِلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَرَكِبَ لِيَشْفَعَ فِيهِ عِنْدَ الْمُخْتَارِ،
فَخَشِيَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَخَذُوهُ أَنْ يَسْبِقَهُمْ عَدِيٌّ إِلَى
الْمُخْتَارِ فَيُشَفِّعَهُ فِيهِ، فَقَتَلُوا حَكِيمًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى
الْمُخْتَارِ، فَدَخَلَ عَدِيٌّ فَشَفَعَ فِيهِ فَشَفَّعَهُ فِيهِ، فَلَمَّا
رَجَعُوا وَقَدْ قَتَلُوهُ شَتَمَهُمْ عَدِيٌّ، وَقَامَ مُتَغَضِّبًا عَلَيْهِمْ،
وَقَدْ تَقَلَّدَ مِنَّةَ الْمُخْتَارِ، وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى زَيْدِ بْنِ
رُقَادٍ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ،
فَلَمَّا أَحَاطَ الطَّلَبُ بِدَارِهِ خَرَجَ فَقَاتَلَهُمْ فَرَمَوْهُ
بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ حَتَّى سَقَطَ، ثُمَّ حَرَّقُوهُ وَبِهِ رَمَقُ
الْحَيَاةِ، وَطَلَبَ الْمُخْتَارُ سِنَانَ بْنَ أَنَسٍ، الَّذِي كَانَ يَدَّعِي
أَنَّهُ قَتَلَ الْحُسَيْنَ، فَوَجَدُوهُ قَدْ هَرَبَ إِلَى الْبَصْرَةِ أَوِ
الْجَزِيرَةِ فَهُدِمَتْ دَارُهُ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ
مِمَّنْ هَرَبَ إِلَى مُصْعَبٍ فَأَمَرَ الْمُخْتَارُ بِهَدْمِ دَارِهِ، وَأَنْ
يُبْنَى بِهَا دَارُ حَجَرِ بْنِ عَدِيٍّ الَّتِي كَانَ زِيَادٌ هَدَمَهَا.
مَقْتَلُ عُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِينَ
قَتَلُوا الْحُسَيْنَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ ;
إِذْ جَاءَ غُلَامٌ لَهُ، وَدَمُهُ
يَسِيلُ عَلَى عَقِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا ؟
فَقَالَ: ابْنُكَ عُمَرُ. فَقَالَ سَعْدُ: اللَّهُمَّ اقْتُلْهُ وَأَسِلْ دَمَهُ.
وَكَانَ سَعْدٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ الْمُخْتَارُ عَلَى
الْكُوفَةِ اسْتَجَارَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْدَةَ بْنِ
هُبَيْرَةَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِلْمُخْتَارِ مِنْ قَرَابَتِهِ مِنْ عَلِيٍّ،
فَأَتَى الْمُخْتَارَ فَأَخْذَ مِنْهُ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ أَمَانًا ;
مَضْمُونُهُ أَنَّهُ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ مَا أَطَاعَ
وَلَزِمَ رَحْلَهُ وَمِصْرَهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ حَدَثًا، وَأَرَادَ الْمُخْتَارُ
مَا لَمْ يَأْتِ الْخَلَاءَ فَيَبُولَ أَوْ يَغُوطَ، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ بْنُ
سَعْدٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ قَتْلَهُ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ لَيْلًا
يُرِيدُ السَّفَرَ نَحْوَ مُصْعَبٍ أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَنَمَى
لِلْمُخْتَارِ بَعْضُ مَوَالِيهِ ذَلِكَ. فَقَالَ الْمُخْتَارُ: وَأَيُّ حَدَثٍ
أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ؟ وَقِيلَ: إِنَّ مَوْلَاهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ:
تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِكَ وَرَحْلِكَ ؟ ارْجِعْ. فَرَجَعَ. وَلَمَّا أَصْبَحَ
بَعْثَ إِلَى الْمُخْتَارِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى أَمَانِكَ ؟
وَقِيلَ: إِنَّهُ أَتَى الْمُخْتَارَ يَتَعَرَّفُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ
الْمُخْتَارُ: اجْلِسْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرْسَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْدَةَ
إِلَى الْمُخْتَارِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ أَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى أَمَانِكَ لَهُ ؟
فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ: اجْلِسْ. فَلَمَّا جَلَسَ قَالَ الْمُخْتَارُ:
لِصَاحِبِ حَرَسِهِ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِرَأْسِهِ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ،
وَأَتَاهُ بِرَأْسِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْمُخْتَارَ قَالَ لَيْلَةً: لَأَقْتُلَنَّ غَدًا رَجُلًا
عَظِيمَ الْقَدَمَيْنِ، غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفَ الْحَاجِبَيْنِ، يُسَرُّ
بِقَتْلِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَكَانَ الْهَيْثَمُ
بْنُ الْأَسْوَدِ حَاضِرًا فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ أَرَادَ عُمَرَ بْنَ
سَعْدٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُهُ
الْعُرْيَانُ فَأَنْذَرَهُ، فَقَالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا بَعْدَمَا أَعْطَانِي مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ ؟ وَكَانَ الْمُخْتَارُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ أَحْسَنَ السِّيرَةَ إِلَى أَهْلِهَا أَوَّلًا، وَكَتَبَ لِعُمَرَ بْنِ سَعْدٍ كِتَابَ أَمَانٍ إِلَّا أَنْ يُحْدِثَ حَدَثًا. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ يَقُولُ: إِنَّمَا أَرَادَ الْمُخْتَارُ إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ الْكَنِيفَ فَيُحَدِثَ فِيهِ. ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ بْنَ سَعْدٍ قَلِقَ أَيْضًا، ثُمَّ جَعَلَ يَتَنَقَّلُ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى مَحَلَّةٍ، ثُمَّ صَارَ أَمْرُهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَقَدْ بَلَغَ الْمُخْتَارَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، فَقَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ، إِنَّ فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةً تَرُدُّهُ لَوْ جَهِدَ أَنْ يَنْطَلِقَ مَا اسْتَطَاعَ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَبَعْثَ إِلَيْهِ أَبَا عَمْرَةَ، فَدَخْلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ، فَقَامَ عُمَرُ، فَعَثَرَ فِي جُبَّتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو عَمْرَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ، وَجَاءَ بِرَأْسِهِ فِي أَسْفَلِ قَبَائِهِ حَتَّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِابْنِهِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ - وَكَانَ جَالِسًا عِنْدَ الْمُخْتَارِ -: أَتَعْرِفُ هَذَا الرَّأْسَ ؟ فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: نَعَمْ، وَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَوُضِعَ رَأْسُهُ مَعَ رَأْسِ أَبِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْمُخْتَارُ هَذَا بِالْحُسَيْنِ، وَهَذَا بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَكْبَرِ، وَلَا سَوَاءَ، وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُ بِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ قُرَيْشٍ مَا وَفُّوا أُنْمُلَةً مِنْ أَنَامِلِهِ. ثُمَّ بَعَثَ الْمُخْتَارُ بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَكَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا فِي ذَلِكَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
لِلْمَهْدِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ
سَلَامٌ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ
الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي نِقْمَةً
عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَهُمْ بَيْنَ قَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَطَرِيدٍ وَشَرِيدٍ،
فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَتَلَ قَاتِلَكُمْ وَنَصَرَ مُؤَازِرَكُمْ، وَقَدْ
بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِرَأْسِ عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ وَابْنِهِ، وَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ
شَرَكَ فِي دَمِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ كُلَّ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ،
وَلَنْ يُعْجِزَ اللَّهَ مَنْ بَقِيَ، وَلَسْتُ بِمُنْحَجِمٍ عَنْهُمْ حَتَّى لَا
يَبْلُغَنِي أَنَّ عَلَى أَدِيمِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ إِرْمِيًّا فَاكْتُبْ إِلَيَّ
أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ بِرَأْيِكَ أَتَّبِعُهُ وَأَكُنْ عَلَيْهِ، وَالسَّلَامُ
عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَهْدِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
وَلَمْ يَذْكُرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُحَمَّدًا ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَدَّ
جَوَابَهُ، مَعَ أَنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَدْ تَقَصَّى هَذَا الْفَصْلَ وَأَطَالَ
شَرْحَهُ، وَيَظْهَرُ مِنْ غُبُونِ كَلَامِهِ وَنِظَامِهِ قُوَّةُ وَجْدِهِ بِهِ
وَغَرَامِهِ، وَلِهَذَا تَوَسَّعَ فِي إِيرَادِهِ بِرِوَايَاتِ أَبِي مِخْنَفٍ
لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَرْوِيهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي بَابِ
التَّشَيُّعِ، وَهَذَا الْمَقَامُ لِلشِّيعَةِ فِيهِ غَرَامٌ وَأَيُّ غَرَامٍ،
إِذْ فِيهِ الْأَخْذُ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِهِ مِنْ قَتَلَتِهِمْ
وَالِانْتِقَامُ مِنْهُمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ قَتَلَتِهِ كَانَ
مُتَحَتِّمًا، وَالْمُبَادِرَةُ إِلَيْهِ كَانَ مَغْنَمًا، وَلَكِنْ إِنَّمَا
قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدِ الْمُخْتَارِ الْكَذَّابِ الَّذِي صَارَ بِدَعْوَاهُ
إِتْيَانَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:إِنَّ اللَّهَ لِيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ
الْفَاجِرِ وَقَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مَا يَكْتُبُهُ
الْكَاتِبُونَ: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبْلَى
بِظَالِمِ
وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ الْمُخْتَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ
وَافْتِرَائِهِ، وَادِّعَائِهِ نُصْرَةَ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُوَ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ مُتَسَتِّرٌ بِذَلِكَ لِيَجْمَعَ عَلَيْهِ رَعَاعًا مِنَ الشِّيعَةِ
الَّذِينَ بِالْكُوفَةِ ; لِيُقِيمَ لَهُمْ دَوْلَةً وَيَصُولَ بِهِمْ وَيَجُولَ
عَلَى مُخَالِفِيهِ صَوْلَةً.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنِ انْتَقَمَ مِنْهُ، وَهَذَا
هُوَ الْكَذَّابُ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي
ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ فَهَذَا هُوَ الْكَذَّابُ، وَهُوَ يُظْهِرُ
التَّشَيُّعَ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ
وَقَدْ وُلِّيَ الْكُوفَةَ مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا
سَيَأْتِي، وَكَانَ الْحَجَّاجُ عَكْسَ هَذَا؛ كَانَ نَاصِبِيًّا جَلْدًا ظَالِمًا
غَاشِمًا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَبَقَةِ هَذَا، يُتَّهَمُ عَلَى دِينِ
الْإِسْلَامِ، وَدَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَأَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ
الْعَلِيِّ الْعَلَّامِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ الْمُخْتَارُ الْمُثَنَّى بْنَ
مُخَرِّبَةَ الْعَبْدِيَّ إِلَى الْبَصْرَةِ يَدْعُو إِلَيْهِ مَنِ اسْتَطَاعَ
مَنْ أَهْلِهَا، فَدَخَلَهَا وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ
فِيهِ قَوْمُهُ فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْمُخْتَارِ ثُمَّ أَتَى مَدِينَةَ
الرِّزْقِ، فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُبَاعُ - وَهُوَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ قَبْلَ
أَنْ يُعْزَلَ
بِمُصْعَبٍ - جَيْشًا مَعَ عَبَّادِ بْنِ
الْحُصَيْنِ أَمِيرِ الشُّرْطَةِ، وَقَيْسِ بْنِ الْهَيْثَمِ فَقَاتَلُوهُ
وَأَخَذُوا مِنْهُ الْمَدِينَةَ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَكَانَ قَدْ قَامَ
بِنُصْرَتِهِمْ بَنُو عَبْدِ الْقَيْسِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشَ،
فَبَعَثُوا إِلَيْهِ فَأَرْسَلَ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ، وَ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيَّ لِيُصْلِحَا بَيْنَ النَّاسِ وَسَاعَدَهُمَا مَالِكُ
بْنُ مِسْمَعٍ، فَانْحَجَزَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَرَجَعَ إِلَى
الْمُخْتَارِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَغْلُولًا مَغْلُوبًا
مَسْلُوبًا، وَأَخْبَرَ الْمُخْتَارَ بِمَا وَقَعَ مِنَ الصُّلْحِ عَلَى يَدَيِ
الْأَحْنَفِ وَغَيْرِهِ مِنْ أُولَئِكَ الْأُمَرَاءِ، وَطَمِعَ الْمُخْتَارُ
فِيهِمْ، وَكَاتَبَهُمْ فِي أَنْ يَدْخُلُوا مَعَهُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنَ
الْأَمْرِ.
وَكَانَ كِتَابُهُ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ: مِنَ الْمُخْتَارِ إِلَى
الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ وَمَنْ قِبَلَهُ، فَسِلْمٌ أَنْتُمْ، أَمَّا بَعْدُ:
فَوَيْلُ أُمِّ رَبِيعَةَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّ الْأَحْنَفَ يُورِدُ قَوْمَهُ
سَقَرَ، حَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ لَهُمُ الصَّدَرَ، وَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ
مَا قَدْ خُطَّ فِي الْقَدَرِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُسَمُّونِي كَذَّابًا،
وَقَدْ كُذِّبَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ،
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنْ حِبَّانِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُجَالِدٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ فَقَعَدْتُ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ:
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَقَالَ: أَنْتُمْ مَوَالٍ لَنَا. قُلْتُ:
وَكَيْفَ ؟ قَالَ: قَدْ
أَنْقَذْنَاكُمْ مِنْ أَيْدِي
عَبِيدِكُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ. قُلْتُ: تَدْرِي مَا قَالَ شَيْخٌ مِنْ
هَمْدَانَ فِينَا وَفِيكُمْ ؟ فَقَالَ الْأَحْنَفُ: وَمَا قَالَ ؟ قُلْتُ: قَالَ:
أَفَخَرْتُمْ أَنْ قَتَلْتُمْ أَعَبُدًا وَهَزَمْتُمْ مَرَّةً آلَ عَزَلْ
فَإِذَا فَاخَرْتُمُونَا فَاذْكُرُوا مَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ الْجَمَلْ
بَيْنَ شَيْخٍ خَاضِبٍ عُثْنُونَهُ وَفَتًى أَبْيَضَ وَضَّاحًا رِفَلْ
جَاءَنَا يَهْدِجُ فِي سَابِغَةٍ فَذَبَحْنَاهُ ضُحًى ذَبْحَ الْحَمَلْ
وَعَفَوْنَا فَنَسِيتُمْ عَفْوَنَا وَكَفَرْتُمْ نِعْمَةَ اللَّهِ الْأَجَلْ
وَقَتَلْتُمْ بِحُسَيْنٍ مِنْهُمُ بَدَلًا مِنْ قَوْمِكُمْ شَرَّ بَدَلْ
قَالَ: فَغَضِبَ الْأَحْنَفُ، وَقَالَ: يَا غُلَامُ، هَاتِ الصَّحِيفَةَ، فَأُتِيَ
بِصَحِيفَةٍ فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنَ الْمُخْتَارِ
بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَمَّا بَعْدُ: فَوَيْلُ أُمِّ
رَبِيعَةَ مِنْ مُضَرَ، فَإِنَّ الْأَحْنَفَ يُورِدُ قَوْمَهُ سَقَرَ، حَيْثُ لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى الصَّدَرِ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونِي، فَإِنْ
كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي، وَلَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْهُمْ،
ثُمَّ قَالَ الْأَحْنَفُ: هَذَا مِنَّا أَوْ مِنْكُمْ.
فَصْلٌ ( مُصَانَعَةُ الْمُخْتَارِ
ابْنَ الزُّبَيْرِ يُرِيدُ خِدَاعَهُ )
وَلَمَّا عَلِمَ الْمُخْتَارُ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَا يَنَامُ عَنْهُمْ،
وَأَنَّ جَيْشَ الشَّامِ مِنْ قِبَلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
يَقْصِدُونَهُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ لَا
يُرَامُ، شَرَعَ يُصَانِعُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، يُرِيدُ خِدَاعَهُ وَالْمَكْرَ
بِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنِّي كُنْتُ بَايَعْتُكَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
وَالنُّصْحِ لَكَ، فَلَمَّا رَأَيْتُكَ قَدْ أَعْرَضْتَ عَنِّي تَبَاعَدْتُ
عَنْكَ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى مَا أَعْهَدُ مِنْكَ فَأَنَا عَلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ لَكَ. وَالْمُخْتَارُ يُخْفِي هَذَا كُلَّ الْإِخْفَاءِ عَنِ
الشِّيعَةِ، فَإِذَا ذَكَرَ لَهُ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَظْهَرَ لَهُمْ
أَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُهُ إِلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ أَصَادِقٌ أَمْ كَاذِبٌ ؟ فَدَعَا عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، فَقَالَ لَهُ:
تَجَهَّزْ إِلَى الْكُوفَةِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ: وَكَيْفَ وَبِهَا
الْمُخْتَارُ ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَامِعٌ لَنَا مُطِيعٌ،
وَأَعْطَاهُ قَرِيبًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا يَتَجَهَّزُ بِهَا، فَسَارَ،
فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ لَقِيَهُ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ مِنْ
جِهَةِ الْمُخْتَارِ فِي خَمْسِمِائَةِ فَارِسٍ مُلْبِسَةٍ، وَمَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا
مِنَ الْمَالِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُخْتَارُ فَقَالَ لَهُ: أَعْطِهِ
الْمَالَ، فَإِنْ هُوَ انْصَرَفَ وَإِلَّا فَأَرِهِ الرِّجَالَ فَقَاتِلْهُ حَتَّى
يَنْصَرِفَ، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجِدَّ قَبَضَ
الْمَالَ وَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاجْتَمَعَ هُوَ وَابْنُ مُطِيعٍ بِهَا
عِنْدَ أَمِيرِهَا الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبَى رَبِيعَةَ وَذَلِكَ
قَبْلَ وُثُوبِ الْمُثَنَّى بْنِ مُخَرِّبَةَ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَقَبْلَ
وُصُولِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا.
وَبَعْثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ابْنَ عَمِّهِ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ الْحَكَمِ فِي جَيْشٍ إِلَى وَادِي الْقُرَى ; لِيَأْخُذُوا
الْمَدِينَةَ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَتَبَ الْمُخْتَارُ إِلَى
ابْنِ الزُّبَيْرِ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ
أَمُدَّكَ بِمَدَدٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمُخْتَارُ خَدِيعَتَهُ وَمُكَايَدَتَهُ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِنْ كُنْتَ عَلَى طَاعَتِي فَلَسْتُ
أَكْرَهُ ذَلِكَ، فَابْعَثْ بِجُنْدٍ إِلَى وَادِي الْقُرَى لِيَكُونُوا مَدَدًا
لَنَا عَلَى قِتَالِ الشَّامِيِّينَ فَجَهَّزَ الْمُخْتَارُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ
عَلَيْهِمْ شُرَحْبِيلُ بْنُ وَرْسٍ الْهَمْدَانِيُّ لَيْسَ فِيهِمْ مِنَ
الْعَرَبِ إِلَّا سَبْعُمِائَةٍ، وَقَالَ لَهُ: سِرْ حَتَّى تَدْخُلَ الْمَدِينَةَ
فَإِنْ دَخَلَهَا فَاكْتُبْ إِلَيَّ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي، وَإِنَّمَا
يُرِيدُ أَخْذَ الْمَدِينَةِ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْدَ
ذَلِكَ إِلَى مَكَّةَ لِيُحَاصِرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِهَا، وَخَشِيَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ بَعَثَ ذَلِكَ الْجَيْشَ مَكْرًا فَبَعَثَ
الْعَبَّاسَ بْنَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ فِي أَلْفَيْنِ وَأَمْرَهُ
أَنْ يَسْتَعِينَ بِالْأَعْرَابِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ فِي
طَاعَتِي وَإِلَّا فَكَايِدُوهُمْ حَتَّى نُهْلِكَهُمْ.
فَأَقْبَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ حَتَّى لَقِيَ ابْنَ وَرْسٍ بِالرَّقِيمِ
وَقَدْ تَعَبَّى ابْنُ وَرْسٍ فِي جَيْشِهِ، فَاجْتَمَعَا عَلَى مَاءٍ هُنَالِكَ
فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَلَسْتُمْ فِي طَاعَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ؟ فَقَالَ
بَلَى. قَالَ فَإِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ نَذْهَبَ إِلَى وَادِي الْقُرَى
فَنُقَاتِلُ مَنْ بِهِ مِنَ الشَّامِيِّينَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ وَرْسٍ: فَإِنِّي
لَمْ أُومَرْ بِطَاعَتِكَ، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَدْخُلَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ
أَكْتُبَ إِلَى صَاحِبِي فَيَأْمُرَنِي بِأَمْرِهِ. فَفَهِمَ عَبَّاسٌ مَغْزَاهُ،
وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ أَنَّهُ فَطِنَ لِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: رَأْيُكَ أَفْضَلُ،
فَاعْمَلْ مَا بَدَا لَكَ، ثُمَّ نَهَضَ الْعَبَّاسُ مِنْ عِنْدِهِ، وَبَعَثَ
إِلَيْهِمُ الْجُزُرَ وَالْغَنَمَ وَالدَّقِيقَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدَهُمْ حَاجَةٌ
أَكِيدَةٌ إِلَى
ذَلِكَ، وَجُوعٌ كَثِيرٌ فَجَعَلُوا
يَذْبَحُونَ وَيَطْبُخُونَ وَيَخْتَبِزُونَ وَيَأْكُلُونَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ،
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَهُمْ عَبَّاسُ بْنُ سَهْلٍ فَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ
وَطَائِفَةً مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا
فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ وَرَجَعَ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ إِلَى الْمُخْتَارِ وَإِلَى
بِلَادِهِمْ خَائِبِينَ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي يُوسُفُ أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ سَهْلٍ انْتَهَى
إِلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا ابْنُ سَهْلٍ فَارِسٌ غَيْرُ وَكَلْ أَرْوَعُ مِقْدَامٌ إِذَا الْكَبْشُ
نَكَلْ وَأَعْتَلِي رَأْسَ الطِّرِمَّاحِ الْبَطَلْ
بِالسَّيْفِ يَوْمَ الرَّوْعِ حَتَّى يُنْخَزَلْ
فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُهُمُ الْمُخْتَارَ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا فَقَالَ:
إِنَّ الْفُجَّارَ الْأَشْرَارَ قَتَلُوا الْأَبْرَارَ الْأَخْيَارَ، أَلَا إِنَّهُ
كَانَ أَمْرًا مَأْتِيًّا وَقَضَاءً مَقْضِيًّا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ
ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ صَالِحِ بْنِ مَسْعُودٍ الْخَثْعَمِيِّ كِتَابًا
يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ بَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ جَيْشًا لِنُصْرَتِهِ فَغَدَرَ
بِهِمْ جَيْشُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ أَبْعَثَ جَيْشًا آخَرَ
إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَبْعَثُ مِنْ قِبَلِكَ رُسُلًا إِلَيْهِمْ فَافْعَلْ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَحَبَّ
الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَيَّ مَا أُطِيعُ اللَّهَ فِيهِ، فَأَطِعِ اللَّهَ فِيمَا
أَسْرَرْتَ وَأَعْلَنْتَ، وَاعْلَمْ أَنِّي لَوْ أَرَدْتُ الْقِتَالَ لَوَجَدْتُ
النَّاسَ إِلَيَّ سِرَاعًا، وَالْأَعْوَانَ لِي كَثِيرَةً، وَلَكِنِّي
أَعْتَزِلُهُمْ وَأَصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ
الْحَاكِمِينَ، وَقَالَ لِصَالِحِ بْنِ مَسْعُودٍ: قُلْ لِلْمُخْتَارِ فَلْيَتَّقِ
اللَّهَ وَلْيَكْفُفْ عَنِ الدِّمَاءِ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ كِتَابُ
مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
قَالَ: إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ بِجَمْعِ
الْبِرِّ وَالْيُسْرِ، وَبِطَرْحِ الْكُفْرِ وَالْغَدْرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْمَدَائِنِيِّ، وَ أَبَى مِخْنَفٍ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَمَدَ إِلَى ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَسَبْعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَحَبَسَهُمْ حَتَّى
يُبَايِعُوهُ، فَكَرِهُوا أَنْ يُبَايِعُوا إِلَّا مَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ
الْأُمَّةُ فَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَاعْتَقَلَهُمْ بِزَمْزَمَ،
فَكَتَبُوا إِلَى الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ يَسْتَصْرِخُونَهُ
وَيَسْتَنْصِرُونَهُ وَيَقُولُونَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَدْ تَوَعَّدَنَا
بِالْقَتْلِ وَالْحَرِيقِ فَلَا تَخْذُلُونَا كَمَا خَذَلْتُمُ الْحُسَيْنَ
وَأَهْلَ بَيْتِهِ. فَجَمَعَ الْمُخْتَارُ الشِّيعَةَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ
الْكِتَابَ وَقَالَ: هَذَا كِتَابُ الْمَهْدِيِّ وَصَرِيخُ أَهْلِ الْبَيْتِ، قَدْ
أَصْبَحُوا مَحْصُورِينَ يَنْتَظِرُونَ الْقَتْلَ وَالتَّحْرِيقَ. وَقَالَ: لَسْتُ
أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ لَمْ أَنْصُرْهُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، وَإِنْ لَمْ
أُسَرِّبْ إِلَيْهِمُ الْخَيْلَ كَالسَّيْلِ يَتْلُوهُ السَّيْلُ، حَتَّى يَحِلَّ
بِابْنِ الْكَاهِلِيَّةِ الْوَيْلُ. ثُمَّ وَجَّهَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
الْجَدَلِيَّ فِي سَبْعِينَ رَاكِبًا مِنْ أَهْلِ الْقُوَّةِ، وَظَبْيَانَ بْنَ
عُمَارَةَ التَّمِيمِيَّ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَبَا الْمُعْتَمِرِ فِي مِائَةٍ،
وَهَانِئَ بْنَ قَيْسٍ فِي مِائَةٍ، وَعُمَيْرَ بْنَ طَارِقٍ فِي أَرْبَعِينَ، وَيُونُسَ
بْنَ عِمْرَانَ فِي أَرْبَعِينَ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
مَعَ
الطُّفَيْلِ بْنِ عَامِرٍ بِتَوْجِيهِ
الْجُنُودِ إِلَيْهِ، فَنَزَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَدَلِيُّ بِذَاتِ عِرْقٍ
حَتَّى تَلَاحَقَ بِهِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، ثُمَّ سَارَ
بِهِمْ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ نَهَارًا جِهَارًا، وَهُمْ
يَقُولُونَ: يَا ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ. وَقَدْ أَعَدَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ
الْحَطَبَ لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَصْحَابِهِ لِيُحَرِّقَهُمْ بِهِ إِنْ لَمْ
يُبَايِعُوا، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْأَجَلِ يَوْمَانِ، فَعَمَدُوا - يَعْنِي
أَصْحَابَ الْمُخْتَارِ - إِلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَأَطْلَقُوهُ
مِنْ سِجْنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالُوا: إِنْ أَذِنْتَ لَنَا قَاتَلْنَا ابْنَ
الزُّبَيْرِ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَرَى الْقِتَالَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَيْسَ يَبْرَحُ وَتَبْرَحُونَ حَتَّى
يُبَايِعَ وَتُبَايِعُوا مَعَهُ، فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ
بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِمْ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ وَهُمْ دَاخِلُونَ الْحَرَمَ: يَا
ثَارَاتِ الْحُسَيْنِ فَلَمَّا رَأَى ابْنُ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ خَافَهُمْ
وَكَفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ أَخَذُوا مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَأَخَذُوا مِنَ
الْحَجِيجِ مَالًا كَثِيرًا فَسَارَ بِهِمْ حَتَّى دَخَلَ شِعْبَ عَلِيٍّ،
وَاجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ رَجُلٍ فَقَسَّمَ بَيْنَهُمْ ذَلِكَ
الْمَالَ، هَكَذَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي صِحَّتِهَا نَظَرٌ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ نَائِبُهُ بِالْمَدِينَةِ أَخَاهُ مُصْعَبًا،
وَنَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
رَبِيعَةَ وَقَدِ اسْتَحْوَذَ الْمُخْتَارُ عَلَى الْكُوفَةِ، وَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ خَازِمٍ عَلَى بِلَادِ خُرَاسَانَ وَذَكَرَ حُرُوبًا جَرَتْ فِيهَا لِعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
فَصْلٌ ( شُخُوصُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ )
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ
السَّنَةِ سَارَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
زِيَادٍ وَذَلِكَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ
عَنْ مَشَايِخِهِ: مَا هُوَ إِلَّا أَنْ فَرَغَ الْمُخْتَارُ مِنْ جَبَّانَةِ
السَّبِيعِ وَأَهْلِ الْكُنَاسَةِ، فَمَا نَزَلَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ
إِلَّا يَوْمَيْنِ حَتَّى أَشْخَصَهُ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ وَجَّهَهُ
لَهُ لِقِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ ; فَخَرَجَ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَمَانٍ بَقِينَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُخْتَارُ
يُودِّعُهُ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، وَخَرَجَ مَعَهُمْ خَاصَّةُ الْمُخْتَارِ،
وَمَعَهُمْ كُرْسِيُّ الْمُخْتَارِ عَلَى بَغْلٍ أَشْهَبَ لِيَسْتَنْصِرُوا بِهِ
عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَهُمْ حَافُّونَ بِهِ يَدْعُونَ وَيَسْتَصْرِخُونَ
وَيَسْتَنْصِرُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ، فَرَجَعَ الْمُخْتَارُ بَعْدَ أَنْ وَصَّاهُ
بِثَلَاثٍ ; قَالَ: يَا ابْنَ الْأَشْتَرِ، اتَّقِ اللَّهَ فِي سِرِّكَ
وَعَلَانِيَتِكَ، وَأَسْرَعِ السَّيْرَ وَعَاجِلْ عَدُوَّكَ بِالْقِتَالِ.
وَاسْتَمَرَّ أَصْحَابُ الْكُرْسِيِّ سَائِرِينَ مَعَ ابْنِ الْأَشْتَرِ، فَجَعْلَ
ابْنُ الْأَشْتَرِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذُنَا بِمَا فَعَلَ
السُّفَهَاءُ مِنَّا، سُنَّةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،
إِذْ عَكَفُوا عَلَى عِجْلِهِمْ. فَلَمَّا جَاوَزَ الْقَنْطَرَةَ إِبْرَاهِيمُ
وَأَصْحَابُهُ انْصَرَفَ أَصْحَابُ الْكُرْسِيِّ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِ هَذَا الْكُرْسِيِّ مَا حَدَّثَنِي
بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ شَبُّوَيْهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثَنَا سُلَيْمَانُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنِي طُفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ قَالَ: أَعْدَمْتُ مَرَّةً مِنَ الْوَرِقِ فَإِنِّي لَكَذَلِكَ إِذْ مَرَرْتُ بِبَابِ جَارٍ لِي لَهُ كُرْسِيٌّ قَدْ رَكِبَهُ وَسَخٌ شَدِيدٌ، فَخَطَرَ عَلَى بَالِي أَنْ لَوْ قُلْتُ فِي هَذَا، فَرَجَعْتُ فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ أَنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ بِالْكُرْسِيِّ، فَأَرْسَلَ بِهِ، فَأَتَيْتُ الْمُخْتَارَ فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَكْتُمُكَ شَيْئًا وَقَدْ بَدَا لِي أَنْ أَذْكُرَهُ لَكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَرِّسِيٌّ كَانَ جَعْدَةُ بْنُ هُبَيْرَةَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ فِيهِ أَثَرَةً مِنْ عِلْمٍ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! فَأَخَّرْتَ هَذَا إِلَى الْيَوْمِ ؟ ابْعَثْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ وَقَدْ غُسِلَ فَخَرَجَ عُودًا نُضَارًا وَقَدْ تَشْرَّبَ الزَّيْتَ، فَأَمَرَ لِي بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. قَالَ: فَخَطَبَ الْمُخْتَارُ النَّاسَ فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ أَمْرٌ إِلَّا وَهُوَ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مِثْلُهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّابُوتُ يُنْصَرُونَ بِهِ، وَإِنَّ هَذَا مِثْلُهُ. ثُمَّ أَمَرَ فَكُشِفَ عَنْهُ أَثْوَابُهُ، وَقَامَتِ السَّبَئِيَّةُ فَرَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ وَكَبَّرُوا ثَلَاثًا، فَقَامَ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ وَكَادَ أَنْ يَكَفِّرَ مَنْ يَصْنَعُ بِهَذَا التَّابُوتِ هَذَا التَّعْظِيمَ، وَأَشَارَ بِأَنْ يُكْسَرَ
وَيُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ وَيُرْمَى
بِهِ فِي الْحُشِّ، فَشَكَرَهَا النَّاسُ لِشَبَثِ بْنِ رِبْعِيٍّ فَلَمَّا قِيلَ:
هَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ قَدْ أَقْبَلَ. وَبَعَثَ الْمُخْتَارُ
إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ بَعْثَ مَعَهُ بِالْكُرْسِيِّ يُحْمَلُ عَلَى
بَغْلٍ أَشْهَبَ قَدْ غُشِّيَ بِأَثْوَابِ الْحَرِيرِ، عَنْ يَمِينِهِ سَبْعَةٌ،
وَعَنْ يَسَارِهِ سَبْعَةٌ، فَلَمَّا تَوَاجَهُوا مَعَ الشَّامِيِّينَ - كَمَا
سَيَأْتِي - وَغَلَبُوا الشَّامِيِّينَ وَقَتَلُوا ابْنَ زِيَادٍ، ازْدَادَ
تَعْظِيمُهُمْ لِهَذَا الْكُرْسِيِّ حَتَّى بَلَغُوا بِهِ الْكُفْرَ، قَالَ
الطُّفَيْلُ بْنُ جَعْدَةَ فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَنَدِمْتُ عَلَى مَا صَنَعْتُ. وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي هَذَا
الْكُرْسِيِّ، وَكَثُرَ عَيْبُ النَّاسِ لَهُ فَغُيِّبَ حَتَّى لَا يُرَى بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْكَلْبَيِّ أَنَّ الْمُخْتَارَ طَلَبَ مِنْ آلِ جَعْدَةَ بْنِ
هُبَيْرَةَ الْكُرْسِيَّ الَّذِي كَانَ عَلِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَقَالُوا: مَا
عِنْدَنَا شَيْءٌ مِمَّا يَقُولُ الْأَمِيرُ. فَأَلَحَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى
عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا بِأَيِّ كُرْسِيٍّ كَانَ لَقَبِلَهُ مِنْهُمْ،
فَحَمَلُوا إِلَيْهِ كُرْسِيًّا مِنْ بَعْضِ الدُّورِ، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ،
فَخَرَجَتْ شِبَامٌ وَشَاكِرٌ وَسَائِرُ رُءُوسِ الْمُخْتَارِ بِهِ، وَقَدْ
عَصَّبُوهُ بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ.
وَحَكَى أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ سَدَنَ هَذَا الْكُرْسِيَّ مُوسَى بْنُ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، ثُمَّ إِنَّهُ عُتِبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ،
فَدَفَعَهُ إِلَى حَوْشَبٍ الْبُرْسُمِيِّ، فَكَانَ صَاحِبَهُ حَتَّى هَلَكَ
الْمُخْتَارُ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْمُخْتَارَ كَانَ يُظْهِرُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِمَا
يُعَظِّمُ أَصْحَابُهُ هَذَا الْكُرْسِيَّ.
وَقَدْ قَالَ فِي هَذَا الْكُرْسِيِّ
أَعْشَى هَمْدَانَ:
شَهِدْتُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ سَبَئِيَّةٌ وَإِنِّي بِكُمْ يَا شُرْطَةَ
الشِّرْكِ عَارِفُ وَأُقْسِمُ مَا كُرْسِيُّكُمْ بِسَكِينَةٍ
وَإِنْ كَانَ قَدْ لُفَّتْ عَلَيْهِ اللَّفَائِفُ وَأَنْ لَيْسَ كَالتَّابُوتِ
فِينَا وَإِنْ سَعَتْ
شِبَامٌ حَوَالَيْهِ وَنَهْدٌ وَخَارِفُ وَإِنِّي امْرُؤٌ أَحْبَبْتُ آلَ
مُحَمَّدٍ
وَتَابَعْتُ وَحَيًا ضُمِّنَتْهُ الْمَصَاحِفُ وَتَابَعْتُ عَبْدَ اللَّهِ لَمَّا
تَتَابَعَتْ
عَلَيْهِ قُرَيْشٌ شُمْطُهَا وَالْغَطَارِفُ
وَقَالَ الْمُتَوَكِّلُ اللَّيْثِيُّ:
أَبْلِغْ أَبَا إِسْحَاقَ إِنْ جِئْتَهُ أَنِّي بِكُرْسِيِّكُمْ كَافِرُ
تَنْزُوا شِبَامٌ حَوْلَ أَعْوَادِهِ وَتَحْمِلُ الْوَحَيَ لَهُ شَاكِرُ
مُحْمَرَّةً أَعْيُنُهُمْ حَوْلَهُ كَأَنَّهُنَّ الْحِمَّصُ الْحَادِرُ
قُلْتُ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ عَقْلِ الْمُخْتَارِ
وَأَتْبَاعِهِ وَضَعْفِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ وَكَثْرَةِ جَهْلِهِ وَرَدَاءَةِ
فَهْمِهِ وَتَرْوِيجِهِ الْبَاطِلَ عَلَى أَتْبَاعِهِ وَتَشْبِيهِهِ الْبَاطِلَ
بِالْحَقِّ لِيُضِلَّ بِهِ الطَّغَامَ وَيَجْمَعَ عَلَيْهِ جُهَّالَ الْعَوَامِّ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ فِي مِصْرَ طَاعُونٌ هَلَكَ
فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِهَا، وَفِيهَا ضَرَبَ الدَّنَانِيرَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بِمِصْرَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَهَا بِهَا.
قَالَ صَاحِبُ مِرْآةَ الزَّمَانِ:
وَفِيهَا ابْتَدَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بِبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَى
صَخْرَةِ بَيْتِ الْمُقَدَّسِ، وَعِمَارَةِ الْجَامِعِ الْأَقْصَى، وَكَمَلَتْ
عِمَارَتُهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَ
يَخْطُبُ فِي أَيَّامِ مِنًى وَعَرَفَةَ، وَمُقَامَ النَّاسِ بِمَكَّةَ، وَيَنَالُ
مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيَذْكُرُ مَسَاوِئَ بَنِي مَرْوَانَ، وَيَقُولُ: إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْحَكَمَ وَمَا نَسَلَ، وَإِنَّهُ
طَرِيدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعِينُهُ، وَكَانَ
يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ، وَكَانَ فَصِيحًا، فَمَالَ مُعْظَمُ أَهْلِ الشَّامِ
إِلَيْهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ فَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الْحَجِّ
فَضَجُّوا، فَبَنَى لَهُمُ الْقُبَّةَ عَلَى الصَّخْرَةِ وَالْجَامِعَ الْأَقْصَى
; لِيَشْغَلَهُمْ بِذَلِكَ عَنِ الْحَجِّ وَيَسْتَعْطِفَ قُلُوبَهُمْ وَكَانُوا
يَقِفُونَ عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَيَطُوفُونَ حَوْلَهَا كَمَا يَطُوفُونَ حَوْلَ
الْكَعْبَةِ، وَيَنْحَرُونَ يَوْمَ الْعِيدِ وَيَحْلِقُونَ رُءُوسَهُمْ فَفَتَحَ
بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ تَشْنِيعِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَيْهِ، فَكَانَ
يُشَنِّعُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ وَيَقُولُ ضَاهَى بِهَا فِعْلَ الْأَكَاسِرَةِ فِي
إِيوَانِ كِسْرَى، وَالْخَضْرَاءَ كَمَا فَعَلَ مُعَاوِيَةُ، وَنَقْلَ الطَّوَافَ
مِنْ بَيْتِ اللَّهِ إِلَى قِبْلَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا أَرَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِنَاءَهَا سَارَ مِنْ دِمَشْقَ إِلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ وَالْعُمَّالُ، وَوَكَّلَ بِالْعَمَلِ رَجَاءَ
بْنَ حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ بْنَ سَلَّامٍ مَوْلَاهُ، وَجَمَعَ الصُّنَّاعَ
وَالْمُهَنْدِسِينَ فَأَمْرَهُمْ فَصَوَّرُوا لَهُ الْقُبَّةَ فِي صَحْنِ
الْمَسْجِدِ فَأَعْجَبَهُ، وَبَنَى لِلْمَالِ بَيْتًا شَرْقِيَّ الْقُبَّةِ،
وَشَحَنَهُ بِالْمَالِ، وَأَمَرَ رَجَاءَ بْنَ حَيْوَةَ، وَيَزِيدَ أَنْ يُفْرِغَا
الْأَمْوَالَ إِفْرَاغًا، وَلَا يَتَوَقَّفَا فِيهِ، فَبَثُّوا النَّفَقَاتِ وَأَكْثَرُوا فَبَنَوُا الْقُبَّةَ الَّتِي هِيَ الْيَوْمَ قَائِمَةٌ، وَبَنَوْا مِنْ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ سَبْعَ قِبَابٍ، وَالْقُبَّةُ الَّتِي بَاقِيَةٌ الْيَوْمَ عَلَى الْمِحْرَابِ هِيَ أَوْسَطُهَا، وَلَمَّا تَمَّ بِنَاءُ الْقُبَّةِ عَمِلَ لَهَا جَلَّالَيْنِ ; أَحَدُهُمَا مِنْ لَبُّودٍ أَحْمَرَ لِلشِّتَاءِ، وَالْآخَرُ مِنْ أُدُمٍ لِلصَّيْفِ، وَحَفَّ الصَّخْرَةَ بِدَرَابِزِينَ مِنَ السَّاجِ الْمُطَعَّمِ بِالْيَشْمِ، وَخَلْفَ الدَّرَابِزِينِ سُتُورٌ مِنَ الدِّيبَاجِ مُرْخَاةً بَيْنَ الْعُمُدِ، وَكَانَتِ السَّدَنَةُ كُلَّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنٍ يَذُوِّبُونَ الْمِسْكَ، وَالْعَنْبَرَ وَالْمَاوَرْدَ وَالزَّعْفَرَانَ وَيَعْمَلُونَ مِنْهُ غَالِيَةً، وَيُخَمِّرُونَهَا مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْخَدَمُ الْحَمَّامَ مِنَ اللَّيْلِ
فَيَغْتَسِلُونَ وَيَتَطَيَّبُونَ،
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابَ الْوَشْيِ، وَيَشُدُّونَ أَوْسَاطَهُمْ بِالْمَنَاطِقِ
الْمُحَلَّاةِ بِالذَّهَبِ وَيُخْلِّقُونَ الصَّخْرَةَ، ثُمَّ يَضَعُونَ
الْبَخُورَ فِي مَجَامِرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَفِيهَا الْعُودُ
الْقَمَارِيُّ الْمَغْلِيُّ بِالْمِسْكِ، وَيُرْخِي السَّدَنَةُ السُّتُورَ
فَتَخْرُجُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ فَتَمْلَأُ الْمَدِينَةَ كُلَّهَا، ثُمَّ يُنَادِي
مُنَادٍ: أَلَا إِنَّ الصَّخْرَةَ قَدْ فُتِحَتْ، فَمَنْ أَرَادَ الزِّيَارَةَ
فَلْيَأْتِ، فَيُقْبِلُ النَّاسُ مُبَادِرِينَ، فَيُصَلُّونَ وَيَخْرُجُونَ،
فَمَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْبَخُورِ قَالَ النَّاسُ: هَذَا كَانَ
الْيَوْمَ فِي الصَّخْرَةِ.
وَأَبْوَابُ الصَّخْرَةِ أَرْبَعَةٌ، عَلَى كُلِّ بَابٍ عَشَرَةٌ مِنَ
الْحَجَبَةِ، الْبَابُ الشَّمَالِيُّ يُسَمَّى بَابَ الْجَنَّةِ، وَالشَّرْقِيُّ
بَابَ إِسْرَائِيلَ، وَالْغَرْبِيُّ بَابَ جِبْرِيلَ، وَالْقِبْلِيُّ بَابَ
الْأَقْصَى، وَكَانُوا يُشْعِلُونَهَا بِدُهْنِ الْبَانِ، وَلَا يَدْخُلُهَا
أَحَدٌ غَيْرَ أَيَّامِ الزِّيَارَةِ سِوَى الْخَدَمِ، وَكَانَ لِلْحَرَمِ
عِشْرُونَ بَابًا، وَكَانَ فِيهِ أَلْفَ عَمُودٍ مِنَ الرُّخَامِ، وَفِي
السُّقُوفِ سِتُّونَ أَلْفَ خَشَبَةٍ مِنَ السَّاجِ الْمَنْقُوشِ، وَمِنَ
الْقَنَادِيلِ خَمْسَةُ آلَافِ قِنْدِيلٍ، وَكَانَ فِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ
سِلْسِلَةٍ، كُلُّ سِلْسِلَةٍ أَلْفُ رِطْلٍ شَامِيٍّ، طُولُ السَّلَاسِلِ
ثَلَاثُونَ أَلْفَ ذِرَاعٍ، وَكَانَ يُوقَدُ فِي الصَّخْرَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ
مِائَةُ شَمْعَةٍ، وَكَذَا فِي الْأَقْصَى، وَكَانَ يُوقَدُ فِي الْقَنَادِيلِ
كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ الزَّيْتِ الْمَفْتُولِ قِنْطَارٌ، وَكَانَ فِي الْحَرَمِ
خَمْسُونَ قُبَّةً، وَمِنْ أَلْوَاحِ الرَّصَاصِ سَبْعُونَ أَلْفَ لَوْحٍ، وَكَانَ
فِي الْحَرَمِ ثَلَاثُمِائَةِ خَادِمٍ ابْتَاعُوا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنَ
الْخُمْسِ، كُلَّمَا مَاتَ وَاحِدٌ قَامَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ مَقَامَهُ،
وَيَقْبِضُونَ أَرْزَاقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَهْرًا بِشَهْرٍ، وَكَانَ فِي
الْحَرَمِ مِائَةُ
صِهْرِيجٍ، وَكَانَتْ صَفَائِحُ
الْقُبَّةِ وَسَقْفُ الْأَقْصَى مِنْ صَفَائِحِ الذَّهَبِ عِوَضَ الرَّصَاصِ،
وَكَذَلِكَ أَبْوَابُ الْقُبَّةِ صَفَائِحُهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَمَلَ
الْبِنَاءُ فَضَلَ مِنَ الْمَالِ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقِيلَ
سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ. وَكَتَبَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يُعَرِّفَانِهِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمَا: قَدْ جَعَلْتُهُ
لَكُمَا عِوَضًا عَنْ تَعَبِكُمَا. فَكَتَبَا إِلَيْهِ: إِنَّمَا قُمْنَا بِهَذَا
الْبَيْتِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا نَقْبَلُ عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا،
وَلَوَدِدْنَا أَنْ نَزِيدَ فِيهِ مِنْ حَلْيِ نِسَائِنَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ
إِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَفْرِغَاهُ عَلَى الْقُبَّةِ وَالْأَبْوَابِ، فَمَا
كَانَ أَحَدٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْقُبَّةَ مِمَّا عَلَيْهَا مِنَ
الذَّهَبِ. فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ قَدِمَ
الْقُدْسَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ فَوَجْدَ الْأَقْصَى وَقِبَابُهُ تَشْكُو
مِنَ الْخَرَابِ، فَأَمَرَ بِقَلْعِ الصَّفَائِحِ الَّتِي عَلَى الْقُبَّةِ
وَالْأَبْوَابِ، وَأَنْ يُعَمَّرَ بِهَا مَا تَشَعَّثَ فِي الْحَرَمِ، فَفَعَلُوا
ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ طَوِيلًا فَأَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ طُولِهِ وَيُزَادَ
فِي عَرْضِهِ، وَلَمَّا كَمَلَ الْبِنَاءُ كَتَبُوا عَلَى الْقُبَّةِ مِمَّا يَلِي
الْبَابَ الْقِبْلِيَّ مِنْ جِهَةِ الْأَقْصَى بِالنَّصِّ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ:
بَنَى هَذِهِ الْقُبَّةَ عَبْدُ اللَّهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ طُولُ
الْمَسْجِدِ مِنَ الْقِبْلَةِ إِلَى الشَّمَالِ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ
وَسِتِّينَ ذِرَاعًا، وَعَرَضُهُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَسِتِّينَ ذِرَاعًا، وَكَانَ
فَتْحُ الْقُدْسِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ ; وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ خَرَجَ مِنَ الْكُوفَةِ يَوْمَ السَّبْتِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، ثُمَّ اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُوَ سَائِرٌ لِقَصْدِ ابْنِ زِيَادٍ فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَكَانَ اجْتِمَاعُهُمَا بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْخَازِرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْصِلِ خَمْسَةُ فَرَاسِخَ، فَبَاتَ ابْنُ الْأَشْتَرِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ سَاهِرًا لَا يَغْتَمِضُ بِنَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الصُّبْحِ نَهَضَ فَعَبَّأَ جَيْشَهُ وَكَتَّبَ كَتَائِبَهُ، وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْفَجْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ، ثُمَّ رَكِبَ فَنَاهَضَ جَيْشَ ابْنِ زِيَادٍ وَزَحَفَ بِجَيْشِهِ رُوَيْدًا وَهُوَ مَاشٍ فِي الرَّجَّالَةِ حَتَّى أَشْرَفَ مِنْ فَوْقِ تَلٍّ عَلَى جَيْشِ ابْنِ زِيَادٍ، فَإِذَا هُمْ لَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ نَهَضُوا إِلَى خَيْلِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ مَدْهُوشِينَ، فَرَكَبَ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَرَسَهُ وَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى رَايَاتِ الْقَبَائِلِ فَيُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ ابْنِ زِيَادٍ وَيَقُولُ: هَذَا قَاتَلُ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ جَاءَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَمْكَنَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، فَعَلَيْكُمْ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ فَعَلَ فِي ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ فِرْعَوْنُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ! هَذَا ابْنُ زِيَادٍ قَاتِلُ الْحُسَيْنِ الَّذِي حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَاءِ الْفُرَاتِ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَنِسَاؤُهُ، وَمَنَعَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَلَدِهِ أَوْ يَأْتِيَ يَزِيدَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ حَتَّى قَتَلَهُ !
وَيْحَكُمْ، اشْفُوا صُدُورَكُمْ مِنْهُ، وَارْوُوا رِمَاحَكُمْ وَسُيُوفَكُمْ
مِنْ دَمِهِ، هَذَا الَّذِي فَعَلَ فِي آلِ نَبِيِّكُمْ مَا فَعَلَ، قَدْ
جَاءَكُمُ اللَّهُ بِهِ. ثُمَّ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَأَمْثَالِهِ،
ثُمَّ نَزَلَ تَحْتَ رَايَتِهِ.
وَأَقْبَلَ ابْنُ زِيَادٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ قَدْ جَعَلَ عَلَى مَيْمَنَتِهِ
حُصَيْنَ بْنَ نُمَيْرٍ وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عُمَيْرَ بْنَ الْحُبَابِ
السُّلَمِيَّ، وَكَانَ قَدِ اجْتَمَعَ بِابْنِ الْأَشْتَرِ وَوَعْدَهُ أَنَّهُ
مَعَهُ وَأَنَّهُ سَيَنْهَزِمُ بِالنَّاسِ غَدًا وَعَلَى خَيْلِ ابْنِ زِيَادٍ
شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَابْنُ زِيَادٍ فِي الرَّجَّالَةِ يَمْشِي
مَعَهُمْ، فَمَا كَانَ إِلَّا أَنْ تَوَاقَفَ الْفَرِيقَانِ حَتَّى حَمَلَ
حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ بِالْمَيْمَنَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ
فَهَزَمَهَا، وَقُتِلَ أَمِيرُهَا عَلِيُّ بْنُ مَالِكٍ الْجُشَمِيُّ فَأَخْذَ
رَايَتَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ قُرَّةُ بْنُ عَلِيٍّ فَقُتِلَ أَيْضًا،
وَاسْتَمَرَّتِ الْمَيْسَرَةُ ذَاهِبَةً فَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ يُنَادِيهِمْ:
إِلَيَّ يَا شُرْطَةَ اللَّهِ، أَنَا ابْنُ الْأَشْتَرِ. وَقَدْ كَشَفَ عَنْ رَأْسِهِ
لِيَعْرِفُوهُ فَالْتَاثُوا بِهِ وَانْعَطَفُوا عَلَيْهِ، وَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ،
ثُمَّ حَمَلَتْ مَيْمَنَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَلَى مَيْسَرَةِ أَهْلِ الشَّامِ
وَقِيلَ: بَلِ انْهَزَمَتْ مَيْسَرَةُ أَهْلِ الشَّامِ وَانْحَازَتْ إِلَى ابْنِ
الْأَشْتَرِ، ثُمَّ حَمَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بِمَنْ مَعَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ
لِصَاحِبِ رَايَتِهِ: ادْخُلْ بِرَايَتِكَ فِيهِمْ. وَقَاتَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ
يَوْمَئِذٍ قِتَالًا عَظِيمًا، وَكَانَ لَا يَضْرِبُ بِسَيْفِهِ رَجُلًا إِلَّا
صَرَعَهُ، وَكَثُرَتِ الْقَتْلَى بَيْنَهُمْ وَقِيلَ: إِنَّ
مَيْسَرَةَ أَهْلِ الشَّامِ ثَبَتُوا
وَقَاتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا بِالرِّمَاحِ ثُمَّ بِالسُّيُوفِ، ثُمَّ أَرْدَفَ
الْحَمْلَةَ ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَانْهَزَمَ جَيْشُ الشَّامِ بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَجَعَلَ يَقْتُلُهُمْ كَمَا تُقْتَلُ الْحُمْلَانِ، وَأَتْبَعَهُمْ بِنَفْسِهِ
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الشُّجْعَانِ، وَثَبَتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ فِي
مَوْقِفِهِ حَتَّى اجْتَازَ بِهِ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ لَا
يَعْرِفُهُ، لَكِنْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: الْتَمِسُوا فِي الْقَتْلَى رَجُلًا ضَرَبْتُهُ
بِالسَّيْفِ فَنَفَحَنِي مِنْهُ رِيحُ الْمِسْكِ، شَرَّقَتْ يَدَاهُ وَغَرَّبَتْ
رِجْلَاهُ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ رَايَةٍ مُنْفَرِدَةٍ عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ
خَازِرَ، فَالْتَمَسُوهُ فَإِذَا هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ وَإِذَا هُوَ
قَدْ ضَرَبَهُ ابْنُ الْأَشْتَرِ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ، فَاحْتَزُّوا رَأَسَهُ
وَبَعَثُوهُ إِلَى الْمُخْتَارِ إِلَى الْكُوفَةِ مَعَ الْبِشَارَةِ بِالنَّصْرِ
وَالظَّفَرِ بِأَهْلِ الشَّامِ. وَقُتِلَ مِنْ رُءُوسِ أَهْلِ الشَّامِ أَيْضًا
حُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ، وَ شُرَحْبِيلُ بْنُ ذِي الْكَلَاعِ، وَأَتْبَعَ
الْكُوفِيُّونَ أَهْلَ الشَّامِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً
وَغَرِقَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ قُتِلَ، وَاحْتَازُوا مَا كَانَ فِي
مُعَسْكَرِهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْخُيُولِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُخْتَارُ بِشَّرَ أَصْحَابَهُ بِالنَّصْرِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ
الْخَبَرُ فَمَا نَدْرِي أَكَانَ ذَلِكَ تَفَاؤُلًا مِنْهُ أَوِ اتِّفَاقًا وَقْعَ
لَهُ أَوْ كِهَانَةً - وَأَمَّا عَلَى مَا كَانَ يَزْعُمُ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ
أُوحِيَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَا، فَإِنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ كَفَرَ، وَمَنْ
أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَفَرَ - لَكِنْ قَالَ: إِنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ
بِنَصِيبِينَ. فَأَخْطَأَ مَكَانَهَا، فَإِنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ بِأَرْضِ
الْمَوْصِلِ، وَهَذَا مِمَّا انْتَقَدَهُ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ عَلَى أَصْحَابِ
الْمُخْتَارِ حِينَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِالْفَتْحِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمُخْتَارُ
مِنَ الْكُوفَةِ لِيَتَلَقَّى الْبِشَارَةَ، فَأَتَى الْمَدَائِنَ فَصَعِدَ
مِنْبَرَهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ
يَخْطُبُ إِذْ جَاءَتْهُ الْبِشَارَةُ وَهُوَ هُنَالِكَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ:
فَقَالَ لِي بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَمَا سَمِعْتُهُ بِالْأَمْسِ يُخْبِرُنَا
بِهَذَا ؟ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْوَقْعَةَ كَانَتْ بِنَصِيبِينَ
مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَإِنَّمَا قَالَ الْبَشِيرُ: إِنَّهُمْ كَانُوا
بِالْخَازِرِ مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تُؤْمِنُ يَا
شَعْبِيُّ حَتَّى تَرَى الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
ثُمَّ رَجَعَ الْمُخْتَارُ إِلَى الْكُوفَةِ وَفَى غَيْبَتِهِ هَذِهِ تَمَكَّنَ
جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ قَاتَلَهُ يَوْمَ جَبَّانَةِ السَّبِيعِ وَالْكُنَاسَةِ
مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْبَصْرَةِ ; لِيَجْتَمِعُوا بِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
وَكَانَ مِنْهُمْ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَأَمَّا ابْنُ الْأَشْتَرِ فَإِنَّهُ
بَعَثَ بِالْبِشَارَةِ وَرَأَسِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى الْمُخْتَارِ،
وَاسْتَقَلَّ هُوَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَبَعَثَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى نِيَابَةِ نَصِيبِينَ، وَبَعَثَ عُمَّالًا
إِلَى الْمَوْصِلِ، وَأَخَذَ سِنْجَارَ وَدَارَا وَمَا وَالَاهَا مِنَ
الْجَزِيرَةِ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: كَانَ مَقْتَلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ
يَوْمَ عَاشُورَاءَ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَالصَّوَابُ سَنَةَ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ.
وَقَدْ قَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ
الْبَارِقِيُّ يَمْدَحُ ابْنَ الْأَشْتَرِ عَلَى قَتْلِهِ ابْنَ زِيَادٍ:
أَتَاكُمْ غُلَامٌ مِنْ عَرَانِينِ مَذْحِجٍ جَرِيءٌ عَلَى الْأَعْدَاءِ غَيْرُ
نَكُولِ فَيَا ابْنَ زِيَادٍ بُؤْ بِأَعْظَمِ مَالِكٍ
وَذُقْ حَدَّ مَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ صَقِيلِ ضَرَبْنَاكَ بِالْعَضْبِ الْحُسَامِ
بِحَدِّهِ
إِذَا مَا أَبَأْنَا قَاتِلًا بِقَتِيلِ جَزَى اللَّهُ خَيْرًا شُرْطَةَ اللَّهِ
إِنَّهُمْ
شَفَوْا مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَمْسِ غَلِيلِي
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ ابْنِ زِيَادٍ
هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ عُبَيْدٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ زِيَادِ
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَيُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ، وَ ابْنُ سُمَيَّةَ.
أَمِيرُ الْعِرَاقِ بَعْدَ أَبِيهِ زِيَادٍ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: وَيُقَالُ
لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ مَرْجَانَةَ - وَهِيَ أُمُّهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
وَكَانَتْ مَجُوسِيَّةً. وَكُنْيَتُهُ أَبُو حَفْصٍ وَقَدْ سَكَنَ دِمَشْقَ بَعْدَ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ عِنْدَ
الدِّيمَاسِ تُعْرَفُ بَعْدَهُ بِدَارِ
ابْنِ عَجْلَانَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ فِيمَا
حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ
الضَّبِّيِّ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ مُعَاوِيَةَ، وَ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ، وَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ. وَحَدَّثَ عَنْهُ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ، وَ أَبُو الْمُلَيْحِ بْنُ أُسَامَةَ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ
الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ: ذَكَرُوا أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ حِينَ
قَتَلَ الْحُسَيْنَ كَانَ عُمْرُهُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً. قُلْتُ:
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَوْلِدُهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى زِيَادٍ أَنْ
أَوْفِدْ إِلَيَّ ابْنَكَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ لَمْ يَسْأَلْهُ مُعَاوِيَةُ
عَنْ شَيْءٍ إِلَّا نَفَذَ مِنْهُ، حَتَّى سَأَلَهُ عَنِ الشِّعْرِ فَلَمْ
يَعْرِفْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ لَهُ مَا مَنَعَكَ مِنْ تَعَلُّمِ الشِّعْرِ ؟
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِي صَدْرِي
مَعَ كَلَامِ الرَّحْمَنِ كَلَامَ الشَّيْطَانِ. فَقَالَ: اغْرُبْ، فَوَاللَّهِ
مَا مَنَعَنِي مِنَ الْفِرَارِ يَوْمَ صِفِينَ إِلَّا قَوْلُ ابْنِ الْإِطْنَابَةِ
حَيْثُ يَقُولُ:
أَبَتْ لِي عِفَّتِي وَأَبَى بَلَائِي
وَأَخْذِي الْحَمْدَ بِالثَّمَنِ الرَّبِيحِ وَإِعْطَائِي عَلَى الْإِعْدَامِ
مَالِي
وَإِقْدَامِي عَلَى الْبَطَلِ الْمُشِيحِ وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَأَتْ وَجَاشَتْ
مَكَانَكِ تُعْذَرِي أَوْ تَسْتَرِيحِي لِأَدْفَعَ عَنْ مَآثِرَ صَالِحَاتٍ
وَأَحْمِي بَعْدُ عَنْ أَنْفٍ صَحِيحِ
ثُمَّ كَتَبَ إِلَى أَبِيهِ: أَنْ رَوِّهِ مِنَ الشِّعْرِ، فَرَوَّاهُ حَتَّى
كَانَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَمِنْ شِعْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ:
سَيَعْلَمُ مَرْوَانُ ابْنُ نِسْوَةِ أَنَّنِي إِذَا الْتَقَتِ الْخِيلَانِ
أَطْعَنُهَا شَزْرًا
وَإِنِّي إِذَا حَلَّ الضُّيُوفُ وَلَمْ أَجِدْ سِوَى فَرَسِي أَوْسَعْتُهُ لَهُمْ
نَحْرًا
وَقَدْ سَأَلَ مُعَاوِيَةُ يَوْمًا أَهْلَ الْبَصْرَةِ عَنِ ابْنِ زِيَادٍ
فَقَالُوا: إِنَّهُ لَظَرِيفٌ وَلَكِنَّهُ يَلْحَنُ. فَقَالَ: أَوَلَيْسَ
اللَّحْنُ أَظْرَفَ لَهُ ؟ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ: إِنَّمَا أَرَادُوا
أَنَّهُ يَلْحَنُ فِي كَلَامِهِ، أَيْ يُلْغِزُ. وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ
يَلْحَنُ فِي قَوْلِهِ لَحْنًا وَهُوَ ضِدُّ الْإِعْرَابِ. وَقِيلَ: أَرَادُوا
اللَّحْنَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّوَابِ. وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. فَاسْتَحْسَنَ مُعَاوِيَةُ مِنْهُ السُّهُولَةَ فِي الْكَلَامِ
وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَغَنَّى فِي كَلَامِهِ وَيُفَخِّمُهُ، وَيَتَشَدَّقُ
فِيهِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا أَنَّهُ كَانَتْ فِيهِ لُكْنَةٌ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ
; فَإِنَّ أُمَّهُ مَرْجَانَةَ كَانَتْ سُرِّيَّةً، وَكَانَتْ بِنْتَ بَعْضِ
مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ ; يُزْدَجِرْدَ أَوْ غَيْرِهِ. قَالُوا: وَكَانَ فِي
كَلَامِهِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ ; قَالَ يَوْمًا لِبَعْضِ الْخَوَارِجِ:
أَهَرُورِيٌّ أَنْتَ ؟ يَعْنِي: أَحَرُورِيٌّ أَنْتَ ؟ وَقَالَ يَوْمًا: مِنْ
كَاتَلَنَا كَاتَلْنَاهُ. أَيْ: مَنْ قَاتَلَنَا قَاتَلْنَاهُ، وَقَوْلُ
مُعَاوِيَةَ: ذَاكَ أَظْرَفُ لَهُ؛ أَيْ أَجْوَدُ لَهُ حَيْثُ نَزَعَ إِلَى
أَخْوَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يُوصَفُونَ بِحُسْنِ السِّيَاسَةِ وَجَوْدَةِ
الرِّعَايَةِ وَمَحَاسِنِ الشِّيَمِ.
ثُمَّ لَمَّا مَاتَ زِيَادٌ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَلَّى مُعَاوِيَةُ عَلَى
الْبَصْرَةِ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ سَنَةً وَنِصْفًا ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى
عَلَيْهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ سِتَّةَ
أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ زِيَادٍ سَنَةَ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ. فَلَمَّا تَوَلَّى يَزِيدُ الْخِلَافَةَ جَمْعَ لَهُ بَيْنَ الْبَصْرَةِ
وَالْكُوفَةِ، فَبَنَى فِي إِمَارَةِ يَزِيدَ الْبَيْضَاءَ، وَجَعَلَ بَابَ
الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ الَّذِي كَانَ لِكِسْرَى عَلَيْهَا، وَبَنَى الْحَمْرَاءَ
وَهِيَ عَلَى سِكَّةِ الْمِرْبَدِ، فَكَانَ يَشْتُو فِي الْحَمْرَاءِ وَيَصِيفُ
فِي الْبَيْضَاءِ.
قَالُوا: وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ
الْأَمِيرَ، إِنَّ امْرَأَتِي مَاتَتْ،
وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ
أُمَّهَا. فَقَالَ لَهُ: كَمْ عَطَاؤُكَ فِي الدِّيوَانِ ؟ فَقَالَ:
سَبْعُمِائَةٍ، فَقَالَ: يَا غُلَامُ، حُطَّهُ مِنْ عَطَائِهِ أَرْبَعَمِائَةٍ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَكْفِيكَ مَنْ فِقْهِكَ هَذَا ثَلَاثُمِائَةٍ !
قَالُوا: وَتَخَاصَمَتْ أُمُّ الْفُجَيْعِ وَزَوْجُهَا إِلَيْهِ وَقَدْ أَحَبَّتِ
الْمَرْأَةُ أَنْ تُفَارِقَ زَوْجَهَا، فَقَالَ أَبُو الْفُجَيْعِ: أَصْلَحَ
اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ خَيْرَ شَطْرَيِ الرَّجُلِ آخِرُهُ، وَإِنَّ شَرَّ
شَطْرَيِ الْمَرْأَةِ آخِرُهَا. فَقَالَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ
الرَّجُلَ إِذَا أَسَنَّ اشْتَدَّ عَقْلُهُ، وَاسْتَحْكَمَ رَأْيُهُ، وَذَهَبَ
جَهْلُهُ، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَسَنَّتْ سَاءَ خُلُقُهَا، وَقُلَّ
عَقْلُهَا، وَعَقِمَ رَحِمُهَا، وَاحْتَدَّ لِسَانُهَا. فَقَالَ: صَدَقْتَ خُذْ
بِيَدِهَا وَانْصَرِفْ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: أَمَرَ ابْنُ زِيَادٍ لِصَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ
بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَسُرِقَتْ، فَقَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا. فَقَالَ
أَهْلُهُ: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا خَيْرًا ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ زِيَادٍ،
فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفَيْنِ آخَرَيْنِ، ثُمَّ وَجَدَ الْأَلْفَيْنِ فَصَارَتْ
أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَكَانَ خَيْرًا.
وَقِيلَ: لِهِنْدَ بِنْتِ أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ - وَكَانَتْ قَدْ تَزَوَّجَتْ
بِعِدَّةِ أَزْوَاجٍ مِنْ نُوَّابِ الْعِرَاقِ -: مَنْ أَعَزُّ أَزْوَاجِكِ
عِنْدَكِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْكِ ؟ فَقَالَتْ: مَا أُكْرِمَ النِّسَاءُ إِكْرَامَ
بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ وَلَا هَابَ النِّسَاءُ هَيْبَةَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ،
وَوَدِدْتُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ
قَامَتْ، فَأَرَى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ وَأَشْتَفِي مِنْ حَدِيثِهِ
وَالنَّظَرِ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَبَا عُذْرِهَا وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بِالْآخَرِينَ
أَيْضًا.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ
إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي
الْمَكْتُوبَةِ ابْنُ زِيَادٍ. قُلْتُ: يَعْنِي - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي
الْكُوفَةِ، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ لَا يَكْتُبُهُمَا فِي مُصْحَفِهِ،
وَكَانَ فُقَهَاءُ الْكُوفَةِ عَنْ كُبَرَاءِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ
يَأْخُذُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ كَانَتْ فِي ابْنِ زِيَادٍ جُرْأَةٌ وَإِقْدَامٌ وَمُبَادَرَةٌ إِلَى مَا
لَا يَجُوزُ، وَمَا لَا حَاجَةَ لَهُ بِهِ. ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
أَبُو يَعْلَى، وَ مُسْلِمٌ، كِلَاهُمَا عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخَ، عَنْ
جَرِيرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عَائِذَ بْنَ عَمْرٍو دَخْلَ عَلَى عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ،
فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ
نُخَالَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: وَهَلْ
كَانَ فِيهِمْ نُخَالَةٌ ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي
غَيْرِهِمْ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ
بْنَ زِيَادٍ دَخَلَ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ يَعُودُهُ فَقَالَ: إِنِّي
مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْ رَجُلٍ
اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ،
إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ
أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَعْقِلٌ صَلَّى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ
وَلَمْ يَشْهَدْ دَفْنَهُ، وَاعْتَذَرَ بِمَا لَيْسَ يُجْدِي شَيْئًا، وَرَكِبَ
إِلَى قَصْرِهِ.
وَمِنْ جَرَاءَتِهِ إِقْدَامُهُ عَلَى الْأَمْرِ بِإِحْضَارِ الْحُسَيْنِ إِلَى
بَيْنِ يَدَيْهِ وَإِنْ قُتِلَ دُونَ ذَلِكَ. وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يُجِيبَهُ إِلَى سُؤَالِهِ الَّذِي سَأَلَهُ فِيمَا طَلَبَ مِنْ ذَهَابِهِ
إِلَىيَزِيدَ، أَوْ إِلَى مَكَّةَ، أَوْ إِلَى أَحَدِ الثُّغُورِ، فَلَمَّا
أَشَارَ عَلَيْهِ شَمِرُ بْنُ ذِي الْجَوْشَنِ بِأَنَّ الْحَزْمَ أَنْ يُحْضَرَ
عِنْدَكَ وَأَنْتَ تُسَيِّرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى حَيْثُ شِئْتَ مِنْ هَذِهِ
الْخِصَالِ أَوْ غَيْرِهَا، فَوَافَقَ شَمِرًا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ مِنْ
إِحْضَارِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَبَى الْحُسَيْنُ أَنْ يَحْضُرَ عِنْدَهُ
لِيَقْضِيَ فِيهِ بِمَا يَرَاهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ، وَقَدْ تَعِسَ وَخَابَ
وَخَسِرَ، فَلَيْسَ لِابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ مَرْجَانَةَ الْخَبِيثِ.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، وَ مَالِكُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ كُرْدُوسٍ، عَنْ حَاجِبِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ:
دَخَلْتُ مَعَهُ الْقَصْرَ حِينَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ، قَالَ: فَاضْطَرَمَ فِي
وَجْهِهِ نَارًا - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - فَقَالَ بِكُمِّهِ هَكَذَا عَلَى
وَجْهِهِ، وَقَالَ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِهَذَا أَحَدًا.
وَقَالَ شُرَيْكٌ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ: قَالَتْ مَرْجَانَةُ لِابْنِهَا عُبَيْدِ
اللَّهِ: يَا خَبِيثُ، قَتَلْتَ ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا تَرَى الْجَنَّةَ أَبَدًا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ يَزِيدَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ بَايَعَ النَّاسُ فِي الْمِصْرَيْنِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ
حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ، ثُمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِ فَأَخْرَجُوهُ
مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَسَارَ إِلَى الشَّامِ فَاجْتَمَعَ بِمَرْوَانَ، وَحَسَّنَ
لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ وَيَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ،
فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ. ثُمَّ
سَيَّرَهُ مَرْوَانُ فِي جَيْشٍ إِلَى الْعِرَاقِ، فَالْتَقَى بِعَيْنِ
الْوَرْدَةِ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْجَيْشِ
الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ جَيْشَ التَّوَّابِينَ فَكَسَرَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ
قَاصِدًا الْكُوفَةَ فِي ذَلِكَ الْجَيْشِ، فَتَعَوَّقَ فِي الطَّرِيقِ بِسَبَبِ
مَنْ كَانَ يُمَانِعُهُ فِي أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مِنَ الْأَعْدَاءِ مِمَّنْ
بَايَعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ اتَّفَقَ خُرُوجُ ابْنِ الْأَشْتَرِ إِلَيْهِ
فِي سَبْعَةِ آلَافٍ، وَكَانَ مَعَ ابْنِ زِيَادٍ أَضْعَافُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ
ظَفَرَ بِهِ ابْنُ الْأَشْتَرِ، فَقَتَلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، عَلَى شَاطِئِ نَهْرِ
الْخَازِرِ قَرِيبًا مِنَ الْمَوْصِلِ بِخَمْسِ مَرَاحِلَ.
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ. قُلْتُ:
وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ الْحُسَيْنُ.
ثُمَّ بَعَثَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بِرَأْسِهِ إِلَى الْمُخْتَارِ وَمَعَهُ رَأْسُ
حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَ شُرَحْبِيلَ بْنِ ذِي الْكَلَاعِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ
رُؤَسَاءِ أَصْحَابِهِمْ، فَسُرَّ بِذَلِكَ الْمُخْتَارُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ قَالَ:
لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَأَصْحَابِهِ، طُرِحَتْ بَيْنَ يَدِيِ
الْمُخْتَارِ، فَجَاءَتْ حَيَّةٌ دَقِيقَةٌ تَخَلَّلَتِ الرُّءُوسَ حَتَّى
دَخَلَتْ فِي فَمِ ابْنِ مَرْجَانَةَ وَخَرَجَتْ مِنْ مِنْخَرِهِ، وَدَخَلَتْ فِي
مِنْخَرِهِ وَخَرَجَتْ مِنْ فَمِهِ، وَجَعَلَتْ تَدْخُلُ وَتَخْرُجُ مَنْ رَأَسِهُ
مِنْ بَيْنِ الرُّءُوسِ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِلَفْظٍ
آخَرَ فَقَالَ: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا جِيءَ
بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ نُضِّدَتْ فِي الْمَسْجِدِ فِي
الرَّحَبَةِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ
جَاءَتْ. فَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ جَاءَتْ تَخَلَّلُ الرُّءُوسَ حَتَّى دَخَلَتْ فِي
مِنْخَرَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَمَكَثَتْ هُنَيْهَةً ثُمَّ خَرَجَتْ
فَذَهَبَتْ حَتَّى تَغَيَّبَتْ، ثُمَّ قَالُوا: قَدْ جَاءَتْ، قَدْ جَاءَتْ.
فَفَعَلَتْ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَهَذَا
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ زَبْرٍ: وَفِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ قَالُوا:
فِيهَا قُتِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، وَ الْحُصَيْنُ بْنُ نُمَيْرٍ،
وَلِيَ قَتْلَهُمَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ، وَبَعَثَ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى
الْمُخْتَارِ فَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَنُصِبَتْ بِمَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ. وَهَكَذَا حَكَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الْحَاكِمِ
وَغَيْرِهِ، أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَسِتِّينَ - زَادَ أَبُو
أَحْمَدَ: فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ - وَسَكَتَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ذَلِكَ،
وَالْمَشْهُورُ أَنَّ
ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ. وَلَكِنَّ بَعْثَ الرُّءُوسِ
إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُتَعَذِّرٌ ; لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ
كَانَتْ قَدْ قَوِيَتْ وَتَحَقَّقَتْ بَيْنَ الْمُخْتَارِ، وَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَمَّا قَلِيلٍ أَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
أَخَاهُ مُصْعَبًا أَنْ يَسِيرَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ لِحِصَارِ
الْمُخْتَارِ وَقِتَالِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَقْتَلُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ الْكَذَّابِ عَلَى يَدَيْ
مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَدْ عَزَلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ
الْمَخْزُومِيَّ الْمَعْرُوفَ بِالْقُبَاعِ، وَوَلَّاهَا لِأَخِيهِ مُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ ; لِيَكُونَ رِدْءًا وَقَرْنًا وَكُفُؤًا لِلْمُخْتَارِ، فَلَمَّا
قَدِمَ مُصْعَبٌ الْبَصْرَةَ دَخْلَهَا مُتَلَثِّمًا فَيَمَّمَ الْمِنْبَرَ،
فَلَمَّا صَعِدَهُ قَالَ النَّاسُ: أَمِيرٌ أَمِيرٌ. فَلَمَّا كَشَفَ اللِّثَامَ
عَرَفَهُ النَّاسُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْقُبَاعُ فَجَلَسَ تَحْتَهُ
بِدَرَجَةٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ مُصْعَبٌ خَطِيبًا، فَاسْتَفْتَحَ
( الْقَصَصَ ) حَتَّى بَلَغَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ
أَهْلَهَا شِيَعًا وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ أَوِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ
قَالَ:
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَأَشَارَ إِلَى الْحِجَازِ، وَقَالَ: يَا
أَهْلَ الْبَصْرَةِ، إِنَّكُمْ تُلَقِّبُونَ أُمَرَاءَكُمْ، وَقَدْ سَمَّيَتُ
نَفْسِي الْجَزَّارَ. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَفَرِحُوا بِهِ. وَلَمَّا
انْهَزَمَ أَهْلُ الْكُوفَةِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى الْمُخْتَارِ فَقَهَرَهُمْ
وَقَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَ، كَانَ لَا يَنْهَزِمُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا
إِلَّا قَصَدَ الْبَصْرَةَ، ثُمَّ لَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ لِتَلَقِّي ابْنِ
الْأَشْتَرِ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّهُ قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ، اغْتَنَمَ مَنْ بَقِيَ
بِالْكُوفَةِ مِنْ أَعْدَاءِ الْمُخْتَارِ غَيْبَتَهُ، فَذَهَبُوا إِلَى
الْبَصْرَةِ فِرَارًا مِنَ الْمُخْتَارِ ; لِقِلَّةِ دِينِهِ وَكَفْرِهِ
وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ، وَأَنَّهُ قَدَّمُ الْمَوَالِي عَلَى
الْأَشْرَافِ. وَاتَّفَقَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْتَرِ حِينَ قَتَلَ ابْنَ زِيَادٍ
اشْتَغَلَ بِتِلْكَ النَّوَاحِي، فَأَحْرَزَ بِلَادًا وَأَقَالِيمَ وَرَسَاتِيقَ
لِنَفْسِهِ، وَاسْتَهَانَ بِالْمُخْتَارِ، فَطَمِعَ مُصْعَبٌ فِيهِ وَبَعَثَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ
أَبِي صُفْرَةَ، وَهُوَ نَائِبُهُمْ عَلَى خُرَاسَانَ، فَقَدِمَ فِي تَجَمُّلٍ
عَظِيمٍ وَمَالٍ وَرِجَالٍ وَعَدَدٍ وَعُدَدٍ وَجَيْشٍ كَثِيفٍ، فَفَرِحَ بِهِ
أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَتَقَوَّى بِهِ مُصْعَبٌ، فَرَكِبَ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ
وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ وَالْبَرِّ
قَاصِدِينَ الْكُوفَةَ.
وَقَدَّمَ مُصْعَبٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ، وَجَعَلَ عَلَى
مَيْمَنَتِهِ عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ
الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ، وَرَتَّبَ الْأُمَرَاءَ
عَلَى رَايَاتِهَا وَقَبَائِلِهَا كَمَالِكِ
بْنِ مِسْمَعٍ، وَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَ زِيَادِ بْنِ عُمَرَ، وَ قَيْسِ
بْنِ الْهَيْثَمِ وَغَيْرِهِمْ. وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ بِعَسْكَرِهِ فَنَزَلَ
الْمَذَارَ، وَقَدْ جَعَلَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ أَبَا كَامِلٍ الشَّاكِرِيَّ،
وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَامِلٍ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ الْجُشَمِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ وَزِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
السَّلُولِيَّ، وَعَلَى الْمَوَالِي أَبَا عَمْرَةَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ. ثُمَّ
خَطَبَ النَّاسَ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ
الْجُيُوشَ، وَرَكِبَ هُوَ وَخَلْقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ يُبَشِّرُهُمْ
بِالنَّصْرِ. فَلَمَّا انْتَهَى مُصْعَبٌ إِلَى قَرِيبِ الْكُوفَةِ لَقِيَتْهُمُ
الْكَتَائِبُ الْمُخْتَارِيَّةُ، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْفُرْسَانُ الزُّبَيْرِيَّةُ،
فَمَا لَبِثَتِ الْمُخْتَارِيَّةُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى هَرَبُوا عَلَى
حِمْيَةٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلْقٌ مِنَ
الْقُرَّاءِ، وَطَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مَنِ الشِّيعَةِ الْأَغْبِيَاءِ، ثُمَّ
انْتَهَتِ الْهَزِيمَةُ إِلَى الْمُخْتَارِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا انْتَهَتْ مُقَدِّمَةُ الْمُخْتَارِ إِلَيْهِ،
جَاءَ مُصْعَبٌ فَقِطَعَ الدِّجْلَةَ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَدْ حَصَّنَ
الْمُخْتَارُ الْقَصْرَ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ،
وَخَرَجَ الْمُخْتَارُ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ فَنَزَلَ حَرُورَاءَ، فَلَمَّا قَرُبَ
جَيْشُ مُصْعَبٍ مِنْهُ جَهَّزَ إِلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ كُرْدُوسًا، فَبَعَثَ إِلَى
بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ سَعِيدَ بْنَ مُنْقِذٍ، وَإِلَى عَبْدِ الْقَيْسِ مَالِكَ
بْنَ الْمُنْذِرِ، وَإِلَى
الْعَالِيَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْدَةَ، وَإِلَى الْأَزْدِ مُسَافِرَ بْنَ
سَعِيدٍ، وَإِلَى بَنِي تَمِيمٍ سُلَيْمَ بْنَ يَزِيدَ الْكِنْدِيَّ، وَإِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ السَّائِبَ بْنَ مَالِكٍ، وَوَقَفَ الْمُخْتَارُ فِي
بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى اللَّيْلِ ;
فَقُتِلَ أَعْيَانُ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ وَقُتِلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مُحَمَّدُ
بْنُ الْأَشْعَثِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
وَتَفَرَّقَ عَنِ الْمُخْتَارِ بَاقِي أَصْحَابِهِ فَقِيلَ لَهُ: الْقَصْرَ الْقَصْرَ.
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْهُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنَّ أَعُودَ إِلَيْهِ،
وَلَكِنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ. ثُمَّ سَارَ إِلَى الْقَصْرِ فَدَخَلَهُ،
وَجَاءَهُ مُصْعَبٌ فَفَرَّقَ الْقَبَائِلَ فِي نَوَاحِي الْكُوفَةِ،
وَاقْتَسَمُوا الْمَحَالَّ، وَخَلَصُوا إِلَى الْقَصْرِ، وَقَدْ مَنَعُوا
الْمُخْتَارَ الْمَادَّةَ وَالْمَاءَ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ يَخْرُجُ
فَيُقَاتِلُهُمْ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الْقَصْرِ. وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِ
الْحِصَارُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: إِنَّ الْحِصَارَ لَا يَزِيدُنَا إِلَّا ضَعْفًا،
فَانْزِلُوا بِنَا حَتَّى نُقَاتِلَ حَتَّى اللَّيْلِ حَتَّى نَمُوتَ كِرَامًا.
فَوَهَنُوا، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لَا أُعْطِي بِيَدِي. ثُمَّ
اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَتَحَنَّطَ وَخَرَجَ، فَقَاتَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى
قُتِلُوا.
وَقِيلَ: بَلْ أَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَسَاوِرَتِهِ بِأَنْ يَدْخُلَ
الْقَصْرَ دَارَ إِمَارَتِهِ فَدَخَلَهُ وَهُوَ مَلُومٌ مَذْمُومٌ، وَعَنْ قَرِيبٍ
يَنْفُذُ فِيهِ الْقَدَرُ الْمَحْتُومُ، فَحَاصَرَهُ مُصْعَبٌ فِيهِ وَجَمِيعَ
أَصْحَابِهِ، حَتَّى أَصَابَهُمْ مِنْ جَهْدِ الْعَطَشِ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ،
وَضَيَّقَ عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ وَالْمَقَاصِدَ وَانْسَدَّتْ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُ الْحِيَلِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ وَلَا حَلِيمٌ، ثُمَّ جَعَلَ الْمُخْتَارُ يُجِيلُ فِكْرَتَهُ وَيُكَرِّرُ رَوِيَّتَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ حَلَّ بِهِ، وَاسْتَشَارَ مَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْمَوَالِي وَالْعَبِيدِ وَلِسَانُ الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ يُنَادِيهِ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ثُمَّ قَوَّى عَزْمَهُ قُوَّةُ الشُّجَاعَةِ الْمُرَكَّبَةِ فِيهِ عَلَى أَنْ أَخْرَجَتْهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ مَنْ كَانَ يُحَالِفُهُ وَيُوَالِيهِ، وَرَأَى أَنْ يَمُوتَ عَلَى فَرَسِهِ، حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا انْقِضَاءُ آخَرِ نَفَسِهِ، فَنَزَلَ حَمِيَّةً وَغَضَبًا، وَشُجَاعَةً وَكَلَبًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَجِدُ مَنَاصًا وَلَا مَفَرًّا وَلَا مَهَرَبًا، وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ سِوَى تِسْعَةَ عَشَرَ. وَلَعَلَّهُ إِنْ كَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ التِّسْعَةَ عَشَرَ الْمُوَكَّلُونَ بِسَقَرَ. وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْقَصْرِ قَالَ لِأَصْحَابِ مُصْعَبٍ: أَتُؤَمِّنُونِي ؟ قَالُوا: لَا، إِلَّا عَلَى حُكْمِ الْأَمِيرِ. فَقَالَ: إِلَّا حُكْمَ نَفْسِي أَبَدًا. ثُمَّ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ شَقِيقَانِ أَخَوَانِ، وَهَمَا طَرَفَةُ، وَ طَرَّافُ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَجَاجَةَ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، فَقَتَلَاهُ بِمَكَانِ الزَّيَّاتِينَ مِنَ الْكُوفَةِ وَاحْتَزَّا رَأْسَهُ وَأَتَيَا بِهِ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ دَخَلَ قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا وُضِعَ رَأْسُ ابْنِ زِيَادٍ بَيْنَ يَدَيِ الْمُخْتَارِ، وَكَمَا وُضِعَ
رَأْسُ الْحُسَيْنِ بَيْنَ يَدِيِ
ابْنِ زِيَادٍ - وَكَمَا سَيُوضَعُ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ - فَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ الْمُخْتَارِ بَيْنَ يَدَيْ
مُصْعَبٍ أَمْرَ لَهُمَا بِثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَدْ قَتَلَ مُصْعَبٌ جَمَاعَةً مِنَ الْمُخْتَارِيَّةِ وَأَسَرَ مِنْهُمْ
خَمْسَمِائَةِ أَسِيرٍ، فَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ فِي يَوْمٍ
وَاحِدٍ، وَقَدْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ مُصْعَبٍ فِي الْوَقْعَةِ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَشْعَثِ
بْنِ قَيْسٍ.
وَأَمَرَ مُصْعَبٌ بِكَفِّ الْمُخْتَارِ فَقُطِعَتْ وَسُمِرَتْ إِلَى جَانِبِ
الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَزَلْ هُنَالِكَ حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ، فَسَأَلَ عَنْهَا
فَقِيلَ لَهُ: هِيَ كَفُّ الْمُخْتَارِ، فَأَمَرَ بِهَا فَرُفِعَتْ وَانْتُزِعَتْ
مِنْ هُنَالِكَ ; لِأَنَّ الْمُخْتَارَ كَانَ مِنْ قَبِيلَةِ الْحَجَّاجِ -
فَالْمُخْتَارُ هُوَ الْكَذَّابُ وَالْمُبِيرُ الْحَجَّاجُ - وَلِهَذَا أَخَذَ
الْحَجَّاجُ بِثَأْرِهِ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَتْلَهُ وَصَلْبَهُ شُهُورًا.
وَقَدْ سَأَلَ مُصْعَبٌ أُمَّ ثَابِتٍ بِنْتَ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ امْرَأَةَ
الْمُخْتَارِ عَنْهُ فَقَالَتْ: مَا عَسَى أَنْ أَقُولَ فِيهِ إِلَّا مَا
تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِيهِ ؟ فَتَرَكَهَا وَاسْتَدْعَى بِزَوْجَتِهِ الْأُخْرَى،
وَهِيَ عَمْرَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فَقَالَ لَهَا مَا تَقُولِينَ
فِيهِ ؟ فَقَالَتْ: رَحِمَهُ اللَّهُ، لَقَدْ كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
الصَّالِحِينَ. فَسَجَنَهَا وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ: إِنَّهَا تَقُولُ إِنَّهُ
نَبِيٌّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ أَخْرِجْهَا فَاقْتُلْهَا. فَأَخْرَجَهَا إِلَى ظَاهِرِ
الْبَلَدِ فَضُرِبَتْ ضَرَبَاتٍ حَتَّى مَاتَتْ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ
أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ:
إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَائِبِ
عِنْدِي قَتْلَ بَيْضَاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ قُتِلَتْ هَكَذَا عَلَى غَيْرِ جُرْمٍ
إِنَّ لِلَّهِ دَرَّهَا مِنْ قَتِيلِ كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا
وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وَقَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ مُصْعَبًا
لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ أَخِيكَ مُصْعَبُ بْنُ
الزُّبَيْرِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: نَعَمْ، أَنْتَ الْقَاتِلُ سَبْعَةَ
آلَافٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ ؟ عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ !
فَقَالَ مُصْعَبٌ: إِنَّهُمْ كَانُوا كَفَرَةً سَحَرَةً. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتَ عِدَّتَهُمْ غَنَمًا مِنْ تُرَاثِ أَبِيكَ لَكَانَ ذَلِكَ
سَرَفًا.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الْكَذَّابِ
هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ
بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ الثَّقَفِيُّ،
أَسْلَمَ أَبُوهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَكِنْ لَمْ يَرَهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي
الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْغَابَةِ،
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بَعْثَهُ فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي قِتَالِ الْفُرْسِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، فَقُتِلَ
يَوْمَئِذٍ شَهِيدًا، وَقُتِلَ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ - كَمَا قَدَّمْنَا - وَعُرِفَ ذَلِكَ الْجِسْرُ بِهِ، وَهُوَ
جِسْرٌ عَلَى دِجْلَةَ، فَيُقَالُ لَهُ إِلَى الْيَوْمِ جِسْرُ أَبِي عُبَيْدٍ،
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَكَانَتْ مِنَ
الصَّالِحَاتِ الْعَابِدَاتِ، وَهِيَ زَوْجَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَهَا مُكْرِمًا وَمُحِبًّا وَمَاتَتْ فِي
حَيَاتِهِ. وَأَمَّا أَخُوهَا الْمُخْتَارُ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلًا
نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا بُغْضًا شَدِيدًا، وَكَانَ عِنْدَ عَمِّهِ
بِالْمَدَائِنِ، وَكَانَ عَمُّهُ نَائِبَهَا، فَلَمَّا دَخَلَهَا الْحَسَنُ بْنُ
عَلِيٍّ يَوْمَ خَذَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ
لِقِتَالِ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ عَلِيٍّ، فَلَمَّا أَحَسَّ
الْحَسَنُ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ، فَرَّ مِنْهُمْ إِلَى الْمَدَائِنِ فِي جَيْشٍ
قَلِيلٍ، فَقَالَ الْمُخْتَارُ لِعَمِّهِ: لَوْ أَخَذْتَ الْحَسَنَ فَبَعَثْتَهُ
إِلَى مُعَاوِيَةَ لَاتَّخَذْتَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ الْيَدَ الْبَيْضَاءَ أَبَدًا.
فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ: بِئْسَ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ يَابْنَ أَخِي.
فَمَا زَالَتِ الشِّيعَةُ تُبْغِضُهُ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ مُسْلِمِ بْنِ
عَقِيلٍ بِالْكُوفَةِ مَا كَانَ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ مِنَ الْأُمَرَاءِ
بِالْكُوفَةِ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَمَا لَأَنْصُرَنَّهُ، فَبَلَغَ ابْنَ زِيَادٍ
ذَلِكَ فَحَبْسَهُ بَعْدَمَا ضَرَبَهُ مِائَةَ جَلْدَةٍ، فَأَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ
إِلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَشْفَعُ فِيهِ، فَأَرْسَلَ يَزِيدُ إِلَى ابْنِ
زِيَادٍ فَأَطْلَقَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى
الْحِجَازِ فِي عَبَاءَةٍ، فَضَوَى
إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، فَقَاتَلَ مَعَهُ حِينَ حَصَرَهُ أَهْلُ
الشَّامِ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَلَغَ الْمُخْتَارُ مَا أَهْلُ الْعِرَاقِ
فِيهِ مِنَ التَّخْبِيطِ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ وَتَرَكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى
ابْنِ مُطِيعٍ نَائِبِ الْكُوفَةِ فَفَعَلَ، فَسَارَ إِلَيْهَا.
وَكَانَ يُظْهِرُ مَدْحَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْعَلَانِيَةِ وَيَسُبُّهُ فِي
السِّرِّ، وَيَمْدَحُ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَا
زَالَ حَتَّى اسْتَحْوَذَ عَلَى الْكُوفَةِ بِطَرِيقِ التَّشَيُّعِ وَإِظْهَارِ
الْأَخْذِ بِثَأْرِ الْحُسَيْنِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الْتَفَّتْ عَلَيْهِ
جَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ حَتَّى قَاوَمَ نُوَّابَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
عَلَى الْكُوفَةِ، وَأَخْرَجَ عَامِلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِنْهَا، وَاسْتَقَرَّ
مُلْكُ الْمُخْتَارِ بِهَا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَعْتَذِرُ
إِلَيْهِ وَيُخْبِرُهُ أَنَّ ابْنَ مُطِيعٍ كَانَ مُدَاهِنًا لِبَنِي أُمَيَّةَ،
وَقَدْ خَرَجَ مَنَ الْكُوفَةِ، وَأَنَا وَمَنْ بِهَا فِي طَاعَتِكَ، فَصَدَّقَهُ
ابْنُ الزُّبَيْرِ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَدْعُو لَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ
الْجُمْعَةِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَيُظْهِرُ طَاعَتَهُ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي تَتَبُّعِ قَتَلَةِ الْحُسَيْنِ وَمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ
بِكَرْبَلَاءَ مِنْ نَاحِيَةِ ابْنِ زِيَادٍ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَظَفِرَ بِرُءُوسِ كِبَارٍ مِنْهُمْ كَعُمَرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِينَ قَتَلُوا الْحُسَيْنَ، وَ شَمِرِ بْنِ ذِي
الْجَوْشَنِ أَمِيرِ الْأَلْفِ الَّذِينَ وَلُوا قَتْلَ الْحُسَيْنِ، وَ سِنَانَ
بْنَ أَبِي أَنَسٍ، وَ خَوْلِيِّ بْنِ يَزِيدَ الْأَصْبَحِيِّ، وَخَلْقًا غَيْرَ
هَؤُلَاءِ، وَمَا زَالَ حَتَّى بَعَثَ سَيْفَ نِقْمَتِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا
إِلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَهُوَ فِي
جَيْشٍ أَعْظَمَ مِنْ جَيْشِ الْمُخْتَارِ بِأَضْعَافٍ، كَانُوا سِتِّينَ أَلْفًا،
وَقِيلَ: ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَقَتَلَ ابْنُ الْأَشْتَرِ بْنَ زِيَادٍ وَكَسَرَ
جَيْشَهُ، وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، - وَاتَّفَقَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ
عَاشُورَاءَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ -، ثُمَّ بَعَثَ بِرَأْسِ ابْنِ زِيَادٍ
وَرُءُوسِ أَصْحَابِهِ مَعَ الْبِشَارَةِ إِلَى الْمُخْتَارِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ
فَرَحًا شَدِيدًا. ثُمَّ إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعْثَ بِرَأْسِ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ زِيَادٍ وَرَأْسِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ وَمَنْ مَعَهُمَا إِلَى عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ فَأَمَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِهَا فَنُصِبَتْ
عَلَى عَقَبَةِ الْحَجُونَ، وَقَدْ كَانُوا نَصَبُوهَا بِالْمَدِينَةِ.
وَطَابَتْ نَفْسُ الْمُخْتَارِ بِالْمُلْكِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ
عَدُوٌّ وَلَا مُنَازِعٌ، ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ تَبَيَّنَ خِدَاعَهُ
وَمَكْرَهُ وَسُوءَ مَذْهَبِهِ، فَبَعَثَ أَخَاهُ مُصْعَبًا أَمِيرًا عَلَى
الْعِرَاقِ، فَسَارَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، وَوَفَدَ
إِلَيْهِ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَتِمَّ سُرُورُ الْمُخْتَارِ حَتَّى
سَارَ إِلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي جَيْشٍ هَائِلٍ
فَحَاصَرَهُ بِالْكُوفَةِ، وَضَيَّقَ عَلَيْهِ، وَمَا زَالَ حَتَّى أَمْكَنَ
اللَّهُ مِنْهُ، فَقَتَلَهُ وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَمَرَ بِصَلْبِ كَفِّهُ عَلَى
بَابِ الْمَسْجِدِ، وَبَعَثَمُصْعَبٌ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ مَعَ رَجُلٍ مِنَ
الشُّرَطِ عَلَى الْبَرِيدِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،
فَوَصَلَ مَكَّةَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ يَتَنَفَّلُ، فَمَا
زَالَ يُصَلِّي حَتَّى أَسْحَرَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الْبَرِيدِ الَّذِي
جَاءَ بِالرَّأْسِ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبَ الْفَجْرِ قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ ؟
فَأَلْقَى إِلَيْهِ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
مَعِي الرَّأْسُ. فَقَالَ: أَلْقِهِ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ. فَأَلْقَاهُ ثُمَّ جَاءَ
فَقَالَ: جَائِزَتِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: جَائِزَتُكَ الرَّأْسُ
الَّذِي جِئْتَ بِهِ تَأْخُذُهُ مَعَكَ إِلَىالْعِرَاقِ.
ثُمَّ زَالَتْ دَوْلَةُ الْمُخْتَارِ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ
الدُّوَلِ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِزَوَالِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ
لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ صَادِقًا، بَلْ كَانَ كَاذِبًا وَكَاهِنًا، وَكَانَ
يَزْعُمُ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ عَلَى يَدِ جِبْرِيلَ يَأْتِي
إِلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى
الْقَارِئُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا السُّدِّيُّ، عَنْ رِفَاعَةَ
الْقِتْبَانِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ فَأَلْقَى لِي وِسَادَةً
وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَخِي جِبْرِيلَ قَامَ عَنْ هَذِهِ لَأَلْقَيْتُهَا لَكَ.
قَالَ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ. قَالَ: فَذَكَرْتُ حَدِيثًا
حَدَّثَنِيهِ أَخِي عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَمَّنَ مُؤْمِنًا عَلَى دَمِهِ
فَقَتَلَهُ، فَأَنَا مِنَ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، عَنْ
رَفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْمُخْتَارِ،
فَلَمَّا عَرَفْتُ كَذِبَهُ هَمَمْتُ أَنْ أَسُلَّ سَيْفِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ،
فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثْنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْحَمِقِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى
نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرَوَاهُ
النَّسَائِيُّ، وَ ابْنُ مَاجَهْ
مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا:مَنْ أَمَّنَ رَجُلًا عَلَى
دَمٍ فَقَتَلَهُ، فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقَاتِلِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ
كَافِرًا وَفِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافٌ. وَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ:
إِنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّ الْوَحْيَ يَأْتِيهِ. فَقَالَ: صَدَقَ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ
فَأَكْرَمَنِي وَأَنْزَلَنِي حَتَّى كَانَ يَتَعَاهَدُ مَبِيتِي بِاللَّيْلِ،
قَالَ: فَقَالَ لِي: اخْرُجْ فَحَدِّثَ النَّاسَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَجَاءَ
رَجُلٌ فَقَالَ: مَا تَقَوُلُ فِي الْوَحْيِ ؟ فَقُلْتُ: الْوَحْيُ وَحْيَانِ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ. وَقَالَ
تَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا قَالَ:
فَهَمُّوا بِي أَنْ يَأْخُذُونِي، فَقُلْتُ: مَا لَكُمْ وَذَاكَ، إِنِّي
مُفْتِيكُمْ وَضَيْفُكُمْ، فَتَرَكُونِي. وَإِنَّمَا أَرَادَ عِكْرِمَةُ أَنْ
يُعَرِّضَ بِالْمُخْتَارِ وَكَذِبِهِ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ
عَلَيْهِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، مِنْ طَرِيقِ أُنَيْسَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ،
أَنَّ أَبَاهَا دَخَلَ
عَلَى الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي
عُبَيْدٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَامِرٍ لَوْ سَبَقْتَ رَأَيْتَ جِبْرِيلَ
وَمِيكَائِيلَ. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: حُقِرْتَ وَتَعِسْتَ، أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى
اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، كَذَّابٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا ابْنُ
عَوْفٍ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ
دَخْلَ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، بَعْدَمَا قَتَلَ
ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي
هَذَا الْبَيْتِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَذَاقَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَفَعَلَ بِهِ
وَفَعَلَ، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ بَرًّا بِالْوَالِدَيْنِ، صَوَّامًا
قَوَّامًا، وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ الْآخِرُ مِنْهُمَا شَرٌّ
مِنَ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُبِيرٌ. هَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِهَذَا السَّنَدِ
وَاللَّفْظِ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " فِي كِتَابِ الْفَضَائِلِ،
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُكْرَمٍ الْعَمِّيِّ الْبَصْرِيِّ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ
عَنْ أَبِي عَقْرَبٍ - وَاسْمُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُسْلِمٍ - عَنْ
أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ
فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا. وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ فِي
مَقْتَلِ الْحَجَّاجِ وَلَدَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي. وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا
الْحَدِيثَ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ.
وَذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْكَذَّابَ هُوَ الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ،
وَكَانَ يُظْهِرُ التَّشَيُّعَ وَيُبْطِنُ الْكَهَانَةَ، وَيُسِرُّ إِلَى
أَخِصَّائِهِ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَكِنْ مَا أَدْرِي هَلْ كَانَ يَدَّعِي
النُّبُوَّةَ أَمْ لَا ؟ وَكَانَ قَدْ وُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ يُعَظَّمُ، وَيُحَفُّ
بِالرِّجَالِ وَيُسْتَرُ بِالْحَرِيرِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْبِغَالِ، وَكَانَ
يُضَاهِي بِهِ تَابُوتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا
شَكَّ أَنَّهُ كَانَ ضَالًّا مُضِلًّا، أَرَاحَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ
بَعْدَمَا انْتَقَمَ بِهِ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ. وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْقَتَّالُ وَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ
يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، نَائِبُ الْعِرَاقِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
الَّذِي انْتَزَعَ الْعِرَاقَ مِنْ يَدِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْمُخْتَارَ لَمْ يَزَلْ مُظْهِرًا مُوَافَقَةَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ مُصْعَبٌ إِلَى الْبَصْرَةِ فِي أَوَّلِ سَنَةِ
سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَأَظْهَرَ مُخَالَفَتَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِ مُصْعَبٌ
فَقَاتَلَهُ، وَكَانَ الْمُخْتَارُ فِي نَحْوٍ مَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَقَدْ
حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُخْتَارُ مَرَّةً فَهَزَمَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ جَيْشُ
الْمُخْتَارِ حَتَّى جَعَلُوا يَنْصَرِفُونَ إِلَى مُصْعَبٍ وَيَدْعُونَ
الْمُخْتَارَ،
وَيَنْقِمُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ
مِنَ الْكَهَانَةِ وَالْكَذِبِ. فَلَمَّا رَأَى الْمُخْتَارُ ذَلِكَ انْصَرَفَ
إِلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَحَاصَرَهُ مُصْعَبٌ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ،
ثُمَّ قَتَلَهُ فِي رَابِعَ عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ، وَلَهُ
مِنَ الْعُمُرِ سَبْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً فِيمَا قِيلَ.
فَصْلٌ ( اسْتِقْرَارُ الْأَمْرِ لِمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ )
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِالْكُوفَةِ بَعْثَ إِلَى
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَبَعَثَ عَبْدَ الْمَلِكِ
بْنَ مَرْوَانَ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَحَارَ ابْنُ الْأَشْتَرِ فِي أَمْرِهِ،
وَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ إِلَى أَيِّهِمَا يَذْهَبُ، ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُهُمْ
عَلَى الذَّهَابِ إِلَى بَلَدِهِمُ الْكُوفَةِ، فَقَدِمَ ابْنُ الْأَشْتَرَ عَلَى
مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَاحْتَرَمَهُ كَثِيرًا،
وَبَعَثَ مُصْعَبٌ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى الْمَوْصِلِ
وَالْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ وَأَرْمِينِيَّةَ - وَكَانَ قَدِ اسْتَخْلَفَ
عَلَى الْبَصْرَةِ حِينَ خَرَجَ مِنْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَعْمَرٍ - وَأَقَامَ هُوَ بِالْكُوفَةِ. ثُمَّ لَمْ تَنْسَلِخُ هَذِهِ
السَّنَةُ حَتَّى عَزَلَهُ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ
الْبَصْرَةِ وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَهُ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَكَانَ شُجَاعًا جَوَادًا مُخَلِّطًا، يُعْطِي أَحْيَانًا حَتَّى
لَا يَدَعَ شَيْئًا، وَيَمْنَعُ أَحْيَانًا مَا لَا يُمْنَعُ مِثْلُهُ، وَظَهَرَتْ
خِفَّتُهُ وَطَيْشٌ فِي عَقْلِهِ وَسُرْعَةٌ فِي أَمْرِهِ، فَبَعَثَ الْأَحْنَفُ
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَعَزَلَهُ وَأَعَادَ إِلَى وِلَايَتِهَا
أَخَاهُ مُصْعَبًا مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ وِلَايَةِ الْكُوفَةِ،
قَالُوا: وَخَرَجَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِنَ
الْبَصْرَةِ بِمَالٍ كَثِيرٍ مِنْ بَيْتِ مَالِهَا فَعَرَضَ لَهُ مَالِكُ بْنُ
مِسْمَعٍ، فَقَالَ: لَا نَدَعُكَ تَذْهَبُ بِأَعْطِيَاتِنَا. فَضَمِنَ لَهُ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَعْمَرٍ الْعَطَاءَ، فَكَفَّ عَنْهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ حَمْزَةُ لَمْ
يَقْدَمْ عَلَى أَبِيهِ مَكَّةَ بَلْ عَدَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَوْدَعَ
ذَلِكَ الْمَالَ رِجَالًا، فَكُلُّهُمْ غَلَّ مَا أَوْدَعَهُ وَجَحَدَهُ، سِوَى
رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَدَّى إِلَيْهِ أَمَانَتَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ
أَبَاهُ مَا صَنَعَ، قَالَ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ، أَرَدْتُ أَنْ أُبَاهِيَ بِهِ
بَنِي مَرْوَانَ فَنَكَصَ.
وَذَكَرَ أَبُو مِخْنَفٍ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَلِيَ الْبَصْرَةَ سَنَةً كَامِلَةً، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ عَامِلُهُ عَلَى الْكُوفَةِ أَخَاهُ مُصْعَبًا، وَعَلَى
الْبَصْرَةِ ابْنَهُ حَمْزَةَ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ رَجَعَ إِلَيْهَا أَخُوهُ.
وَعَلَى خُرَاسَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ السُّلَمِيُّ
مِنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْوَلِيدُ بْنُ عَقَبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَ أَبُو الْجَهْمِ، وَهُوَ
صَاحِبُ الْأَنْبِجَانِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَفِيهَا
قُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
فَفِيهَا رَدَّ عَبْدُ اللَّهِ أَخَاهُ مُصْعَبًا إِلَى إِمْرَةِ الْبَصْرَةِ،
فَأَتَاهَا فَأَقَامَ بِهَا. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ ; قُبَاعًا، وَاسْتَعْمَلَ
عَلَى الْمَدِينَةِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ الزُّهْرِيَّ، وَعَزَلَ عَنْهَا
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَشْعَثِ ; لِكَوْنِهِ ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيَّبِ سِتِّينَ سَوْطًا، فَإِنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يُبَايِعَ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ فَعَزَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ قُسْطَنْطِينُ بْنُ قُسْطَنْطِينَ بِبَلَدِهِ،
لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْأَزَارِقَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ مُصْعَبًا كَانَ قَدْ
عَزَلَ عَنْ نَاحِيَةِ فَارِسَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ، وَكَانَ
قَاهِرًا لَهُمْ، وَوَلَّاهُ الْجَزِيرَةَ، وَوَلَّى عَلَى فَارِسَ عُمَرَ بْنَ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ فَثَارُوا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ عُمَرُ بْنُ
عُبَيْدِ اللَّهِ فَقَهَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ، وَكَانُوا مَعَ أَمِيرِهِمِ
الزُّبَيْرِ بْنِ الْمَاحُوزِ، فَفَرُّوا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى إِصْطَخْرَ،
فَاتَّبَعَهُمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَقَتَلُوا ابْنَهُ،
ثُمَّ ظَفِرَ بِهِمْ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ هَرَبُوا إِلَى بِلَادِ أَصْبَهَانَ،
وَنَوَاحِيهَا فَتَقَوَّوْا هُنَالِكَ، وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ وَعُدَدُهُمْ، ثُمَّ
أَقْبَلُوا يُرِيدُونَ الْبَصْرَةَ، فَمَرُّوا بِبَعْضِ بِلَادِ فَارِسَ،
وَتَرَكُوا عُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ،
فَلَمَّا سَمِعَ مُصْعَبٌ بِقُدُومِهِمْ رَكِبَ فِي النَّاسِ، وَجَعَلَ يَلُومُ عُمَرَ
بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بِتَرْكِهِ هَؤُلَاءِ يَجْتَازُونَ بِبِلَادِهِ إِلَى
الْبَصْرَةِ وَقَدْ رَكِبَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ مَعْمَرٍ فِي آثَارِهِمْ،
فَبَلَغَ الْخَوَارِجَ أَنَّ مُصْعَبًا أَمَامَهُمْ وَعُمَرَ بْنَ عُبَيْدِ
اللَّهِ وَرَاءَهُمْ، فَعَدَلُوا إِلَى الْمَدَائِنِ فَجَعَلُوا يَقْتُلُونَ
النِّسَاءَ وَالْوِلْدَانَ، وَيَبْقُرُونَ بُطُونَ الْحَبَالَى، وَيَفْعَلُونَ
أَفْعَالًا لَمْ يَفْعَلْهَا غَيْرُهُمْ ; فَقَصَدَهُمْ نَائِبُ الْكُوفَةِ
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَمَعَهُ أَهْلُهَا
وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَشْرَافِهَا، مِنْهُمُ ابْنُ الْأَشْتَرِ، وَ شَبَثُ بْنُ
رِبْعِيٍّ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهِمْ عِنْدَ جِسْرِ الصَّرَاةِ، قَطَعَهُ
الْخَوَارِجُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِإِعَادَتِهِ،
فَأُعِيدَ، فَفَرَّتِ الْخَوَارِجُ هَارِبِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَهُمْ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ فِي سِتَّةِ آلَافٍ فَمَرُّوا عَلَى الْكُوفَةِ،
ثُمَّ صَارُوا إِلَى أَرْضِ أَصْبَهَانَ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ وَلَمْ
يُقَاتِلْهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا فَحَاصَرُوا عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ شَهْرًا،
بِمَدِينَةِ جُبَّا حَتَّى ضَيَّقُوا عَلَى النَّاسِ، فَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ
فَقَاتَلُوهُمْ فَكَشَفُوهُمْ وَقَتَلُوا أَمِيرَهُمِ الزُّبَيْرَ بْنَ
الْمَاحُوزِ، وَغَنِمُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَأَمَّرَتِ الْخَوَارِجُ عَلَيْهِمْ
قَطَرِيَّ بْنَ الْفُجَاءَةِ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، فَكَتَبَ
مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ - وَهُوَ عَلَى
الْمَوْصِلِ - أَنَّ يَسِيرَ إِلَى قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ أَبْصَرَ
النَّاسَ بِقِتَالِهِمْ، وَبَعَثَ مَكَانَهُ إِلَى الْمَوْصِلِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ
الْأَشْتَرِ فَانْصَرَفَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْأَهْوَازِ فَقَاتَلَ فِيهَا
الْخَوَارِجَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ قِتَالًا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ
بِبِلَادِ الشَّامِ ; بِحَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مَعَهُ مِنَ الْغَزْوِ
لِضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ طَعَامِهِمْ وَمِيرَتِهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا قُتِلَ
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُرِّ وَكَانَ مَنْ خَبَرِهِ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا شُجَاعًا
تَتَقَلَّبُ بِهِ الْأَحْوَالُ وَالْأَيَّامُ وَالْآرَاءُ، حَتَّى صَارَ مِنْ
أَمْرِهِ أَنَّهُ لَا يَنْطَاعُ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ وَلَا لِآلِ
الزُّبَيْرِ، وَكَانَ يَمُرُّ عَلَى عَامِلِ الْكُورَةِ مِنَ الْعِرَاقِ
وَغَيْرِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا فِي بَيْتِ مَالِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ
قَهْرًا، وَيَكْتُبُ لَهُ بَرَاءَةً، وَيَذْهَبُ فَيُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ،
وَكَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْأُمَرَاءُ يَبْعَثُونَ إِلَيْهِ الْجُيُوشَ
فَيَطْرُدُهَا وَيَكْسِرُهَا، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ حَتَّى كَاعَ فِيهِ مُصْعَبُ
بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُمَّالُهُ بِبِلَادِ الْعِرَاقِ، ثُمَّ إِنَّهُ وَفَدَ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَبَعْثَهُ فِي عَشَرَةِ نَفَرٍ، وَقَالَ:
ادْخُلِ الْكُوفَةَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الْجُنُودَ سَتَصِلُ إِلَيْهِمْ
سَرِيعًا. فَبَعَثَ فِي السِّرِّ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَظَهَرَ عَلَى
أَمْرِهِ، فَأَعْلَمَ أَمِيرَ الْكُوفَةِ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ،
فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَقَتَلُوهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ،
وَحُمِلَ رَأْسُهُ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَرَاحَ
النَّاسُ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا شَهِدَ مَوْقِفَ عَرَفَةَ أَرْبَعُ رَايَاتٍ
مُتَبَايِنَةٍ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَا تَأْتَمُّ بِالْأُخْرَى ;
الْوَاحِدَةُ لِمُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَصْحَابِهِ، وَالثَّانِيَةُ
لِنَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَالثَّالِثَةُ لِبَنِي أُمَيَّةَ،
وَالرَّابِعَةُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَفَعَ
رَايَةَ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، ثُمَّ نَجْدَةُ، ثُمَّ بَنُو أُمَيَّةَ، ثُمَّ
دَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَدُفَعَ النَّاسَ مَعَهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ فِيمَنِ انْتَظَرَ دَفْعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَلَكِنَّهُ تَأَخَّرَ
دَفْعُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَشْبَهَ بِتَأْخِيرِهِ دَفْعَ الْجَاهِلِيَّةِ،
فَدَفَعَ ابْنُ عُمَرَ فَدَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَتَحَاجَزَ النَّاسُ فِي هَذَا
الْعَامِ فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ
لِابْنِ الزُّبَيْرِ جَابِرُ بْنُ
الْأَسْوَدِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ أَخُوهُ
مُصْعَبٌ، وَعَلَى مُلْكِ الشَّامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَوْسِيُّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ. وَعَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ الْعَدَوِيُّ ابْنِ أَخِي
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ عَنْ نَحْوِ سَبْعِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ.
عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ،
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ سَكَنَ الْكُوفَةَ ثُمَّ سَكَنَ قَرْقِيسْيَاءَ.
زَيْدُ بْنُ أَرَقَمَ بْنِ زَيْدٍ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَابْنُ عَمِّ رَسُولِ الْمَلِكِ
الدَّيَّانِ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ أَبُو الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيُّ بْنُ عَمِّ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُفَسِّرُ
كِتَابِ اللَّهِ وَتُرْجُمَانُهُ، كَانَ يُقَالُ لَهُ: الْحَبْرُ وَالْبَحْرُ،
رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَأُمَمٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَلَهُ مُفْرَدَاتٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنَ
الصَّحَابَةِ ; لِاتِّسَاعِ عِلْمِهِ وَكَثْرَةِ فَهْمِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ
وَسِعَةِ فَضْلِهِ وَنُبْلِ أَصْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَأُمُّهُ أُمُّ الْفَضْلِ لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ أُخْتُ
مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ وَالِدُ الْخُلَفَاءِ
الْعَبَّاسِيِّينَ وَهُوَ أَحَدُ إِخْوَةٍ عَشَرَةٍ ذُكُورٍ لِلْعَبَّاسِ مِنْ
أُمِّ الْفَضْلِ، وَهُوَ آخِرُهُمْ مَوْلِدًا، وَقَدْ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنَ الْآخَرِ جِدًّا، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ الْمَكِّيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْبِ جَاءَ أَبِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرَى أُمَّ
الْفَضْلِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى حَمْلٍ، فَقَالَ: لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُقِرَّ
أَعْيُنَكُمْ " قَالَ: فَأَتَى بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَنَا فِي خِرْقَةٍ فَحَنَّكَنِي بِرِيقِهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فَلَا
نَعْلَمُ أَحَدًا حَنَّكَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرِيقِهِ غَيْرَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَيِّضَ وُجُوهَنَا بِغُلَامٍ
فَوَلَدَتْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ:
وُلِدَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَامَ الْهِجْرَةِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ: وُلِدْتُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ وَنَحْنُ فِي الشِّعْبِ،
وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ
فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَجَّ الْوَاقِدِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ قَدْ
نَاهَزَ الْحُلُمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَخْتُونٌ، وَكَانُوا
لَا يَخْتِنُونَ الْغُلَامَ حَتَّى يَحْتَلِمَ. وَقَالَ شُعْبَةُ، وَ هُشَيْمٌ
وَأَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ،
مَخْتُونٌ. زَادَ هُشَيْمٌ: وَقَدْ جَمَعْتُ الْمُحْكَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: وَمَا الْمُحْكَمُ ؟ قَالَ:
الْمُفَصَّلُ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً
مَخْتُونٌ. وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ، وَيُؤَيِّدُهُ صِحَّةُ مَا ثَبَتَ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ "، وَرَوَاهُ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ،
وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الِاحْتِلَامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ،
فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ
تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ.
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصَّحِيحِ " أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي
مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ ;
كَانَتْ أُمِّي مِنَ النِّسَاءِ
وَكُنْتُ أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ. وَهَاجَرَ مَعَ أَبِيهِ قَبْلَ الْفَتْحِ،
فَاتَّفَقَ لُقْيَاهُمَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ ذَاهِبٌ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَشَهِدَ الْفَتْحَ وَحُنَيْنًا
وَالطَّائِفَ عَامَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَحَجَّةُ
الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ. وَصَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْ حِينَئِذٍ وَلَزِمَهُ وَأَخَذَ عَنْهُ وَحَفِظَ، وَضَبَطَ الْأَقْوَالَ
وَالْأَفْعَالَ وَالْأَحْوَالَ، وَأَخَذَ عَنِ الصَّحَابَةِ عِلْمًا عَظِيمًا مَعَ
الْفَهْمِ الثَّاقِبِ وَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْجَمَالِ وَالْمَلَاحَةِ
وَالْأَصَالَةِ وَالْبَيَانِ، وَدَعَا لَهُ رَسُولُ الرَّحْمَنِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ
الْأَرْكَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ
بِأَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ، وَأَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي سَاعِدَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ
الْمُزَنِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ
فَيُقَرِّبُهُ وَيَقُولُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دَعَاكَ يَوْمًا فَمَسَحَ رَأْسَكَ، وَتَفَلَ فِي فِيكَ وَقَالَ:
اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، وَبِهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ
فِيهِ وَانْشُرْ مِنْهُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَوَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
غُسْلًا فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا ؟
قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ
التَّأْوِيلَ، وَفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ
ابْنِ خُثَيْمٍ بِنَحْوِهِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ، ثَنَا حَاتِمُ
بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ أَبُو يُونُسَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنْ كُرَيْبًا
أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ فَصَلَّيْتُ خَلْفَهُ، فَأَخَذَ بِيَدِي
فَجَرَّنِي حَتَّى جَعَلَنِي حِذَاءَهُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صِلَاتِهِ خَنَسْتُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِي: مَا شَأْنِي
أَجْعَلُكَ فِي حِذَائِي فَتَخْنِسُ ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَوَيَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ حِذَاءَكَ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ
الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ: فَأَعْجَبْتُهُ، فَدَعَا
اللَّهَ لِي أَنْ يَزِيدَنِي عِلْمًا وَفَهْمًا، قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُهُ يَنْفُخُ، ثُمَّ
أَتَاهُ بِلَالٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةُ. فَقَامَ فَصَلَّى مَا
أَعَادَ وُضُوءًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ،
ثَنَا وَرْقَاءُ، سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي يَزِيدَ يُحَدِّثُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وُضُوءًا، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ: مَنْ وَضَعَ ذَا ؟
فَقِيلَ: ابْنُ عَبَّاسٍ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ
التَّأْوِيلَ
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ
لَيْثٍ، عَنْ أَبِي جَهْضَمٍ مُوسَى بْنِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ
رَأَى جِبْرِيلَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَعَا لَهُ بِالْحِكْمَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ بِالْعِلْمِ - مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ الْقَاسِمِ الْهَاشِمِيُّ
وَآخَرُونَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ النَّخَعِيُّ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ
مَرَّتَيْنِ وَدَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْحِكْمَةِ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ. تَفَرَّدَ بِهِ عَنْهُ أَبُو مَالِكٍ
النَّخَعِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حُسَيْنٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ
عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ. وَرَوَاهُ
أَحْمَدُ أَيْضًا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ،
عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ، قَالَ: ضَمَّنِي إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ. وَقَدْ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ، وَ التِّرْمِذِيُّ، وَ النَّسَائِيُّ، وَ ابْنُ مَاجَهْ، مِنْ
حَدِيثِ خَالِدٍ - وَهُوَ ابْنُ مِهْرَانَ
الْحَذَّاءُ - عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ
بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
بِلَالٍ، ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
اللَّهُمَّ أَعْطِ ابْنَ عَبَّاسٍ الْحِكْمَةَ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ تَفَرَّدَ
بِهِ أَحْمَدُ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِ هَذَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلَهُ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْمُتَّصِلُ هُوَ الصَّحِيحُ،
فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ
مِنْ طَرِيقِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِيِّ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ
عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، وَ عَفَّانُ، الْمَعْنَى،
قَالَا: ثَنَا حَمَّادٌ، ثَنَا عَمَّارُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يُنَاجِيهِ، قَالَ عَفَّانُ: وَهُوَ كَالْمُعْرِضِ عَنِ
الْعَبَّاسِ، فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى
ابْنِ عَمِّكَ كَالْمُعْرِضِ عَنِّي ؟ فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ رَجُلٌ
يُنَاجِيهِ. قَالَ عَفَّانُ: قَالَ:
أَوَكَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَلْ كَانَ عِنْدَكَ أَحَدٌ ; فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَنِي
أَنَّهُ كَانَ عِنْدَكَ رَجُلٌ تُنَاجِيهِ ؟ قَالَ: هَلْ رَأَيْتَهُ يَا عَبْدَ
اللَّهِ ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْمَهْدِيِّ عَنْ آبَائِهِ، وَفِيهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: أَمَا إِنَّكَ سَتُصَابُ
فِي بَصَرِكَ فَكَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ صِفَةٍ أُخْرَى لِرُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ
، رَوَاهَا قُتَيْبَةُ، عَنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ
مُوسَى بْنِ مَيْسَرَةَأَنَّ الْعَبَّاسَ بَعَثَ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ فِي
حَاجَةٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ
عِنْدَهُ رَجُلًا، فَرَجَعَ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مِنْ أَجْلِ مَكَانِ ذَلِكَ
الرَّجُلِ، فَلَقِيَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ ابْنِي
فَوَجَدَ عِنْدَكَ رَجُلًا فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكَلِّمَكَ فَرَجَعَ
وَرَاءَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا
عَمِّ، تَدْرِي مَنْ ذَاكَ الرَّجُلُ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ
وَلَنْ يَمُوتَ ابْنُكَ حَتَّى
يَذْهَبَ بَصَرُهُ وَيُؤْتَى عِلْمًا وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ
ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ كَذَلِكَ، وَلَهُ طَرِيقٌ أُخْرَى. وَقَدْ وَرَدَ فِي
فَضَائِلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ مُنْكَرٌ جِدًّا
أَضْرَبْنَا عَنْ كَثِيرٍ مِنْهَا صَفْحًا، وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مَقْنَعٌ
وَكِفَايَةٌ عَمَّا سِوَاهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَافِظُ، أَنْبَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي بِمَرْوَ، ثَنَا
الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ
لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ. فَقَالَ: يَا
عَجَبًا لَكَ يَابْنَ عَبَّاسٍ ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي
النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
فِيهِمْ ؟ قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ لَيَبْلُغُنِي
الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ، فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي
عَلَى بَابِهِ يَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ، فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي
فَيَقُولُ: يَابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ، مَا جَاءَ بِكَ ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ
إِلَيَّ فَآتِيكَ ؟ فَأَقُولُ: لَا، أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ. قَالَ:
فَأَسْأَلُهُ عَنِ الْحَدِيثِ. قَالَ:
فَعَاشَ هَذَا الرَّجُلُ
الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلِي النَّاسُ يَسْأَلُونِي،
فَيَقُولُ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، ثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
وَجَدْتُ عَامَّةَ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِنْدَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، إِنْ كُنْتُ لَأَقِيلُ بِبَابِ
أَحَدِهِمْ، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي عَلَيْهِ لَأَذِنَ، وَلَكِنْ
أَبْتَغِي بِذَلِكَ طِيبَ نَفْسِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي
قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ
ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَلْزَمُ الْأَكَابِرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ،
فَأَسْأَلُهُمْ عَنْ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ، وَكُنْتُ لَا آتِي أَحَدًا مِنْهُمْ
إِلَّا سُرَّ بِإِتْيَانِي ; لِقُرْبِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلْتُ أَسْأَلُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَوْمًا - وَكَانَ
مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ - عَمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ
بِالْمَدِينَةِ. فَقَالَ: نَزَلَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً وَسَائِرُهَا
بِمَكَّةَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: عَامَّةُ
عِلْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ
ثَلَاثَةٍ مِنْ عُمَرَ، وَ عَلِيٍّ، وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لَأَسْأَلُ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّى أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمَ ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَئُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ. وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يُجْلِسُ ابْنَ عَبَّاسٍ مَعَ مَشَايِخِ الصَّحَابَةِ، وَيَقُولُ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ إِذَا أَقْبَلَ يَقُولُ عُمَرُ: جَاءَ فَتَى الْكُهُولِ، وَذُو اللِّسَانِ السَّئُولِ وَالْقَلْبِ الْعُقُولِ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ الصَّحَابَةَ عَنْ تَفْسِيرِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ فَسَكَتَ بَعْضٌ وَأَجَابَ بَعْضٌ بِجَوَابٍ لَمْ يَرْتَضِهِ عُمَرُ، ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهَا فَقَالَ: أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ. وَأَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ أَنْ يُقَرِّرَ عِنْدَهُمْ جَلَالَةَ قَدْرِهِ، وَكَبِيرَ مَنْزِلَتِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ. وَسَأَلَهُ مَرَّةً عَنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَاسْتَنْبَطَ أَنَّهَا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، فَاسْتَحْسَنَهُ عُمَرُ وَاسْتَجَادَهُ، كَمَا ذَكَرْنَا
فِي التَّفْسِيرِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:
قَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا مَا عَلِمْنَاهُ. وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيُّ: قَالَ عُمَرُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّكَ لَأَصْبَحُ فِتْيَانِنَا
وَجْهًا، وَأَحْسَنُهُمْ عَقْلًا وَأَفْقَهُهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ. وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
لِي أَبِي: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يُدْنِيكَ وَيُجْلِسُكَ مَعَ أَكَابِرِ
الصَّحَابَةِ، فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا ; لَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلَا
تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا، وَلَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ الشَّعْبِيُّ:
قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ، فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عُمَرَ، وَ
عُثْمَانَ كَانَا يَدْعُوَانِ ابْنَ عَبَّاسٍ
فَيُشِيرُ مَعَ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَ
يُفْتِي فِي عَهْدِ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ إِلَى يَوْمِ مَاتَ. قُلْتُ: وَشَهِدَ
فَتْحَ إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَعَ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَظَرَ
أَبِي إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَوْمَ الْجَمَلِ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ،
فَقَالَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَ مَنْ لَهُ ابْنُ عَمٍّ مِثْلُ هَذَا. وَقَدْ
شَهِدَ مَعَ عَلِيٍّ الْجَمَلَ وَصِفِّينَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَيْسَرَةِ،
وَشَهِدَ مَعَهُ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَكَانَ مِمَّنْ أَشَارَ عَلَى عَلِيٍّ
أَنْ يَسْتَنِيبَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الشَّامِ وَأَنْ لَا يَعْزِلَهُ عَنْهَا فِي
بَادِئِ الْأَمْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ عَزْلَهُ
فَوَلِّهِ شَهْرًا وَاعْزِلْهُ دَهْرًا. فَأَبَى عَلِيٌّ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَهُ،
فَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَلَمَّا تَرَاوَضَ
الْفَرِيقَانِ عَلَى تَحْكِيمِ الْحَكَمَيْنِ، طَلَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَكُونَ
مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ ; لِيُكَافِئَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَامْتَنَعَتْ مَذْحِجُ
وَأَهْلُ الْيَمَنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَكَمَيْنِ مَا سَلَفَ أَيْضًا.
وَقَدِ اسْتَنَابَهُ عَلِيٌّ عَلَى الْبَصْرَةِ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي
بَعْضِ السِّنِينَ، فَخَطَبَ بِهِمْ فِي عَرَفَاتٍ خُطْبَةً، وَفَسَّرَ فِيهَا
سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ: سُورَةَ النُّورِ. قَالَ مَنْ سَمِعَهُ:
فَسَّرَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ
لَأَسْلَمُوا.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَرَّفَ بِالنَّاسِ فِي الْبَصْرَةِ، فَكَانَ يَصْعَدُ
الْمِنْبَرَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَيَجْتَمِعُ أَهْلُ الْبَصْرَةِ حَوْلَهُ
فَيُفَسِّرُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيُذَكِّرُ النَّاسَ مِنْ بَعْدِ الْعَصْرِ
إِلَى
الْغُرُوبِ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي
بِهِمُ الْمَغْرِبَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بَعْدَهُ فِي ذَلِكَ ;
فَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَعْمَلْهَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ
إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ ذِكْرِ
اللَّهِ وَمُوَافَقَةِ الْحُجَّاجِ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْتَقِدُ عَلَى عَلِيٍّ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ
فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا
حَرَّقَ نَاسًا ارْتَدَوْا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ
فَقَالَ: لَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقُهُمْ بِالنَّارِ ; إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ. وَكُنْتُ
قَاتِلَهُمْ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ
بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: وَيْحَ ابْنِ
عَبَّاسٍ ! وَفِي رِوَايَةٍ: وَيْحَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى
الْهَنَاتِ. وَقَدْ كَافَأَهُ عَلِيٌّ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَرَى
إِبَاحَةَ الْمُتْعَةِ، وَتَحْلِيلَ الْحُمْرِ الْإِنْسِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ
عَلِيٌّ: إِنَّكَ امْرُؤٌ تَائِهٌ ;إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ
الْإِنْسِيَّةِ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخْرَّجٌ فِي "
الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا، وَلَهُ أَلْفَاظٌ هَذَا مِنْ أَحْسَنِهَا،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ الْمُؤَمِّلِ
يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا نَصْرِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ يَقُولُ: وَرَدَ صَعْصَعَةُ
بْنُ صُوحَانَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، فَسَأَلَهُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - وَكَانَ عَلَى خِلَافَتِهِ بِهَا - فَقَالَ صَعْصَعَةُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ آخِذٌ بِثَلَاثٍ، وَتَارِكٌ لِثَلَاثٍ ; آخِذٌ
بِقُلُوبِ الرِّجَالِ إِذَا حَدَّثَ، وَبِحُسْنِ الِاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ،
وَبِأَيْسَرِ الْأَمْرَيْنِ إِذَا خُولِفَ، وَتَرْكِ الْمِرَاءِ، وَمُقَارَنَةِ
اللَّئِيمِ، وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا
رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْضَرَ فَهْمًا وَلَا أَلَبَّ لُبًّا، وَلَا أَكْثَرَ عِلْمًا،
وَلَا أَوْسَعَ حِلْمًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عُمَرَ يَدْعُوهُ
لِلْمُعْضِلَاتِ، ثُمَّ يَقُولُ: عِنْدَكَ، قَدْ جَاءَتْكَ مُعْضِلَةٌ. ثُمَّ لَا
يُجَاوِزُ قَوْلَهُ، وَإِنَّ حَوْلَهُ لَأَهْلُ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَوْ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَسْنَانَنَا
مَا عَشَّرَهُ مِنَّا أَحَدٌ. وَكَانَ يَقُولُ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ
النَّاسِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى: مَاتَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ
النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ، وَقَدْ أُصِيبَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَا
تُرْتَقُ. وَبِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ:
لَمَّا مَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: مَاتَ الْيَوْمَ مَنْ
كَانَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مَنْ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِي الْعِلْمِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
سَبْرَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: مَوْلَاكَ وَاللَّهِ أَفْقَهُ مَنْ مَاتَ وَمَنْ عَاشَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ
حِينَ كَانَ الصُّلْحُ وَأَوَّلُ مَا الْتَقَيْتُ أَنَا وَهُوَ فَإِذَا عِنْدَهُ أُنَاسٌ،
فَقَالَ: مَرْحَبًا بِابْنِ عَبَّاسٍ، مَا تَحَاكَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ
أَحَدٍ كَانَ أَعَزَّ عَلَيَّ بُعْدًا وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ قُرْبًا، الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ عَلِيًّا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُذَمُّ فِي
قَضَائِهِ، وَغَيْرُ هَذَا
الْحَدِيثِ أَحْسَنُ مِنْهُ، ثُمَّ
قُلْتُ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تُعْفِيَنِي مِنِ ابْنِ عَمِّي وَأُعْفِيَكَ
مِنِ ابْنِ عَمِّكَ. قَالَ: ذَلِكَ لَكَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ
حِينَ حَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالنَّاسِ: هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَنَاسِكِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
قَالَ: رَكِبَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَخْذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ:
لَا تَفْعَلْ يَابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا. فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ:
أَرِنِي يَدَيْكَ. فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ، فَقَبَّلَهُمَا، وَقَالَ: هَكَذَا
أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ جُبَيْرٍ، سَمِعْتُ ابْنَ
الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ النَّاسِ. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ فَاتَ النَّاسَ
بِخِصَالٍ ; بِعِلْمِ مَا سَبَقَهُ، وَفِقْهٍ فِيمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْ
رَأْيِهِ، وَحِلْمٍ وَنَسَبٍ وَنَائِلٍ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَعْلَمَ
بِمَا سَبَقَهُ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنْهُ، وَلَا بِقَضَاءِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
مِنْهُ وَلَا أَفْقَهَ فِي رَأْيٍ
مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَ بِشِعْرٍ وَلَا عَرَبِيَّةٍ، وَلَا بِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ
وَلَا بِحِسَابٍ، وَلَا بِفَرِيضَةٍ مِنْهُ، وَلَا أَعْلَمَ بِمَا مَضَى، وَلَا
أَثْبَتَ رَأْيًا فِيمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَقَدْ كَانَ يَجْلِسُ
يَوْمًا مَا يَذْكُرُ فِيهِ إِلَّا الْفِقْهَ، وَيَوْمًا التَّأْوِيلَ، وَيَوْمًا
الْمَغَازِيَ، وَيَوْمًا الشِّعْرَ، وَيَوْمًا أَيَّامَ الْعَرَبِ، وَمَا رَأَيْتُ
عَالِمًا قَطُّ جَلَسَ إِلَيْهِ إِلَّا خَضَعَ لَهُ، وَمَا رَأَيْتُ سَائِلًا
قَطُّ سَأَلَهُ إِلَّا وَجَدَ عِنْدَهُ عِلْمًا. قَالَ: وَرُبَّمَا حَفِظْتُ
الْقَصِيدَةَ مِنْ فِيهِ يَنْشِدُهَا ثَلَاثِينَ بَيْتًا. وَقَالَ هِشَامُ بْنُ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ قُطُّ. وَقَالَ
عَطَاءٌ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا أَكْرَمَ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَكْثَرَ
فِقْهًا، وَلَا أَعْظَمَ هَيْبَةً ; أَصْحَابُ الْقُرْآنِ يَسْأَلُونَهُ،
وَأَصْحَابُ الْعَرَبِيَّةِ يَسْأَلُونَهُ، وَأَصْحَابُ الشِّعْرِ عَنْهُ
يَسْأَلُونَهُ، فَكُلُّهُمْ يَصْدُرُ فِي وَادٍ وَاسِعٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ
طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ بَسَقَ عَلَى النَّاسِ
فِي الْعِلْمِ كَمَا تَبْسُقُ النَّخْلَةُ
السَّحُوقُ عَلَى الْوَدِيِّ
الصِّغَارِ، وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: قُلْتُ لِطَاوُسٍ: لِمَ لَزِمْتَ
هَذَا الْغُلَامَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - وَتَرَكْتَ الْأَكَابِرَ مِنَ
الصَّحَابَةِ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِذَا
تَدَّارَءُوا فِي شَيْءٍ صَارُوا إِلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ طَاوُسٌ أَيْضًا: مَا
رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ. قَالَ: وَمَا خَالَفَهُ أَحَدٌ قَطُّ فَتَرَكَهُ حَتَّى
يُقَرِّرَهُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَ أَبُو نُعَيْمٍ،
وَغَيْرُهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ،
قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَقَدْ مَاتَ يَوْمَ مَاتَ وَإِنَّهُ
لَحَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ
الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرَ ;
لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، وَالزَّبِيرُ
بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَدَّهُمْ
قَامَةً، وَأَعْظَمَهُمْ جَفْنَةً، وَأَوْسَعَهُمْ عِلْمًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
أَيْضًا: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا قَطُّ أَعْرَبَ لِسَانًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ ;
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مَجْلِسًا قَطُّ أَجْمَعَ
لِكُلِّ خَيْرٍ مِنْ مَجْلِسِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ
وَتَفْسِيرُ الْقُرْآنِ، وَالْعَرَبِيَّةُ وَالشِّعْرُ، وَالطَّعَامُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثَنَا سُلَيْمُ
بْنُ أَخْضَرَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، قَالَ: أَنْبَأَنِي مَنْ
أَرْسَلَهُ الْحَكَمُ بْنُ أَيُّوبَ إِلَى الْحَسَنِ يَسْأَلُهُ: مَنْ أَوَّلُ
مَنْ جَمَّعَ بِالنَّاسِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ يَوْمَ عَرَفَةَ ؟ فَقَالَ: إِنَّ
أَوَّلَ مَنْ جَمَّعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلًا مِثَجًّا - أَحْسَبُ فِي
الْحَدِيثِ - كَثِيرَ الْعِلْمِ، وَكَانَ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَقْرَأُ سُورَةَ
الْبَقَرَةِ وَيُفَسِّرُهَا آيَةً آيَةً. وَقَدْ
رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ نَحْوُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ
قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ: رَوَى سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ الْهُذَلِيِّ،
عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَوَّلَ مَنْ عَرَّفَ بِالْبَصْرَةِ ;
صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ فَفَسَّرَهُمَا حَرْفًا
حَرْفًا، وَكَانَ مِثَجًّا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مِثَجًّا مِنَ الثَّجِّ
وَهُوَ السَّيَلَانُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ
مَاءً ثَجَّاجًا وَقِيلَ: كَثِيرًا بِسُرْعَةٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِسًا لَوْ أَنَّ
جَمِيعَ قُرَيْشٍ فَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا فَخْرًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ
اجْتَمَعُوا حَتَّى ضَاقَ بِهِمُ الطَّرِيقُ، فَمَا كَانَ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى
أَنْ يَجِيءَ وَلَا يَذْهَبَ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَخْبَرْتُهُ
بِمَكَانِهِمْ عَلَى بَابِهِ. فَقَالَ لِي: ضَعْ لِي وَضَوْءًا. قَالَ: فَتَوَضَّأَ
وَجَلَسَ، وَقَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ
الْقُرْآنِ وَحُرُوفِهِ وَمَا أُرِيدَ مِنْهُ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ
فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ عَنْهُ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ أَوْ تَأْوِيلِهِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَآذَنْتُهُمْ. قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ، وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا أَوْ أَكْثَرَ. ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ، فَخَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْفِقْهِ فَلْيَدْخُلْ. فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ، فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْفَرَائِضِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَآذَنْتُهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ. فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِخْوَانَكُمْ. فَخَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: اخْرُجْ فَقُلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَالْغَرِيبِ مِنَ الْكَلَامِ فَلْيَدْخُلْ. قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَئُوا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ، فَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشًا كُلَّهَا فَخَرَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ فَخْرًا،
فَمَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا لِأَحَدٍ
مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ طَاوُسٌ، وَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: مَا رَأَيْنَا أَوْرَعَ مِنَ ابْنِ
عُمَرَ، وَلَا أَفْقَهَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مَيْمُونٌ: وَكَانَ ابْنُ
عَبَّاسٍ أَفْقَهَهُمَا. وَقَالَ شُرَيْكٌ الْقَاضِي، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ
أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ
قُلْتُ: أَجْمَلُ النَّاسِ. فَإِذَا نَطَقَ قُلْتُ: أَفْصَحُ النَّاسِ. فَإِذَا
تَحَدَّثَ قُلْتُ: أَعْلَمُ النَّاسِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ
زَيْدٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ
عَبَّاسٍ أَعْلَمَهُمَا بِالْقُرْآنِ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَعْلَمَهُمَا
بِالْمُبْهَمَاتِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ;
لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَخَذَ مَا عِنْدَ عَلِيٍّ مِنَ التَّفْسِيرِ،
وَضَمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا أَخَذَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ،
وَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، مَعَ
دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ
سَلَمَةَ قَالَ: خَطَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ فَافْتَتَحَ
سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَجَعَلَ يَقْرَؤُهَا وَيُفَسِّرُ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: مَا
رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ كَلَامَ رَجُلٍ مِثْلَهِ، لَوْ سَمِعَتْهُ فَارِسُ
وَالرُّومُ لَأَسْلَمَتْ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ
بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حَجَّ
بِالنَّاسِ عَامَ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَقَرَأَ سُورَةَ النُّورِ فَفَسَّرَهَا.
وَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، فَلَعَلَّ الْأَوَّلَ كَانَ فِي زَمَانِ عَلِيٍّ،
فَقَرَأَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، وَفِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ
سُورَةَ النُّورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي
الْعِلْمِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَرَضْتُ
الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَرَّتَيْنِ، مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ،
أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ فَأَسْأَلُهُ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
أَرْبَعٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَا أَدْرِي
مَا هِيَ ; الْأَوَّاهُ، وَالْحَنَّانُ، وَالرَّقِيمُ، وَالْغِسْلِينُ، وَكُلُّ
الْقُرْآنِ أَعْلَمُهُ إِلَّا هَذِهِ الْأَرْبَعَ. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ
وَغَيْرُهُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
يَزِيدَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ ; فَإِنْ
كَانَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَهِيَ فِي
السُّنَّةِ قَالَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقُلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجَدَهَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ قَالَ بِهَا،
وَإِلَّا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنَ
بْنُ حَمَّادٍ الشَّعْبِيُّ، عَنْ كَهْمَسِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنَّكَ
لَتَشْتُمُنِي وَفِيَّ ثَلَاثُ خِصَالٍ، إِنِّي لَآتِي عَلَى الْآيَةِ مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ فَلَوَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ عَلِمُوا مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي
أَعْلَمُ، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَقْضِي
بِالْعَدْلِ، فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلَعَلِّي لَا أُقَاضِي إِلَيْهِ، وَلَا أُحَاكِمُ
أَبَدًا، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ يُصِيبُ الْأَرْضَ مِنْ أَرْضِ
الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ بِهِ،
وَمَا لِي بِهَا مِنْ سَائِمَةٍ
أَبَدًا. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحَاكِمِ، عَنِ الْأَصَمِّ، عَنِ
الْحَسَنِ بْنِ مَكْرَمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ كَهْمَسٍ بِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى
أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا فَقَالَ:
كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقًا لَا تَمْطُرُ، وَالْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ،
فَفَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ، وَهَذِهِ بِالنَّبَاتِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي
مُلَيْكَةَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَكَانَ
يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا نَزَلَ قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ، وَيُرَتِّلُ
الْقُرْآنَ يَقْرَأُ حَرْفًا حَرْفًا، وَيُكْثِرُ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّشِيجِ
وَالنَّحِيبِ، وَيَقْرَأُ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا
كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ
دِرْهَمٍ، قَالَ: كَانَ فِي هَذَا الْمَكَانِ - وَأَوْمَأَ إِلَى مَجْرَى
الدُّمُوعِ مِنْ خَدَّيْهِ - مِنْ خَدَّيِ ابْنِ عَبَّاسٍ - مِثْلُ الشِّرَاكِ
الْبَالِي مِنَ الْبُكَاءِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
وَالْخَمِيسِ، وَيَقُولُ: أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ. وَرَوَى
هُشَيْمٌ
وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَلِكَ الرُّومُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَكْرَمُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ أَكْرَمُ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ أَرْبَعَةٍ فِيهِمُ الرُّوحُ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ، وَعَنْ قَبْرٍ سَارَ بِصَاحِبِهِ، وَعَنْ مَكَانٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ تَطْلُعْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَعَنْ قَوْسِ قُزَحَ مَا هُوَ ؟ وَعَنِ الْمَجَرَّةِ. فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْهُنَّ، فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَيْهِ: أَمَّا أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَكْرَمُ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ آدَمُ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَكْرَمُ الْإِمَاءِ عَلَى اللَّهِ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ لَمْ يَرْكُضُوا فِي رَحِمٍ، فَآدَمُ وَحَوَّاءُ، وَعَصَا مُوسَى، وَكَبْشُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي فَدَى بِهِ إِسْمَاعِيلَ - وَفِي رِوَايَةٍ: وَنَاقَةُ صَالِحٍ - وَأَمَّا الْقَبْرُ الَّذِي سَارَ بِصَاحِبِهِ فَهُوَ حُوتُ يُونُسَ، وَأَمَّا الْمَكَانُ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ الشَّمْسُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ الْبَحْرُ الَّذِي انْفَلَقَ لِمُوسَى حَتَّى جَازَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْسُ قُزَحَ فَأَمَانٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْمَجَرَّةُ بَابُ السَّمَاءِ، وَفِي رِوَايَةٍ: الَّذِي تَنْشَقُّ مِنْهُ، فَلَمَّا قَرَأَ مَلِكُ الرُّومِ ذَلِكَ أَعْجَبَهُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هِيَ مِنْ عِنْدِ مُعَاوِيَةَ، وَلَا مِنْ قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذِهِ
الْأَسْئِلَةِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ،
وَزِيَادَاتٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا، وَفِي بَعْضِهَا نَظَرٌ ; أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ
مَنْ لَا قَبْلَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ، وَعَنْ مَنْ لَا أَبَ
لَهُ، وَعَنْ شَيْءٍ، وَنِصْفِ شَيْءٍ، وَلَا شَيْءٍ، وَأَرْسَلَ قَارُورَةً ;
فَقَالَ: ابْعَثْ إِلَيَّ فِي هَذِهِ بِبَزْرِ كُلِّ شَيْءٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ
يَقُولُ: أَمَّا الَّذِي لَا قَبْلَ لَهُ فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا مَنْ
لَا عَشِيرَةَ لَهُ فَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا مَنْ لَا أَبَ لَهُ
فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا عَنْ شَيْءٍ فَهُوَ الْعَاقِلُ يَعْمَلُ
بِعَقْلِهِ، وَأَمَّا نِصْفُ شَيْءٍ، فَالَّذِي لَهُ عَقْلٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ
غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَا شَيْءَ فَالَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا يَعْمَلُ بِعَقْلِ
غَيْرِهِ. وَمَلَأَ الْقَارُورَةَ مَاءً وَقَالَ: هَذَا بَزْرُ كُلِّ شَيْءٍ.
فَأَعْجَبَ ذَلِكَ مَلِكَ الرُّومِ جِدًّا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصَلٌ ( تَوَلِّي ابْنِ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ
بِأَمْرِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ )
تَوَلَّى ابْنُ عَبَّاسٍ إِمَامَةَ الْحَجِّ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ بِأَمْرِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ، وَفِي غَيْبَتِهِ هَذِهِ قُتِلَ
عُثْمَانُ. وَحَضَرَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَكَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ
يَوْمَ صِفِّينَ، وَشَهِدَ قِتَالَ الْخَوَارِجِ، وَتَأَمَّرَ عَلَى الْبَصْرَةِ
مِنْ جِهَةِ عَلِيٍّ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْهَا يَسْتَخْلِفُ أَبَا
الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَزِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى
الْخَرَاجِ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ مَغْبُوطِينَ بِهِ، يُفَقِّهُهُمْ
وَيُعَلِّمُ جَاهِلَهُمْ، وَيَعِظُ مُجْرِمَهُمْ، وَيُعْطِي فَقِيرَهُمْ، فَلَمْ
يَزَلْ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ عَلِيٌّ، وَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا عَزَلَهُ عَنْهَا
قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَكْرَمَهُ وَقَرَّبَهُ
وَاحْتَرَمَهُ
وَعَظَّمَهُ، وَكَانَ يُلْقِي عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ الْمُعْضِلَةَ فَيُجِيبُ فِيهَا سَرِيعًا، فَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحَضَرَ جَوَابًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَمَّا جَاءَ الْكِتَابُ بِمَوْتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ اتَّفَقَ كَوْنُ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَعَزَّاهُ فِيهِ بِأَحْسَنِ تَعْزِيَةٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَدًّا حَسَنًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ ابْنَهُ يَزِيدَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعَزَّاهُ بِعِبَارَةٍ فَصِيحَةٍ بَلِيغَةٍ وَجِيزَةٍ، شَكَرَهُ عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ أَيْضًا - وَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَةُ وَرَامَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُرُوجَ إِلَى الْعِرَاقِ، نَهَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَشَدَّ النَّهْيِ، وَأَرَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِثِيَابِ الْحُسَيْنِ ; - لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَدْ أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ - فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا شَدِيدًا وَلَزِمَ بَيْتَهُ، وَكَانَ يَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَفْعَلْ تَنْدَمْ، وَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: جُنْدَبٌ. فَقَالَ لَهُ أَوْصِنِي: فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ لَهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ خَيْرٍ أَنْتَ آتِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مَقْبُولٌ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْفُوعٌ، يَا جُنْدَبُ، إِنَّكَ لَنْ تَزْدَادَ مِنْ يَوْمِكَ إِلَّا قُرْبًا، فَصَلِّ صَلَاةَ مُوَدِّعٍ، وَأَصْبِحْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ مُسَافِرٌ، فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ، وَابْكِ عَلَى ذَنْبِكَ، وَتُبْ مِنْ خَطِيئَتِكَ، وَلْتَكُنِ الدُّنْيَا عَلَيْكَ أَهْوَنَ مِنْ شِسْعِ
نَعْلِكَ، وَكَأَنْ قَدْ فَارَقْتَهَا
وَصِرْتَ إِلَى عَدْلِ اللَّهِ، وَلَنْ تَنْتَفِعَ بِمَا خَلَّفْتَ، وَلَنْ
يَنْفَعَكَ إِلَّا عَمَلُكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:أَوْصَى ابْنُ عَبَّاسٍ
بِكَلِمَاتٍ خَيْرٍ مِنَ الْخَيْلِ الدُّهْمِ قَالَ: لَا تَكَلَّمَنَّ فِيمَا لَا
يَعْنِيكَ حَتَّى تَرَى لَهُ مَوْضِعًا، وَلَا تُمَارِيَنَّ سَفِيهًا وَلَا
حَلِيمًا ; فَإِنَّ الْحَلِيمَ يَغْلِبُكَ وَالسَّفِيهَ يَزْدَرِيكَ، وَلَا
تَذْكُرَنَّ أَخَاكَ إِذَا تَوَارَى عَنْكَ إِلَّا بِمَثَلِ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ
يَتَكَلَّمَ فِيكَ إِذَا تَوَارَيْتَ عَنْهُ، وَاعْمَلْ عَمَلَ رَجُلٍ يَعْلَمُ
أَنَّهُ مَجْزِيٌّ بِالْإِحْسَانِ مَأْخُوذٌ بِالْإِجْرَامِ. فَقَالَ رَجُلٌ
عِنْدَهُ: يَابْنَ عَبَّاسٍ، هَذَا خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ. فَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَلِمَةٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَمَامُ الْمَعْرُوفِ تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ.
يَعْنِي أَنْ تُعَجَّلَ الْعَطِيَّةَ لِلْمُعْطَى، وَأَنْ تَصْغُرَ فِي عَيْنِ
الْمُعْطِي، وَأَنْ تَسَتُرَهَا عَنِ النَّاسِ فَلَا تُظْهِرَهَا ; فَإِنَّ فِي
إِظْهَارِهَا فَتْحَ بَابِ الرِّيَاءِ وَكَسْرَ قَلْبِ الْمُعْطَى،
وَاسْتِحْيَاءَهُ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعَزُّ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي ; لَوِ اسْتَطَعْتُ
أَنْ لَا يَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى وَجْهِهِ لَفَعَلْتُ. وَقَالَ أَيْضًا: لَا
يُكَافِئُ مَنْ أَتَانِي يَطْلُبُ حَاجَةً فَرَآنِي لَهَا مَوْضِعًا إِلَّا
اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَا رَجُلٌ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ، أَوْ أَوْسَعَ
لِي فِي مَجْلِسٍ، أَوْ قَامَ لِي عَنِ الْمَجْلِسِ أَوْ رَجُلٌ سَقَانِي شَرْبَةَ
مَاءٍ عَلَى ظَمَأٍ،
أَوْ رَجُلٌ حَفِظَنِي بِظَهْرِ
الْغَيْبِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْهُ مِنْ هَذِهِ الْمَكَارِمِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَفِيمَا
ذَكَرْنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.
وَقَدْ عَدَّهُ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ فِي الْعُمْيَانِ مِنَ الْأَشْرَافِ،
وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ
أُصِيبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ فَنَحَلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا أُصِيبَتِ الْأُخْرَى
عَادَ إِلَيْهِ لَحْمُهُ فَقِيلَ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: أَصَابَنِي مَا رَأَيْتُمْ
فِي الْأُولَى شَفَقَةً عَلَى الْأُخْرَى، فَلَمَّا ذَهَبَتَا اطْمَأَنَّ قَلْبِي.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، ثَنَا
شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ وَقَعَ فِي
عَيْنِهِ الْمَاءُ فَقِيلَ لَهُ: نَنْزِعُ مَنْ عَيْنِكَ الْمَاءَ، عَلَى أَنَّكَ
لَا تُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ ؟ فَقَالَ: لَا، إِنَّهُ مَنْ تَرْكَ الصَّلَاةَ
وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. وَفِي
رِوَايَةٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: نُزِيلُ هَذَا الْمَاءَ مِنْ عَيْنِكَ عَلَى أَنْ
تَبْقَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ لَا تُصَلِّي إِلَّا عَلَى عُودٍ، وَفِي رِوَايَةٍ:
إِلَّا مُسْتَلْقِيًا، فَقَالَ: لَا، وَاللَّهِ وَلَا رَكْعَةً وَاحِدَةً، إِنَّهُ
مَنْ تَرَكَ صَلَاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّدًا، لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ
غَضْبَانُ.
وَقَدْ أَنْشَدَ الْمَدَائِنِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ عَمِيَ:
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَسَمْعِي
مِنْهُمَا نُورُ قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ
وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ
وَلَمَّا وَقَعَ الْخُلْفُ بَيْنَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، اعْتَزَلَ ابْنُ
عَبَّاسٍ، وَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ النَّاسَ، فَدَعَاهُمَا ابْنُ
الزُّبَيْرِ ; لِيُبَايِعَاهُ فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: لَا
نُبَايِعُكَ وَلَا نُخَالِفُكَ، فَهَمَّ بِهِمَا، فَبَعَثَا أَبَا الطُّفَيْلِ
عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ فَاسْتَنْجَدَ لَهُمَا مِنَ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِهِمَا
فَقَدِمَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَكَبَّرُوا بِمَكَّةَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً،
وَهَمُّوا بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَانْطَلَقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ هَارِبًا
وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: أَنَا عَائِذٌ بِاللَّهِ.
فَكَفُّوهُمْ عَنْهُ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَ ابْنِ
الْحَنَفِيَّةِ وَقَدْ حَمَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ حَوْلَ دُورِهِمُ الْحَطَبَ
لِيَحْرِقَهُمْ، فَخَرَجُوا بِهِمَا حَتَّى نَزَلُوا الطَّائِفَ، وَأَقَامَ ابْنُ
عَبَّاسٍ سَنَتَيْنِ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ،
وَقَالَ: مَاتَ الْيَوْمَ حَبْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَلَمَّا وَضَعُوهُ
لِيُدْخِلُوهُ فِي قَبْرِهِ جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ لَمْ يُرَ مِثْلُ خِلْقَتِهِ،
فَدَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ وَالْتَفَّ فِيهَا حَتَّى دُفِنَ مَعَهُ. قَالَ
عَفَّانُ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ
عِلْمَهُ، فَلَمَّا وُضِعَ فِي
اللَّحْدِ تَلَا تَالٍ لَا يُعْرَفُ مَنْ هُوَ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ
سَمِعُوا مِنْ قَبْرِهِ: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي
إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي
هَذَا الْقَوْلُ فِي وَفَاتِهِ هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَ الْوَاقِدِيُّ، وَ
ابْنُ عَسَاكِرَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْحُفَّاظِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ،
وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، وَقِيلَ:
سَنَةَ سَبْعِينَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا
شَاذَّةٌ غَرِيبَةٌ مَرْدُودَةٌ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ أَرْبَعًا وَسَبْعِينَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
صِفَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
كَانَ جَسِيمًا إِذَا قَعَدَ يَأْخُذُ مَكَانَ رَجُلَيْنِ، جَمِيلًا لَهُ
وَفْرَةٌ، قَدْ شَابَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ، وَشَابَتْ لِمَّتُهُ، وَكَانَ يَخْضِبُ
بِالْحِنَّاءِ، وَقِيلَ: بِالسَّوَادِ. حَسَنَ الْوَجْهِ،
يَلْبَسُ حَسَنًا وَيُكْثِرُ مِنَ
الطِّيبِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ فِي الطَّرِيقِ تَقُولُ النِّسَاءُ:
هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ. أَوْ: رَجُلٌ مَعَهُ مِسْكٌ، وَكَانَ وَسِيمًا أَبْيَضَ،
طَوِيلًا، صَبِيحًا، فَصِيحًا، وَلَمَّا عَمِيَ اعْتَرَى لَوْنَهُ صُفْرَةٌ
يَسِيرَةٌ، وَقَدْ كَانَ بَنُو الْعَبَّاسِ عَشَرَةً، وَهُمُ الْفَضْلُ، وَ عَبْدُ
اللَّهِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ مَعْبَدٌ، وَ قُثَمُ، وَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَ
كَثِيرٌ، وَ الْحَارِثُ، وَ عَوْنٌ، وَ تَمَّامٌ، وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ تَمَّامٌ ;
وَلِهَذَا كَانَ الْعَبَّاسُ يَحْمِلُهُ وَيَقُولُ:
تَمُّوا بِتَمَّامٍ فَصَارُوا عَشَرَهْ يَا رَبِّ فَاجْعَلْهُمْ كِرَامًا بَرَرَهْ
وَاجْعَلْهُمْ ذِكْرًا وَأَنْمِ الثَّمَرَهْ
فَأَمَّا الْفَضْلُ فَمَاتَ بِأَجْنَادِينَ شَهِيدًا، وَعَبْدُ اللَّهِ
بِالطَّائِفِ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالْيَمَنِ، وَ مَعْبَدٌ، وَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بِإِفْرِيقِيَّةَ،، وَ قُثَمُ، وَ كَثِيرٌ بِيَنْبُعَ وَقِيلَ: إِنَّ
قُثَمَ مَاتَ بِسَمَرْقَنْدَ.
وَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ قَمَّادِينَ الْمَكِّيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ: مَا
رَأَيْتُ مِثْلَ بَنِي أُمٍّ وَاحِدَةٍ أَشْرَافًا، وُلِدُوا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ،
أَبْعَدَ قُبُورًا مِنْ بَنِي أُمِّ الْفَضْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَوَاضِعَ
قُبُورِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ. إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: الْفَضْلُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ،،
وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالشَّامِ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يَلْبَسُ الْحُلَّةَ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ
الْعَبَّاسُ، وَ عَلِيٌّ، وَيُدْعَى
السَّجَّادَ ; لِكَثْرَةِ صِلَاتِهِ، وَكَانَ أَجْمَلَ قُرَشِيٍّ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَقِيلَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَعَ الْجَمَالِ التَّامِّ. وَعَلَى هَذَا
فَهُوَ أَبُو الْخُلَفَاءِ الْعَبَّاسِيِّينَ، فَفِي وَلَدِهِ كَانْتِ
الْخِلَافَةُ الْعَبَّاسِيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ
أَيْضًا مُحَمَّدٌ، وَ الْفَضْلُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ لُبَابَةُ، وَأُمُّهُمْ
زُرْعَةُ بَنَتُ مُسَرَّحِ بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ. وَأَسْمَاءُ وَهِيَ لِأُمِّ
وَلَدٍ. وَكَانَ لَهُ مِنَ الْمَوَالِي عِكْرِمَةُ، وَ كُرَيْبٌ، وَ أَبُو
مَعْبَدٍ، وَ شُعْبَةُ، وَ دَقِيقٌ، وَ أَبُو عَمْرَةَ، وَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَ
مِقْسَمٌ.
وَقَدْ أَسْنَدَ أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ وَسَبْعِينَ حَدِيثًا. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ الْعَدَوِيُّ الْكَعْبِيُّ،
اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ ; أَصَحُّهَا خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو،
أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانَ مَعَهُ أَحَدُ أَلْوِيَةِ بَنِي كَعْبٍ
الثَّلَاثَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
أَحَادِيثُ.
وَأَبُو وَاقِدٍ اللَّيْثِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مُخْتَلَفٌ فِي اسْمِهِ وَفِي
شُهُودِهِ بَدْرًا. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ سُنَّةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ،
عَنْ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَذَا قَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ فِي تَارِيخِ وَفَاتِهِ،
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَاشَ سَبْعِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ بَعْدَمَا جَاوَرَ بِهَا سَنَةً، وَدُفِنَ فِي
مَقَابِرِ الْمُهَاجِرِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ الْهِلَالِيُّ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، قَالَ الشِّعْرَ
فِي أَيَّامِ عُمَرَ، وَهُوَ مِنْ فُحُولِ الشُّعَرَاءِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسِتِّينَ
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ الْأَشْدَقِ، قَتَلَهُ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ
رَكِبَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُنُودِهِ قَاصِدًا قَرْقِيسِيَاءَ ;
لِيُحَاصِرَ زُفَرَ بْنَ الْحَارِثِ الْكِلَابِيَّ الَّذِي أَعَانَ سُلَيْمَانَ
بْنَ صُرَدَ عَلَى جَيْشِ مَرْوَانَ حِينَ قَاتَلُوهُمْ بِعَيْنِ وَرْدَةَ، وَمِنْ
عَزْمِهِ إِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقْصِدَ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ
بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهَا اسْتَخْلَفَ عَلَى دِمَشْقَ عَمْرَو بْنَ
سَعِيدٍ الْأَشْدَقَ، فَتَحَصَّنَ بِهَا وَأَخْذَ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ.
وَقِيلَ: بَلْ كَانَ مَعَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَكِنَّهُ انْخَذَلَ عَنْهُ فِي
طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ وَكَرَّ رَاجِعًا إِلَى دِمَشْقَ فِي اللَّيْلِ،
وَمَعَهُ حُمَيْدُ بْنُ حُرَيْثِ بْنِ بَحْدَلٍ الْكَلْبِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ
الْأَبْرَدِ الْكَلْبِيُّ، فَانْتَهَوْا إِلَى دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أُمِّ الْحَكَمِ نَائِبًا مِنْ جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ هَرَبَ وَتَرَكَ الْبَلَدَ، فَدَخَلَهَا
عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ
الْخَزَائِنِ، وَخَطَبَ بِالنَّاسِ فَوَعَدَهُمُ الْعَدْلَ وَالنَّصَفَ
وَالْعَطَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَلَمَّا عَلِمَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بِمَا فَعَلَهُ الْأَشْدَقُ، كَرَّ رَاجِعًا مِنْ فَوْرِهِ فَوَجَدَ
الْأَشْدَقَ قَدْ حَصَّنَ دِمَشْقَ وَعَلَّقَ عَلَيْهَا السَّتَائِرَ
وَالْمُسُوحَ، وَانْحَازَ الْأَشْدَقُ إِلَى حِصْنٍ رُومِيٍّ مَنِيعٍ كَانَ
بِدِمَشْقَ فَنَزَلَهُ،
فَحَاصَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَاتَلَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ الْأَشْدَقُ مُدَّةَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَرَاسَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَالَ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَالرَّحِمَ أَنْ تُفْسِدَ أَمْرَ بَيْتِكَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنِ اجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَإِنَّ فِيمَا صَنَعْتَ قُوَّةً لِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَارْجِعْ إِلَى بَيْتِكَ، وَلَكَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ. وَحَلَفَ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ أَنَّكَ وَلِيُّ عُهَدِي مِنْ بَعْدِي، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابًا، فَانْخَدَعَ لَهُ عَمْرٌو وَفَتَحَ أَبْوَابَ دِمَشْقَ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ مَعَ كُلِّ عَامِلٍ لِعَبْدِ الْمَلِكِ عَامِلٌ لَهُ، وَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابَ أَمَانٍ، وَذَلِكَ عَشِيَّةَ الْخَمِيسِ. وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ دِمَشْقَ إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ عَلَى عَادَتِهِ، وَبَعَثَ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يَقُولُ لَهُ: رُدَّ عَلَى النَّاسِ أَعْطِيَاتِهِمُ الَّتِي أَخَذْتَهَا لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَمْرٌو يَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ إِلَيْكَ، وَلَيْسَ هَذَا الْبَلَدُ لَكَ، فَاخْرُجْ مِنْهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ يَأْمُرُهُ بِالْإِتْيَانِ إِلَى مَنْزِلِهِ بِدَارِ الْإِمَارَةِ الْخَضْرَاءِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ صَادَفَ عِنْدَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ زَوْجُ ابْنَتِهِ أُمِّ مُوسَى بِنْتِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، فَاسْتَشَارَهُ عَمْرٌو فِي الذَّهَابِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَأَرَى أَنْ لَا تَأْتِيَهُ ; فَإِنَّ تُبَيْعًا الْحِمْيَرِيَّ ابْنَ امْرَأَةِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ: إِنَّ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءَ بَنِي إِسْمَاعِيلَ يُغْلِقُ أَبْوَابَ دِمَشْقَ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يُقْتَلَ. فَقَالَ عَمْرٌو: وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ نَائِمًا مَا تَخَوَّفْتُ أَنْ يُنَبِّهَنِي ابْنُ الزَّرْقَاءِ، وَمَا كَانَ لِيَجْتَرِئَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي، مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أَتَانِي الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ
فَأَلْبَسَنِي قَمِيصَهُ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لِلرَّسُولِ: أَبْلِغْهُ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: أَنَا رَائِحٌ إِلَيْكَ الْعَشِيَّةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ - يَعْنِي بَعْدَ الظُّهْرِ - لَبِسَ عَمْرٌو دِرْعًا بَيْنَ ثِيَابِهِ وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ وَنَهَضَ فَعَثَرَ بِالْبُسَاطِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ وَبَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ: إِنَّا نَرَى أَنْ لَا تَأْتِيَهُ. فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى ذَلِكَ وَمَضَى فِي مِائَةٍ مِنْ مَوَالِيهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَمَرَ بَنِي مَرْوَانَ فَاجْتَمَعُوا كُلُّهُمْ عِنْدَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ إِلَى الْبَابِ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَدْخُلَ وَأَنْ يُحْبَسَ مَنْ مَعَهُ، عِنْدَ كُلِّ بَابٍ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَدَخَلَ كَذَلِكَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَرْحَةِ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ مَوَالِيهِ سِوَى وَصَيْفٍ وَاحِدٍ، فَرَمَى بِبَصَرِهِ فَإِذَا بَنُو مَرْوَانَ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَحَسَّ بِالشَّرِّ فَالْتَفَتَ إِلَى وَصِيفِهِ، فَقَالَ لَهُ هَمْسًا: وَيْلَكَ انْطَلِقْ إِلَى أَخِي يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ فَقُلْ لَهُ فَلْيَأْتِنِي. فَلَمْ يَفْهَمْ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: لَبَّيْكَ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَفْهَمْ أَيْضًا، وَقَالَ: لَبَّيْكَ. فَقَالَ: وَيْلَكَ ! اغْرُبْ عَنِّي فِي حَرَقِ اللَّهِ وَنَارِهِ. وَكَانَ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، فَأَذِنَ لَهُمَا عَبْدُ الْمَلِكِ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا خَرَجَا غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ وَاقْتَرَبَ عَمْرٌو مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُحَدِّثُهُ طَوِيلًا. ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ: يَا غُلَامُ، خُذِ السَّيْفَ عَنْهُ. فَقَالَ عَمْرٌو: إِنَّا لِلَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَوَتَطْمَعُ أَنْ تَتَحَدَّثَ مَعِي مُتَقَلِّدًا سَيْفَكَ ؟ فَأَخَذَ الْغُلَامُ السَّيْفَ عَنْهُ، ثُمَّ تَحَدَّثَا سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: إِنَّكَ حَيْثُ خَلَعْتَنِي
آلَيْتُ بِيَمِينِي إِنْ مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْكَ وَأَنَا مَالِكٌ لَكَ أَنْ
أَجْمَعَكَ فِي جَامِعَةٍ. فَقَالَتْ بَنُو مَرْوَانَ: ثُمَّ تُطْلِقُهُ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: ثُمَّ أُطْلِقُهُ، وَمَا عَسَيْتُ أَنْ أَفْعَلَ
بِأَبِي أُمَيَّةَ ؟ فَقَالَ بَنُو مَرْوَانَ: أَبِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عَمْرٌو: فَأَبِرَّ قَسَمَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَخْرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ تَحْتِ فِرَاشِهِ جَامِعَةً فَطَرَحَهَا
إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، قُمْ فَاجْمَعْهُ فِيهَا. فَقَامَ الْغُلَامُ
فَجَمَعَهُ فِيهَا، فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تُخْرِجَنِي فِيهَا عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ. فَقَالَ عَبْدُ
الْمَلِكِ: أَمَكْرًا يَا أَبَا أُمَيَّةَ عِنْدَ الْمَوْتِ ؟ لَاهَا اللَّهِ
إِذًا، مَا كُنَّا لِنُخْرِجَكَ فِي جَامِعَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، وَلَمَّا
نُخْرِجْهَا مِنْكَ إِلَّا صَعَدًا. ثُمَّ اجْتَبَذَهُ اجْتِبَاذَةً أَصَابَ
فَمَهُ السَّرِيرُ فَكَسَرَ ثَنِيَّتَهُ، فَقَالَ عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَدْعُوَكَ كَسْرُ عَظْمِي إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ
مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ إِذَا
بَقِيتَ تَفِي لِي وَتَصْلُحُ قُرَيْشٌ لَأَطْلَقْتُكَ، وَلَكِنْ مَا اجْتَمَعَ
رَجُلَانِ قَطُّ فِي بَلَدٍ عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ إِلَّا أَخْرَجَ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَا عَلِمْتَ يَا عَمْرُو أَنَّهُ لَا
يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي شَوْلٍ ؟ فَلَمَّا تَحَقَّقَ عَمْرٌو مَا يُرِيدُ مِنْ
قَتْلِهِ قَالَ لَهُ: أَغَدْرًا يَابْنَ الزَّرْقَاءِ ؟ وَبَيْنَمَا هُمَا
كَذَلِكَ إِذْ أُذِّنَ لِلْعَصْرِ، فَقَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِيَخْرُجَ إِلَى
الصَّلَاةِ، وَأَمَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مَرْوَانَ بِقَتْلِهِ،
وَخَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بِالسَّيْفِ،
فَقَالَ لَهُ
عَمْرٌو: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ
وَالرَّحِمَ أَنْ لَا تَلِيَ ذَلِكَ مِنِّي، وَلْيَتَوَلَّ ذَلِكَ غَيْرُكَ.
فَكَفَّ عَنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ. وَلَمَّا رَأَى النَّاسُ عَبْدَ
الْمَلِكِ قَدْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ عَمْرٌو أَرْجَفَ النَّاسُ بِعَمْرٍو،
وَأَقْبَلَ أَخُوهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي أَلْفِ عَبْدٍ لِعَمْرِو بْنِ
سَعِيدٍ، وَأُنَاسٍ مَعَهُمْ كَثِيرٍ، وَأَسْرَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ الدُّخُولَ
إِلَى دَارِ الْإِمَارَةِ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَجَعَلُوا يَدُقُّونَ بَابَ
الْإِمَارَةِ وَيَقُولُونَ: أَسْمِعْنَا صَوْتَكَ يَا أَبَا أُمَيَّةَ. وَضَرَبَ
رَجُلٌ مِنْهُمِ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي رَأْسِهِ بِالسَّيْفِ
فَجَرَحَهُ، فَأَدْخَلَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ الدِّيوَانِ
بَيْتًا، وَأَحْرَزَهُ فِيهِ، وَوَقَعَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْمَسْجِدِ،
وَضَجَّتِ الْأَصْوَاتُ. وَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ وَجَدَ أَخَاهُ لَمْ
يَقْتُلْهُ، فَلَامَهُ وَسَبَّهُ وَسَبَّ أُمَّهُ، - وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أُمُّ عَبْدِ الْمَلِكِ - فَقَالَ: إِنَّهُ نَاشَدَنِي اللَّهَ
وَالرَّحِمَ.
وَكَانَ ابْنَ عَمَّةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ
الْمَلِكِ قَالَ: يَا غُلَامُ، آتِنِي بِالْحَرْبَةِ. فَأَتَاهُ بِهَا فَهَزَّهَا،
وَضَرَبَهُ بِهَا فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، ثُمَّ ثَنَّى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا،
فَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى عَضُدِ عَمْرٍو فَوَجْدَ مَسَّ الدِّرْعِ فَضَحِكَ،
وَقَالَ: وَدَارِعٌ أَيْضًا ! إِنْ كُنْتَ لَمُعِدًّا، يَا غُلَامُ، ائْتِنِي
بِالصَّمْصَامَةِ. فَأَتَاهُ بِسَيْفِهِ ثُمَّ أَمَرَ بِعَمْرٍو فَصُرِعَ فَجَلَسَ
عَلَى صَدْرِهِ فَذَبَحَهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
يَا عَمْرُو إِنْ لَا تَدَعْ شَتْمِي وَمَنْقَصَتِي أَضْرِبْكَ حَيْثُ تَقُولُ
الْهَامَةُ اسْقُونِي
قَالُوا: وَانْتَفَضَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بَعْدَمَا ذَبَحَهُ كَمَا تَنْتَفِضُ الْقَصَبَةُ بِرِعْدَةٍ شَدِيدَةٍ جِدًّا،
بِحَيْثُ إِنَّهُمْ مَا رَفَعُوهُ عَنْ صَدْرِهِ إِلَّا مَحْمُولًا، فَوَضَعُوهُ
عَلَى سَرِيرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذَا قَطُّ قِتْلَةً،
صَاحِبُ دُنْيَا وَلَا طَالِبُ آخِرَةٍ. وَدَفَعَ الرَّأْسَ إِلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أُمِّ الْحَكَمِ، فَخَرَجَ بِهِ لِلنَّاسِ فَأَلْقَاهُ بَيْنَ
أَظْهُرِهِمْ، وَخَرَجَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ وَمَعَهُ الْبِدَرُ مِنَ
الْأَمْوَالِ تُحْمَلُ، فَأُلْقِيَتْ بَيْنَ النَّاسِ فَجَعَلُوا
يَخْتَطِفُونَهَا، وَيُقَالُ: إِنَّهَا اسْتُرْجِعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ
إِلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَيُقَالُ إِنَّ الَّذِي وَلِيَ قَتْلَ عَمْرِو بْنِ
سَعِيدٍ مَوْلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ بَعْدَمَا خَرَجَ عَبْدُ
الْمَلِكِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ دَخَلَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَخُو عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ دَارَ
الْإِمَارَةِ، بَعْدَ مَقْتَلِ أَخِيهِ، بِمَنْ مَعَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِمْ بَنُو
مَرْوَانَ فَاقْتَتَلُوا، وَجُرِحَ جَمَاعَاتٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَجَاءَتْ
يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ صَخْرَةٌ فِي رَأْسِهِ أَشْغَلَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ
الْقِتَالِ، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ: وَيْحَكُمُ أَيْنَ
الْوَلِيدُ ؟ وَأَبِيهِمْ لَئِنْ كَانُوا قَتَلُوهُ لَقَدْ أَدْرَكُوا ثَأْرَهُمْ،
فَأَتَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرَبِيٍّ الْكِنَانِيُّ فَقَالَ: هَذَا الْوَلِيدُ
عِنْدِي، قَدْ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسٌ، ثُمَّ أَمَرَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنْ يُقْتَلَ، فَشَفَعَ فِيهِ أَخُوهُ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ
وَفِي جَمَاعَاتٍ آخَرِينَ مَعَهُ، كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَمَرَ
بِقَتْلِهِمْ يَوْمَئِذٍ، فَشَفَّعَهُ فِيهِمْ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ فَسُجِنَ
شَهْرًا، ثُمَّ سَيَّرَهُ وَبَنِي عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَأَهْلِيهِمْ إِلَى
الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَأَكْرَمَهُمْ وَأَحْسَنَ
إِلَيْهِمْ.
ثُمَّ لَمَّا انْعَقَدَتِ الْجَمَاعَةُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ - كَمَا سَيَأْتِي - وَفَدُوا عَلَيْهِ فَكَادَ يَقْتُلُهُمْ،
فَتَلَطَّفَ بَعْضُهُمْ فِي الْعِبَارَةِ حَتَّى رَقَّ لَهُمْ رِقَّةً شَدِيدَةً،
وَقَالَ: إِنَّ أَبَاكُمْ خَيَّرَنِي بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَنِي أَوْ أَقْتُلَهُ،
فَاخْتَرْتُ قَتْلَهُ عَلَى قَتْلِي، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَا أَرْغَبَنِي فِيكُمْ
وَأَوْصَلَنِي لِقَرَابَتِكُمْ وَأَرْعَانِي لِحَقِّكُمْ ! فَأَحْسَنَ
جَائِزَتَهُمْ وَقَّرَبَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَعَثَ إِلَى
امْرَأَةِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ أَنِ ابْعَثِي إِلَيَّ بِكِتَابِ الْأَمَانِ
الَّذِي كُنْتُ كَتَبْتُهُ لِعَمْرٍو. فَقَالَتْ: إِنِّي دَفَنْتُهُ مَعَهُ
لِيُحَاكِمَكَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ.
وَقَدْ كَانَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ وَعَدَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ هَذَا أَنْ
يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ وَلَدِهِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَلَامًا
مُجَرَّدًا فَطَمِعَ فِي ذَلِكَ وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَكَانَ
عَبْدُ الْمَلِكِ يُبْغِضُهُ بُغْضًا شَدِيدًا مِنَ الصِّغَرِ، ثُمَّ كَانَ هَذَا
صَنِيعَهُ إِلَيْهِ فِي الْكِبَرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذُكِرَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ
لِعَبْدِ الْمَلِكِ ذَاتَ يَوْمٍ: عَجَبٌ مِنْكَ وَمِنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ،
كَيْفَ أَصَبْتَ غِرَّتَهُ حَتَّى قَتَلْتَهُ ؟ فَقَالَ:
أَدْنَيْتُهُ مِنِّي لِيَسْكُنَ رَوْعُهُ فَأَصُولُ صَوْلَةَ حَازِمٍ مُسْتَمْكِنِ
غَضَبًا وَمَحْمِيَةً لِدِينِي إِنَّهُ لَيْسَ الْمُسِيءُ سَبِيلُهُ كَالْمُحْسِنِ
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ:
وَهَذَا الشِّعْرُ لِلصَّبِيِّ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، تَمَثَّلَ بِهِ عَبْدُ
الْمَلِكِ.
وَرَوَى ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ الْعُتْبِيِّ أَنْ عَبْدَ
الْمَلِكِ قَالَ: لَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ دَمِ
النَّوَاظِرِ، وَلَكِنَّ وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ فَحْلَانِ فِي الْإِبِلِ إِلَّا
أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَإِنَّا لَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي يَرْبُوعٍ:
أُجَازِي مَنْ جَزَانِي الْخَيْرَ خَيْرًا وَجَازِي الْخَيْرِ يُجْزَى
بِالنَّوَالِ
وَأَجْزِي مَنْ جَزَانِي الشَّرَّ شَرًّا كَمَا تُحْذَى النِّعَالُ عَلَى
النِّعَالِ
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ وَأَنْشَدَ أَبُو الْيَقْظَانِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
فِي قَتْلِهِ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ:
صَحَّتْ وَلَا تَشْلَلْ وَضَرَّتْ عَدُوَّهَا يَمِينٌ أَرَاقَتْ مُهْجَةَ ابْنِ
سَعِيدِ
وَجَدْتُ ابْنَ مَرْوَانَ وَلَا تَبْلَ نَفْسُهُ شَدِيدًا ضَرِيرَ الْبَأْسِ
غَيْرَ بَلِيدِ
هُوَ ابْنُ أَبِي الْعَاصِي لِمَرْوَانَ يَنْتَمِي إِلَى أُسْرَةٍ طَابَتْ لَهُ
وَجُدُودِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: أَمَّا حِصَارُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ
الْأَشْدَقِ فَكَانَ فِي
سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ رَجَعَ
إِلَيْهِ مَنْ بُطْنَانَ، فَحَاصَرَهُ بِدِمَشْقَ، وَأَمَّا قَتْلُهُ إِيَّاهُ
فَكَانَ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ
هُوَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ،
أَبُو أُمَيَّةَ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْأَشْدَقِ، يُقَالُ:
إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا أَحْسَنَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ.
وَحَدِيثًا آخَرَ فِي الْعِتْقِ.
وَرَوَى عَنْ عُمَرَ، وَ عُثْمَانَ، وَ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ، وَحَدَّثَ عَنْهُ
بَنُوهُ؛ أُمَيَّةُ وَسَعِيدٌ، وَ مُوسَى وَغَيْرُهُمْ. وَاسْتَنَابَهُ
مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَكَذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ
أَبِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ
الْكُرَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ، يُعْطِي الْكَثِيرَ، وَيَتَحَمَّلُ الْعَظَائِمَ،
وَكَانَ وَصِيَّ أَبِيهِ مِنْ بَيْنِ بَنِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ - كَمَا
قَدَّمْنَا - مِنَ الْمَشَاهِيرِ
الْكُرَمَاءِ، وَالسَّادَةِ النُّجَبَاءِ. قَالَ عَمْرٌو: مَا شَتَمْتُ رَجُلًا
مُنْذُ كُنْتُ رَجُلًا، وَلَا كَلَّفْتُ مَنْ قَصَدَنِي أَنْ يَسْأَلَنِي ; لَهُوَ
أَمَنُّ عَلَيَّ مِنِّي عَلَيْهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: خُطَبَاءُ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ:
الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَخُطَبَاءُ
النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ: مُعَاوِيَةُ وَابْنُهُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ
وَابْنُهُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا حَمَّادٌ،
ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
لَيُرْعَفَنَّ عَلَى مِنْبَرِي جَبَّارٌ مِنْ جَبَابِرَةِ بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى
يَسِيلَ رُعَافُهُ. قَالَ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى عَمْرَو بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
رَعَفَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى
سَالَ رُعَافُهُ.
وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ
الْحَرَّةِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَنَهَاهُ أَبُو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَدِيثَ الَّذِي
سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِ
مَكَّةَ فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ
الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ.
الْحَدِيثَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ. ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ
دَخَلَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَمَا دَعَا إِلَى
بَيْعَةِ نَفْسِهِ، وَاسْتَقَرَّ لَهُ
الشَّامُ وَدَخَلَ مَعَهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ فَفَتَحَ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ
وَعَدَ عَمْرًا أَنْ يَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ ذَلِكَ نَائِبًا بِدِمَشْقَ، فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَةُ
مَرْوَانَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ عَبْدِ الْمَلِكِ
لِوَلَدِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَخَلَعَ عَمْرَو بْنَ سَعِيدٍ مِنْ ذَلِكَ، فَمَا
زَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، حَتَّى كَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ، وَعَزَمَ عَبْدُ
الْمَلِكِ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، فَرَجَعَ مِنْ جَيْشِهِ وَدَخَلَ عَمْرٌو دِمَشْقَ وَتَحَصَّنَ
بِهَا، وَأَجَابَهُ أَهْلُهَا، فَاتَّبَعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَاصَرَهُ، ثُمَّ
اسْتَنْزَلَهُ عَلَى أَمَانٍ صُورِيٍّ، ثُمَّ قَتَلَهُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ: سَنَةَ سَبْعِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْغَرِيبِ مَا ذَكَرَهُ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْكَلْبِيُّ بِسَنَدٍ لَهُ: أَنْ رَجُلًا سَمِعَ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ
عَلَى سُورِ دِمَشْقَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَقَبْلَ قَتْلِهِ بِمُدَّةٍ، هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَلَا يَا لِقَوْمِي لِلسَّفَاهَةِ وَالْوَهْنِ وَلِلْفَاجِرِ الْمَوْهُونِ
وَالرَّأْيِ ذِي الْأَفْنِ
وَلِابْنِ سَعِيدٍ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ خَرَّ لِلْوَجْهِ
وَالْبَطْنِ
رَأَى الْحِصْنَ مَنْجَاةً مِنَ
الْمَوْتِ فَالْتَجَا إِلَيْهِ فَزَارَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي الْحِصْنِ
قَالَ: فَأَتَى الرَّجُلُ عَبْدَ الْمَلِكِ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: وَيَحَكَ،
سَمِعَهَا مِنْكَ أَحَدٌ ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ضَعْهَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ. ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ خَلَعَ عَمْرٌو الطَّاعَةَ، وَقَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا أَبُو الْأَسْوَدِ
الدُّؤَلِيُّ
وَيُقَالُ: الدِّيلِيُّ. قَاضِي الْبَصْرَةَ، تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَاسْمُهُ
ظَالِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُفْيَانَ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ حِلْسِ
بْنِ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الدُّئِلِ بْنِ بَكْرٍ أَبُو
الْأَسْوَدِ، الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ
عِلْمُ النَّحْوِ وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ، وَإِنَّمَا
أَخَذَهُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ ; أَشْهَرُهَا أَنَّ اسْمَهُ
ظَالِمُ بْنُ عَمْرٍو. وَقِيلَ: عَكْسُهُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: اسْمُهُ
عَوَيْمِرُ بْنُ ظُوَيْلِمٍ. قَالَ: وَقَدْ أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ
عَلِيٍّ، وَهَلَكَ فِي وِلَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ. وَقَالَ يَحْيَى
بْنُ مَعِينٍ، وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: كَانَ ثِقَةً،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي النَّحْوِ، وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ:
مَاتَ فِي طَاعُونِ الْجَارِفِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ،
وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدْ
كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا غَرِيبٌ
جِدًّا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَغَيْرُهُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى إِلَيْهِ عِلْمَ
النَّحْوِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ
الْكَلَامَ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْأَسْوَدِ نَحَا
نَحْوَهُ وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ، وَسَلَكَ طَرِيقَهَ فَسُمِّيَ هَذَا الْعِلْمُ
النَّحْوَ لِذَلِكَ. وَكَانَ الْبَاعِثَ لِأَبِي الْأَسْوَدِ عَلَى بَسْطِ ذَلِكَ
تَغَيُّرُ لُغَةِ النَّاسِ، وَدُخُولُ اللَّحْنِ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَيَّامَ
وِلَايَةِ زِيَادٍ عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ أَبُو الْأَسْوَدِ مُؤَدِّبَ بَنِيهِ
; فَإِنَّهُ جَاءَ رَجُلٌ يَوْمًا إِلَى زِيَادٍ فَقَالَ: تُوُفِّيَ أَبَانَا
وَتَرَكَ بَنُونَ، فَأَمَرَهُ زِيَادٌ أَنْ يَضَعَ لِلنَّاسِ شَيْئًا يَهْتَدُونَ
بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا وَضَعَ
مِنْهُ بَابُ التَّعَجُّبِ ; مِنْ أَجْلِ أَنَّ ابْنَتَهُ قَالَتْ لَهُ لَيْلَةً:
يَا أَبَهْ، مَا أَحْسَنُ السَّمَاءِ ! فَقَالَ: نُجُومُهَا. فَقَالَتْ: إِنِّي
لَمْ أَسْأَلْ عَنْ أَحْسَنِهَا، إِنَّمَا تَعَجَّبْتُ مِنْ حُسْنِهَا. فَقَالَ
قُولِي: مَا أَحْسَنَ السَّمَاءَ !
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَبْخَلُ، وَكَانَ
يَقُولُ: لَوْ أَطَعْنَا الْمَسَاكِينَ فِي أَمْوَالِنَا لَكُنَّا مِثْلَهُمْ،
وَعَشَّى لَيْلَةً مِسْكِينًا، ثُمَّ قَيَّدَهُ وَبَيَّتَهُ عِنْدَهُ، وَمَنَعَهُ
أَنْ يَخْرُجَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ ; لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُسْلِمِينَ بِسُؤَالِهِ،
فَقَالَ لَهُ الْمِسْكِينُ: أَطْلِقْنِي. فَقَالَ: هَيْهَاتَ، إِنَّمَا
عَشَّيْتُكَ لِأُرِيحَ مِنْكَ الْمُسْلِمِينَ اللَّيْلَةَ. فَلَمَّا أَصْبَحَ
أَطْلَقَهُ. وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَقَدْ
أَظْهَرَ خَارِجِيٌّ التَّحْكِيمَ بِمِنًى فَقُتِلَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ.
وَالنُّوَّابُ فِيهَا هُمُ الَّذِينَ كَانُوا فِي السَّنَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ بْنِ جُنَادَةَ
، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَلِأَبِيهِ أَيْضًا صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ. نَزَلَ
الْكُوفَةَ وَبِهَا تُوُفِّيَ هَذِهِ السَّنَةَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ
وَسِتِّينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةُ
، بَايَعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَتَلَتْ بِعَمُودِ
خَيْمَتِهَا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ تِسْعَةً مِنَ الرُّومِ لَيْلَةَ عُرْسِهَا،
وَسَكَنَتْ دِمَشْقَ وَقَبْرُهَا بِبَابِ الصَّغِيرِ.
حَسَّانُ بْنُ مَالِكِ بْنِ بَحْدَلٍ، الْأَمِيرُ أَبُو سُلَيْمَانَ
الْبَحْدَلِيُّ
الْكَلْبِيُّ. وَهُوَ الَّذِي قَامَ
بِبَيْعَةِ مَرْوَانَ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ سَلَّمَهَا لِمَرْوَانَ.
وَقَصْرُ حَسَّانَ بِدِمَشْقَ، وَيُعْرَفُ بِقَصْرِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ،
وَهُوَ قَصْرُ الْبَحَادِلَةِ.
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
يُوسُفُ بْنُ الْحَكَمِ الثَّقَفِيُّ
وَالِدُ الْحَجَّاجِ. قَدِمَ مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الشَّامِ ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى
مِصْرَ وَالْمَدِينَةِ، وَكَانَ يَلْزَمُ مَرْوَانَ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَكَمِ
أَخُو مَرْوَانَ، شَهِدَ الدَّارَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَكَانَ شَاعِرًا
مُحْسِنًا، وَلَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَابْنُهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ مِنَ
الْهِجْرَةِ
فِيهَا ثَارَتِ الرُّومُ وَاسْتَجَاشُوا عَلَى مَنْ بِالشَّامِ،
وَاسْتَضْعَفُوهُمْ لِمَا يَرَوْنَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَصَالِحَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، مَلِكَ الرُّومِ، وَهَادَنَهُ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ
إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كُلِّ جُمْعَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ خَوْفًا مِنْهُ
عَلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا وَقْعُ الْوَبَاءُ بِمِصْرَ، فَهَرَبَ مِنْهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مَرْوَانَ إِلَى الشَّرْقِيَّةِ، فَنَزَلَ حُلْوَانَ وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنَ
الْقَاهِرَةِ وَاتَّخَذَهَا مَنْزِلًا وَاشْتَرَاهَا مِنَ الْقِبْطِ بِعَشَرَةِ
آلَافِ دِينَارٍ، وَبَنَى بِهَا دَارًا لِلْإِمَارَةِ، وَجَامِعًا، وَأَنْزَلَهَا
الْجُنْدَ.
وَفِيهَا رَكِبَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى مَكَّةَ
وَمَعَهُ أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ فَأَعْطَى وَفَرَّقَ، وَنَحَرَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ
أَلْفَ بَدَنَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ شَاةٍ، وَأَغْنَى سَاكِنِي مَكَّةَ ثُمَّ
عَادَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَأَنْعَمَ وَأَطْلَقَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ رُؤَسَاءِ
النَّاسِ بِالْحِجَازِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَالْعُمَّالُ عَلَى الْأَمْصَارِ
هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا قَبْلُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ
وَأُمُّهُ: جَمِيلَةُ بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ. وُلِدَ فِي حَيَاةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَرْوِ إِلَّا عَنْ
أَبِيهِ حَدِيثًا وَاحِدًا، " إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا "
الْحَدِيثَ. وَعَنْهُ ابْنَاهُ حَفْصٌ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ عُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، وَقَدْ طَلَّقَ أَبُوهُ أُمَّهُ فَأَخَذَتْهُ جَدَّتُهُ الشَّمُوسُ
بِنْتُ أَبِي عَامِرٍ، حَكَمَ لَهُ بِهَا الصِّدِّيقُ، وَقَالَ: شَمُّهَا
وَلُطْفُهَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْكَ. ثُمَّ لَمَّا زَوَّجَهُ أَبُوهُ فِي
أَيَّامِهِ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ شَهْرًا، ثُمَّ كَفَّ عَنِ
الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ ثُمُنَ مَالِهِ، وَأَمْرَهُ أَنْ يَتَّجِرَ
وَيُنْفِقَ عَلَى عَيَالِهِ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ: أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ
عَاصِمٍ وَبَيْنَ الْحَسَنِ أَوِ الْحُسَيْنِ مُنَازَعَةٌ فِي أَرْضٍ، فَلَمَّا
تَبَيَّنَ عَاصِمٌ مِنَ الْحَسَنِ الْغَضَبَ قَالَ: هِيَ لَكَ. فَقَالَ لَهُ: بَلْ
هِيَ لَكَ. فَتَرَكَاهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهَا، وَلَا أَحَدٌ مِنْ
ذُرِّيَّتِهِمَا حَتَّى أَخَذَهَا النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَكَانَ عَاصِمٌ
رَئِيسًا وَقُورًا، كَرِيمًا فَاضِلًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ سَنَةَ سَبْعِينَ.
قَبِيصَةُ بْنُ جَابِرِ بْنِ وَهْبٍ
الْأَسَدِيُّ الْكُوفِيُّ أَبُو الْعَلَاءِ
، مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، شَهِدَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَةِ، وَكَانَ
أَخَا مُعَاوِيَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ مِنَ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ.
قَيْسُ بْنُ ذَرِيحٍ، أَبُو يَزِيدَ، اللَّيْثِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، مِنْ بَادِيَةِ الْحِجَازِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَخُو
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
وَكَانَ قَدْ تَزَوَّجَ لُبْنَى بِنْتَ الْحَبَّابِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا، فَلَمَّا
طَلَّقَهَا، هَامَ لِمَا بِهِ مِنَ الْغَرَامِ، وَسَكَنَ الْبَادِيَةَ، وَجَعَلَ
يَقُولُ فِيهَا الْأَشْعَارَ وَنَحُلَ جِسْمُهُ، فَلَمَّا زَادَ مَا بِهِ أَتَاهُ
ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، فَأَخْذَهُ وَمَضَى بِهِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ، فَقَالَ لَهُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، ارْكَبْ مَعِي فِي حَاجَةٍ.
فَرَكِبَ، وَاسْتَنْهَضَ مَعَهُ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْ وُجُوهِ قُرَيْشٍ،
فَذَهَبُوا مَعَهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا يُرِيدُ، حَتَّى أَتَى بِهِمْ بَابَ،
زَوْجِ لُبْنَى، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ
فَإِذَا وُجُوهُ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكُمْ ! مَا جَاءَ
بِكُمْ ؟ قَالُوا: حَاجَةٌ لِابْنِ أَبِي عَتِيقٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ: اشْهَدُوا
عَلَى أَنَّ حَاجَتَهُ مَقْضِيَّةٌ، وَحُكْمَهُ جَائِزٌ. فَقَالُوا: أَخْبِرْهُ
بِحَاجَتِكَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ: اشْهَدُوا عَلَى أَنَّ زَوْجَتَهُ
لُبْنَى مِنْهُ طَالِقٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: قَبَّحَكَ
اللَّهُ، أَلِهَذَا جِئْتَ بِنَا ؟ فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكُمْ، يُطَلِّقُ هَذَا
زَوْجَتَهُ، وَيَتَزَوَّجُ بِغَيْرِهَا، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ
فِي هَوَاهَا صَبَابَةً، وَاللَّهِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى يَنْتَقِلَ مَتَاعُهَا
إِلَى بَيْتِ قَيْسٍ، فَفَعَلَتْ، وَأَقَامُوا مُدَّةً فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ
وَأَطْيَبِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
يَزِيدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ رَبِيعَةَ الْحِمْيَرِيُّ الشَّاعِرُ
كَانَ كَثِيرَ الشِّعْرِ وَالْهَجْوِ. وَقَدْ أَرَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ
قَتْلَهُ ; لِكَوْنِهِ هَجَا أَبَاهُ زِيَادًا، فَمَنَعَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ
قَتْلِهِ، وَقَالَ: أَدِّبْهُ. فَسَقَاهُ دَوَاءً مُسُهِلًا وَأَرْكَبَهُ عَلَى
حِمَارٍ، وَطَافَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَهُوَ يَسْلَحُ عَلَى الْحِمَارِ،
فَقَالَ فِي ذَلِكَ:
يَغْسِلُ الْمَاءُ مَا صَنَعْتُ وَشِعْرِي رَاسِخٌ مِنْكَ فِي الْعِظَامِ
الْبَوَالِي
بَشِيرُ بْنُ النَّضْرِ
قَاضِي مِصْرَ، كَانَ رِزْقُهُ فِي الْعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ. تُوُفِّيَ بِمِصْرَ،
وَوَلِيَ بَعْدَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْزَةَ الْخَوْلَانِيُّ. وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
مَالِكُ بْنُ يَخَامِرَ السَّكْسَكِيُّ الْأَلْهَانِيُّ الْحِمْصِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، وَيُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. رَوَى
الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي
حَدِيثِ الطَّائِفَةِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْحَقِّ أَنَّهُمْ بِالشَّامِ، وَهَذَا
مِنْ بَابِ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ عَنِ الْأَصَاغِرِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: لَهُ
صُحْبَةٌ. وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَكَانَ مِنْ
أَخَصِّ أَصْحَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ غَيْرُ
وَاحِدٍ: مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ أَنْ عَبْدَ
الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ سَارَ فِي جُنُودٍ هَائِلَةٍ مِنَ الشَّامِ قَاصِدًا
مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ، فَالْتَقَيَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ كَانَا قَبْلَهَا يَرْكَبُ كُلُّ وَاحِدٍ لِمُلْتَقَى الْآخَرِ، فَيَحُولُ
بَيْنَهُمَا الشِّتَاءُ وَالْبَرْدُ وَالْوَحْلُ، فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ سَارَ إِلَيْهِ
عَبْدُ الْمَلِكِ، وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ السَّرَايَا، وَدَخَلَ بَعْضُ مَنْ
أَرْسَلَهُ إِلَى الْبَصْرَةِ فَدَعَا أَهْلَهَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فِي
السِّرِّ، فَاسْتَجَابَ لَهُ بَعْضُهُمْ، وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ سَارَ إِلَى
الْحِجَازِ، فَجَاءَ وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَأَنَّبَ
الْكُبَرَاءَ مِنَ النَّاسِ، وَشَتَمَهُمْ وَلَامَهُمْ عَلَى دُخُولِ أُولَئِكَ
إِلَيْهِمْ، وَإِقْرَارِهِمْ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهَدَمَ دُورَ بَعْضِهِمْ،
ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ بَلَغَهُ قَصْدُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَهُ
بِجُنُودِ الشَّامِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ.
وَوَصَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى مَسْكِنٍ، وَكَتَبَ إِلَى الْمَرْوَانِيَّةِ
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِمَنْ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ فَأَجَابُوهُ، وَاشْتَرَطُوا
عَلَيْهِ أَنْ يُوَلِّيَهُمْ أَصْبَهَانَ، فَقَالَ: نَعَمْ. وَهُمْ جَمَاعَةٌ
كَثِيرَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَقَدْ جَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ
أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ خَالِدَ بْنَ
يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
وَخَرَجَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَقَدِ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَخَذَلُوهُ وَجَعَلَ يَتَأَمَّلُ
مَنْ مَعَهُ فَلَا يَجِدُهُمْ يُقَاوِمُونَ أَعْدَاءَهُ، فَاسْتَقْتَلَ وَطَمَّنَ
نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: لِي بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أُسْوَةٌ حِينَ
امْتَنَعَ مِنْ إِلْقَائِهِ يَدَهُ، وَمِنَ الذِّلَّةِ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ،
وَجَعَلَ يُنْشِدُ وَيَقُولُ مُسَلِّيًا نَفْسَهُ:
وَإِنَّ الْأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ تَأَسَّوْا فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ
التَّأَسِّيَا
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَائِهِ أَنْ يُقِيمَ
بِالشَّامِ، وَأَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُصْعَبٍ جَيْشًا فَأَبَى، وَقَالَ: لَعَلِّي
أَبْعَثُ رَجُلًا شُجَاعًا لَا رَأْيَ لَهُ، أَوْ مَنْ لَهُ رَأْيٌ وَلَا
شَجَاعَةَ لَهُ، وَإِنِّي أَجِدُ مِنْ نَفْسِي بَصَرًا بِالْحَرْبِ وَشَجَاعَةً،
وَإِنَّ مُصْعَبًا فِي بَيْتِ شَجَاعَةٍ، أَبُوهُ أَشْجَعُ قُرَيْشٍ، وَأَخُوهُ
لَا تُجْهَلُ شَجَاعَتُهُ، وَهُوَ شُجَاعٌ، لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ، وَهُوَ
يُحِبُّ الدَّعَةَ وَالْخَفْضَ، وَمَعَهُ مَنْ يُخَالِفُهُ، وَمَعِي مَنْ يَنْصَحُ
لِي. فَسَارَ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا تَقَارَبَ
الْجَيْشَانِ بَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ
إِلَى أُمَرَاءِ مُصْعَبٍ بِكُتُبٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَيَعِدُهُمُ
الْوِلَايَاتِ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ فَأَلْقَى
إِلَيْهِ كِتَابًا مَخْتُومًا، وَقَالَ: هَذَا جَاءَنِي مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ.
فَفَتَحَهُ فَإِذَا هُوَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِتْيَانِ إِلَيْهِ، وَلَهُ نِيَابَةُ
الْعِرَاقِ. وَقَالَ لِمُصْعَبٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ
مِنْ أُمَرَائِكَ إِلَّا وَقَدْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِثْلُ هَذَا فَإِنْ أَطَعْتَنِي
ضَرَبْتُ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ: إِنِّي لَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَمْ
تَنْصَحْنَا عَشَائِرُهُمْ بَعْدَهُمْ. فَقَالَ: فَأَوَقِرْهُمْ فِي الْحَدِيدِ
وَابْعَثْهُمْ إِلَى أَبْيَضِ كِسْرَى فَاسْجُنْهُمْ فِيهِ، وَوَكِّلْ بِهِمْ مَنْ
إِنْ غُلِبْتَ ضَرَبَ أَعْنُقَهُمْ، وَإِنْ غَلَبْتَ مَنَنْتَ بِهِمْ عَلَى
عَشَائِرَهُمْ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا النُّعْمَانِ، إِنِّي لَفِي شُغْلٍ عَنْ
هَذَا. ثُمَّ قَالَ مُصْعَبٌ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَحْرٍ - يَعْنِي الْأَحْنَفَ
بْنَ قَيْسٍ - إِنْ كَانَ لِيُحَذِّرُنِي غَدْرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَكَأَنَّهُ
كَانَ يَنْظُرُ إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ.
ثُمَّ تَوَاجَهَ الْجَيْشَانِ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ مِنْ مَسْكِنٍ، فَحَمَلَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ - وَهُوَ أَمِيرُ الْمُقَدِّمَةِ الْعِرَاقِيَّةِ
لِجَيْشِ مُصْعَبٍ - عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ - وَهُوَ أَمِيرُ مُقَدِّمَةِ
الشَّامِ - فَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَرْدَفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَحَمَلُوا عَلَى
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْتَرِ، وَمَنْ مَعَهُ فَطَحَنُوهُمْ، وَقُتِلَ
إِبْرَاهِيمُ
بْنُ الْأَشْتَرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعَفَا عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ عَتَّابُ
بْنُ وَرْقَاءَ عَلَى خَيْلِ مُصْعَبٍ فَهَرَبَ أَيْضًا وَلَجَأَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَجَعَلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي
الْقَلْبِ يُنْهِضُ أَصْحَابَ الرَّايَاتِ، وَيَحُثُّ الشُّجْعَانَ وَالْأَبْطَالَ
أَنْ يَتَقَدَّمُوا إِلَى أَمَامِ الْقَوْمِ، فَلَا يَتَحَرَّكُ أَحَدٌ، فَجَعَلَ
يَقُولُ: يَا إِبْرَاهِيمُ وَلَا إِبْرَاهِيمَ لِي الْيَوْمَ ! وَتَفَاقَمَ
الْأَمْرُ، وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ وَتَخَاذَلَتِ الرِّجَالُ، وَضَاقَ الْحَالُ،
وَكَثُرَ النِّزَالُ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: أَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَخَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى
مُصْعَبٍ يُعْطِيهِ الْأَمَانَ فَأَبَى، وَقَالَ: إِنَّ مِثْلِي لَا يَنْصَرِفُ
عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا.
قَالُوا: فَنَادَى مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ عِيسَى بْنَ مُصْعَبٍ فَقَالَ:
يَابْنَ أَخِي، لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ، لَكَ الْأَمَانُ. فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ:
قَدْ آمَنَكَ عَمُّكَ فَامْضِ إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَا تَتَحَدَّثُ نِسَاءُ
قُرَيْشٍ أَنِّي أَسْلَمْتُكَ لِلْقَتْلِ. فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، فَارْكَبْ
خَيْلَ السَّبْقِ فَالْحَقْ بِعَمِّكَ، فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعَ أَهْلُ
الْعِرَاقِ فَإِنِّي مَقْتُولٌ هَاهُنَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَا أُخْبِرُ
عَنْكَ أَحَدًا أَبَدًا، وَلَا أُخْبِرُ نِسَاءَ قُرَيْشٍ بِمَصْرَعِكَ أَبَدًا،
وَلَا أُقْتَلُ إِلَّا مَعَكَ، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ رَكِبْتَ خَيْلَكَ، وَسِرْنَا
إِلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُمْ عَلَى
الْجَمَاعَةِ. فَقَالَ مُصْعَبٌ: لَا
وَاللَّهِ، مَا الْفِرَارُ لِي بِعَادَةٍ، وَلَكِنْ أُقَاتِلُ، فَإِنْ قُتِلْتُ
فَمَا السَّيْفُ لِي بِعَارٍ، وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ قُرَيْشٌ عَنِّي أَنِّي
فَرَرْتُ مِنَ الْقِتَالِ. ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ: تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى
أَحْتَسِبَكَ. فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأُثْخِنَ مُصْعَبٌ
بِالرَّمْيِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ، وَهُوَ كَذَلِكَ
فَحَمَلُ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا ثَارَاتِ الْمُخْتَارِ !
فَصَرَعَهُ، وَنَزَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ التَّمِيمِيُّ، فَقَتَلَهُ وَحَزَّ رَأْسَهُ، وَأَتَى بِهِ
عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَسَجَدَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَأَطْلَقَ لَهُ
أَلْفَ دِينَارٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: لَمْ أَقْتُلْهُ عَلَى
طَاعَتِكَ، وَلَكِنْ بِثَأْرٍ كَانَ لِي عِنْدَهُ، وَكَانَ قَدْ وَلِيَ لَهُ
عَمَلًا قَبْلَ ذَلِكَ فَعَزَلَهُ عَنْهُ وَأَهَانَهُ.
قَالُوا: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ: لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ مُصْعَبٍ صُحْبَةٌ قَدِيمَةٌ،
وَكَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَلِكَ عَقِيمٌ.
وَقَالَ: لَمَّا تَفَرَّقَ عَنْ مُصْعَبٍ جُمُوعُهُ قَالَ لَهُ ابْنُهُ عِيسَى:
لَوِ اعْتَصَمْتَ بِبَعْضِ الْقِلَاعِ، وَكَاتَبْتَ مَنْ بَعُدُ عَنْكَ مِثْلَ
الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ وَغَيْرِهِ فَقَدِمُوا عَلَيْكَ، فَإِذَا
اجْتَمَعَ لَكَ مَا تُرِيدُ مِنْهُمْ لَقِيَتَ الْقَوْمَ ; فَإِنَّكَ قَدْ
ضَعُفْتَ جِدًّا. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَوَابًا. ثُمَّ ذَكَرَ مَا جَرَى
لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَكَيْفَ قُتِلَ كَرِيمًا، وَلَمْ يُلْقِ بِيَدِهِ،
وَلَمْ يَجِدْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَفَاءً. وَكَذَلِكَ أَبُوهُ وَأَخُوهُ،
وَنَحْنُ مَا وَجَدْنَا لَهُمْ وَفَاءً.
ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَبَقِيَ فِي قَلِيلٍ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَمَالَ الْجَمِيعُ
إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ يُحِبُّ مُصْعَبًا حَبًّا شَدِيدًا، وَكَانَ خَلِيلًا لَهُ قَبْلَ
الْخِلَافَةِ، فَقَالَ لِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ: اذْهَبْ إِلَيْهِ فَآمِنْهُ،
فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا مُصْعَبُ قَدْ آمَنُكَ ابْنُ عَمِّكَ عَلَى نَفْسِكَ
وَوَلَدِكَ وَمَالِكَ وَأَهْلِكَ، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْبِلَادِ،
وَلَوْ أَرَادَ بِكَ غَيْرَ ذَلِكَ لَكَانَ، فَقَالَ مُصْعَبٌ: قُضِيَ الْأَمْرُ،
إِنَّ مِثْلِي لَا يَنْصَرِفُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْمَوْقِفِ إِلَّا غَالِبًا أَوْ
مَغْلُوبًا. فَتَقَدَّمَ ابْنُهُ عِيسَى فَقَاتَلَ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
مَرْوَانَ يَابْنَ أَخِي لَا تَقْتُلْ نَفْسَكَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ مَا
تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ
قَتْلِ أَبِيهِ بَعْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَلَمَّا وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بَكَى
وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْدِرُ أَنْ أَصْبِرَ عَلَيْهِ سَاعَةً وَاحِدَةً
مِنْ حُبِّي لَهُ حَتَّى دَخَلَ السَّيْفُ بَيْنَنَا، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ
! وَلَقَدْ كَانَتِ الْمَحَبَّةُ وَالْحُرْمَةُ بَيْنَنَا قَدِيمَةً، مَتَى تَلِدُ
النِّسَاءُ مِثْلَ مُصْعَبٍ ؟ ثُمَّ أَمَرَ بِمُوَارَاتِهِ، وَدَفَنَهُ هُوَ
وَابْنَهُ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ الْأَشْتَرِ فِي قُبُورٍ بِمَسْكِنٍ بِالْقُرْبِ
مِنَ الْكُوفَةِ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ مَقْتَلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ يَوْمَ
الثُّلَاثَاءِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى أَوِ الْآخِرَةِ مِنْ
سَنَةِ إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ:
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَلَمَّا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ مُصْعَبًا ارْتَحَلَ إِلَى الْكُوفَةِ
فَنَزَلَ النُّخَيْلَةَ فَوَفَدَتْ عَلَيْهِ الْوُفُودُ بِهَا مِنْ رُؤَسَاءِ
الْقَبَائِلِ وَسَادَاتِ الْعَرَبِ، وَجَعَلَ يُخَاطِبُهُمْ بِفَصَاحَةٍ
وَبَلَاغَةٍ وَاسْتِشْهَادٍ بِأَشْعَارٍ
حَسَنَةٍ، وَبَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَفَرَّقَ الْعِمَالَاتِ فِي النَّاسِ،
وَوَلَّى الْكُوفَةَ قَطَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثِيَّ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ عَزَلَهُ وَوَلَّى أَخَاهُ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَيْهَا،
وَخَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا بِالْكُوفَةِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ لَوْ كَانَ خَلِيفَةً كَمَا يَزْعُمُ لَخَرَجَ
فَآسَى بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَغْرِزْ ذَنْبَهُ فِي الْحَرَمِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:
إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْكُمْ أَخِي بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ وَأَمَرْتُهُ
بِالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ، وَبِالشِّدَّةِ عَلَى أَهْلِ
الْمَعْصِيَةِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا.
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا بَلَغَهُمْ مَقْتَلُ مُصْعَبٍ
تَنَازَعَ فِي إِمَارَتِهَا حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، فَغَلَبَهُ حُمْرَانُ بْنُ
أَبَانٍ عَلَيْهَا فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا فَكَانَ أَشْرَفَ الرَّجُلَيْنِ. قَالَ
أَعْرَابِيٌّ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رِدَاءَ ابْنِ أَبَانٍ مَالَ عَنْ
عَاتِقِهِ يَوْمًا، فَابْتَدَرَهُ مَرْوَانُ، وَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَيُّهُمَا
يُسَوِّيهِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَدَّ حُمْرَانُ يَوْمًا
رِجْلَهُ فَابْتَدَرَ مُعَاوِيَةُ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَيُّهُمَا
يَغْمِزُهَا. قَالَ: فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ وَالِيًا عَلَيْهَا - يَعْنِي عَلَى الْبَصْرَةِ - فَأَخَذَهَا
مِنْ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ وَاسْتَنَابَ فِيهَا عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي
بَكْرَةَ، وَعَزَلَ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ عَنْهَا.
قَالُوا: وَقَدْ أَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ فَعُمِلَ لِأَهْلِ
الْكُوفَةِ فَأَكَلُوا مِنْ سِمَاطِهِ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَلَى السَّرِيرِ
عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا أَلَذَّ عَيْشَنَا
لَوْ أَنَّ شَيْئًا يَدُومُ، وَلَكِنْ نَحْنُ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ:
وَكُلُّ جَدِيدٍ يَا أُمَيْمَ إِلَى بِلًى وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا يَصِيرُ إِلَى
كَانْ
فَلَمَّا فَرَغَ النَّاسُ مِنَ الطَّعَامِ نَهَضَ فَدَارَ فِي الْقَصْرِ، وَجَعَلَ
يَسْأَلُ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ عَنْ أَحْوَالِ الْقَصْرِ وَمَنْ بَنَى
أَمَاكِنَهُ وَبُيُوتَهُ، فَيُخْبِرُهُ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَجْلِسِهِ
فَاسْتَلْقَى وَهُوَ يَقُولُ:
اعْمَلْ عَلَى مَهَلٍ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَاكَدَحْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا
الْإِنْسَانْ
فَكَأَنَّ مَا قَدْ كَانَ لَمْ يَكُ إِذْ مَضَى وَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ قَدْ
كَانْ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِيهَا رَجَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ - فِيمَا زَعَمَ
الْوَاقِدِيُّ - إِلَى الشَّامِ.
قَالَ: وَفِيهَا عَزَلَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ جَابِرَ بْنَ الْأَسْوَدِ عَنِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا
طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ هُوَ آخِرَ أُمَرَائِهِ
عَلَيْهَا، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهَا طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو مَوْلَى عُثْمَانَ، مِنْ
جِهَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ
وِلَايَةٌ عَلَى الْعِرَاقِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا عَقَدَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ نَائِبُ
مِصْرَ لِحَسَّانَ الْغَسَّانِيِّ عَلَى غَزْوِ إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا
فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ، فَافْتَتَحَ قَرْطَاجَنَّةَ وَكَانَ أَهْلُهَا رُومًا
عُبَّادَ أَصْنَامٍ.
وَفِيهَا قُتِلَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ الَّذِي تَغَلَّبَ عَلَى الْيَمَامَةَ،
وَفِيهَا خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَوْرٍ فِي الْيَمَامَةِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَهُوَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ
بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْقُرَشِيُّ - وَيُقَالُ لَهُ: أَبُو عِيسَى أَيْضًا - الْأَسَدِيُّ. وَأَمُّهُ
الرَّبَابُ بِنْتُ أُنَيْفٍ
الْكَلْبِيَّةُ. كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَشْجَعِهِمْ قَلْبًا،
وَأَسْخَاهُمْ كَفًّا.
وَقَدْ حَكَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ الزُّبَيْرِ
بْنِ الْعَوَّامِ، وَسَعْدٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَرَوَى عَنْهُ
الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ الْجُمَحِيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ، وَوَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ أَبَا
هُرَيْرَةَ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا.
حَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ أَنَّ جَمِيلًا نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ
بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: إِنَّ هَاهُنَا فَتًى أَكْرَهُ أَنْ تَرَاهُ بُثَيْنَةُ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَمِيرًا قَطُّ عَلَى مِنْبَرٍ أَحْسَنَ
مِنْهُ. وَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ
أَجْمَلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَلِيَ إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَتَّى قَتَلَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ بِمَسْكِنٍ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ أَوَانَا عَلَى نَهْرِ دُجَيْلٍ
عِنْدَ دَيْرِ الْجَاثَلِيقِ، وَقَبْرُهُ إِلَى الْآنِ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا صِفَةَ قَتْلِهِ الْمُخْتَارَ بْنَ أَبِي عُبَيْدٍ، وَأَنَّهُ قَتَلَ
فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ سَبْعَةَ
آلَافٍ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا قَتَلَ مُصْعَبٌ الْمُخْتَارَ طَلَبَ أَهْلُ الْقَصْرِ مِنْ أَصْحَابِ الْمُخْتَارِ مِنْ مُصْعَبٍ الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَبَّادَ بْنَ الْحُصَيْنِ فَجَعَلَ يُخْرِجُهُمْ مُلْتَفِّينَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَصَرَكُمْ عَلَيْنَا، وَابْتَلَانَا بِالْأَسْرِ، يَابْنَ الزُّبَيْرِ مَنْ عَفَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ عَاقَبَ لَا يَأْمَنُ الْقِصَاصَ، نَحْنُ أَهْلُ قِبْلَتِكُمْ وَعَلَى مِلَّتِكُمْ وَقَدْ قَدَرْتَ فَاسْمَحْ وَاعْفُ عَنَّا. قَالَ: فَرَقَّ لَهُمْ مُصْعَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُمْ، فَقَامَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ وَغَيْرُهُ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ، فَقَالُوا: قَدْ قَتَلُوا أَوْلَادَنَا وَعَشَائِرَنَا، وَجَرَحُوا مِنَّا خَلْقًا، اخْتَرْنَا أَوِ اخْتَرْهُمْ. فَأَمَرَ حِينَئِذٍ بِقَتْلِهِمْ، فَنَادَوْا بِأَجْمَعِهِمْ: لَا تَقْتُلْنَا وَاجْعَلْنَا مُقَدِّمَتَكَ فِي قِتَالِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَإِنْ ظَفَرْنَا فَلَكُمْ، وَإِنْ قُتِلْنَا لَا نُقْتَلُ حَتَّى نَقْتُلَ مِنْهُمْ طَائِفَةً وَكَانَ الَّذِي تُرِيدُ. فَأَبَى ذَلِكَ مُصْعَبٌ، فَقَالَ لَهُ مُسَافِرٌ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُصْعَبٌ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَكَ أَنْ لَا تَقْتُلَ نَفْسًا مُسْلِمَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، وَإِنَّ: مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( النِّسَاءِ: 93 ) فَلَمْ يَسْمَعْ لَهُ، بَلْ أَمَرَ بِضَرْبِ أَعْنَاقِهِمْ جَمِيعِهِمْ، وَكَانُوا سَبْعَةَ آلَافِ نَفْسٍ، ثُمَّ كَتَبَ مُصْعَبٌ إِلَى ابْنِ الْأَشْتَرِ: إِنْ أَجَبْتَنِي فَلَكَ الشَّامُ، وَأَعِنَّةُ الْخَيْلِ. فَسَارَ ابْنُ الْأَشْتَرِ إِلَى مُصْعَبٍ. وَقِيلَ: إِنَّ مُصْعَبًا لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَ: أَيْ عَمِّ، إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ قَوْمٍ خَلَعُوا الطَّاعَةَ، وَقَاتَلُوا حَتَّى إِذَا غُلِبُوا تَحَصَّنُوا، وَسَأَلُوا الْأَمَانَ فَأُعْطُوهُ، ثُمَّ قُتِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَكَمْ هُمْ ؟ قَالَ: خَمْسَةُ
آلَافٍ. فَسَبَّحَ ابْنُ عُمَرَ
وَاسْتَرْجَعَ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى مَاشِيَةَ الزُّبَيْرِ فَذَبَحَ
مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافِ مَاشِيَةٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَلَسْتَ تَعُدُّهُ
مُسْرِفًا ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَرَاهُ إِسْرَافًا فِي الْبَهَائِمِ وَلَا
تَرَاهُ إِسْرَافًا فِي مَنْ تَرْجُو تَوْبَتَهُ ؟ ! يَابْنَ أَخِي أَصِبْ مِنَ
الْمَاءِ الْبَارِدِ مَا اسْتَطَعْتَ فِي دُنْيَاكَ.
ثُمَّ إِنَّ مُصْعَبًا بَعَثَ بِرَأْسِ الْمُخْتَارِ إِلَى أَخِيهِ بِمَكَّةَ،
وَتَمَكَّنَ مُصْعَبٌ فِي الْعِرَاقِ تَمَكُّنًا زَائِدًا، فَقَرَّرَ بِهَا
الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالَ، وَحَظِيَ عِنْدَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ
فَجَعَلَهُ عَلَى الْوِفَادَةِ، ثُمَّ رَحَلَ مُصْعَبٌ إِلَى أَخِيهِ بِمَكَّةَ
فَأَعْلَمَهُ بِمَا فَعَلَ، فَأَقَرَّهُ عَلَى مَا صَنَعَ، إِلَّا إِبْرَاهِيمَ
بْنَ الْأَشْتَرِ لَمْ يُمْضِ لَهُ مَا جَعَلَهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ:
أَعَمَدْتَ إِلَى رَايَةٍ خَفَضَهَا اللَّهُ، تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهَا ؟ ثُمَّ
كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإِذَا ضَرْبَةٌ قَدْ أَصَابَتْهُ، وَقَالَ لَهُ:
أَتُرَانِي أُحِبُّ الْأَشْتَرَ وَهُوَ الَّذِي جَرَحَنِي هَذِهِ الْجِرَاحَةَ.
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِمَنْ قَدِمَ مَعَ مُصْعَبٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَالَ
لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُلِّ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ رَجُلًا مِنْ
أَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ لَهُ أَبُو حَاضِرٍ الْأَسَدِيُّ - وَكَانَ قَاضِيَ
الْجَمَاعَةِ بِالْبَصْرَةِ -: إِنَّ لَنَا وَلَكُمْ مَثَلًا قَدْ مَضَى يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ مَا قَالَ الْأَعْشَى:
عُلِّقْتُهَا عَرَضًا وَعُلِّقَتْ رَجُلًا غَيْرِي وَعُلِّقَ أُخْرَى غَيْرَهَا
الرَّجُلُ
قُلْتُ كَمَا قِيلَ أَيْضًا:
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ لَا
نُرِيدُهَا
عُلِّقْنَاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعُلِّقْتَ أَهْلَ الشَّامِ، وَعُلِّقَ
أَهْلُ الشَّامِ إِلَى مَرْوَانَ فَمَا عَسَيْنَا أَنْ نَصْنَعَ ؟ قَالَ
الشَّعْبِيُّ: فَمَا سَمِعْتُ جَوَابًا أَحْسَنَ مِنْهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ
مُصْعَبٌ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَحَبَّةً لِلنِّسَاءِ. وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ جَمَاعَةٌ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: لِيَقُمْ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْكُمْ فَلْيَسْأَلْ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
يُحِبُّهُ. فَقَامَ كُلٌّ يَسْأَلُ حَاجَتَهُ مِنْهُمْ، وَكَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ
بْنُ الزُّبَيْرِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُزَوِّجَهُ سُكَيْنَةَ
بِنْتَ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ - وَكَانَتَا أَحْسَنَ
النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ - وَأَنْ يُعْطِيَهُ اللَّهُ إِمْرَةَ
الْعِرَاقَيْنِ. فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ تَزَوُّجَ بِعَائِشَةَ
بِنْتِ طَلْحَةَ، وَكَانَ صَدَاقُهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ
بَاهِرَةَ الْجَمَالِ جِدًّا، وَكَانَ مُصْعَبٌ أَيْضًا جَمِيلًا جِدًّا،
وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ زَوْجَاتِهِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجْتَمَعَ فِي الْحِجْرِ
مُصْعَبٌ، وَ عُرْوَةُ، وَ عَبْدُ
اللَّهِ، بَنُو الزُّبَيْرِ، وَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَالُوا:
تَمَنَّوْا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى
الْخِلَافَةَ، وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى أَنْ يُؤْخَذَ عَنِّي
الْعِلْمُ. وَقَالَ مُصْعَبٌ: أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى إِمْرَةَ الْعِرَاقِ
وَالْجَمْعَ بَيْنَ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ وَسُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَمَّا أَنَا فَأَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ.
قَالَ: فَنَالُوا كُلُّهُمْ مَا تَمَنَّوْا، وَلَعَلَّ ابْنُ عُمَرَ قَدْ غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ.
وَقَالَ عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ يَوْمًا إِذْ دَعَانِي
الْأَمِيرُ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَأَدْخَلَنِي دَارَ الْإِمَارَةِ، ثُمَّ
كَشَفَ عَنْ سِتْرٍ فَإِذَا وَرَاءَهُ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ فَلَمْ أَرَ
مَنْظَرًا أَبْهَى، وَلَا أَحْسَنَ مِنْهَا. فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنْ هَذِهِ ؟
فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: هَذِهِ عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ، ثُمَّ خَرَجْتُ،
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَنْ هَذَا الَّذِي أَظَهَرْتَنِي عَلَيْهِ ؟ قَالَ: هَذَا
عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ. قَالَتْ: فَأَطْلِقْ لَهُ شَيْئًا. فَوَهَبَنِي عَشَرَةَ
آلَافِ دِرْهَمٍ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ مَلَكْتُهُ.
وَحَكَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ طَلْحَةَ تَغَضَّبَتْ
مَرَّةً عَلَى مُصْعَبٍ فَتَرَضَّاهَا بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
فَأَطْلَقَتْهَا هِيَ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي أَصْلَحَتْ
بَيْنَهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ
أُهْدِيَتْ لَهُ نَخْلَةٌ مِنْ ذَهَبٍ، ثِمَارُهَا مِنْ صُنُوفِ الْجَوَاهِرِ
الْمُثْمِنَةِ، فَقُوِّمَتْ بِأَلْفِي أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ مِنْ مَتَاعِ
الْفُرْسِ فَأَعْطَاهَا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ. وَقِيلَ: إِنَّ
أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ كَانَ إِذَا كَتَبَ لِأَحَدٍ جَائِزَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
جَعَلَهَا مُصْعَبٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَقَدْ كَانَ مُصْعَبٌ مِنْ أَجْوَدِ النَّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ عَطَاءً، لَا
يَسْتَكْثِرُ مَا يُعْطِي وَلَوْ كَانَ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ ; فَكَانَتْ
عَطَايَاهُ لِلْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ مُتَقَارِبَةً،
وَكَانَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ يُبَخَّلُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مُصْعَبًا غَضِبَ
مَرَّةً عَلَى رَجُلٍ فَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ:
أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، مَا أَقْبَحَ بِمِثْلِي أَنْ يَقُومَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيَتَعَلَّقَ بِأَطْرَافِكَ الْحَسَنَةِ، وَبِوَجْهِكَ الَّذِي
يُسْتَضَاءُ بِهِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ مُصْعَبًا فِيمَ قَتَلَنِي ؟ فَعَفَا
عَنْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَزَّ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ
تَجْعَلَ مَا وَهَبْتَ لِي مِنْ حَيَاتِي فِي عَيْشٍ رَخِيٍّ. فَأَطْلَقَ لَهُ
مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ الرَّجُلُ:
إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ نِصْفَهَا
لِابْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ ; حَيْثُ يَقُولُ فِيكَ:
إِنَّ مُصْعَبًا شِهَابٌ مِنَ اللَّهِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ
مُلْكُهُ مُلْكُ عِزَّةٍ لَيْسَ فِيهِ جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلَا كِبْرِيَاءُ
يَتَّقِي اللَّهَ فِي الْأُمُورِ وَقَدْ أَفْ لَحَ مَنْ كَانَ هَمَّهُ
الِاتِّقَاءُ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، قَدْ وَهَبْتَنِي
حَيَاةً، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَجْعَلَ مَا قَدْ وَهَبْتَنِي مِنَ الْحَيَاةِ
فِي عَيْشٍ رَخِيٍّ وَسِعَةٍ فَافْعَلْ. فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: بَلَغَ مُصْعَبًا عَنْ عَرِيفِ
الْأَنْصَارِ شَيْءٌ فَهَمَّ بِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ،
فَقَالَ لَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيَّرًا - أَوْ قَالَ: مَعْرُوفًا -
اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ فَأَلْقَى مُصْعَبٌ
نَفْسَهُ عَنْ سَرِيرِهِ وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْبِسَاطِ، وَقَالَ: أَمْرُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ فَتَرَكَهُ.
وَمِنْ كَلَامِ مُصْعَبٍ فِي التَّوَاضُعِ أَنَّهُ قَالَ: الْعَجَبُ مِنِ ابْنِ
آدَمَ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ، وَقَدْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ ؟ !
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُبَرِّدُ: سُئِلَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ
عَنْ مُصْعَبٍ فَقَالَ: كَانَ نَبِيلًا رَئِيسًا نَفِيسًا أَنِيسًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ الْمُخْتَارُ قَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي
غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ وَقِيلَ سَبْعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا كَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ابْنُ
عُمَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انْضَرَّ فِي عَيْنَيْهِ فَتَعَرَّفَ لَهُ حَتَّى
عَرَفَهُ، قَالَ: أَنْتَ الَّذِي قَتَلَتْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَةَ آلَافٍ
مِمَّنْ يُوَحِّدُ اللَّهَ ؟ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِأَنَّهُمْ بَايَعُوا
الْمُخْتَارَ، فَقَالَ: أَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مُسْتَكْرَهٌ أَوْ جَاهِلٌ
فَيُنْظَرَ حَتَّى يَتُوبَ ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى غَنَمِ الزُّبَيْرِ
فَنَحَرَ مِنْهَا خَمْسَةَ آلَافٍ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَمَا كَانَ مُسْرِفًا ؟
قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَهِيَ لَا تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تَعْرِفُهُ كَمَا
يَعْرِفُهُ الْآدَمِيُّ وَيَعْبُدُهُ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ مُوَحِّدٌ ؟ ! ثُمَّ
قَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ، تَمَتَّعْ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الدُّنْيَا مَا
اسْتَطَعْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: عِشْ مَا اسْتَطَعْتَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ زَافِرِ بْنِ قُتَيْبَةَ عَنِ
الْكَلْبِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يَوْمًا
لِجُلَسَائِهِ: مَنْ أَشْجَعُ الْعَرَبِ ؟ قَالُوا: شَبِيبٌ، قَطَرِيُّ بْنُ
الْفُجَاءَةِ، فُلَانٌ، فُلَانٌ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَشْجَعَ
الْعَرَبِ لَرَجُلٌ جَمْعَ بَيْنَ سُكَيْنَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَعَائِشَةَ
بِنْتِ طَلْحَةَ، وَأَمَةِ الْحَمِيدِ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
كُرَيْزٍ، وَأُمُّهُ رَبَابُ بِنْتُ أُنَيْفٍ الْكَلْبِيُّ، سَيِّدُ ضَاحِيَةِ
الْعَرَبِ، وَوَلِيُّ الْعِرَاقَيْنِ خَمْسَ سِنِينَ، فَأَصَابَ أَلْفَ أَلْفٍ،
وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأَلْفَ أَلْفٍ، وَأُعْطِيَ الْأَمَانَ، فَأَبَى، وَمَشَى
بِسَيْفِهِ حَتَّى مَاتَ، ذَلِكَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، لَا مَنْ قَطَعَ
الْجُسُورَ مَرَّةً هَاهُنَا، وَمَرَّةً هَاهُنَا.
قَالُوا: وَكَانَ مَقْتَلُهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي فُلَيْحُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا
وُضِعَ رَأْسُ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ:
لَقَدْ أَرْدَى الْفَوَارِسَ يَوْمَ عَبْسٍ غُلَامًا غَيْرَ مَنَّاعِ الْمَتَاعِ
وَلَا فَرِحٍ لِخَيْرٍ إِنْ أَتَاهُ وَلَا هَلِعٍ مِنَ الْحَدَثَانِ لَاعِ
وَلَا وَقَّافَةٍ وَالْخَيْلُ تَعْدُو وَلَا خَالٍ كَأُنْبُوبِ الْيَرَاعِ
فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ بِرَأْسِهِ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَوْ رَأَيْتُهُ وَالرُّمْحُ فِي يَدِهِ تَارَةً، وَالسَّيْفُ
تَارَةً ; يَفْرِي بِهَذَا، وَيَطْعَنُ بِهَذَا، لَرَأَيْتَ رَجُلًا يَمْلَأُ
الْقَلْبَ وَالْعَيْنَ شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا تَفَرَّقَتْ
رِجَالُهُ، وَكَثُرَ مَنْ قَصَدَهُ وَبَقِيَ وَحْدَهُ مَا زَالَ يُنْشِدُ:
وَإِنِّي عَلَى الْمَكْرُوهِ عِنْدَ حُضُورِهِ أُكَذِّبُ نَفْسِي وَالْجُفُونُ
لَهُ تَغُضِي
وَمَا ذَاكَ مِنْ ذُلٍّ وَلَكِنْ حَفِيظَةً أَذُبُّ بِهَا عِنْدَ الْمَكَارِمِ
عَنْ عِرْضِي
وَإِنِّي لِأَهْلِ الشَّرِّ بِالشَّرِّ مَرْصَدٌ وَإِنِّي لِذِي سِلْمٍ أَذَلُّ
مِنَ الْأَرْضِ
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كَانَ وَاللَّهِ كَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَصَدَقَ،
وَلَقَدْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَشَدِّهِمْ لِي إِلْفًا
وَمَوَدَّةً، وَلَكِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ،
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ غَسَّانَ بْنِ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
يَزِيدَ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادِ بْنِ ظَبْيَانَ قَتَلَ مُصْعَبًا
عِنْدَ دَيْرِ الْجَاثَلِيقِ عَلَى شَاطِئِ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: دُجَيْلٌ، مِنْ
أَرْضِ مَسْكِنَ، وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ فَذَهَبَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
فَسَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ، وَكَانَ ابْنُ ظَبْيَانَ فَاتِكًا رَدِيًّا، وَكَانَ
يَقُولُ: لَيْتَنِي قَتَلْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ حِينَ سَجَدَ يَوْمَئِذٍ، فَأَكُونُ
قَدْ قَتَلْتُ مَلِكَيِ الْعَرَبِ.
قَالَ يَعْقُوبُ: وَكَانَ ذَلِكَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ. قُلْتُ: وَكَذَا
قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ. وَالَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ
وَغَيْرُهُ أَنَّهُ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي عُمْرِهِ يَوْمَ قُتِلَ ثَلَاثَةَ
أَقْوَالٍ ; أَحَدُهَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَالثَّانِي أَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَالثَّالِثُ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ، أَنَّ امْرَأَتَهُ سُكَيْنَةَ بِنْتَ
الْحُسَيْنِ كَانَتْ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَقْعَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ
تَطَلَّبَتْهُ فِي الْقَتْلَى حَتَّى عَرَفَتْهُ بِشَامَةٍ فِي فَخِذِهِ.
فَقَالَتْ: نِعْمَ بَعْلُ الْمَرْأَةِ
الْمُسْلِمَةِ كُنْتَ، أَدْرَكَكَ وَاللَّهِ مَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا بِالْقَاعِ لَمْ يَعْهَدْ وَلَمْ
يَتَثَلَّمِ
فَهَتَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ إِهَابَهُ لَيْسَ الْكَرِيمُ عَلَى الْقَنَا
بِمُحَرَّمِ
قَالَ الزُّبَيْرُ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي
مُصْعَبًا:
لَقَدْ أَوْرَثَ الْمِصْرَيْنِ خِزْيًا وَذِلَّةً قَتِيلٌ بِدَيْرِ الْجَاثَلِيقِ
مُقِيمُ
فَمَا نَصَحَتْ لِلَّهِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ وَلَا صَدَقَتْ يَوْمَ اللِّقَاءِ
تَمِيمُ
وَلَوْ كَانَ بِكْرِيًّا تَعَطَّفَ حَوْلَهُ كَتَائِبُ يَغْلِي حَمْيُهَا وَيَدُومُ
وَلَكِنَّهُ ضَاعَ الذِّمَامُ وَلَمْ يَكُنْ بِهَا مُضَرِيٌّ يَوْمَ ذَاكَ كَرِيمُ
جَزَى اللَّهُ كُوفِيًّا هُنَاكَ مَلَامَةً وَبَصْرِيَّهُمْ إِنَّ الْمَلُومَ
مَلُومُ
وَإِنَّ بَنِي الْعَلَّاتِ أَخْلَوْا ظُهُورَنَا وَنَحْنُ صَرِيحٌ بَيْنَهُمْ
وَصَمِيمُ
فَإِنْ نَفْنَ لَا يَبْقَى أُولَئِكَ بَعْدَنَا لِذِي حُرْمَةٍ فِي الْمُسْلِمِينَ
حَرِيمُ
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ
الرُّقَيَّاتِ يَرْثِي مُصْعَبًا أَيْضًا:
نَعَتِ السَّحَائِبُ وَالْغَمَامُ بِأَسْرِهَا جَسَدًا بِمَسْكِنَ عَارِيَ
الْأَوْصَالِ
تُمْسِي عَوَائِذَهُ السِّبَاعُ وَدَارُهُ بِمَنَازِلٍ أَطْلَالُهُنَّ بَوَالِي
رَحَلَ الرِّفَاقُ وَغَادَرُوهُ ثَاوِيًا لِلرِّيحِ بَيْنَ صِبًا وَبَيْنَ شَمَالِ
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مُصْعَبٍ
الْكَلْبِيُّ، ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
عُمَيْرٍ قَالَ: دَخَلْتُ الْقَصْرَ بِالْكُوفَةِ فَإِذَا رَأَسُ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَعُبَيْدُ
اللَّهِ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحِينٍ
فَرَأَيْتُ رَأْسَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُخْتَارِ، وَالْمُخْتَارُ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْقَصْرَ بَعْدَ
ذَلِكَ بِحِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ الْمُخْتَارِ عَلَى تُرْسٍ بَيْنَ يَدَيْ
مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُصْعَبٌ عَلَى السَّرِيرِ، ثُمَّ دَخَلْتُ
الْقَصْرَ بَعْدَ حِينٍ فَرَأَيْتُ رَأْسَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى تُرْسٍ
بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَدْ
حَكَاهَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
عُمَيْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَصْلٌ ( خُطْبَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي مَقْتَلِ أَخِيهِ مُصْعَبٍ
)
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ، عَنْ أَبِي غَسَّانَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا انْتَهَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَتْلُ أَخِيهِ مُصْعَبٍ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، أَلَا وَإِنَّهُ لَمْ يُذِلَّ اللَّهُ مَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ فَرْدًا وَحْدَهُ، وَلَنْ يُفْلِحَ مَنْ كَانَ وَلَيَّهُ الشَّيْطَانُ وَحِزْبُهُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ الْأَنَامَ طُرًّا، أَلَا وَإِنَّهُ أَتَانَا مِنَ الْعِرَاقِ خَبَرٌ أَحْزَنَنَا وَأَفْرَحَنَا، أَتَانَا قَتْلُ مُصْعَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِي أَفْرَحَنَا فَعِلْمُنَا أَنَّ قَتْلَهُ لَهُ شَهَادَةٌ، وَأَمَّا الَّذِي أَحْزَنَنَا فَإِنَّ لِفِرَاقِ الْحَمِيمِ لَوْعَةً يَجِدُهَا حَمِيمُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ بِهِ، ثُمَّ يَرْعَوِي مِنْ بَعْدِهَا، وَذُو الرَّأْيِ جَمِيلُ الصَّبْرِ كَرِيمُ الْعَزَاءِ، وَلَئِنْ أُصِبْتُ بِمُصْعَبٍ فَلَقَدْ أُصِبْتُ بِالزُّبَيْرِ قَبْلَهُ، وَمَا أَنَا مِنْ عُثْمَانَ بِخُلُوِّ مُصِيبَةٍ، وَمَا مُصْعَبٌ إِلَّا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ، وَعَوْنٌ مِنْ أَعْوَانِي، أَلَا وَإِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلُ الْغَدْرِ وَالنِّفَاقِ، أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ بِأَقَلِّ الثَّمَنِ، فَإِنْ يُقْتَلْ فَإِنَّا وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ عَلَى مَضَاجِعِنَا كَمَا تَمُوتُ بَنُو أَبِي الْعَاصِ ; وَاللَّهِ مَا قُتِلَ رَجُلٌ فِي زَحْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا نَمُوتُ إِلَّا بِأَطْرَافِ الرِّمَاحِ أَوْ تَحْتَ ظِلِّ السُّيُوفِ، أَلَا وَإِنَّ الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمَلِكِ الْأَعْلَى الَّذِي لَا يَزُولُ سُلْطَانُهُ وَلَا يَبِيدُ مُلْكُهُ، فَإِنْ تُقْبِلِ الدُّنْيَا لَا آخُذْهَا أَخْذَ الْأَشِرِ الْبَطِرِ، وَإِنْ تُدْبِرْ لَا أَبْكِ عَلَيْهَا بُكَاءَ الْحَزِينِ الْمَهِينِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْأَشْتَرِ
وَاسْمُ الْأَشْتَرِ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ النَّخَعِيُّ، كَانَ أَبُوهُ
الْأَشْتَرَ مِنْ كِبَارِ أُمَرَاءِ عَلِيٍّ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ عَلَى
خُرَاسَانَ وَهُوَ مِمَّنْ قَامَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَتَلَهُ، وَكَانَ
إِبْرَاهِيمُ هَذَا مِنَ الْأُمَرَاءِ الْمَعْرُوفِينَ بِالشَّجَاعَةِ وَلَهُ
شَرَفٌ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ كَمَا ذَكَرْنَا،
ثُمَّ صَارَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَقُتِلَ مَعَهُ هَذِهِ السَّنَةَ
كَمَا ذَكَرْنَا.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبْزَى الْخُزَاعِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَاسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ عَلَى خُرَاسَانَ، وَسَكَنَ
الْكُوفَةَ وَوَلِيَهَا مَرَّةً. تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُسَيْلَةَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُرَادِيُّ
الصُّنَابِحِيُّ
كَانَ مِنَ الصُّلَحَاءِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى
السَّرِيرِ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.
عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ
الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ
رَبِيبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وُلِدَ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ، وَكَانَ عِنْدَ أُمِّهِ ; أُمِّ سَلَمَةَ. وَلَهُ رِوَايَاتٌ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
سَفِينَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ
كَانَ عَبْدًا لِأُمِّ سَلَمَةَ فَأَعْتَقَتْهُ وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْدِمَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنَا لَا أَزَالُ
أَخْدِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ لَمْ
تُعْتِقِينِي مَا عِشْتُ. وَقَدْ كَانَ سَفِينَةُ بِآلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلِيفًا، وَبِهِمْ خَلِيطًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ
أَنَّ سَفِينَةَ سُئِلَ عَنِ اسْمِهِ لِمَ سُمِّيَ سَفِينَةَ ؟ قَالَ: سِمَّانِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَفِينَةَ، خَرَجَ مَرَّةً
وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِمْ مَتَاعُهُمْ، فَقَالَ لِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْسُطْ كِسَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ
فَجَعْلَ فِيهِ مَتَاعَهُمْ ثُمَّ قَالَ لِي: احْمِلْ، مَا أَنْتَ إِلَّا
سَفِينَةٌ. قَالَ: فَلَوْ حَمَلْتُ يَوْمَئِذٍ وِقْرَ بَعِيرٍ أَوْ بَعِيرَيْنِ
أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مَا ثَقُلَ عَلَيَّ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: رَكِبْتُ مَرَّةً
سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ،
فَانْكَسَرَتْ بِنَا فَرَكِبْتُ
لَوْحًا مِنْهَا فَطَرَحَنِي الْبَحْرُ إِلَى غَيْضَةٍ فِيهَا الْأَسَدُ،
فَجَاءَنِي فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَارِثِ، أَنَا سَفِينَةُ، مَوْلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَجَعَلَ يَدْفَعُنِي
بِجَنْبِهِ أَوْ بِكَفِّهِ، حَتَّى وَضَعَنِي عَلَى الطَّرِيقِ، ثُمَّ هَمْهَمَ
هَمْهَمَةً فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوَدِّعُنِي.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ، عَنْ سَفِينَةَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتَ فَاطِمَةَ
فَرَأَى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ قِرَامًا مَضْرُوبًا، فَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ،
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ لِعَلِيٍّ: سَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا الَّذِي رَدَّهُ ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَيْسَ لِي وَلَا لِنَبِيٍّ
أَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا مُزَوِّقًا
عَمْرُو بْنُ أَخْطَبَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَعْرَجُ
غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
غَزْوَةً، وَمَسَحَ رَأَسَهُ وَقَالَ: اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ، فَبَلَغَ مِائَةَ سَنَةٍ
وَلَمْ يَبْيَضَّ شَعْرُهُ. تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ.
غُضَيْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زُنَيْمٍ السَّكُونِيُّ
مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ، لَهُ
رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، قِيلَ:
هُوَ مِنْ تَابِعِي أَهْلِ الشَّامِ، سَكَنَ حِمْصَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى صَلَاةَ الْجُمْعَةِ
نِيَابَةً عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ.
يَزِيدُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ السَّكُونِيُّ
كَانَ عَابِدًا زَاهِدًا صَالِحًا، سَكَنَ الشَّامَ بِقَرْيَةِ زِبْدِينَ،
وَقِيلَ: بِقَرْيَةِ جِسْرِينِ، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ دَاخِلَ بَابٍ شَرْقِيٍّ،
وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فِي صُحْبَتِهِ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ
أَهْلُ الشَّامِ يَسْتَسْقُونَ بِهِ إِذَا قَحَطُوا، وَقَدِ اسْتَسْقَى بِهِ
مُعَاوِيَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ، وَكَانَ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ،
فَإِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَالَ مُعَاوِيَةُ: " قُمْ يَزِيدُ، اللَّهُمَّ
إِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِخِيَارِنَا وَصُلَحَائِنَا "، فَيَسْتَسْقِي
اللَّهَ فَيُسْقَوْنَ. وَكَانَ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ فِي الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ،
وَكَانَ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْقَرْيَةِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ بِالْجَامِعِ فِي
اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ يُضِيءُ لَهُ إِبْهَامُ قَدَمِهِ - وَقِيلَ: أَصَابِعُ
رِجْلَيْهِ كُلُّهَا - حَتَّى يَدْخُلَ الْجَامِعَ، فَإِذَا رَجَعَ أَضَاءَتْ لَهُ
حَتَّى يَدْخُلَ الْقَرْيَةَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَدَعْ شَجَرَةً فِي
قَرْيَةِ زِبْدِينَ إِلَّا صَلَّى عِنْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يَمْشِي فِي
ضَوْءِ إِبْهَامِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ ذَاهِبًا إِلَى صَلَاةِ
الْعِشَاءِ بِالْجَامِعِ بِدِمَشْقَ، وَآيِبًا إِلَى قَرْيَتِهِ، وَكَانَ يَشْهَدُ
الصَّلَوَاتِ بِالْجَامِعِ بِدِمَشْقَ لَا تَفُوتُهُ بِهِ صَلَاةٌ.
مَاتَ بِقَرْيَةِ زِبْدِينَ أَوْ جِسْرَيْنِ مِنْ غُوطَةِ دِمَشْقَ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
عَمْرُو بْنُ الْأَسْوَدِ، أَبُو عِيَاضٍ، الْعَنْسِيُّ الْحِمْصِيُّ، مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ بِالشَّامِ، صَاحِبُ زُهْدٍ وَعِبَادَةٍ وَاجْتِهَادٍ، قَلِيلُ التَّشَيُّعِ، تُوُفِّيَ بِحِمْصَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ
وَبَيْنَ الْأَزَارِقَةِ مِنَ الْخَوَارِجِ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: سُولَافُ،
مَكَثُوا نَحْوًا مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ مُتَوَاقِفِينَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ
حُرُوبٌ يَطُولُ بَسْطُهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَقُتِلَ فِي
أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَبَايَعَ
النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ
الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى الْأَهْوَازَ وَمَا مَعَهَا، وَشَكَرَ
سَعْيَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا، ثُمَّ تَوَاقَعَ النَّاسُ فِي
دَوْلَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْأَهْوَازِ، فَكَسَرَ النَّاسُ الْخَوَارِجَ
كَسْرَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبُوا فِي الْبِلَادِ لَا يَلْوُونَ بَلْ يُوَلْوِلُونَ،
وَاتَّبَعَهُمْ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ النَّاسِ، وَدَاوُدُ بْنُ
قَحْذَمَ لِيَطْرُدُوهُمْ، وَأَرْسَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ بِشْرُ بْنُ
مَرْوَانَ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةَ
آلَافٍ، عَلَيْهِمْ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ، فَطَرَدُوا الْخَوَارِجَ كُلَّ
مَطْرَدٍ، وَلَكِنْ لَقِيَ الْجَيْشُ جُهْدًا عَظِيمًا، وَمَاتَتْ
خُيُولُهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ
أَكْثَرُهُمْ إِلَّا مُشَاةً إِلَى أَهْلِيهِمْ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ خُرُوجُ أَبِي فُدَيْكٍ
الْحَارِثِيِّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَغَلَبَ عَلَى
الْبَحْرَيْنِ، وَقَتَلَ نَجْدَةَ بْنَ عَامِرٍ الْحَارِثِيَّ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ أَخَاهُ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَهَزَمَهُمْ أَبُو فُدَيْكٍ، وَأَخَذَ جَارِيَةً
لِأُمَيَّةَ، وَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرُ
الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ، وَاجْتَمَعَ عَلَى
خَالِدٍ حَرْبُ أَبِي فُدَيْكٍ وَحَرْبُ الْأَزَارِقَةِ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ
الْفُجَاءَةِ بِالْأَهْوَازِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا بَعْثَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ الثَّقَفِيَّ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ;
لِيُحَاصِرَهُ بِمَكَّةَ، قَالَ: وَكَانَ السَّبَبُ فِي بَعْثِهِ لَهُ دُونَ
غَيْرِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ لَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ إِلَى
الشَّامِ بَعْدَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا وَأَخْذِهِ الْعِرَاقَ، نَدَبَ النَّاسَ إِلَى
قِتَالِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَى
ذَلِكَ، فَقَامَ الْحَجَّاجُ وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا لَهُ.
وَقَصَّ الْحَجَّاجُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ مَنَامًا زَعَمَ أَنَّهُ رَآهُ ;
قَالَ: رَأَيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَأَنِّي أَخَذْتُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ الزُّبَيْرِ فَسَلَخْتُهُ، فَابْعَثْ بِي إِلَيْهِ فَإِنِّي قَاتِلُهُ.
فَبَعَثَهُ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ أَمَانًا
لِأَهْلِ مَكَّةَ إِنْ هُمْ أَطَاعُوا.
قَالُوا: فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَمَعَهُ أَلْفَا فَارِسٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَسَلَكَ طَرِيقَ الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَعْرِضْ لِلْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَ الطَّائِفَ، وَجَعَلَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى عَرَفَةَ، وَيُرْسِلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْخُيُولَ فَيَلْتَقِيَانِ، فَتُهْزَمُ خَيْلُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَتَظْفَرُ خَيْلُ الْحَجَّاجِ، ثُمَّ كَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَأْذِنُهُ فِي دُخُولِ الْحَرَمِ، وَمُحَاصِرَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ ; فَإِنَّهُ قَدْ كَلَّتْ شَوْكَتُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ عَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمُدَّهُ بِرِجَالٍ أَيْضًا، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى طَارِقِ بْنِ عَمْرٍو يَأْمُرُهُ أَنْ يَلْحَقَ بِمَنْ مَعَهُ بِالْحَجَّاجِ، وَكَانَ طَارِقٌ يَتَوَلَّى الْمَدِينَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ قَدْ أَمَرَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا بِوَادِي الْقُرَى بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جَيْشِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ فِي نَحْوِ خَمْسَةِ آلَافٍ، مِنَ الشَّامِ مِنْهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَارْتَحَلَ الْحَجَّاجُ مِنَ الطَّائِفِ، فَنَزَلَ بِئْرَ مَيْمُونٍ، وَحَصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ بِالْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلَ ذُو الْحِجَّةِ حَجَّ بِالنَّاسِ الْحُجَّاجِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَعَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ السِّلَاحُ، وَهُمْ وُقُوفٌ بِعَرَفَاتٍ، وَكَذَا فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ مَحْصُورٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْحَجِّ هَذِهِ السَّنَةَ، بَلْ نَحَرَ بُدْنًا يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَهُ مِنَ الْحَجِّ، وَكَذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ مَعَ الْحَجَّاجِ وَطَارِقِ بْنِ عَمْرٍو أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، فَبَقُوا عَلَى إِحْرَامِهِمْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي، وَالْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ نُزُولٌ بَيْنَ الْحَجُونِ وَبِئْرِ مَيْمُونٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ أَمِيرِ خُرَاسَانَ يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ، وَيَقْطَعُهُ خُرَاسَانَ سَبْعَ سِنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابُ قَالَ لِلرَّسُولِ: بَعَثَكَ أَبُو الذِّبَّانِ ؟ وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ، وَلَكِنْ كُلْ كِتَابَهُ. فَأَكَلَهُ، وَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ نَائِبِ ابْنِ خَازِمٍ عَلَى مَرْوَ يَعِدُهُ بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ إِنْ هُوَ خَلَعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَازِمٍ، فَخَلَعَهُ، فَجَاءَهُ ابْنُ خَازِمٍ فَقَاتَلَهُ فَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ، قَتَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: وَكِيعُ بْنُ عَمِيرَةَ، لَكِنْ كَانَ قَدْ سَاعَدَهُ غَيْرُهُ، فَجَلَسَ وَكِيعٌ عَلَى صَدْرِهِ وَفِيهِ رَمَقٌ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ وَكِيعٌ يَقُولُ: يَا ثَارَاتِ دُوَيْلَةَ - يَعْنِي أَخَاهُ - وَكَانَ دُوَيْلَةُ قَدْ قَتَلَهُ ابْنُ خَازِمٍ، ثُمَّ إِنَّ ابْنُ خَازِمٍ تَنَخَّمَ فِي وَجْهِ وَكِيعٍ، قَالَ وَكِيعٌ: لَمْ أَرَ أَحَدًا أَكْثَرَ رِيقًا مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَكَانَ أَبُو هُبَيْرَةَ إِذَا ذَكَرَ هَذَا يَقُولُ: هَذِهِ وَاللَّهِ الْبَسَالَةُ. وَقَالَ لَهُ ابْنُ خَازِمٍ: وَيْحَكَ، أَتَقْتُلُنِي بِأَخِيكَ ؟ لَعَنَكَ اللَّهُ، أَتَقْتُلُ كَبْشَ مُضَرَ بِأَخِيكَ الْعِلْجِ وَكَانَ لَا
يُسَاوِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ؟ أَوْ
قَالَ: مِنْ نَوًى. قَالُوا: فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ بُكَيْرُ بْنُ
وِشَاحٍ فَأَرَادَ أَخْذَ الرَّأْسِ فَمَنَعَهُ مِنْهُ بِحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ،
فَضَرَبَهُ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ بِعَمُودٍ وَقَيَّدَهُ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَ،
ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ
بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَمَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، فَسُرَّ
بِذَلِكَ سُرُورًا كَثِيرًا، وَكَتَبَ إِلَى بُكَيْرِ بْنِ وِشَاحٍ فَأَقَرَّهُ
عَلَى نِيَابَةِ خُرَاسَانَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أُخِذَتِ الْمَدِينَةُ مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
وَاسْتَنَابَ فِيهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو
الَّذِي كَانَ بَعَثَهُ مَدَدًا لِلْحَجَّاجِ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ ابْنِ خَازِمٍ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَازِمٍ بْنِ أَسْمَاءَ السُّلَمِيُّ، أَبُو صَالِحٍ
الْبَصْرِيُّ، أَمِيرُ خُرَاسَانَ، أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ،
وَالْفُرْسَانِ الْمَشْكُورِينَ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو
الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي "
تَهْذِيبِهِ ": يُقَالُ: لَهُ صُحْبَةٌ. رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِمَامَةِ السَّوْدَاءِ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي
دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، لَكِنْ لَمْ يُسَمُّوهُ.
رَوَى عَنْهُ سَعْدُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّازِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْأَزْرَقِ.
رَوَى أَبُو بِشْرٍ الدُّولَابِيُّ أَنَّهُ قُتِلَ فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ
بِشَيْءٍ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا فِي التَّهْذِيبِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "
الْغَابَةِ فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ "، فَقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
خَازِمِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ الصَّلْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ هِلَالِ
بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ
بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو صَالِحٍ السُّلَمِيُّ، أَمِيرُ خُرَاسَانَ، شُجَاعٌ
مَشْهُورٌ، وَبَطَلٌ مَذْكُورٌ، رَوَى عَنْهُ سَعِيدُ بْنُ الْأَزْرَقِ، وَسَعْدُ
بْنُ عُثْمَانَ، قِيلَ: إِنَّ لَهُ صُحْبَةً، وَفَتَحَ سَرْخَسَ، وَكَانَ أَمِيرًا
عَلَى خُرَاسَانَ أَيَّامَ فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَوَّلُ مَا وَلِيَهَا
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، بَعْدَ مَوْتِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ
مُعَاوِيَةَ، وَجَرَى لَهُ فِيهَا حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ، حَتَّى تَمَّ أَمْرُهُ
بِهَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا أَخْبَارَهُ فِي كِتَابِ " الْكَامِلِ فِي
التَّارِيخِ "، وَقُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ بِخُرَاسَانَ، هَكَذَا
قَالَ: إِنَّهُ قُتِلَ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ. وَهَكَذَا حَكَى شَيْخُنَا
عَنِ الدُّولَابِيِّ،
وَكَذَا رَأَيْتُ فِي "
التَّارِيخِ " لِشَيْخِنَا أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ، وَالَّذِي
ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي سِيَاقِ " تَارِيخِهِ " أَنَّهُ قُتِلَ
سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إِنَّمَا قُتِلَ بَعْدَ
مَقْتَلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بَعَثَ
بِرَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى ابْنِ خَازِمٍ، وَيَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ
وَلَهُ خُرَاسَانُ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنَّ ابْنَ خَازِمٍ لَمَّا رَأَى رَأْسَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ طَاعَةً أَبَدًا، وَدَعَا بِطَسْتٍ
فَغَسَلَ رَأْسَ ابْنِ الزُّبَيْرِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَأَطْعَمَ الْكِتَابَ
لِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَضَرَبْتُ
عُنُقَكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَضَرَبَ
عُنُقَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، التَّمِيمِيُّ
السَّعْدِيُّ، أَبُو بَحْرٍ الْبَصْرِيُّ
ابْنُ أَخِي صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَالْأَحْنَفُ لَقَبٌ لَهُ، وَإِنَّمَا
اسْمُهُ الضَّحَّاكُ، وَقِيلَ: صَخْرٌ، أَسْلَمَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ.
وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا
مُؤْمِنًا، عَلِيمَ اللِّسَانِ، وَكَانَ يُضْرَبُ بِحِلْمِهِ الْمَثَلُ، وَلَهُ
أَخْبَارٌ فِي حِلْمِهِ سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ، قَالَ عَنْهُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ: هُوَ مُؤْمِنٌ عَلِيمُ اللِّسَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ:
مَا رَأَيْتُ شَرِيفَ قَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: هُوَ بَصْرِيٌّ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ، وَكَانَ سَيِّدَ
قَوْمِهِ، وَكَانَ أَعْوَرَ أَحْنَفَ الرِّجْلَيْنِ، دَمِيمًا قَصِيرًا كَوْسَجًا،
لَهُ بَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ، احْتَبَسَهُ عُمَرُ سَنَةً يَخْتَبِرُهُ، ثُمَّ قَالَ:
هَذَا وَاللَّهِ السَّيِّدُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَطَبَ عِنْدَ عُمَرَ فَأَعْجَبَهُ
مَنْطِقُهُ، قِيلَ: ذَهَبَتْ عَيْنُهُ بِالْجُدَرِيِّ، وَقِيلَ: فِي فَتْحِ
سَمَرْقَنْدَ. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: كَانَ الْأَحْنَفُ جَوَادًا
حَلِيمًا، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ ثُمَّ أَسْلَمَ،
وَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا قَلِيلَ الْحَدِيثِ،
وَكَانَ كَثِيرَ
الصَّلَاةِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ
يُسْرِجُ الْمِصْبَاحَ، وَكَانَ يَضَعُ إِصْبَعَهُ فِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ
لِنَفْسِهِ: إِذَا لَمْ تَصْبِرْ عَلَى الْمِصْبَاحِ، فَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى
نَارِ جَهَنَّمَ ؟ وَقِيلَ لَهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ سَوَّدَكَ قَوْمُكَ ؟ قَالَ: لَوْ
عَابَ الْمَاءَ النَّاسُ مَا شَرِبْتُهُ. وَكَانَ الْأَحْنَفُ لَا يَحْسُدُ، وَلَا
يَجْهَلُ، وَلَا يَدْفَعُ الْحَقَّ، وَقَالَ: إِنَّ مِنَ السُّؤْدُدِ الصَّبْرَ
عَلَى الذُّلِّ، وَكَفَى بِالْحِلْمِ نَاصِرًا. وَقَالَ: مَا نَازَعَنِي أَحَدٌ
إِلَّا أَخَذْتُ مِنْ أَمْرِي إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِنْ كَانَ فَوْقِي عَرَفْتُ
قَدْرَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونِي رَفَعْتُ نَفْسِي عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلِي
تَفَضَّلْتُ. وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُ أَحَدًا بِسُوءٍ بَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ
عِنْدِي، وَلَا سَمِعْتُ كَلِمَةً تَسُوءُنِي إِلَّا طَأْطَأَتُ رَأْسِي ; لِمَا
هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا. وَأَغْلَظَ لَهُ رِجْلٌ فِي الْكَلَامِ، فَلَمَّا وَصَلَ
إِلَى نَادِي قَوْمِهِ وَقَفَ، وَقَالَ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ شَيْءٌ آخَرُ فَقُلْ
; لِئَلَّا يَسْمَعَكَ قَوْمِي فَيُؤْذُوكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ
لِنَفْسِهِ، وَيَعِدُهُ بِوِلَايَةِ الشَّامِ، فَقَالَ: يَدْعُونِي ابْنُ
الزَّرْقَاءِ إِلَى وِلَايَةِ الشَّامِ، وَاللَّهِ وَدِدْتُ أَنَّ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ جَبَلًا مِنْ نَارٍ. وَكَانَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ يَقُولُ: قَدْ
بَلَغَ الْأَحْنَفُ مِنَ السُّؤْدُدِ وَالشَّرَفِ مَا لَا يَنْفَعُهُ مَعَهُ
وِلَايَةٌ، وَلَا يَضُرُّهُ عَزْلٌ، وَإِنَّهُ لَيَفِرُّ مِنَ الشَّرَفِ وَهُوَ
يَتْبَعُهُ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَهُوَ الَّذِي افْتَتَحَ مَرْوَ الرُّوذِ، وَكَانَ الْحَسَنُ
وَابْنُ سِيرِينَ فِي
جَيْشِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ
سَنَةَ سَبْعٍ وَسِتِّينَ - وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ - عَنْ سَبْعِينَ سَنَةٍ.
وَقِيلَ: عَنْ أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنْ كَلَامِهِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْحِلْمِ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ: الذُّلُّ مَعَ
الصَّبْرِ. وَكَانَ إِذَا تَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ يَقُولُ: وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَجِدُ مَا تَجِدُونَ وَلَكِنِّي صَبُورٌ. وَقَالَ: وَجَدْتُ الْحِلْمَ
أَنْصَرَ لِي مِنَ الرِّجَالِ. وَقَدِ انْتَهَى إِلَيْهِ الْحِلْمُ وَالسُّؤْدُدُ،
وَقَالَ: أَحْيِ مَعْرُوفَكَ بِإِمَاتَةِ ذِكْرِهِ. وَقَالَ: عَجِبْتُ لِمَنْ
يَجْرِي فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ ؟ ! وَقَالَ: مَا
أَتَيْتُ بَابَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَنْ أُدْعَى، وَلَا دَخَلْتُ بَيْنَ
اثْنَيْنِ إِلَّا أَنْ يُدْخِلَانِي بَيْنَهُمَا. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: بِمَ
سُدْتَ قَوْمَكَ ؟ قَالَ: بِتَرْكِي مِنْ أَمَرِكَ مَا لَا يَعْنِينِي، كَمَا
عَنَاكَ مِنْ أَمْرِي مَا لَا يَعْنِيكَ. وَأَغْلَظَ لَهُ رِجْلٌ فِي الْكَلَامِ،
وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَحَنَفُ، لَئِنْ قُلْتَ لِي وَاحِدَةً لَتَسْمَعَنَّ
بَدَلَهَا عَشْرًا. فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنْ قُلْتَ لِي عَشْرًا لَا تَسْمَعُ
مِنِّي وَاحِدَةً. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ تُعَذِّبْنِي
فَأَنَا أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لِي فَأَنْتَ أَهْلٌ لِذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ زِيَادُ بْنُ أَبِيهِ يُقَرِّبُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُدْنِيهِ،
فَلَمَّا مَاتَ زِيَادٌ وَوَلِيَ ابْنُهُ عُبَيْدِ اللَّهِ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ
رَأْسًا، فَتَأَخَّرَتْ عِنْدَهُ مَنْزِلَتُهُ ; لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ، وَصَارَ
يُقَدِّمُ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ دُونَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ بِرُؤَسَاءِ أَهْلِ
الْعِرَاقِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، أَدْخَلَهُمْ
عَلَيْهِ عَلَى مَرَاتِبِهِمْ
عِنْدَهُ، فَكَانَ الْأَحْنَفُ آخِرَ مَنْ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ
مُعَاوِيَةُ أَجَلَّهُ وَعَظَّمَهُ، وَأَدْنَاهُ وَكَرَّمَهُ، وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ
عَلَى الْفِرَاشِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُحَادِثُهُ دُونَهُمْ، ثُمَّ شَرَعَ
الْحَاضِرُونَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، وَالْأَحْنَفُ
سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ ؟ قَالَ: إِنْ
تَكَلَّمْتُ خَالَفْتُهُمْ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي قَدْ
عَزَلْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ عَنِ الْعِرَاقِ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا لَكُمْ
نَائِبًا عَلَيْكُمْ. وَأَجَّلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَاخْتَلَفُوا بَيْنَهُمُ
اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عُبَيْدَ
اللَّهِ، وَلَا طَلَبَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَتَكَلَّمِ الْأَحْنَفُ فِي
هَذِهِ الْأَيَّامِ فِي ذَلِكَ كَلِمَةً وَاحِدَةً مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، فَلَمَّا
اجْتَمَعُوا بَعْدَ ثَلَاثٍ أَفَاضُوا فِي ذَلِكَ، وَكَثُرَ اللَّغَطُ
وَارْتَفَعَتِ الْأَصْوَاتُ، وَالْأَحْنَفُ سَاكِتٌ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
تَكَلَّمْ. فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُوَلِّيَ فِيهَا أَحَدًا مِنْ
أَهْلِ بَيْتِكَ فَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَإِنَّهُ
رَجُلٌ حَازِمٌ، وَلَا يَسُدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَسَدَّهُ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ
غَيْرَهُ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنُوَّابِكَ. فَرَدَّهُ مُعَاوِيَةُ إِلَى
الْوِلَايَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: كَيْفَ جَهِلْتَ مِثْلَ
الْأَحْنَفِ ؟ إِنَّهِ عَزَلَكَ وَوَلَّاكَ وَهُوَ سَاكِتٌ. فَعَظُمَتْ مَنْزِلَةُ
الْأَحْنَفِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ زِيَادٍ.
تُوُفِّيَ الْأَحْنَفُ بِالْكُوفَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُصْعَبُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، وَمَشَى فِي
جِنَازَتِهِ. ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ
أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَوَجَدَهُ غَضْبَانَ عَلَى ابْنِهِ يَزِيدَ،
وَأَنَّهُ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ، قَالَ: فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى
يَزِيدَ بِمَالٍ جَزِيلٍ، وَقُمَاشٍ كَثِيرٍ، فَأَعْطَى يَزِيدُ نِصْفَهُ
لِلْأَحْنَفِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ مُجْدَعَةَ بْنِ
حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ
الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيُّ، الْحَارِثِيُّ الْأَوْسِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَأَبُوهُ أَيْضًا صَحَابِيٌّ، رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعَيْنِ، وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْكُوفَةِ فِي
أَيَّامِ مُصْعَبٍ عَلَى الْعِرَاقِ.
عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ الْقَاضِي
وَهُوَ عُبَيْدَةُ بْنُ عَمْرٍو - وَيُقَالُ: ابْنُ قَيْسِ بْنِ عَمْرٍو -
السَّلْمَانِيُّ، الْمُرَادِيُّ، أَبُو عَمْرٍو الْكُوفِيُّ، وَسَلْمَانُ بَطْنٌ
مِنْ مُرَادٍ، أَسْلَمَ عُبَيْدَةُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ
يُوَازِي شُرَيْحًا فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ ابْنُ
نُمَيْرٍ: كَانَ شُرَيْحٌ إِذَا
أَشْكَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ كَتَبَ إِلَى عُبَيْدَةَ فِيهِ، وَانْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ صَيْفِيٍّ الْمَخْزُومِيِّ، قَارِئُ أَهْلِ
مَكَّةَ، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَقَرَأَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،
وَقَرَأَ عَلَيْهِ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ.
عَطِيَّةُ بْنُ بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
عُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ، أَبُو مُعَاوِيَةَ، الْخُزَاعِيُّ الْكُوفِيُّ
مُقْرِئُ أَهِلِ الْكُوفَةِ، مَشْهُورٌ بِالْخَيْرِ وَالْعِبَادَةِ، تُوُفِّيَ
بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، الْقُرَشِيُّ الْعَامِرِيُّ
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ، مَدَحَ
مُصْعَبَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدَ
اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشَّاعِرُ،
السَّلُولِيُّ
أَحَدُ الشُّعَرَاءِ الْفُصَحَاءِ، مَدَحَ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَنْ
هَجَاهُ بِقَوْلِهِ:
شِرِبْنَا الْغَيْضَ حَتَّى لَوْ سُقِينَا دِمَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ مَا رَوِينَا
وَلَوْ جَاءُوا بِرَمْلَةَ أَوْ بِهِنْدٍ
لَبَايَعْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، الْمُبِيرِ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ وَأَخْزَاهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى
بَنِي أَسَدٍ - وَكَانَ عَالِمًا بِفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ - قَالَ: حُصِرَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ لَيْلَةَ هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ سِنَةَ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ، وَقُتِلَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى، سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فَكَانَ حَصْرُ الْحَجَّاجِ لَهُ خَمْسَةَ
أَشْهُرٍ، وَسَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْخَارِجَةِ، وَكَانَ فِي الْحَجِّ ابْنُ عُمَرَ، وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ
الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِابْنِ عُمَرَ فِي الْمَنَاسِكِ،
كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ".
فَلَمَّا اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ، اسْتَهَلَّتْ وَأَهْلُ الشَّامِ
مُحَاصِرُونَ أَهْلَ مَكَّةَ، وَقَدْ
نَصَبَ الْحَجَّاجُ الْمَنْجَنِيقَ
عَلَى مَكَّةَ ; لِيَحْصُرَ أَهْلَهَا، حَتَّى يَخْرُجُوا إِلَى الْأَمَانِ
وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ مَعَ الْحَجَّاجِ خَلْقٌ قَدِمُوا
عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ،
فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُ مَجَانِيقَ، فَأَلَحَّ
عَلَيْهَا بِالرَّمْيِ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَحَبَسَ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ
فَجَاعُوا، وَكَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَجَعَلَتِ الْحِجَارَةُ
تَقَعُ فِي الْكَعْبَةِ، وَالْحَجَّاجُ يَصِيحُ بِأَصْحَابِهِ: يَا أَهْلَ
الشَّامِ، اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّاعَةِ ! فَكَانُوا يَحْمِلُونَ عَلَى ابْنِ
الزُّبَيْرِ حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُمْ آخِذُوهُ فِي هَذِهِ الشِّدَّةِ، فَيَشُدُّ
عَلَيْهِمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى يُخْرِجَهُمْ مِنْ
بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، ثُمَّ يَكُرُّونَ عَلَيْهِ فَيَشُدُّ عَلَيْهِمْ ; فَعَلَ
ذَلِكَ مِرَارًا، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ جَمَاعَةً مِنْهُمْ وَهُوَ يَقُولُ: خُذْهَا
وَأَنَا ابْنُ الْحَوَارِيِّ. وَقِيلَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَلَا تُكَلِّمُهُمْ
فِي الصُّلْحِ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ وَجَدُوكُمْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ
لَذَبَحُوكُمْ جَمِيعًا، وَاللَّهِ لَا أَسْأَلُهُمْ صُلْحًا أَبَدًا.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُمْ لَمَّا رُمُوا بِالْمَنْجَنِيقِ، جَاءَتِ
الصَّوَاعِقُ وَالْبُرُوقُ
وَالرُّعُودُ، حَتَّى جَعَلَتْ تَعْلُو
أَصْوَاتُهَا عَلَى صَوْتِ الْمَنْجَنِيقِ، وَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ فَأَصَابَتْ مِنَ
الشَّامِيِّينَ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَضَعُفَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُلُوبُهُمْ
عَنِ الْمُحَاصَرَةِ، فَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ يُشَجِّعُهُمْ، وَيَقُولُ: إِنِّي
خَبِيرٌ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، هَذِهِ بُرُوقُ تِهَامَةَ وَرُعُودُهَا
وَصَوَاعِقُهَا، وَإِنَّ الْقَوْمَ يُصِيبُهُمْ مِثْلَ الَّذِي يُصِيبُكُمْ.
وَجَاءَتْ صَاعِقَةٌ مِنَ الْغَدِ فَقَتَلَتْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
جَمَاعَةً كَثِيرَةً أَيْضًا، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنَّهُمْ يُصَابُونَ مِثْلَكُمْ، وَأَنْتُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَهُمْ عَلَى
الْمُخَالَفَةِ ؟
وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَرْتَجِزُونَ وَهُمْ يَرْمُونَ بِالْمَنْجَنِيقِ ;
يَقُولُونَ:
خَطَّارَةٌ مِثْلُ الْفَنِيقِ الْمُزْبِدِ نَرْمِي بِهَا عُوَّاذَ هَذَا
الْمَسْجِدِ
فَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى الْمَنْجَنِيقِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَتَوَقَّفَ أَهَّلُ
الشَّامِ عَنِ الرَّمْيِ وَالْمُحَاصَرَةِ، فَخَطَبَهُمُ الْحَجَّاجُ فَقَالَ:
وَيْحَكُمُ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ النَّارَ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا
فَتَأْكُلَ قُرْبَانَهُمْ إِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ؟ فَلَوْلَا أَنَّ عَمَلَكُمْ
مَقْبُولٌ مَا نَزَلَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ. فَعَادُوا إِلَى الْمُحَاصَرَةِ.
وَمَا زَالَ أَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْأَمَانِ،
وَيَتْرُكُونَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ عَشَرَةِ
آلَافٍ، فَأَمَّنَهُمْ، وَقَلَّ أَصْحَابُ ابْنِ الزُّبَيْرِ جِدًّا، حَتَّى
خَرَجَ إِلَى الْحَجَّاجِ حَمْزَةُ وَخُبَيْبٌ ابْنَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، فَأَخَذَا
لِأَنْفُسِهِمَا أَمَانًا مِنَ الْحَجَّاجِ فَأَمَّنَهُمَا، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى أُمِّهِ فَشَكَا إِلَيْهَا خِذْلَانَ النَّاسِ لَهُ، وَخُرُوجَهُمْ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى أَوْلَادِهِ وَأَهْلِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الْيَسِيرُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ صَبْرُ سَاعَةٍ، وَالْقَوْمُ يُعْطُونَنِي مَا شِئْتُ مِنَ الدُّنْيَا، فَمَا رَأْيُكِ ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ ; إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ عَلَى حَقٍّ وَتَدْعُو إِلَى حَقٍّ فَاصْبِرْ عَلَيْهِ، فَقَدْ قُتِلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُكَ، وَلَا تُمَكِّنْ مِنْ رَقَبَتِكَ، يَلْعَبْ بِهَا غِلْمَانُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا أَرَدْتَ الدُّنْيَا فَلَبِئْسَ الْعَبْدَ أَنْتَ ; أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ وَأَهْلَكْتَ مَنْ قُتِلَ مَعَكَ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى حَقٍّ فَمَا وَهَنَ الدِّينُ، وَإِلَى كَمْ خُلُودُكُمْ فِي الدُّنْيَا ؟ الْقَتْلُ أَحْسَنُ. فَدَنَا مِنْهَا، فَقَبَّلَ رَأْسَهَا، وَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ رَأْيِي. ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَكَنْتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا أَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فِيهَا، وَمَا دَعَانِي إِلَى الْخُرُوجِ إِلَّا الْغَضَبُ لِلَّهِ أَنْ تُسْتَحَلَّ حُرْمَتُهُ، وَلَكِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ رَأْيَكِ، فَزِدْتِينِي بَصِيرَةً مَعَ بَصِيرَتِي، فَانْظُرِي يَا أُمَّاهُ، فَإِنِّي مَقْتُولٌ مِنْ يَوْمِي هَذَا، فَلَا يَشْتَدُّ حُزْنُكِ، وَسَلِّمِي لِأَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ ابْنَكِ لَمْ يَتَعَمَّدْ إِتْيَانَ مُنْكَرٍ، وَلَا عَمِلَ بِفَاحِشَةٍ قَطُّ، وَلَمْ يَجُرْ فِي حُكْمِ اللَّهِ، وَلَمْ يَغْدُرْ فِي أَمَانٍ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ ظُلْمَ مُسْلِمٍ وَلَا مُعَاهَدٍ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي ظُلْمٌ عَنْ عَامِلٍ فَرَضِيتُهُ؛ بَلْ أَنْكَرْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي آثَرُ مِنْ رِضَا رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَقُولُ هَذَا تَزْكِيَةً لِنَفْسِي، اللَّهُمَّ أَنْتِ أَعْلَمُ بِي مِنِّي وَمِنْ غَيْرِي، وَلَكِنِّي أَقُولُ ذَلِكَ تَعْزِيَةً لِأُمِّي لِتَسْلُوَ عَنِّي. فَقَالَتْ أُمُّهُ: إِنِّي لَأَرْجُو مِنَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ عَزَائِي فِيكَ حَسَنًا إِنْ تَقَدَّمْتَنِي، أَوْ تَقَدَّمْتُكَ فَفِي نَفْسِي، اخْرُجْ يَا بُنَيَّ حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرُكَ. فَقَالَ: جَزَاكِ اللَّهُ يَا أُمَّهْ خَيْرًا، فَلَا تَدَعِي الدُّعَاءَ قَبْلُ وَبَعْدُ لِي. فَقَالَتْ: لَا أَدَعَهُ أَبَدًا، فَمَنْ قُتِلَ عَلَى بَاطِلٍ فَلَقَدْ قُتِلْتَ عَلَى
حَقٍّ.
ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ طُولَ ذَلِكَ الْقِيَامِ فِي اللَّيْلِ
الطَّوِيلِ، وَذَلِكَ النَّحِيبِ، وَالظَّمَأِ فِي هَوَاجِرِ الْمَدِينَةِ
وَمَكَّةَ، وَبِرَّهُ بِأَبِيهِ وَبِي، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَلَّمْتُهُ
لِأَمْرِكَ فِيهِ، وَرَضِيتُ بِمَا قَضَيْتَ، فَقَابِلْنِي فِي عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ بِثَوَابِ الصَّابِرِينَ الشَّاكِرِينَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهُ:
ادْنُ مِنِّي أُوَدِّعْكَ. فَدَنَا مِنْهَا فَقَبَّلَتْهُ، ثُمَّ أَخَذَتْهُ
إِلَيْهَا فَاحْتَضَنَتْهُ لِتُوَدِّعَهُ، وَاعْتَنَقَهَا لِيُوَدِّعَهَا،
وَكَانَتْ قَدْ أَضَرَّتْ فِي آخِرِ عُمْرِهَا، فَوَجَدَتْهُ لَابِسًا دِرْعًا
مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، مَا هَذَا لِبَاسُ مَنْ يُرِيدُ مَا
تُرِيدُ مِنَ الشَّهَادَةِ. فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ، إِنَّمَا لَبِسْتُهُ
لِأُطَيِّبَ خَاطِرَكِ، وَأُسَكِّنَ قَلْبَكِ بِهِ. فَقَالَتْ: لَا يَا بُنَيَّ،
وَلَكِنِ انْزِعْهُ. فَنَزَعَهُ، وَجَعَلَ يَلْبَسُ بَقِيَّةَ ثِيَابِهِ وَيَتَشَدَّدُ،
وَهِيَ تَقُولُ: شَمِّرْ ثِيَابَكَ. وَجَعَلَ يَتَحَفَّظُ مِنْ أَسْفَلِ ثِيَابِهِ
; لِئَلَّا تَبْدُو عَوْرَتَهُ إِذَا قُتِلَ، وَجَعَلَتْ تُذَكِّرُهُ بِأَبِيهِ
الزُّبَيْرِ، وَجَدِّهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَجَدَّتِهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ
عَبْدِ الْمَطْلَبِ، وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُرَجِّيهِ الْقُدُومَ عَلَيْهِمْ إِذَا هُوَ قُتِلَ
شَهِيدًا، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ عَهْدِهِ بِهَا
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ أَبِيهِ وَأَبِيهَا، ثُمَّ قَالَتْ: امْضِ عَلَى
بَصِيرَةٍ. فَوَدَّعَهَا، وَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ بِسُبَّةٍ وَلَا مُرْتَقٍ مِنْ خَشْيَةِ
الْمَوْتِ سُلَّمَا
قَالُوا: وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَهُنَاكَ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَيَحْمِلُ
عَلَيْهِمْ فَيَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ
أَحَدٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
إِنِّي إِذَا أَعْرِفُ يَوْمِي أَصْبِرْ إِذْ بَعْضُهُمْ يَعْرِفُ ثُمَّ يُنْكِرْ
وَيَقُولُ أَيْضًا:
الْمَوْتُ أَكْرَمُ مِنْ إِعْطَاءِ مَنَقَصَةٍ مَنْ لَمْ يَمُتْ غِبْطَةً
فَالْغَايَةُ الْهَرَمُ
وَكَانَتْ أَبْوَابُ الْحَرَمِ قَدْ قَلَّ مَنْ يَحْرُسُهَا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَكَانَ لِأَهْلِ حِمْصَ حِصَارُ الْبَابِ الَّذِي يُوَاجَهُ بَابَ
الْكَعْبَةِ، وَلِأَهْلِ دِمَشْقَ بَابُ بَنِي شَيْبَةَ، وَلِأَهْلِ الْأُرْدُنِ
بَابُ الصَّفَا، وَلِأَهْلِ فِلَسْطِينَ بَابُ بَنِي جُمَحَ، وَلِأَهْلِ
قِنَّسْرِينَ بَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ قَائِدٌ، وَمَعَهُ أَهْلُ
تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ
الْأَبْطَحِ.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ عَلَى أَهْلِ بَابٍ إِلَّا فَرَّقَهُمْ
وَبَدَّدَ شَمْلَهُمْ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْبِسٍ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ إِلَى
الْأَبْطَحِ، ثُمَّ يَصِيحُ:
لَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ
فَيَقُولُ ابْنُ صَفْوَانَ وَأَهْلُ الشَّامِ أَيْضًا: إِي وَاللَّهِ، وَأَلْفُ
رَجُلٍ. وَلَقَدْ كَانَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ يَقَعُ عَلَى طَرَفِ ثَوْبِهِ فَلَا
يَنْزَعِجُ بِذَلِكَ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَاتِلُهُمْ
كَأَنَّهُ أَسَدٌ ضَارٍ، حَتَّى جَعَلَ
النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ إِقْدَامِهِ وَشَجَاعَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ
الثُّلَاثَاءِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بَاتَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي طُولَ لَيْلَتِهِ، ثُمَّ جَلَسَ فَاحْتَبَى
بِحَمِيلَةِ سَيْفِهِ، فَأَغْفَى ثُمَّ انْتَبَهَ مَعَ الْفَجْرِ عَلَى عَادَتِهِ،
ثُمَّ قَالَ: أَذِّنْ يَا سَعْدُ. فَأَذَّنَ عِنْدَ الْمَقَامِ، وَتَوَضَّأَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتِي الْفَجْرِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ
فَصَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ قَرَأَ سُورَةَ " ن " حَرْفًا حَرْفًا، ثُمَّ
سَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا
أُرَانِي الْيَوْمَ إِلَّا مَقْتُولًا ; فَإِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي كَأَنَّ
السَّمَاءَ فُرِجَتْ لِي، فَدَخَلْتُهَا، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ مَلِلْتُ الْحَيَاةَ،
وَجَاوَزَتْ سِنِّي اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ
لِقَاءَكَ، فَأَحِبَّ لِقَائِي. ثُمَّ قَالَ: اكْشِفُوا وُجُوهَكُمْ حَتَّى
أَنْظُرَ إِلَيْكُمْ، فَكَشَفُوا عَنْ وُجُوهِهِمْ وَعَلَيْهِمُ الْمَغَافِرُ،
فَحَرَّضَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَالصَّبْرِ، ثُمَّ نَهَضَ بِهِمْ،
فَحَمَلَ وَحَمَلُوا حَتَّى كَشَفُوهُمْ إِلَى الْحَجُونِ، فَجَاءَتْهُ آجُرَّةٌ
فَأَصَابَتْهُ فِي وَجْهِهِ، فَارْتَعَشَ لَهَا، فَلَمَّا وَجَدَ سُخُونَةَ
الدَّمِ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا
تَقْطُرُ الدِّمَا
ثُمَّ رَجَعَ، فَجَاءَهُ حَجَرُ مَنْجَنِيقٍ مِنْ وَرَائِهِ فَأَصَابَهُ فِي
قَفَاهُ فَوَقَذَهُ، ثُمَّ
وَقْعَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى
وَجْهِهِ، ثُمَّ انْتَهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ، وَابْتَدَرَهُ
النَّاسُ، فَشَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَضَرَبَ الرَّجُلَ
فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْسَرِ، وَجَعَلَ
يَضْرِبُ وَمَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْتَهِضَ حَتَّى كَثُرُوا عَلَيْهِ،
فَابْتَدَرُوهُ بِالسُّيُوفِ، فَقَتَلُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَاءُوا إِلَى
الْحَجَّاجِ فَأَخْبَرُوهُ، فَخَرَّ سَاجِدًا - قَبَّحَهُ اللَّهُ - ثُمَّ قَامَ
هُوَ وَطَارِقُ بْنُ عَمْرٍو حَتَّى وَقَفَا عَلَيْهِ، وَهُوَ صَرِيعٌ، فَقَالَ
طَارِقُ: مَا وَلَدَتِ النِّسَاءُ أَذْكَرَ مِنْ هَذَا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ:
تَمْدَحُ مَنْ يُخَالِفُ طَاعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ
أَعْذَرُ لَنَا ; إِنَّا مُحَاصِرُوهُ وَلَيْسَ هُوَ فِي حِصْنٍ وَلَا خَنْدَقٍ
وَلَا مَنَعَةٍ يَنْتَصِفُ مِنَّا، بَلْ يُفَضَّلُ عَلَيْنَا فِي كُلِّ مَوْقِفٍ،
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ صَوَّبَ طَارِقًا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ لَمَّا قَتَلَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ ارْتَجَّتْ مَكَّةَ بُكَاءً عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ
اللَّهُ، فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ حَتَّى رَغِبَ فِي
الْخِلَافَةِ، وَنَازَعَهَا أَهْلَهَا، وَأَلْحَدَ فِي الْحَرَمِ، فَأَذَاقَهُ
اللَّهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، وَإِنَّ آدَمَ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ أَشْرَفُ مِنْ مَكَّةَ،
فَلَمَّا خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ
عَنْهَا أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ
يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ
مَكَّةَ، بَلَغَنِي إِكْبَارُكُمْ وَاسْتِعْظَامُكُمْ قَتْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، حَتَّى رَغِبَ
فِي الدُّنْيَا، وَنَازَعَ الْخِلَافَةَ أَهْلَهَا، فَخَلَعَ طَاعَةَ اللَّهِ،
وَأَلْحَدَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَتْ مَكَّةُ شَيْئًا يَمْنَعُ
الْقَضَاءَ لَمَنَعَتْ آدَمَ حُرْمَةُ الْجَنَّةِ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ
بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ،
وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، فَلَمَّا عَصَاهُ أَخْرَجَهُ مِنَ
الْجَنَّةِ، وَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَآدَمُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ غَيَّرَ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ لَكَ: كَذَبْتَ ;
لَقَلْتُ، وَاللَّهِ إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَمْ يُغَيِّرْ كِتَابَ اللَّهِ،
بَلْ كَانَ قَوَّامًا بِهِ، صَوَّامًا، عَامِلًا بِالْحَقِّ.
وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا وَقَعَ، وَبَعَثَ بِرَأْسِ
ابْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ رَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، وَعُمَارَةَ بْنِ
حَزْمٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَمَرَهُمْ إِذَا مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ أَنْ
يَنْصِبُوا الرُّءُوسَ بِهَا، ثُمَّ يَسِيرُوا بِهَا إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلُوا
مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ بِجُثَّةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَصُلِبَتْ عَلَى ثَنِيَّةِ
كَدَاءٍ عِنْدَ الْحَجُونِ - يُقَالُ: مُنَكَّسَةً - فَمَا زَالَتْ مَصْلُوبَةً
حَتَّى مَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ
يَا أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا، ثُمَّ
قَالَ: أَمَا آنَ لِهَذَا الرَّاكِبِ أَنْ يَنْزِلَ ؟ فَبَعَثَ الْحَجَّاجُ،
فَأُنْزِلَ عَنِ الْجِذْعِ، وَدُفِنَ هُنَاكَ.
وَدَخَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى مَكَّةَ، فَأَخَذَ الْبَيْعَةَ مِنْ أَهْلِهَا
لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
وَلَمْ يَزَلِ الْحَجَّاجُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ حَتَّى أَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ
عَامَهُ هَذَا أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى مَكَّةَ وَالْيَمَامَةِ وَالْيَمَنِ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ، أَبُو بَكْرٍ، وَيُقَالُ
لَهُ: أَبُو خُبَيْبٍ، الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ
بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ
بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، هَاجَرَتْ بِهِ - وَهِيَ
حَامِلٌ بِهِ مُتِمٌ - فَوَلَدَتْهُ بِقُبَاءَ أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا وَلَدَتْهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ مِنَ الْهِجْرَةِ.
قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ، وَمُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُمَا، وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ ; لِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ أَسْمَاءَ، أَنَّهَا حَمَلَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ، قَالَتْ:
فَخَرَجْتُ بِهِ، وَأَنَا مُتِمٌّ، فَأَتَيْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ
فَوَلَدْتُهُ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِهِ، ثُمَّ دَعَا بِتَمْرَةٍ فَمَضَغَهَا ثُمَّ تَفَلَ فِي
فِيهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ فِي جَوْفِهِ رِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: ثُمَّ حَنَّكَهُ، ثُمَّ دَعَا لَهُ وَبَرَّكَ
عَلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ
أَبِيهِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَشَهِدَ الْجَمَلَ مَعَ
أَبِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَحَضَرَ خُطْبَةَ عُمَرَ بِالْجَابِيَّةِ، وَرَوَاهَا
عَنْهُ بِطُولِهَا، ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
وَقَدِمَ دِمَشْقَ لِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، ثُمَّ قَدِمَهَا مَرَّةً
أُخْرَى، وَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ أَيَّامَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَلَمَّا
مَاتَ يَزِيدُ غَلَبَ عَلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقَيْنِ وَمِصْرَ
وَخُرَاسَانَ وَسَائِرِ بِلَادٍ الشَّامِ إِلَّا دِمَشْقَ، وَتَمَّتِ الْبَيْعَةُ
لَهُ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ النَّاسُ بِخَيْرٍ فِي زَمَانِهِ.
وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ،
أَنَّهَا خَرَجَتْ بِعَبْدِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَةً وَهِيَ حُبْلَى
بِهِ، فَوَلَدَتْهُ بِقُبَاءَ أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ، فَأَتَتْ بِهِ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ
اللَّهِ، وَدَعَا لَهُ، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَتِ
الْيَهُودُ قَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ سَحَرُوا الْمُهَاجِرِينَ ; فَلَا
يُولَدُ لَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وُلِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَبَّرَ
الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ جَيْشَ الشَّامِ حِينَ
كَبَّرُوا عِنْدَ قَتْلِهِ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَلَّذِينِ كَبَّرُوا عِنْدَ
مَوْلِدِهِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَبَّرُوا عِنْدَ قَتْلِهِ. وَأَذَّنَ
الصِّدِّيقُ فِي أُذُنَيْهِ حِينَ وُلِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَمَنْ قَالَ: إِنِ الصِّدِّيقَ طَافَ
بِهِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ فِي خِرْقَةٍ فَهُوَ وَاهِمٌ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ، وَإِنَّمَا طَافَ الصِّدِّيقُ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ لِيَشْتَهِرَ
أَمْرُ مِيلَادِهِ عَلَى خِلَافِ مَا زَعَمَتِ الْيَهُودُ.
وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ: كَانَ عَارِضَا عَبْدِ اللَّهِ خَفِيفَيْنِ،
وَمَا اتَّصَلَتْ لِحْيَتُهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ
عَامِرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِي
غِلْمَةٍ تَرَعْرَعُوا ; مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
لَوْ بَايَعْتَهُمْ فَتُصِيبَهُمْ بَرَكَتُكَ، وَيَكُونُ لَهُمْ ذِكْرٌ. فَأُتِيَ
بِهِمْ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ تَكَعْكَعُوا، وَاقْتَحَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ شَرِبَ
مِنْ دَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; كَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَدِ احْتَجَمَ فِي طَسْتٍ، فَأَعْطَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
الزُّبَيْرِ لِيُرِيقَهُ فَشَرِبَهُ، فَقَالَ لَهُ:لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا
تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اذْهَبْ بِهَذَا الدَّمِ
فَأَهْرِقْهُ حَيْثُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ فَلَمَّا بَعُدَ عَمَدَ إِلَى ذَلِكَ
الدَّمِ فَشَرِبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: مَا صَنَعْتَ بِالدَّمِ ؟ قَالَ:
عَمَدْتُ إِلَى أَخْفَى مَوْضِعٍ عَلِمْتُ فَجَعَلْتُهُ فِيهِ. قَالَ: فَلَعَلَّكَ
شَرِبْتَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ
الْقَسَمِ، وَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ، وَوَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ فَكَانَتْ
تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي بِهِ مِنْ ذَلِكَ الدَّمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا
الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، أَنَّ نَوْفًا
الْبِكَالِيَّ كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ
أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَارِسُ الْخُلَفَاءِ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ أَمُرُّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَهُوَ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَقَامِ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ مَنْصُوبَةٌ
لَا يَتَحَرَّكُ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِذَا
سَجَدَ وَقَعَتِ الْعَصَافِيرُ عَلَى ظَهْرِهِ، تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ لَا تَرَاهُ
إِلَّا جِذْمَ حَائِطٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُومُ
لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَرْكَعُ
لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَسْجُدُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: رَكَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمًا فَقَرَأْتُ الْبَقَرَةَ وَآلَ
عِمْرَانَ وَالنِّسَاءَ وَالْمَائِدَةَ وَمَا رَفَعَ رَأْسَهُ. وَقَالَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ
ابْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي كَأَنَّهُ كَعْبٌ رَاتِبٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: ثَابِتٌ. وَقَالَ
أَحْمَدُ: تَعَلَّمَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّلَاةَ مَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنُ
جُرَيْجٍ مِنْ عَطَاءٍ، وَعَطَاءٌ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ
مِنَ الصِّدِّيقِ، وَ الصِّدِّيقُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: لَوْ رَأَيْتَ ابْنَ الزُّبَيْرِ
يُصَلِّي كَأَنَّهُ غُصْنُ شَجَرَةٍ تَصْفِقُهَا الرِّيحُ، وَالْمَنْجَنِيقُ
يَقَعُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا. قَالَ سُفْيَانُ: كَأَنَّهُ لَا يُبَالِي. وَحَكَى
بَعْضُهُمْ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ حَجَرًا مِنَ الْمَنْجَنِيقِ
وَقَعَ عَلَى شُرَّافَةِ الْمَسْجِدِ فَطَارَتْ فِلْقَةٌ مِنْهُ فَمَرَّتْ بَيْنَ
لِحْيَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَحَلْقِهِ، فَمَا زَالَ عَنْ مَقَامِهِ، وَلَا عُرِفَ
ذَلِكَ فِي صَوْتِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ، جَادَ مَا وَصَفْتَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا
لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: صِفْ لَنَا
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ جِلْدًا قَطُّ
رُكِّبَ عَلَى لَحْمٍ، وَلَا لَحْمًا عَلَى عَصَبٍ، وَلَا عَصَبًا عَلَى عَظْمٍ
مِثْلَهُ، وَلَا رَأَيْتُ نَفْسًا رُكِّبَتْ بَيْنَ جَنْبَيْنِ مِثْلَ نَفْسِهِ،
وَلَقَدْ مَرَّتْ آجُرَّةٌ مِنْ رَمْيِ الْمَنْجَنِيقِ بَيْنَ لِحْيَتِهِ وَصَدْرِهِ،
فَوَاللَّهِ مَا جَشِعَ وَلَا قَطَعَ لَهَا قِرَاءَتَهُ، وَلَا رَكَعَ دُونَ مَا
كَانَ يَرْكَعُ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
إِلَيْهَا، وَلَقَدْ كَانَ يَرْكَعُ فَيَكَادُ يَقَعُ الرَّخَمُ عَلَى ظَهْرِهِ،
وَيَسْجُدُ فَكَأَنَّهُ ثَوْبٌ مَطْرُوحٌ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ
شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى ابْنَ
الزُّبَيْرِ يَشْرَبُ فِي صَلَاتِهِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْمُصَلِّينَ.
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: كَانَ قَارِئًا
لِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَانِتًا لِلَّهِ،
صَائِمًا فِي الْهَوَاجِرِ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ، ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ
اللَّهِ، وَأُمُّهُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ حَبِيبَةُ حَبِيبِ
اللَّهِ، زَوْجَةُ رَسُولِ اللَّهِ، فَلَا يَجْهَلُ حَقَّهُ إِلَّا مَنْ أَعْمَاهُ
اللَّهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَوْمًا يُصَلِّي فَسَقَطَتْ حَيَّةٌ مِنَ
السَّقْفِ تَطَوَّقَتْ عَلَى بَطْنِ ابْنِهِ هَاشِمٍ، فَصَرَخَ النِّسْوَةُ،
وَانْزَعَجَ أَهْلُ الْمَنْزِلِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ تِلْكَ
الْحَيَّةَ، فَقَتَلُوهَا وَسَلِمَ
الْوَلَدُ ; فَعَلُوا هَذَا كُلَّهُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ
يَلْتَفِتْ، وَلَا دَرَى بِمَا جَرَى لِابْنِهِ حَتَّى سَلَّمَ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّحَّاكِ
الْحِزَامِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَنْ لَا أُحْصِي
كَثْرَةً مِنْ أَصْحَابِنَا، أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يُوَاصِلُ الصَّوْمَ
سَبْعًا ; يَصُومُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا لَيْلَةَ الْجُمْعَةِ
الْأُخْرَى، وَيَصُومُ بِالْمَدِينَةِ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي مَكَّةَ،
وَيَصُومُ بِمَكَّةَ فَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ إِذَا
أَفْطَرَ أَوَّلُ مَا يُفْطِرُ عَلَى لَبَنِ لِقْحَةٍ، وَسَمْنٍ، وَصَبِرٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى: فَأَمَّا اللَّبَنُ فَيَعْصِمُهُ، وَأَمَّا السَّمْنُ
فَيَقْطَعُ عَنْهُ الْعَطَشَ، وَأَمَّا الصَّبِرُ فَيُفَتِّقُ الْأَمْعَاءَ.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ، عَنْ رَوْحٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُوَاصِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ،
وَيُصْبِحُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَهُوَ أَلْيَثُنَا. وَرُوِيَ مِثْلُهُ مِنْ
غَيْرِ وَجْهٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ
سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَسَطِهِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ:
كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُفْطِرُ مِنَ الشَّهْرِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ،
وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْزِعْ ثَوْبَهُ عَنْ ظَهْرِهِ. وَقَالَ
لَيْثٌ عَنْ
مُجَاهِدٍ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُطِيقُ
مَا يُطِيقُهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِبَادَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَلَقَدْ جَاءَ سَيْلٌ مَرَّةً فَطَبَّقَ الْبَيْتَ، فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ
يَطُوفُ سِبَاحَةً. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَا يُنَازَعُ
فِي ثَلَاثٍ: فِي الْعِبَادَةِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَالْفَصَاحَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ
أَنَّ عُثْمَانَ جَعَلَهُ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ نَسَخُوا الْمَصَاحِفَ مَعَ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَذَكَرَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي خُطَبَاءِ
الْإِسْلَامِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَابْنِهِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَابْنِهِ،
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ: رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ
رِدَاءً يَمَانِيًّا عَدَنِيًّا يُصَلِّي فِيهِ، وَكَانَ صَيِّتًا ; إِذَا خَطَبَ
يُجَاوِبُهُ الْجَبَلَانِ أَبُو قُبَيْسٍ، وَزَرُودُ.
وَكَانَ آدَمَ نَحِيفًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ، وَكَانَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ
السُّجُودِ، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، مُجْتَهِدًا، شَهْمًا، فَصِيحًا، صَوَّامًا
قَوَّامًا، شَدِيدَ الْبَأْسِ، ذَا أَنَفَةٍ، لَهُ نَفْسٌ شَرِيفَةٌ وَهِمَّةٌ
عَالِيَةٌ، وَكَانَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ، لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مِنَ الشَّعْرِ
إِلَّا قَلِيلًا، وَكَانَتْ لَهُ جُمَّةٌ، وَكَانَ لَهُ لِحْيَةٌ صَفْرَاءُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قِتَالَ
الْبَرْبَرِ ; وَكَانُوا فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، وَالْمُسْلِمُونَ
عِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَحَاطُوا بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
فَمَا زَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ يَحْتَالُ حَتَّى رَكِبَ فِي ثَلَاثِينَ فَارِسًا، وَسَارَ نَحْوَ
مَلِكِ الْبَرْبَرِ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ وَرَاءَ الْجَيْشِ، وَجَوَارِيهِ
يُظَلِّلْنَهُ بِرِيشِ النَّعَامِ، فَسَاقَ حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ
يَظُنُّونَ أَنَّهُ ذَاهِبٌ فِي رِسَالَةٍ إِلَيْهِ، فَلَمَّا فَهِمَهُ الْمَلِكُ
وَلَّى مُدْبِرًا، فَلَحِقَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ،
وَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَجَعَلَهُ فَوْقَ رُمْحِهِ، وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ
الْمُسْلِمُونَ، وَحَمَلُوا عَلَى الْبَرْبَرِ فَهَزَمُوهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ،
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمُوا مَغَانِمَ كَثِيرَةً جِدًّا،
وَبَعْثَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ بِالْبِشَارَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، فَقَصَّ عَلَى عُثْمَانَ الْخَبَرَ، وَكَيْفَ جَرَى، فَقَالَ لَهُ
عُثْمَانُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنَّ تُؤَدِّيَ هَذَا لِلنَّاسِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ ؟
قَالَ: نَعَمْ. فَصَعِدَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَوْقَ الْمِنْبَرِ، فَخَطَبَ
النَّاسَ، وَذَكَرَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ مَا جَرَى. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:
فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَبِي الزُّبَيْرُ فِي جُمْلَةِ مِنْ حَضَرَ، فَلَمَّا
تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ كَادَ أَنْ يُرْتَجَ عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ مِنْ هَيْبَتِهِ
فِي قَلْبِي، فَزَبَرَنِي بِعَيْنِهِ، وَأَشَارَ إِلَيَّ لِيَحْصِبَنِي،
فَمَضَيْتُ فِي الْخُطْبَةِ كَمَا كُنْتُ، فَلَمَّا نَزَلْتُ قَالَ: وَاللَّهِ
لَكَأَنِي أَسْمَعُ خُطْبَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَ سَمِعْتُ خُطْبَتَكَ
يَا بُنَيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ عَلَى
رَاحِلَةٍ لَهُ، فَنَزَلَ يَبُولُ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا عَلَى الرَّاحِلَةِ شَيْخٌ
أَبْيَضُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَشَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَتَنَحَّى
عَنْهَا، فَرَكِبَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَاحِلَتَهُ وَمَضَى، قَالَ: فَنَادَاهُ:
وَاللَّهِ يَابْنَ الزُّبَيْرِ لَوْ دَخَلَ قَلْبَكَ اللَّيْلَةَ مِنِّي شَعْرَةٌ
لَخَبَلْتُكَ. قَالَ: وَمِنْكَ أَنْتَ
يَا لَعِينُ يَدْخُلُ قَلْبِي شَيْءٌ ؟ ! وَقَدْ رُوِيَ لِهَذِهِ الْحِكَايَةِ
شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى جَيِّدَةٍ. وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِنَ
الْعُمْرَةِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانُوا عِنْدَ التَّنَاضِبِ
أَبْصَرُوا رَجُلًا عِنْدَ شَجَرَةٍ، فَتَقَدَّمَهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا
انْتَهَى إِلَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، وَرَدَّ رَدًّا
ضَعِيفًا، وَنَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ لَهُ الرَّجُلُ، فَقَالَ
لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: تَنَحَّ عَنِ الظِّلِّ. فَانْحَازَ مُتَكَارِهًا، قَالَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَجَلَسْتُ، وَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، وَقَلْتُ: مَنْ أَنْتَ ؟
فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ. فَمَا عَدَا أَنْ قَالَهَا حَتَّى قَامَتْ كُلُّ
شَعْرَةٍ مِنِّي فَاجْتَذَبْتُهُ، وَقَلْتُ: أَنْتَ رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ
وَتَبْدُو لِي هَكَذَا ؟ وَإِذْ لَيْسَ لَهُ سُفْلَةٌ، وَانْكَسَرَ وَنَهَرْتُهُ،
وَقُلْتُ: إِلَيَّ تَتَبَدَّى وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَذَهَبَ هَارِبًا،
وَجَاءَ أَصْحَابِي، فَقَالُوا: أَيْنَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ عِنْدَكَ ؟
فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَهَرَبَ. قَالَ: فَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ
إِلَّا سَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَأَخَذْتُ كُلَّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ، فَشَدَدْتُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِمْ أَمَجَ وَمَا
يَعْقِلُونَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: دَخَلْتُ
الْمَسْجِدَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا نِسْوَةٌ يَطُفْنَ بِالْبَيْتِ،
فَأَعْجَبْنَنِي، فَلَمَّا قَضَيْنَ طَوَافَهُنَّ خَرَجْنَ، فَخَرَجْتُ فِي
إِثْرِهِنَّ ; لِأَعْلَمَ أَيْنَ مَنْزِلُهُنَّ، فَخَرَجْنَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى
أَتَيْنَ الْعَقَبَةَ، ثُمَّ انْحَدَرْنَ حَتَّى أَتَيْنَ
فَجًّا فَدَخَلْنَ فِي خَرِبَةٍ،
فَدَخَلْتُ فِي إِثْرِهِنَّ، فَإِذَا مَشْيَخَةٌ جُلُوسٌ فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ
يَابْنَ الزُّبَيْرِ ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: الْجِنُّ،
وَتِلْكَ النِّسْوَةُ نِسَاؤُنَا، فَمَا تَشْتَهِي يَابْنَ الزُّبَيْرِ ؟
فَقُلْتُ: أَشْتَهِي رُطَبًا، وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ مِنْ رُطَبَةٍ،
فَأَتَوْنِي بِرُطَبٍ فَأَكَلْتُ، ثُمَّ قَالُوا: احْمِلْ مَا بَقِيَ مَعَكَ،
فَجِئْتُ بِهِ الْمَنْزِلَ، فَوَضَعْتُهُ فِي سَفَطٍ، وَوَضَعْتُ السَّفَطَ فِي
صُنْدُوقٍ، ثُمَّ وَضَعْتُ رَأْسِي لِأَنَامَ، فَبَيْنَمَا أَنَا بَيْنَ
النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ سَمِعْتُ جَلَبَةً فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيْنَ وَضَعَهُ ؟ قَالُوا: فِي الصُّنْدُوقِ. فَفَتَحُوهُ،
فَإِذَا هُوَ فِي السَّفَطِ دَاخِلَهُ، فَهَمُّوا بِفَتْحِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ:
إِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَأَخَذُوا السَّفَطَ بِمَا فِيهِ،
فَذَهَبُوا بِهِ، قَالَ: فَلَمْ آسَفْ عَلَى شَيْءٍ أَسَفِي كَيْفَ لَمْ أَثِبْ
عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْبَيْتِ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مِمَّنْ حَاجَفَ عَنْ عُثْمَانَ
يَوْمَ الدَّارِ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ بِضْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً، وَكَانَ عَلَى
الرَّجَّالَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ، وَجُرِحَ يَوْمَئِذٍ تِسْعَ عَشْرَةَ جِرَاحَةً
أَيْضًا، وَقَدْ تَبَارَزَ يَوْمَئِذٍ هُوَ وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
الْأَشْتَرِ فَاتَّحَدَا فَصَرَعَ الْأَشْتَرُ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَلَمْ
يَتَمَكَّنِ الْأَشْتَرُ مِنَ الْقِيَامِ عَنْهُ، بَلِ احْتَضَنَهُ ابْنُ
الزُّبَيْرِ وَجَعَلَ يُنَادِي، وَيَقُولُ:
اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا، ثُمَّ تَفَرَّقَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ الْأَشْتَرُ،
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ جُرِحَ يَوْمَئِذٍ
بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ جِرَاحَةً،
وَلَمْ يُوجَدْ إِلَّا بَيْنَ الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ، وَقَدْ أَعْطَتْ
عَائِشَةُ لِمَنْ بَشَّرَهَا أَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ،
وَسَجَدَتْ لِلَّهِ شُكْرًا، وَقَدْ كَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا ;
لِأَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهَا، وَكَانَ عَزِيزًا عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ تَكُنْ عَائِشَةُ تُحِبُّ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ مِثْلَ حُبِّهَا عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ. وَقَالَ: وَمَا رَأَيْتُ أَبِي وَعَائِشَةَ يَدْعُوَانِ
لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ مِثْلَ دُعَائِهِمَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي أَخِي هَارُونُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى
بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ:
أَقْحَمَتِ السَّنَةُ نَابِغَةَ بَنِي جَعْدَةَ، فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَأَنْشَدَهُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
حَكَيْتَ لَنَا الصِّدِّيقَ لَمَّا وَلِيتَنَا وَعُثْمَانَ وَالْفَارُوقَ
فَارْتَاحَ مُعْدِمُ
وَسَوَّيْتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فَاسْتَوَوْا فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ
اللَّيْلِ مُظْلِمُ
أَتَاكَ أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَا دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الْفَلَاةِ
عَثَمْثَمُ
لِتَجْبُرَ مِنْهُ جَانِبًا ذَعْذَعَتْ بِهِ صُرُوفُ اللَّيَالِي وَالزَّمَانُ
الْمُصَمِّمُ
فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ أَبَا لَيْلَى، فَإِنَّ الشِّعْرَ أَهْوَنُ وَسَائِلِكَ عِنْدَنَا، أَمَّا صِفْوَةُ مَالِنَا فَلِآلِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَّا عَفْوُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ يَشْغَلُهَا عَنْكَ وَتَيْمًا، وَلَكِنْ لَكَ فِي مَالِ اللَّهِ حَقَّانِ: حَقٌّ بِرُؤْيَتِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَقٌّ لِشَرِكَتِكَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ. ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ دَارَ النَّعَمِ، فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا، وَجَمَلًا رَحِيلًا، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا وَثِيَابًا، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ، وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَيْحَ أَبِي لَيْلَى، لَقَدْ بَلَغَ الْجَهْدُ. فَقَالَ النَّابِغَةُ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:مَا وَلِيَتْ قُرَيْشٌ فَعَدَلَتْ، وَاسْتُرْحِمَتْ فَرَحِمَتْ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ، وَوَعَدَتْ خَيْرًا فَأَنْجَزَتْ، فَأَنَا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطُ الْقَاصِفِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْمُجَالَسَةِ ": أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ نَصْرٍ
الْأَزْدِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دِينَارٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ
الضَّبِّيُّ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ،
قَالَ: أَذِنَ مُعَاوِيَةُ لِلنَّاسِ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَاحْتَفَلَ
الْمَجْلِسُ، وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ، فَأَجَالَ بَصَرَهُ فِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ:
أَنْشِدُونِي لِقُدَمَاءِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ جَامِعَةٍ، مِنْ أَجْمَعَ
مَا قَالَتْهَا الْعَرَبُ. ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا خُبَيْبٍ. فَقَالَ: مَهْيَمْ ؟
قَالَ: أَنْشِدْنِي ذَلِكَ. فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ ; كُلُّ بَيْتٍ بِمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: نَعَمْ، إِنْ
سَاوَتْ. قَالَ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ، وَأَنْتَ وَافٍ كَافٍ. فَأَنْشَدَهُ
لِلْأَفْوَهِ الْأَوَدِيِّ:
بَلَوْتُ النَّاسَ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ فَلَمْ أَرَ غَيْرَ خَتَّالٍ وَقَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ.
وَلَمْ أَرَ فِي الْخُطُوبِ أَشَدَّ وَقْعًا وَكَيْدًا مِنْ مُعَادَاةِ الرِّجَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ.
وَذُقْتُ مَرَارَةَ الْأَشْيَاءِ
طُرًّا فَمَا شَيْءٌ أَمَرُّ مِنَ السُّؤَالِ
فَقَالَ: صَدَقَ. ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: هِيهِ يَا أَبَا خُبَيْبٍ. قَالَ:
إِلَى هَاهُنَا انْتَهَى. قَالَ: فَدَعَا مُعَاوِيَةُ بِثَلَاثِينَ عَبْدًا، عَلَى
عُنُقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَدْرَةٌ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ،
فَمَرُّوا بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى دَارِهِ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَبِي يَزِيدَ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي
عَاصِمٍ النَّبِيلِ، عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا
حَجَّ تَلَقَّاهُ النَّاسُ، وَتَخَلَّفَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ جَاءَهُ وَقَدْ
حَلَقَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَكْثَرَ جِحَرَةَ
رَأْسِكَ ؟ فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ ; لَا تَخْرُجْ عَلَيْكَ مِنْهَا حَيَّةٌ
فَتَقْتُلَكَ. فَلَمَّا أَفَاضَ مُعَاوِيَةُ طَافَ مَعَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ
وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ إِلَى دَارِهِ وَمَنَازِلِهِ
بِقُعَيْقِعَانَ، فَذَهَبَ مَعَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا خَرَجَا قَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: جَاءَ مَعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
إِلَى دُورِهِ وَمَنَازِلِهِ فَفَعَلَ مَاذَا ؟ لَا وَاللَّهِ لَا أَدَعُكَ حَتَّى
تُعْطِيَنِي مِائَةَ أَلْفٍ. فَأَعْطَاهُ، فَجَاءَ مَرْوَانَ فَقَالَ: وَاللَّهِ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ ; جَاءَكَ رَجُلٌ قَدْ سَمَّى
بَيْتَ مَالِ الدِّيوَانِ، وَبَيْتَ الْخِلَافَةِ، وَبَيْتَ كَذَا وَبَيْتَ كَذَا،
فَأَعْطَيْتَهُ مِائَةَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ؛ فَكَيْفَ أَصْنَعُ
بِابْنِ الزُّبَيْرِ ؟
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ
بْنِ مُجَاهِدٍ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ:
سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ شَيْئًا فَمَنَعَهُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ مَا أَجْهَلُ أَنْ أَلْزَمَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ، فَلَا أَشْتُمُ لَكَ
عِرْضًا، وَلَا أَقَصِبُ لَكَ حَسَبًا، وَلَكِنِّي أَسْدُلُ عِمَامَتِي مِنْ
بَيْنِ يَدَيَّ ذِرَاعًا، وَمِنْ خَلْفِي ذِرَاعًا فِي طَرِيقِ أَهْلِ الشَّامِ،
وَأَذْكُرُ سِيرَةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: مَنْ
هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ: ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَابْنُ بِنْتِ الصِّدِّيقِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: حَسْبُكَ بِهَذَا
شَرًّا. ثُمَّ قَالَ: هَاتِ حَوَائِجَكَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ
قَالَ: دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَمَرَ ابْنًا لَهُ
صَغِيرًا فَلَطَمَهُ لَطْمَةً دَوَّخَ مِنْهَا رَأْسَهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ قَالَ لِلصَّبِيِّ: ادْنُ مِنِّي. فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ:
الْطِمْ مُعَاوِيَةَ. قَالَ: لَا أَفْعَلُ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ
أَبِي. فَرَفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَدَهُ، فَلَطَمَ الصَّبِيَّ لَطْمَةً جَعَلَ
يَدُورُ مِنْهَا كَمَا تَدُورُ الدُّوَّامَةُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: تَفْعَلُ
هَذَا بِغُلَامٍ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ ؟ قَالَ: إِنَّهُ وَاللَّهِ
قَدْ عَرَفَ مَا يَضُرُّهُ مِمَّا يَنْفَعُهُ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحْسِنَ
أَدَبَهُ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَحِقَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ
سَائِرٌ إِلَى الشَّامِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَوَجَدَهُ وَهُوَ يَنْعَسُ عَلَى
رَاحِلَتِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَنْعَسُ وَأَنَا مَعَكَ ؟ أَمَا تَخَافُ مِنِّي أَنْ أَقْتُلَكَ ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ قُتَّالِ الْمُلُوكِ، إِنَّمَا يَصِيدُ كُلُّ طَائِرٍ قَدْرَهُ. فَقَالَ: أَمَا لَقَدْ سِرْتُ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ مَنْ تَعْلَمُ. فَقَالَ: لَا جَرَمَ قَتَلَكُمْ وَاللَّهِ بِشِمَالِهِ. فَقَالَ: أَمَا إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نُصْرَةِ عُثْمَانَ، ثُمَّ لَمْ يُجْزَ بِهَا. فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ لِبُغْضِ عَلِيٍّ لَا لِنُصْرَةِ عُثْمَانَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَاكَ عَهْدًا، فَنَحْنُ وَافُونَ لَكَ بِهِ مَا عِشْتَ، فَسَيَعْلَمُ مَنْ بَعْدَكَ. فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا أَخَافُكَ إِلَّا عَلَى نَفْسِكَ، وَكَأَنِّي بِكَ قَدْ خُبِطْتَ فِي الْحِبَالَةِ، وَاسْتُحْكِمَتْ عَلَيْكَ الْأُنْشُوطَةُ، فَذَكَرْتَنِي وَأَنْتَ فِيهَا، فَقُلْتُ: لَيْتَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَهَا، لَيْتَنِي وَاللَّهِ لَهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَأَحْلُلَنَّكَ رُوَيْدًا، وَلَأُطْلِقَنَّكَ سَرِيعًا، وَلَبِئْسَ الْوَلِيُّ أَنْتَ تِلْكَ السَّاعَةَ. وَحَكَى ابْنُ عُيَيْنَةَ نَحْوَ هَذَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا مَاتَ، وَجَاءَتْ بَيْعَةُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ انْشَمَرَ مِنْهَا ابْنَ الزُّبَيْرِ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَقَصَدَا مَكَّةَ فَأَقَامَا بِهَا، ثُمَّ خَرَجَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ مَقْتَلِهِ بِأَرْضِ كَرْبَلَاءَ مَا تَقَدَّمَ، وَتَفَرَّدَ بِالرِّيَاسَةِ وَالسُّؤْدُدِ
بِمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الزُّبَيْرِ ; وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُنْشِدُ بَعْدَ مَخْرَجِ
الْحُسَيْنِ:
يَا لَكِ مِنْ قُنْبَرَةٍ بِمَعْمَرِ خَلَا لَكِ الْجَوُّ فَبِيضِي وَاصْفِرِي
وَنَقِّرِي مَا شِئْتِ أَنْ تُنَقِّرِي
يُعَرِّضُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ.
وَقِيلَ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ:
إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِسِلْسِلَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَقَيْدٍ مِنْ ذَهَبٍ،
وَجَامِعَةٍ مِنْ فِضَّةٍ، وَحَلَفْتُ لَتَأْتِيَنِي فِي ذَلِكَ، فَأَبِرَّ
قَسَمِي، وَلَا تَشُقَّ الْعَصَا. فَلَمَّا قَرَأَ كِتَابَهُ أَلْقَاهُ مِنْ
يَدِهِ وَقَالَ:
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ
الْحَجَرُ
فَلَمَّا مَاتَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ
مِنْ بَعْدِهِ قَرِيبًا، اسْتَفْحَلَ أَمْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ
جِدًّا، وَبُويِعَ لَهُ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ، وَبَايَعَ لَهُ
الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ بِدِمَشْقَ وَأَعْمَالِهَا، وَلَكِنْ عَارَضَهُ مَرْوَانُ
بْنُ الْحَكَمِ فِي ذَلِكَ، وَمَا زَالَ حَتَّى قَتَلَهُ وَجَمَاعَةً بِمَرْجِ
رَاهِطٍ كَمَا تَقَدَّمَ، فَبَايَعَ لَهُ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ دَخَلَ مِصْرَ
فَانْتَزَعَهَا مِنْ نُوَّابِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ جَهَّزَ السَّرَايَا إِلَى
الْعِرَاقِ، وَمَاتَ
وَاسْتَخْلَفَ بَعْدَهُ ابْنَهُ عَبْدَ
الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَأَخَذَ الْعِرَاقَ مِنْهُ، ثُمَّ بَعَثَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، فَحَاصَرَ
ابْنَ الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ، حَتَّى ظَفِرَ بِهِ
فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ.
وَكَانَتْ وِلَايَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا كُلِّهَا، وَبَنَى الْكَعْبَةَ فِي أَيَّامِهِ، كَمَا أَشَارَ
إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ بِنَاءَهَا كَمَا
كَانَتْ عَلَيْهِ، كَمَا أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَسَا
الْكَعْبَةَ الْحَرِيرَ، وَكَانَتْ كُسْوَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ الْأَنْطَاعَ
وَالْمُسُوحَ.
وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَالِمًا عَابِدًا، مَهِيبًا وَقُورًا، كَثِيرَ
الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ، شَدِيدَ الْخُشُوعِ، قَوِيَّ السِّيَاسَةِ، قَالَ أَبُو
نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ
الدَّارِمِيُّ، ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: كَانَ
لِابْنِ الزُّبَيْرِ مِائَةُ غُلَامٍ يَتَكَلَّمُ كُلُّ غُلَامٍ مِنْهُمْ بِلُغَةٍ
غَيْرِ لُغَةِ الْآخَرِ، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَلِّمُ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ بِلُغَتِهِ، وَكُنْتَ إِذَا نَظَرْتَ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ
قُلْتَ: هَذَا رَجُلٌ لَمْ يُرِدِ اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَإِذَا نَظَرْتَ
إِلَيْهِ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ قُلْتَ: هَذَا رَجُلٌ لَمْ يُرِدِ الدُّنْيَا
طَرْفَةَ عَيْنٍ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ
الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى رَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ
مِنَ الْمِسْكِ مَا لَوْ كَانَ لِي كَانَ رَأْسَ مَالٍ. وَكَانَ يُطَيِّبُ
الْكَعْبَةَ حَتَّى كَانَ يُوجَدُ رِيحُهَا مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعَمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ،
قَالَ: دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى امْرَأَتِهِ بِنْتِ الْحَسَنِ، فَرَأَى
ثَلَاثَةَ مُثُلٍ - يَعْنِي أَفَرِشَةً - فَقَالَ: هَذَا لِي، وَهَذَا لِابْنَةِ
الْحَسَنِ، وَهَذَا لِلشَّيْطَانِ. فَأَخْرَجُوهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُسَاوِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُعَاتِبُ ابْنَ
الزُّبَيْرِ عَلَى الْبُخْلِ وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:لَيْسَ بِالْمُؤْمِنِ مَنْ يَبِيتُ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ إِلَى
جَنْبِهِ جَائِعٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانٍ الْوَرَّاقُ،
ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى،
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ
حِينَ حُصِرَ: إِنَّ عِنْدِي نَجَائِبَ قَدْ أَعْدَدْتُهَا لَكَ، فَهَلْ لَكَ أَنْ
تَحَوَّلَ إِلَى
مَكَّةَ، فَيَأْتِيكَ مَنْ أَرَادَ
أَنْ يَأْتِيَكَ ؟ قَالَ: لَا، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُلْحِدُ بِمَكَّةَ كَبْشٌ مِنْ قُرَيْشٍ اسْمُهُ
عَبْدُ اللَّهِ، عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ النَّاسِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ
جِدًّا، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَيَعْقُوبُ هَذَا هُوَ الْقُمِّيُّ، وَفِيهِ
تَشَيُّعٌ وَضَعْفٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقْبَلُ تَفَرُّدُهُ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ
صِحَّتِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَإِنَّهُ كَانَ
عَلَى صِفَاتٍ حَمِيدَةٍ، وَقِيَامُهُ فِي الْإِمَارَةِ إِنَّمَا كَانَ لِلَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ هُوَ كَانَ الْأَمْرُ بَعْدَ مَوْتِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
يَزِيدَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ أَرْشَدُ مِنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، حَيْثُ
نَازَعَهُ بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَقَامَتِ الْبَيْعَةُ
لَهُ فِي الْآفَاقِ، وَانْتَظَمَ لَهُ الْأَمْرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ
الْقَاسِمِ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدٍ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ:
أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ
جَالِسٌ فِي الْحِجْرِ، فَقَالَ: يَابْنَ الزُّبَيْرِ، إِيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ
فِي حَرَمِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يُحِلُّهَا وَيَحُلُّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ،
لَوْ وُزِنَتْ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَوَزَنَتْهَا قَالَ: فَانْظُرْ
أَنْ لَا
تَكَوُنَهُ يَابْنَ عَمْرٍو، فَإِنَّكَ
قَرَأْتَ الْكُتُبَ، وَصَحِبْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ هَذَا وَجِهِي إِلَى الشَّامِ مُجَاهِدًا.
وَهَذَا قَدْ يَكُونُ رَفْعُهُ غَلَطًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، مِمَّا أَصَابَهُ مِنَ الزَّامِلَتَيْنِ مِنْ عُلُومِ
أَهْلِ الْكِتَابِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي
صَادِقٍ، عَنْ حَنَشٍ الْكِنَانِيِّ، عَنْ عُلَيْمٍ الْكِنْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ
الْفَارِسِيِّ قَالَ: لَيُحْرَقَنَّ هَذَا الْبَيْتُ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ مِنْ آلِ
الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، عَنِ
ابْنِ فُضَيْلٍ، ثَنَا سَالِمُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ مُنْذِرٍ الثَّوْرِيِّ
قَالَ: قَالَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ:
اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي
كُنْتُ أَعْلَمُ مِمَّا عَلَّمْتَنِي أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ لَا يَخْرُجُ
مِنْهَا إِلَّا قَتِيلًا، يُطَافُ بِرَأْسِهِ فِي الْأَسْوَاقِ.
وَقَدْ رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: إِنَّ
أَوَّلَ مَا أَفْصَحَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَهُوَ صَغِيرٌ:
السَّيْفُ، فَكَانَ لَا يَضَعُهُ مِنْ فِيهِ. وَكَانَ الزُّبَيْرُ إِذَا سَمِعَ
ذَلِكَ مِنْهُ يَقُولُ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَيَكُونُنَّ لَكَ مِنْهُ يَوْمٌ
وَيَوْمٌ وَأَيَّامٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَقْتَلِهِ، وَأَنَّ
الْحَجَّاجَ صَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ فَوْقَ الثَّنِيَّةِ، وَأَنَّهُ رَبَطَ إِلَى
جَنْبِهِ هِرَّةً مَيِّتَةً، فَكَانَ رِيحُ الْمِسْكِ يَغْلِبُ عَلَى رِيحِهَا،
وَأَنَّ أُمَّهُ أَرْسَلَتْ إِلَى الْحَجَّاجِ تَقُولُ لَهُ: قَاتَلَكَ اللَّهُ،
عَلَامَ تَصْلُبُ وَلَدِي ؟ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَبَقْتُ أَنَا وَإِيَّاهُ إِلَى
هَذِهِ الْخَشَبَةِ فَسَبَقَنِي إِلَيْهَا. وَأَنَّ أُمَّهُ جَاءَتْ حَتَّى
وَقَفَتْ عَلَيْهِ فَدَعَتْ لَهُ طَوِيلًا، وَلَا يَقْطُرُ مِنْ عَيْنِهَا
دَمْعَةٌ، ثُمَّ انْصَرَفَتْ، وَكَذَلِكَ وَقَفَ عَلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ فَدَعَا
لَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثَنَاءً كَثِيرًا جِدًّا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
مَوْلَى أَسْمَاءَ، قَالَ: لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ خَرَجَتْ إِلَيْهِ
أُمُّهُ حَتَّى وَقَفَتْ عَلَيْهِ، وَهِيَ عَلَى دَابَّةٍ، فَأَقْبَلَ الْحَجَّاجُ
فِي أَصْحَابِهِ فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِهَا، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ
عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِ
نَصَرَ اللَّهُ الْحَقَّ وَأَظْهَرَهُ
؟ قَالَتْ: رُبَّمَا أُدِيلَ الْبَاطِلُ عَلَى الْحَقِّ، وَإِنَّكَ بَيْنَ
فَرْثِهَا وَالْجِيَّةِ. فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ،
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ
نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَقَدْ أَذَاقَهُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعَذَابَ
الْأَلِيمَ ; قَطْعَ السُّبُلِ. قَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ أَوَّلَ مَوْلُودٍ فِي
الْإِسْلَامِ بِالْمَدِينَةِ، وَسُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَنَّكَهُ بِيَدِهِ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ
حَتَّى ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ فَرَحًا بِهِ، وَقَدْ فَرِحْتَ أَنْتَ
وَأَصْحَابُكَ بِمَقْتَلِهِ، فَمَنْ كَانَ فَرِحَ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنْكَ وَمِنْ
أَصْحَابِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ بَرًّا بِالْوَالِدَيْنِ، صَوَّامًا، قَوَّامًا
بِكِتَابِ اللَّهِ، مُعَظِّمًا لِحُرُمِ اللَّهِ، يُبْغِضُ أَنْ يُعْصَى اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَيَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ، الْآخِرُ مِنْهُمَا
شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُبِيرٌ فَانْكَسَرَ الْحَجَّاجُ وَانْصَرَفَ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَلُومُهُ فِي مُخَاطَبَتِهِ
أَسْمَاءَ، وَقَالَ: مَا لَكَ وَلِابْنَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ ؟
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي " صَحِيحِهِ ": ثَنَا عَقَبَةُ
بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، أَنَا
الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي
نَوْفَلٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لَأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا لَأُمَّةُ خَيْرٍ. ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجُ وُقُوفُ ابْنِ عُمَرَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، وَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لِتَأْتِيَنِّي أَوْ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ. فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا آتِيهِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي. قَالَ: فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَرَوْنِي سِبْتَيَّ. فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيٍتِينِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللَّهِ ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: يَابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ، أَنَا وَاللَّهِ
ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ، أَمَّا
أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَنِطَاقُ
الْمَرْأَةِ الَّذِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
حَدَّثَنَا أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، فَأَمَّا الْكَذَّابُ
فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ. قَالَ:
فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا. انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا صَلَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى
ثَنِيَّةِ الْحَجُونَ بَعَثَتْ إِلَيْهِ أَسْمَاءُ تَدْعُو عَلَيْهِ، وَطَلَبَتْ
مِنْهُ أَنْ يُدْفَنَ، فَأَبَى عَلَيْهَا، حَتَّى كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُدْفَنَ، فَدُفِنَ بِالْحَجُونِ، وَذَكَرُوا
أَنَّهُ كَانَ يُشْتَمُّ مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ رِيحُ الْمِسْكِ.
وَكَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ فِي أَلْفَيْ فَارِسٍ، وَانْضَافَ
إِلَيْهِ طَارِقُ بْنُ عَمْرٍو فِي خَمْسَةِ آلَافٍ، وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ
سَعْدٍ وَغَيْرُهُ بِسَنَدِهِ أَنَّ الْحَجَّاجَ حَاصَرَ ابْنَ الزُّبَيْرِ،
وَأَنَّهُ اجْتَمَعَ مَعَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَأَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ
عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ لِيَرْمِيَ بِهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الَّذِي فِيهِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ يُؤْمِّنُ، وَأَنَّهُ أَمَّنَ
مَنْ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَنَادَى فِيهِمْ بِذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّا
لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أَحَدٍ سِوَى ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَأَنَّهُ خَيَّرَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ بَيْنَ ثَلَاثٍ، إِمَّا أَنْ يَذْهَبَ فِي الْأَرْضِ حَيْثُ شَاءَ،
أَوْ يَبْعَثَهُ إِلَى الشَّامِ مُقَيَّدًا بِالْحَدِيدِ، أَوْ يُقَاتِلَ حَتَّى
يَقْتُلَ. فَشَاوَرَ أُمَّهُ فِي ذَلِكَ، فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالثَّالِثِ
فَقَطْ، وَيُرْوَى أَنَّهَا اسْتَدْعَتْ بِكَفَنٍ لَهُ
وَبَخَّرَتْهُ وَشَجَّعَتْهُ عَلَى
الْقَتْلِ، فَخَرَجَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، فَقَاتَلَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ قِتَالًا
شَدِيدًا، فَجَاءَتْهُ آجُرَّةٌ فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ فَسَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ
إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْهَضَ فَلَمْ يَقْدِرْ، فَاتَّكَأَ عَلَى
مَرْفِقِهِ الْأَيْسَرِ وَجَعَلَ يَحْذِمُ بِالسَّيْفِ مَنْ جَاءَهُ، فَأَقْبَلَ
إِلَيْهِ رَجُلٌ مَنْ أَهَّلِ الشَّامِ، فَضَرَبَهُ فَقَطَعَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ
تَكَاثَرُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ وَاحْتَزُّوا رَأْسَهُ، وَكَانَ مَقْتَلُهُ
قَرِيبًا مِنَ الْحَجُونِ، وَيُقَالُ: بَلْ قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ صَلَبَهُ الْحَجَّاجُ مُنَكَّسًا عَلَى
ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ عِنْدَ الْحَجُونِ، ثُمَّ لَمَّا أَنْزَلَهُ دَفَنَهُ فِي
مَقَابِرِ الْيَهُودِ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقِيلَ: دُفِنَ بِالْحَجُونِ
بِالْمَكَانِ الَّذِي صُلِبَ فِيهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: إِنَّ
وَالِدَتَهُ أَسْمَاءَ غَسَّلَتْهُ بَعْدَمَا تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُ،
وَخَيَّطَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ، وَحَمَلَتْهُ إِلَى
الْمَدِينَةِ، فَدَفَنَتْهُ فِي دَارِ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَأَنَّ هَذِهِ
الدَّارَ زِيدَتْ فِي الْمَسْجِدِ، فَهُوَ مَدْفُونٌ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَبِي
بَكْرٍ وَعُمَرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ
الْمُخْتَارِ: مَا كَانَ يُحَدِّثُنَا كَعْبُ الْأَحْبَارِ شَيْئًا إِلَّا
وَجَدْنَاهُ إِلَّا قَوْلَهُ: إِنَّ فَتَى ثَقِيفٍ يَقْتُلُنِي، وَهَذَا رَأْسُهُ
بَيْنَ يَدَيَّ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: وَلَمْ يَشْعُرْ أَنَّهُ قَدْ خُبِّئَ لَهُ
الْحَجَّاجُ. وَرُوِيَ هَذَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
قُلْتُ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّ مَقْتَلَ
ابْنِ الزُّبَيْرِ كَانَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ سَابِعَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى، وَقِيلَ: الْآخِرَةِ
مِنْهَا. وَعَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَقْتَلَهُ كَانَ عَلَى رَأْسِ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ
فِي سَابِعِ رَجَبٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي أَوَّلِ
سَنَةِ إِحْدَى مِنَ الْهِجْرَةِ، وَقِيلَ: فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
مِنَ الْهِجْرَةِ، فَجَاوَزَ السَّبْعِينَ قَطْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَعِشْ بَعْدَهُ إِلَّا مِائَةَ يَوْمٍ،
وَقِيلَ: إِنَّمَا عَاشَتْ بَعْدَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: خَمْسَةً.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهَا قَرِيبًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ: خُبَيْبٌ وَحَمْزَةُ وَعَبَّادٌ وَثَابِتٌ،
وَأُمُّهُمْ تُمَاضِرُ بِنْتُ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ، وَهَاشِمٌ وَقَيْسٌ
وَعُرْوَةُ - قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ - وَالزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ هَاشِمٍ
بِنْتُ حُلَّةَ بْنِ مَنْظُورٍ، وَعَامِرٌ وَمُوسَى وَأُمُّ حَكِيمٍ وَفَاطِمَةُ
وَفَاخِتَةُ، وَأُمُّهُمْ جُثَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ هِشَامٍ، وَبَكْرٌ وَرُقَيَّةُ، وَأُمُّهُمْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ، وَعَبْدُ اللَّهِ وَمُصْعَبٌ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ.
وَقَدْ أَسْنَدَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا.
وَقَدْ رُثِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَخُوهُ مُصْعَبٌ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ حَسَنَةٍ
بَلِيغَةٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْمَرٍ
الذُّهْلِيِّ يَرْثِيهُمَا بِأَبْيَاتٍ:
لَعَمْرُكَ مَا أَبْقَيْتُ فِي
النَّاسِ حَاجَةً وَلَا كُنْتُ مَلْبُوسَ الْهُدَى مُتَذَبْذِبًا
غَدَاةَ دَعَانِي مُصْعَبٌ فَأَجَبْتُهُ وَقَلْتُ لَهُ أَهْلًا وَسَهْلًا
وَمَرْحَبًا
أَبُوكَ حَوَارِيُّ الرَّسُولِ وَسَيْفُهُ فَأَنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ مِنْ
خَيْرِنَا أَبَا
وَذَاكَ أَخُوكَ الْمُهْتَدَى بِضِيَائِهِ بِمَكَّةَ يَدْعُونَا دُعَاءً
مُثَوَّبَا
وَلَمْ أَكُ ذَا وَجْهَيْنِ وَجْهٍ لِمُصْعَبٍ مَرِيضٍ وَوَجْهٍ لِابْنِ مَرْوَانَ
إِذْ صَبَا
وَكُنْتُ امْرَأً نَاصَحْتُهُ غَيْرَ مُؤْثِرٍ عَلَيْهِ ابْنَ مَرْوَانَ وَلَا
مُتَقَرِّبَا
إِلَيْهِ بِمَا تُقْذَى بِهِ عَيْنُ مُصْعَبٍ وَلَكِنَّنِي نَاصَحْتُ فِي اللَّهِ
مُصْعَبَا
إِلَى أَنْ رَمَتْهُ الْحَادِثَاتُ بِسَهْمِهَا فَلِلَّهِ سَهْمًا مَا أَسَدَّ
وَأَصْوَبَا
فَإِنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ أَوْدَى بِمُصْعَبٍ وَأَصْبَحَ عَبْدُ اللَّهِ
شِلْوًا مُلَحَّبَا
فَكُلُّ امْرِئٍ حَاسٍ مِنَ الْمَوْتِ جُرْعَةً وَإِنْ حَادَ عَنْهَا جُهْدَهُ
وَتَهَيَّبَا
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِأَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دَمَ مَحَاجِمِهِ يُهَرِيقُهُ، فَحَسَاهُ، فَلَمَّا رَجَعَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا صَنَعْتَ يَا
عَبْدَ اللَّهِ بِالدَّمِ ؟ قُلْتُ: جَعَلْتُهُ فِي مَكَانٍ ظَنَنْتُ أَنَّهُ
خَافٍ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: فَلَعَلَّكَ شَرِبْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ:
وَمَنْ أَمَرَكَ أَنْ تَشْرَبَ الدَّمَ ؟ وَيْلٌ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ
لِلنَّاسِ مِنْكَ.
وَدَخَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ
مَرَّةً عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَائِمٌ فِي الدِّهْلِيزِ، وَمَعَهُ طَسْتٌ يَشْرَبُ
مِنْهُ، فَدَخَلَ سَلْمَانُ، وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: فَرَغْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ
سَلْمَانُ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: أَعْطَيْتَهُ غُسَالَةَ
مَحَاجِمِي يُهَرِيقُ مَا فِيهَا. قَالَ سَلْمَانُ: شَرِبَهَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ
بِالْحَقِّ. قَالَ: شَرِبْتَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لِمَ ؟ قَالَ: أَحْبَبْتُ
أَنْ يَكُونَ دَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
جَوْفِي. فَقَالَ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: وَيْلٌ لَكَ
مِنَ النَّاسِ، وَوَيْلٌ لِلنَّاسِ مِنْكَ، لَا تَمَسُّكَ النَّارُ إِلَّا
تَحِلَّةَ الْقَسَمِ.
وَلَمَّا بَعَثَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ذَلِكَ
الْقَيْدَ مِنْ ذَهَبٍ، وَسِلْسِلَةً مِنْ فِضَّةٍ، وَجَامِعَةً مِنْ فِضَّةٍ،
وَأَقْسَمَ لَتَأْتِيَنِّي فِيهَا، فَقَالُوا لَهُ: بِرَّ قَسَمَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ:
وَلَا أَلِينُ لِغَيْرِ الْحَقِّ أَسْأَلُهُ حَتَّى يَلِينَ لِضِرْسِ الْمَاضِغِ
الْحَجَرُ
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ بِعِزٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ
ضَرْبَةٍ بِسَوْطٍ فِي ذُلٍّ. ثُمَّ دَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَأَظْهَرَ الْخِلَافَ
لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ دَخَلَ عَلَى أُمِّهِ فَقَالَ:
إِنَّ فِي الْمَوْتِ لَرَاحَةٌ. وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهَا مِائَةُ
سَنَةٍ لَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يَفْسُدْ لَهَا بَصَرٌ، فَقَالَتْ لَهُ:
مَا أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ حَتَّى آتِيَ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْكَ، إِمَّا أَنْ
تَمْلِكَ فَتَقَرَّ عَيْنِي، وَإِمَّا أَنْ تُقْتَلَ فَأَحْتَسِبَكَ. ثُمَّ خَرَجَ
عَنْهَا، وَهُوَ يَقُولُ:
وَلَسْتُ بِمُبْتَاعِ الْحَيَاةِ
بِسُبَّةٍ وَلَا مُرْتَقٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ سُلَّمَا
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى آلِ الزُّبَيْرِ يَعِظُهُمْ وَيَقُولُ: لِيُكِنَّ أَحَدُكُمْ
سَيْفَهُ كَمَا يُكِنُّ وَجْهَهُ، فَيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ
امْرَأَةٌ، وَاللَّهِ مَا لَقِيتُ زَحْفًا قَطُّ إِلَّا فِي الرَّعِيلِ
الْأَوَّلِ، وَمَا أَلِمْتُ جُرْحًا إِلَّا أَلَمَ الدَّوَاءِ، ثُمَّ حَمَلَ
عَلَيْهِمْ وَمَعَهُ سَيْفَانِ، فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ الْأَسْوَدُ، فَضَرَبَهُ
بِسَيْفِهِ حَتَّى أَطَنَّ رِجْلَهُ، فَقَالَ لَهُ الْأَسْوَدُ: أَخُّ يَابْنَ
الزَّانِيَةِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: اخْسَأْ يَابْنَ حَامٍ، أَسْمَاءُ
زَانِيَةٌ ؟ ! ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ عَلَى ظَهْرِ
الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ يَرْمُونَ أَعْدَاءَهُ بِالْآجُرِّ،
فَأَصَابَتْهُ آجُرَّةٌ مِنْ أَعْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي مَفْرِقِ
رَأْسِهِ، فَفَلَقَتْ رَأْسَهُ، فَوَقَفَ قَائِمًا وَهُوَ يَقُولُ:
لَوْ كَانَ قَرْنِي وَاحِدًا كَفَيْتُهُ
وَيَقُولُ:
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا
تَقْطُرُ الدِّمَا
ثُمَّ وَقَعَ، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ مَوْلَيَانِ لَهُ، وَهُمَا يَقُولَانِ:
الْعَبْدُ يَحْمِي رَبَّهُ وَيَحْتَمِي
ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَحَزُّوا رَأْسَهُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَيْضًا، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ:
أَنَا حَاضِرٌ مَقْتَلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ، يَوْمَ قُتِلَ جَعَلَتِ الْجُيُوشُ تَدَخُلُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ،
وَكُلَّمَا دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ بَابٍ حَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ،
فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ إِذْ جَاءَتْ شُرْفَةٌ مِنْ شُرُفَاتِ
الْمَسْجِدِ، فَوَقَعَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَصَرَعَتْهُ، وَهُوَ يَتَمَثَّلُ
بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
أَسْمَاءُ يَا أَسْمَاءُ لَا تَبْكِينِي لَمْ يَبْقَ إِلَّا حَسَبِي وَدِينِي
وَصَارِمٌ لَانَتْ بِهِ يَمِينِي
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّهُ قَالَتْ لِلْحَجَّاجِ: أَمَا آنَ لِهَذَا الرَّاكِبِ
أَنْ يَنْزِلَ ؟ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: ابْنُكُ الْمُنَافِقُ ؟ فَقَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا كَانَ مُنَافِقًا، إِنْ كَانَ لَصَوَّامًا قَوَّامًا وَصُولًا
لِلرَّحِمِ. فَقَالَ: انْصَرِفِي يَا عَجُوزُ، فَإِنَّكِ قَدْ خَرِفْتِ.
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا خَرِفْتُ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابٌ وَمُبِيرٌ
فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ رَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَمَرَّ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ،
فَوَقَفَ فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ
وَقَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ:
ذَكَرْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَانَ عَفِيفًا فِي
الْإِسْلَامِ، قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، صَوَّامًا قَوَّامًا، أَبُوهُ الزُّبَيْرُ،
وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعَمَّتُهُ خَدِيجَةُ، وَجَدَّتُهُ
صَفِيَّةُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ، وَاللَّهِ لَأُحَاسِبَنَّ لَهُ بِنَفْسِي
مُحَاسَبَةً لَمْ أُحَاسِبْهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا لِعُمَرَ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ، ثَنَا حَوْثَرَةُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ أَبُو
سَعِيدٍ الْعَبْسِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ قَالَ:
شَهِدْتُ خُطْبَةَ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْمَوْسِمِ، خَرَجَ عَلَيْنَا قَبْلَ
التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَلَبَّى بِأَحْسَنِ تَلْبِيَةٍ
سَمِعْتُهَا قَطُّ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا
بَعْدُ، فَإِنَّكُمْ جِئْتُمْ مِنْ آفَاقٍ شَتَّى وُفُودًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ وَفْدَهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يَطْلُبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ طَالِبَ مَا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَخِيبُ،
فَصَدِّقُوا قَوْلَكُمْ بِفِعْلٍ، فَإِنَّ مَلَاكَ الْقَوْلِ الْفِعْلُ،
وَالنِّيَّةَ النِّيَّةَ، وَالْقُلُوبَ الْقُلُوبَ، اللَّهَ اللَّهَ فِي
أَيَّامِكُمْ هَذِهِ ; فَإِنَّهَا أَيَّامٌ تُغْفَرُ فِيهَا الذُّنُوبُ، جِئْتُمْ
مِنْ آفَاقٍ شَتَّى فِي غَيْرِ تِجَارَةٍ، وَلَا طَلَبِ مَالٍ، وَلَا دُنْيَا
تَرْجُونَهَا هَاهُنَا. ثُمَّ لَبَّى وَلَبَّى النَّاسُ، فَمَا رَأَيْتُ بَاكِيًا
أَكْثَرَ مِنْ يَوْمِئِذٍ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ
قَالَ: ثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
ثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كُتِبَ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِمَوْعِظَةٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ لِأَهْلِ
التَّقْوَى عَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَيَعْرِفُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ:
صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَصَبْرٌ عَلَى
الْبَلَاءِ، وَرِضًا بِالْقَضَاءِ، وَشُكْرٌ لِلنَّعْمَاءِ، وَذُلٌّ لِحُكْمِ
الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا الْإِمَامُ كَالسُّوقِ ; مَا نَفَقَ فِيهَا حُمِلَ
إِلَيْهَا، إِنْ نَفَقَ الْحَقُّ عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ وَجَاءَهُ أَهْلُهُ،
وَإِنْ نَفَقَ الْبَاطِلُ عِنْدَهُ حُمِلَ إِلَيْهِ وَجَاءَهُ أَهْلُهُ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ
كَيْسَانَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يُعْطِي سَلَمَهُ قَطُّ
لِرَغْبَةٍ وَلَا لِرَهْبَةِ سُلْطَانٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَبِهَذِهِ الْإِسْنَادَاتِ أَهْلُ الشَّامِ كَانُوا يُعَيِّرُونَ ابْنَ
الزُّبَيْرِ وَيَقُولُونَ لَهُ: يَابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ. فَقَالَتْ لَهُ
أَسْمَاءُ: يَا بُنَيَّ، إِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَكَ بِالنِّطَاقَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ
لِي نِطَاقٌ وَاحِدٌ شَقَقْتُهُ نِصْفَيْنِ ; فَجَعَلْتُ فِي سُفْرَةِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَهُمَا، وَأَوْكَيْتُ قِرْبَتَهُ
بِالْآخَرِ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يُرِيدَانِ الْهِجْرَةَ إِلَى
الْمَدِينَةِ. فَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا عَيَّرُوهُ
بِالنِّطَاقَيْنِ يَقُولُ: إِيهًا وَاللَّهِ:
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ
عَارُهَا
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ قُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بِمَكَّةَ
مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، أَبُو
صَفْوَانَ الْمَكِّيُّ
وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِ أَبِيهِ، أَدْرَكَ حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَكَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا
حَلِيمًا، يَحْتَمِلُ الْأَذَى، لَوْ سَبَّهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ، مَا اسْتَنْكَفَ
عَنْهُ، وَلَمْ يَقْصِدْهُ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ فَرَدَّهُ خَائِبًا، وَلَا سَمِعَ
بِمَفَازَةٍ إِلَّا حَفَرَ جُبًّا، أَوْ عَمِلَ فِيهَا بِرْكَةً، وَلَا عَقَبَةٍ
إِلَّا سَهَّلَهَا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ قَدِمَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ
مِنَ الْعِرَاقِ، فَأَطَالَ الْخَلْوَةَ مَعَهُ، فَجَاءَ ابْنُ صَفْوَانَ فَقَالَ:
مَنْ هَذَا الَّذِي شَغَلَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ ؟ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَرَبِ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ. فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُهَلَّبَ. فَقَالَ
الْمُهَلَّبُ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: وَمَنْ هَذَا الَّذِي يَسْأَلُ عَنِّي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ. فَقَالَ:
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ. وَكَانَ ابْنُ صَفْوَانَ
كَرِيمًا جِدًّا.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ بِسَنَدِهِ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَدِمَ حَاجًّا
فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
تَلَقَّاهُ، فَجَعَلَ يُسَايِرُ مُعَاوِيَةَ، وَجَعَلَ أَهْلُ
الشَّامِ يَقُولُونَ: مَنْ هَذَا
الَّذِي يُسَايِرُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ
إِذَا الْجَبَلُ أَبْيَضُ مِنَ الْغَنَمِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
هَذِهِ غَنَمٌ أَجْزَرْتُكَهَا ; تُقَسِّمُهَا بَيْنَ الْجُنْدِ. فَإِذَا هِيَ
أَلَفَا شَاةٍ، فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا أَكْرَمَ مِنِ ابْنِ عَمِّ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ كَانَ ابْنُ صَفْوَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَبَرَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
حِينَ حَصَرَهُ الْحَجَّاجُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنِّي قَدْ
أَقَلْتُكَ بَيْعَتِي، فَاذْهَبْ حَيْثُ شِئْتَ. فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا
قَاتَلْتُ عَنْ دِينِي. ثُمَّ صَبَّرَ نَفْسَهُ، حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُطِيعِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ الْقُرَشِيُّ
الْعَدَوِيُّ الْمَدَنِيُّ
وُلِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَنَّكَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَرَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ
بَعْدَ الْيَوْمِ صَبْرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَعَنْهُ ابْنَاهُ: إِبْرَاهِيمُ، وَ مُحَمَّدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِيسَى بْنُ
طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى.
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: كَانَ ابْنُ مُطِيعٍ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ
قُرَيْشٍ جَلَدًا وَشَجَاعَةً،
وَأَخْبَرَنِي عَمِّي مُصْعَبٌ أَنَّهُ
كَانَ عَلَى قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَقُتِلَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ
بِمَكَّةَ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي فَرَرْتُ يَوْمَ الْحَرَّةْ وَالشَّيْخُ لَا يَفِرُّ إِلَّا مَرَّةْ
لَأُجْبُرَنَّ كَرَةً بِفَرَّةْ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْأَشْجَعِيُّ الْغَطَفَانِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ مُؤْتَةَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَالْأُمَرَاءِ
قَبْلَهُ، وَشَهِدَ الْفَتْحَ، وَكَانَتْ مَعَهُ رَايَةُ قَوْمِهِ يَوْمَئِذٍ،
وَشَهِدَ فَتْحَ الشَّامِ، وَرَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَأَبُو
هُرَيْرَةَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَهُ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَخَلِيفَةُ بْنُ
خَيَّاطٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ بِالشَّامِ.
أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
وَالِدَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ،
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ عَامَ الْهِجْرَةِ حِينَ شَقَّتْ نِطَاقَهَا،
وَرَبَطَتْ بِهِ سُفْرَةَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حِينَ خَرَجَا إِلَى غَارِ ثَوْرٍ لِلْهِجْرَةِ.
وَأُمُّهَا قَيْلَةُ، وَقِيلَ: قُتَيْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى مِنْ بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ.
أَسْلَمَتْ أَسْمَاءُ قَدِيمًا، وَهُمْ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ،
وَهَاجَرَتْ هِيَ وَزَوْجُهَا الزُّبَيْرُ، وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمٌّ بِوَلَدِهَا
عَبْدِ اللَّهِ، فَوَضَعَتْهُ بِقُبَاءٍ، أَوَّلَ مَقْدِمِهِمِ الْمَدِينَةَ،
ثُمَّ وَلَدَتْ لِلزُّبَيْرِ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْوَةَ، وَ الْمُنْذِرَ، ثُمَّ
لَمَّا كَبُرَتْ طَلَّقَهَا الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ: بَلْ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ
ابْنُهُ: إِنَّ مِثْلِي لَا تُوطَأُ أُمُّهُ. فَطَلَّقَهَا الزُّبَيْرُ، وَقِيلَ:
بَلِ اخْتَصَمَتْ هِيَ وَالزُّبَيْرُ، فَجَاءَ عَبْدُ اللَّهِ لِيُصْلِحَ
بَيْنَهُمَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إِنْ دَخَلْتَ فَهِيَ طَالِقٌ. فَدَخَلْتُ
فَبَانَتْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ عُمِّرَتْ أَسْمَاءُ دَهْرًا
صَالِحًا وَأَضَرَّتْ فِي آخِرِ عُمُرِهَا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ صَحِيحَةَ
الْبَصَرِ، لَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَأَدْرَكَتْ قَتْلَ وَلَدِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ مَاتَتْ بَعْدَهُ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ:
بِعَشَرَةٍ. وَقِيلَ: بِعِشْرِينَ. وَقِيلَ: بِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: عَاشَتْ بَعْدَهُ مِائَةَ يَوْمٍ. وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبَلَغَتْ مِنَ
الْعُمُرِ مِائَةَ سَنَةٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ لَهَا سِنٌّ، وَلَمْ يُنْكَرْ لَهَا عَقْلٌ،
رَحِمَهَا اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهَا، وَقَدْ رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةَ أَحَادِيثَ طَيِّبَةٍ مُبَارَكَةٍ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا وَرَحِمَهَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ - يَعْنِي سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
- عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْبَصْرَةِ،
وَأَضَافَهَا إِلَى أَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ مَعَ الْكُوفَةِ، فَارْتَحَلَ
إِلَيْهَا بِشْرٌ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ.
وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ الصَّائِفَةَ، فَهَزَمَ الرُّومَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقْعَةُ عُثْمَانَ بْنِ الْوَلِيدِ
بِالرُّومِ، مِنْ نَاحِيَةِ أَرْمِينِيَّةَ، وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ،
وَالرُّومُ فِي سِتِّينَ أَلْفًا، فَهَزَمَهُمْ، وَأَكْثَرَ الْقَتْلَ فِيهِمْ.
وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ
الثَّقَفِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ عَلَى
مَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ،
وَعَلَى الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، فِي قَوْلِ
الْوَاقِدِيِّ، وَفِي قَوْلِ غَيْرِهِ: عَلَى الْكُوفَةِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ،
وَعَلَى الْبَصْرَةِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ
شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ. وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ هِشَامُ بْنُ هُبَيْرَةَ.
وَعَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ، يَعْنِي الَّذِي كَانَ
نَائِبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا غَيْرُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ، وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْغَزْوِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ، لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
مَالِكُ بْنُ مِسْمَعِ بْنِ غَسَّانَ الْبَصْرِيُّ
كَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ.
ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ الْأَنْصَارِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، يُقَالُ
لَهُ: أَبُو زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ،
وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي
كَثِيرٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو قِلَابَةَ، أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
مَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ.
زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيَّةُ
رَبِيبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَدَتْهَا أُمُّهَا
بِالْحَبَشَةِ، وَلَهَا رِوَايَةٌ وَصُحْبَةٌ.
تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ
وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مَجْنُونُ لَيْلَى. كَانَ تَوْبَةُ يَشُنُّ
الْغَارَاتِ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، فَرَأَى لَيْلَى، فَهَوَاهَا
وَتَهَتَّكَ بِهَا، وَهَامَ بِهَا مَحَبَّةً وَعِشْقًا، وَقَالَ فِيهَا
الْأَشْعَارَ الْكَثِيرَةَ الْقَوِيَّةَ الرَّائِقَةَ، الَّتِي لَمْ يُسْبَقْ
إِلَيْهَا، وَلَمْ يُلْحَقْ فِيهَا ; لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَعَانِي
وَالْحِكَمِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ مَرَّةً: هَلْ كَانَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ لَيْلَى
رِيبَةٌ قَطُّ ؟ فَقَالَ: بَرِئْتُ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كُنْتُ قَطُّ حَلَلْتُ سَرَاوِيلِي عَلَى مُحَرَّمٍ.
وَقَدْ دَخَلَتْ لَيْلَى عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ تَشْكُو
ظُلَامَةً، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا رَأَى مِنْكِ تَوْبَةُ حَتَّى عَشِقَكِ هَذَا
الْعِشْقَ كُلَّهُ ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ قَطُّ رِيبَةٌ، وَلَا خَنَا، وَإِنَّمَا الْعَرَبُ تَعْشَقُ
وَتَعِفُّ،
وَتَقُولُ الْأَشْعَارَ فِي مَنْ تَهْوَى وَتُحِبُّ، مَعَ الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ لِأَنْفُسِهَا عَنِ الدَّنَاءَاتِ. فَأَزَالَ ظُلَامَتَهَا وَأَجَازَهَا. تُوُفِّيَ تَوْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ لَيْلَى جَاءَتْ إِلَى قَبْرِهِ فَبَكَتْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ
فِيهَا عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ طَارِقَ بْنَ عَمْرٍو عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ،
وَأَضَافَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ، فَقَدِمَهَا
الْحَجَّاجُ، فَأَقَامَ بِهَا شَهْرًا، ثُمَّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، ثُمَّ عَادَ
إِلَى الْمَدِينَةِ فِي صَفَرٍ، فَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، وَبَنَى فِي
بَنِي سَلَمَةَ مَسْجِدًا، وَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ،
وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهَذِهِ الْمُدَّةِ خَتَمَ
جَابِرًا، وَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَقَرَّعَهُمَا ; لِمَ لَا نَصَرَا عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ، وَخَاطَبَهُمَا خِطَابًا غَلِيظًا - قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ
- وَقَدِ اسْتَقْضَى أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ - أَظُنُّهُ - عَلَى
الْيَمَنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَعِدَ
مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَ النَّاسَ
وَقَالَ: يَا أَهْلَ خَبِيثَةَ - يَعْنِي طَيْبَةَ - أَنْتُمْ شَرُّ أُمَّةٍ
وَأَخَسُّ، وَلَوْلَا أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْصَانِي بِكُمْ
لَجَعَلْتُهَا مِثْلَ جَوْفِ حِمَارٍ، يَا أَهْلَ خَبِيثَةَ، تَمَنَّوْنَ، هَلْ
تَعَوَّذُونَ إِلَّا بِأَعْوَادٍ يَابِسَةٍ - يَعْنِي الْمِنْبَرَ - وَرُمَّةٍ
بَالِيَةٍ، وَأَشَارَ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ثُمَّ نَزَلَ إِلَى سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ
تَنْصُرَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ؟ فَقَالَ: قَدْ فَعَلَتُ. فَقَالَ:
كَذَبْتَ. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَخُتِمَ فِي عُنُقِهِ
بِرَصَاصٍ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ
بِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ; خَتَمَهُ فِي يَدِهِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي
عُنُقِهِ، وَكَانَ قَصْدُهُ يُذِلُّهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَنَسٌ: إِنَّ أَهْلَ
الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِمْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيهَا نَقَضَ الْحَجَّاجُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ الَّذِي
كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهُ، وَأَعَادَهَا عَلَى بُنْيَانِهَا الْأَوَّلِ.
قُلْتُ: الْحَجَّاجُ لَمْ يَنْقُضْ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ جَمِيعَهُ؛ بَلْ
إِنَّمَا هَدَمَ الْحَائِطَ الشَّامِيَّ، حَتَّى أَخْرَجَ الْحِجْرَ مِنَ
الْبَيْتِ، ثُمَّ سَدَّهُ، وَأَدْخَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مَا فَضَلَ مِنَ
الْأَحْجَارِ، وَبَقِيَتِ الْحِيطَانُ الثَّلَاثَةُ بِحَالِهَا ; وَلِهَذَا بَقِيَ
الْبَابَانِ الشَّرْقِيُّ وَالْغَرْبِيُّ وَهُمَا مُلْصَقَانِ بِالْأَرْضِ، كَمَا
هُوَ الْمُشَاهَدُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَكِنْ سَدَّ الْغَرْبِيَّ
بِالْكُلِّيَّةِ، وَرَدَمَ أَسْفَلَ الشَّرْقِيِّ، حَتَّى جَعَلَهُ مُرْتَفِعًا
كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْحَجَّاجَ وَلَا عَبْدَ
الْمَلِكِ مَا كَانَ بَلَغَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مِنَ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ،
الَّذِي كَانَتْ أَخْبَرَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ
بِنْتُ الصِّدِّيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ - مِنْ قَوْلِهِ:لَوْلَا أَنَّ
قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: بِجَاهِلِيَّةٍ -
لَنَقَضْتُ الْكَعْبَةَ، وَأَدَخَلْتُ فِيهَا الْحِجْرَ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابًا
شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَلَأَلْصَقْتُهُمَا بِالْأَرْضِ، فَإِنَّ
قَوْمَكِ قَصُرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ، فَلَمْ يُدْخِلُوا فِيهَا الْحِجْرَ،
وَلَمْ يُتَمِّمُوهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَرَفَعُوا بَابَهَا
لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا،
وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا فَلَمَّا
تَمَكَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ بَنَاهَا كَذَلِكَ، وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ
هَذَا الْحَدِيثُ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ: وَدِدْنَا أَنَا تَرَكْنَاهُ وَمَا
تَوَلَّى مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلِيَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ حَرْبَ
الْأَزَارِقَةِ عَنْ أَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ
أَنْ يُجَهِّزَ الْمُهَلَّبَ إِلَى الْخَوَارِجِ الْأَزَارِقَةِ فِي جُيُوشٍ مِنْ
أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَوَجَدَ بِشْرٌ عَلَى الْمُهَلَّبِ فِي
نَفْسِهِ، حَيْثُ عَيَّنَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي كِتَابِهِ ; فَلَمْ يَجِدْ
بُدًّا مِنْ طَاعَتِهِ فِي تَأْمِيرِهِ عَلَى النَّاسِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ،
وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، غَيْرَ أَنَّهُ أَوْصَى أَمِيرَ
الْكُوفِيِّينَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مِخْنَفٍ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِالْأَمْرِ
دُونَهُ، وَأَنْ لَا يَقْبَلَ لَهُ رَأْيًا وَلَا مَشُورَةً، فَسَارَ الْمُهَلَّبُ
بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَأُمَرَاءِ الْأَرْبَاعِ مَعَهُ عَلَى مَنَازِلِهِمْ،
حَتَّى نَزَلَ بِرَامَهُرْمُزَ، فَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا إِلَّا عَشْرًا حَتَّى جَاءَ
نَعْيُ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَنَّهُ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ
عَلَيْهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فَارْفَضَّ بَعْضُ الْجَيْشِ، وَرَجَعُوا
إِلَى الْبَصْرَةِ، فَبَعَثُوا فِي آثَارِهِمْ مَنْ يَرُدُّهُمْ، وَكَتَبَ خَالِدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى الْفَارِّينَ يَتَوَعَّدُهُمْ إِنْ لَمْ يَرْجِعُوا
إِلَى أَمِيرِهِمْ، وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِسَطْوَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَعَدَلُوا
يَسْتَأْذِنُونَ عَمْرَو بْنَ حُرَيْثٍ فِي الْمَصِيرِ إِلَى الْكُوفَةِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ تَرَكْتُمْ أَمِيرَكُمْ، وَأَقْبَلْتُمْ عَاصِينَ
مُخَالِفِينَ، وَلَيْسَ لَكُمْ إِذَنٌ وَلَا إِمَامٌ وَلَا أُمَّانٌ. فَلَمَّا
جَاءَهُمْ ذَلِكَ، أَقْبَلُوا إِلَى رِحَالِهِمْ فَرَكِبُوهَا، ثُمَّ سَارُوا
إِلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، فَلَمْ يَزَالُوا مُخْتَفِينَ بِهَا حَتَّى قَدِمَ الْحَجَّاجُ
وَالِيًا عَلَى الْعِرَاقِ مَكَانَ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ قَرِيبًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ التَّمِيمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ خُرَاسَانَ،
وَوَلَّاهَا أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ
الْقُرَشِيَّ ; لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَإِنَّهُ قَدْ كَادَتِ
الْفِتْنَةُ تَتَفَاقَمُ بِخُرَاسَانَ بَعْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ،
فَلَمَّا قَدِمَ أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ خُرَاسَانَ عَرَضَ عَلَى بُكَيْرِ
بْنِ وِشَاحٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى شُرْطَتِهِ، فَأَبَى، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ
يُوَلِّيَهُ طُخَارِسْتَانَ، فَخَوَّفُوهُ مِنْهُ أَنْ يَخْلَعَهُ هُنَالِكَ،
فَتَرَكَهُ مُقِيمًا عِنْدَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْحَجَّاجُ، وَهُوَ عَلَى
إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْيَمَنِ وَالْيَمَامَةِ. قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ اعْتَمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ
رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ بْنِ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ أُحُدًا وَمَا بَعْدَهَا، وَصِفِّينَ مَعَ عَلِيٍّ،
وَكَانَ يَتَعَانَى الْمَزَارِعَ وَالْفِلَاحَةَ، تُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَسْنَدَ ثَمَانِيَةً وَسَبْعِينَ حَدِيثًا، وَأَحَادِيثُهُ
جَيِّدَةٌ، وَقَدْ أَصَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ سَهْمٌ فِي تَرْقُوَتِهِ، فَخَيَّرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْهُ
وَبَيْنَ أَنْ
يَتْرُكَ فِيهِ الْقُطْبَةَ،
وَيَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاخْتَارَ هَذِهِ، وَانْتَقَضَ عَلَيْهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَمَاتَ مِنْهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ، الْأَنْصَارِيُّ
الْخَزْرَجَيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مِنْ فُقَهَاءَ الصَّحَابَةِ، اسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ
كَانَ أَوَّلَ مَشَاهِدِهِ الْخَنْدَقُ، وَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَرَوَى عَنْهُ
أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ
خَلْقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ. كَانَ مِنْ نُجَبَاءَ
الصَّحَابَةِ وَفُضَلَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ:
قَبْلَهَا بِعَشْرِ سِنِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا الْمِقْدَامُ بْنُ دَاوُدَ، ثَنَا خَالِدُ بْنُ
نِزَارٍ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ
بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبَى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ فَقَالَ: النَّبِيُّونَ. قُلْتُ: ثُمَّ
أَيْ ؟
قَالَ: ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إِنْ
كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا السُّتْرَةَ -
وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا الْعَبَاءَةَ - أَوْ نَحْوَهَا، وَإِنَّ أَحَدَهُمْ
لَيُبْتَلَى فَيَقْمَلُ حَتَّى يَنْبِذَ الْقَمْلَ، وَكَانَ أَحَدُهُمْ
بِالْبَلَاءِ أَشَدَّ فَرَحًا مِنْهُ بِالرَّخَاءِ.
وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ
عَجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ
أَهْلَهُ شَكَوْا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ لَهُ شَيْئًا، فَوَافَقَهُ عَلَى
الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ:أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ
تَسْتَغْنُوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ،
وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا
رَزَقَ اللَّهُ عَبْدًا مِنْ رِزْقٍ أَوْسَعَ لَهُ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَئِنْ
أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَسْأَلُونِي لَأُعْطِيَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُ وَقَدْ رَوَاهُ
الطَّبَرَانِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبَى سَعِيدٍ نَحْوَهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ، أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْمَكِّيُّ ثُمَّ الْمَدَنِيُّ
أَسْلَمَ قَدِيمًا مَعَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، وَهَاجَرَ وَعُمْرُهُ
عَشْرُ سِنِينَ، وَقَدِ اسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَ ابْنَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ أَجَازَهُ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً، فَشَهِدَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ شَقِيقُ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،
أُمُّهُمَا زَيْنَبُ بِنْتُ مَظْعُونٍ،
أُخْتُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، آدَمَ، لَهُ
جُمَّةٌ تَضْرِبُ إِلَى مَنْكِبَيْهِ، جَسِيمًا، يَخْضِبُ بِالصُّفْرَةِ،
وَيُحْفِي شَارِبَهُ، وَكَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَيُدْخِلُ الْمَاءَ
فِي أُصُولِ عَيْنَيْهِ، وَقَدْ أَرَادَهُ عُثْمَانُ عَلَى الْقَضَاءِ فَأَبَى
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَبُوهُ، وَشَهِدَ الْيَرْمُوكَ وَالْقَادِسِيَّةَ
وَجَلُولَاءَ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ وَقَائِعَ الْفُرْسِ، وَشَهِدَ فَتْحَ
مِصْرَ، وَاخْتَطَّ بِهَا دَارًا، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ وَشَهِدَ غَزْوَ فَارِسَ،
وَوَرَدَ الْمَدَائِنَ مِرَارًا، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَ إِذَا
أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ تَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَكَانَ عَبِيدُهُ قَدْ عَرَفُوا ذَلِكَ مِنْهُ، فَرُبَّمَا لَزِمَ أَحَدُهُمُ
الْمَسْجِدَ ; فَإِذَا رَآهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَعْتَقَهُ،
فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّهُمْ يَخْدَعُونَكَ. فَيَقُولُ: مَنْ خَدَعَنَا بِاللَّهِ
انْخَدَعْنَا لَهُ. وَكَانَ لَهُ جَارِيَةً يُحِبُّهَا كَثِيرًا، فَأَعْتَقَهَا
وَزَوَّجَهَا لِمَوْلَاهُ نَافِعٍ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: لَنْ
تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَكَانَ لَهُ نَجِيبٌ
اشْتَرَاهُ بِمَالٍ، فَأَعْجَبَهُ لَمَّا رَكِبَهُ، فَقَالَ: يَا نَافِعُ،
أَدْخِلْهُ فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ. وَأَعْطَاهُ ابْنُ جَعْفَرٍ فِي نَافِعٍ
عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَقِيلَ لَهُ: مَا تَنْتَظِرُ بِبَيْعِهِ ؟ فَقَالَ:
مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ. وَاشْتَرَى مَرَّةً
غُلَامًا بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَأَعْتَقَهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ: يَا
مَوْلَايَ، قَدْ أَعْتَقْتَنِي فَهَبْ لِي شَيْئًا أَعِيشُ بِهِ. فَأَعْطَاهُ
أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَاشْتَرَى مَرَّةً خَمْسَةَ عَبِيدٍ، فَقَامَ يُصَلِّي
فَقَامُوا خَلْفَهُ يُصَلُّونَ، فَقَالَ: لِمَنْ صَلَّيْتُمْ هَذِهِ الصَّلَاةَ ؟
فَقَالُوا: لِلَّهِ ! فَقَالَ: أَنْتُمْ أَحْرَارٌ لِمَنْ صَلَّيْتُمْ لَهُ.
فَأَعْتَقَهُمْ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ مَا مَاتَ حَتَّى أَعْتَقَ أَلْفَ
رَقَبَةٍ، وَرُبَّمَا تَصَدَّقَ
فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ
بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَكَانَتْ تَمْضِي عَلَيْهِ الْأَيَّامُ الْكَثِيرَةُ
وَالشَّهْرُ لَا يَذُوقُ فِيهِ لَحْمًا، وَمَا كَانَ يَأْكُلُ طَعَامَهُ إِلَّا
وَعَلَى مَائِدَتِهِ يَتِيمٌ.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفٍ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَايِعَ
لِيَزِيدَ، فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَكَانَ
يَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا، فَمَا رَزَقَنِي اللَّهُ فَلَا
أَرُدُّهُ، وَكَانَ فِي مُدَّةِ الْفِتْنَةِ لَا يَأْتِي أَمِيرٌ إِلَّا صَلَّى
خَلْفَهُ، وَأَدَّى إِلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ
بِمَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَكَانَ يَتَتَبَّعُ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ مَكَانٍ صَلَّى فِيهِ، أَوْ قَعَدَ فِيهِ، حَتَّى إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ وَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ يَتَعَاهَدُهَا، وَيَصُبُّ فِي أَصْلِهَا الْمَاءَ حَتَّى لَا
تَيْبَسَ، وَكَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الْعِشَاءُ فِي جَمَاعَةٍ أَحْيَا تِلْكَ
اللَّيْلَةَ، وَكَانَ يَقُومُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ وَهُوَ
فِي الْفَضْلِ مِثْلُ أَبِيهِ، وَكَانَ يَوْمَ مَاتَ خَيْرُ مَنْ بَقِيَ، وَمَكَثَ
سِتِّينَ سَنَةً يُفْتِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ.
وَرَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً،
وَرَوَى عَنِ الصِّدِّيقِ، وَعَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدٍ، وَ ابْنِ
مَسْعُودٍ، وَحَفْصَةَ وَعَائِشَةَ أُمَّيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَغَيْرِهِمْ،
وَعَنْهُ خَلَقٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ: مِنْهُمْ بَنُوهُ حَمْزَةُ، وَ بِلَالٌ،
وَزَيْدٌ، وَسَالِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعُمَرُ - إِنْ
كَانَ مَحْفُوظًا - وَأَسْلَمُ - مَوْلَى أَبِيهِ - وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ،
وَالْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَطَاوُسٌ،
وَعُرْوَةُ، وَعَطَاءٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَ ابْنُ سِيرِينَ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَمَوْلَاهُ نَافِعٌ.
وَثَبَتَ فِي " الصَّحِيحِ "
عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ ; لَوْ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَكَانَ
بَعْدُ يَقُومُ اللَّيْلَ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ مِنْ أَمْلَكِ شَبَابِ قُرَيْشٍ لِنَفْسِهِ عَنِ
الدُّنْيَا ابْنُ عُمَرَ. وَقَالَ جَابِرٌ: مَا مِنَّا أَحَدٌ أَدْرَكَ الدُّنْيَا
إِلَّا مَالَتْ بِهِ، وَمَالَ بِهَا، إِلَّا ابْنَ عُمَرَ، وَمَا أَصَابَ أَحَدٌ
مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا إِلَّا نَقَصَ مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ
كَانَ عَلَيْهِ كَرِيمًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: مَاتَ ابْنُ عُمَرَ
يَوْمَ مَاتَ وَمَا مِنَ الدُّنْيَا أَحَدٌ أَحَبَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ
عَمَلِهِ مِنْهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يُعْدَلُ بِرَأْيهِ، فَإِنَّهُ
أَقَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتِّينَ
سَنَةً، فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ، وَلَا مَنْ أَمْرِ
أَصْحَابِهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: بَلَغَ ابْنُ عُمَرَ سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَأَفْتَى فِي
الْإِسْلَامِ سِتِّينَ سَنَةً، يَقْدَمُ عَلَيْهِ وُفُودُ النَّاسِ مِنْ أَقْطَارِ
الْأَرْضِ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: تُوُفِّيَ ابْنُ عُمَرَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ
وَسَبْعِينَ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ
بَكَّارٍ وَآخَرُونَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ. وَالْأَوَّلُ
أَثْبَتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ سَعْدٍ: لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَاسْتُخْلِفَ عَلِيٌّ، أَتَاهُ
ابْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: إِنَّكَ مَحْبُوبٌ إِلَى النَّاسِ، فَسِرْ
إِلَى الشَّامِ فَقَدْ وَلَّيْتُكَهَا. فَقَالَ: أُذَكِّرُكَ اللَّهَ وَقَرَابَتِي
وَصُحْبَتِي لِرَسُولِ اللَّهِ وَالرَّحِمِ إِلَّا مَا وَلَّيْتَ غَيْرِي
وَأَعْفَيْتَنِي. فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاسْتَعَانَ بِحَفْصَةَ أُخْتِهِ
فَكَلَّمَتْهُ، ثُمَّ سَارَ مِنْ لَيْلَتِهِ إِلَى مَكَّةَ هَارِبًا مِنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: أَلَا تَخْرُجُ إِلَى الشَّامِ
فَيُبَايِعُوكَ ؟ قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ ؟ قَالَ:
تُقَاتِلُهُمْ بِأَهْلِ الشَّامِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي
مُلْكَ الْأَرْضِ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهَمْ بَايَعُونِي، وَقَدْ قُتِلَ
مِنْهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّهَا أَتَتْنِي وَرَجُلٌ يَقُولُ:
لَا، وَآخَرُ يَقُولُ: نَعَمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحَجَّاجُ
وَهُوَ مَرِيضٌ فَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ، فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ.
تُوُفِّيَ بِمَكَّةَ بَعْدَ مُنْصَرَفِ النَّاسِ مِنَ الْحَجِّ فِي آخِرِ
السَّنَةِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِالْمُحَصَّبِ،
وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَكَّةَ.
وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ: أَبُو
بَكْرٍ، وَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَ وَاقِدٌ، وَ عَبْدُ اللَّهِ، وَ عُمَرُ
وَحَفْصَةُ وَسَوْدَةُ، أُمُّهُمْ صَفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ أُخْتُ
الْمُخْتَارِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَ سَالِمٌ، وَ عُبَيْدُ اللَّهِ، وَ
حَمْزَةُ، وَأُمُّهُمْ أُمُّ وَلَدٍ، وَزَيْدٌ وَعَائِشَةُ لِأُمِّ وَلَدٍ،
وَأَسْنَدَ أَلْفَيْنِ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا.
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ جُنْدَعِ
بْنِ لَيْثٍ، اللَّيْثِيُّ ثُمَّ الْجَنْدَعِيُّ، أَبُو عَاصِمٍ الْمَكِّيُّ
قَاصُّ أَهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَرَآهُ أَيْضًا. رَوَى عَنْ أَبِيهِ -
وَلَهُ صُحْبَةٌ - وَعَنْ عُمَرَ، وَ عَلِيٍّ، وَ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَ ابْنِ
عَبَّاسٍ، وَ ابْنِ عُمَرَ، وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأُمِّ سَلَمَةَ،
وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَغَيْرُهُمْ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ،
وَ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ فِي
حَلْقَتِهِ وَيَبْكِي، وَكَانَ يُعْجِبُهُ تَذْكِيرُهُ، وَكَانَ بَلِيغًا، وَكَانَ
يَبْكِي حَتَّى يَبُلَّ الْحَصَى بِدُمُوعِهِ.
قَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: كَانَ
عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ إِذَا آخَى أَحَدًا فِي اللَّهِ اسْتَقْبَلَ بِهِ
الْقِبْلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا سُعَدَاءَ بِمَا جَاءَ بِهِ
نَبِيُّكَ، وَاجْعَلْ مُحَمَّدًا شَهِيدًا عَلَيْنَا بِالْإِيمَانِ، وَقَدْ
سَبَقَتْ لَنَا مِنْكَ الْحُسْنَى، غَيْرَ مُتَطَاوِلٍ عَلَيْنَا الْأَمَدُ، وَلَا
قَاسِيَةٍ قُلُوبُنَا وَلَا قَائِلِينَ مَا لَيْسَ لَنَا بِحَقٍّ، وَلَا
سَائِلَيْنِ مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ.
وَحَكَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ مَاتَ
قَبْلَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو جُحَيْفَةَ وَهْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّوَائِيُّ
صَحَابِيٌّ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ دُونَ
الْبُلُوغِ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنْ
رَوَى عَنْهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ،
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ ; مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي
خَالِدٍ، وَالْحَكَمُ، وَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، وَ الشَّعْبِيُّ، وَ أَبُو
إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَكَانَ قَدْ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَابْتَنَى بِهَا
دَارًا، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَةِ عَلِيٍّ، وَكَانَ عَلِيٌّ إِذَا
خَطَبَ يَقُومُ أَبُو جُحَيْفَةَ تَحْتَ مِنْبَرِهِ.
سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سِنَانٍ الْأَنْصَارِيُّ
وَهُوَ أَحَدُ مَنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ
الصَّحَابَةِ، وَمِنْ عُلَمَائِهِمْ، كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ، وَلَهُ
مَشَاهِدُ مَعْرُوفَةٌ، فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَعْدَهُ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ سَنَةً.
مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، الْأَصْبَحِيُّ الْمَدَنِيُّ
وَهُوَ جَدُّ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ فَاضِلًا عَالِمًا، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
مُقْرِئُ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِلَا مُدَافَعَةٍ، وَاسْمُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
حَبِيبٍ، قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَسَمِعَ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَقْرَأَ النَّاسَ
الْقُرْآنَ بِالْكُوفَةِ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْرَةِ الْحَجَّاجِ،
قَرَأَ عَلَيْهِ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، وَخَلْقٌ غَيْرُهُ، تُوُفِّيَ
بِالْكُوفَةِ.
أَبُو مُعْرِضٍ الْأَسَدِيُّ
اسْمُهُ مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ، وَامْتَدَحَهُ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ وَيُعْرَفُ
بِالْأُقَيْشِرِ، وَكَانَ أَحْمَرَ
الْوَجْهِ كَثِيرَ الشَّعْرِ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ سَنَةً.
بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ الْأُمَوِيُّ
أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَلِي إِمْرَةَ الْعِرَاقَيْنِ لِأَخِيهِ
عَبْدِ الْمَلِكِ، وَلَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ عِنْدَ عَقَبَةِ الْكَتَّانِ، وَكَانَ
سَمْحًا جَوَادًا، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ دَيْرُ مَرْوَانَ عِنْدَ حَجِيرَا، وَهُوَ
الَّذِي قَتَلَ خَالِدَ بْنَ حُصَيْنٍ الْكِلَابِيَّ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ،
وَكَانَ لَا تُغْلَقُ دُونَهُ الْأَبْوَابُ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا تَحْتَجِبُ
النِّسَاءُ. وَكَانَ طَلِيقَ الْوَجْهِ، وَكَانَ يُجِيزُ عَلَى الشِّعْرِ
بِأُلُوفٍ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ الْفَرَزْدَقُ، وَ الْأَخْطَلُ.
وَالْجَهْمِيَّةُ تَسْتَدِلُّ عَلَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ بِأَنَّهُ
الِاسْتِيلَاءُ بِبَيْتِ الْأَخْطَلِ، فِيمَا مَدَحَ بِهِ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ،
وَهُوَ قَوْلُهُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مُهْرَاقِ
وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ ; فَإِنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ
كَثِيرَةٍ، وَقَدْ كَانَ الْأَخْطَلُ نَصْرَانِيًّا.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِ بِشْرٍ أَنَّهُ وَقَعَتِ الْقُرْحَةُ فِي يَمِينِهِ.
فَقِيلَ لَهُ: نَقْطَعُهَا
مِنَ الْمِفْصَلِ. فَجَزِعَ، فَمَا
أَمْسَى حَتَّى خَالَطَتِ الْكَتِفَ، ثُمَّ أَصْبَحَ وَقَدْ خَالَطَتِ الْجَوْفَ،
ثُمَّ مَاتَ، وَلَمَّا احْتَضَرَ جَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ
أَنِّي كُنْتُ عَبْدًا أَرْعَى الْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ
وَلَمْ أَلِ مَا وُلِيتُ. فَذُكِرَ قَوْلُهُ لِأَبِي حَازِمٍ - أَوْ لِسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ - فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَهُمْ عِنْدَ
الْمَوْتِ يَفِرُّونَ إِلَيْنَا، وَلَمْ يَجْعَلْنَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ، إِنَّا
لَنَرَى فِيهِمْ عِبَرًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ
يَتَمَلْمَلُ عَلَى سَرِيرِهِ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْهُ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ،
وَالْأَطِبَّاءُ حَوْلَهُ.
مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ أَمِيرٍ مَاتَ بِهَا،
وَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ مَوْتُهُ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ
الشُّعَرَاءَ أَنْ يَرْثُوهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ - أَخُو عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، وَهُوَ وَالِدُ مَرْوَانَ الْحِمَارِ - صَائِفَةَ الرُّومِ حِينَ
خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ مَرْعَشٍ، وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ لِيَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، وَهُوَ
عَمُّهُ، وَعَزَلَ عَنْهَا الْحَجَّاجَ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ نِيَابَةَ الْعِرَاقِ
; الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقَالِيمِ
الْكِبَارِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، فَرَأَى
عَبْدَ الْمَلِكِ أَنَّهُ لَا يَسُدُّ عَنْهُ أَهْلَ الْعِرَاقِ غَيْرُ
الْحَجَّاجِ ; لِسَطْوَتِهِ وَقَهْرِهِ وَقَسْوَتِهِ وَشَهَامَتِهِ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ بِوِلَايَةِ الْعِرَاقِ، فَسَارَ مِنَ
الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا عَلَى النَّجَائِبِ،
فَنَزَلَ قَرِيبَ الْكُوفَةِ فَاغْتَسَلَ وَاخْتَضَبَ، وَلَبِسَ ثِيَابَهُ،
وَتَقَلَّدَ سَيْفَهُ، وَأَلْقَى عَذَبَةَ الْعِمَامَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ
سَارَ فَنَزَلَ دَارَ الْإِمَارَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَقَدْ أَذَّنَ
الْمُؤَذِّنُ الْأَوَّلُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ وَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ طَوِيلًا، وَقَدْ
شَخَصُوا إِلَيْهِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَجَثَوْا عَلَى الرُّكَبِ، وَتَنَاوَلُوا
الْحَصَى لِيَقْذِفُوهُ بِهَا، وَقَدْ كَانُوا حَصَبُوا الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ،
فَلَمَّا سَكَتَ أَبْهَتَهُمْ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ:
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ
الشِّقَاقِ، وَيَا أَهْلَ النِّفَاقِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَاللَّهِ إِنْ
كَانَ أَمْرُكُمْ لَيَهُمُّنِي قَبْلَ أَنْ آتَى إِلَيْكُمْ، وَلَقَدْ كُنْتُ
أَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ بِي، فَأَجَابَ دَعْوَتِي، إِلَّا أَنِّي
سِرْتُ الْبَارِحَةَ فَسَقَطَ مِنِّي سَوْطِي الَّذِي أُؤْذِيكُمْ بِهِ،
فَاتَّخَذْتُ هَذَا مَكَانَهُ - وَأَشَارَ إِلَى سَيْفِهِ - ثُمَّ قَالَ:
وَاللَّهِ لَأَجُرَّنَّهُ فِيكُمْ جَرَّ الْمَرْأَةِ ذَيْلَهَا، وَلَأَفْعَلَنَّ
بِكُمْ وَلَأَصْنَعَنَّ، فَلَمَّا سَمِعُوا كَلَامَهُ جَعَلَ الْحَصَى يَتَسَاقَطُ
مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقِيلَ: إِنَّهُ دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ ظُهْرًا، فَأَتَى الْمَسْجِدَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وَهُوَ
مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ حَمْرَاءَ، مُتَلَثِّمٌ بِطَرَفِهَا، ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ
بِالنَّاسِ. فَحَسِبَهُ النَّاسُ وَأَصْحَابَهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَهَمُّوا بِهِ
حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ قَامَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ:
أَنَا ابْنُ جَلَا وَطَلَّاعُ الثَّنَايَا مَتَى أَضَعُ الْعِمَامَةَ تَعْرِفُونِي
ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَحْمِلُ الشَّرَّ بِحَمْلِهِ، وَأَحْذُوهُ
بِنَعْلِهِ،
وَأَجْزِيهِ بِمِثْلِهِ، وَإِنِّي
لَأَرَى رُءُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا، وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَى
الدِّمَاءِ تَتَرَقْرَقُ بَيْنَ الْعَمَائِمِ وَاللِّحَى:
قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا فَشَمِّرِي
ثُمَّ أَنْشَدَ أَيْضًا:
هَذَا أَوَانُ الشَّدِّ فَاشْتَدِّي زِيَمْ قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ
حُطَمْ
لَسْتُ بِرَاعِي إِبِلٍ وَلَا غَنَمْ وَلَا بِجَزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيٍّ أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّوِّيِّ
مُهَاجِرٍ لَيْسَ بِأَعْرَابِيِّ
ثُمَّ قَالَ: إِنِّي يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أُغْمَزُ بِغِمَازٍ، وَلَا يُقَعْقَعُ لِي بِالشِّنَانِ، وَلَقَدْ فُرِرْتُ عَنْ ذَكَاءٍ، وَجَرَيْتُ إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى، وَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ نَثَرَ كِنَانَتَهُ، ثُمَّ عَجَمَ عِيدَانَهَا عُودًا عُودًا، فَوَجَدَنِي أَمَرَّهَا عُودًا، وَأَصْلَبَهَا مَغْمِزًا، فَوَجَّهَنِي إِلَيْكُمْ، فَإِنَّكُمْ طَالَمَا أَوْضَعْتُمْ فِي أَوْدِيَةِ الْفِتَنِ، وَسَنَنْتُمْ سُنَنَ الْغَيِّ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَلْحُوَنَّكُمْ لَحْيَ الْعُودِ، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصْبَ السَّلَمَةِ، وَلَأَضْرِبَنَّكُمْ ضَرْبَ غَرَائِبِ الْإِبِلِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَعِدُ إِلَّا وَفَيْتُ، وَلَا أَخْلُقُ إِلَّا فَرَيْتُ، فَإِيَّايَ وَهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ وَقِيلًا وَقَالًا، وَاللَّهِ لَتَسْتَقِيمُنَّ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، أَوْ لَأَدَعَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ شُغْلًا فِي جَسَدِهِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ وَجَدْتُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ مِنْ بَعْثِ الْمُهَلَّبِ - يَعْنِي الَّذِينَ كَانُوا قَدْ رَجَعُوا عَنْهُ لَمَّا سَمِعُوا بِمَوْتِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا تَقَدَّمَ - سَفَكْتُ دَمَهُ، وَانْتَهَبْتُ مَالَهُ، ثُمَّ نَزَلَ
فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ، وَلَمْ يَزِدْ
عَلَى ذَلِكَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمَّا صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ تَحْتَهُ
أَطَالَ السُّكُوتَ، حَتَّى إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عُمَيْرٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ
حَصًى وَأَرَادَ أَنْ يَحْصِبَهُ بِهَا، وَقَالَ: قَبَّحَهُ اللَّهُ، مَا
أَعْيَاهُ وَأَذَمَّهُ. فَلَمَّا نَهَضَ الْحَجَّاجُ وَتَكَلَّمَ بِمَا تَكَلَّمَ
بِهِ، جَعَلَ الْحَصَى يَتَنَاثَرُ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ ; لِمَا
يَرَى مِنْ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ،
إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( النَّحْلِ: 112
)، وَأَنْتُمْ أُولَئِكَ، فَاسْتَوْثِقُوا وَاسْتَقِيمُوا، فَوَاللَّهِ
لَأُذِيقَنَّكُمُ الْهَوَانَ حَتَّى تَدِرُّوا، وَلَأَعْصِبَنَّكُمْ عَصَبَ
السَّلَمَةِ حَتَّى تَنْقَادُوا، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقْبِلُنَّ عَلَى
الْإِنْصَافِ، وَلَتَدَعُنَّ الْإِرْجَافَ وَكَانَ وَكَانَ، وَأَخْبَرَنِي فُلَانٌ
عَنْ فُلَانٍ، وَالْخَبَرُ وَمَا الْخَبَرُ، أَوْ لَأَهْبُرَنَّكُمْ بِالسَّيْفِ
هَبْرًا يَدَعُ النِّسَاءَ أَيَامَى، وَالْأَوْلَادَ يَتَامَى، حَتَّى تَمْشُوا
السُّمَّهَى، وَتُقْلِعُوا عَنْ هَا وَهَا. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ بَلِيغٍ غَرِيبٍ،
يَشْتَمِلُ عَلَى وَعِيدٍ شَدِيدٍ، لَيْسَ فِيهِ وَعْدٌ بِخَيْرٍ.
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ سَمِعَ تَكْبِيرًا فِي السُّوقِ، فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى
الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ
وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، إِنِّي سَمِعْتُ تَكْبِيرًا فِي الْأَسْوَاقِ، لَيْسَ
بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ التَّرْغِيبُ، وَلَكِنَّهُ تَكْبِيرٌ يُرَادُ
بِهِ التَّرْهِيبُ، وَقَدْ عَصَفَتْ عَجَاجَةٌ تَحْتَهَا قَصْفٌ، يَا بَنِي
اللَّكِيعَةِ، وَعَبِيدَ الْعَصَا، وَأَبْنَاءَ الْإِمَاءِ وَالْأَيَامَى، أَلَا
يَرْبَعُ كُلُّ رِجْلٍ مِنْكُمْ عَلَى ظَلْعِهِ، وَيُحْسِنُ حَقْنَ دَمِهِ،
وَيُبَصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَأُوشِكُ أَنْ أُوقِعَ
بِكُمْ وَقْعَةً تَكُونُ نَكَالًا لِمَا قَبِلَهَا، وَأَدَبًا لِمَا بَعْدَهَا.
فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ ثُمَّ الْحَنْظَلِيُّ،
قَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَنَا فِي هَذَا الْبَعْثِ، وَأَنَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ وَعَلِيلٌ، وَهَذَا ابْنِي هُوَ أَشِبُّ مِنِّي. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ ؟
قَالَ: أَنَا عُمَيْرُ بْنُ ضَابِئٍ التَّمِيمِيُّ. قَالَ: أَسَمِعْتَ كَلَامَنَا
بِالْأَمْسِ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَسْتَ الَّذِي غَزَا عُثْمَانَ بْنَ
عَفَّانَ ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ: كَانَ حَبَسَ
أَبِي وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا. قَالَ: أَوَلَيِسَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ:
هَمَمْتُ وَلَمْ أَفْعَلْ وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ وَوَلَّيْتُ الْبُكَاءَ
حَلَائِلَهُ
ثُمَّ قَالَ الْحَجَّاجُ: إِنِّي
لَأَحْسَبُ أَنَّ فِي قَتْلِكَ صَلَاحُ الْمِصْرَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: قُمْ إِلَيْهِ
يَا حَرَسِيُّ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ،
وَانْتَهَبَ مَالَهُ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فِي النَّاسِ: أَلَا إِنَّ عُمَيْرَ
بْنَ ضَابِئٍ تَأَخَّرَ بَعْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ ثَلَاثًا، فَأُمِرَ بِقَتْلِهِ.
قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ حَتَّى ازْدَحَمُوا عَلَى الْجِسْرِ، فَعَبَرَ عَلَيْهِ
فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ مَذْحِجٍ، وَخَرَجَتْ مَعَهُمُ
الْعُرَفَاءُ حَتَّى وَصَلُوا بِهِمْ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُ
كِتَابًا بِوُصُولِهِمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: قَدِمَ الْعِرَاقَ
وَاللَّهِ رَجُلٌ ذَكَرٌ، الْيَوْمَ قُوتِلَ الْعَدُوُّ.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَّاجُ لَمْ يَعْرِفْ عُمَيْرَ بْنَ ضَابِئٍ حَتَّى قَالَ
لَهُ عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ هَذَا جَاءَ إِلَى
عُثْمَانَ وَقَدْ قُتِلَ فَلَطَمَ وَجْهَهُ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ ذَلِكَ
بِقَتْلِهِ.
وَبَعَثَ الْحَجَّاجُ الْحَكَمَ بْنَ أَيُّوبَ الثَّقَفِيَّ نَائِبًا عَلَى
الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَتِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَدَّ عَلَى خَالِدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَأَقَرَّ عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحًا، ثُمَّ رَكِبَ الْحَجَّاجُ
إِلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا يَعْفُورَ، وَوَلَّى
قَضَاءَ الْبَصْرَةِ لِزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْكُوفَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،
وَأَقَرَّ عَمَّهُ يَحْيَى عَلَى نِيَابَةِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى بِلَادِ
خُرَاسَانَ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَثَبَ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ عَلَى الْحَجَّاجِ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَ مِنْ
الْكُوفَةِ، بَعْدَ قَتْلِ عُمَيْرِ
بْنِ ضَابِئٍ، وَقَامَ فِي أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِخُطْبَةٍ نَظِيرَ مَا قَامَ فِي
أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ، ثُمَّ
أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي يَشْكُرَ، فَقِيلَ: هَذَا عَاصٍ. فَقَالَ الرَّجُلُ:
إِنَّ بِي فَتْقًا، وَقَدْ عَذَرَنِي بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ، وَهَذَا عَطَائِي
مَرْدُودٌ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ
فَقُتِلَ، فَفَزِعَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَخَرَجُوا مِنَ الْبَصْرَةِ حَتَّى
اجْتَمَعُوا عِنْدَ قَنْطَرَةِ رَامَهُرْمُزَ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْجَارُودِ، وَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الْحَجَّاجُ - وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ - فِي أُمَرَاءِ الْجَيْشِ مِنَ الْمِصْرَيْنِ، فَاقْتَتَلُوا
هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُمِ الْحَجَّاجُ، وَقَتَلَ أَمِيرَهُمْ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَارُودِ فِي رُءُوسٍ مِنَ الْقَبَائِلِ مَعَهُ، وَأَمَرَ
بِرُءُوسِهِمْ فَنُصِبَتْ عِنْدَ الْجِسْرِ مِنْ رَامْهُرْمُزَ، ثُمَّ بَعَثَ
بِهَا إِلَى الْمُهَلَّبِ فَقَوِيَ بِذَلِكَ، وَضَعُفَ أَمَرُ الْخَوَارِجِ، وَأَرْسَلَ
الْحَجَّاجُ إِلَى الْمُهَلَّبِ، وَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ
فَأَمَرَهُمَا بِمُنَاهَضَةِ الْأَزَارِقَةِ، فَنَهَضَا بِمَنْ مَعَهُمَا إِلَى
الْخَوَارِجِ الْأَزَارِقَةِ فَأَجْلَوْهُمْ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ مِنْ
رَامْهُرْمُزَ بِأَيْسَرِ قِتَالٍ، فَهَرَبُوا إِلَى أَرْضِ كَازَرُونَ مِنْ
إِقْلِيمِ سَابُورَ، وَسَارَ النَّاسُ وَرَاءَهُمْ، فَالْتَقَوْا فِي الْعَشْرِ
الْآخَرِ مِنْ رَمَضَانَ.
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ بَيَّتَ الْخَوَارِجُ الْمُهَلَّبَ مِنَ اللَّيْلِ،
فَوَجَدُوهُ قَدْ تَحَصَّنَ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ مُعَسْكَرِهِ، فَجَاءُوا إِلَى
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مِخْنَفٍ فَوَجَدُوهُ غَيْرَ مُحْتَرِزٍ - وَكَانَ
الْمُهَلَّبُ قَدْ أَمَرَهُ بِالِاحْتِرَازِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ
- فَاقْتَتَلُوا فِي اللَّيْلِ، فَقَتَلَتِ الْخَوَارِجُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
مِخْنَفٍ وَطَائِفَةً مِنْ جَيْشِهِ، وَهَزَمُوهُمْ هَزِيمَةً مُنْكَرَةً.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْخَوَارِجَ لَمَّا الْتَقَوْا مَعَ النَّاسِ فِي هَذِهِ
الْوَقْعَةِ كَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ بَقِينَ
مِنْ رَمَضَانَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَحَمَلَتِ الْخَوَارِجُ
عَلَى جَيْشِ الْمُهَلَّبِ، فَاضْطَرُّوهُ إِلَى مُعَسْكَرِهِ، فَجَعَلَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مِخْنَفٍ يَمُدُّهُ بِالْخَيْلِ بَعْدَ الْخَيْلِ، وَالرِّجَالِ
بَعْدَ الرِّجَالِ، فَمَالَتِ الْخَوَارِجُ إِلَى مُعَسْكَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ مِخْنَفٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُتِلَ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ، وَقُتِلَ مَعَهُ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ ثَبَتُوا مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ الصَّبَاحُ جَاءَ
الْمُهَلَّبُ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ، وَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ
بِمَهْلِكِهِ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعَزِيهِ فِيهِ،
فَنَعَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى النَّاسِ بِمِنًى، وَأَمَّرَ الْحَجَّاجُ مَكَانَهُ
عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُهَلَّبَ، فَكَرِهَ
ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ طَاعَةِ الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ
مُخَالَفَتُهُ، فَسَارَ إِلَى الْمُهَلَّبِ فَجَعَلَ لَا يُطِيعُهُ إِلَّا
ظَاهِرًا، وَيَعْصِيهِ كَثِيرًا، ثُمَّ تَقَاوَلَا، فَهَمَّ الْمُهَلَّبُ أَنْ
يُوقِعَ بِعَتَّابٍ، ثُمَّ حَجَزَ بَيْنَهُمَا النَّاسُ، فَكَتَبَ عَتَّابُ إِلَى
الْحَجَّاجِ يَشْكُو الْمُهَلَّبَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَقَدَمَ عَلَيْهِ،
وَأَعْفَاهُ مِنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْمُهَلَّبُ مَكَانَهُ ابْنَهُ حَبِيبَ بْنَ
الْمُهَلَّبِ.
وَفِيهَا خَرَجَ دَاوُدُ بْنُ النُّعْمَانِ الْمَازِنِيُّ بِنَوَاحِي الْبَصْرَةِ،
فَوَجَّهَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ أَمِيرًا عَلَى سِرِّيَّةٍ فَقَتَلَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَرَّكَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ
أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ، وَكَانَ يَرَى رَأْيَ الصُّفْرِيَّةِ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الصُّفْرِيَّةِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ
حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَعَهُ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ، وَ
الْبَطِينُ،
وَأَشْبَاهُهُمْ مِنْ رُءُوسِ الْخَوَارِجِ، وَاتَّفَقَ حَجُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَهَمَّ شَبِيبٌ بِالْفَتْكِ بِهِ، فَبَلَغَ عَبْدَ الْمَلِكِ ذَلِكَ مِنْ خَبَرِهِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الْحَجِّ أَنَّ يَتَطَلَبَهُمْ، وَكَانَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ هَذَا يُكْثِرُ الدُّخُولَ إِلَى الْكُوفَةِ وَالْإِقَامَةَ بِهَا، وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ دَارَا وَأَهْلِ الْمَوْصِلِ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ وَيُفَقِّهُهُمْ، وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مُصْفَرًّا كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، وَكَانَ إِذَا قَصَّ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَأْمُرُ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَحُثُّ عَلَى ذِكْرِ الْمَوْتِ، ثُمَّ يَتَرَحَّمُ عَلَى الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَ عُمَرَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِمَا ثَنَاءً حَسَنًا، وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَسُبُّهُ وَيَنَالُ مِنْهُ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَيْهِ وَقَتَلُوهُ مِنْ فَجَرَةِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، ثُمَّ يَحُضُّ أَصْحَابَهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ الْخَوَارِجِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَلِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ الَّذِي قَدْ شَاعَ فِي النَّاسِ وَذَاعَ، وَيُهَوِّنُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ، وَيَذُمُّ الدُّنْيَا وَأَمْرَهَا وَيُصَغِّرُهَا، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ يَسْتَبْطِئُهُ فِي الْخُرُوجِ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ، وَيَنْدُبُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَدِمَ شَبِيبٌ عَلَى صَالِحٍ وَهُوَ بِدَارَا، فَتَوَاعَدُوا وَتُوَافَقُوا عَلَى الْخُرُوجِ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ - وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ وَسَبْعِينَ - وَقَدِمَ عَلَى صَالِحٍ شَبِيبٌ، وَأَخُوهُ مُصَادٌ، وَالْمُحَلَّلُ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَامِرٍ، فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَبْطَالِ وَهُوَ بِدَارَا نَحْوُ
مِائَةٍ وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، ثُمَّ
وَثَبُوا عَلَى خَيْلٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَخَذُوهَا وَتَقْوَوْا
بِهَا، ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمَرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الَّتِي
بَعْدَهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ مِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
فِي قَوْلِ أَبِي مُسْهِرٍ، وَ أَبِي عُبَيْدٍ:
الْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ السُّلَمِيُّ أَبُو نَجِيحٍ
سَكَنَ حِمْصَ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، أَسْلَمَ قَدِيمًا هُوَ وَعَمْرُو بْنُ
عَبَسَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَزَلَ الصُّفَّةَ، وَكَانَ مِنَ
الْبَكَّائِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا
أَسْمَاءَهُمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا
أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (
التَّوْبَةِ: 92 ).
وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خُطْبَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ،
حَتَّى قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ
فَأَوْصِنَا. قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ،
وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ،
عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي،
عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ;
فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ رَوَاهُ
أَحْمَدُ، وَأَهْلُ السُّنَنِ،
وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَرَوَى أَيْضًا:أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي عَلَى الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ ثَلَاثًا، وَعَلَى الثَّانِي وَاحِدَةً.
وَقَدْ كَانَ الْعِرْبَاضُ شَيْخًا كَبِيرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَقْبِضَهُ
اللَّهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ كَبِرَتْ سِنِّي، وَوَهَنَ
عَظْمِي، فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ. وَرَوَى أَحَادِيثَ.
أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَغَزَا حُنَيْنًا، وَكَانَ
مِمَّنْ نَزَلَ الشَّامَ بِدَارَيَّا غَرْبِيِّ دِمَشْقَ إِلَى جِهَةِ
الْقِبْلَةِ، وَقِيلَ: بِبَلَاطِ - قَرْيَةٍ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ - فَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، وَاسْمِ أَبِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ،
وَالْأَشْهُرُ مِنْهَا: جُرْثُومُ بْنُ نَاشِرٍ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ،
وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ ;
مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَ مَكْحُولٌ الشَّامِيُّ، وَأَبُو إِدْرِيسَ
الْخَوْلَانِيُّ، وَأَبُو قِلَابَةَ الْجَرْمِيُّ.
وَكَانَ مِمَّنْ يُجَالِسُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، وَكَانَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ
يَخْرُجُ، فَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَتَفَكَّرُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى
الْمَنْزِلِ فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنِّي
لَأَرْجُوَ أَنْ
لَا يَخْنُقَنِي اللَّهُ عِنْدَ
الْمَوْتِ كَمَا أَرَاكُمْ تَخْتَنِقُونَ. فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً يُصَلِّي
مِنَ اللَّيْلِ إِذْ قُبِضَتْ رُوحُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَرَأَتِ ابْنَتُهُ فِي
الْمَنَامِ كَأَنَّ أَبَاهَا قَدْ مَاتَ، فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً، فَقَالَتْ
لِأُمِّهَا: أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَتْ: هُوَ فِي مُصَلَّاهُ. فَنَادَتْهُ فَلَمْ
يُجِبْهَا، فَجَاءَتْهُ فَحَرَّكَتْهُ فَسَقَطَ لِجَنْبِهِ، فَإِذَا هُوَ مَيِّتٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَخَلِيفَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ:
كَانَتْ وَفَاتُهُ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي أَوَّلِ إِمْرَةِ مُعَاوِيَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ
صَاحِبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ، مِنْ
كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَمِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمِنْ
كِبَارِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ عَيْنُهُ
مِنْ كَثْرَةِ الصَّوْمِ، وَقَدْ حَجَّ الْبَيْتَ ثَمَانِينَ حَجَّةً وَعُمْرَةً،
وَكَانَ يُهِلُّ مِنَ الْكُوفَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ
يَصُومُ حَتَّى يَخْضَرَّ وَيَصْفَرَّ، فَلَمَّا احْتَضَرَ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ:
مَا هَذَا الْجَزَعُ ؟ فَقَالَ: مَا لِيَ لَا أَجْزَعُ ؟ وَمَنْ أَحَقُّ بِذَلِكَ
مِنِّي ؟ وَاللَّهِ لَوْ أُنْبِئْتُ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللَّهِ لَأَهَمَّنِي
الْحَيَاءُ مِنْهُ مِمَّا قَدْ صَنَعْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الرَّجُلِ الذَّنَبُ الصَّغِيرُ فَيَعْفُو عَنْهُ، فَلَا يَزَالُ
مُسْتَحْيِيًا مِنْهُ.
حُمْرَانُ بْنُ أَبَانٍ، مَوْلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
كَانَ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ، اشْتَرَاهُ عُثْمَانُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ
يَأْذَنُ لِلنَّاسِ عَلَى عُثْمَانَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ
وَكَانَ فِي أَوَّلِهَا فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ مِنْهَا لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ
اجْتِمَاعُ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ أَمِيرِ الصُّفْرِيَّةِ، وَشَبِيبِ بْنِ
يَزِيدَ أَحَدِ شُجْعَانِ الْخَوَارِجِ، فَقَامَ فِيهِمْ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ،
فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، وَأَنْ لَا
يُقَاتِلُوا أَحَدًا حَتَّى يَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ مَعَهُمْ.
ثُمَّ مَالُوا إِلَى دَوَابِّ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ، نَائِبِ الْجَزِيرَةِ
لِأَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَخَذُوهَا فَتَقْوَوْا بِهَا، وَأَقَامُوا
بِأَرْضِ دَارَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَتَحَصَّنَ مِنْهُمْ أَهْلُ دَارَا
وَنَصِيبِينَ وَسِنْجَارَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ نَائِبُ
الْجَزِيرَةِ خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ، عَلَيْهِمْ عَدِيُّ بْنُ عَدِيِّ بْنِ
عُمَيْرَةَ، ثُمَّ زَادَهُ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى، فَسَارَ فِي أَلْفٍ مِنْ
حَرَّانَ إِلَيْهِمْ، وَكَأَنَّمَا يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ وَهُوَ يَنْظُرُ ;
لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَلَدِ الْخَوَارِجِ وَقُوَّتِهِمْ وَشِدَّةِ بِأَسِهِمْ،
فَلَمَّا الْتَقَى مَعَ الْخَوَارِجِ هَزَمُوهُ هَزِيمَةً شَنِيعَةً بَالِغَةً،
وَاحْتَوَوْا عَلَى مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ فَغَضِبَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ، وَأَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ مَعَ خَالِدِ بْنِ جَزْءٍ السُّلَمِيِّ، وَقَالَ لَهُمَا: أَيُّكُمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ فَهُوَ الْأَمِيرُ عَلَى النَّاسِ. فَسَارُوا إِلَيْهِمْ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ، وَالْخَوَارِجُ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ نَفْسٍ، وَعَشَرَةِ أَنْفُسٍ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى آمِدَ تَوَجَّهَ صَالِحٌ إِلَى خَالِدِ بْنِ جَزْءٍ فِي شَطْرِ النَّاسِ، وَوَجَّهَ شَبِيبًا إِلَى الْحَارِثِ بْنِ جَعْوَنَةَ فِي الْبَاقِينَ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ فِي هَذَا الْيَوْمِ قِتَالًا شَدِيدًا إِلَى اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ انْكَفَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَنِ الْآخَرِ، وَقَدْ قُتِلَ مِنَ الْخَوَارِجِ نَحْوَ السَّبْعِينَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَرْوَانَ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ، وَهَرَبَتِ الْخَوَارِجُ فِي اللَّيْلِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْجَزِيرَةِ، وَأَخَذُوا فِي أَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَمَضَوْا حَتَّى قَطَعُوا الدَّسْكَرَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمِ الْحَجَّاجُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، فَسَارَ نَحْوَهُمْ حَتَّى لَحِقَهُمْ بِأَرْضِ الْمَوْصِلِ، وَلَيْسَ مَعَ صَالِحٍ سِوَى تِسْعِينَ رَجُلًا، فَالْتَقَى مَعَهُمْ،
وَقَدْ جَعَلَ صَالِحٌ أَصْحَابَهُ
ثَلَاثَةَ كَرَادِيسَ ; فَهُوَ فِي كُرْدُوسٍ، وَشَبِيبٌ عَنْ يَمِينِهِ فِي
كُرْدُوسٍ، وَسُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ يَسَارِهِ فِي كُرْدُوسٍ، وَحَمَلَ
عَلَيْهِمُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرَةَ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ أَبُو الرَّوَّاغِ
الشَّاكِرِيُّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الزُّبَيْرُ بْنُ الْأَرْوَحِ التَّمِيمِيُّ،
فَصَبَرَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى قِلَّتِهِمْ صَبْرًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْكَشَفَ
وَسُوَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثُمَّ قُتِلَ صَالِحُ بْنُ مُسَرِّحٍ أَمِيرُهُمْ،
وَصُرِعَ شَبِيبٌ عَنْ فَرَسِهِ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْخَوَارِجَ
حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَدَخَلُوا بِهِ حِصْنًا هُنَالِكَ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُمْ
سَبْعُونَ رَجُلًا، فَأَحَاطَ بِهِمُ الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرَةَ، وَأَمَرَ
أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْرِقُوا الْبَابَ، فَفَعَلُوا، وَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى
مُعَسْكَرِهِمْ يَنْتَظِرُونَ حَرِيقَ الْبَابَ، فَيَأْخُذُونَ الْخَوَارِجَ
قَهْرًا، فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا خَرَجَتْ عَلَيْهِمُ
الْخَوَارِجُ مِنَ الْبَابِ عَلَى الصَّعْبِ وَالذَّلُولِ، فَبَيَّتُوا جَيْشَ
الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَهَرَبَ
النَّاسُ سِرَاعًا إِلَى الْمَدَائِنِ، وَاحْتَازَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ مَا فِي
مُعَسْكَرِهِمْ، فَكَانَ جَيْشُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ أَوَّلَ جَيْشٍ
هَزَمَهُ شَبِيبٌ، وَكَانَ مَقْتَلُ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ، وَذَلِكَ
أَنَّ شَبِيبًا جَرَتْ لَهُ
فُصُولٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا بَعْدَ مَقْتَلِ صَالِحِ بْنِ مُسَرِّحٍ، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْخَوَارِجُ وَبَايَعُوهُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جَيْشًا آخَرَ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمُوهُ ثُمَّ هَزَمَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ فَحَاصَرَ الْمَدَائِنَ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهَا شَيْئًا، فَسَارَ فَأَخَذَ دَوَابَّ لِلْحَجَّاجِ مِنْ كَلْوَاذَا، وَمِنْ عَزْمِهِ أَنْ يُبَيِّتَ أَهْلَ الْمَدَائِنِ، فَهَرَبَ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجُنْدِ إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمَّا وَصَلَ الْفَلُّ إِلَى الْحَجَّاجِ جَهَّزَ جَيْشًا أَرْبَعَةَ آلَافِ مُقَاتِلٍ إِلَى شَبِيبٍ، فَمَرُّوا عَلَى الْمَدَائِنِ، ثُمَّ سَارُوا فِي طَلَبِ شَبِيبٍ، فَجَعَلَ شَبِيبٌ يَسِيرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَهُوَ يُرِيهِمْ أَنَّهُ خَائِفٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَكُرُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ فَيَكْسِرُهَا، وَيَنْهَبُ مَا فِيهَا، وَلَا يُوَاجِهُ أَحَدًا إِلَّا هَزَمَهُ، وَالْحَجَّاجُ يُلِحُّ فِي طَلَبِهِ، وَيُجَهِّزُ إِلَيْهِ السَّرَايَا وَالْبُعُوثَ وَالْمَدَدَ، وَشَبِيبٌ لَا يُبَالِي بِأَحَدٍ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ فَارِسًا، وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، ثُمَّ سَارَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى حَتَّى وَاجَهَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُحَاصِرَهَا، فَخَرَجَ الْجَيْشُ بِكَمَالِهِ إِلَى السَّبَخَةِ لِقِتَالِهِ، وَبِلَغَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَالِ بِهِمْ، وَانْزَعَجَ النَّاسُ، وَخَافُوا مِنْهُ وَفَرِقُوا، وَهَمُّوا أَنْ يَدْخُلُوا الْكُوفَةَ خَوْفًا مِنْهُ، فَيَتَحَصَّنُوا فِيهَا مِنْهُ، حَتَّى قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي آثَارِهِمْ، وَقَدِ اقْتَرَبَ مِنْهُمْ، وَشَبِيبٌ نَازِلٌ بِالْكُوفَةِ بِالدَّيْرِ، لَيْسَ عِنْدَهُ خَبَرٌ مِنْهُمْ وَلَا خَوْفٌ، وَقَدْ أَمَرَ بِطَعَامٍ وَشِوَاءٍ أَنْ يُصْنَعَ لَهُ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ جَاءَكَ الْجُنْدُ فَأَدْرِكْ نَفْسَكَ. فَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى ذَلِكَ وَلَا يَكْتَرِثُ بِهِمْ، وَيَقُولُ لِلدِّهْقَانِ
الَّذِي يَصْنَعُ لَهُ الطَّعَامَ: عَجِّلْ بِهِ. فَلَمَّا اسْتَوَى أَكَلَهُ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلَاةً تَامَّةً بِتَطْوِيلٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، ثُمَّ لَبِسَ دِرْعَهُ، وَتَقَلَّدَ سَيْفَيْنِ، وَأَخَذَ عَمُودَ حَدِيدٍ، ثُمَّ قَالَ: أَسْرِجُوا لِي الْبَغْلَةَ. فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ مُصَادٌ: أَفِي هَذَا الْيَوْمِ تَرْكَبُ بَغْلَةً، وَقَدْ أَحَاطَ بِكَ الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَكِبَهَا، ثُمَّ فَتَحَ بَابَ الدَّيْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا أَبُو الْمُدَلَّهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَتَقَدَّمَ إِلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِي تَقَدَّمُوا إِلَيْهِ، فَضَرَبَهُ بِالْعَمُودِ الْحَدِيدِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُجَالِدِ، وَحَمَلَ عَلَى الْجَيْشِ الْآخَرِ الْكَثِيفِ فَصَرَعَ أَمِيرَهُ، وَهَرَبَ النَّاسُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلَجَئُوا إِلَى الْكُوفَةِ، وَمَضَى شَبِيبٌ حَتَّى أَغَارَ عَلَى أَسْفَلِ الْفُرَاتِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةً هُنَاكَ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، ثُمَّ اقْتَرَبَ شَبِيبٌ مِنَ الْكُوفَةِ يُرِيدُ دُخُولَهَا، فَأَعْلَمَ الدَّهَاقِينُ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَأَسْرَعَ الْحَجَّاجُ الْخُرُوجَ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَقَصَدَ الْكُوفَةَ، فَأَسْرَعَ السَّيْرَ، وَبَادَرَهُ شَبِيبٌ إِلَى الْكُوفَةِ، فَسَبَقَهُ الْحَجَّاجُ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا الْعَصْرَ، وَوَصَلَ شَبِيبٌ إِلَى الْمِرْبَدِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ اللَّيْلِ دَخَلَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ، وَقَصَدَ
قَصْرَ الْإِمَارَةِ، فَضَرَبَ بَابَهُ
بِعَمُودِهِ الْحَدِيدِ، فَأَثَّرَتْ ضَرْبَتُهُ فِي الْبَابِ، فَكَانَتْ تُعْرَفُ
بَعْدَ ذَلِكَ؛ يُقَالُ: هَذِهِ ضَرْبَةُ شَبِيبٍ، وَسَلَكَ فِي طُرُقِ
الْمَدِينَةِ، وَتَقَصَّدَ مَحَالَّ الْقَبَائِلِ، وَقَتَلَ رِجَالًا مِنْ
رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَشْرَافِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو سُلَيْمٍ وَالِدُ
لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، وَعَدِيُّ بْنِ عَمْرٍو، وَأَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، فِي طَائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ
مَعَ شَبِيبٍ امْرَأَتُهُ غَزَالَةُ، وَكَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالشَّجَاعَةِ،
فَدَخَلَتْ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ، وَجَلَسَتْ عَلَى مِنْبَرِهِ، وَجَعَلَتْ تَذُمُّ
بَنِي مَرْوَانَ.
وَنَادَى الْحَجَّاجُ فِي النَّاسِ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي وَأَبْشِرِي.
فَخَرَجَ شَبِيبٌ مِنَ الْكُوفَةِ، فَجَهَّزَ الْحَجَّاجُ فِي أَثَرِهِ سِتَّةَ
آلَافِ مُقَاتِلٍ، فَسَارُوا وَرَاءَهُ، وَهُوَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، يَنْعَسُ
وَيَهُزُّ رَأْسَهُ، وَفِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَكُرُّ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ،
فَيَقْتُلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةً، حَتَّى قَتَلَ مَنْ جَيْشِ الْحَجَّاجِ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَقَتَلَ جَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ، مِنْهُمْ: زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ
- قَتَلَهُ شَبِيبٌ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْمُخْتَارِ - فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ
مَكَانَهُ لِحَرْبِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمْ يُقَابِلْ
شَبِيبًا وَرَجَعَ، فَوَجَّهَ مَكَانَهُ عُثْمَانَ بْنَ قَطَنٍ الْحَارِثِيَّ،
فَالْتَقَوْا فِي آخِرِ السَّنَةِ، فَقُتِلَ عُثْمَانُ بْنُ قَطَنٍ، وَانْهَزَمَتْ
جُمُوعُهُ بَعْدَ أَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ سِتُّمِائَةِ نَفْسٍ، فَمِنْ
أَعْيَانِهِمْ عَقِيلُ بْنُ شَدَّادٍ السَّلُولِيُّ،
وَخَالِدُ بْنُ نَهِيكٍ الْكِنْدِيُّ،
وَالْأَسْوَدُ بْنُ رَبِيعَةَ.
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ شَبِيبٍ، وَتَزَلْزَلَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ، وَ الْحَجَّاجُ، وَسَائِرُ الْأُمَرَاءِ، وَخَافَ عَبْدُ الْمَلِكِ
مِنْهُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ لَهُ جَيْشًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَدِمُوا
فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَإِنَّ مَا مَعَ شَبِيبٍ شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ، وَقَدْ
مَلَأَ قُلُوبَ النَّاسِ رُعْبًا، وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ لَهُ مَعَهُمْ،
وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ
السَّنَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَشَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ عَلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَشَهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِ " الْأَحْكَامِ
السُّلْطَانِيَّةِ ": اخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ مَنْ ضَرَبَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ
فِي الْإِسْلَامِ ; فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: أَوَّلُ مَنْ ضَرَبَ
الدَّرَاهِمَ الْمَنْقُوشَةَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَكَانَتِ
الدَّنَانِيرُ رُومِيَّةٌ، وَالدَّرَاهِمُ كِسْرَوِيَّةٌ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ
وَكَانَ نَقْشُهُ لَهَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ. وَقَالَ
الْمَدَائِنِيُّ: خَمْسٍ وَسَبْعِينَ. وَضُرِبَتْ فِي الْآفَاقِ سَنَةَ سِتَّةٍ
وَسَبْعِينَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ ضُرِبَ عَلَى الْجَانِبِ الْوَاحِدِ مِنْهَا "
اللَّهُ أَحَدٌ "، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ " اللَّهُ
الصَّمَدُ "، قَالَ: وَحَكَى
يَحْيَى بْنُ النُّعْمَانِ الْغِفَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ أَوَّلَ مَنْ
ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَمْرِ أَخِيهِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، سَنَةَ سَبْعِينَ، عَلَى ضَرْبِ الْأَكَاسِرَةِ،
وَعَلَيْهَا " الْمُلْكُ بَرَكَةٌ " مِنْ جَانِبٍ، وَ " لِلَّهِ
" مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ غَيَّرَهَا الْحَجَّاجُ، وَكَتَبَ اسْمَهُ عَلَيْهَا
مِنْ جَانِبٍ، ثُمَّ خَلَّصَهَا بَعْدَهُ يُوسُفُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ خَلَّصَهَا أَجْوَدَ مِنْهَا خَالِدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي أَيَّامِ هِشَامٍ، ثُمَّ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ
أَجْوَدَ مِنْهُمْ كُلِّهِمْ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَنْصُورُ لَا يَقْبَلُ مِنْهَا
إِلَّا الْهُبَيْرِيَّةَ وَالْخَالِدِيَّةَ وَالْيُوسُفِيَّةَ.
وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِلنَّاسِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ، مِنْهَا الدِّرْهَمُ
الْبَغْلِيُّ، وَكَانَ ثَمَانِيَةَ دَوَانِقَ، وَالطَّبَرِيُّ وَكَانَ أَرْبَعَةَ
دَوَانِقَ، وَالْمِصْرِيُّ ثَلَاثَةَ دَوَانِقَ، وَالْيَمَنِيُّ دَانَقًا،
فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ الْبَغْلِيِّ وَالطَّبَرِيِّ، ثُمَّ أَخَذَ
نِصْفَهَا فَجَعَلَهُ الدِّرْهَمَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ نِصْفُ مِثْقَالٍ وَخُمْسُ
مِثْقَالٍ، وَذَكَرُوا أَنَّ الْمِثْقَالَ لَمْ يُغَيِّرُوا وَزْنَهُ فِي
جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا وُلِدَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهُوَ
مَرْوَانُ
الْحِمَارُ، آخِرُ مَنْ تَوَلَّى
الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بِالشَّامِ، وَمِنْهُ أَخَذَهَا بَنُو
الْعَبَّاسِ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ نِيَابَةَ الْمَدِينَةِ
لَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَزَلَ عَنْهَا يَحْيَى بْنَ مَرْوَانَ عَمَّهُ،
وَاسْتَدْعَاهُ إِلَى الشَّامِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ نَائِبَ
الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى خُرَاسَانَ
أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ الْقُضَاعِيُّ
اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلَّ، أَسْلَمَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَزَا جَلُولَاءَ وَالْقَادِسِيَّةَ وَتُسْتَرَ
وَنَهَاوَنْدَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَغَيْرَهَا، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ،
زَاهِدًا عَالِمًا، يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، تُوُفِّيَ وَعُمْرُهُ
مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً بِالْكُوفَةِ.
صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ الْعَدَوِيُّ
مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ ذَا فَضْلٍ وَوَرَعٍ
وَعِبَادَةٍ وَزُهْدٍ، كُنْيَتُهُ أَبُو الصَّهْبَاءِ، كَانَ يُصَلِّي حَتَّى مَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْتِيَ الْفِرَاشَ إِلَّا حَبْوًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ
جِدًّا، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ عَلَيْهِ شَبَابٌ يَلْهُونَ
وَيَلْعَبُونَ، فَيَقُولُ:
أَخْبِرُونِي عَنْ قَوْمٍ أَرَادُوا سَفَرًا، فَحَادُوا فِي النَّهَارِ عَنِ
الطَّرِيقِ، وَنَامُوا اللَّيْلَ، فَمَتَى يَقْطَعُونَ سَفَرَهُمْ ؟ فَقَالَ
لَهُمْ يَوْمًا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ شَابٌّ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ يَا
قَوْمِ إِنَّهُ مَا يَعْنِي بِهَذَا غَيْرَنَا، نَحْنُ بِالنَّهَارِ نَلْهُو
وَبِاللَّيْلِ نَنَامُ. ثُمَّ تَبِعَ صِلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَعَبَّدُ مَعَهُ
حَتَّى مَاتَ، وَمَرَّ عَلَيْهِ فَتًى يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَهَمَّ أَصْحَابُهُ أَنْ
يَأْخُذُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَقَالَ: دَعُونِي أَكْفِكُمْ أَمْرَهُ. ثُمَّ
دَعَاهُ فَقَالَ: يَابْنَ أَخَى، لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ. قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ ؟
قَالَ: أَنْ تَرَفَعَ إِزَارَكَ. قَالَ: نَعَمْ، وَنِعْمَتْ عَيْنٌ. فَرَفَعَ
إِزَارَهُ، فَقَالَ صِلَةُ: هَذَا أَمْثَلُ مِمَّا أَرَدْتُمْ، لَوْ شَتَمْتُمُوهُ
لَشَتَمَكُمْ.
وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ جَعْفَرُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي غَزَاةٍ، وَفَى
الْجَيْشِ صِلَةُ بْنُ أَشْيَمَ، فَنَزَلَ النَّاسُ عِنْدَ الْعَتَمَةِ، فَقُلْتُ:
لَأَرْمُقَنَّ عَمَلَهُ اللَّيْلَةَ. فَدَخَلَ غَيْضَةً، وَدَخَلْتُ فِي أَثَرِهِ،
فَقَامَ يُصَلِّي، وَجَاءَ الْأَسَدُ حَتَّى دَنَا مِنْهُ، وَصَعِدْتُ أَنَا فِي
شَجَرَةٍ. قَالَ: فَتُرَاهُ الْتَفَتَ، أَوْ عَدَّهُ جِرْوًا حَتَّى سَجَدَ ؟
فَقُلْتُ: الْآنَ يَفْتَرِسُهُ. فَجَلَسَ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَالَ: أَيُّهَا
السَّبْعُ، إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِشَيْءٍ فَافْعَلْ، وَإِلَّا فَاطْلُبِ
الرِّزْقَ مِنْ مَكَانٍ آخَرَ. فَوَلَّى الْأَسَدُ وَإِنَّ لَهُ لَزَئِيرًا
تَصَّدَّعُ مِنْهُ الْجِبَالُ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصَّبَاحِ جَلَسَ فَحَمِدَ
اللَّهَ بِمَحَامِدَ لَمْ أَسْمَعْ بِمِثْلِهَا، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ أَنْ تُجِيرَنِي مِنَ النَّارِ، أَوَ مِثْلِي يَجْتَرِئُ أَنْ
يَسْأَلَكَ الْجَنَّةَ ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْجَيْشِ، فَأَصْبَحَ كَأَنَّهُ
بَاتَ عَلَى الْحَشَايَا، وَأَصْبَحْتُ وَبِي مِنَ الْفَتْرَةِ شَيْءٌ اللَّهُ
بِهِ عَلِيمٌ.
قَالَ: وَذَهَبَتْ بِغْلَتُهُ بِثِقَلِهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي
بِثِقَلِهَا. فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ: فَلَمَّا الْتَقَيْنَا الْعَدُوَّ حَمَلَ هُوَ وَهِشَامُ
بْنُ عَامِرٍ، فَصَنَعَا بِهِمْ طَعْنًا وَضَرْبًا، فَقَالَ الْعَدُوُّ: رَجُلَانِ
مِنَ الْعَرَبِ صَنَعَا بِنَا هَذَا؛ فَكَيْفَ لَوْ قَاتَلُونَا كُلُّهُمْ ؟
أَعْطُوا الْمُسْلِمِينَ حَاجَتَهُمْ. يَعْنِي انْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِمْ.
وَقَالَ صِلَةُ: جُعْتُ مَرَّةً فِي غَزَاةٍ جَوْعًا شَدِيدًا، فَبَيْنَمَا أَنَا
أَسِيرُ أَدْعُو رَبِّي وَأَسْتَطْعِمُهُ، إِذْ سَمِعْتُ وَجْبَةً مِنْ خَلْفِي،
فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِمِنْدِيلٍ أَبْيَضَ، فَإِذَا فِيهِ دَوْخَلَةٌ
مَلْآنَةٌ رُطَبًا، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى شَبِعْتُ، وَأَدْرَكَنِي الْمَسَاءُ،
فَمِلْتُ إِلَى دَيْرِ رَاهِبٍ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ، فَاسْتَطْعَمَنِي مِنَ
الرُّطَبِ فَأَطْعَمْتُهُ، ثُمَّ إِنِّي مَرَرْتُ عَلَى ذَلِكَ الرَّاهِبِ بَعْدَ
زَمَانٍ فَإِذَا نَخَلَاتٌ حِسَانٌ، فَقَالَ: إِنَّهُنَّ لَمِنَ الرُّطَبَاتِ
الَّتِي أَطْعَمْتَنِي. وَجَاءَ بِذَلِكَ الْمِنْدِيلِ إِلَى امْرَأَتِهِ
فَكَانَتْ تُرِيهُ لِلنَّاسِ.
وَلَمَّا أُهْدِيَتْ مُعَاذَةُ إِلَى صِلَةَ، أَدْخَلَهُ ابْنُ أَخِيهِ
الْحَمَّامَ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ بَيْتَ الْعَرُوسِ ; بَيْتًا مُطَيَّبًا، فَقَامَ
يُصَلِّي، فَقَامَتْ تُصَلِّي مَعَهُ، فَلَمْ يَزَالَا يُصَلِّيَانِ حَتَّى بَرَقَ
الصُّبْحُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْ عَمِّ، أَهْدَيْتُ إِلَيْكَ
ابْنَةَ عَمِّكَ اللَّيْلَةَ، فَقُمْتَ تُصَلِّي وَتَرَكْتَهَا. قَالَ: إِنَّكَ
أَدَخَلْتَنِي بَيْتًا أَوَّلَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي بِهِ النَّارَ،
وَأَدْخَلْتَنِي بَيْتًا آخِرَ النَّهَارِ أَذْكَرْتَنِي بِهِ الْجَنَّةَ، فَلَمْ
تَزَلْ فِكْرَتِي فِيهِمَا حَتَّى أَصْبَحْتُ. الْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ
النَّارَ هُوَ الْحَمَّامُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي أَذْكَرَهُ بِهِ الْجَنَّةَ هُوَ
بَيْتُ الْعَرُوسِ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ادْعُ اللَّهَ
لِي. فَقَالَ: رَغَّبَكَ اللَّهُ فِيمَا يَبْقَى، وَزَهَّدَكَ فِيمَا يَفْنَى،
وَرَزَقَكَ الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَرْكَنُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا تُعَوِّلُ فِي
الدِّينِ إِلَّا عَلَيْهِ. وَكَانَ صِلَةُ فِي غَزَاةٍ، وَمَعَهُ ابْنُهُ، فَقَالَ
لَهُ: أَيْ بُنَيَّ، تَقَدَّمْ فَقَاتِلْ حَتَّى أَحْتَسِبَكَ. فَحَمَلَ فَقَاتَلَ
حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ صِلَةُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَاجْتَمَعَ النِّسَاءُ
عِنْدَ امْرَأَتِهِ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ، فَقَالَتْ: إِنْ كُنْتُنَّ
جِئْتُنَّ لِتُهَنِّئْنَنِي فَمَرْحَبًا بِكُنَّ، وَإِنْ كُنْتُنَّ جِئْتُنَّ
لِغَيْرِ ذَلِكَ فَارْجِعْنَ.
تُوُفِّيَ صِلَةُ فِي غَزَاةٍ هُوَ وَابْنُهُ نَحْوَ بِلَادِ فَارِسَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
زُهَيْرُ بْنُ قَيْسٍ الْبَلَوِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، لَهُ صُحْبَةٌ، قَتَلَتْهُ الرُّومُ بِبَرْقَةَ
مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الصَّرِيخَ أَتَى الْحَاكِمَ بِمِصْرَ -
وَهُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ - أَنَّ الرُّومَ نَزَلُوا بَرْقَةَ،
فَأَمَرَهُ بِالنُّهُوضِ إِلَيْهِمْ، فَسَاقَ زُهَيْرٌ وَمَعَهُ أَرْبَعُونَ
نَفْسًا، فَوَجَدَ الرُّومَ، فَأَرَادَ أَنْ يَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ حَتَّى
يَلْحَقَهُ الْعَسْكَرُ، فَقَالُوا: يَا أَبَا شَدَّادٍ، احْمِلْ بِنَا عَلَيْهِمْ.
فَحَمَلُوا، فَقُتِلُوا جَمِيعًا.
الْمُنْذِرُ بْنُ الْجَارُودِ
مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. تَوَلَّى بَيْتَ الْمَالِ، وَوَفَدَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَسَبْعِينَ
فِيهَا أَخْرَجَ الْحَجَّاجُ مُقَاتِلَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَكَانُوا
أَرْبَعِينَ أَلْفًا، وَانْضَافَ عَلَيْهِمْ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَصَارُوا خَمْسِينَ
أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَتَّابَ بْنَ وَرْقَاءَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْصِدَ
لِشَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ أَيْنَ كَانَ، وَأَنْ يُصَمِّمَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ
مَعَهُ، وَكَانُوا قَدْ تَجَمَّعُوا أَلْفَ رَجُلٍ، وَأَنْ لَا يَفْعَلُوا كَمَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ قَبْلَهَا مِنَ الْفِرَارِ وَالْهَزِيمَةِ.
وَلَمَّا بَلَغَ شَبِيبًا مَا بَعَثَ بِهِ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنُودِ،
لَمْ يَعْبَأْ بِهِمْ شَيْئًا، بَلْ قَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، فَوَعَظَهُمْ
وَذَكَّرَهُمْ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَمُنَاجَزَةِ
الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ عَتَّابِ بْنِ وَرْقَاءَ،
فَالْتَقَيَا فِي آخِرِ النَّهَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأَمَرَ شَبِيبٌ
مُؤَذِّنَهُ سَلَّامَ بْنَ سَيَّارٍ الشَّيْبَانِيَّ فَأَذَّنَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ
صَلَّى شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ، وَصَفَّ عَتَّابٌ أَصْحَابَهُ -
وَكَانَ قَدْ خَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ - فَلَمَّا صَلَّى
شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ انْتَظَرَ حَتَّى طَلَعَ الْقَمَرُ وَأَضَاءَ،
تَأَمَّلَ الْمَيْمَنَةَ وَالْمَيْسَرَةَ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى أَصْحَابِ رَايَاتِ
عَتَّابٍ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا شَبِيبٌ أَبُو الْمُدَلَّهِ، لَا حُكْمَ إِلَّا
لِلَّهِ. فَهَزَمَهُمْ، وَقُتِلَ أَمِيرُهُمْ قَبِيصَةُ بْنُ وَالِقٍ، وَجَمَاعَةٌ
مِنَ الْأُمَرَاءِ مَعَهُ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى الْمَيْمَنَةِ وَعَلَى
الْمَيْسَرَةِ، فَفَرَّقَ شَمْلَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، ثُمَّ قَصَدَ
الْقَلْبَ، فَمَا زَالَ حَتَّى قُتِلَ الْأَمِيرُ عَتَّابُ بْنُ وَرْقَاءَ،
وَزَهْرَةُ بْنُ حَوِيَّةَ، وَوَلَّى
عَامَّةُ الْجَيْشِ مُدْبِرِينَ، وَدَاسُوا الْأَمِيرَ عَتَّابًا، وَزَهْرَةُ،
فَوَطِئَتْهُ الْخَيْلُ، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَمَّارُ بْنُ يَزِيدَ
الْكَلْبِيُّ، ثُمَّ قَالَ شَبِيبٌ لِأَصْحَابِهِ: لَا تَتَبَّعُوا مُنْهَزِمًا.
وَانْهَزَمَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ رَاجِعِينَ إِلَى
الْكُوفَةِ.
وَكَانَ شَبِيبٌ لَمَّا احْتَوَى عَلَى الْمُعَسْكَرِ أَخَذَ مِمَّنْ بَقِيَ
مِنْهُمُ الْبَيْعَةَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ وَقَالَ لَهُمْ: إِلَى سَاعَةٍ
تَهْرُبُونَ ؟ ثُمَّ احْتَوَى عَلَى مَا فِي الْمُعَسْكَرِ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْحَوَاصِلِ، وَاسْتَدْعَى بِأَخِيهِ مُصَادٍ مِنَ الْمَدَائِنِ، ثُمَّ قَصَدَ
نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَقَدْ وَفَدَ إِلَى الْحَجَّاجِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ
الْكَلْبِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَكَمِيُّ مِنْ مَذْحِجٍ فِي
سِتَّةِ آلَافِ فَارِسٍ، وَمَعَهُمَا خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَاسْتَغْنَى
الْحَجَّاجُ بِهِمْ عَنْ نُصْرَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَامَ فِي النَّاسِ
خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، يَا
أَهْلَ الْكُوفَةِ لَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ الْعِزَّ، وَلَا
نَصَرَ مَنْ أَرَادَ بِكُمُ النَّصْرَ، اخْرُجُوا عَنَّا فَلَا تَشْهَدُوا مَعَنَا
قِتَالَ عَدُّوِّنَا، الْحَقُوا بِالْحِيرَةِ فَانْزِلُوا مَعَ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، فَلَا يُقَاتِلَنَّ مَعَنَا إِلَّا مَنْ كَانَ لَنَا عَامِلًا،
وَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ قِتَالَ عَتَّابِ بْنِ وَرَقَاءَ. وَعَزَمَ الْحَجَّاجُ
عَلَى قِتَالِ شَبِيبٍ بِنَفْسِهِ، وَسَارَ شَبِيبٌ حَتَّى بَلَغَ الصَّرَاةَ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الشَّامِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ،
فَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ نَظَرَ الْحَجَّاجُ إِلَى شَبِيبٍ وَهُوَ فِي
سِتِّمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَخَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الشَّامِ وَقَالَ:
يَا أَهْلَ الشَّامِ،
أَنْتُمْ أَهْلُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ،
وَالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ، لَا يَغْلِبَنَّ بَاطِلُ هَؤُلَاءِ الْأَرْجَاسِ
حَقَّكُمْ، غُضُّوا الْأَبْصَارَ، وَاجْثُوا عَلَى الرُّكَبِ، وَاسْتَقْبِلُوا
بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ.
وَأَقْبَلَ شَبِيبٌ وَقَدْ عَبَّأَ أَصْحَابَهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ ; وَاحِدَةٌ
مَعَهُ، وَأُخْرَى مَعَ سُوَيْدِ بْنِ سُلَيْمٍ، وَأُخْرَى مَعَ الْمُجَلَّلِ بْنِ
وَائِلٍ، وَأَمَرَ شَبِيبٌ سُوَيْدًا أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ عَلَى جَيْشِ
الْحَجَّاجِ، فَصَبَرُوا لَهُ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ وَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةً
وَاحِدَةً، فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ، فَنَادَى الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ، هَكَذَا فَافْعَلُوا. ثُمَّ أَمَرَ الْحَجَّاجُ فَقُدِّمَ
كُرْسِيُّهُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ إِلَى الْأَمَامِ، ثُمَّ أَمَرَ
شَبِيبٌ الْمُجَلَّلَ أَنْ يَحْمِلَ، فَحَمَلَ، فَفَعَلُوا بِهِ كَمَا فَعَلُوا
بِسُوِيدٍ، وَقَالَ لَهُمِ الْحَجَّاجُ كَمَا قَالَ لِأُولَئِكَ، وَقَدَّمَ
كُرْسِيَّهُ إِلَى أَمَامٍ، ثُمَّ إِنَّ شَبِيبًا حَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي
كَتِيبَتِهِ فَثَبَتُوا لَهُ، حَتَّى إِذَا غَشَّى أَطْرَافَ الْأَسِنَّةِ
وَثَبُوا فِي وَجْهِهِ فَقَاتَلَهُمْ طَوِيلًا، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ
طَاعَنُوهُ قُدُمًا حَتَّى أَلْحَقُوهُ بِأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا رَأَى صَبْرَهُمْ
نَادَى: يَا سُوَيْدُ، احْمِلْ فِي خَيْلِكَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ السِّكَّةِ ;
لَعَلَّكَ تُزِيلُ أَهْلَهَا عَنْهَا، فَأْتِ الْحَجَّاجَ مِنْ وَرَائِهِ،
وَنَحْمِلُ نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَامِهِ. فَحَمَلَ فَلَمْ يُفِدْ ذَلِكَ
شَيْئًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ جَعَلَ عُرْوَةَ بْنَ
الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ رِدْءًا لَهُ مِنْ
وَرَائِهِ ; لِئَلَّا يُؤْتُوا مِنْ خَلْفِهِمْ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَصِيرًا
بِالْحَرْبِ أَيْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ حَرَّضَ شَبِيبٌ أَصْحَابَهُ عَلَى
الْحَمْلَةِ، وَأَمَرَهُمْ بِهَا، فَفَهِمَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ، فَنَادَى: يَا
أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، اصْبِرُوا لِهَذِهِ الشِّدَّةِ الْوَاحِدَةِ،
ثُمَّ وَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا شَيْءٌ دُونَ الْفَتْحِ. فَجَثَوْا
عَلَى الرُّكَبِ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ شَبِيبٌ بِجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا
غَشِيَهُمْ نَادَى
الْحَجَّاجُ بِجَمَاعَةِ النَّاسِ، فَوَثَبُوا فِي وَجْهِهِ، فَمَا زَالُوا يَطْعَنُونَ وَيُطْعَنُونَ، وَهُمْ مُسْتَظْهِرُونَ عَلَى شَبِيبٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى رَدُّوهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ إِلَى مَا وَرَاءَهَا، فَنَادَى شَبِيبٌ فِي أَصْحَابِهِ: يَا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، الْأَرْضَ الْأَرْضَ. ثُمَّ نَزَلَ وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ، وَنَادَى الْحَجَّاجُ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، يَا أَهْلَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، هَذَا أَوَّلُ النَّصْرِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ. وَصَعِدَ مَسْجِدًا هُنَالِكَ لِشَبِيبٍ، وَمَعَهُ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ رَجُلًا مَعَهُمُ النَّبْلُ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا عَامَّةَ النَّهَارِ، مِنْ أَشَدِّ قِتَالٍ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَالْحَجَّاجُ يَنْظُرُ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ مَكَانِهِ، ثُمَّ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عَتَّابٍ اسْتَأْذَنَ الْحَجَّاجَ فِي أَنْ يَرْكَبَ فِي جَمَاعَةٍ فَيَأْتِيَ الْخَوَارِجَ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَانْطَلَقَ فِي جَمَاعَةٍ مَعَهُ نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَدَخْلَ عَسْكَرَ الْخَوَارِجِ مِنْ وَرَائِهِمْ، فَقَتَلَ مُصَادًا أَخَا شَبِيبٍ، وَغَزَالَةَ امْرَأَةَ شَبِيبٍ ; قَتَلَهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: فَرْوَةُ بْنُ دَفَّانَ الْكَلْبِيُّ. وَخَرَقَ فِي جَيْشِ شَبِيبٍ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ وَكَبَّرُوا، وَانْصَرَفَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى فَرَسٍ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ النَّاسَ أَنْ يَنْطَلِقُوا فِي تَطَلُّبِهِمْ، فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ فَهَزَمُوهُمْ، وَتَخْلَّفَ شَبِيبٌ فِي حَامِيَةِ النَّاسِ، ثُمَّ انْطَلَقَ وَاتَّبَعَهُ الطَّلَبُ، فَجَعَلَ يَنْعَسُ وَهُوَ عَلَى فَرَسِهِ حَتَّى يَخْفِقَ بِرَأْسِهِ، وَدَنَا مِنْهُ الطَّلَبُ، فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَنْهَاهُ عَنِ النُّعَاسِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ، فَجَعَلَ لَا يَكْتَرِثُ بِهِمْ، وَيَعُودُ فَتَخْفِقُ رَأْسُهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ بَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى أَصْحَابِهِ يَقُولُ: دَعُوهُ فِي
حَرَقِ النَّارِ. فَتَرَكُوهُ
وَرَجَعُوا.
ثُمَّ دَخَلَ الْحَجَّاجُ الْكُوفَةَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ:
إِنَّ شَبِيبًا لَمْ يُهْزَمْ قَبْلَهَا. ثُمَّ قَصَدَ شَبِيبٌ الْكُوفَةَ،
فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ سَرِيَّةٌ مِنْ جَيْشِ الْحَجَّاجِ، فَالْتَقَوْا مَعَهُ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ، فَهُزِمَ الْخَوَارِجُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَسَارَتِ
الْخَوَارِجُ هَارِبِينَ.
وَكَانَ عَلَى سَرِيَّةِ الْحَجَّاجِ الْحَارِثُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الثَّقَفِيُّ
فِي أَلْفِ فَارِسٍ مَعَهُ، فَحَمَلَ شَبِيبٌ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
فَكَسَرَهُ وَمَنْ مَعَهُ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، وَدَخَلَ النَّاسُ
الْكُوفَةَ هَارِبِينَ، وَحَصَّنَ النَّاسُ السِّكَكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُو
الْوَرْدِ مَوْلَى الْحَجَّاجِ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ، فَقَاتِلَ حَتَّى
قُتِلَ، ثُمَّ هَرَبَ أَصْحَابُهُ، وَدَخَلُوا الْكُوفَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ
أَمِيرٌ آخَرُ فَانْكَسَرَ أَيْضًا، ثُمَّ سَارَ شَبِيبٌ بِأَصْحَابِهِ نَحْوَ
السَّوَادِ، فَمَرُّوا بِعَامِلِ الْحَجَّاجِ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ
فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ خَطَبَ أَصْحَابَهُ وَقَالَ: اشْتَغَلْتُمْ بِالدُّنْيَا عَنِ
الْآخِرَةِ. ثُمَّ رَمَى بِالْمَالِ فِي الْفُرَاتِ، ثُمَّ سَارَ بِهِمْ حَتَّى
افْتَتَحَ بِلَادًا كَثِيرَةً، وَلَا يَبْرُزُ لَهُ أَحَدٌ إِلَّا قَتَلَهُ، ثُمَّ
خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ عَلَى بَعْضِ الْمُدُنِ، فَقَالَ
لَهُ: يَا شَبِيبُ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ - وَكَانَ صَدِيقَهُ -
فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ: إِنِّي لَا أَحِبُّ قَتْلَكَ. فَقَالَ لَهُ: لَكِنِّي
أُحِبُّ قَتْلَكَ، فَلَا تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ
الْوَقَائِعِ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ شَبِيبٌ عَلَى رَأْسِهِ، فَهَمَسَ
رَأْسَهُ حَتَّى اخْتَلَطَ دِمَاغُهُ بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، ثُمَّ كَفَّنَهُ
وَدَفَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ أَنْفَقَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً عَلَى
الْجُيُوشِ وَالْعَسَاكِرِ فِي طَلَبِ شَبِيبٍ فَلَمْ يُطِيقُوهُ وَلَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَوْتًا قَدَرًا
مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِمْ، وَلَا
صُنْعِهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ذِكْرُ مَقْتَلِ شَبِيبٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عِنْدَ ابْنِ الْكَلْبِيِّ
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى
الْبَصْرَةِ ; الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُوَ
زَوْجُ ابْنَةِ الْحَجَّاجِ، يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا أَرْبَعَةَ آلَافٍ
يَتَطَلَّبُونَ شَبِيبًا، وَيَكُونُونَ تَبَعًا لِسُفْيَانَ بْنِ الْأَبْرَدِ،
فَفِعْلَ فَالْتَقَوْا فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَصَبَرَ كُلٌّ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ لِصَاحِبِهِ، ثُمَّ عَزَمَ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ فَحَمَلُوا عَلَى
الْخَوَارِجِ، فَفَرُّوا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ذَاهِبِينَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ
إِلَى جِسْرٍ هُنَاكَ، فَوَقَفَ عِنْدَهُ شَبِيبٌ فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،
وَعَجَزَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ، وَرَدِّهِ عَنْ
مَوْقِفِهِ هَذَا بَعْدَمَا تَقَاتَلُوا نَهَارًا كَامِلًا أَشَدَّ قِتَالٍ
يَكُونُ، ثُمَّ أَمَرَ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ الرُّمَاةَ مِنْ أَصْحَابِهِ
فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ رَشْقًا وَاحِدًا، فَفَرَّتِ الْخَوَارِجُ، ثُمَّ
كَرَّتْ عَلَى الرُّمَاةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ رَجُلًا،
مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَبْرَدِ،
وَجَاءَ اللَّيْلُ بِظَلَامِهِ، فَكَفَّ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَبَاتَ
كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مُصِرًّا عَلَى مُنَاهَضَةِ الْآخَرِ، فَلَمَّا طَلَعَ
الْفَجْرُ عَبَرَ شَبِيبٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْجِسْرِ، فَبَيْنَمَا شَبِيبٌ
عَلَى مَتْنِ الْجِسْرِ، وَهُوَ عَلَى حِصَانٍ لَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ فَرَسٌ أُنْثَى،
فَنَزَا فَرَسُهُ وَهُوَ عَلَى الْجِسْرِ، وَنَزَلَ حَافِرُ فَرَسِ شَبِيبٍ عَلَى
حَرْفِ السَّفِينَةِ فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ، فَقَالَ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا
كَانَ مَفْعُولًا. ثُمَّ انْغَمَرَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ وَهُوَ يَقُولُ:
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَغَرِقَ.
وَلَمَّا تَحَقَّقَتِ الْخَوَارِجُ سُقُوطَهُ فِي الْمَاءِ كَرُّوا، وَانْصَرَفُوا
ذَاهِبِينَ مُفَرَّقِينَ فِي الْبِلَادِ، وَجَاءَ أَمِيرُ جَيْشِ الْحَجَّاجِ،
فَاسْتَخْرَجَ شَبِيبًا مِنَ الْمَاءِ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ
فَشُقَّ صَدْرُهُ، فَاسْتُخْرِجَ قَلْبُهُ، فَإِذَا هُوَ مُجْتَمِعٌ صُلْبٌ
كَأَنَّهُ صَخْرَةٌ، وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بِهِ الْأَرْضَ فَيَثِبُ قَامَةَ
الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ قَدْ أَبْغَضُوهُ لِمَا
أَصَابَ مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَلَمَّا تَخَلَّفَ فِي السَّاقَةِ اشْتَوَرُوا
وَقَالُوا: نَقْطَعُ الْجِسْرَ بِهِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَمَالَتِ السُّفُنُ
بِالْجِسْرِ، وَنَفَرَ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَغَرِقَ، فَنَادَوْا:
غَرِقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَعَرَفَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ ذَلِكَ فَجَاءُوا
فَاسْتَخْرَجُوهُ.
وَلَمَّا نُعِيَ شَبِيبٌ إِلَى أُمِّهِ، قَالَتْ: صَدَّقْتُمْ، إِنِّي كُنْتُ
رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ وَأَنَا حَامِلٌ بِهِ أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنِّي شِهَابٌ
مِنْ نَارٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا يُطْفِئُهُ إِلَّا الْمَاءُ.
وَكَانَتْ أُمُّهُ جَارِيَةٌ اسْمُهَا جَهِيزَةُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً، وَكَانَتْ
مِنْ أَشْجَعِ
النِّسَاءِ، تُقَاتِلُ مَعَ ابْنِهَا
فِي الْحُرُوبِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهَا قُتِلَتْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ،
وَكَذَلِكَ قُتِلَتْ زَوْجَتُهُ غَزَالَةُ. وَكَانَتْ شَدِيدَةَ الْبَأْسِ
خَارِجِيَّةً، وَكَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ هَيْبَتِهِ يَخَافُ مِنْهَا أَشَدَّ
خَوْفٍ، حَتَّى قَالَ فِيهِ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ
الصَّافِرِ
هَلَّا بَرَزْتَ إِلَى غَزَالَةَ فِي الْوَغَى بَلْ كَانَ قَلْبُكَ فِي جَنَاحَيْ
طَائِرِ
قَالَ: وَقَدْ كَانَ شَبِيبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الصَّلْتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ
شَيْبَانَ الشَّيْبَانِيُّ - يَدَّعِي الْخِلَافَةَ، وَيَتَسَمَّى بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَهَرَهُ بِمَا قَهَرَهُ بِهِ
مِنَ الْغَرَقِ لَنَالَ الْخِلَافَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ
أَحَدٌ، وَإِنَّمَا قَهَرَهُ اللَّهُ عَلَى يَدَيِ الْحَجَّاجِ، لَمَّا أَرْسَلَ
إِلَيْهِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِعَسَاكِرَ لِقِتَالِهِ،
فَهَرَبَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَمَّا أَلْقَاهُ جَوَادُهُ عَلَى الْجِسْرِ فِي
نَهْرِ دُجَيْلٍ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَغَرَقًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟
قَالَ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ قَالَ: ثُمَّ أُخْرِجَ، وَحُمِلَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَمَرَ فَنُزِعَ
قَلْبُهُ مِنْ صَدْرِهِ، فَإِذَا هُوَ مِثْلُ الْحَجَرِ.
وَكَانَ شَبِيبٌ رَجُلًا طَوِيلًا أَشْمَطَ جَعْدَا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي
يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ، وَقَدْ أُمْسِكَ رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَحُمِلَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ:
أَلَسْتَ الْقَائِلَ:
فَإِنْ يَكُ مِنْكُمْ كَانَ مَرْوَانُ وَابْنُهُ وَعَمْرٌو وَمِنْكُمْ هَاشِمٌ، وَ
حَبِيبُ
فَمِنَّا حُصَيْنٌ، وَ الْبَطِينُ وَقَعْنَبٌ وَمِنَّا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
شَبِيبُ
فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ: وَمِنَّا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيبُ. فَأَعْجَبَهُ
اعْتِذَارُهُ وَأَطْلَقَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا بَيْنَ الْمُهَلَّبِ
بْنِ أَبِي صُفْرَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، وَبَيْنَ الْخَوَارِجِ مِنَ
الْأَزَارِقَةِ، وَأَمِيرِهِمْ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ، وَكَانَ أَيْضًا مِنَ
الْفُرْسَانِ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ تَفَرَّقَ
عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَنَفَرُوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَمَّا هُوَ فَشَرَدَ فِي
الْأَرْضِ لَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ مُنَاوَشَاتٌ
وَمُجَاوَلَاتٌ يَطُولُ بَسْطُهَا وَاسْتِقْصَاؤُهَا، وَقَدْ بَالَغَ ابْنُ
جَرِيرٍ فِي ذِكْرِهَا.
قَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ الَّذِي كَانَ نَائِبَ
خُرَاسَانَ، عَلَى
نَائِبِهَا أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ - كَمَا سَيَأْتِي - وَذَلِكَ أَنْ بُكَيْرًا
اسْتَجَاشَ عَلَيْهِ النَّاسَ، وَغَدَرَ بِهِ وَقَتَلَهُ، وَقَدْ جَرَتْ
بَيْنَهُمَا خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ، قَدِ اسْتَقْصَاهَا أَبُو جَعْفَرٍ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فِي تَارِيخِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ شَبِيبِ بْنِ يَزِيدَ الْخَارِجِيِّ -
كَمَا قَدَّمْنَا - وَقَدْ كَانَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْفُرُوسِيَّةِ عَلَى
جَانِبٍ كَبِيرٍ، لَمْ أَرَ بَعْدَ الصَّحَابَةِ مِثْلَهُ، وَمِثْلَ الْأَشْتَرِ
وَابْنِهُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَمِمَّنْ يُنَاطُ بِهَؤُلَاءِ فِي الشَّجَاعَةِ ; مِثْلَ قَطَرِيِّ بْنِ
الْفُجَاءَةِ مِنَ الْأَزَارِقَةِ الْخَوَارِجِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيُّ
كَانَ كَبِيرًا مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وَلَهُ بِالْمَدِينَةِ دَارٌ كَبِيرَةٌ
بِالْمُصَلَّى، وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ كَاتِبَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى
الرَّسَائِلِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ سِجِسْتَانَ، فَلَمَّا
سَارَ إِلَيْهَا قِيلَ لَهُ: إِنَّ شَبِيبًا فِي طَرِيقِكَ، وَقَدْ أَعْيَا
النَّاسَ،
فَاعْدِلْ إِلَيْهِ لَعَلَّكَ أَنْ
تَقْتُلَهُ، فَيَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ وَشُهْرَتُهُ لَكَ إِلَى الْأَبَدِ. فَلَمَّا
سَارَ لَقِيَهُ شَبِيبٌ فَاقْتَتَلَ مَعَهُ، فَقَتَلَهُ شَبِيبٌ، وَقِيلَ غَيْرُ
ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عِيَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْأَشْعَرِيُّ
شَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ،
تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُطَرِّفُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَقَدْ كَانُوا إِخْوَةً ; عُرْوَةُ، وَ مُطَرِّفٌ، وَ حَمْزَةُ، وَقَدْ كَانُوا
يَمِيلُونَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَاسْتَعْمَلَهُمِ الْحَجَّاجُ عَلَى
أَقَالِيمَ، فَاسْتَعْمَلَ عُرْوَةَ عَلَى الْكُوفَةِ، وَ مُطَرِّفًا عَلَى
الْمَدَائِنِ،، وَ حَمْزَةَ عَلَى هَمْدَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِبِلَادِ الرُّومِ،
فَفَتَحُوا إِرْقِيلِيَّةَ، فَلَمَّا رَجَعُوا أَصَابَهُمْ مَطَرٌ عَظِيمٌ
وَثَلْجٌ وَبَرَدٌ، فَأُصِيبَ بِسَبَبِهِ نَاسٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ غَزْوَ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ جَمِيعِهِ، فَسَارَ إِلَى طَنْجَةَ وَقَدَّمَ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ
طَارِقًا، فَقَتَلُوا مُلُوكَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَبَعْضُهُمْ قَطَعُوا أَنْفَهُ
وَنَفَوْهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِمْرَةِ
خُرَاسَانَ، وَأَضَافَهَا إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ مَعَ
سِجِسْتَانَ أَيْضًا، وَرَكِبَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ شَأْنِ شَبِيبٍ
مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى الْكَوْفَةِ
الْمُغِيرَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْحَضْرَمِيَّ، فَقَدِمَ
الْمُهَلَّبُ عَلَى الْحَجَّاجِ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ شَأْنِ
الْأَزَارِقَةِ أَيْضًا، فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَاسْتَدْعَى
بِأَصْحَابِ الْبَلَاءِ مِنْ جَيْشِهِ، فَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ الْمُهَلَّبُ
أَجْزَلَ الْحَجَّاجُ لَهُ الْعَطِيَّةَ، ثُمَّ وَلَّى الْحَجَّاجُ الْمُهَلَّبَ
إِمْرَةَ سِجِسْتَانَ، وَوَلَّى عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ إِمْرَةَ
خُرَاسَانَ، ثُمَّ نَاقَلَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ خُرُوجِهِمَا مِنْ عِنْدِهِ،
فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْمُهَلَّبِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَعَانَ
بِصَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ طَارِقٍ
الْعَبْشَمِيُّ، حَتَّى
أَشَارَ عَلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ،
فَأَجَابَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَلْزَمَ الْمُهَلَّبَ بِأَلْفِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ ; لِكَوْنِهِ اعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَكَانَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ، وَأَمِيرُ
الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَسِجِسْتَانَ وَتِلْكَ النَّوَاحِي كُلِّهَا
الْحَجَّاجَ، وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ الْمُهَلَّبَ بْنَ أَبِي صُفْرَةَ
وَنَائِبُهُ عَلَى سِجِسْتَانَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ
الثَّقَفِيَّ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ شُرَيْحٌ، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ
مُوسَى بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْأَنْصَارِيُّ السُّلَمِيُّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَشَهِدَ
الْعَقَبَةَ، وَأَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بَدْرًا فَمَنَعَهُ أَبُوهُ، وَخَلَّفَهُ
عَلَى أَخَوَاتِهِ وَإِخْوَتِهِ، وَكَانُوا تِسْعَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ ذَهَبَ
بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ. تُوُفِّيَ جَابِرٌ بِالْمَدِينَةِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعٌ
وَتِسْعُونَ سَنَةً، وَأَسْنَدَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ حَدِيثًا.
شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، أَبُو أُمَيَّةَ، الْكِنْدِيُّ
وَهُوَ قَاضِي الْكُوفَةِ، وَقَدْ
تَوَلَّى الْقَضَاءَ لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ
عَزَلَهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ وَلَّاهُ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ فِي الْقَضَاءِ،
إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ رِزْقُهُ عَلَى الْقَضَاءِ فِي
كُلِّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَكَانَ إِذَا
خَرَجَ إِلَى الْقَضَاءِ يَقُولُ: سَيَعْلَمُ الظَّالِمُ حَظَّ مَنْ نَقَصَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَا
دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى ( ص: 26 ) الْآيَةَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ
الظَّالِمَ يَنْتَظِرُ الْعِقَابَ، وَالْمَظْلُومَ يَنْتَظِرُ النَّصْرَ، أَوِ
الْمَثُوبَةَ. وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ ؟ فَقَالَ: كَيْفَ يُصْبِحُ حَالُ
مَنْ شَطْرُ النَّاسِ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ؟ وَقِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ قَاضِيًا
نَحْوَ سَبْعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتُعْفِيَ مِنَ الْقَضَاءِ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَصْلُهُ مِنْ أَوْلَادِ الْفَرَسِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْيَمَنِ، وَقَدِمَ
الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَتُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ، وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَثَمَانِ سِنِينَ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ
الْأَشْعَرِيُّ
نَزِيلُ فِلَسْطِينَ، وَقَدْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَقِيلَ:
إِنَّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَدْ بَعَثَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ ;
لِيُفَقِّهَ أَهْلَهَا فِي الدِّينِ، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الصَّالِحِينَ.
جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْأَزْدِيُّ
شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى غَزْوِ الْبَحْرِ لِمُعَاوِيَةَ،
وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالشَّجَاعَةِ وَالْخَيْرِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَقَدْ
قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
الْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ
كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ الْعُبَّادِ، مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ
الْخَوْفِ وَالْوَرَعِ، وَكَانَ يَعْتَزِلُ فِي بَيْتِهِ، وَلَا يُخَالِطُ
النَّاسَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، لَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى عَمِيَ، وَلَهُ
مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، تُوُفِّيَ بِالْبَصْرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
سُرَاقَةُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْأَزْدِيُّ
كَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، هَجَا الْحَجَّاجَ فَنَفَاهُ إِلَى
الشَّامِ، فَتُوُفِّيَ بِهَا.
النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ الشَّاعِرُ
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ الْكِنْدِيُّ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
سُفْيَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْأَسَدِيُّ
مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ الْبَصْرِيُّ
زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ
فَفِيهَا وَقَعَ طَاعُونٌ عَظِيمٌ بِالشَّامِ، حَتَّى كَادُوا يَفْنُونَ مَنْ
شِدَّتِهُ، وَلَمْ يَغْزُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ; لِضَعْفِهِمْ
وَقِلَّتِهِمْ، وَوَصَلَتِ الرُّومُ فِيهَا أَنْطَاكِيَّةَ، فَأَصَابُوا خَلْقًا
مِنْ أَهْلِهَا ; لِعِلْمِهِمْ بِضَعْفِ الْجُنُودِ وَالْمُقَاتِلَةِ.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ
حَتَّى أَوْغَلَ فِي بِلَادِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ
فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِيهَا قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَارِثَ بْنَ سَعِيدٍ
الْمُتَنَبِّئَ الْكَذَّابَ، وَيُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ، مَوْلَى أَبِي الْجُلَاسِ الْعَبْدَرِيِّ.
وَيُقَالُ: مَوْلَى الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ. كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْحُولَةِ،
فَنَزَلَ دِمَشْقَ، وَتَعَبَّدَ بِهَا، وَتَنَسَّكَ وَتَزَهَّدَ، ثُمَّ مُكِرَ
بِهِ، وَرَجَعَ الْقَهْقَرَى عَلَى عَقِبِهِ، وَانْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَفَارَقَ حِزْبَ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ، وَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ
فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَمْ يَزَلِ الشَّيْطَانُ يَزُخُّ فِي قَفَاهُ حَتَّى
أَخْسَرَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ، وَأَخْزَاهُ وَأَشْقَاهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
خَيْثَمَةَ: ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مُبَارَكٍ، ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ، قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ الْكَذَّابُ مِنْ أَهْلِ
دِمَشْقَ، وَكَانَ مَوْلًى لِأَبِي الْجُلَاسِ، وَكَانَ لَهُ أَبٌ بِالْحُولَةِ،
فَعَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ وَكَانَ رَجُلًا مُتَعَبِّدًا زَاهِدًا، لَوْ لَبِسَ
جُبَّةً مِنْ ذَهَبٍ لَرُئِيَتْ عَلَيْهِ الزَّهَادَةُ وَالْعِبَادَةُ، وَكَانَ
إِذَا أَخَذَ فِي التَّحْمِيدِ لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ مِثْلَ تَحْمِيدِهِ،
وَلَا أَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ، فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَكَانَ بِالْحُولَةِ:
يَا أَبَتَاهُ، أَعْجِلْ عَلَيَّ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَشْيَاءَ أَتَخَوَّفُ
أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَرَضَ لِي. قَالَ: فَزَادَهُ أَبُوهُ غَيًّا عَلَى
غَيِّهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، أَقْبِلْ عَلَى مَا أُمِرْتَ
بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وَلَسْتَ بِأَفَّاكٍ وَلَا
أَثِيمٍ، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ بِهِ. فَكَانَ يَجِيءُ إِلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ
رَجُلًا رَجُلًا فُيُذَاكِرُهُمْ أَمْرَهُ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ
وَالْمِيثَاقَ، إِنْ هُوَ يَرَى مَا يَرْضَى قَبِلَ وَإِلَّا كَتَمَ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَكَانَ يُرِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ ; كَانَ يَأْتِي إِلَى رُخَامَةٍ فِي
الْمَسْجِدِ، فَيَنْقُرُهَا بِيَدِهِ فَتُسَبِّحُ تَسْبِيحًا بَلِيغًا، حَتَّى
يَضِجَّ مِنْ ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ. قُلْتُ: وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا
الْعَلَّامَةَ أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَقُولُ: كَانَ
يَنْقُرُ هَذِهِ الرُّخَامَةَ الْحَمْرَاءَ الَّتِي فِي الْمَقْصُورَةِ
فَتُسَبِّحُ، وَكَانَ زِنْدِيقًا.
قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي
رِوَايَةٍ: وَكَانَ الْحَارِثُ يُطْعِمُهُمْ فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ،
وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ: اخْرُجُوا حَتَّى
أُرِيَكُمُ الْمَلَائِكَةَ. فَيَخْرُجُ بِهِمْ إِلَى دَيْرِ الْمُرَّانِ،
فَيُرِيهِمْ رِجَالًا عَلَى خَيْلٍ، فَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ،
وَفَشَا أَمَرُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَثُرَ أَصْحَابُهُ وَأَتْبَاعُهُ، حَتَّى
وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، قَالَ: فَعَرَضَ عَلَى
الْقَاسِمِ أَمْرَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ ; إِنْ هُوَ
رَضِيَ أَمْرًا قَبِلَهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ كَتَمَهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَقَالَ
لَهُ: إِنِّي نَبِيٌّ. فَقَالَ الْقَاسِمُ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، مَا
أَنْتَ نَبِيٌّ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَكِنَّكَ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ الدَّجَّالِينَ الَّذِينَ
أَخْبَرَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ، دَجَّالُونَ
كَذَّابُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنْتَ أَحَدُهُمْ وَلَا
عَهْدَ لَكَ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ إِلَى أَبِي إِدْرِيسَ - وَكَانَ عَلَى
الْقَضَاءِ بِدِمَشْقَ - فَأَعْلَمَهُ بِمَا سَمِعَ مِنَ الْحَارِثِ، فَقَالَ أَبُو
إِدْرِيسَ: نَعْرِفُهُ. ثُمَّ أَعْلَمَ أَبُو إِدْرِيسَ عَبْدَ الْمَلِكِ
بِذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَكْحُولًا، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي
زَكَرِيَّا دَخْلَا عَلَى الْحَارِثِ فَدَعَاهُمَا إِلَى نُبُوَّتِهِ،
فَكَذَّبَاهُ وَرَدَّا عَلَيْهِ مَا قَالَ، وَدَخَلَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
فَأَعْلَمَاهُ بِأَمْرِهِ، فَتَطَلَّبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ طَلَبًا حَثِيثًا،
وَاخْتَفَى الْحَارِثُ، وَصَارَ إِلَى دَارٍ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، يَدْعُو إِلَى
نَفْسِهِ سِرًّا، وَاهْتَمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِشَأْنِهِ، حَتَّى رَكِبَ إِلَى
الصِّنَّبْرَةِ فَنَزَلَهَا، فَوَرَدَ عَلَيْهِ هُنَاكَ رَجُلٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، مِمَّنْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْحَارِثِ
وَهُوَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَعْلَمَهُ بِأَمْرِهِ وَأَيْنَ هُوَ، وَسَأَلَ
مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْجُنْدِ
الْأَتْرَاكِ لِيَحْتَاطَ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ طَائِفَةً وَكَتَبَ إِلَى
نَائِبِ الْقُدْسِ ; لِيَكُونَ فِي طَاعَةِ هَذَا الرَّجُلِ، وَيَفْعَلَ مَا
يَأْمُرُهُ
بِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ الرَّجُلُ إِلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِمَنْ مَعَهُ انْتَدَبَ نَائِبَ الْقُدْسِ لِخِدْمَتِهِ،
فَأَمْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّمُوعِ، وَيَجْعَلُ مَعَ
كُلِّ رَجُلٍ شَمْعَةً، فَإِذَا أَمَرَهُمْ بِإِشْعَالِهَا فِي اللَّيْلِ
أَشْعَلُوهَا كُلُّهُمْ فِي سَائِرِ الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ، حَتَّى لَا يَخْفَى
أَمْرُهُ، وَذَهَبَ الرَّجُلُ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَ الدَّارَ الَّتِي فِيهَا
الْحَارِثُ، فَقَالَ لِبَوَّابِهِ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ.
فَقَالَ: فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَا يُؤْذَنُ عَلَيْهِ حَتَّى يُصْبِحَ. فَصَاحَ
الْبَصْرِيُّ: أَسْرِجُوا. فَأَسْرَجَ النَّاسُ شُمُوعَهُمْ حَتَّى صَارَ
اللَّيْلُ كَأَنَّهُ النَّهَارُ، وَهَجَمَ الْبَصْرِيُّ عَلَى الْحَارِثِ،
فَاخْتَفَى مِنْهُ فِي سِرْبٍ هُنَاكَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: هَيْهَاتَ،
تُرِيدُونَ أَنْ تَصِلُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ، إِنَّهُ قَدْ رُفِعَ إِلَى
السَّمَاءِ.
قَالَ: فَأَدْخَلَ الْبَصْرِيُّ يَدَهُ فِي ذَلِكَ السِّرْبِ فَإِذَا بِثَوْبِهِ،
فَاجْتَرَّهُ فَأَخْرَجَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْفَرْغَانِيِّينَ مِنْ أَتْرَاكِ
الْخَلِيفَةِ: تَسَلَّمُوا. قَالَ: فَأَخَذُوهُ فَرَبَطُوهُ فَقَيَّدُوهُ،
فَيُقَالُ: إِنَّ الْقُيُودَ وَالْجَامِعَةَ سَقَطَتْ مِنْ عُنُقِهِ مِرَارًا،
وَيُعِيدُونَهَا، وَجَعَلَ يَقْرَأُ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى
نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ
قَرِيبٌ [ سَبَأٍ: 50 ]، وَقَالَ لِأُولَئِكَ الْأَتْرَاكِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا
أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [ غَافِرٍ: 28 ] فَقَالُوا لَهُ بِلِسَانِهِمْ
وَلُغَتِهِمْ: هَذَا كُرَانُنَا فَهَاتِ كُرَانَكَ. أَيْ: هَذَا قُرْآنُنَا
فَهَاتِ قُرْآنَكَ. فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ أَمَرَ
بِصَلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ، وَأَمَرَ رَجُلًا فَطَعَنَهُ بِحَرْبَةٍ، فَانْثَنَتْ
فِي ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَيْحَكَ،
أَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ حِينَ طَعَنْتَهُ ؟ فَقَالَ: نَسِيتُ. فَقَالَ:
وَيْحَكَ، سَمِّ اللَّهَ، ثُمَّ اطْعَنْهُ. قَالَ: فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ
طَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ
حَبَسَهُ قَبْلَ صَلْبِهِ، وَأَمَرَ
رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ أَنْ يَعِظُوهُ وَيُعْلِمُوهُ أَنَّ هَذَا
الَّذِي بِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ، فَصَلَبَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ الْعَدْلِ وَالدِّينِ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، فَحَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ
عُتْبَةَ الْأَعْوَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ زِيَادٍ الْعَدَوِيَّ
يَقُولُ: مَا غَبَطْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بِشَيْءٍ مِنْ وِلَايَتِهِ إِلَّا
بِقَتْلِهِ حَارِثًا ; حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجَّالُونَ
كَذَّابُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَمَنْ قَالَهُ فَاقْتُلُوهُ،
وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا فَلَهُ الْجَنَّةُ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: بَلَغَنِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ قَالَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: لَوْ حَضَرْتُكَ مَا أَمَرْتُكَ
بِقَتْلِهِ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بِهِ الْمَذْهَبُ،
فَلَوْ جَوَّعَتَهُ لَذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ الْوَلِيدُ، عَنِ الْمُنْذِرِ
بْنِ نَافِعٍ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ اللَّجْلَاجِ يَقُولُ لِغَيْلَانَ: وَيْحَكَ
يَا غَيْلَانُ، أَلَمْ يَأْخُذْكَ فِي شَبِيبَتِكَ تُرَامِي النِّسَاءَ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ بِالتُّفَّاحِ، ثُمَّ صِرْتَ حَارِثِيًّا يَحْجُبُ امْرَأَتَهُ،
وَيَزْعُمُ أَنَّهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَحَوَّلْتَ فَصِرْتَ قَدَرِيًّا
زِنْدِيقًا.
وَفِيهَا غَزَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ رُتْبِيلَ - مَلِكَ
التُّرْكِ الْأَعْظَمَ فِيهِمْ - وَقَدْ كَانَ يُصَانِعُ الْمُسْلِمِينَ تَارَةً،
وَيَتَمَرَّدُ أُخْرَى، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرَةَ أَنْ نَاجِزْهُ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَسْتَبِيحَ أَرْضَهُ، وَتَهْدِمَ قِلَاعَهُ، وَتَقْتُلَ مُقَاتِلَتَهُ. فَخَرَجَ فِي جَمْعٍ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ بِلَادِهِ، وَخَلْقٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَ رُتْبِيلَ - مَلِكِ التُّرْكِ - فَكَسَرَهُ، وَهَدَمَ أَرْكَانَهُ بِسَطْوَةٍ بِتَّارَةٍ، وَجَاسَ ابْنُ أَبِي بَكْرَةَ وَجُنْدُهُ خِلَالَ دِيَارِهِمْ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَقَالِيمِهِ وَمُدُنِهِ وَأَمْصَارِهِ، وَتَبَّرَ مَا هُنَالِكَ تَتْبِيرًا، ثُمَّ إِنَّ رُتْبِيلَ تَقَهْقَرَ مِنْهُ مُنْشَمِرًا، وَمَا زَالَ يَتْبَعُهُ حَتَّى اقْتَرَبَ مِنْ مَدِينَتِهِ الْعُظْمَى، حَتَّى كَانُوا مِنْهَا عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، وَخَافَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْهُمْ خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ إِنَّ التُّرْكَ أَخَذَتْ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ وَالشِّعَابَ، وَضَيَّقُوا عَلَيْهِمُ الْمَسَالِكَ، حَتَّى ظَنَّ كُلٌّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا مَحَالَةَ هَالِكٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَنْ يُصَالِحَ رُتْبِيلَ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَفْتَحُوا لِلْمُسْلِمِينَ طَرِيقًا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، وَيَرْجِعُونَ عَنْهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَانْتَدَبَ شُرَيْحَ بْنَ هَانِئٍ الْحَارِثِيَّ - وَكَانَ صَحَابِيًّا، وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَصْحَابِ عَلَيٍّ، وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ - فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى الْقِتَالِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَالنِّزَالِ وَالْجِلَادِ بِالسُّيُوفِ وَالرِّمَاحِ وَالنِّبَالِ، فَنَهَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَأَجَابَهُ شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ الشُّجْعَانِ وَأَهْلِ الْحَفَائِظِ، فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ بِهِمِ التَّرْكَ حَتَّى فَنِيَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. قَالُوا: وَجَعَلَ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ يَرْتَجِزُ، وَيَقُولُ:
أَصْبَحْتُ ذَا بَثٍّ أُقَاسِيَ
الْكِبَرَا قَدْ عِشْتُ بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ أَعْصُرَا ثُمَّتَ أَدْرَكْتُ
النَّبِيَّ الْمُنْذِرَا
وَبَعْدَهُ صِدِّيقَهُ وَعُمَرَا وَيَوْمَ مِهْرَانَ وَيَوْمَ تُسْتَرَا
وَالْجَمْعَ فِي صِفِّينِهِمْ وَالنَّهَرَا هَيْهَاتَ مَا أَطْوَلَ هَذَا عُمُرَا
ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقُتِلَ مَعَهُ خَلْقٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ، ثُمَّ خَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنَ النَّاسِ صُحْبَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي بَكْرَةَ مِنْ أَرْضِ رُتْبِيلَ، وَهُمْ قَلِيلٌ، وَبَلَغَ ذَلِكَ
الْحَجَّاجَ فَأَخْذَهُ مَا تَقَدَّمَ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَيَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْثِ جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى
بِلَادِ رُتْبِيلَ ; لِيَنْتَقِمُوا مِنْهُ بِسَبَبِ مَا حَلَّ بِالْمُسْلِمِينَ
فِي بِلَادِهِ، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى
الْحَجَّاجِ بِالْمُوَافَقَةِ عَلَى مَا رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ،
وَأَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ سَرِيعًا، فَحِينَ وَصَلَ الْبَرِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ
بِذَلِكَ أَخَذَ فِي جَمْعِ الْجُيُوشِ، فَجَهَّزَ جَيْشًا كَثِيفًا لِذَلِكَ،
عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَهَا. وَقِيلَ:
إِنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ ثَلَاثُونَ
أَلْفًا، وَابْتِيعَ الرَّغِيفُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ بِدِينَارٍ، وَقَاسَوْا
شَدَائِدَ، وَمَاتَ بِسَبَبِ الْجُوعِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَقَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ
التُّرْكِ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا، قَتَلُوا أَضْعَافَهَمْ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَعْفَى شُرَيْحٌ مِنَ الْقَضَاءِ
فَأَعْفَاهُ الْحَجَّاجُ مِنْ ذَلِكَ، وَوَلَّى مَكَانَهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ
تَرْجَمَةُ شُرَيْحٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ
فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ:
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ أَمِيرُ
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ التَّمِيمِيُّ، أَبُو
نَعَامَةَ الْخَارِجِيُّ، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشَاهِيرِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ مَكَثَ عِشْرِينَ سَنَةً يُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ بِالْخِلَافَةِ،
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ وَحُرُوبٌ مَعَ جَيْشِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي
صُفْرَةَ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا طَرَفًا
صَالِحًا فِي أَمَاكِنِهِ.
وَكَانَ خُرُوجُهُ فِي زَمَنِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَتَغَلَّبَ عَلَى
قِلَاعٍ كَثِيرَةٍ وَأَقَالِيمَ وَغَيْرِهَا، وَوَقَائِعُهُ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ
أَرْسَلَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ جُيُوشًا كَثِيرَةً فَهَزَمَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهُ
بَرَزَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ الْحَرُورِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ
أَعْجَفَ، وَبِيَدِهِ عَمُودُ حَدِيدٍ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ كَشَفَ قَطَرِيٌّ
عَنْ وَجْهِهِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ قَطَرِيٌّ: إِلَى
أَيْنَ ؟ أَمَا تَسْتَحِي أَنْ تَفِرَّ وَلَمْ تَرَ طَعْنًا وَلَا ضَرْبًا ؟
فَقَالَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَفِرَّ مِنْ مِثْلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ
الْكَلْبِيُّ فِي جَيْشٍ، فَاقْتَتَلُوا بِطَبَرِسْتَانَ، فَعَثَرَ بِقَطَرِيٍّ
فَرَسُهُ فَوَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَكَاثَرُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ،
وَحَمَلُوا رَأْسَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ. وَقِيلَ: إِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ سَوْدَةُ
بْنُ الْحُرِّ الدَّارِمِيُّ.
وَكَانَ قَطَرِيُّ بْنُ الْفُجَاءَةِ -
مَعَ شَجَاعَتِهِ الْمُفَرِطَةِ وَإِقْدَامِهِ - مِنْ خُطَبَاءَ الْعَرَبِ الْمَشْهُورِينَ
بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَجَوْدَةِ الْكَلَامِ، وَالشِّعْرِ الْحَسَنِ،
فَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ يُشَجِّعُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ، وَمَنْ
سَمِعَهَا انْتَفَعَ بِهَا:
أَقُولُ لَهَا وَقَدْ طَارَتْ شَعَاعًا مِنَ الْأَبْطَالِ وَيْحَكِ لَنْ تُرَاعِي
فَإِنَّكِ لَوْ سَأَلْتِ بَقَاءَ يَوْمٍ عَلَى الْأَجَلِ الَّذِي لَكَ لِمَ
تُطَاعِي
فَصَبْرًا فِي مَجَالِ الْمَوْتِ صَبْرًا فَمَا نَيْلُ الْخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ
وَلَا ثَوْبُ الْحَيَاةِ بِثَوْبِ عِزٍّ فَيُطْوَى عَنْ أَخِي الْخَنَعِ
الْيَرَاعِ
سَبِيلُ الْمَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيٍّ وَدَاعِيهِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ دَاعِي
وَمَنْ لَا يَغْتَبِطْ يَسْأَمْ وَيَهْرَمْ وَتُسْلِمْهُ الْمَنُونُ إِلَى
انْقِطَاعِ
وَمَا لِلْمَرْءِ خَيْرٌ فِي حَيَاةٍ إِذَا مَا عُدَّ مِنْ سَقَطِ الْمَتَاعِ
ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْحَمَاسَةِ، وَاسْتَحْسَنَهَا ابْنُ خَلِّكَانَ فِي
تَارِيخِهِ كَثِيرًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
وَهُوَ أَمِيرُ الْجَيْشِ الَّذِي دَخَلَ بِلَادَ التُّرْكِ، وَقَاتَلُوا
رُتْبِيلَ - مَلِكَ التُّرْكِ - وَقَدْ قُتِلَ مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مَعَ
شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
وَقَدْ دَخَلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَلَى الْحَجَّاجِ مَرَّةً،
وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: كَمْ خَتَمْتَ بِخَاتَمِكَ هَذَا
؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ. قَالَ: فَفِيمَ أَنْفَقْتَهَا
؟ قَالَ: فِي اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَرَدِّ الْمَلْهُوفِ، وَالْمُكَافَأَةِ
بِالصَّنَائِعِ، وَتَزْوِيجِ الْعَقَائِلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ عَطَشَ يَوْمًا
فَأَخْرَجَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كُوزَ
مَاءٍ بَارِدٍ، فَأَعْطَاهَا ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقِيلَ: إِنَّهُ أُهْدِيَ
إِلَيْهِ وَصَيْفٌ وَوَصِيفَةٌ، وَهُوَ جَالِسٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ
لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: خُذْهُمَا لَكَ. ثُمَّ فَكَّرَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ، إِنَّ
إِيثَارَ بَعْضِ الْجُلَسَاءِ عَلَى بَعْضٍ لَشُحٌّ قَبِيحٌ، وَدَنَاءَةٌ
رَدِيئَةٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا غُلَامُ، ادْفَعْ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ
جُلَسَائِي وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً. فَأُحْصِيَ ذَلِكَ فَكَانُوا ثَمَانِينَ
وَصَيْفًا وَوَصِيفَةً.
تُوُفِّيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ بِبُسْتَ. وَقِيلَ: بِذَرِيحَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا كَانَ السَّيْلُ الْجُحَافُ بِمَكَّةَ ; لِأَنَّهُ حَجَفَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ مَرَّ بِهِ، وَحَمَلَ الْحُجَّاجَ مِنْ بَطْنِ مَكَّةَ وَالْجِمَالَ بِمَا
عَلَيْهَا، وَالرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُنْقِذَهُمْ
مِنْهُ، وَبَلَغَ الْمَاءُ إِلَى الْحَجُونِ وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ:
إِنَّهُ ارْتَفَعَ حَتَّى كَادَ أَنْ يُغَطِّيَ الْبَيْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِالْبَصْرَةِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ الطَّاعُونُ الْجَارِفُ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَشْهُورُ
أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا قَطَعَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ نَهْرَ بَلْخَ، وَأَقَامَ
بِكَشَّ سَنَتَيْنِ صَابِرًا مُصَابِرًا لِلْأَعْدَاءِ مِنَ الْأَتْرَاكِ،
وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ هُنَاكَ فُصُولٌ يُطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي
غُبُونِ هَذِهِ الْمُدَّةِ كِتَابُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِخَلْعِهِ الْحَجَّاجَ،
فَبَعَثَهُ الْمُهَلَّبُ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ حَتَّى قَرَأَهُ، ثُمَّ
كَانَ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ حُرُوبِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ الْحَجَّاجُ الْجُيُوشَ مِنَ الْبَصْرَةِ
وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمَا ; لِقِتَالِ
رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ ;
لِيَقْتَصُّوا مِنْهُ مَا كَانَ مِنْ قَتْلِ جَيْشِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرَةَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَجَهَّزَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ كُلٍّ
مِنَ الْمِصْرَيْنِ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأَمَّرَ عَلَى الْجَمِيعِ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْحَجَّاجُ
يُبْغِضُهُ جِدًّا، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ قَطُّ إِلَّا
هَمَمْتُ بِقَتْلِهِ.
وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا عَلَى الْحَجَّاجِ وَعِنْدَهُ عَامِرٌ
الشَّعْبِيُّ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلَى مِشْيَتِهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ
أَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَأَسَرَّهَا الشَّعْبِيُّ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَالَ
ابْنُ الْأَشْعَثِ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَأَجْهَدَنَّ أَنْ أُزِيلَهُ عَنْ
سُلْطَانِهِ إِنْ طَالَ بِي وَبِهِ الْبَقَاءُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَخْذَ فِي اسْتِعْرَاضِ هَذِهِ الْجُيُوشِ،
وَبَذَلِ فِيهِمُ الْعَطَاءَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ رَأْيُهُ فِيمَنْ يُؤَمِّرُ
عَلَيْهِمْ، ثُمَّ وَقَعَ اخْتِيَارُهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَدَّمَهُ عَلَيْهِمْ، فَأَتَى عَمُّهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ
الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لِلْحَجَّاجِ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ تُؤَمِّرَهُ فَلَا يَرَى
لَكَ طَاعَةً إِذَا جَاوَزَ جِسْرَ الْفُرَاتِ. فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ هُنَالِكَ،
هُوَ لِي أَهْيَبُ، وَمِنِّي أَرْهَبُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرِي، أَوْ يَخْرُجَ عَنْ
طَاعَتِي، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ، فَسَارَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِالْجُيُوشِ نَحْوَ
أَرْضِ رُتْبِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ رُتْبِيلَ مَجِيءُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
بِالْجُنُودِ إِلَيْهِ كَتَبَ إِلَيْهِ رُتْبِيلَ يَعْتَذِرُ مِمَّا أَصَابَ
الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ
لِذَلِكَ كَارِهًا،
وَأَنَّهُمْ أَلْجَئُوهُ إِلَى
قِتَالِهِمْ، وَسَأَلَ مِنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَنْ يُصَالِحَهُ، وَأَنْ يَبْذُلَ
لِلْمُسْلِمِينَ الْخَرَاجَ، فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى ذَلِكَ،
وَصَمَّمَ عَلَى دُخُولِ بِلَادِهِ، وَجَمَعَ رُتْبِيلُ جُنُودَهُ، وَتَهَيَّأَ
لَهُ وَلِحَرْبِهِ، وَجَعَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ كَلَّمَا دَخَلَ بَلَدًا أَوْ
مَدِينَةً، أَوْ أَخَذَ قَلْعَةً مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا
نَائِبًا مِنْ جِهَتِهِ، وَجَعَلَ مَعَهُ مَنْ يَحْفَظُهَا، وَجَعَلَ الْمَسَالِحَ
عَلَى كُلِّ أَرْضٍ وَمَكَانٍ مَخُوفٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى بِلَادٍ وَمُدُنٍ
كَثِيرَةٍ مِنْ بِلَادِ رُتْبِيلَ، وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً جَزِيلَةً، وَسَبَى
خَلْقًا كَثِيرَةً، ثُمَّ حَبَسَ النَّاسَ عَنِ التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ
رُتْبِيلَ حَتَّى يُصْلِحُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَتَقَوَّوْا
بِمَا فِيهَا مِنَ الْمُغَلَّاتِ وَالْحَوَاصِلِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُوا فِي
الْعَامِ الْمُقْبِلِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ، فَلَا يَزَالُونَ يُجَوِّزُونَ
الْأَرَاضِيَ وَالْأَقَالِيمَ حَتَّى يُحَاصِرُوهُمْ فِي مَدِينَتِهِمْ -
مَدِينَةِ الْعُظَمَاءِ - عَلَى الْكُنُوزِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَّارِي حَتَّى
يَغْنَمُوهَا، ثُمَّ يَقْتُلُونَ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَعَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ،
وَكَانَ هَذَا هُوَ الرَّأْيُ.
وَكَتَبَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْحَجَّاجِ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ
الْفَتْحِ، وَمَا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ، وَبِهَذَا الرَّأْيِ الَّذِي رَآهُ
لَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْحَجَّاجُ قَدْ وَجَّهَ هِمْيَانَ بْنَ
عَدِيٍّ السَّدُوسِيَّ إِلَى كَرْمَانَ مَسْلَحَةً لِأَهْلِهَا ; لِيَمُدَّ
عَامِلَ سِجِسْتَانَ وَالسِّنْدِ إِنِ احْتَاجَا إِلَى ذَلِكَ، فَعَصَى هِمْيَانُ
وَمَنْ مَعَهُ، فَوَجَّهَ الْحَجَّاجُ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ، فَهَزَمَهُ
وَأَقَامَ بِمَنْ مَعَهُ.
وَمَاتَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرَةَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِإِمْرَةِ سِجِسْتَانَ
مَكَانَ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَجَهَّزَ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ جَيْشًا
أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ سِوَى أُعْطِيَاتِهِمْ، وَكَانَ يُدْعَى هَذَا
الْجَيْشُ جَيْشَ الطَّوَاوِيسِ، وَأَمَرَهُ بِالْإِقْدَامِ عَلَى رُتْبِيلَ،
فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَعَهُ مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: بَلْ حَجَّ بِهِمْ سُلَيْمَانُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ. وَكَانَ عَلَى الصَّائِفَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَلِيدُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَعَلَى الْمَدِينَةِ أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَعَلَى
الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بُرْدَةَ
بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى قَضَاءِ الْبَصْرَةِ مُوسَى بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:
وَهُوَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَسْلَمَ، أَصْلُهُ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التَّمْرِ،
اشْتَرَاهُ عُمَرُ بِمَكَّةَ لَمَّا حَجَّ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَ
وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ عِدَّةَ
أَحَادِيثَ، وَرَوَى عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَيْضًا، وَلَهُ مَنَاقِبُ
كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْحَضْرَمِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ
أَهْلِ الشَّامِ، وَكَانَ مَشْهُورًا
بِالْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ، تُوُفِّيَ بِالشَّامِ وَعُمْرُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ
سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرُ، وَقِيلَ أَقَلُّ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:
وُلِدَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَهُوَ آخِرُ
مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
وَفَاةً، سَكَنَ الْمَدِينَةَ، وَلَمَّا اسْتُشْهِدَ أَبُوهُ جَعْفَرٌ بِمُؤْتَةَ
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّهِمْ فَقَالَ:
ائْتُونِي بِبَنِي أَخِي. فَأُتِيَ بِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَفْرُخٌ، فَدَعَا
بِالْحَلَّاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا
فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللَّهِ فِي صَفْقَتِهِ فَجَاءَتْ أُمُّهُمْ
فَذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ
شَيْءٌ، فَقَالَ: أَنَا لَهُمْ عِوَضًا مِنْ أَبِيهِمْ. وَقَدْبَايَعَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، وَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُمْرُهُمَا سَبْعُ سِنِينَ، وَهَذَا لَمْ يَتَّفِقْ
لِغَيْرِهِمَا.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ مِنْ أَسْخَى النَّاسِ، يُعْطِي الْجَزِيلَ
الْكَثِيرَ وَيَسْتَقِلُّهُ، وَقَدْ تَصَدَّقَ مَرَّةً بِأَلْفَيْ أَلْفٍ،
وَأَعْطَى مَرَّةً رَجُلًا سِتِّينَ أَلْفًا، وَمَرَّةً أَعْطَى رَجُلًا
أَرْبَعَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: إِنَّ رَجُلًا جَلَبَ مَرَّةً سُكَّرًا
إِلَى الْمَدِينَةِ فَكَسَدَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَشْتَرِهِ أَحَدٌ، فَأَمَرَ ابْنُ
جَعْفَرٍ قَيِّمَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ، وَأَنْ يَهَبَهُ لِلنَّاسِ. وَقِيلَ: إِنَّ
مُعَاوِيَةَ لَمَّا حَجَّ وَنَزَلَ الْمَدِينَةَ فِي دَارِ مَرْوَانَ قَالَ
يَوْمًا لِحَاجِبِهِ: انْظُرْ هَلْ تَرَى بِالْبَابِ الْحَسَنَ أَوِ الْحُسَيْنَ
أَوِ ابْنَ جَعْفَرٍ أَوْ فُلَانًا - وَعَدَّ جَمَاعَةً - فَخَرَجَ فَلَمْ يَرَ
أَحَدًا، فَقِيلَ لَهُ: هُمْ
مُجْتَمِعُونَ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ يَتَغَدَّوْنَ. فَأَتَى
مُعَاوِيَةَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: مَا أَنَا إِلَّا كَأَحَدِهِمْ. ثُمَّ أَخَذَ
عَصًا فَتَوَكَّأَ عَلَيْهَا، ثُمَّ أَتَى بَابَ ابْنِ جَعْفَرٍ، فَاسْتَأْذَنَ
عَلَيْهِ، وَدَخَلَ فَأَجْلَسَهُ فِي صَدْرِ فِرَاشِهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:
أَيْنَ غَدَاؤُكَ يَا ابْنَ جَعْفَرٍ ؟ فَقَالَ: وَمَا تَشْتَهِي مِنْ شَيْءٍ
فَادْعُ بِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَطْعِمْنَا مُخًّا. فَقَالَ: يَا غُلَامُ
هَاتِ مُخًّا. فَجَاءَ بِصَحْفَةٍ فَأَكَلَ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ
جَعْفَرٍ لِغُلَامِهِ: هَاتِ مُخًّا. فَجَاءَ بِصَحْفَةٍ أُخْرَى مَلْآنَةً
مُخًّا، إِلَى أَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَتَعَجَّبَ مُعَاوِيَةُ
وَقَالَ: يَا ابْنَ جَعْفَرٍ مَا يَسَعُكَ إِلَّا الْكَثِيرُ مِنَ الْعَطَاءِ.
فَلَمَّا خَرَجَ مُعَاوِيَةُ أَمَرَ لَهُ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَكَانَ
ابْنُ جَعْفَرٍ صَدِيقًا لِمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ يَفِدُ عَلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ
فَيُعْطِيهِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيَقْضِي لَهُ مِائَةَ حَاجَةٍ، وَلَمَّا
حَضَرَتْ مُعَاوِيَةَ الْوَفَاةُ أَوْصَى ابْنَهُ يَزِيدَ بِهِ. فَلَمَّا قَدِمَ
ابْنُ جَعْفَرٍ عَلَى يَزِيدَ قَالَ لَهُ: كَمْ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
يُعْطِيكَ كُلَّ سَنَةٍ ؟ قَالَ: أَلْفَ أَلْفٍ. فَقَالَ لَهُ: قَدْ
أَضَعَفْنَاهَا لَكَ. وَكَانَ يُعْطِيهِ أَلْفَيْ أَلْفٍ كُلَّ سَنَةٍ، فَقَالَ
لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا قُلْتُهَا
لِأَحَدٍ قَبْلَكَ، وَلَا أَقُولُهَا لِأَحَدٍ بَعْدَكَ. فَقَالَ يَزِيدُ: وَلَا أَعْطَاكَهَا
أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يُعْطِيكَهَا أَحَدٌ بَعْدِي.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ عِنْدَ ابْنِ جَعْفَرٍ جَارِيَةٌ تُغَنِّيهِ تُسَمَّى
عِمَارَةَ، وَكَانَ يُحِبُّهَا مَحَبَّةً عَظِيمَةً، فَحَضَرَ عِنْدَهُ يَزِيدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ يَوْمًا، فَغَنَّتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا يَزِيدُ
افْتُتِنَ بِهَا وَلَمْ يَجْسُرْ عَلَى
ابْنِ جَعْفَرٍ أَنْ يَطْلُبَهَا مِنْهُ، خَوْفًا أَنْ يَمْنَعَهُ إِيَّاهَا،
فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِ يَزِيدَ مِنْهَا حَتَّى مَاتَ أَبُوهُ مُعَاوِيَةُ،
فَبَعَثَ يَزِيدُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ تِجَارَةً،
وَأَمَرَهُ أَنَّ يَتَلَطَّفَ فِي أَمْرِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقَدِمَ الرَّجُلُ
الْمَدِينَةَ، وَنَزَلَ جِوَارَ ابْنِ جَعْفَرٍ، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا
وَتُحَفًا كَثِيرَةً، وَأَنِسَ بِهِ، وَلَا زَالَ حَتَّى أَخَذَ الْجَارِيَةَ،
وَأَتَى بِهَا يَزِيدَ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَذُمُّ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ جَعْفَرٍ عَلَى سَمَاعِهِ الْغِنَاءَ وَاللَّهْوِ، وَشِرَائِهِ
الْمُوَلَّدَاتِ، وَيَقُولُ: أَمَا يَكْفِيهِ هَذَا الْأَمْرُ الْقَبِيحُ الَّذِي
هُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا ؟ حَتَّى زَوَّجَ
الْحَجَّاجَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ
الْحَجَّاجُ يَقُولُ: إِنَّمَا تَزَوَّجْتُهَا لِأَذِلَّ بِهَا آلَ أَبِي طَالِبٍ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا. وَقَدْ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَيْهِ
أَنْ يُطَلِّقَهَا فَطَلَّقَهَا. أَسْنَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ثَلَاثَةَ
عَشَرَ حَدِيثًا
. أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ
اسْمُهُ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، لَهُ أَحْوَالٌ وَمَنَاقِبُ، كَانَ
يَقُولُ: قَلْبٌ نَقِيٌّ فِي ثِيَابٍ دَنِسَةٍ خَيْرٌ مِنْ قَلْبٍ دَنِسٍ فِي
ثِيَابٍ نَقِيَّةٍ. وَقَدْ تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِدِمَشْقَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
تَرْجَمَتَهُ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ ".
مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ الْقَدَرِيُّ
يُقَالُ: إِنَّهُ مَعْبَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ رَاوِي
حَدِيثِ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ
الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي نَسَبِهِ. سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَشَهِدَ يَوْمَ التَّحْكِيمِ، وَسَأَلَ أَبَا مُوسَى فِي
ذَلِكَ، وَوَصَّاهُ، ثُمَّ اجْتَمَعَ بِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَوَصَّاهُ فِي
ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: إِيهًا يَا تَيْسَ جُهَيْنَةَ، مَا أَنْتَ مِنْ أَهْلِ
السِّرِّ وَلَا الْعَلَانِيَةِ، وَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُكَ الْحَقُّ وَلَا
يَضُرُّكُ الْبَاطِلُ. وَهَذَا تَوَسُّمٌ فِيهِ مِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ;
وَلِهَذَا كَانَ هُوَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
أَخَذَ ذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ مِنَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ:
سَوْسَنُ. وَأَخَذَ غَيْلَانُ الْقَدَرَ مِنْ مَعْبَدٍ.
وَقَدْ كَانَتْ لِمَعْبَدٍ عِبَادَةٌ، وَفِيهِ زَهَادَةٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ
مَعِينٍ وَغَيْرُهُ فِي حَدِيثِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِيَّاكُمْ وَمَعْبَدًا ; فَإِنَّهُ ضَالٌّ
مُضِلٌّ. وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَعَاقَبَهُ الْحَجَّاجُ
عُقُوبَةً عَظِيمَةً بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، ثُمَّ قَتَلَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ
بْنُ عُفَيْرٍ: بَلْ صَلَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فِي سَنَةِ
ثَمَانِينَ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ قَتَلَهُ. وَقَالَ
خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: مَاتَ قَبْلَ التِّسْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا: فَتَحَ عَبِيدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ مَدِينَةَ
قَالِيقَلَا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، وَفِيهَا
قُتِلَ بُكَيْرُ بْنُ وِشَاحٍ ; قَتَلَهُ بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ،
وَكَانَ بُكَيْرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ الشُّجْعَانِ، ثُمَّ ثَارَ لَبُكَيْرِ بْنِ
وِشَاحٍ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ يُقَالُ لَهُ: صَعْصَعَةُ بْنُ حَرْبٍ الْعَوْفِيُّ
الصُّرَيْمِيُّ. فَقَتَلَ بُحَيْرَ بْنَ وَرْقَاءَ الَّذِي قَتَلَ بُكَيْرًا ;
طَعْنُهُ بِخِنْجَرٍ، وَهُوَ جَالِسٌ عِنْدَ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ،
فَحُمِلَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَبَعَثَ الْمُهْلَّبُ
بِصَعْصَعَةَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ قَالَ:
ضَعُوا رَأْسَهُ عِنْدَ رِجْلِي. فَوَضَعُوهُ، فَطَعَنَهُ بَحِيرٌ بِحَرْبَتِهِ
حَتَّى قَتَلَهُ، وَمَاتَ عَلَى إِثْرِهِ. وَقَدْ قَالَ لَهُ أَنَسُ بْنُ طَارِقٍ:
اعْفُ عَنْهُ، فَقَدْ قَتَلْتَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ،
لَا أَمُوتُ وَهَذَا حَيٌّ. ثُمَّ قَتَلَهُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ إِنَّمَا
قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فِتْنَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: كَانَ ابْتِدَاؤُهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ
الْوَاقِدِيُّ: فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ
سَاقَهَا ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَوَافَقْنَاهُ فِي ذَلِكَ.
وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ كَانَ الْحَجَّاجُ
يُبْغِضُهُ، وَكَانَ هُوَ يَفْهَمُ ذَلِكَ، وَيُضْمِرُ لَهُ السُّوءَ وَزَوَالَ الْمُلْكِ
عَنْهُ، فَلَمَّا أَمَّرَهُ الْحَجَّاجُ عَلَى ذَلِكَ الْجَيْشِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهُ، وَأَمَرَهُ بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَمَضَى
وَصَنَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَخْذِهِ بَعْضَ بِلَادِ التُّرْكِ، ثُمَّ رَأَى
لِأَصْحَابِهِ أَنْ يُقِيمُوا حَتَّى يَتَقَوَّوْا إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ،
فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ يَسْتَهْجِنُ
رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ، وَيَسْتَضْعِفُ عَقْلَهُ، وَيَقْرَعُهُ بِالْجُبْنِ
وَالنُّكُولِ عَنِ الْحَرْبِ، وَيَأْمُرُهُ حَتْمًا بِدُخُولِ بِلَادِ رُتْبِيلَ،
ثُمَّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ ثَانٍ ثُمَّ ثَالِثٍ، فَلَمَّا تَوَارَدَتْ
كُتُبُ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ يَحُثُّهُ عَلَى التَّوَغُّلِ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ،
جَمَعَ مَنْ مَعَهُ، وَقَامَ فِيهِمْ، فَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ رَأَى مِنَ
الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا كَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْأَمْرِ
بِمُعَاجَلَةِ رُتْبِيلَ، فَثَارَ
إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: لَا،
بَلْ نَأْبَى عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ، وَلَا نَسْمَعُ لَهُ وَلَا
نُطِيعُ. قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ: فَحَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَامِرِ بْنِ
وَاثِلَةَ الْكِنَانِيُّ، أَنَّ أَبَاهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ،
وَكَانَ شَاعِرًا خَطِيبًا، وَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْحَجَّاجِ فِي
هَذَا الرَّأْيِ وَمَثَلَنَا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ لِأَخِيهِ: احْمِلْ عَبْدَكَ
عَلَى الْفَرَسِ، فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ، وَإِنْ نَجَا فَلَكَ. إِنَّكُمْ إِنْ
ظَفِرْتُمْ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي سُلْطَانِهِ، وَإِنْ هَلَكْتُمْ كُنْتُمُ
الْأَعْدَاءَ الْبُغَضَاءُ. ثُمَّ قَالَ: اخْلَعُوا عَدُوَّ اللَّهِ الْحَجَّاجَ -
وَلَمْ يَذْكُرْ خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَبَايِعُوا لِأَمِيرِكُمْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ، فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوَّلُ خَالِعٍ
لِلْحَجَّاجِ. فَقَالَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ: خَلَعْنَا عَدُوَّ اللَّهِ.
وَوَثَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَشْعَثِ فَبَايَعُوهُ عِوَضًا عَنِ
الْحَجَّاجِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا خَلْعَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَبَعَثَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رُتْبِيلَ، فَصَالَحَهُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ
ظَفِرَ بِالْحَجَّاجِ فَلَا خَرَاجَ عَلَى رُتْبِيلَ أَبَدًا، ثُمَّ سَارَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ بِالْجُنُودِ الَّذِينَ مَعَهُ مُقْبِلًا مِنْ سِجِسْتَانَ إِلَى
الْحَجَّاجِ ; لِيُقَاتِلَهُ وَيَأْخُذَ مِنْهُ الْعِرَاقَ، ثُمَّ لَمَّا
تَوَسَّطُوا الطَّرِيقَ قَالُوا: إِنَّ خَلْعَنَا لِلْحَجَّاجِ خَلْعٌ لِابْنِ
مَرْوَانَ. فَخَلَعُوهُمَا جَمِيعًا، وَجَدَّدُوا الْبَيْعَةَ لِابْنِ
الْأَشْعَثِ، فَبَايَعَهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسِنَةِ رَسُولِهِ، وَخَلْعِ
أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ وَجِهَادِ الْمُحِلِّينَ. فَإِذَا قَالُوا: نَعَمْ.
بَايَعَهُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا صَنَعُوا مِنْ خَلْعِهِ وَخَلْعِ
ابْنِ مَرْوَانَ، كَتَبَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، وَيَسْتَعْجِلُهُ فِي بَعْثِهِ الْجُنُودَ
إِلَيْهِ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ الْبَصْرَةَ، وَبَلَغَ الْمُهَلَّبَ
خَبَرُ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَدْعُوهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَبَى
عَلَيْهِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى
ابْنِ الْأَشْعَثِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ يَا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ وَضَعْتَ
رَجْلَكَ فِي رِكَابٍ طَوِيلٍ، أَبْقِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهَ اللَّهَ، انْظُرْ لِنَفْسِكَ فَلَا تُهْلِكْهَا،
وَدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تَسْفِكْهَا، وَالْجَمَاعَةِ فَلَا تُفَرِّقْهَا،
وَالْبَيْعَةِ فَلَا تَنْكُثْهَا، فَإِنْ قُلْتَ: أَخَافُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِي،
فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخَافَهُ مِنَ النَّاسِ، فَلَا تُعَرِّضْهَا لِلَّهِ فِي
سَفْكِ الدِّمَاءِ، أَوِ اسْتِحْلَالِ مُحَرَّمٍ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
وَكَتَبَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْحَجَّاجِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَهْلَ
الْعِرَاقِ قَدْ أَقْبَلُوا إِلَيْكَ مِثْلَ السَّيْلِ الْمُنْحَدِرِ مِنْ عَلِ،
لَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى قَرَارِهِ، وَإِنَّ لِأَهْلِ
الْعِرَاقِ شِرَّةً فِي أَوَّلِ مَخْرَجِهِمْ وَصَبَابَةً إِلَى أَبْنَائِهِمْ
وَنِسَائِهِمْ، فَلَيْسَ شَيْءٌ يَرُدُّهُمْ حَتَّى يَصِلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَيَشَمُّوا
أَوْلَادَهُمْ، ثُمَّ وَاقِعْهُمْ عِنْدَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكَ
عَلَيْهِمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَلَمَّا قَرَأَ الْحَجَّاجُ كِتَابَهُ
قَالَ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ، لَا وَاللَّهِ مَا لِي نَظَرَ، وَلَكِنْ
لِابْنِ عَمِّهِ نَصَحَ. وَلَمَّا وَقَعَ كِتَابُ الْحَجَّاجِ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ هَالَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَبَعَثَ إِلَى خَالِدِ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، فَأَقْرَأَهُ كِتَابَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ هَذَا الْحَدَثُ مِنْ قِبَلِ خُرَاسَانَ
فَخَفْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ سِجِسْتَانَ فَلَا تَخَفْهُ.
ثُمَّ أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي تَجْهِيزِ الْجُنُودِ مِنَ الشَّامِ إِلَى
الْعِرَاقِ فِي نُصْرَةِ الْحَجَّاجِ، وَتَجْهِيزِ الْحَجَّاجِ لِلْخُرُوجِ إِلَى
ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَعَصَى رَأْيَ الْمُهَلَّبِ فِيمَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ،
وَكَانَ فِيهِ النُّصْحُ وَالصِّدْقُ، وَجُعِلَتْ كُتُبُ الْحَجَّاجِ لَا
تَنْقَطِعُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بِخَبَرِ ابْنِ الْأَشْعَثِ صَبَاحًا وَمَسَاءً
; أَيْنَ نَزَلَ ؟ وَمِنْ أَيْنَ ارْتَحَلَ ؟ وَأَيُّ النَّاسِ إِلَيْهِ أَسْرَعُ
؟ وَجَعَلَ النَّاسُ يَلْتَفُّونَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ،
حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ سَارَ مَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ فَارِسٍ،
وَمِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ رَاجِلٍ، وَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فِي جُنُودِ الشَّامِ
مِنَ الْبَصْرَةِ نَحْوَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَنَزَلَ تُسْتَرَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ
يَدَيْهِ مُطَهِّرَ بْنَ حَيٍّ الْعَكِّيَّ أَمِيرًا عَلَى الْمُقَدِّمَةِ،
وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زُمَيْتٍ أَمِيرًا آخَرَ، فَانْتَهَوْا إِلَى
دُجَيْلٍ، فَإِذَا مُقَدِّمَةُ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ
عَلَيْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبَانٍ الْحَارِثِيُّ، فَالْتَقَوْا فِي يَوْمِ
الْأَضْحَى عِنْدَ نَهْرِ دُجَيْلٍ، فَهُزِمَتْ مُقَدِّمَةُ الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ
أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، نَحْوَ أَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ،
وَاحْتَازُوا مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ
مِنْ خُيُولٍ وَقُمَاشٍ وَأَمْوَالٍ، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ
بِهَزِيمَةِ أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُ مَا دَبَّ وَدَرَجَ، وَقَدْ كَانَ قَائِمًا
يَخْطُبُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، ارْجِعُوا إِلَى الْبَصْرَةِ، فَإِنَّهُ
أَرْفَقُ بِالْجُنْدِ، فَرَجَعَ بِالنَّاسِ، وَاتَّبَعَتْهُمْ خُيُولُ ابْنِ
الْأَشْعَثِ لَا يُدْرِكُونَ مِنْهُمْ شَاذًّا إِلَّا قَتَلُوهُ، وَلَا فَاذًّا
إِلَّا أَهْلَكُوهُ، وَمَضَى الْحَجَّاجُ هَارِبًا لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ،
حَتَّى أَتَى الزَّاوِيَةَ، فَعَسْكَرَ عِنْدَهَا، وَجَعَلَ يَقُولُ: لِلَّهِ
دَرُّ الْمُهَلَّبِ ! أَيُّ صَاحِبِ حَرْبٍ هُوَ ؟ ! قَدْ أَشَارَ عَلَيْنَا
بِالرَّأْيِ، وَلَكِنَّا لَمْ نَقْبَلْ.
وَأَنْفَقَ الْحَجَّاجُ عَلَى جَيْشِهِ - وَهُوَ بِهَذَا الْمَكَانِ - مِائَةً
وَخَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَخَنْدَقَ حَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا،
وَجَاءَ أَهْلُ الْعِرَاقِ فَدَخَلُوا الْبَصْرَةَ، وَاجْتَمَعُوا بِأَهَالِيهِمْ
وَشَمُّوا أَوْلَادَهُمْ، وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ الْبَصْرَةَ، فَخَطَبَ
النَّاسَ بِهَا، وَبَايَعَهُمْ وَبَايَعُوهُ عَلَى خَلْعِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَنَائِبِهِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَقَالَ لَهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ: لَيْسَ
الْحَجَّاجُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنِ اذْهَبُوا بِنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ
لِنُقَاتِلَهُ. وَوَافَقَهُ عَلَى خَلْعِهِمَا جَمِيعُ مَنْ بِالْبَصْرَةِ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالشُّيُوخِ وَالشَّبَابِ، ثُمَّ أَمَرَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ بِخَنْدَقٍ حَوْلَ الْبَصْرَةِ فَعَمِلَ ذَلِكَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي
أَوَاخِرِ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِيمَا ذَكَرَهُ
الْوَاقِدِيُّ وَأَبُو
مَعْشَرٍ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِيهَا غَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَمِيرُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ جِهَةِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، فَافْتَتَحَ مُدُنًا كَثِيرَةً،
وَأَرَاضِيَ عَامِرَةً، وَأَوْغَلَ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ إِلَى أَنْ وَصَلَ
إِلَى الزُّقَاقِ الْمُنْبَثِقِ مِنَ الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ الْمُحِيطِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُحَيْرُ بْنُ وَرْقَاءَ الصُّرَيْمِيُّ الْبَصْرِيُّ
أَحَدُ الْأَشْرَافِ بِخُرَاسَانَ، وَالْقُوَّادِ وَالْأُمَرَاءِ، وَهُوَ الَّذِي
حَارَبَ ابْنَ خَازِمٍ وَقَتَلَهُ، وَقَتَلَ بُكَيْرَ بْنَ وِشَاحٍ.
ثُمَّ قُتِلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
سُوِيدُ بْنُ غَفْلَةَ بْنِ عَوْسَجَةَ بْنِ عَامِرٍ
أَبُو أُمَيَّةَ الْجَعَفِيُّ الْكُوفِيُّ، شَهِدَ الْيَرْمُوكَ، وَحَدَّثَ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُخَضْرَمِينَ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى مَعَهُ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ عَامَ وُلِدَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ بَعْدَهُ
بِسَنَتَيْنِ. وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَمْ يُرَ يَوْمًا مُحْتَبِيًا
وَلَا مُتَسَانِدًا، وَافْتَضَّ بِكْرًا عَامَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ
كَانَ مِنَ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ وَصَايَا وَكَلِمَاتٌ
حِسَانٌ، وَقَدْ رَوَى عِدَّةَ أَحَادِيثَ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَعَنْهُ خَلْقٌ
مِنَ التَّابِعِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ: أَبُو الْقَاسِمِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً سَوْدَاءَ سِنْدِيَّةً مِنْ
سَبْيِ بَنِي حَنِيفَةَ، اسْمُهَا خَوْلَةُ.
وُلِدَ مُحَمَّدٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَوَفَدَ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَعَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدْ صَرَعَ مَرْوَانَ
يَوْمَ الْجَمَلِ، وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَنَاشَدَهُ
مَرْوَانُ بِاللَّهِ، وَتَذَلَّلَ لَهُ فَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا وَفَدَ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ ذَكَّرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: عَفْوًا يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. فَعَفَا عَنْهُ، وَأَجْزَلَ لَهُ الْجَائِزَةَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيٍّ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، وَمِنَ الشُّجْعَانِ الْمَشْهُورِينَ،
وَمِنَ الْأَقْوِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَلَمَّا بُويِعَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ
لَمْ يُبَايِعْهُ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا شَرٌّ عَظِيمٌ، حَتَّى هَمَّ ابْنُ
الزُّبَيْرِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ
الزُّبَيْرِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَبَايَعَهُ ابْنُ عُمَرَ،
تَابَعَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبِلَهَا، أَوْ فِي الَّتِي بَعْدَهَا. وَدُفِنَ
بِالْبَقِيعِ، وَالرَّافِضَةُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بِجَبَلِ رَضْوَى، وَأَنَّهُ
حَيٌّ يُرْزَقُ، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ، وَقَدْ قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ فِي
ذَلِكَ:
أَلَا إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ وُلَاةُ الْحَقِّ أَرْبَعَةٌ سَوَاءُ
عَلَيٌّ وَالثَّلَاثَةُ مِنْ بَنِيهِ
هُمُ الْأَسْبَاطُ لَيْسَ بِهِمْ خَفَاءُ فَسِبْطٌ سِبْطُ إِيمَانٍ وَبِرٍّ
وَسِبْطٌ غَيَّبَتْهُ كَرْبُلَاءُ
وَسِبْطٌ لَا تَرَاهُ الْعَيْنُ حَتَّى
يَقُودَ الْخَيْلَ يَقْدُمُهَا لِوَاءُ تَغَيَّبَ لَا يُرَى عَنْهُمْ زَمَانًا
بِرَضْوَى عِنْدَهُ عَسَلٌ وَمَاءُ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
كَانَتْ شِيعَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وَفِيهِ يَقُولُ السَّيِّدُ:
أَلَا قُلْ لِلْوَصِيِّ فَدَتْكَ نَفْسِي أَطَلْتَ بِذَلِكَ الْجَبَلِ الْمُقَامَا
أَضَرَّ بِمَعْشَرٍ وَالَوْكَ مِنَّا وَسَمَّوْكَ الْخَلِيفَةَ وَالْإِمَامَا
وَعَادَوْا فِيكَ أَهْلَ الْأَرْضِ طُرًّا مَقَامُكَ عَنْهُمُ سِتِّينَ عَامَا
وَمَا ذَاقَ ابْنُ خَوْلَةَ طَعْمَ مَوْتٍ وَلَا وَارَتْ لَهُ أَرْضٌ عِظَامَا
لَقَدْ أَمْسَى بِمُورِقِ شِعْبِ رَضْوَى تُرَاجِعُهُ الْمَلَائِكَةُ الْكَلَامَا
وَإِنَّ لَهُ بِهِ لَمَقِيلَ صِدْقٍ وَأَنْدِيَةً تُحَدِّثُهُ كِرَامَا
هَدَانَا اللَّهُ إِذْ حُزْتُمْ لِأَمْرٍ بِهِ وَعَلَيْهِ نَلْتَمِسُ الْتَمَامَا
تَمَامَ مَوَدَّةِ الْمَهْدِيِّ حَتَّى تَرَوْا رَايَاتِهِ تَتْرَى نِظَامَا
وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنَ الرَّافِضَةِ إِلَى إِمَامَتِهِ، وَأَنَّهُ
يُنْتَظَرُ خُرُوجُهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، كَمَا يَنْتَظِرُ طَائِفَةٌ أُخْرَى
مِنْهُمُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيَّ، الَّذِي يَخْرُجُ فِي زَعْمِهِمْ
مِنْ سِرْدَابِ سَامَرَّا، وَهَذَا مِنْ خُرَافَاتِهِمْ وَهَذَيَانِهِمْ
وَجَهْلِهِمْ وَضَلَالِهِمْ وَبُهْتَانِهِمْ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ وُضُوحًا فِي
مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ
فَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الزَّاوِيَةِ بَيْنَ ابْنِ
الْأَشْعَثِ وَالْحَجَّاجِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ أَوَّلُ يَوْمٍ لِأَهْلِ
الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ، ثُمَّ تَوَاقَعُوا يَوْمًا آخَرَ، فَحَمَلَ
سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - أَحَدُ أُمَرَاءِ أَهْلِ الشَّامِ - عَلَى
مَيْمَنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَهَزَمَهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ
الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَخَرَّ
الْحَجَّاجُ لِلَّهِ سَاجِدًا بَعْدَمَا كَانَ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَسَلَّ
شَيْئًا مِنْ سَيْفِهِ، وَجَعَلَ يَتَرَحَّمُ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ
وَيَقُولُ: مَا كَانَ أَكْرَمَهُ حِينَ صَبَرَ نَفْسَهُ لِلْقَتْلِ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَبُو
الطُّفَيْلِ بْنُ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ. وَلَمَّا فَرَّ أَصْحَابُ
ابْنِ الْأَشْعَثِ رَجَعَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ، وَمَنِ
اتَّبَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ الْكُوفَةَ، فَعَمَدَ
أَهْلُ الْبَصْرَةِ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَبَايَعُوهُ، فَقَاتَلَ الْحَجَّاجَ خَمْسَ
لَيَالٍ أَشَدَّ الْقِتَالِ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَحِقَ بِابْنِ الْأَشْعَثِ،
وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَنَابَ الْحَجَّاجُ عَلَى
الْبَصْرَةِ أَيُّوبَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلٍ،
وَدَخَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ
الْكُوفَةَ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا عَلَى خَلْعِ الْحَجَّاجِ وَعَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ مَرْوَانَ، وَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ، وَكَثُرَ مُتَابِعُو ابْنِ الْأَشْعَثِ
عَلَى ذَلِكَ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَتَفَرَّقَتِ الْكَلِمَةُ جِدًّا، وَعَظُمَ
الْخَطْبُ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا الْتَقَى جَيْشُ الْحَجَّاجِ وَجَيْشُ ابْنِ
الْأَشْعَثِ بِالزَّاوِيَةِ، جَعَلَ جَيْشُ الْحَجَّاجِ يَحْمِلُ عَلَيْهِمْ
مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَقَالَ الْقُرَّاءُ - وَكَانَ عَلَيْهِمْ جَبَلَةُ بْنُ
زَحْرٍ -: أَيُّهَا النَّاسُ، لَيْسَ الْفِرَارُ مِنْ أَحَدٍ بِأَقْبَحَ مِنْهُ
مِنْكُمْ، فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ نَحْوَ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَاتِلُوهُمْ عَلَى جَوْرِهِمْ،
وَاسْتِذْلَالِهِمُ الضُّعَفَاءَ، وَإِمَاتَتِهِمُ الصَّلَاةَ. ثُمَّ حَمَلَتِ
الْقُرَّاءُ - وَهُمُ الْعُلَمَاءُ - عَلَى جَيْشِ الْحَجَّاجِ حَمْلَةً
صَادِقَةً، فَبَدَّعُوا فِيهِمْ، ثُمَّ رَجَعُوا فَإِذَا هُمْ بِمُقَدَّمِهِمْ
جَبَلَةُ بْنُ زَحْرٍ صَرِيعًا، فَهَدَّهُمْ ذَلِكَ، فَنَادَاهُمْ جَيْشُ
الْحَجَّاجِ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ، قَدْ قَتَلْنَا طَاغِيَتَكُمْ. ثُمَّ حَمَلَ
سُفْيَانُ بْنُ الْأَبْرَدِ - وَهُوَ عَلَى خَيْلِ الْحَجَّاجِ - عَلَى مَيْسَرَةِ
ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَعَلَيْهَا الْأَبْرَدُ بْنُ قُرَّةَ التَّمِيمِيُّ -
فَانْهَزَمُوا، وَلَمْ يُقَاتِلُوا كَثِيرَ قِتَالٍ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ
ذَلِكَ، وَكَانَ أَمِيرُ مَيْسَرَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ - الْأَبْرَدُ - شُجَاعًا
لَا يَفِرُّ، وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ خَامَرَ، فَنُقِضَتِ الصُّفُوفُ، وَرَكِبَ
النَّاسُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ، فَلَمَّا رَأَى مَا النَّاسُ
فِيهِ أَخَذَ مَنِ اتَّبَعَهُ وَذَهَبَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُهَا.
ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَمَّا قَصَدَ الْكُوفَةَ خَرَجَ إِلَيْهِ
أَهْلُهَا، فَتَلَقَّوْهُ، وَحَفَوْا بِهِ، وَدَخَلُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، غَيْرَ
أَنَّ شِرْذِمَةً قَلِيلَةً أَرَادَتْ أَنْ تُقَاتِلَهُ دُونَ مَطَرِ بْنِ
نَاجِيَةَ نَائِبِ الْحَجَّاجِ، فَلَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَعَدَلُوا
إِلَى الْقَصْرِ، فَلَمَّا وَصَلَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى الْكُوفَةِ أَمَرَ
بِالسَّلَالِيمِ فَنُصِبَتْ عَلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ، فَأَخَذَهُ، وَاسْتَنْزَلَ
مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ، وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَبْقِنِي; فَإِنِّي
خَيْرٌ مِنْ فُرْسَانِكَ. فَحَبَسَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ فَأَطْلَقَهُ
وَبَايَعَهُ، وَاسْتَوْثَقَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ أَمْرُ الْكُوفَةِ، وَانْضَمَّ
إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ مِمَّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَأَمَرَ بِالْمَسَالِحِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَحُفِظَتِ الثُّغُورُ وَالطُّرُقُ
وَالْمَسَالِكُ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ رَكِبَ فَيْمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الشَّامِيَّةِ
مِنَ الْبَصْرَةِ فِي الْبَرِّ، حَتَّى مَرَّ بَيْنَ الْقَادِسِيَّةِ
وَالْعُذَيْبِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ ابْنُ الْأَشْعَثِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
الْعَبَّاسِ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَصْرَيْنِ، فَمَنَعُوا الْحَجَّاجَ
مِنْ نُزُولِ الْقَادِسِيَّةِ، فَسَارَ الْحَجَّاجُ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ قُرَّةَ،
وَجَاءَ ابْنُ الْأَشْعَثِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ الْبَصْرِيَّةِ
وَالْكُوفِيَّةِ حَتَّى نَزَلَ دَيْرَ الْجَمَاجِمِ، وَمَعَهُ جُنُودٌ كَثِيرَةٌ،
وَفِيهِمُ الْقُرَّاءُ مِنَ الْمِصْرَيْنِ، وَخَلْقٌ مِنَ
الصَّالِحِينَ، وَكَانَ الْحَجَّاجُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ ابْنَ الْأَشْعَثِ، أَمَا كَانَ يَزْجُرُ الطَّيْرَ حَيْثُ رَآنِي قَدْ نَزَلْتُ دَيْرَ قُرَّةَ، وَنَزَلَ هُوَ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ. وَكَانَ جُمْلَةُ مَنِ اجْتَمَعَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِائَةُ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مِمَّنْ يَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَمَعَهُمْ مِثْلُهُمْ مِنْ مَوَالِيهِمْ، وَقَدِمَ عَلَى الْحَجَّاجِ فِي غُبُونِ ذَلِكَ أَمْدَادٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الشَّامِ، وَخَنْدَقَ كُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَحَوْلَ جَيْشِهِ خَنْدَقًا، يُمْتَنَعُ بِهِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّ النَّاسَ كَانَ يَبْرُزُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَقْتَتِلُونَ قِتَالًا شَدِيدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْ رُءُوسِ النَّاسِ خَلْقٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَةِ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَقَالُوا لَهُ: إِنْ كَانَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يُرْضِيهِمْ مِنْكَ أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمُ الْحَجَّاجَ فَهُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِتَالِهِمْ وَسَفْكِ دِمَائِهِمْ، فَاسْتَحْضَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ، وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَمَعَهُمَا جُنُودٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقُولُ لَهُمْ: إِنْ كَانَ يُرْضِيكُمْ مِنِّي عَزْلُ الْحَجَّاجِ عَنْكُمْ عَزَلْتُهُ، وَأَبْقَيْتُ عَلَيْكُمْ أُعْطِيَّاتِكُمْ مِثْلَ أَهْلِ الشَّامِ، وَلْيَخْتَرِ ابْنُ الْأَشْعَثِ أَيَّ بَلَدٍ شَاءَ يَكُونُ عَلَيْهِ أَمِيرًا مَا عَاشَ وَعِشْتُ، وَتَكُونُ إِمْرَةُ الْعِرَاقِ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ. وَقَالَ فِي عَهْدِهِ هَذَا: فَإِنْ لَمْ يُجِبْ أَهْلُ الْعِرَاقِ إِلَى ذَلِكَ فَالْحَجَّاجُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ إِمْرَةُ الْحَرْبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي طَاعَتِهِ وَتَحْتَ أَمْرِهِ، لَا يَخْرُجُونَ
عَنْ رَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ
وَغَيْرِهِ.
وَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ مَا كَتَبَ بِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى أَهْلِ
الْعِرَاقِ مِنْ عَزْلِهِ إِنْ رَضُوا بِهِ، شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَشَقَّةً
عَظِيمَةً جِدًّا، وَعَظُمَ شَأْنُ هَذَا الرَّأْيِ عِنْدَهُ، وَكَتَبَ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَئِنْ أَعْطَيْتَ
أَهْلَ الْعِرَاقِ نَزْعِي عَنْهُمْ لَا يَلْبَثُونَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى
يُخَالِفُوكَ وَيَسِيرُوا إِلَيْكَ، وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إِلَّا جُرْأَةً
عَلَيْكَ، أَلَمْ تَرَ وَتَسْمَعْ بِوُثُوبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ الْأَشْتَرِ
النَّخَعِيِّ عَلَى ابْنِ عَفَّانَ فَلَمَّا سَأَلَهُمْ: مَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا:
نَزْعَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، فَلَمَّا نَزَعَهُ لَمْ تَتِمَّ لَهُمُ السَّنَةُ
حَتَّى سَارُوا إِلَيْهِ فَقَتَلُوهُ؟ وَإِنَّ الْحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلَحُ،
كَانَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا ارْتَأَيْتَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ.
قَالَ: فَأَبَى عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَّا عَرْضَ هَذِهِ الْخِصَالِ عَلَى أَهْلِ
الْعِرَاقِ كَمَا أَمَرَ، فَتَقَدَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٌ، فَنَادَى
عَبْدُ اللَّهِ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَإِنَّهُ يَعْرِضُ
عَلَيْكُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَذَكَرَ مَا كَتَبَ بِهِ أَبُوهُ مَعَهُ إِلَيْهِمْ
مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ: وَأَنَا رَسُولُ أَخِي
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكُمْ بِذَلِكَ. فَقَالُوا: نَنْظُرُ فِي أَمْرِنَا
غَدًا، وَنَرُدُّ عَلَيْكُمُ الْخَبَرَ عَشِيَّةً، ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَاجْتَمَعَ
جَمِيعُ الْأُمَرَاءِ إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا،
وَنَدَبَهُمْ إِلَى قَبُولِ مَا عَرَضَ
عَلَيْهِمْ مِنْ عَزْلِ الْحَجَّاجِ عَنْهُمْ، وَبَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَإِبْقَاءِ الْأُعْطِيَّاتِ، وَإِمْرَةِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى
الْعِرَاقِ بَدَلَ الْحَجَّاجِ. فَنَفَرَ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَالُوا:
لَا وَاللَّهِ لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ; نَحْنُ أَكْثَرُ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَهُمْ
فِي ضِيقٍ مِنَ الْحَالِ، وَقَدْ حَكَّمْنَا عَلَيْهِمْ وَذَلُّوا لَنَا،
وَاللَّهِ لَا نُجِيبُ إِلَى ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ جَدَّدُوا خَلْعَ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ثَانِيَةً، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ كُلُّهُمْ.
فَلَمَّا بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ وَعَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ
مَرْوَانَ الْخَبَرُ قَالَا لِلْحَجَّاجِ: شَأْنُكَ بِهِمْ إِذًا، فَنَحْنُ فِي
طَاعَتِكَ كَمَا أَمَرَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَكَانَا إِذَا لَقِيَاهُ
سَلَّمَا عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، وَيُسَلِّمُ هُوَ أَيْضًا عَلَيْهِمْ
بِالْإِمْرَةِ، وَتَوَلَّى الْحَجَّاجُ أَمْرَ الْحَرْبِ وَتَدْبِيرَهَا، كَمَا كَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَرَزَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْقِتَالِ
وَالْحَرْبِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى مَيْمَنَتِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
سُلَيْمَانَ الْكَلْبِيَّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ عُمَارَةَ بْنَ تَمِيمٍ
اللَّخْمِيَّ، وَعَلَى الْخَيْلِ سُفْيَانَ بْنَ الْأَبْرَدِ، وَعَلَى
الرَّجَّالَةِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَبِيبٍ الْحَكَمِيَّ، وَجَعَلَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ عَلَى مَيْمَنَتِهِ الْحَجَّاجَ بْنَ حَارِثَةَ الْخَثْعَمِيَّ،
وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْأَبْرَدَ بْنَ قُرَّةَ التَّمِيمِيَّ، وَعَلَى الْخَيَّالَةِ
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَعَلَى الرَّجَّالَةِ
مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍّ الزُّهْرِيَّ، وَعَلَى الْقُرَّاءِ
جَبَلَةَ بْنَ زَحْرِ بْنِ قَيْسٍ الْجُعْفِيَّ، وَكَانَ فِي الْقُرَّاءِ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى،
وَكُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ - وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا عَلَى
كِبَرِ سِنِّهِ - وَأَبُو
الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَجَعَلُوا يَقْتَتِلُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ تَأْتِيهِمُ
الْمِيرَةُ مِنَ الرَّسَاتِيقِ وَالْأَقَالِيمِ، مِنَ الْعَلَفِ وَالطَّعَامِ
وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ الَّذِينَ مَعَ الْحَجَّاجِ فَفِي ضِيقٍ
مِنَ الْعَيْشِ، وَقِلَّةٍ مِنَ الطَّعَامِ، وَقَدْ فَقَدُوا اللَّحْمَ
بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَجِدُونَهُ، وَمَا زَالَتِ الْحَرْبُ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ كُلِّهَا، حَتَّى انْسَلَخَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَهُمْ عَلَى حَالِهِمْ
وَقِتَالِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَوْ يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ، وَالدَّائِرَةُ
لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ الشَّامِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ، وَقَدْ
قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَجَّاجِ زِيَادُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَسَرَ بِسْطَامُ بْنُ
مِصْقَلَةَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ جُفُونَ سُيُوفِهِمْ، وَاسْتَقْتَلُوا،
وَكَانُوا مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَتْ وَفَاةُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ
وَهُوَ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ ظَالِمٌ، أَبُو سَعِيدٍ الْأَزْدِيُّ،
أَحَدُ أَشْرَافِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَوُجُوهِهِمْ وَدُهَاتِهِمْ
وَأَجْوَادِهِمْ وَكُرَمَائِهِمْ، وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ، وَكَانُوا يَنْزِلُونَ
فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ، وَقَدِ ارْتَدَّ قَوْمُهُ فَقَاتَلَهُمْ
عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَظَفِرَ بِهِمْ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى
الصِّدِّيقِ، وَفِيهِمْ أَبُو
صُفْرَةَ، وَابْنُهُ الْمُهَلَّبُ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، ثُمَّ نَزَلَ
الْمُهَلَّبُ الْبَصْرَةَ وَقَدْ غَزَا فِي أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ أَرْضَ الْهِنْدِ
سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، وَوَلِيَ الْجَزِيرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ
ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، ثُمَّ وَلِيَ حَرْبَ الْخَوَارِجِ أَوَّلَ دَوْلَةِ
الْحَجَّاجِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ فِي وَقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ
وَثَمَانَمِائَةٍ، فَعَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحَجَّاجِ. وَكَانَ فَاضِلًا
شُجَاعًا كَرِيمًا، يُحِبُّ الْمَدْحَ، وَلَهُ كَلَامٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ: نِعْمَ
الْخَصْلَةُ السَّخَاءُ، تَسْتُرُ عَوْرَةَ الشَّرِيفِ، وَتَلْحَقُ خَسِيسَةَ
الْوَضِيعِ، وَتُحَبِّبُ الْمَزْهُودَ فِيهِ. وَقَالَ: يُعْجِبُنِي فِي الرَّجُلِ
خَصْلَتَانِ: أَنْ أَرَى عَقْلَهُ زَائِدًا عَلَى لِسَانِهِ، وَلَا أَرَى
لِسَانَهُ زَائِدًا عَلَى عَقْلِهِ.
تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ غَازِيًا بِمَرْوِ الرُّوذِ، وَعُمْرُهُ سِتَّةٌ
وَسَبْعُونَ سَنَةً رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ لَهُ عَشْرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ
وَهُمْ: يَزِيدُ، وَزِيَادٌ، وَالْمُفَضَّلُ، وَمُدْرِكٌ، وَحَبِيبٌ،
وَالْمُغِيرَةُ، وَقَبِيصَةُ، وَمُحَمَّدٌ، وَهِنْدٌ، وَفَاطِمَةُ.
تُوُفِّيَ الْمُهَلَّبُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنَ الشُّجْعَانِ،
وَلَهُ مَوَاقِفُ حَمِيدَةٌ، وَغَزَوَاتٌ مَشْهُورَةٌ فِي التُّرْكِ
وَالْأَزَارِقَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَوَارِجِ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ
مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ،
فَأَمْضَى لَهُ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا عَزَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَنْ
إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ أَبَانَ بْنَ
عُثْمَانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيَّ،
وَكَانَتْ وِلَايَةُ أَبَانٍ عَلَى الْمَدِينَةِ سَبْعَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَكَانَ عَلَى إِمْرَةِ بِلَادِ الْمَشْرِقِ
بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ، وَالنُّوَّابُ فِي الْأَقَالِيمِ مِنْ تَحْتِ
يَدِهِ، وَهُوَ مَشْغُولٌ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ بِحَرْبِ ابْنِ الْأَشْعَثِ
فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ كُلِّهَا.
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبَانُ بْنُ
عُثْمَانَ الَّذِي كَانَ نَائِبَ الْمَدِينَةِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَسْمَاءُ بْنُ خَارِجَةَ الْفَزَارِيُّ الْكُوفِيُّ
كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى يَوْمًا شَابًّا عَلَى
بَابِ دَارِهِ جَالِسًا، فَسَأَلَهُ عَنْ قُعُودِهِ عَلَى بَابِهِ، فَقَالَ:
حَاجَةٌ لَا أَسْتَطِيعُ ذِكْرَهَا. فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: جَارِيَةٌ
رَأَيْتُهَا دَخَلَتْ هَذِهِ الدَّارَ لَمْ أَرَ أَحْسَنَ مِنْهَا، وَقَدْ
خَطَفَتْ قَلْبِي مَعَهَا، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، وَأَدْخَلَهُ دَارَهُ، وَعَرَضَ
عَلَيْهِ كُلَّ جَارِيَةٍ عِنْدَهُ، حَتَّى مَرَّتْ تِلْكَ الْجَارِيَةُ، فَقَالَ:
هَذِهِ. فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ فَاجْلِسْ عَلَى الْبَابِ مَكَانَكَ. فَخَرَجَ
الشَّابُّ فَجَلَسَ مَكَانَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ
وَالْجَارِيَةُ مَعَهُ، قَدْ أَلْبَسَهَا أَنْوَاعَ الْحُلِيِّ، وَقَالَ لَهُ: مَا
مَنَعَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَيْكَ وَأَنْتَ دَاخِلَ الدَّارِ إِلَّا أَنَّ
الْجَارِيَةَ كَانَتْ لِأُخْتِي، وَكَانَتْ ضَنِينَةً بِهَا، فَاشْتَرَيْتُهَا
لَكَ مِنْهَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَأَلْبَسْتُهَا هَذَا الْحُلِيَّ، فَهِيَ لَكَ
بِمَا عَلَيْهَا، فَأَخَذَهَا الشَّابُّ وَانْصَرَفَ.
الْمُغِيرَةُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ
أَبِي صُفْرَةَ
كَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا شُجَاعًا، لَهُ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ.
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِقُبَاعٍ، وَلِيَ إِمْرَةَ الْبَصْرَةِ لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
كَانَ مِنْ فُضَلَاءِ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ وَأَعْقَلِهِمْ، تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ، وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ
وَالِدُ الْفَقِيهِ إِسْحَاقَ، حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ أُمُّ سُلَيْمٍ لَيْلَةَ
مَاتَ ابْنُهَا، فَأَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ فَأَعْلَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعَرَسْتُمْ؟
بَارَكَ اللَّهُ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا وَلَمَّا وُلِدَ حَنَّكَهُ
بِتَمَرَاتٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، لَهُ رِوَايَاتٌ، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ
هَذِهِ السَّنَةَ.
سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ أَبُو أَيْمَنَ،
الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، وَغَزَا الْمَغْرِبَ، وَسَكَنَ مِصْرَ، وَبِهَا مَاتَ.
جَمِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ صَبَّاحِ بْنِ ظَبْيَانَ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ ضِنَّةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ كَثِيرِ
بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سُودِ بْنِ
أَسْلَمَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، أَبُو عَمْرٍو الشَّاعِرُ
صَاحِبُ بُثَيْنَةَ، كَانَ قَدْ خَطَبَهَا فَمُنِعَتْ مِنْهُ، فَتَغَزَّلَ فِيهَا
وَاشْتَهَرَ بِهَا، وَكَانَ أَحَدَ عُشَّاقِ الْعَرَبِ، كَانَتْ إِقَامَتُهُ
بِوَادِي الْقُرَى، وَكَانَ عَفِيفًا صَيِّنًا،
دَيِّنًا شَاعِرًا إِسْلَامِيًّا، مِنْ
أَفْصَحِ الشُّعَرَاءِ فِي زَمَانِهِ.
وَكَانَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ رَاوِيَتَهُ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ هُدْبَةَ بْنِ
خَشْرَمٍ، عَنِ الْحُطَيْئَةِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، وَابْنِهِ
كَعْبٍ. قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: كَانَ جَمِيلٌ أَشْعَرَ الْعَرَبِ، حَيْثُ
يَقُولُ:
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّ تَيْمَاءَ مَنْزِلٌ لِلَيْلَى إِذَا مَا الصَّيْفُ
أَلْقَى الْمَرَاسِيَا فَهَذِي شُهُورُ الصَّيْفِ عَنَّا قَدِ انْقَضَتْ
فَمَا لِلنَّوَى تَرْمِي بِلَيْلَى الْمَرَامِيَا
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
وَمَا زِلْتِ بِي يَا بُثْنُ حَتَّى لَوَ انَّنِي مِنَ الشَّوْقِ أَسَتَبْكِي
الْحَمَامَ بَكَى لِيَا
وَمَا زَادَنِي الْوَاشُونَ إِلَّا صَبَابَةً وَلَا كَثْرَةُ النَّاهِينَ إِلَّا
تَمَادِيَا
وَمَا أَحْدَثَ النَّأْيُ الْمُفَرِّقُ بَيْنَنَا سُلُوًّا وَلَا طُولُ
اللَّيَالِي تَقَالِيَا
أَلَمْ تَعْلَمِي يَا عَذْبَةَ الرِّيقِ أَنَّنِي أَظَلُّ إِذَا لَمْ أَلْقَ
وَجْهَكِ صَادِيَا
لَقَدْ خِفْتُ أَنْ أَلْقَى الْمَنِيَّةَ بَغْتَةً وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ
إِلَيْكِ كَمَا هِيَا
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ قَوْلُهُ:
إِنِّي لَأَحْفَظُ غَيْبَكُمْ
وَيَسُرُّنِي لَوْ تَعْلَمِينَ بِصَالِحٍ أَنْ تَذْكُرِي
إِلَى أَنْ قَالَ:
مَا أَنْتِ وَالْوَعْدُ الَّذِي تَعِدِينَنِي إِلَّا كَبَرْقِ سَحَابَةٍ لَمْ
تُمْطِرِ
وَقَوْلُهُ - وَرُوِيَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ -:
مَا زِلْتُ أَبْغِي الْحَيَّ أَتْبَعُ فَلَّهُمْ حَتَّى دُفِعْتُ إِلَى رَبِيبَةِ
هَوْدَجِ
فَدَنَوْتُ مُخْتَفِيًا أُلِمُّ بِبَيْتِهَا حَتَّى وَلَجْتُ إِلَى خَفِيِّ
الْمَوْلِجِ
قَالَتْ وَعَيْشِ أَخِي وَنِعْمَةِ وَالِدِي لَأُنَبِّهَنَّ الْحَيَّ إِنْ لَمْ
تَخْرُجِ
فَتَنَاوَلَتْ رَأْسِي لِتَعْرِفَ مَسَّهُ بِمُخَضَّبِ الْأَطْرَافِ غَيْرِ
مُشَنَّجِ
فَخَرَجْتُ خِيفَةَ أَهْلِهَا فَتَبَسَّمَتْ فَعَلِمْتُ أَنَّ يَمِينَهَا لَمْ
تَحَرَّجِ
فَلَثَمْتُ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ
الْحَشْرَجِ
قَالَ كُثَيِّرُ عَزَّةَ: لَقِيَنِي
جَمِيلُ بُثَيْنَةَ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ فَقُلْتُ: مِنْ عِنْدِ
هَذِهِ الْحَبِيبَةِ. فَقَالَ: وَإِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: إِلَى هَذِهِ
الْحَبِيبَةِ - يَعْنِي عَزَّةَ - فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا رَجَعْتَ
إِلَى بُثَيْنَةَ فَوَاعَدْتَهَا لِي; فَإِنَّ لِي مِنْ أَوَّلِ الصَّيْفِ مَا
رَأَيْتُهَا، وَكَانَ آخِرُ عَهْدِي بِهَا بِوَادِي الْقُرَى، وَهِيَ تَغْسِلُ
هِيَ وَأُمُّهَا ثَوْبًا، فَتَحَادَثْنَا إِلَى الْغُرُوبِ. قَالَ كُثَيِّرٌ:
فَرَجَعْتُ حَتَّى أَنَخْتُ بِهِمْ، فَقَالَ أَبُو بُثَيْنَةَ: مَا رَدَّكَ يَا
ابْنَ أَخِي؟ فَقُلْتُ: أَبْيَاتٌ قُلْتُهَا، فَرَجَعْتُ لِأَعْرِضَهَا عَلَيْكَ،
فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟ فَأَنْشَدْتُهُ، وَبُثَيْنَةُ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ:
فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ أَرْسَلَ صَاحِبِي إِلَيْكِ رَسُولًا وَالرَّسُولُ
مُوَكَّلُ
بِأَنْ تَجْعَلِي بَيْنِي وَبَيْنَكِ مَوْعِدًا وَأَنْ تَأْمُرِينِي مَا الَّذِي
فِيهِ أَفْعَلُ
وَآخِرُ عَهْدِي مِنْكِ يَوْمَ لَقِيتِنِي بِأَسْفَلِ وَادِي الدَّوْمِ
وَالثَّوْبُ يُغْسَلُ
قَالَ: فَضَرَبَتْ بُثَيْنَةُ جَانِبَ
خَدْرِهَا، وَقَالَتِ: اخْسَأْ، اخْسَأْ. فَقَالَ أَبُوهَا: مَهْيَمْ؟ فَقَالَتْ:
كَلْبٌ يَأْتِينَا إِذَا نَامَ النَّاسُ، مِنْ وَرَاءِ الرَّابِيَةِ. ثُمَّ
قَالَتْ لِجَارِيَتِهَا: ابْغِينَا مِنَ الدَّوْمَاتِ حَطَبًا لِيُشْوَى بِهِ
لِكُثَيِّرٍ شَاةٌ. فَقُلْتُ: أَنَا أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ. وَانْطَلَقْتُ إِلَى
جَمِيلٍ، فَقُلْتُ: مَوْعِدُكُ الدَّوْمَاتُ. قَالَ: فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ
أَقْبَلَتْ بُثَيْنَةُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَاعَدَتْهُ إِلَيْهِ، وَجَاءَ
جَمِيلٌ، وَكُنْتُ مَعَهُمْ، فَمَا رَأَيْتُ لَيْلَةً أَعْجَبَ مِنْهَا، وَلَا
أَحْسَنَ مُنَادِمَاتٍ، وَانْفَضَّ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ وَمَا أَدْرِي أَيُّهُمَا
أَفْهَمُ لِمَا فِي ضَمِيرِ صَاحِبِهِ مِنْهُ.
وَذَكَرَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ
أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى جَمِيلٍ وَهُوَ يَمُوتُ فَقَالَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي
رَجُلٍ لَمْ يَشْرَبِ الْخَمْرَ قَطُّ، وَلَمْ يَزْنِ قَطُّ، وَلَمْ يَسْرِقْ،
وَلَمْ يَقْتُلِ النَّفْسَ، وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
قَالَ: أَظُنُّهُ قَدْ نَجَا، وَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ، فَمَنْ هَذَا؟ قَالَ:
أَنَا. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَظُنُّكَ سَلِمْتَ، وَأَنْتَ تُشَبِّبُ مُنْذُ
عِشْرِينَ سَنَةً بِبُثَيْنَةَ. فَقَالَ: لَا نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَفِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ
الْآخِرَةِ وَآخَرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِنْ كُنْتُ
وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهَا بِرِيبَةٍ.
قَالَ: فَمَا بَرِحْنَا حَتَّى مَاتَ.
قُلْتُ: كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ قَدِمَ عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ مَرْوَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ حُبِّهِ بُثَيْنَةَ، فَقَالَ:
شَدِيدٌ، وَاسْتَنْشَدَهُ مِنْ أَشْعَارِهِ وَمَدَائِحِهِ فَأَنْشَدَهُ،
فَوَعَدَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَعَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ فِي
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ آمِينَ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، أَنَّ جَمِيلًا قَالَ لَهُ: هَلْ
أَنْتَ مُبْلِغٌ عَنِّي رِسَالَةً إِلَى حَيِّ بُثَيْنَةَ، وَلَكَ مَا عِنْدِي؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَارْكَبْ نَاقَتِي، وَالْبَسْ حُلَّتِي
هَذِهِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ:
قُومِي بُثَيْنَةَ فَانْدُبِي بِعَوِيلِ وَابْكِ خَلِيلًا دُونَ كُلِّ خَلِيلِ
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى حَيِّهِمْ أَنْشَدَ الْأَبْيَاتَ، قَالَ: فَخَرَجَتْ
بُثَيْنَةُ كَأَنَّهَا بَدْرٌ بَدَا فِي دُجْنَةٍ، وَهِيَ تَتَثَنَّى فِي
مَرْطِهَا، فَقَالَتْ لَهُ: وَيْحَكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ قَتَلْتَنِي،
وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَقَدْ فَضَحْتَنِي. فَقُلْتُ: بَلَى، وَاللَّهِ صَادِقٌ،
وَهَذِهِ حُلَّتُهُ وَنَاقَتُهُ. فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ ذَلِكَ صَاحَتْ بِأَعْلَى
صَوْتِهَا، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ الْحَيِّ إِلَيْهَا
يَبْكِينَ مَعَهَا، ثُمَّ صَعِقَتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، ثُمَّ أَفَاقَتْ، وَهِيَ
تَقُولُ:
وَإِنَّ سُلُوِّي
عَنْ جَمِيلٍ لِسَاعَةٍ مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلَا حَانَ حِينُهَا
سَوَاءٌ عَلَيْنَا يَا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ إِذَا مُتَّ بَأْسَاءُ الْحَيَاةِ
وَلِينُهَا
قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ بَاكِيًا وَلَا بَاكِيَةً مِنْ
يَوْمئِذٍ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ بِدِمَشْقَ: لَوْ تَرَكْتَ
الشِّعْرَ وَحَفِظْتَ الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: هَذَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يُخْبِرُنِي
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ
مِنَ الشِّعْرِ لِحِكْمَةً.
عُمَرُ بْنُ عَبِيدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ عُثْمَانَ، أَبُو حَفْصٍ الْقُرَشِيُّ
التَّمِيمِيُّ
أَحَدُ الْأَجْوَادِ، وَالْأُمَرَاءِ الْأَمْجَادِ، فُتِحَتْ عَلَى يَدَيْهِ
بُلْدَانٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ نَائِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ عَلَى الْبَصْرَةِ،
وَقَدْ فَتَحَ كَابُلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَ
قُطْرِيَّ بْنَ الْفُجَاءَةِ.
رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَعَنْهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي
رَبَاحٍ، وَابْنُ عَوْنٍ. وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَتُوُفِّيَ
بِدِمَشْقَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ، قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ.=
ج22. البداية
والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى
جَارِيَةً كَانَتْ تُحْسِنُ الْقُرْآنَ وَالشِّعْرَ وَغَيْرَهُ، فَأَحَبَّهَا حُبًّا
شَدِيدًا، وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا مَالَهُ كُلَّهُ حَتَّى أَفْلَسَ، وَلَمْ يَبْقَ
لَهُ شَيْءٌ سِوَى هَذِهِ الْجَارِيَةِ، فَقَالَتْ لَهُ الْجَارِيَةُ: قَدْ أَرَى
مَا بِكَ مِنْ قِلَّةِ الشَّيْءِ، فَلَوْ بِعْتَنِي وَانْتَفَعْتَ بِثَمَنِي
صَلُحَ حَالُكَ، فَبَاعَهَا لِعُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا - وَهُوَ
يَوْمئِذٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ - بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا قَبَضَ
الْمَالَ نَدِمَ وَنَدِمَتِ الْجَارِيَةُ، فَأَنْشَأَتْ تُخَاطِبُ مَوْلَاهَا
الَّذِي بَاعَهَا:
هَنِيئًا لَكَ الْمَالُ الَّذِي قَدْ أَخَذْتَهُ وَلَمْ يَبْقَ فِي كَفِّي إِلَّا
تَفَكُّرِي
أَقُولُ لِنَفْسِي وَهِيَ فِي كَرْبِ غَشْيَةٍ أَقَلِّي فَقَدْ بَانَ الْخَلِيطُ
أَوْ أَكْثَرِي
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْأَمْرِ عِنْدَكِ حِيلَةٌ وَلَمْ تَجِدِي بُدًّا مِنَ
الصَّبْرِ فَاصْبِرِي
فَأَجَابَهَا سَيِّدُهَا، فَقَالَ:
وَلَوْلَا قُعُودُ الدَّهْرِ بِي عَنْكِ لَمْ يَكُنْ لِفُرْقَتِنَا شَيْءٌ سِوَى
الْمَوْتِ فَاعْذُرِي
أَءُوبُ بِحُزْنٍ مِنْ فِرَاقِكِ مُوجِعٍ أُنَاجِي بِهِ قَلْبًا طَوِيلَ
التَّذَكُّرِ
عَلَيْكِ سَلَامٌ لَا زِيَارَةَ بَيْنَنَا وَلَا وَصْلَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ ابْنُ
مَعْمَرِ
فَلَمَّا سَمِعَهُمَا ابْنُ مَعْمَرٍ قَدْ شَبَّبَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ لَا
فَرَقْتُ بَيْنَ مُحِبَّيْنِ أَبَدًا.
ثُمَّ أَعْطَاهُ الْمَالَ - وَهُوَ
مِائَةُ أَلْفٍ - وَالْجَارِيَةَ; لَمَّا رَأَى مِنْ تَوَجُّعِهِمَا عَلَى فِرَاقِ
كُلٍّ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَأَخَذَ الرِّجْلُ الْجَارِيَةَ وَثَمَنَهَا
وَانْطَلَقَ.
تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ هَذَا بِدِمَشْقَ
بِالطَّاعُونِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَمَشَى فِي
جِنَازَتِهِ، وَحَضَرَ دَفْنَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَانَ
لَهُ مِنَ الْوَلَدِ طَلْحَةُ، وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ، تَزَوَّجَ
فَاطِمَةَ بِنْتَ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَلَى صَدَاقٍ
أَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَوْلَدَهَا إِبْرَاهِيمَ وَرَمْلَةَ، فَتَزَوَّجَ
رَمْلَةَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَلَى
صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
كُمَيْلُ بْنُ زِيَادِ بْنِ نَهِيكِ بْنِ الْهَيْثَمِ، النَّخَعِيُّ الْكُوفِيُّ
رَوَى عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ،
وَشَهِدَ مَعَ عَلَيٍّ صِفِّينَ، وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا، وَزَاهِدًا عَابِدًا،
قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، - وَقَدْ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ -
قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَمَ عَلَيْهِ; لِأَنَّهُ طَلَبَ
مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْقِصَاصَ مِنْ لَطْمَةٍ لَطَمَهَا إِيَّاهُ،
فَلَمَّا أَمْكَنَهُ عُثْمَانُ مِنْ نَفْسِهِ عَفَا عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ
الْحَجَّاجُ: أَوَ مِثْلُكَ يَسْأَلُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقِصَاصَ؟ ثُمَّ
أَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. قَالُوا:
وَذَكَرَ الْحَجَّاجُ عَلِيًّا فِي
غُبُونِ ذَلِكَ فَنَالَ مِنْهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ كُمَيْلٌ، فَقَالَ لَهُ
الْحَجَّاجُ: وَاللَّهِ لَأَبْعَثَنَّ إِلَيْكَ مَنْ يُبْغِضُ عَلِيًّا أَكْثَرَ
مِمَّا تُحِبُّهُ أَنْتَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنَ أَدْهَمَ، وَكَانَ مِنْ
أَهْلِ حِمْصَ، وَيُقَالُ: أَبَا الْجَهْمِ بْنَ كِنَانَةَ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
وَقَدْ رَوَى عَنْ كُمَيْلٍ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَلَهُ
الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الَّذِي أَوَّلُهُ:
الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا. وَهُوَ طَوِيلٌ، قَدْ رَوَاهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ الثِّقَاتِ، وَفِيهِ مَوَاعِظُ وَكَلَامٌ حَسَنٌ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْ قَائِلِهِ.
زَاذَانُ أَبُو عَمْرٍو الْكِنْدِيُّ
أَحَدُ التَّابِعِينَ، كَانَ أَوَّلًا يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَضْرِبُ
بِالطُّنْبُورِ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ التَّوْبَةَ عَلَى يَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، وَحَصَلَتْ لَهُ إِنَابَةٌ وَرُجُوعٌ إِلَى الْحَقِّ، وَخَشْيَةٌ
شَدِيدَةٌ، حَتَّى كَانَ فِي الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ.
وَقَالَ مَرَّةً: إِنِّي جَائِعٌ. فَنَزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الرَّوْزَنَةِ رَغِيفٌ
مِثْلُ الرَّحَا. وَهُوَ ثِقَةٌ عِنْدَ ابْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ
خَلِيفَةُ: تُوَفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ.
قَالَ خَلِيفَةُ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ
مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ،
وَقَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ،
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ تَرْجَمَةٌ.
وَشَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ أَبُو وَائِلٍ
أَدْرَكَ مِنْ زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ سَبْعَ سِنِينَ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أُمُّ الدَّرْدَاءِ الصُّغْرَى
اسْمُهَا هُجَيْمَةُ، وَيُقَالُ: جُهَيْمَةُ، تَابِعِيَّةٌ عَابِدَةٌ عَالِمَةٌ
فَقِيهَةٌ، كَانَ الرِّجَالُ يَقْرَءُونَ عَلَيْهَا وَيَتَفَقَّهُونَ فِي
الْحَائِطِ الشَّمَالِيِّ بِجَامِعِ دِمَشْقَ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مَرْوَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَتِهَا مَعَ الْمُتَفَقِّهَةِ، يَشْتَغِلُ عَلَيْهَا
وَهُوَ خَلِيفَةٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ
اسْتُهِلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالنَّاسُ مُتَوَاقِفُونَ لِقِتَالِ الْحَجَّاجِ
وَأَصْحَابِهِ بِدَيْرِ قُرَّةَ، وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ بِدَيْرِ
الْجَمَاجِمِ، وَالْمُبَارَزَةُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَاقِعَةٌ، وَفِي
غَالِبِ الْأَيَّامِ تَكُونُ النُّصْرَةُ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ عَلَى أَهْلِ
الشَّامِ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّ أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ - وَهُمْ أَهْلُ
الْعِرَاقِ - كَسَرُوا أَهْلَ الشَّامِ - وَهُمْ أَصْحَابُ الْحَجَّاجِ - بِضْعًا
وَثَمَانِينَ مَرَّةً يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ. وَمَعَ هَذَا فَالْحَجَّاجُ
ثَابِتٌ فِي مَكَانِهِ صَابِرٌ وَمُصَابِرٌ، لَا يَتَزَحْزَحُ عَنْ مَوْضِعِهِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ، بَلْ إِذَا حَصَلَ لَهُ ظَفَرٌ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ
يَتَقَدَّمُ بِجَيْشِهِ إِلَى نَحْرِ عَدُّوِهِ، وَكَانَ لَهُ خِبْرَةٌ
بِالْحَرْبِ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُمْ حَتَّى أَمَرَ
بِالْحَمْلَةِ عَلَى كَتِيبَةِ الْقُرَّاءِ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا تَبَعًا
لَهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَالنَّاسُ
يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَصَبَرَ الْقُرَّاءُ لِحَمْلَةِ جَيْشِهِ، ثُمَّ جَمَعَ
الرُّمَاةَ مِنْ جَيْشِهِ وَحَمَلَ بِهِمْ، وَمَا انْفَكَّ حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى جَيْشِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَانْهَزَمَ
أَصْحَابُ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَذَهَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَهَرَبَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَمَعَهُ فَلٌّ قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ،
فَأَتْبَعُهُ الْحَجَّاجُ جَيْشًا كَثِيفًا مَعَ عِمَارَةَ بْنِ تَمِيمٍ
اللَّخْمِيِّ، وَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَالْإِمْرَةُ لِعِمَارَةَ،
فَسَاقُوا وَرَاءَهُمْ يَطْرُدُونَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِهِ قَتْلًا أَوْ
أَسْرًا، فَمَا زَالَ يَسُوقُ
وَيَخْتَرِقُ الْأَقَالِيمَ وَالْكُورَ وَالرَّسَاتِيقَ، وَهُمْ فِي أَثَرِهِ،
حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَرْمَانَ وَاتَّبَعَهُ الشَّامِيُّونَ، فَنَزَلُوا فِي
قَصْرٍ كَانَ فِيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَبْلَهُمْ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ قَدْ
كَتَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِينَ
فَرُّوا مَعَهُ، مَنْ شِعْرِ أَبِي جِلْدَةَ الْيَشْكُرِيِّ، يَقُولُ:
أَيَا لَهَفَا وَيَا حُزْنَا جَمِيعًا وَيَا حَرَّ الْفُؤَادِ لِمَا لَقِينَا
تَرَكْنَا الدِّينَ وَالدُّنْيَا جَمِيعًا
وَأَسْلَمْنَا الْحَلَائِلَ وَالْبَنِينَا فَمَا كُنَّا أُنَاسًا أَهْلَ دُنْيَا
فَنَمْنَعُهَا وَلَوْ لَمْ نَرْجُ دِينًا تَرَكْنَا دَوْرَنَا لِطَغَامِ عَكٍّ
وَأَنْبَاطِ الْقُرَى وَالْأَشْعَرِينَا
ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ دَخَلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْفَلِّ إِلَى
بِلَادِ رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ، فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ، وَأَنْزَلَهُ
عِنْدَهُ، وَأَمَّنَهُ وَعَظَّمَهُ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَمَرَّ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى بِلَادِ
رُتْبِيلَ عَلَى عَامِلٍ لَهُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ، كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدِ
اسْتَعْمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ رُجُوعِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَأَكْرَمَهُ
ذَلِكَ الْعَامِلُ، وَأَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا وَأَنْزَلَهُ; فَعَلَ ذَلِكَ
خَدِيعَةً بِهِ وَمَكْرًا، وَقَالَ لَهُ: ادْخُلْ إِلَى عِنْدِي إِلَى الْبَلَدِ
لِتَتَحَصَّنَ بِهَا مِنْ عَدُوِّكَ، وَلَكِنْ لَا تَدَعْ أَحَدًا مِمَّنْ مَعَكَ
يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَكْرَ
بِهِ، فَمَنْعَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ، فَتَفَرَّقَ عَنْهُ
أَصْحَابُهُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَثَبَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ
فَمَسَكَهُ وَأَوْثَقَهُ بِالْحَدِيدِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ بِهِ يَدًا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ رُتْبِيلَ سُرَّ بِقُدُومِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ مَا حَدَثَ لَهُ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْعَامِلِ بِمَدِينَةِ بُسْتَ، سَارَ حَتَّى أَحَاطَ بِبُسْتَ، وَأَرْسَلَ إِلَى عَامِلِهَا يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَ ابْنَ الْأَشْعَثِ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسَتَنْزِلُكَ، وَأَقْتُلُ جَمِيعَ مَنْ فِي بَلَدِكَ. فَخَافَهُ ذَلِكَ الْعَامِلُ، وَسَيَّرَ إِلَيْهِ ابْنَ الْأَشْعَثِ، فَأَكْرَمَهُ رُتْبِيلُ، فَقَالَ ابْنُ الْأَشْعَثِ لرُتْبِيلَ: إِنَّ هَذَا الْعَامِلَ كَانَ عَامِلِي وَمِنْ جِهَتِي، فَغَدَرَ بِي، وَفَعَلَ مَا رَأَيْتَ فَأْذَنْ لِي فِي قَتْلِهِ. فَقَالَ: قَدْ أَمَّنْتُهُ. وَكَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ هُنَالِكَ فِي بِلَادِ رُتْبِيلَ، ثُمَّ إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْفَلِّ الَّذِينَ هَرَبُوا مِنَ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا وَسَارُوا وَرَاءَ ابْنِ الْأَشْعَثِ; لِيُدْرِكُوهُ فَيَكُونُوا مَعَهُ، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى سِجِسْتَانَ وَجَدُوا ابْنَ الْأَشْعَثِ قَدْ دَخَلَ إِلَى عِنْدِ رُتْبِيلَ فَتَغَلَّبُوا عَلَى سِجِسْتَانَ، وَعَذَّبُوا عَامِلَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ الْبِعَارَ وَإِخْوَتَهُ وَقَرَائِبَهُ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَانْتَشَرُوا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ وَأَخَذُوهَا، ثُمَّ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ: أَنِ اخْرُجْ إِلَيْنَا حَتَّى نَكُونَ مَعَكَ; نَنْصُرُكَ عَلَى مَنْ يُخَالِفُكَ، وَنَأْخُذُ بِلَادَ خُرَاسَانَ، فَإِنَّ بِهَا جُنْدًا عَظِيمًا مِنَّا، فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يُهْلِكَ اللَّهُ الْحَجَّاجَ أَوْ عَبْدَ الْمَلِكِ، فَنَرَى بَعْدَ ذَلِكَ رَأَيْنَا، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ، وَسَارَ بِهِمْ قَلِيلًا إِلَى نَحْوِ خُرَاسَانَ، فَاعْتَزَلَهُ شِرْذِمَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، فَقَامَ فِيهِمُ ابْنُ
الْأَشْعَثِ خَطِيبًا، فَذَكَرَ غَدْرَهُمْ وَنُكُولَهُمْ عَنِ الْحَرْبِ، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِكُمْ، وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى صَاحِبِي رُتْبِيلَ فَأَكُونُ عِنْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُمْ، وَتَبِعَهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، وَبَقِيَ مُعْظَمُ الْجَيْشِ، فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُمُ ابْنُ الْأَشْعَثِ بَايَعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ الْهَاشِمِيَّ، وَسَارُوا مَعَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ ; لِيَمْنَعَهُمْ مِنْ دُخُولِ بِلَادِهِ، وَكَتَبَ يَزِيدُ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ فِي الْبِلَادِ مُتَّسَعًا، فَاذْهَبْ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ بِهَا سُلْطَانٌ، فَإِنِّي أَكْرَهُ قِتَالَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالًا بَعَثْتُ إِلَيْكَ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا جِئْنَا نَسْتَرِيحُ وَنُرِيحُ خَيْلَنَا، ثُمَّ نَذْهَبُ، وَلَيْسَتْ بِنَا حَاجَةٌ إِلَى حَاجَةٍ مِمَّا عَرَضْتَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى أَخْذِ الْخَرَاجِ مِمَّا حَوْلُهُ مِنَ الْبِلَادِ مِنْ كُورِ خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَمَعَهُ أَخُوهُ الْمُفَضَّلُ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ، فَلَمَّا صَادَفُوهُمُ اقْتَتَلُوا غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَلَ يَزِيدُ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَأَسَرَ مِنْهُمْ أَسْرَى كَثِيرَةً، وَاحْتَازَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَبَعَثَ بِالْأُسَارَى - وَفِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ - إِلَى الْحَجَّاجِ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ: أَسْأَلُكَ بِدَعْوَةِ أَبِي لِأَبِيكَ لَمَا أَطْلَقْتَنِي. فَأَطْلَقَهُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وَلِهَذَا الْكَلَامِ خَبَرٌ فِيهِ طُولٌ.
وَلَمَّا قَدِمَتِ الْأُسَارَى عَلَى
الْحَجَّاجِ قَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَعَفَا عَنْ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ كَانَ
الْحَجَّاجُ يَوْمَ ظَهَرَ عَلَى ابْنِ الْأَشْعَثِ بِدَيْرِ الْجَمَاجِمِ نَادَى
مُنَادِيهِ فِي النَّاسِ: مَنْ رَجَعَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ لَحِقَ بِقُتَيْبَةَ
بْنِ مُسْلِمٍ بِالرَّيِّ فَهُوَ آمِنٌ، فَلَحِقَ بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِمَّنْ
كَانَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَأَمَّنَهُمُ الْحَجَّاجُ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ
بِهِ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِهِمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا،
حَتَّى كَانَ آخِرَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَلَى مَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ صَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ،
فَذَكَرَهُ يَوْمًا الْحَجَّاجُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ سَارَ إِلَى قُتَيْبَةَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِالشَّعْبِيِّ. قَالَ الشَّعْبِيُّ:
فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْإِمْرَةِ، ثُمَّ قُلْتُ:
أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنَّ النَّاسَ قَدْ أَمَرُونِي أَنْ أَعْتَذِرَ إِلَيْكَ
بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَقُولُ فِي
هَذَا الْمَقَامِ إِلَّا الْحَقَّ، قَدْ وَاللَّهِ تَمَرَّدْنَا عَلَيْكَ،
وَحَرَّضْنَا وَجَهَدْنَا كُلَّ الْجَهْدِ، فَمَا آلَوْنَا، فَمَا كُنَّا
بِالْأَقْوِيَاءِ الْفَجَرَةِ، وَلَا بِالْأَتْقِيَاءِ الْبَرَرَةِ، وَلَقَدْ
نَصَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَأَظْفَرَكَ بِنَا، فَإِنْ سَطَوْتَ فَبِذُنُوبِنَا،
وَمَا جَرَّتْ إِلَيْكَ أَيْدِينَا، وَإِنْ عَفَوْتَ عَنَّا فَبِحِلْمِكَ، وَبَعْدُ
فَالْحُجَّةُ لَكَ عَلَيْنَا. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَنْتَ وَاللَّهِ يَا
شَعْبِيُّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّنْ يَدْخُلُ عَلَيْنَا يَقْطُرُ سَيْفُهُ مِنْ
دِمَائِنَا، ثُمَّ يَقُولُ: مَا فَعَلْتُ وَلَا شَهِدْتُ. قَدْ أَمِنْتَ
عِنْدَنَا يَا شَعْبِيُّ. قَالَ:
فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا مَشَيْتُ قَلِيلًا قَالَ: هَلُمَّ يَا شَعْبِيُّ. قَالَ:
فَوَجَلَ لِذَلِكَ قَلْبِي، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ: قَدْ أَمِنْتَ يَا
شَعْبِيُّ، فَاطْمَأَنَّتْ نَفْسِي. فَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتَ النَّاسَ بَعْدَنَا
يَا شَعْبِيُّ؟ قَالَ: - وَكَانَ لِي مُكْرِمًا - فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ
الْأَمِيرَ، قَدِ اكْتَحَلْتُ بَعْدَكَ السَّهَرَ، وَاسْتَوْعَرْتُ السُّهُولَةَ،
وَاسْتَوْخَمْتُ الْجَنَابَ، وَاسْتَحْلَسْتُ الْخَوْفَ، وَاسْتَحْلَيْتُ
الْهَمَّ، وَفَقَدْتُ صَالِحَ الْإِخْوَانِ، وَلَمْ أَجِدْ مِنَ الْأَمِيرِ
خَلَفًا. قَالَ: انْصَرِفْ يَا شَعْبِيُّ. فَانْصَرَفْتُ. وَرَوَاهُ أَبُو
مِخْنَفٍ، عَنِ السِّرِّيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ الْخَرْقَاءِ فِي
الْفَرَائِضِ، وَهِيَ: أُمٌّ وَزَوْجٌ وَأُخْتٌ، وَمَا كَانَ يَقُولُهُ فِيهَا
الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ،
وَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ قَوْلٌ
فِيهَا، فَنَقَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ الشَّعْبِيُّ فِي سَاعَتِهِ، فَاسْتَحْسَنَ
قَوْلَ عَلِيٍّ، وَحَكَمَ بِقَوْلِ عُثْمَانَ، وَأُطْلِقَ الشَّعْبِيُّ بِسَبَبِ
ذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ خَمْسَةَ آلَافِ أَسِيرٍ، مِمَّنْ سَيَّرَهُمْ
إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ إِلَى
الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا، فَجَعَلَ لَا يُبَايِعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا
قَالَ: أَتَشْهَدُ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ قَدْ كَفَرْتَ. فَإِذَا قَالَ: نَعَمْ.
بَايَعَهُ، وَإِنْ أَبَى قَتَلَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، مِمَّنْ
أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ. قَالَ: فَأُتِيَ بِرَجُلٍ، فَقَالَ
الْحَجَّاجُ: مَا أَظُنُّ هَذَا يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ; لِصَلَاحِهِ
وَدِينِهِ، وَأَرَادَ الْحَجَّاجُ مُخَادَعَتَهُ، فَقَالَ: أَخَادِعِي أَنْتَ عَنْ
نَفْسِي، أَنَا أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَأَكْفَرُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ
وَنَمْرَودَ. قَالَ: فَضَحِكَ الْحَجَّاجُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مِخْنَفٍ، أَنَّ أَعْشَى هَمْدَانَ
أُتِيَ بِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَكَانَ قَدْ عَمِلَ قَصِيدَةً هَجَا فِيهَا
الْحَجَّاجَ وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، وَيَمْدَحُ فِيهَا ابْنَ
الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابُهُ، فَاسْتَنْشَدَهُ إِيَّاهَا فَأَنْشُدَهُ قَصِيدَةً
طَوِيلَةً دَالِيَّةً، فِيهَا مَدْحٌ كَثِيرٌ لِعَبْدِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ
بَيْتِهِ، فَجَعَلَ أَهْلُ الشَّامِ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنَ أَيُّهَا
الْأَمِيرُ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: إِنَّهُ لَمْ يُحْسِنْ، إِنَّمَا يَقُولُ هَذَا
مُصَانَعَةٌ. ثُمَّ أَلَحَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْشُدَهُ قَصِيدَتَهُ الْأُخْرَى،
فَلَمَّا أَنْشَدَهَا غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ، وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ
عُنُقُهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَاسْمُ الْأَعْشَى هَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْحَارِثِ، أَبُو الْمُصْبِحِ الْهَمْدَانِيُّ،
الْكُوفِيُّ، الشَّاعِرُ، أَحَدُ
الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ الْمَشْهُورِينَ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ
فِي مُبْتَدَئِهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ فَعُرِفَ
بِهِ، وَقَدْ وَفَدَ عَلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - وَهُوَ أَمِيرٌ بِحِمْصَ -
فَامْتَدَحَهُ، وَكَانَ مَحْصُولُهُ فِي رِحْلَتِهِ إِلَيْهِ مِنْهُ وَمِنْ جُنْدِ
حِمْصَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ زَوْجَ أُخْتِ الشَّعْبِيِّ، كَمَا
أَنَّ الشَّعْبِيَّ كَانَ زَوْجَ أُخْتِهِ أَيْضًا، وَكَانَ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ
ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقَتَلَهُ الْحَجَّاجُ كَمَا ذَكَرْنَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ وَهُوَ مُوَاقِفٌ لِابْنِ الْأَشْعَثِ بَعَثَ كَمِينًا يَأْتُونَ
جَيْشَ ابْنِ الْأَشْعَثِ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ تَوَاقَفَ الْحَجَّاجُ وَابْنُ
الْأَشْعَثِ، وَهَرَبَ الْحَجَّاجُ بِمَنْ مَعَهُ، وَتَرَكَ مُعَسْكَرَهُ، فَجَاءَ
ابْنُ الْأَشْعَثِ فَاحْتَازَ مَا فِي الْمُعَسْكَرِ، وَبَاتَ فِيهِ، فَجَاءَتِ
السَّرِيَّةُ إِلَيْهِمْ لَيْلًا، وَقَدْ وَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَمَالُوا
عَلَيْهِمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً، وَرَجَعَ الْحَجَّاجُ بِأَصْحَابِهِ فَأَحَاطُوا
بِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَغَرِقَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي دِجْلَةَ
وَدُجَيْلٍ، وَجَاءَ الْحَجَّاجُ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ فَقَتَلَ مَنْ وَجَدَهُ
فِيهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ، مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ
مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَاحْتَازُوهُ بِكَمَالِهِ، وَانْطَلَقَ ابْنُ
الْأَشْعَثِ هَارِبًا فِي ثَلَاثمِائَةٍ، فَرَكِبُوا دُجَيْلًا فِي السُّفُنِ،
وَعَقَرُوا دَوَابَّهُمْ، وَجَازَوْا إِلَى الْبَصْرَةِ، ثُمَّ سَارُوا مِنْ
هُنَالِكَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مِنْ دُخُولِهِمْ بِلَادَ رُتْبِيلَ مَا
كَانَ، ثُمَّ شَرَعَ الْحَجَّاجُ فِي تَتَبُّعِ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ،
فَقَتَلَهُمْ مَثْنَى
وَفُرَادَى، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ
قَتَلَ مِنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا مِائَةَ أَلْفٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفًا.
قَالَهُ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ. مِنْهُمْ مُحَمَّدُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَجَمَاعَاتٌ مِنَ السَّادَاتِ، حَتَّى كَانَ
آخِرُهُمْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُمْ، كَمَا
سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
بِنَاءُ وَاسِطٍ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَنَى الْحَجَّاجُ وَاسِطًا، وَكَانَ
سَبَبَ بِنَائِهِ لَهَا أَنَّهُ رَأَى رَاهِبًا عَلَى أَتَانٍ قَدْ أَجَازَ
دِجْلَةَ، فَلَمَّا مَرَّ بِمَوْضِعِ وَاسِطٍ وَقَفَتْ أَتَانُهُ فَبَالَتْ،
فَنَزَلَ عَنْهَا وَعَمَدَ إِلَى مَوْضِعِ بَوْلِهَا فَاحْتَفَرَهُ، وَرَمَى بِهِ فِي
دِجْلَةَ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: عَلَيَّ بِهِ. فَأُتِيَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ
صَنَعْتَ هَذَا ؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ يُبْنَى فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ مَسْجِدٌ يُعْبَدُ اللَّهُ فِيهِ مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ
يُوَحِّدُهُ. فَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَطَّ الْحَجَّاجُ مَدِينَةَ وَاسِطٍ فِي ذَلِكَ
الْمَكَانِ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ عَطَاءِ بْنِ رَافِعٍ صَقَلِّيَةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُجَيْرَةَ الْخَوْلَانِيُّ الْمِصْرِيُّ
رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مَرْوَانَ أَمِيرُ مِصْرَ قَدْ جَمَعَ لَهُ
بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالْقَصَصِ
وَبَيْتِ الْمَالِ، وَكَانَ رِزْقُهُ فِي الْعَامِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَكَانَ لَا
يَدَّخِرُ مِنْهَا شَيْئًا.
طَارِقُ بْنُ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْأَحْمَسِيُّ
مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَزَا فِي
خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ
غَزَاةً، تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ هَذِهِ السَّنَةَ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ
أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ قُرَيْشٍ وَعُلَمَائِهِمْ، وَأَبُوهُ
عَدِيٌّ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ
كَانَ قَاضِي الْمَدِينَةِ، وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْخَيْرِ، الْيَزْنِيُّ
وَفِيهَا فُقِدَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا
مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ ; مِنْهُمْ
مَنْ هَرَبَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ
فِي الْمَعْرَكَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُسِرَ فَضَرَبَ الْحَجَّاجُ عُنُقَهُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَبَّعَهُ الْحَجَّاجُ حَتَّى قَتَلَهُ.
وَقَدْ سَمَّى مِنْهُمْ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْيَانِ ;
فَمِنْهُمْ مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزَنِيُّ، وَأَبُو مَرَّانَةَ الْعِجْلِيُّ
قُتِلَ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ قُتِلَ، وَعُقْبَةُ بْنُ وَسَّاجٍ
قُتِلَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ غَالِبٍ الْجَهْضَمِيُّ قُتِلَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ
الرَّبَعِيُّ قُتِلَ، وَالنَّضِرُ بْنُ أَنَسٍ، وَعِمْرَانُ وَالِدُ أَبِي
جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، وَأَبُو الْمِنْهَالِ سَيَّارُ بْنُ سَلَامَةَ
الرِّيَاحِيُّ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَمُرَّةُ بْنُ دِبَابٍ الْهَدَادِيُّ،
وَأَبُو نُجَيْدٍ الْجَهْضَمِيُّ، وَأَبُو شَيْخٍ الْهَنَائِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ
أَبِي الْحَسَنِ، وَأَخُوهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.
قَالَ أَيُّوبُ: قِيلَ لِابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ
النَّاسُ حَوْلَكَ كَمَا
قُتِلُوا حَوْلَ هَوْدَجِ عَائِشَةَ
يَوْمَ الْجَمَلِ فَأَخْرِجِ الْحَسَنَ مَعَكَ، فَأَخْرَجَهُ.
وَمِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي
لَيْلَى، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْمَعْرُورُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَطَلْحَةُ بْنُ
مُصَرِّفِ، وَزُبَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ الْيَامِيَّانِ، وَعَطَاءُ بْنُ
السَّائِبِ. قَالَ أَيُّوبُ: فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ صُرِعَ مَعَ ابْنِ
الْأَشْعَثِ إِلَّا رَغِبَ عَنْ مَصْرَعِهِ، وَلَا نَجَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا
حَمِدَ اللَّهَ الَّذِي سَلَّمَهُ.
وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ قَتَلَ الْحَجَّاجُ
عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الضُّبَعِيُّ
وَالِدُ أَبِي جَمْرَةَ، كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ
صَالِحًا عَابِدًا، أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ:
اشْهَدْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْكُفْرِ حَتَّى أُطْلِقَكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي
مَا كَفَرْتُ بِاللَّهِ مُنْذُ آمَنْتُ بِهِ. فَأَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى
رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلِأَبِيهِ
أَبِي لَيْلَى صُحْبَةٌ، أَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْقُرْآنَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ. خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فَأُتِيَ بِهِ الْحَجَّاجُ أَسِيرًا، فَضُرِبَ عُنُقُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فِيهَا افْتَتَحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ الْمِصِّيصَةَ.
وَفِيهَا غَزَا مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ أَرْمِينِيَّةَ فَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَرَّقَ كَنَائِسَهُمْ، وَضِيَاعَهُمْ. وَتُسَمَّى سَنَةَ
الْحَرِيقِ.
وَفِيهَا اسْتَعْمَلَ الْحَجَّاجُ عَلَى فَارِسَ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ
الثَّقَفِيَّ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ الْأَكْرَادِ.
وَفِيهَا وَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ عِيَاضَ بْنَ غَنْمٍ
التُّجَيْبِيَّ، وَعَزَلَ عَنْهَا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي الْكَنُودِ الَّذِي
كَانَ قَدْ وَلِيَهَا فِي الْعَامِ الْمَاضِي.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ طَائِفَةً مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ
ذَلِكَ بَلَدُ أَوْرَبَةَ، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا بَشَرًا كَثِيرًا جِدًّا،
وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا.
وَفِيهَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ أَيْضًا جَمَاعَةً مِنْ رُؤَسَاءِ أَصْحَابِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ مِنْهُمْ:
أَيُّوبُ بْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا وَاعِظًا، قَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ نَدِمَ عَلَى
قَتْلِهِ، وَهُوَ أَيُّوبُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قَيْسٍ أَبُو سُلَيْمَانَ
الْهِلَالِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقِرِّيَّةِ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، وَسَعْدُ بْنُ إِيَاسٍ
الشَّيْبَانِيُّ.
وَأَبُو عِنَبَةَ الْخَوْلَانِيُّ
لَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ، سَكَنَ حِمْصَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ، وَقَدْ قَارَبَ
الْمِائَةَ سَنَةٍ. عَبْدُ اللَّهِ بْنِ قَتَادَةَ.
وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ جَمَاعَةٌ ; مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تُوُفِّيَ
أَبُو زُرْعَةَ الْجُذَامِيُّ الْفِلَسْطِينِيُّ
كَانَ ذَا مَنْزِلَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ فَخَافَ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ،
فَفَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ أَبُو زُرْعَةَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا
تَهْدِمْ رُكْنًا بَنَيْتَهُ، وَلَا تُحْزِنُ صَاحِبًا سَرَرْتَهُ، وَلَا تُشْمِتْ
عَدُوًّا كَبَتَّهُ، فَكَفَّ عَنْهُ مُعَاوِيَةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ
عُتْبَةُ بْنُ النَّدْرِ السُّلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ.
عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ الْخَارِجِيُّ
كَانَ أَوَّلًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً
مِنَ الْخَوَارِجِ حَسَنَةً جَمِيلَةً جِدًّا فَأَحَبَّهَا، وَكَانَ هُوَ دَمِيمَ
الشَّكْلِ، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى السُّنَّةِ فَأَبَتْ، فَارْتَدَّ
مَعَهَا إِلَى مَذْهَبِهَا. وَقَدْ كَانَ مِنَ الشُّعَرَاءِ الْمُطْبِقِينَ،
وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ وَقَاتِلِهِ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي
الْعَرْشِ رِضْوَانَا إِنِّي لَأَذْكُرهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ
أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا أَكْرِمْ بِقَوْمٍ بُطُونُ
الطَّيْرِ قَبْرُهُمُ
لَمْ يَخْلِطُوا دِينَهُمُ بَغْيًا وَعُدْوَانَا
وَقَدْ كَانَ الثَّوْرِيُّ يَتَمَثَّلُ بِأَبْيَاتِهِ هَذِهِ فِي الزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:
أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُونَهَا عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ
وَجُوَّعُ
أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ
تَقَشَّعُ
كَرَكْبٍ قَضَوْا حَاجَاتِهِمْ وَتَرَّحَلُوا طَرِيقَهُمُ بَادِي الْعَلَامَةِ
مَهْيَعُ
مَاتَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ سَنَةَ
أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي
أَبْيَاتِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي قَتْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
بِأَبْيَاتٍ عَلَى قَافِيَتِهَا وَوَزْنِهَا:
بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي
الْعَرْشِ خُسْرَانَا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَشْقَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ
مِيزَانَا
رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ
كَانَ مِنْ أُمَرَاءِ الشَّامِ، وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَسْتَشِيرُهُ فِي
أُمُورِهِ.
وَفِيهَا كَانَ مَهْلِكُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ
قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا فَاللَّهُ أَعْلَمُ ;
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى رُتْبِيلَ مَلِكِ التُّرْكِ الَّذِي
لَجَأَ ابْنُ الْأَشْعَثِ إِلَيْهِ يَقُولُ لَهُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ لَئِنْ لَمْ تَبْعَثْ إِلَيَّ بِابْنِ الْأَشْعَثِ لَأَبْعَثَنَّ
إِلَى بِلَادِكَ أَلْفَ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَلِأُخَرِّبَنَّهَا. فَلَمَّا
تَحَقَّقَ الْوَعِيدُ مِنَ الْحَجَّاجِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ
فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ ابْنِ الْأَشْعَثِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُخَرِّبَ
الْحَجَّاجُ دِيَارَهُ، وَيَأْخُذَ عَامَّةَ أَمْصَارِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَى
الْحَجَّاجِ يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ عَشْرَ سِنِينَ، وَأَنْ لَا
يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْهَا إِلَّا مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الْخَرَاجِ،
فَأَجَابَهُ الْحَجَّاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ وَعْدَهُ أَنْ
يُطْلِقَ لَهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ سَبْعَ
سِنِينَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ غَدَرَ رُتْبِيلُ بِابْنِ الْأَشْعَثِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ
أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَبَعَثَ بِرَأْسِهِ إِلَى
الْحَجَّاجِ وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ابْنُ الْأَشْعَثِ قَدْ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا
فَقَتَلَهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَبَضَ عَلَيْهِ
وَعَلَى ثَلَاثِينَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ فَقَيَّدَهُمْ فِي الْأَصْفَادِ، وَبَعَثَ
بِهِمْ مَعَ رُسُلِ الْحَجَّاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ
بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الرُّخَّجُ، صَعِدَ ابْنُ الْأَشْعَثِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ
بِالْحَدِيدِ إِلَى سَطْحِ قَصْرٍ، وَمَعَهُ رَجُلٌ مُوكَّلٌ بِهِ; لِئَلَّا
يَفِرَّ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَصْرِ، وَسَقَطَ مَعَهُ الْمُوكَّلُ
بِهِ فَمَاتَا جَمِيعًا، فَعَمَدَ الرَّسُولُ إِلَى رَأْسِ ابْنِ الْأَشْعَثِ
فَاحْتَزَّهُ، وَقَتَلَ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَبَعَثَ
بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَمَرَ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ فِي الْعِرَاقِ،
ثُمَّ بَعَثَهُ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَطِيفَ بِرَأْسِهِ
فِي الشَّامِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِمِصْرَ
فَطِيفَ بِرَأْسِهِ هُنَالِكَ، ثُمَّ دَفَنُوا رَأْسَهُ بِمِصْرَ وَجُثَّتَهُ
بِالرُّخَّجِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي ذَلِكَ:
هَيْهَاتَ مَوْضِعُ جُثَّةٍ مِنْ رَأْسِهَا رَأْسٌ بِمِصْرَ وَجُثَّةٌ
بِالرُّخَّجِ
وَإِنَّمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ مَقْتَلَ ابْنِ الْأَشْعَثِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ هَذَا هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ قَيْسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، الْكِنْدِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدْ رَوَى
لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، حَدِيثُ: إِذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْبَائِعُ،
أَوْ يَتَتَارَكَانِ وَعَنْهُ أَبُو الْعُمَيْسِ وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ
قَتَلَهُ بَعْدَ التِّسْعِينَ سَنَةً. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِالْإِمَارَةِ،
وَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ وَإِنَّمَا هُوَ كِنْدِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ، وَقَدِ
اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ عَلَى أَنَّ الْإِمَارَةَ لَا تَكُونُ
إِلَّا فِي قُرَيْشٍ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمُ الصِّدِّيقُ بِالْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ،
حَتَّى إِنَّ الْأَنْصَارَ سَأَلُوا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ أَمِيرٌ مَعَ أَمِيرِ
الْمُهَاجِرِينَ، فَأَبَى الصِّدِّيقُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَعَ هَذَا
كُلِّهِ ضَرَبَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - الَّذِي دَعَا إِلَى ذَلِكَ أَوَّلًا،
ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ - كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَكَيْفَ
يَعْمِدُونَ إِلَى خَلِيفَةٍ قَدْ بُويِعَ لَهُ بِالْإِمَارَةِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ مِنْ سِنِينَ، فَيَعْزِلُونَهُ وَهُوَ مِنْ صَلِيبَةِ قُرَيْشٍ،
وَيُبَايِعُونَ لِرَجُلٍ كِنْدِيٍّ بَيْعَةً لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا أَهْلُ
الْحَلِّ وَالْعَقْدِ؟ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ زَلَّةٌ وَفَلْتَةٌ نَشَأَ
بِسَبَبِهَا شَرٌّ كَثِيرٌ هَلَكَ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
أَيُّوبُ ابْنُ الْقِرِّيَّةِ
وَهِيَ أُمُّهُ، وَاسْمُ أَبِيهِ يَزِيدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ
مُسْلِمٍ، النَّمِرِيُّ الْهِلَالِيُّ، كَانَ أَعْرَابِيًّا أُمِّيًّا، وَكَانَ
يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي فَصَاحَتِهِ وَبَيَانِهِ وَبَلَاغَتِهِ، صَحِبَ
الْحَجَّاجَ، وَوَفَدَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى
ابْنِ
الْأَشْعَثِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ
الْأَشْعَثِ: لَئِنْ لَمْ تَقُمْ خَطِيبًا فَتَخْلَعُ الْحَجَّاجَ لَأَضْرِبَنَّ
عُنُقَكَ. فَفَعَلَ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ فَلَمَّا ظَهَرَ الْحَجَّاجُ
اسْتَحْضَرَهُ، وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُ مَقَامَاتٌ وَمَقَالَاتٌ فِي الْكَلَامِ،
ثُمَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ ضَرَبَ عُنُقَهُ، وَنَدِمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا
فَعَلَ مِنْ ضَرْبِ عُنُقِهِ، وَلَكِنْ نَدِمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ
كَمَا قِيلَ:
وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ خَلِّكَانَ فِي
الْوَفِيَّاتِ، وَأَطَالَ تَرْجَمَتَهُ، وَذَكَرَ فِيهَا أَشْيَاءَ حَسَنَةً.
قَالَ: والْقِرِّيَّةُ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَهِيَ جَدَّتُهُ،
وَاسْمُهَا خُمَاعَةُ بِنْتُ جُشَمَ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ وَجُودَهُ، وَوُجُودَ
مَجْنُونِ لَيْلَى، وَابْنِ أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَقَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
رَوحُ بْنُ زِنْبَاعِ بْنِ سَلَامَةَ الْجُذَامِيُّ أَبُو زُرْعَةَ
وَيُقَالُ: أَبُو زِنْبَاعٍ الدِّمَشْقِيُّ، دَارُهُ بِدِمَشْقَ فِي طَرَفِ
الْبُزُورِيِّينَ، عِنْدَ دَارِ ابْنِ
أَبِي الْعَقَبِ صَاحِبِ
الْمَلْحَمَةِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَتْ لَهُ
صُحْبَةٌ - وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، وَمُعَاوِيَةُ،
وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَغَيْرُهُمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عُبَادَةُ بْنُ
نُسَيٍّ.
كَانَ رَوْحٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَالْوَزِيرِ; لَا يَكَادُ يُفَارِقُهُ،
وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ يَوْمَ مَرْجِ رَاهِطٍ وَقَدْ أَمَّرَهُ يَزِيدُ
بْنُ مُعَاوِيَةَ عَلَى جُنْدِ فِلَسْطِينَ. وَزَعَمَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ
أَنَّ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَلَمْ يُتَابَعْ مُسْلِمٌ
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ وَلَيْسَ بِصَحَابِيٍّ.
وَمِنْ مَآثِرِهِ الَّتِي تَفَرَّدَ بِهَا أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا خَرَجَ مِنَ
الْحَمَّامِ يُعْتِقُ نِسْمَةً. قَالَ ابْنُ زَبْرٍ: مَاتَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ بِالْأُرْدُنِّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بَقِيَ إِلَى أَيَّامِ
هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَدْ حَجَّ مَرَّةً، فَنَزَلَ عَلَى مَاءٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ،
فَأَمَرَ فَأُصْلِحَتْ لَهُ أَطْعِمَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ، ثُمَّ وُضِعَتْ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَأْكُلُ إِذْ جَاءَ رَاعٍ مِنَ الرُّعَاةِ
يَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعَاهُ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ إِلَى الْأَكْلِ مِنْ ذَلِكَ
الطَّعَامِ، فَجَاءَ الرَّاعِي فَنَظَرَ إِلَى طَعَامِهِ، وَقَالَ: إِنِّي
صَائِمٌ. فَقَالَ لَهُ رَوْحٌ: فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ الطَّوِيلِ الشَّدِيدِ
الْحَرِّ تَصُومُ يَا رَاعِي؟ فَقَالَ الرَّاعِي: أَفَأَغْبِنُ أَيَّامِي مِنْ
أَجْلِ طُعَيِّمَكَ؟ ثُمَّ إِنَّ الرَّاعِيَ ارْتَادَ لِنَفْسِهِ مَكَانًا
فَنَزَلَهُ، وَتَرَكَ رَوْحَ بْنَ زِنْبَاعٍ، فَقَالَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ:
لَقَدْ ضَنِنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا
رَاعِي إِذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعِ
ثُمَّ إِنَّ رَوْحًا بَكَى طَوِيلًا، وَأَمَرَ بِتِلْكَ الْأَطْعِمَةِ فَرُفِعَتْ،
وَقَالَ: انْظُرُوا، هَلْ تَجِدُونَ لَهَا آكِلًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْرَابِ أَوِ
الرُّعَاةِ؟ ثُمَّ سَارَ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ أَخَذَ الرَّاعِي
بِمَجَامِعِ قَلْبِهِ، وَصَغُرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ
فِيهَا - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ - كَانَ مَقْتَلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
الْأَشْعَثِ الْكِنْدِيِّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِيهَا عَزَلَ الْحَجَّاجُ عَنْ
إِمْرَةِ خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَخَاهُ
الْمُفَضَّلَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ وَفِدَ
مَرَّةً عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا انْصَرَفَ مَرَّ بِدَيْرٍ، فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّ فِيهِ شَيْخًا كَبِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَالِمًا. فَدُعِيَ لَهُ
فَقَالَ: يَا شَيْخُ، هَلْ تَجِدُونَ فِي كُتُبِكُمْ مَا أَنْتُمْ فِيهِ وَمَا
نَحْنُ فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ لَهُ: فَمَا تَجِدُونَ صِفَةَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: نَجِدُهُ مَلِكًا أَقْرَعَ مَنْ يَقُمْ بِسَبِيلِهِ
يُصْرَعُ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْوَلِيدُ.
قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ رَجُلٌ اسْمُهُ اسْمُ نَبِيٍّ، يَفْتَحُ بِهِ
عَلَى النَّاسِ. قَالَ: أَفَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: قَدْ أُخْبِرْتُ بِكَ. قَالَ:
أَفَتَعْرِفُ مَا أَلِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَنْ يَلِي الْعِرَاقَ بَعْدِي؟
قَالَ: رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ. قَالَ: أَفِي حَيَاتِي أَوْ بَعْدَ مَوْتِي؟
قَالَ: لَا أَدْرِي. قَالَ: أَفَتَعْرِفُ صِفَتَهُ؟ قَالَ: يَغْدِرُ غَدْرَةً لَا
أَعْرِفُ غَيْرَهَا.
قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِ
الْحَجَّاجِ أَنَّهُ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَسَارَ سَبْعًا وَهُوَ وَجِلٌ
مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَسْتَعْفِيهِ مِنْ
وِلَايَةِ الْعِرَاقِ ; لِيَعْلَمَ مَكَانَتَهُ عِنْدَهُ، فَجَاءَ الْكِتَابُ
بِالتَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ وَالتَّوْبِيخِ، وَالْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ
وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَجَّاجَ جَلَسَ
يَوْمًا مُفَكِّرًا، وَاسْتَدْعَى بِعُبَيْدِ بْنِ مَوْهَبٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ
وَهُوَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ
يَا عُبَيْدُ، إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مَا تَحْتَ يَدِي
سَيَلِيهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ. وَقَدْ تَذَكَّرْتُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي
كَبْشَةَ وَيَزِيدَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَيَزِيدَ بْنَ دِينَارٍ،
فَلَيْسُوا هُنَاكَ وَمَا هُوَ - إِنْ كَانَ - إِلَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ،
فَقَالَ عُبَيْدٌ: لَقَدْ شَرَّفْتَهُمْ، وَعَظَّمْتَ وِلَايَتَهُمْ، وَإِنَّ
لَهُمْ لَعَدَدًا وَجَلَدًا وَحَظًّا فَأَخْلِقْ بِهِ. فَأَجْمَعَ رَأْيُ
الْحَجَّاجِ عَلَى عَزْلِ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يَذُمُّهُ وَيُخَوِّفُهُ غَدْرُهُ، وَيُخْبِرُهُ بِمَا أَخْبَرَهُ بِهِ
ذَلِكَ الشَّيْخُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَدْ أَكْثَرْتَ فِي
شَأْنِ يَزِيدَ، فَسَمِّ رَجُلًا يَصْلُحُ لِخُرَاسَانَ، فَوَقَعَ اخْتِيَارُ
الْحَجَّاجِ عَلَى الْمُفَضَّلِ بْنِ الْمُهَلَّبِ، فَوَلَّاهُ قَلِيلًا تِسْعَةَ
أَشْهُرٍ، فَغَزَا بَاذَغِيسَ وَغَيْرَهَا، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً،
وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ ثُمَّ عَزَلَهُ بِقُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ.
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ ذَلِكَ، وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ بَعْدَ مَقْتَلِ أَبِيهِ لَمْ يَبْقَ بِيَدِهِ بَلَدٌ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَعَلَ كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْ بَلْدَةٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا فَقَاتَلَهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ تِرْمِذَ، وَكَانَ مَلِكُهَا فِيهِ ضَعْفٌ، فَجَعَلَ يُهَادِنُهُ وَيَبْعَثُ إِلَيْهِ بِالْأَلْطَافِ وَالتُّحَفِ، حَتَّى جَعَلَ يَتَصَيَّدُ هُوَ وَهُوَ، ثُمَّ عَنَّ لِلْمَلِكِ فَعَمِلَ لَهُ طَعَامًا، وَبَعَثَ إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ: أَنِ ائْتِنِي فِي مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ، فَاخْتَارَ مُوسَى مِنْ جَيْشِهِ مِائَةً مِنْ شُجْعَانِهِمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْبَلَدَ، فَأَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا فَرَغَتِ الضِّيَافَةُ اضْطَجَعَ مُوسَى عَلَى جَنْبِهِ فِي دَارِ الْمَلِكِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْوَمُ مِنْ هُنَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا الْمَنْزِلُ مَنْزِلِي، أَوْ يَكُونَ قَبْرِي، فَثَارَ أَهْلُ الْقَصْرِ إِلَيْهِ فَحَاجَفَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ وَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ تِرْمِذَ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ تِرْمِذَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ بَقِيَّتُهُمْ، وَاسْتَدْعَى مُوسَى بَقِيَّةَ جَيْشِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَحْوَذَ مُوسَى عَلَى الْبَلَدِ فَحَصَّنَهَا وَمَنَعَهَا مِنَ الْأَعْدَاءِ، وَخَرَجَ مِنْهَا مَلِكُهَا هَارِبًا، فَلَجَأَ إِلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ فَاسْتَنْصَرَهُمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ بَلَدِكُمْ لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ مَلِكُ تِرْمِذَ إِلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنَ التُّرْكِ فَاسْتَصْرَخَهُمْ، فَبَعَثُوا مَعَهُ قُصَّادًا نَحْوَ مُوسَى ; لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِقُدُومِهِمْ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ - أَمْرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُؤَجِّجُوا نَارًا، وَيَلْبَسُوا ثِيَابَ الشِّتَاءِ، وَيُدْنُوا أَيْدِيَهُمْ مِنَ النَّارِ كَأَنَّهُمْ يَصْطَلُونَ بِهَا، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، رَأَوْا أَصْحَابَهُ وَمَا يَصْنَعُونَ
فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، فَقَالُوا لَهُمْ:
مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُونَهُ ؟ فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّا نَجِدُ الْبَرْدَ فِي
الصَّيْفِ وَالْكُرْبَ فِي الشِّتَاءِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا:
مَا هَؤُلَاءِ بَشَرٌ، مَا هَؤُلَاءِ إِلَّا جِنٌّ. ثُمَّ عَادُوا إِلَى
مَلِكِهِمْ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا رَأَوْا، فَقَالُوا: لَا طَاقَةَ لَنَا بِقِتَالِ
هَؤُلَاءِ. ثُمَّ ذَهَبَ صَاحِبُ تِرْمِذَ فَاسْتَجَاشَ بِطَائِفَةٍ أُخْرَى،
فَجَاءُوا فَحَاصَرُوهُمْ بِتِرْمِذَ، وَجَاءَ الْخُزَاعِيُّ فَحَاصَرَهُمْ
أَيْضًا، فَجَعَلَ يُقَاتِلُ الْخُزَاعِيَّ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُقَاتِلُ
آخِرَهُ الْعَجَمَ، ثُمَّ إِنَّ مُوسَى بَيَّتَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً
عَظِيمَةً، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ عُمَرَ الْخُزَاعِيَّ فَصَالَحَهُ، وَكَانَ مَعَهُ،
فَدَخَلَ يَوْمًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَلَيْسَ يَرَى مَعَهُ سِلَاحًا،
فَقَالَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، إِنَّ مِثْلَكَ لَا
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلَا سِلَاحٍ. فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي سِلَاحًا. ثُمَّ
رَفَعَ صَدْرَ فِرَاشِهِ فَإِذَا سَيْفُهُ مُنْتَضًى، فَأَخَذَهُ عُمَرُ،
فَضَرْبَهُ بِهِ حَتَّى بَرَدَ، وَخَرَجَ هَارِبًا، ثُمَّ تَفَرَّقَ أَصْحَابُ
مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَمَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى
عَزْلِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ إِمْرَةِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَحَسَّنَ لَهُ ذَلِكَ رَوْحُ بْنُ زِنْبَاعٍ الْجُذَامِيُّ،
فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِمَا قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ
فِي اللَّيْلِ، وَكَانَ لَا يُحْجَبُ عَنْهُ أَيَّ سَاعَةٍ جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ
نَهَارٍ، فَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ
مِنْهُ مِنَ الْعَزْمِ عَلَى عَزْلِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى إِرَادَةِ
عَزْلِهِ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَوْلَادِهِ
; الْوَلِيدِ ثُمَّ سُلَيْمَانَ ثُمَّ يَزِيدَ ثُمَّ هِشَامٍ، وَذَلِكَ عَنْ
رَأْيِ الْحَجَّاجِ وَتَرْتِيبِهِ ذَلِكَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَ أَبُوهُ
مَرْوَانُ
عَهِدَ بِالْأَمْرِ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَأَرَادَ عَبْدُ
الْمَلِكِ أَنْ يُنَحِّيَهُ عَنِ الْإِمْرَةِ مِنْ بَعْدِهِ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَيَجْعَلَ الْأَمْرَ فِي أَوْلَادِهِ وَعَقِبِهِ، وَأَنْ تَكُونَ الْخِلَافَةُ
بَاقِيَةً فِيهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ
أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَبُو الْأَصْبَغِ، الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ،
وُلِدَ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ دَخَلَ الشَّامَ مَعَ أَبِيهِ مَرْوَانَ، وَكَانَ
وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِ أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَوَلَّاهُ أَبُوهُ
إِمْرَةَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، فَكَانَ
وَالِيًا عَلَيْهَا إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، وَشَهِدَ قَتْلَ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ
بْنِ الْعَاصِ، كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ، وَهِيَ
الدَّارُ الَّتِي لِلصُّوفِيَّةِ الْيَوْمَ، الْمَعْرُوفَةُ بِالْخَانَقَاهِ
السُّمَيْسَاطِيَّةِ، ثُمَّ كَانَتْ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ ثُمَّ تَنَقَّلَتْ إِلَى أَنْ صَارَتْ خَانِقَاهَ لِلصُّوفِيَّةِ.
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَحَدِيثُهُ عَنْهُ فِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ "، وَ " سُنَنِ أَبِي
دَاوُدَ "، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ
خَالِعٌ. وَعَنْهُ ابْنُهُ عُمَرُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ،
وَجَمَاعَةٌ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً قَلِيلَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ غَيْرُهُ:
كَانَ يَلْحَنُ فِي الْحَدِيثِ وَفِي كَلَامِهِ، ثُمَّ تَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ
فَأَتْقَنَهَا وَأَحْسَنَهَا، فَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ سَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَشْكُو خَتَنَهُ - وَهُوَ زَوْجُ
ابْنَتِهِ - فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ مَنْ خَتَنَكَ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ:
خَتَنَنِي الْخَاتِنُ الَّذِي يَخْتِنُ النَّاسَ. فَقَالَ لِكَاتِبِهِ: وَيْحَكَ،
بِمَاذَا أَجَابَنِي ؟ فَقَالَ الْكَاتِبُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كَانَ
يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ مَنْ خَتَنُكَ ؟ فَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ
مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ، فَمَكَثَ جُمُعَةً وَاحِدَةً
فَتَعَلَّمَهَا، فَخَرَجَ وَهُوَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
يَجْزِلُ عَطَاءَ مَنْ يُعْرِبُ كَلَامَهُ، وَيَنْقُصُ عَطَاءَ مَنْ يَلْحَنُ
فِيهِ ; فَتَسَارَعَ النَّاسُ فِي زَمَانِهِ إِلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ، قَالَ
عَبْدُ الْعَزِيزِ يَوْمًا لِرَجُلٍ: مِمَّنْ أَنْتَ ؟ قَالَ مِنْ بَنُو عَبْدِ
الدَّارِ. فَقَالَ: تَجِدُهَا فِي جَائِزَتِكَ، فَنَقَصَهُ مِائَةَ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، ثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ
يُوسُفَ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: ارْفَعْ إِلَيَّ
حَاجَتَكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى،
وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَلَسْتُ أَسْأَلُكَ شَيْئًا، وَلَا أَرُدُّ رِزْقًا
رَزَقَنِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْكَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ، عَنْ سُوِيدِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: بَعَثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مَرْوَانَ بِأَلْفِ دِينَارٍ إِلَى ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: فَجِئْتُهُ، فَدَفَعْتُ
إِلَيْهِ الْكِتَابَ. فَقَالَ: أَيْنَ الْمَالُ ؟ فَقُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُهُ
اللَّيْلَةَ حَتَّى أُصْبِحَ. قَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا يَبِيتُ ابْنُ عُمَرَ
اللَّيْلَةَ وَلَهُ أَلْفُ دِينَارٍ. قَالَ: فَدَفَعَ إِلَيَّ الْكِتَابَ حَتَّى
جِئْتُهُ بِهَا، فَفَرَّقَهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمِنْ كَلَامِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَجَبًا لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ وَيُوقِنُ أَنَّ
اللَّهَ يَرْزُقُهُ وَيُخْلِفُ عَلَيْهِ، كَيْفَ يَحْبِسُ مَالًا عَنْ عَظِيمِ
أَجْرٍ وَحُسْنِ سَمَاعٍ. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أُحْضِرَ لَهُ مَالٌ
يَخُصُّهُ، وَإِذَا هُوَ ثَلَاثُمِائَةِ مُدْيٍ مِنْ ذَهَبَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ
لَوَدِدْتُ أَنَّهُ بَعْرٌ حَائِلٌ بِنَجْدٍ. وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ
أَنِّي لَمْ أَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا، وَلَوَدِدْتُ أَنْ أَكُونَ هَذَا الْمَاءَ
الْجَارِيَ، أَوْ نَبَاتَةً بِأَرْضِ الْحِجَازِ.
وَقَالَ: ائْتُونِي بِكَفَنِي الَّذِي
تُكَفِّنُونِي فِيهِ. فَجَعَلَ يَقُولُ: أُفٍّ لَكَ مَا أَقْصَرَ طَوِيلَكَ،
وَأَقَلَّ كَثِيرَكَ !
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ: كَانَتْ
وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا
وَهْمٌ مِنْ يَعْقُوبَ، وَالصَّوَابُ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ ; فَإِنَّهُ
مَاتَ قَبْلَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخِيهِ، وَمَاتَ عَبْدُ الْمَلِكِ سَنَةَ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ مِنْ خِيَارِ الْأُمَرَاءِ،
كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، وَهُوَ وَالِدُ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَدِ اكْتَسَى عُمْرُ أَخْلَاقَ أَبِيهِ، وَزَادَ
عَلَيْهِ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ لِعَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْأَوْلَادِ
غَيْرُ عُمْرَ: عَاصِمٌ وَأَبُو بَكْرٍ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَصْبَغُ - مَاتَ
قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ حُزْنًا كَثِيرًا، وَمَرِضَ بَعْدَهُ
وَمَاتَ - وَسُهَيْلٌ، وَكَانَ لَهُ عِدَّةُ بَنَاتٍ: أُمُّ مُحَمَّدٍ، وَأُمُّ
عُثْمَانَ، وَأُمُّ الْحَكَمِ، وَأُمُّ الْبَنِينَ، وَهُنَّ مِنْ أُمَّهَاتٍ
شَتَّى، وَلَهُ مِنَ الْأَوْلَادِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي
بَنَاهَا عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ مِصْرَ، وَحُمِلَ إِلَى مِصْرَ فِي النِّيلِ،
وَدُفِنَ بِهَا، وَقَدْ تَرَكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مَرْوَانَ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالدَّوَابِّ ; مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ
وَالْإِبِلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَعْجَزُ عَنْهُ الْوَصْفُ، مِنْ جُمْلَةِ
ذَلِكَ: ثَلَاثُمِائَةِ مُدِّ ذَهَبٍ غَيْرُ الْوَرِقِ، مَعَ جُودِهِ وَكَرَمِهِ
وَبَذْلِهِ وَعَطَايَاهُ الْجَزِيلَةِ ; فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْطَى النَّاسَ
لِلْجَزِيلِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى
أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَنْزِلَ
عَنِ الْعَهْدِ الَّذِي لَهُ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ، أَوْ يَكُونَ
وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّهُ أَعَزُّ الْخَلْقِ عَلَيَّ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ يَقُولُ: إِنِّي أَرَى فِي أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مَا تَرَى فِي الْوَلِيدِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ
يَأْمُرُهُ بِحَمْلِ خَرَاجِ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ لَا يَحْمِلُ
إِلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْخَرَاجِ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِلَادُ
مِصْرَ بِكَمَالِهَا وَبِلَادُ الْمَغْرِبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلُّهَا لِعَبْدِ
الْعَزِيزِ ; مَغَانِمُهَا وَخَرَاجُهَا وَحِمْلُهَا، فَكَتَبَ عَبْدُ الْعَزِيزِ
إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ: إِنِّي وَإِيَّاكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
قَدْ بَلَغْنَا سِنًّا لَمْ يَبْلُغْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ إِلَّا كَانَ
بَقَاؤُهُ قَلِيلًا، وَإِنِّي لَا أَدْرِي وَلَا تَدْرِي أَيُّنَا يَأْتِيهِ
الْمَوْتُ أَوَّلًا ; فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ لَا تُغَثِّثَ عَلَيَّ بَقِيَّةَ
عُمْرِي فَافْعَلْ. فَرَقَّ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَالَ: لَعَمْرِي لَا
أُغَثِّثُ عَلَيْكَ بَقِيَّةَ عُمْرِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ الْوَلِيدِ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يُعْطِيَكَهَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنَ الْعِبَادِ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ عَنْكَ.
وَقَالَ لِابْنَيْهِ الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ: هَلْ قَارَفْتُمَا
مُحَرَّمًا أَوْ حَرَامًا قَطُّ ؟
قَالَا: لَا وَاللَّهِ. فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، نِلْتُمَاهَا وَرَبِّ
الْكَعْبَةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا امْتَنَعَ أَخُوهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ
مِنْ إِجَابَتِهِ إِلَى مَا طَلَبَ مِنْهُ مِنْ بَيْعَتِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ
دَعَا عَلَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَطَعَنِي فَاقْطَعْهُ. فَمَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ أَخِيهِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيْلًا حَزِنَ وَبَكَى، وَبَكَى أَهْلُهُ بُكَاءً كَثِيرًا
عَلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَكِنْ سَرَّهُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ ابْنَيْهِ
الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ ; فَإِنَّهُ نَالَ فِيهِمَا مَا كَانَ يُؤَمِّلُهُ
لَهُمَا مِنْ وِلَايَتِهِ إِيَّاهُمَا الْعَهْدَ مِنْ بَعْدِهِ.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُزَيِّنُ لَهُ وِلَايَةَ
الْوَلِيدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَوْفَدَ إِلَيْهِ وَفَدًا فِي ذَلِكَ، عَلَيْهِمْ
عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ الْعَنْزِيُّ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَامَ عِمْرَانُ
خَطِيبًا فَتَكَلَّمَ، وَتَكَلَّمَ الْوَفْدُ فِي ذَلِكَ، وَحَثُّوا عَبْدَ
الْمَلِكِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْشَدَ عِمْرَانُ بْنُ عِصَامٍ فِي ذَلِكَ:
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ
نُهْدِي عَلَى النَّأْيِ التَّحِيَّةَ وَالسِّلَامَا أَجِبْنِي فِي بَنِيكَ يَكُنْ
جَوَابِي
لَهُمْ عَادِيَةً وَلَنَا قِوَامَا فَلَوْ أَنَّ الْوَلِيدَ أُطَاعُ فِيهِ
جَعَلْتَ لَهُ الْخِلَافَةَ وَالذِّمَامَا شَبِيهُكَ حَوْلَ قُبَّتِهِ قُرَيْشٌ
بِهِ يَسْتَمْطِرُ النَّاسُ الْغَمَامَا وَمِثْلُكَ فِي التُّقَى لَمْ يَصْبُ
يَوْمًا
لَدُنْ خَلَعَ الْقَلَائِدَ وَالْتِمَامًا فَإِنْ تُؤْثِرْ أَخَاكَ بِهَا فَإِنَّا
وَجَدِّكَ لَا نُطِيقُ لَهَا اتِّهَامَا وَلَكِنَّا نُحَاذِرُ مِنْ بَنِيهِ
بَنِي الْعَلَّاتِ مَأْثَرَةً سَمَامَا وَنَخْشَى إِنْ جَعَلْتَ الْمُلْكَ فِيهِمْ
سَحَابًا أَنْ تَعُودَ لَهُمْ جَهَامَا فَلَا يَكُ مَا حَلَبْتَ غَدًا لِقَوْمٍ
وَبَعْدَ غَدٍ بُنُوكَ هُمُ الْعِيَامَا فَأُقْسِمُ لَوْ تَخَطَّأْنِي عِصَامٌ
بِذَلِكَ مَا عَذَرْتُ بِهِ عِصَامَا وَلَوْ أَنِّي حَبَوْتُ أَخًا بِفَضْلٍ
أُرِيدُ بِهِ الْمَقَالَةَ وَالْمَقَامَا لِعَقَّبَ فِي بَنِيَّ عَلَى بَنِيهِ
كَذَلِكَ أَوْ لَرُمْتُ لَهُ مَرَامَا فَمَنْ يَكُ فِي أَقَارِبِهِ صُدُوعٌ
فَصَدْعُ الْمُلْكِ أَبْطَؤُهُ الْتِئَامَا
فَهَاجَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ كَتَبَ
لِأَخِيهِ يَسْتَنْزِلُهُ عَنِ الْخِلَافَةِ لِلْوَلِيدِ، فَأَبَى عَلَيْهِ،
وَقَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْتَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَ مَوْتِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بِعَامٍ وَاحِدٍ، فَتَمَكَّنَ حِينَئِذٍ مِمَّا أَرَادَ مِنْ بَيْعَةِ
الْوَلِيدِ وَسُلَيْمَانَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ بَيْعَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ
لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مَرْوَانَ، بُويِعَ لَهُ بِدِمَشْقَ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، ثُمَّ
لِسُلَيْمَانَ مِنْ بَعْدِهِ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى
الْمَدِينَةِ امْتَنَعَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنْ يُبَايِعَ فِي حَيَاةِ
عَبْدِ الْمَلِكِ لِأَحَدٍ، فَأَمَرَ بِهِ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ نَائِبَ
الْمَدِينَةِ، فَضُرِبَ سِتِّينَ سَوْطًا، وَأَلْبَسَهُ ثِيَابًا مِنْ شَعْرٍ،
وَأَرْكَبَهُ جَمَلًا، وَطَافَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ،
فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى ثَنِيَّةِ ذُبَابٍ - وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الَّتِي كَانُوا
يَصْلُبُونَ عِنْدَهَا، وَيَقْتُلُونَ - فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَيْهَا رَدُّوهُ
إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَوْدَعُوهُ السَّجْنَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَاللَّهِ لَوْ
أَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَقْتُلُونَنِي لَمْ أَلْبَسْ هَذَا الْتُّبَّانَ.
ثُمَّ كَتَبَ هِشَامُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْلِمُهُ بِمُخَالَفَةِ
سَعِيدٍ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يُعَنِّفُهُ فِي ذَلِكَ، وَيَأْمُرُهُ
بِإِخْرَاجِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ سَعِيدًا كَانَ أَحَقَّ مِنْكَ بِصِلَةِ
الرَّحِمِ مِمَّا فَعَلْتَ بِهِ، وَإِنَّا لِنَعْلَمُ أَنَّ سَعِيدًا لَيْسَ
عِنْدَهُ شِقَاقٌ وَلَا خِلَافٌ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ لَهُ: مَا يَنْبَغِي إِلَّا أَنْ يُبَايِعَ، فَإِنْ لَمْ
يُبَايِعْ ضَرَبْتَ عُنُقَهُ، أَوْ خَلَّيْتَ سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ سَعِيدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا جَاءَتْ بَيْعَةُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ إِلَى الْمَدِينَةِ امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ،
فَضَرَبَهُ نَائِبُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ - وَهُوَ جَابِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ
بْنِ عَوْفٍ - سِتِّينَ سَوْطًا أَيْضًا، وَسَجَنَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ، وَأَبُو مَعْشَرٍ، وَالْوَاقِدِيُّ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ، وَكَانَ عَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ.
قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ: وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ
أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، كَانَ مِنْ
فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْعَشَرَةِ. قَالَهُ يَحْيَى بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً، وَكَانَ بِهِ صَمَمٌ، وَوَضَحٌ كَثِيرٌ،
وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ
وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ
وَعَمْرُو بْنُ سَلَمَةَ
وَوَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: كَانَ يَسْكُنُ الصُّفَّةَ فِي
زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ:
أَسْلَمَ وَاثِلَةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ
إِلَى تَبُوكَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ.
قَالَ وَاثِلَةُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَيْفَ أَنْتُمْ بَعْدِي إِذَا شَبِعْتُمْ مِنَ
خُبْزِ الْبُرِّ وَالزَّيْتِ،
فَأَكَلْتُمْ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، وَلَبِسْتُمْ أَنْوَاعَ الثِّيَابِ،
فَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ ذَلِكَ الْيَوْمُ ؟ قَالَ: قُلْنَا: ذَلِكَ
الْيَوْمُ. قَالَ:بَلْ أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ.
قَالَ وَاثِلَةُ: فَمَا ذَهَبَتْ عَنَّا الْأَيَّامُ حَتَّى أَكَلْنَا أَلْوَانَ
الطَّعَامِ، وَلَبِسْنَا أَنْوَاعَ الثِّيَابِ، وَرَكِبْنَا الْمَرَاكِبَ.
شَهِدَ وَاثِلَةُ تَبُوكَ، ثُمَّ شَهِدَ فَتْحَ دِمَشْقَ وَنَزَلَهَا،
وَمَسْجِدُهُ بِهَا عِنْدَ حَبْسِ بَابِ الصَّغِيرِ مِنَ الْقِبْلَةِ. وَهُوَ
آخِرُ مَنْ تُوَفِّيَ بِدِمَشْقَ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
بَشِيرٍ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبِ
بْنِ أُمَيَّةَ
كَانَ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِفُنُونِ الْعِلْمِ، وَلَهُ يَدٌ طُولَى فِي الطِّبِّ،
وَكَلَامٌ كَثِيرٌ فِي الْكِيمْيَاءِ وَكَانَ قَدِ اسْتَفَادَ ذَلِكَ مِنْ رَاهِبٍ
اسْمُهُ مَرْيَانُسُ، وَكَانَ خَالِدٌ فَصِيحًا بَلِيغًا شَاعِرًا مُطْبِقًا
كَأَبِيهِ، دَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِحَضْرَةِ
الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ، فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ ابْنَهُ الْوَلِيدَ يَحْتَقِرُ
أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ الْمُلُوكَ
إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً (
النَّمْلِ: 34 ) فَقَالَ لَهُ خَالِدٌ: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ( الْإِسْرَاءِ: 16 ). فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:
وَاللَّهِ لَقَدْ
دَخَلَ عَلَيَّ أَخُوكَ عَبْدُ اللَّهِ، فَإِذَا هُوَ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ. فَقَالَ خَالِدٌ: وَالْوَلِيدُ لَا يُقِيمُ اللَّحْنَ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ أَخَاهُ سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ. فَقَالَ خَالِدٌ: وَأَنَا أَخُو عَبْدِ اللَّهِ لَا أَلْحَنُ. فَقَالَ الْوَلِيدُ - وَكَانَ حَاضِرًا - لِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ: اسْكُتْ، فَوَاللَّهِ مَا تُعَدُّ فِي الْعِيرِ وَلَا فِي النَّفِيرِ. فَقَالَ خَالِدٌ: اسْمَعْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ أَقْبَلَ خَالِدٌ عَلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: وَيْحَكَ، وَمَا هُوَ الْعِيرُ وَالنَّفِيرُ غَيْرُ جِدِّي أَبِي سُفْيَانَ صَاحِبِ الْعِيرِ، وَجَدِّي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ صَاحِبِ النَّفِيرِ، وَلَكِنْ لَوْ قُلْتَ: غُنَيْمَاتٌ وَحُبَيْلَاتٌ وَالطَّائِفُ، وَرَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ. لَقُلْنَا: صَدَقْتَ. - يَعْنِي أَنَّ الْحَكَمَ كَانَ مَنْفِيًّا بِالطَّائِفِ يَرْعَى غَنَمًا، وَيَأْوِي إِلَى حَبَلَةِ الْكَرَمِ، حَتَّى آوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حِينَ وَلِيَ، فَسَكَتَ الْوَلِيدُ وَأَبُوهُ، وَلَمْ يُحِيرَا جَوَابًا. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ نَائِبُ الْحَجَّاجِ عَلَى مَرْوٍ
وَخُرَاسَانَ، بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَرْضِ التُّرْكِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ
الْكُفَّارِ، وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ وَتَسَلَّمَ قِلَاعًا وَحُصُونًا
وَمَمَالِكَ، ثُمَّ قَفَلَ فَسَبَقَ الْجَيْشَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ
يَلُومُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ: إِذَا كُنْتَ قَاصِدًا بِلَادَ الْعَدُوِّ
فَكُنْ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَإِذَا قَفَلْتَ رَاجِعًا فَكُنْ فِي سَاقَةِ
الْجَيْشَ، يَعْنِي لِتَكُونَ رَدْءًا لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنَالَهُمْ أَحَدٌ مِنَ
الْعَدُوِّ وَغَيْرِهِمْ بِكَيْدٍ، وَهَذَا رَأْيٌ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ جَاءَتِ
السُّنَّةُ.
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ السَّبْيِ امْرَأَةُ بَرْمَكَ - وَالِدِ خَالِدِ بْنِ
بَرْمَكَ - فَأَعْطَاهَا قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُسْلِمٍ،
فَوَطِئَهَا، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ قُتَيْبَةَ مَنَّ عَلَى السَّبْيِ،
وَرُدَّتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا بَرْمَكَ، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَكَانَ وَلَدُهَا عِنْدَهُمْ حَتَّى أَسْلَمُوا،
فَقَدِمُوا بِهِ مَعَهُمْ أَيَّامَ بَنِي الْعَبَّاسِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَمَّا رَجَعَ قُتَيْبَةُ إِلَى خُرَاسَانَ تَلْقَاهُ دَهَاقِينُ بُلْغَارَ
وَصَاغَانَ بِهَدَايَا عَظِيمَةٍ، وَمِفْتَاحٍ مِنْ ذَهَبِ بُلْغَارَ.
وَفِيهَا كَانَ طَاعُونٌ بِالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ وَوَاسِطٍ، وَيُسَمَّى طَاعُونَ
الْفَتَيَاتِ ; لِأَنَّهُ
أَوَّلَ مَا بَدَأَ بِالنِّسَاءِ
فَسُمِّيَ بِذَلِكَ.
وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ
وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَافْتَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ، وَحِصْنَ الْأَخْرَمِ
مِنْ أَرْضِ الرُّومِ.
وَفِيهَا عَقْدَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مِصْرَ، وَذَلِكَ
بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَدَخَلَهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ،
وَعُمْرُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً.
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ الْأَخْرَمُ بِوَرَى، لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا حَبَسَ الْحَجَّاجُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ
فِيهَا هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ أَبُو أُمَامَةُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ
الْبَاهِلِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى.
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيُّ
فِي قَوْلٍ شَهِدَ فَتْحَ مِصْرَ وَسَكَنَهَا، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ
الصَّحَابَةِ بِمِصْرَ، وَلَهُ أَحَادِيثُ.
وَفِيهَا، فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالِهَا، تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ:
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
وَالِدُ الْخُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ
وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ
أُمَيَّةَ، أَبُو الْوَلِيدِ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّهُ
عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ
أُمَيَّةَ.
سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَشَهِدَ الدَّارَ مَعَ أَبِيهِ، وَلَهُ عَشْرُ
سِنِينَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَارَ بِالنَّاسِ فِي بِلَادِ الرُّومِ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَهُ
سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَلَّاهُ إِيَّاهَا مُعَاوِيَةُ، وَكَانَ يُجَالِسُ
الْفُقَهَاءَ وَالْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ وَالصُّلَحَاءَ.
وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ،
وَبَرِيرَةَ مَوْلَاةِ عَائِشَةَ.
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ، وَعُرْوَةُ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، وَرَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ، وَجَرِيرُ
بْنُ عُثْمَانَ.
ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ
الْقَاسِمَ، فَكَانَ يُكْنَى بِأَبِي الْقَاسِمِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ النَّهْيُ
عَنِ التَّكَنِّي بِأَبِي الْقَاسِمِ، غَيَّرَ اسْمَهُ ; فَسَمَّاهُ عَبْدَ
الْمَلِكِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ
مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ بِعَبْدِ
الْمَلِكِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: وَأَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ فِي الْإِسْلَامِ
بِأَحْمَدَ، وَالِدُ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَرُوضِيُّ.
وَبُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ،
فِي خِلَافَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَبَقِيَ عَلَى الشَّامِ وَمِصْرَ مُدَّةَ
سَبْعِ سِنِينَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى بَاقِي الْبِلَادِ ثُمَّ، اسْتَقَلَّ
بِالْخِلَافَةِ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ، بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ،
كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ وَمَوْلِدُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي سَنَةِ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَبْلَ الْخِلَافَةِ مِنَ الْعُبَّادِ
الزُّهَّادِ الْفُقَهَاءِ، الْمُلَازِمِينَ لِلْمَسْجِدِ، التَّالِينَ
لِلْقُرْآنِ، وَكَانَ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ أَقْرَبَ إِلَى الْقِصَرِ.
وَكَانَتْ أَسْنَانُهُ مُشَبَّكَةً بِالذَّهَبِ، وَكَانَ أَفْوَهَ مَفْتُوحَ
الْفَمِ، فَرُبَّمَا غَفَلَ فَيَنْفَتِحُ فَمُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الذُّبَابُ ;
وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الذُّبَّانِ، وَكَانَ أَبْيَضَ رَبْعَةً
لَيْسَ بِالنَّحِيفِ وَلَا الْبَادِنِ، مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، أَشْهَلَ
كَبِيرَ الْعَيْنَيْنِ، دَقِيقَ الْأَنْفِ، مُشْرِقَ الْوَجْهِ، أَبْيَضَ
الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ يَخْضِبْ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ خَضَبَ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَقَدْ قَالَ نَافِعٌ: لَقَدْ رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ وَمَا فِيهَا شَابٌّ أَشَدَّ
تَشْمِيرًا، وَلَا أَفْقَهَ وَلَا أَقْرَأَ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ: كَانَ فُقَهَاءُ الْمَدِينَةِ
أَرْبَعَةً: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ،
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ; قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِمَارَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: وَلَدَ النَّاسُ أَبْنَاءً، وَوَلَدَ
مَرْوَانُ أَبًا - يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ - وَرَآهُ يَوْمًا وَقَدْ ذَكَرَ
اخْتِلَافَ النَّاسِ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ اجْتَمَعَ النَّاسُ
عَلَيْهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: كُنْتُ أُجَالِسُ بِرَيْرَةَ قَبْلَ أَنْ
أَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، فَكَانَتْ تَقُولُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ إِنَّ فِيكَ
خِصَالًا، وَإِنَّكَ لِجَدِيرٌ أَنْ تَلِيَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاحْذَرِ
الدِّمَاءَ ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ:إِنَّ الرَّجُلَ لَيُدْفَعُ عَنْ بَابِ الْجَنَّةِ أَنْ
يَنْظُرَ إِلَيْهَا عَلَى مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ يُرِيقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ
حَقٍّ.
وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلَ
الْوِلَايَةِ مُعَاوِيَةُ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ دَاوُدَ الزَّنْبَرِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى مَا بَيْنَ الظَّهْرِ وَالْعَصْرِ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَفِتْيَانٌ مَعَهُ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ: لَيْسَتِ الْعِبَادَةُ بِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، إِنَّمَا
الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَالْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ
اللَّهِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَا جَالَسْتُ أَحَدًا إِلَّا وَجَدْتُ لِي الْفَضْلَ
عَلَيْهِ إِلَّا عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ ; فَإِنِّي مَا ذَاكَرْتُهُ
حَدِيثًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ، وَلَا شِعْرًا إِلَّا زَادَنِي فِيهِ.
وَذَكَرَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَى مَرْوَانَ،
وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ سَنَةَ خَمْسِينَ: أَنِ ابْعَثِ ابْنَكَ
عَبْدَ الْمَلِكِ عَلَى بَعْثِ الْمَدِينَةِ إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ مَعَ
مُعَاوِيَةَ بْنِ خَدِيجٍ. فَذَكَرَ مِنْ كِفَايَتِهِ وَغِنَائِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ
فِي تِلْكَ الْبِلَادِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ مُقِيمًا
بِالْمَدِينَةِ حَتَّى كَانَتْ وَقْعَةُ الْحَرَّةِ، وَاسْتَوْلَى ابْنُ
الزُّبَيْرِ عَلَى بِلَادِ الْحِجَازِ،
وَأَجْلَى بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ هُنَالِكَ، فَقَدِمَ مَعَ أَبِيهِ الشَّامَ، ثُمَّ
لَمَّا صَارَتِ الْإِمَارَةُ مَعَ أَبِيهِ وَبَايَعَهُ أَهْلُ الشَّامِ كَمَا
تَقَدَّمَ، أَقَامَ فِي الْإِمَارَةِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ عَهِدَ إِلَيْهِ بِالْإِمَارَةِ
مِنْ بَعْدِهِ، فَاسْتَقَلَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ فِي مُسْتَهَلِّ
رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ، وَاجْتَمَعَ
النَّاسُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ
فِي جُمَادَى الْأُولَى إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ.
وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمَّا سُلِّمَ عَلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ بِالْخِلَافَةِ كَانَ فِي حِجْرِهِ مُصْحَفٌ، فَأَطْبَقَهُ، وَقَالَ:
هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.
وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: صُنِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ مَجْلِسٌ تُوُسِّعَ فِيهِ،
وَقَدْ كَانَ بُنِيَ لَهُ فِيهِ قُبَّةٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَدَخَلَهُ، وَقَالَ:
لَقَدْ كَانَ ابْنُ حَنْتَمَةَ الْأَحْوَزِيُّ - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
- يَرَى أَنَّ هَذَا عَلَيْهِ حَرَامٌ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْمُصْحَفَ مِنْ حِجْرِهِ قَالَ: هَذَا آخَرُ
الْعَهْدِ مِنْكَ. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَهُ إِقْدَامٌ عَلَى سَفْكِ
الدِّمَاءِ، وَكَانَ عُمَّالُهُ عَلَى مَذْهَبِهِ ; مِنْهُمُ الْحَجَّاجُ
وَالْمُهَلَّبُ، وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ حَازِمًا فَهِمًا فَطِنًا، سَائِسًا
لِأُمُورِ الدُّنْيَا،
لَا يَكِلُ أَمْرَ دُنْيَاهُ إِلَى
غَيْرِهِ، وَأُمُّهُ عَائِشَةُ بِنْتُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي
الْعَاصِ، وَأَبُوهَا مُعَاوِيَةُ هُوَ الَّذِي جَدَعَ أَنْفَ حَمْزَةَ عَمِّ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا خَرَجَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى
الْعِرَاقِ لِقِتَالِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ، خَرَجَ مَعَهُ يَزِيدُ بْنُ
الْأَسْوَدِ الْجُرَشِيُّ، فَلَمَّا الْتَقَوْا قَالَ: اللَّهُمَّ احْجِزْ بَيْنَ
هَذَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَوَلِّ الْأَمْرَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْكَ. فَظَفِرَ
عَبْدُ الْمَلِكِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ قَتْلِهِ مُصْعَبًا، وَدُخُولِهِ
الْكُوفَةَ، وَوَضْعِهِ رَأَسَ مُصْعَبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ
أَعَزِّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا بُويِعَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
بِالْخِلَافَةِ، كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ إِلَى
عَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، سَلَامٌ عَلَيْكَ،
فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، أَمَّا
بَعْدُ: فَإِنَّكَ رَاعٍ، وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ اللَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ؟ لَا أَحَدَ، وَالسَّلَامُ.
وَبَعَثَ بِهِ مَعَ سَالِمٍ، فَوَجَدُوا عَلَيْهِ ; إِذْ قَدَّمَ اسْمَهُ عَلَى
اسْمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ نَظَرُوا فِي كُتُبِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ
فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ، فَاحْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي
ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْحَنَّاطِ، عَنِ ابْنِ كَعْبٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ،
إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ أَنْ يَلْزَمَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ لَأَنْتُمْ، وَقَدْ
سَالَتْ عَلَيْنَا أَحَادِيثُ مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَشْرِقِ وَلَا نَعْرِفُهَا،
وَلَا نَعْرِفُ مِنْهَا إِلَّا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، فَالْزَمُوا مَا فِي
مُصْحَفِكُمُ الَّذِي جَمَعَكُمْ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الْمَظْلُومُ، وَعَلَيْكُمْ
بِالْفَرَائِضِ الَّتِي جَمَعَكُمْ عَلَيْهَا إِمَامُكُمُ الْمَظْلُومُ رَحِمَهُ
اللَّهُ، فَإِنَّهُ قَدِ اسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَنِعْمَ
الْمُشِيرُ كَانَ لِلْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَحْكِمَا مَا أَحْكَمَا
وَأَسْقِطَا مَا شَذَّ عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِيهِ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ الْمَلِكِ سَنَةَ
خَمْسٍ وَسَبْعِينَ بَعْدَ مَقْتَلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَامَيْنِ، فَخَطَبَنَا
فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ كَانَ مَنْ قَبْلِي مِنَ الْخُلَفَاءِ
يَأْكُلُونَ مِنَ الْمَالِ، وَيُؤَكِّلُونَ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُدَاوِي
أَدْوَاءَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَلَسْتُ بِالْخَلِيفَةِ
الْمُسْتَضْعَفِ - يَعْنِي عُثْمَانَ - وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمُدَاهِنِ - يَعْنِي
مُعَاوِيَةَ - وَلَا الْخَلِيفَةِ الْمَأْبُونِ - يَعْنِي يَزِيدَ بْنَ
مُعَاوِيَةَ - أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَحْتَمِلُ مِنْكُمْ كُلَّ اللَّغُوبَةِ
مَا لَمْ يَكُنْ عَقْدَ رَايَةٍ، أَوْ وَثَوْبٍ عَلَى مِنْبَرٍ.
هَذَا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ، حَقُّهُ حَقُّهُ، وَقَرَابَتُهُ قَرَابَتُهُ، قَالَ
بِرَأْسِهِ هَكَذَا، فَقُلْنَا
بِسَيْفِنَا هَكَذَا، وَإِنَّ
الْجَامِعَةَ الَّتِي خَلَعَهَا مِنْ عُنُقِهِ عِنْدِي، وَقَدْ أَعْطَيْتُ اللَّهَ
عَهْدًا أَنْ لَا أَضَعَهَا فِي رَأْسِ أَحَدٍ إِلَّا أَخْرَجَهَا الصُّعَدَاءَ،
فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا عَبَّادُ بْنُ سَلْمِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ زِيَادٍ،
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: رَكِبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
بَكْرًا، فَأَنْشَأَ قَائِدُهُ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا الْبَكْرُ الَّذِي أَرَاكَا عَلَيْكَ سَهْلُ الْأَرْضِ فِي
مَمْشَاكَا وَيْحَكَ هَلْ تَعْلَمُ مَنْ عَلَاكَا
خَلِيفَةُ اللَّهِ الَّذِي امْتَطَاكَا لَمْ يَحْبُ بَكْرًا مِثْلَ مَا حَبَاكَا
فَلَمَّا سَمِعَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ قَالَ: إِيْهًا يَا هَنَاهُ، قَدْ أَمَرْتُ
لَكَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ فَحَصِرَ فَقَالَ: إِنَّ
اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّا نَسْكُتُ حَصْرًا، وَلَا
نَنْطِقُ هَذْرًا، وَنَحْنُ أُمَرَاءُ الْكَلَامِ، فِينَا رَسَخَتْ عُرُوقُهُ،
وَعَلَيْنَا تَدَلَّتْ أَغْصَانُهُ، وَبَعْدَ مَقَامِنَا هَذَا مَقَامٌ، وَبَعْدَ
عِيِّنَا هَذَا مَقَالٌ، وَبَعْدَ يَوْمِنَا هَذَا أَيَّامٌ، يُعْرَفُ فِيهَا
فَصْلُ الْخِطَابِ، وَمَوْضِعُ الصَّوَابِ.
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ.
فَقَالَ: وَكَيْفَ لَا وَأَنَا أَعْرِضُ عَقْلِي عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ
جُمْعَةٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ !
وَقَالَ غَيْرُهُ: قِيلَ لِعَبْدِ
الْمَلِكِ: أَسْرَعَ إِلَيْكَ الشَّيْبُ. فَقَالَ: شَيَّبَنِي كَثْرَةُ ارْتِقَاءِ
الْمِنْبَرِ، وَمَخَافَةُ اللَّحْنِ. وَلَحَنَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ،
فَقَالَ لَهُ آخَرُ: زِدْ أَلِفَ. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَأَنْتَ فَزِدْ
أَلِفًا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: إِنَّ
الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ،
غَيْرَ غَالٍ فِيهِ وَلَا جَافٍّ عَنْهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ
يُسَايِرُهُ فِي سَفَرِهِ إِذَا رُفِعَتْ لَهُ شَجَرَةٌ: سَبِّحُوا بِنَا حَتَّى
نَأْتِيَ تِلْكَ الشَّجَرَةَ، وَكَبِّرُوا بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ تِلْكَ
الْحَجَرَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ وَقَعَ مِنْهُ فَلْسٌ فِي بِئْرٍ
قَذِرَةٍ، فَاكْتَرَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا حَتَّى أَخْرَجَهُ
مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِذَا جَلَسَ لِلْقَضَاءِ بَيْنَ
النَّاسِ، يَقُومُ السَّيَّافُونَ عَلَى رَأْسِهِ بِالسُّيُوفِ، فَيُنْشِدُ -
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُ مَنْ يُنْشِدُ
فَيَقُولُ:
إِنَّا إِذَا نَالَتْ دَوَاعِي الْهَوَى وَأَنْصَتَ السَّامِعُ لِلْقَائِلِ
وَاصْطَرَعَ النَّاسُ بِأَلْبَابِهِمْ نَقْضِي بِحُكْمٍ عَادِلٍ فَاصِلِ
لَا نَجْعَلُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَلَا نَلُطُّ دُونَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ
نَخَافُ أَنْ تُسَفَّهَ أَحْلَامُنَا فَنَخْمُلُ الدَّهْرَ مَعَ الْخَامِلِ
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ يَشْكُو الْحَجَّاجَ، وَيَقُولُ فِي
كِتَابِهِ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ عِيسَى لَيْلَةً وَاحِدَةً، أَوْ خَدَمَهُ
فَعَرَفَتْهُ النَّصَارَى لَنَزَلَ عِنْدَهُمْ، وَلَعَرَفُوا لَهُ ذَلِكَ، وَلَوْ
أَنَّ رَجُلًا خَدَمَ مُوسَى أَوْ رَآهُ فَعَرَفَتْهُ الْيَهُودُ فَذَكَرَ
نَحْوَهُ، وَإِنِّي خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَصَاحِبُهُ، وَإِنَّ الْحَجَّاجَ قَدْ أَضَرَّ بِي وَفَعَلَ وَفَعَلَ. قَالَ:
فَأَخْبَرَنِي مَنْ شَهِدَ عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَهُوَ يَبْكِي،
وَبَلَغَ بِهِ الْغَضَبُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ
بِكِتَابٍ غَلِيظٍ، فَجَاءَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَرَأَهُ فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ،
ثُمَّ قَالَ إِلَى
حَامِلِ الْكِتَابِ: انْطَلِقْ بِنَا
إِلَيْهِ نَتَرَضَّاهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ
فِي أَيَّامِ ابْنِ الْأَشْعَثِ: إِنَّكَ أَعَزُّ مَا تَكُونُ بِاللَّهِ أَحْوَجَ
مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَإِذَا عَزَزْتَ بِاللَّهِ فَاعْفُ لَهُ، فَإِنَّكَ بِهِ
تَعِزُّ وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنْ يَخْلُوَ بِهِ،
فَأَمَرَ مَنْ عِنْدِهِ بِالِانْصِرَافِ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الرَّجُلُ لِيَتَكَلَّمَ،
قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِيَّاكَ أَنْ تَمْدَحَنِي ; فَإِنِّي أَعْلَمُ
بِنَفْسِي مِنْكَ، أَوْ تَكْذِبَنِي ; فَإِنَّهُ لَا رَأْيَ لِكَذُوبٍ، أَوْ
تَسْعَى إِلَيَّ بِأَحَدٍ، وَإِنْ شِئْتَ أَقَلْتُكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ:
أَقِلْنِي. فَأَقَالَهُ.
وَكَذَا كَانَ يَقُولُ لِلرَّسُولِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ مِنَ الْآفَاقِ:
اعْفِنِي مِنْ أَرْبَعٍ، وَقُلْ مَا شِئْتَ ; لَا تُطْرِنِي، وَلَا تُجِبْنِي
فِيمَا لَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ، وَلَا تَكْذِبْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي عَلَى
الرَّعِيَّةِ ; فَإِنَّهُمْ إِلَى رَأْفَتِي وَمَعْدَلَتِي أَحْوَجُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُتِيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِرَجُلٍ
كَانَ مَعَ بَعْضِ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ هَذَا جَزَائِي
مِنْكَ! فَقَالَ: وَمَا جَزَاؤُكَ؟
فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مَعَ فُلَانٍ إِلَّا بِالنَّظَرِ لَكَ، وَذَلِكَ
أَنِّي رَجُلٌ مَشْئُومٌ، مَا كُنْتُ مَعَ رَجُلٍ قَطُّ إِلَّا غُلِبَ وَهُزِمَ،
وَقَدْ بَانَ لَكَ صِحَّةُ مَا ادَّعَيْتُ، وَكُنْتُ عَلَيْكَ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ
أَلْفٍ مَعَكَ. فَضَحِكَ وَخَلَّى سَبِيلَهُ.
وَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَيُّ الرِّجَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ تَوَاضَعَ
عَنْ رِفْعَةٍ، وَزَهَدَ عَنْ قُدْرَةِ، وَتَرَكَ النُّصْرَةَ عَنْ قُوَّةٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: لَا طُمَأْنِينَةَ قَبْلَ الْخِبْرَةِ، فَإِنَّ الطُّمَأْنِينَةَ
قَبْلَ الْخِبْرَةِ ضِدُّ الْحَزْمِ.
وَقَالَ: خَيْرُ الْمَالِ مَا أَفَادَ حَمْدًا وَدَفَعَ ذَمًّا، وَلَا يَقُولَنَّ
أَحَدُكُمْ: ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، فَإِنَّ الْخَلْقَ كُلُّهُمْ عِيَالُ
اللَّهِ. وَيَنْبَغِي أَنَّ يُحْمَلَ هَذَا عَلَى غَيْرِ مَا ثَبَتَ بِهِ
الْحَدِيثُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمُؤَدِّبِ أَوْلَادِهِ -
وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ -:
عَلِّمْهُمُ الصِّدْقَ كَمَا تُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، وَجَنِّبْهُمُ السَّفِلَةَ
; فَإِنَّهُمْ
أَسْوَأُ النَّاسِ رِعَةً،
وَأَقَلُّهُمْ أَدَبًا، وَجَنِّبْهُمُ الْحَشَمَ ; فَإِنَّهُمْ لَهُمْ مَفْسَدَةٌ،
وَأَحْفِ شُعُورَهُمْ، تَغْلُظْ رِقَابُهُمْ، وَأَطْعِمْهُمُ اللَّحْمَ يَقْوُوا،
وَعَلِّمُهُمُ الشِّعْرَ يَمْجُدُوا وَيُنْجُدُوا، وَمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَاكُوا
عَرْضًا، وَيَمُصُّوا الْمَاءَ مَصًّا، وَلَا يَعُبُّوا عَبًّا، وَإِذَا احْتَجْتَ
أَنْ تَتَنَاوَلَهُمْ بِأَدَبٍ ; فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي سِرٍّ لَا يَعْلَمُ بِهِمْ
أَحَدٌ مِنَ الْغَاشِيَةِ، فَيَهُونُوا عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: أَذِنَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِلنَّاسِ فِي
الدُّخُولِ عَلَيْهِ إِذْنًا خَاصًّا، فَدَخَلَ شَيْخٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ لَمْ
يَأْبَهْ لَهُ الْحَرَسُ، فَأَلْقَى بَيْنَ يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ صَحِيفَةً،
وَخَرَجَ فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَ، وَإِذَا فِيهَا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّ اللَّهَ
قَدْ جَعَلَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ ; فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ،
وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ
يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ
الْحِسَابِ ( ص: 26 ) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ
عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( الْمُطُفِّفِينَ: 4 - 6
). ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا
نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ( هُودٍ: 103، 104 ) إِنَّ الَّذِي أَنْتَ
فِيهِ لَوْ بَقِيَ لِغَيْرِكَ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ
خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا ( النَّمْلِ: 52 )
وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ يَوْمَ يُنَادِي
الْمُنَادِي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ( الصَّافَّاتِ: 22 )،
أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( الْأَعْرَافِ: 44 ) قَالَ:
فَتَغَيَّرَ وَجْهُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَدَخَلَ دَارَ حَرَمِهِ، وَلَمْ تَزَلِ
الْكَآبَةُ فِي وَجْهِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا.
وَكَتَبَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ كِتَابًا، وَفِي آخِرِهِ:
وَلَا يُطْمِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُولِ الْبَقَاءِ مَا يَظْهَرُ
لَكَ مِنْ صِحَّتِكَ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ، وَاذْكُرْ مَا تَكَلَّمَ بِهِ
الْأَوَّلُونَ:
إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلَادَهَا وَبَلِيَتْ مَنْ كِبَرٍ أَجْسَادُهَا
وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا تِلْكَ زُرُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا
فَلَمَّا قَرَأَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بَكَى حَتَّى بَلَّ طَرْفَ ثَوْبِهِ، ثُمَّ
قَالَ: صَدَقَ زِرٌّ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِغَيْرِ هَذَا كَانَ أَرْفَقَ.
وَسَمِعَ عَبْدُ الْمَلِكِ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ يَذْكُرُونَ سِيرَةَ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِيهَا عَنْ ذِكْرِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ إِزْرَاءٌ عَلَى
الْوُلَاةِ، مَفْسَدَةٌ لِلرَّعِيَّةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كَانَ
عَبْدُ الْمَلِكِ يَجْلِسُ فِي
حَلْقَةِ أُمِّ الدَّرْدَاءِ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ بِدِمَشْقَ، فَقَالَتْ
لَهُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ شَرِبْتَ الطِّلَاءَ بَعْدَ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ.
فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، وَالدِّمَاءَ أَيْضًا قَدْ شَرِبْتُهَا، ثُمَّ جَاءَهُ
غُلَامٌ كَانَ قَدْ بَعَثَهُ فِي حَاجَةٍ، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ، لَعَنَكَ
اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى الْهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
لَعَّانٌ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، قَالَ: قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ
بْنَ مَرْوَانَ قَالَ: قَدْ صِرْتُ لَا أَفْرَحُ بِالْحَسَنَةِ أَعْمَلُهَا، وَلَا
أَحْزَنُ عَلَى السَّيِّئَةِ أَرْتَكِبُهَا. فَقَالَ سَعِيدٌ: الْآنَ تَكَامَلَ
مَوْتُ قَلْبِهِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَطَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا
خُطْبَةً بَلِيغَةً، ثُمَّ قَطَعَهَا وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: يَا
رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ قَلِيلَ عَفْوِكَ أَعْظَمُ مِنْهَا،
اللَّهُمَّ فَامْحُ بِقَلِيلِ عَفْوِكَ عَظِيمَ ذُنُوبِي. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ
الْحَسَنَ فَبَكَى، وَقَالَ: لَوْ كَانَ كَلَامٌ يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ لَكُتِبَ
هَذَا الْكَلَامُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ الدِّمَشْقِيُّ: وُضِعَ سِمَاطُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَوْمًا
بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ لِحَاجِبِهِ: ائْذَنْ
لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ. فَقَالَ: مَاتَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: فَأُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ
بْنِ أَسِيدٍ. قَالَ: مَاتَ. قَالَ: فَلِخَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ.
قَالَ: مَاتَ. قَالَ: فَلِفُلَانٍ وَفُلَانٍ لِأَقْوَامٍ قَدْ مَاتُوا - وَهُوَ
يَعْلَمُ ذَلِكَ - فَبَكَى، وَأَمَرَ بِرَفْعِ السِّمَاطِ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
ذَهَبَتْ لِدَّاتِي وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ وَغَيَّرْتُ بَعْدَهُمْ وَلَسْتُ
بِخَالِدِ
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ دَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ فَبَكَى،
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا هَذَا ؟ أَتَحِنُّ حَنِينَ الْجَارِيَةِ
وَالْأَمَةِ ؟ إِذَا أَنَا مِتُّ فَشَمِّرْ وَاتَّزِرْ وَالْبَسْ جِلْدَ
النَّمِرِ، وَضَعِ الْأُمُورَ عِنْدَ أَقْرَانِهَا، وَاحْذَرْ قُرَيْشًا، ثُمَّ
قَالَ لَهُ: يَا وَلِيدُ، اتَّقِ اللَّهَ فِيمَا أَسْتَخْلِفُكُ فِيهِ، وَاحْفَظْ
وَصِيَّتِي، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُعَاوِيَةَ فَصِلْ رَحِمَهُ، وَاحْفَظْنِي
فِيهِ، وَانْظُرْ إِلَى أَخِي مُحَمَّدٍ فَأَقِرَّهُ عَلَى الْجَزِيرَةِ، وَلَا تَعْزِلْهُ
عَنْهَا، وَانْظُرِ ابْنَ عَمِّنَا عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ
فَإِنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ إِلَيْنَا بِمَوَدَّتِهِ وَنَصِيحَتِهِ، وَلَهُ نَسَبٌ
وَحَقٌّ، فَصِلْ رَحِمَهُ وَاعْرِفْ حَقَّهُ، وَانْظُرِ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ
فَأَكْرِمْهُ ; فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي مَهَّدَ لَكُمُ الْبِلَادَ، وَقَهَرَ
الْأَعْدَاءَ، وَأَخْلَصَ لَكُمُ الْمُلْكَ، وَشَتَّتَ الْخَوَارِجَ، وَأَنْهَاكَ
وَإِخْوَتَكَ عَنِ الْفِرْقَةِ، وَكُونُوا أَوْلَادَ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَكُونُوا
فِي
الْحَرْبِ أَحْرَارًا، وَلِلْمَعْرُوفِ
مَنَارًا ; فَإِنَّ الْحَرْبَ لَمْ تُدْنِ مَنِيَّةً قَبْلَ وَقْتِهَا، وَإِنَّ
الْمَعْرُوفَ يُشَيِّدُ ذِكْرَ صَاحِبِهِ، وَيُمَيِّلُ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ،
وَيُذَلِّلُ الْأَلْسِنَةَ بِالذِّكْرِ الْجَمِيلِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا اجْتَمَعْنَ فَرَامَهَا بِالْكَسْرِ ذُو حَنَقٍ وَبَطْشٍ
بِالْيَدِ
عَزَّتْ فَلَمْ تُكْسَرْ وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ فَالْكَسْرُ وَالتَّوْهِينُ
لِلْمُتَبَدِّدِ
ثُمَّ قَالَ: إِذَا أَنَا مِتُّ فَادْعُ النَّاسَ إِلَى بَيْعَتِكَ، فَمَنْ أَبَى
فَالسَّيْفُ، وَعَلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى إِخْوَانِكَ فَأَكْرِمْهُنَّ،
وَأَحَبُّهُنَّ إِلَيَّ فَاطِمَةُ - وَكَانَ قَدْ أَعْطَاهَا قُرْطَيْ مَارِيَةَ
وَالدُّرَّةَ الْيَتِيمَةَ - ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ احْفَظْنِي فِيهَا،
فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا.
وَلَمَّا احْتُضِرَ سَمِعَ غَسَّالًا يَغْسِلُ الثِّيَابَ، فَقَالَ: مَا هَذَا ؟
فَقَالُوا: غَسَّالٌ. فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتَ غَسَّالًا، أَكْسِبُ مَا
أَعِيشُ بِهِ يَوْمًا بِيَوْمٍ، وَلَمْ أَلِ الْخِلَافَةَ، ثُمَّ تَمَثَّلَ
فَقَالَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ عُمِّرْتُ فِي
الْمُلْكِ بُرْهَةً وَدَانَتْ لِيَ الدُّنْيَا بِوَقْعِ الْبَوَاتِرِ
وَأُعْطِيتُ جَمَّ الْمَالِ وَالْحُكْمَ وَالنُّهَى وَدَانَ قَمَاقِيمُ الْمُلُوكِ
الْجَبَابِرِ
فَأَضْحَى الَّذِي قَدْ كَانَ مِمَّا يَسُرُّنِي كَحُلْمٍ مَضَى فِي الْمُزْمَنَاتِ
الْغَوَابِرِ
فَيَا لَيْتَنِي لَمْ أُعْنَ بِالْمُلْكِ لَيْلَةً وَلَمْ أَسْعَ فِي لَذَّاتِ
عَيْشٍ نَوَاضِرِ
وَكُنْتُ كَذِي طِمْرَيْنِ عَاشَ بِبُلْغَةٍ مِنَ الْعَيْشِ حَتَّى زَارَ ضِيقَ
الْمَقَابِرِ
وَقَدْ أَنْشَدَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ عِنْدَ
مَوْتِهِ.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: كَيْفَ
تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ: أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا
خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ الْآيَةَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ
أَمَرَ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ مِنْ
قَصْرِهِ، فَسَمِعَ قَصَّارًا،
فَقَالَ: مَا هَذَا ؟ قَالُوا: قَصَّارٌ. فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي كُنْتَ قَصَّارًا.
فَلَمَّا بَلَغَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَوْلُهُ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي جَعَلَهُمْ يَفِرُّونَ إِلَيْنَا وَلَا نَفِرُّ إِلَيْهِمْ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ جَعَلَ يَنْدَمُ وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ
عَلَى رَأْسِهِ، وَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي أَكْسِبُ قُوتِي يَوْمًا بِيَوْمٍ،
وَاشْتَغَلْتُ بِطَاعَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ فَوَصَّاهُمْ،
ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَنْسَى أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ
صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، ثُمَّ يُنْشِدُ:
فَهَلْ مِنْ خَالِدٍ إِمَّا هَلَكْنَا وَهَلْ بِالْمَوْتِ يَا لِلنَّاسِ عَارُ
وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: ارْفَعُونِي، فَرَفَعُوهُ حَتَّى شَمَّ الْهَوَاءَ،
وَقَالَ: يَا دُنْيَا، مَا أَطْيَبَكِ ! إِنَّ طَوِيلَكِ لَقَصِيرٌ، وَإِنَّ
كَثِيرَكِ لَحَقِيرٌ، وَإِنْ كُنَّا بِكِ لَفِي غُرُورٍ. ثُمَّ تَمَثَّلَ
بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَهُمَا فِي هَذِهِ
الْحَالِ:
إِنْ تُنَاقِشْ يَكُنْ نِقَاشُكَ يَا
رَبِّ عَذَابًا لَا طَوْقَ لِي بِالْعَذَابِ
أَوْ تُجَاوِزْ فَأَنْتَ رَبٌّ صَفُوحٌ عَنْ مُسِيءٍ ذُنُوبُهُ كَالتُّرَابِ
قَالُوا: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ. وَقِيلَ: يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ. وَقِيلَ: الْخَمِيسِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ. وَقِيلَ:
لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ
الْوَلِيدُ وَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
سِتِّينَ سَنَةً، قَالَهُ: أَبُو مَعْشَرٍ، وَصَحَّحَهُ الْوَاقِدِيُّ. وَقِيلَ:
ثَلَاثًا وَسِتِّينَ سَنَةً، قَالَهُ الْمَدَائِنِيُّ. وَقِيلَ: ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ. وَدُفِنَ بِبَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ذِكْرُ أَوْلَادِهِ وَأَزْوَاجِهِ: مِنْهُمُ الْوَلِيدُ،
وَسُلَيْمَانُ، وَمَرْوَانُ الْأَكْبَرُ - دَرَجَ - وَعَائِشَةُ، وَأُمُّهُمْ
وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ
جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضٍ.
وَيَزِيدُ، وَمَرْوَانُ الْأَصْغَرُ، وَمُعَاوِيَةُ - دَرَجَ - وَأُمُّ كُلْثُومٍ،
وَأُمُّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ.
وَهِشَامٌ، وَأُمُّهُ أُمُّ هِشَامٍ عَائِشَةُ - فِيمَا قَالَهُ
الْمَدَائِنِيُّ - بِنْتُ هِشَامِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيِّ. وَأَبُو بَكْرٍ، وَاسْمُهُ بَكَّارٌ، وَأُمُّهُ
عَائِشَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ،
وَالْحَكَمُ - دَرَجَ - وَأُمُّهُ أُمُّ أَيُّوبَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيِّ، وَفَاطِمَةُ، وَأُمُّهَا الْمُغِيرَةُ بِنْتُ
الْمُغِيرَةِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ
الْمَخْزُومِيِّ. وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمَسْلَمَةُ، وَالْمُنْذِرُ، وَعَنْبَسَةُ،
وَمُحَمَّدٌ، وَسَعْدُ الْخَيْرِ، وَالْحَجَّاجُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ شَتَّى.
فَكَانَ جُمْلَةُ أَوْلَادِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ ; ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَكَانَتْ
مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ
مُشَارِكًالِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ
وَنَصِفٌ مُسْتَقِلًّا بِالْخِلَافَةِ وَحْدَهُ.
وَكَانَ قَاضِيَهُ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ، وَكَاتِبُهُ رَوْحُ بْنُ
زِنْبَاعٍ، وَحَاجِبُهُ يُوسُفُ مَوْلَاهُ، وَصَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ
وَالْخَاتَمِ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ، وَعَلَى شُرْطَتِهِ أَبُو الزُّعَيْزِعَةِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَا عُمَّالَهُ فِيمَا مَضَى.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ زَوْجَاتٌ أُخَرَ شَقْرَاءُ بِنْتُ سَلَمَةَ
بْنِ حَلْبَسٍ الطَّائِيِّ، وَابْنَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَأُمُّ
أَبِيهَا بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ.
وَمِمَّنْ يُذْكَرُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تَقْرِيبًا
أَرْطَاةُ بْنُ زُفَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ
ضَمْرَةَ بْنِ
عَقْفَانَ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ
مُرَّةَ بْنِ نُشْبَةَ بْنِ غَيْظِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، أَبُو الْوَلِيدِ الْمُرِّيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ سُهَيَّةَ، وَهِيَ أُمُّهُ بَنَتُ زَامِلِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ
زُهَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَدِيجِ بْنِ أَبِي جُشَمَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَوْفِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ عَوْفٍ، سَبِيَّةٌ مِنْ كَلْبٍ، وَكَانَتْ عِنْدَ ضِرَارِ بْنِ
الْأَزْوَرِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى زُفَرَ - وَهِيَ حَامِلٌ - فَأَتَتْ بِأَرْطَاةَ
عَلَى فِرَاشِهِ، وَقَدْ عُمِّرَ أَرْطَاةُ دَهْرًا طَوِيلًا حَتَّى جَاوَزَ
الْمِائَةَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ كَانَ سَيِّدًا شَرِيفًا مُطَاعًا
مُمَدَّحًا شَاعِرًا مُطْبِقًا.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَيُقَالُ: إِنَّ بَنِي عَقْفَانَ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ
رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ
دِعْبِسٍ، دَخَلُوا فِي بَنِي مُرَّةَ بْنِ نُشْبَةَ، فَقَالُوا: بَنِي عَقْفَانَ
بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ مُرَّةَ.
وَقَدْ وَفَدَ أَبُو الْوَلِيدِ أَرْطَاةُ بْنُ زُفَرَ هَذَا عَلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، فَأَنْشَدَهُ
أَبْيَاتًا:
رَأَيْتُ الْمَرْءَ تَأْكُلُهُ اللَّيَالِي كَأَكْلِ الْأَرْضِ سَاقِطَةَ
الْحَدِيدِ وَمَا تُبْقِي الْمَنِيَّةُ حِينَ تَأْتِي
عَلَى نَفْسِ ابْنِ آدَمَ مِنْ مَزِيدِ وَأَعْلَمُ أَنَّهَا سَتَكُرُّ حَتَّى
تُوُفِّيَ نَذْرَهَا بِأَبِي الْوَلِيدِ
قَالَ: فَارْتَاعَ عَبْدُ الْمَلِكِ، وَظَنَّ أَنَّهُ عَنَاهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا عَنَيْتُ نَفْسِي، فَقَالَ عَبْدُ
الْمَلِكِ: وَأَنَا وَاللَّهِ سَيَمُرُّ بِي الَّذِي يَمُرُّ بِكَ. وَزَادَ
بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
خُلِقْنَا أَنْفُسًا وَبَنِي نُفُوسٍ وَلَسْنَا بِالسَّلَامِ وَلَا الْحَدِيدِ
لَئِنْ فُجِّعْتُ بِالْقُرَنَاءِ يَوْمًا لَقَدْ مُتِّعْتُ بِالْأَمَلِ الْبَعِيدِ
وَهُوَ الْقَائِلُ:
وَإِنِّي لَقَوَّامٌ لَدَى الضَّيْفِ مُوهِنًا إِذَا أَسْبَلَ السِّتْرَ
الْبَخِيلُ الْمُوَاكِلُ
دَعَا فَأَجَابَتْهُ كِلَابٌ كَثِيرَةٌ عَلَى ثِقَةٍ مِنِّي بِأَنِّي فَاعِلُ
وَمَا دُونَ ضَيْفِي مِنْ تِلَادٍ تَحُوزُهُ لِيَ النَّفْسُ إِلَّا أَنْ تُصَانَ
الْحَلَائِلُ
يُونُسُ بْنُ عَطِيَّةَ الْحَضْرَمِيُّ
قَاضِي مِصْرَ، وَصَاحِبُ الشُّرْطَةِ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مَرْوَانَ، ثُمَّ تَوَلَّى بَعْدَهُ الْقَضَاءَ ابْنُ أَخِيهِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ.
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ
كَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ، وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ يَقُولُ: مَا أُوتِيَ أَحَدٌ
أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ، وَعُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ زَمَانِهِمْ، وَقَالَ:
إِذَا اسْتَوَتْ سَرِيرَةُ الْعَبْدِ وَعَلَانِيَتُهُ قَالَ اللَّهُ: هَذَا
عَبْدِي حَقًّا. وَقَالَ: إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى مَرِيضٍ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ
أَنْ يَدْعُوَ لَكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ حُرِّكَ - أَيْ: قَدْ أُوقِظَ مِنْ
غَفْلَتِهِ بِسَبَبِ مَرَضِهِ - فَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ مِنْ أَجْلِ كَسْرِهِ
وَرِقَّةِ قَلْبِهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَقْبَحَ مَا طُلِبَتْ بِهِ الدُّنْيَا عَمَلُ
الْآخِرَةِ.
وَقَالَ لِبَعْضِ إِخْوَانِهِ: إِذَا كَانَتْ لَكَ إِلَيَّ حَاجَةٌ، فَلَا
تُكَلِّمْنِي فِيهَا ; فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَرَى ذُلَّ السُّؤَالِ فِي
وَجْهِكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْهَا فِي رُقْعَةٍ وَارْفَعْهَا. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ
هَذَا الْمَوْتَ قَدْ أَفْسَدَ عَلَى أَهْلِ النِّعَمِ نَعِيمَهُمْ، فَاطْلُبُوا
نَعِيمًا لَا مَوْتَ فِيهِ.
وَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ مَتَى أَجَلِي، لَخَشِيتُ عَلَى ذَهَابِ عَقْلِي،
وَلَكِنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالْغَفْلَةِ عَنِ الْمَوْتِ، وَلَوْلَا
الْغَفْلَةُ لَمَا تَهَنَّوْا بِعَيْشٍ، وَلَا قَامَتْ بَيْنَهُمُ الْأَسْوَاقُ.
وَكَانَ مُطَرِّفٌ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، سَبَّحَتْ مَعَهُ آنِيَةُ بَيْتِهِ.
وَكَانَ يَسْكُنُ الْبَادِيَةَ، وَيَجِيءُ مِنْهَا إِلَى الْجُمْعَةِ مُبَكِّرًا،
فَمَرَّ مَرَّةً بِمَقْبَرَةٍ، فَنَعَسَ
فَنَامَ عِنْدَ الْقُبُورِ، فَرَأَى
فِي مَنَامِهِ أَهْلَ الْقُبُورِ عَلَى أَفْوَاهِ قُبُورِهِمْ، فَقَالُوا: هَذَا
مُطَرِّفٌ يَذْهَبُ إِلَى الْجُمْعَةِ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: وَتَعْرِفُونَ
الْجُمْعَةَ مِنْ غَيْرِهَا ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَنَعْرِفُ مَا يَقُولُ الطَّيْرُ
فِي جَوِّ السَّمَاءِ.
قَالَ: فَقُلْتُ: وَمَا تَقُولُ ؟ قَالُوا: تَقُولُ: سَلَامٌ سَلَامٌ لِيَوْمٍ
صَالِحٍ.
وَكَانَ يَقُولُ: يَا إِخْوَتَاهُ، اجْتَهِدُوا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ;
فَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَمَا نَرْجُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، كَانَ لَنَا
دَرَجَاتٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنْ يَكُنِ الْأَمْرُ شَدِيدًا كَمَا نَخَافُ لَمْ
نَقُلْ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
نَقُولُ: قَدْ عَمِلْنَا فَلَمْ يَنْفَعْنَا.
وَكَانَ يَدْعُو: اللَّهُمَّ ارْضَ عَنَّا، فَإِنْ لَمْ تَرْضَ عَنَّا، فَاعْفُ
عَنَّا، فَإِنَّ الْمَوْلَى قَدْ يَعْفُو عَنِ الْعَبْدِ، وَهُوَ عَنْهُ غَيْرُ
رَاضٍ.
وَكَانَ مُطَرِّفٌ قَدْ حَفَرَ فِي دَارِهِ قَبْرًا، كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَنْزِلُ
إِلَيْهِ، فَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ.
تُوُفِّيَ مُطَرِّفٌ بِالْبَصْرَةِ، وَكَانَ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ الْخُلَفَاءِ
وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَكَانَ هُوَ مِنْ أَرْشَدِ النَّاسِ فِيهِمْ،
وَكَانَ مُجَابَ الدَّعْوَةِ ; كَذَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ عِنْدَ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ،
فَقَالَ مُطَرِّفٌ: يَا هَذَا، إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا عَجَّلَ اللَّهُ حَتْفَكَ.
فَوَقَعَ الرَّجُلُ مَيِّتًا مَكَانَهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ
لَمَّا رَجَعَ مِنْ دَفْنِ أَبِيهِ خَارِجَ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ -
وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَقِيلَ: الْجُمْعَةِ. لِلنِّصْفِ مِنْ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ - لَمْ
يَدْخُلِ الْمَنْزِلَ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ - مِنْبَرَ الْمَسْجِدِ
الْأَعْظَمِ بِدِمَشْقَ - فَخَطَبَ النَّاسَ، فَكَانَ مِمَّا قَالَ: إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى
مُصِيبَتِنَا بِمَوْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا
أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الْخِلَافَةِ، قُومُوا فَبَايِعُوا، فَكَانَ أَوَّلَ
مَنْ قَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَمَّامٍ السَّلُولِيُّ وَهُوَ يَقُولُ:
اللَّهُ أَعْطَاكَ الَّتِي لَا فَوْقَهَا وَقَدْ أَرَادَ الْمُلْحِدُونَ عَوْقَهَا
عَنْكَ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا سَوْقَهَا
إِلَيْكَ حَتَّى قَلَّدُوكَ طَوْقَهَا
ثُمَّ بَايَعَهُ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ بَعْدَهُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ: أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ
عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا مُقَدِّمَ لِمَا أَخَّرَ
اللَّهُ، وَلَا مُؤَخِّرَ لِمَا قَدَّمَ اللَّهُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ
اللَّهِ وَسَابِقَتِهِ، وَمَا كَتَبَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَحَمَلَةِ عَرْشِهِ
وَمَلَائِكَتِهِ الْمَوْتُ، وَقَدْ صَارَ إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِمَا
لَاقَى فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - يَعْنِي بِالَّذِي يَحِقُّ لِلَّهِ عَلَيْهِ -
مِنَ الشِّدَّةِ
عَلَى الْمُرِيبِ، وَاللَّيِّنِ
لِأَهْلِ الْحَقِّ وَالْفَضْلِ، وَإِقَامَةِ مَا أَقَامَ اللَّهُ مِنْ مَنَارِ
الْإِسْلَامِ، وَإِعْلَائِهِ مِنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ، وَغَزْوِ هَذِهِ
الثُّغُورِ، وَشَنِّ هَذِهِ الْغَارَاتِ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَلَمْ يَكُنْ عَاجِزًا وَلَا مُفَرِّطًا، أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ
بِالطَّاعَةِ وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَرْدِ،
أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ أَبْدَى لَنَا ذَاتَ نَفْسِهِ ضَرَبْنَا الَّذِي فِيهِ
عَيْنَاهُ، وَمَنْ سَكَتَ مَاتَ بِدَائِهِ، ثُمَّ نَزَلَ فَنَظَرَ إِلَى مَا كَانَ
مِنْ دَوَابِّ الْخِلَافَةِ، فَحَازَهَا وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا.
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَوْلِيَةِ الْوَلِيدِ حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَإِنَّمَا هُوَ
الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ،
وَكَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، فِي بَابِ
الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِدَوْلَةِ
بَنِي أُمَيَّةَ.
وَأَمَّا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هَذَا فَقَدْ كَانَ صَيِّنًا فِي
نَفْسِهِ، حَازِمًا فِي رَأْيِهِ، يُقَالُ: إِنَّهُ لَا تُعْرَفُ لَهُ صَبْوَةٌ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَحَاسِنِهِ مَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا أَنَّ
اللَّهَ قَصَّ عَلَيْنَا قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ فِي كِتَابِهِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ
ذَكَرًا يَأْتِي ذَكَرًا كَمَا تُؤْتَى النِّسَاءُ. كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي
تَرْجَمَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فِي
الْآفَاقِ أَحْسَنُ بِنَاءً مِنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي بِنَائِهِ وَتَحْسِينِهِ
مُدَّةَ خِلَافَتِهِ، وَهِيَ عَشْرُ سِنِينَ فَلَمَّا أَنْهَاهُ انْتَهَتْ
أَيَّامُ خِلَافَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ
ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَقَدْ كَانَ مَوْضِعُ هَذَا الْمَسْجِدِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا: كَنِيسَةُ يُوحَنَّا، فَلَمَّا فَتَحَتِ الصَّحَابَةُ دِمَشْقَ جَعَلُوهَا مُنَاصَفَةً، فَأَخَذُوا مِنْهَا الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ فَحَوَّلُوهُ مَسْجِدًا، وَبَقِيَ الْجَانِبُ الْغَرْبِيُّ كَنِيسَةً بِحَالِهِ مِنْ لَدُنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى أَخْذِ بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ مِنْهُمْ، وَعَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ مَرْيَمَ لِدُخُولِهَا فِي جَانِبِ السَّيْفِ، وَقِيلَ: عَوَّضَهُمْ عَنْهَا كَنِيسَةَ تُومَا، وَهَدَمَ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَأَضَافَهَا إِلَى مَسْجِدِ الصَّحَابَةِ، وَجَعَلَ الْجَمِيعَ مَسْجِدًا وَاحِدًا، عَلَى هَيْئَةٍ بَدِيعَةٍ لَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَهَا نَظِيرًا فِي الْبُنْيَانِ وَالدِّيَارَاتِ وَالْآثَارِ وَالْعِمَارَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَمَانِينَ
فَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ هِشَامَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ عَنْ
إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ، وَوَلَّى عَلَيْهَا ابْنَ عَمِّهِ وَزَوْجَ أُخْتِهِ -
فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ - عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَدَخَلَهَا
فِي ثَلَاثِينَ بَعِيرًا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، فَنَزَلَ دَارَ
مَرْوَانَ وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ - وَعَمْرُهُ إِذْ ذَاكَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ
سَنَةً - فَلَمَّا صَلَّى الظَّهْرَ دَعَا عَشَرَةً مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ
وَهُمْ: عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَتَبَةُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ،
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ
يَسَارٍ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ، وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَجَلَسُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ
أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي إِنَّمَا دَعَوْتُكُمْ لِأَمْرٍ تُؤْجَرُونَ
عَلَيْهِ، وَتَكُونُونَ فِيهِ أَعْوَانًا عَلَى الْحَقِّ، إِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ
أَقْطَعَ أَمْرًا إِلَّا بِرَأْيِكُمْ، أَوْ بِرَأْيِ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ،
فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا يَتَعَدَّى، أَوْ بَلَغَكُمْ عَنْ عَامِلٍ لِي
ظُلَامَةٌ، فَأُحَرِّجُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ
ذَلِكَ إِلَّا أَبْلَغَنِي، فَخَرَجُوا
مِنْ عِنْدِهِ يَجْزُونَهُ خَيْرًا، وَافْتَرَقُوا عَلَى ذَلِكَ.
وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِأَنْ يُوقِفَ هِشَامَ
بْنَ إِسْمَاعِيلَ لِلنَّاسِ عِنْدَ دَارِ مَرْوَانَ، وَكَانَ سَيِّئَ الرَّأْيِ
فِيهِ ; لِأَنَّهُ أَسَاءَ إِلَى النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ
عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَلَا سِيَّمَا إِلَى
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَإِلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ،
فَلَمَّا أُوقِفَ لِلنَّاسِ قَالَ هِشَامٌ: مَا أَخَافُ إِلَّا مِنْ سَعِيدٍ وَعَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِابْنِهِ وَمَوَالِيهِ: لَا
يَعْرِضُ مِنْكُمْ أَحَدٌ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَإِنِّي تَرَكْتُ ذَلِكَ لِلَّهِ
وَلِلرَّحِمِ، وَأَمَّا كَلَامُهُ فَلَا أُكَلِّمُهُ أَبَدًا. وَأَمَّا عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ فَإِنَّهُ مَرَّ بِهِ وَهُوَ مَوْقُوفٌ عِنْدَ دَارِ مَرْوَانَ
فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى خَاصَّتِهِ أَنْ لَا
يَعْرِضَ لَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
وَتَجَاوَزَهُ، نَادَاهُ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ: " اللَّهُ
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ ".
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِلَادَ الرُّومِ
فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَغَنِمَ
غَنَائِمَ جَمَّةً، وَيُقَالُ: إِنَّ الَّذِي غَزَا بِلَادَ الرُّومِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَفَتَحَ حِصْنَ بِوَلْقَ، وَحِصْنَ
الْأَخْرَمِ، وَبُحَيْرَةَ الْفُرْسَانِ، وَحِصْنَ بُولَسَ وَقُمَيْقِمَ، وَقَتَلَ
مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ نَحْوًا مِنْ أَلْفٍ، وَسَبَى ذَرَّارِيَّهُمْ، وَفِيهَا
غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ التُّرْكِ، وَصَالَحَهُ مَلِكُهُمْ
نَيْزَكُ عَلَى
مَالٍ جَزِيلٍ، وَعَلَى أَنْ يُطْلِقَ
كُلَّ مَنْ بِبِلَادِهِ مِنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بِيكَنْدَ فَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْأَتْرَاكِ
عِنْدَهَا بَشَرٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَهِيَ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى
فَلَمَّا نَزَلَ بِأَرْضِهِمُ اسْتَنْجَدُوا عَلَيْهِ بِأَهْلِ الصَّغْدِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَأَتَوْهُمُ فِي جَمْعٍ عَظِيمٍ، فَأَخَذُوا عَلَى
قُتَيْبَةَ الطُّرُقَ وَالْمَضَايِقَ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَهُمْ قَرِيبًا مِنْ
شَهْرَيْنِ، وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَلَا
يَأْتِيَهُ مِنْ جِهَتِهِمْ رَسُولٌ، وَأَبْطَأَ خَبَرُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ
حَتَّى خَافَ عَلَيْهِ، وَأَشْفَقَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
كَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ مِنَ التُّرْكِ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي
الْمَسَاجِدِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى الْأَمْصَارِ.
وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَتِلُونَ مَعَ
التُّرْكِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَكَانَ لِقُتَيْبَةَ عَيْنٌ مِنَ الْعَجَمِ يُقَالُ
لَهُ: تَنْدُرُ، فَأَعْطَاهُ أَهْلُ بُخَارَى مَالًا جَزِيلًا عَلَى أَنْ يَأْتِيَ
قُتَيْبَةَ فَيُخَذِّلَهُ عَنْهُمْ، فَجَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: أَخْلِنِي،
فَأَخْلَاهُ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ سِوَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ضِرَارُ بْنُ
حُصَيْنٍ، فَقَالَ لَهُ تَنْدُرُ: هَذَا عَامِلٌ يَقْدَمُ عَلَيْكَ سَرِيعًا
بِعَزْلِ الْحَجَّاجِ، فَلَوِ انْصَرَفْتَ بِالنَّاسِ إِلَى مَرْوَ. فَقَالَ
قُتَيْبَةُ لِمَوْلَاهُ سِيَاهٍ: اضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَتَلَهُ، ثُمَّ قَالَ
قُتَيْبَةُ لِضِرَارٍ: لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَ هَذَا غَيْرِي وَغَيْرُكَ،
وَإِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنْ ظَهَرَ هَذَا الْخَبَرُ حَتَّى يَنْقَضِيَ
حَرْبُنَا لَأُلْحِقَنَّكَ بِهِ، فَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، فَإِنَّ
انْتِشَارَ هَذَا يَفُتُّ فِي أَعْضَادِ النَّاسِ، ثُمَّ نَهَضَ قُتَيْبَةُ
فَحَرَّضَ النَّاسَ عَلَى الْحَرْبِ، وَوَقَفَ عَلَى أَصْحَابِ الرَّايَاتِ
يُحَرِّضُهُمْ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ الصَّبْرَ، فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ
حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ
النَّصْرَ، فَهُزِمَتِ التُّرْكُ هَزِيمَةً عَظِيمَةً، وَاتَّبَعَهُمُ
الْمُسْلِمُونَ يَقْتُلُونَ فِيهِمْ، وَيَأْسِرُونَ مَا شَاءُوا، وَاعْتَصَمَ مَنْ
بَقِيَ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ قُتَيْبَةُ الْفَعَلَةُ بِهَدْمِهَا،
فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ عَلَى مَالٍ عَظِيمٍ فَصَالَحَهُمْ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ
رَجُلًا مِنْ أَهْلِهِ، وَعِنْدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ، ثُمَّ سَارَ
رَاجِعًا، فَلَمَّا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى خَمْسِ مَرَاحِلَ نَقَضُوا الْعَهْدَ،
وَقَتَلُوا الْأَمِيرَ، وَجَدَعُوا أُنُوفَ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَرَجَعَ
إِلَيْهِمْ وَحَاصَرَهَا شَهْرًا، وَأَمَرَ النَّقَّابِينَ وَالْفَعَلَةَ
فَعَلَّقُوا سُورَهَا عَلَى الْخَشَبِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُضْرِمَ النَّارَ
فِيهَا، فَسَقَطَ السُّورُ، فَقَتَلَ مِنَ الْفِعْلَةِ أَرْبَعِينَ نَفْسًا،
فَسَأَلُوهُ الصُّلْحَ فَأَبَى، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى افْتَتَحَهَا، فَقَتَلَ
الْمُقَاتِلَةَ، وَسَبَى الذُّرِّيَّةَ وَغَنِمَ الْأَمْوَالَ.
وَكَانَ الَّذِي أَلَّبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أَعْوَرُ مِنْهُمْ، فَأُسِرَ
فَقَالَ: أَنَا أَفْتَدِي نَفْسِي بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ صِينِيَّةٍ، قِيمَتُهَا
أَلْفُ أَلْفٍ، فَأَشَارَ الْأُمَرَاءُ عَلَى قُتَيْبَةَ بِقَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ،
فَقَالَ قُتَيْبَةُ: لَا وَاللَّهِ لَا أُرَوِّعُ بِكَ مُسْلِمًا مَرَّةً
ثَانِيَةً، وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَقَدْ غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
بِيكَنْدَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَصْنَامِ
مِنَ الذَّهَبِ، وَكَانَ فِيهَا صَنَمٌ سُبِكَ فَخَرَجَ مِنْهُ مِائَةُ أَلْفٍ
وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَوَجَدُوا فِي خَزَائِنِ الْمَلِكِ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَسِلَاحًا كَثِيرًا وَعِدَدًا مُتَنَوِّعَةً، وَجَوَاهِرَ
نَفِيسَةً، وَأَخَذُوا مِنَ السَّبْيِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَكَتَبَ قُتَيْبَةُ
إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَنْ يُعْطِيَ ذَلِكَ لِلْجُنْدِ، فَأَذِنَ لَهُ
فَتَمَوَّلَ الْمُسْلِمُونَ مَالًا كَثِيرًا جِدًّا، وَصَارَتْ لَهُمْ
أَسْلِحَةٌ وَعِدَدٌ، وَتَقْوَّوْا
عَلَى الْأَعْدَاءِ قُوَّةً عَظِيمَةً، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
نَائِبُ الْمَدِينَةِ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ
يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ، وَنَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَكَمِيُّ، وَقَاضِيهِ بِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَامِلُهُ
عَلَى الْحَرْبِ بِالْكُوفَةِ زِيَادُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْبَجَلِيُّ، وَقَاضِيهِ بِهَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ،
وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ وَأَعْمَالِهَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ، يُرْوَى أَنَّهُ شَهِدَ بَنِي قُرَيْظَةَ،
وَعَنِ الْعِرْبَاضِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنِّي ; أَسْلَمَ
قَبْلِي بِسَنَةٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: بَعْدَ التِّسْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدٍ
السُّلَمِيُّ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَرَوَى بَقِيَّةُ عَنْ بِجِيرِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عُتْبَةَ بْنَ عَبْدٍ السُّلَمِيُّ،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا
يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى
يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ
اللَّهِ لَحَقَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ،
عَنْ عَقِيلِ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ
عَبْدٍ السُّلَمِيِّ قَالَ: اشْتَكَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُرْيَ، فَكَسَانِي خَيْشَتَيْنِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي
أَلْبَسُهُمَا، وَأَنَا أَكْسَى أَصْحَابِي.
الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ أَيْضًا، لَهُ أَحَادِيثُ، وَرَوَى عَنْهُ
غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَالْفَلَّاسُ
وَأَبُو عُبَيْدٍ: تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: تُوُفِّيَ
بَعْدَ التِّسْعِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو أُمَامَةُ الْبَاهِلِيُّ
وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، نَزَلَ حِمْصَ، وَهُوَ
رَاوِي حَدِيثِ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
فِي الدُّعَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْوَفَيَاتِ.
قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ أَبُو سُفْيَانَ الْخُزَاعِيُّ الْمَدَنِيُّ
وُلِدَ عَامَ الْفَتْحِ، وَأُتِيَ بِهِ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ لَهُ. رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَأُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ الْحَرَّةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ،
وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ
إِذَنٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ إِذَا وَرَدَتْ مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ
يَدْخُلُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَيُخْبِرُهُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الْبِلَادِ
فِيهَا، وَكَانَ صَاحِبَ سِرِّهِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ بِدِمَشْقَ بِبَابِ
الْبَرِيدِ، وَتُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ.
عُرْوَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ
وَلِيَ إِمْرَةَ الْكُوفَةِ لِلْحَجَّاجِ، وَكَانَ شَرِيفًا لَبِيبًا مُطَاعًا فِي
النَّاسِ، وَكَانَ أَحْوَلَ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ.
يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ
كَانَ قَاضِيَ مَرْوَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ، وَكَانَ مِنْ
فُضَلَاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَلَهُ أَحْوَالٌ وَمُعَامَلَاتٌ، وَلَهُ
رِوَايَاتٌ، وَكَانَ أَحَدَ الْفُصَحَاءِ، أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِي
الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ.
شُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ الْقَاضِي
أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَاسْتَقْضَاهُ عُمَرُ عَلَى الْكُوفَةِ، فَمَكَثَ
بِهَا قَاضِيًا خَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ عَالِمًا عَادِلًا كَثِيرَ
الْخَيْرِ، حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، فِيهِ دُعَابَةٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ كَوْسَجًا
لَا شَعْرَ بِوَجْهِهِ وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ،
وَالْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ.
وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " التَّكْمِيلِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ،
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِهِ وَسِنِّهِ
وَعَامِ وَفَاتِهِ عَلَى أَقْوَالٍ، وَرَجَّحَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ
الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَافْتَتَحَا بِمَنْ
مَعَهُمَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصْنَ طُوَانَةَ فِي جُمَادَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكَانَ حِصْنًا مَنِيعًا اقْتَتَلَ النَّاسُ عِنْدَهُ قِتَالًا
عَظِيمًا، ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّصَارَى، فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى
أَدْخَلُوهُمُ الْكَنِيسَةَ، ثُمَّ خَرَجَتِ النَّصَارَى فَحَمَلُوا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، فَانْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي
مَوْقِفِهِ إِلَّا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَمَعَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ
الْجُمَحِيُّ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِابْنِ مُحَيْرِيزٍ: أَيْنَ قُرَّاءُ
الْقُرْآنِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ:
نَادِهِمْ يَأْتُوكَ. فَنَادَى: يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ. فَتَرَاجَعَ النَّاسُ،
فَحَمَلُوا عَلَى النَّصَارَى فَكَسَرُوهُمْ، وَلَجَأُوا إِلَى الْحِصْنِ،
فَحَاصَرُوهُمْ حَتَّى فَتَحُوهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ قَدِمَ كِتَابُ الْوَلِيدِ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بِالْمَدِينَةِ، يَأْمُرُهُ بِهَدْمِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَإِضَافَةِ
حُجَرِ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ،
وَأَنْ يُوَسِّعَهُ مِنْ قِبْلَتِهِ وَسَائِرِ نَوَاحِيهِ، حَتَّى يَكُونَ
مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فِي مِائَتَيْ ذِرَاعٍ، فَمَنْ بَاعَكَ مِلْكَهُ فَاشْتَرِ
مِنْهُ، وَإِلَّا فَقَوِّمْهُ لَهُ قِيمَةَ عَدْلٍ، ثُمَّ اهْدِمْ، وَادْفَعْ
إِلَيْهِمْ أَثْمَانَ بُيُوتِهِمْ، فَإِنَّ لَكَ فِي ذَلِكَ سَلَفَ صِدْقٍ; عُمَرَ
وَعُثْمَانَ.
فَجَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وُجُوهَ النَّاسِ، وَالْفُقَهَاءَ
الْعَشَرَةَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ،
وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ
الْوَلِيدِ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَالُوا: هَذِهِ حُجَرٌ قَصِيرَةُ
السُّقُوفِ، وَسُقُوفُهَا مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَحِيطَانُهَا مِنَ اللَّبِنِ،
وَعَلَى أَبْوَابِهَا الْمُسُوحُ، وَتَرْكُهَا عَلَى حَالِهَا أَوْلَى; لِيَنْظُرَ
إِلَيْهَا الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ وَالْمُسَافِرُونَ، وَإِلَى بُيُوتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ
وَيَعْتَبِرُوا بِهِ، وَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا، فَلَا يُعَمِّرُونَ فِيهَا إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَا
يَسْتُرُ وَيُكِنُّ، وَيَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا الْبُنْيَانَ الْعَالِيَ إِنَّمَا
هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْفَرَاعِنَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَكُلِّ طَوِيلِ الْأَمَلِ
رَاغِبٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْخُلُودِ فِيهَا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْوَلِيدِ بِمَا
أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ الْعَشَرَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالْخَرَابِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا
ذَكَرَ، وَأَنْ يُعَلِّيَ سُقُوفَهُ، فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ بُدًّا مِنْ هَدْمِهَا،
وَلَمَّا شَرَعُوا فِي الْهَدْمِ صَاحَ الْأَشْرَافُ وَوُجُوهُ النَّاسِ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ، وَتَبَاكَوْا مِثْلَ يَوْمِ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَجَابَ مَنْ لَهُ مِلْكٌ مُتَاخِمٌ لِلْمَسْجِدِ
لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَى مِنْهُمْ، وَشَرَعَ فِي بِنَائِهِ، وَشَمَّرَ عَنْ
إِزَارِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ، وَجَاءَتْهُ فُعُولٌ كَثِيرَةٌ مِنْ قِبَلِ
الْوَلِيدِ، فَأَدْخَلَ فِيهِ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ، حُجْرَةَ عَائِشَةَ،
فَدَخَلَ الْقَبْرُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَتْ حَدَّهُ مِنَ الشَّرْقِ، وَسَائِرُ
حُجَرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَمَرَ الْوَلِيدُ.
وَرُوِّينَا أَنَّهُمْ لَمَّا حَفَرُوا الْحَائِطَ الشَّرْقِيَّ مِنْ حُجْرَةِ
عَائِشَةَ بَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ، فَخَشُوا أَنْ تَكُونَ قَدَمَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَحَقَّقُوا أَنَّهَا قَدَمُ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَيُحْكَى
أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَنْكَرَ إِدْخَالَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فِي
الْمَسْجِدِ، كَأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ الْقَبْرُ مَسْجِدًا، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَسْأَلُهُ
أَنْ يَبْعَثَ لَهُ صُنَّاعًا لِلْبِنَاءِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ صَانِعٍ،
وَفُصُوصٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَجْلِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ نَحْوَ خَمْسِينَ
حِمْلًا، وَمِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ
مِنْ أَجْلِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَحْفِرَ
الْفَوَّارَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ يُجْرِيَ مَاءَهَا، فَفَعَلَ، وَأَمَرَهُ
أَنْ يَحْفِرَ الْآبَارَ، وَأَنْ يُسَهِّلَ الطُّرُقَ وَالثَّنَايَا، وَسَاقَ
إِلَى الْفَوَّارَةِ الْمَاءَ مِنْ ظَاهِرِ الْمَدِينَةِ، وَالْفَوَّارَةُ
بُنِيَتْ فِي ظَاهِرِ الْمَسْجِدِ، عِنْدَ بُقْعَةٍ رَآهَا فَأَعْجَبَتْهُ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَلِكَ التُّرْكِ كُورْمَغَانُونَ ابْنَ
أُخْتِ مَلِكِ الصِّينِ، وَمَعَهُ مِائَتَا أَلْفِ مُقَاتِلٍ مِنْ أَهْلِ
الصُّغْدِ وَفَرْغَانَةَ وَغَيْرِهِمْ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَكَانَ
مَعَ قُتَيْبَةَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ مَأْسُورًا، فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ
بْنُ مُسْلِمٍ، وَغَنِمَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا وَسَبَى وَأَسَرَ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَعَهُ جَمَاعَاتٌ
مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا كَانَ بِالتَّنْعِيمِ لَقِيَهُ طَائِفَةٌ مِنْ
أَهْلِ مَكَّةَ، فَأَخْبَرُوهُ عَنْ قِلَّةِ الْمَاءِ بِمَكَّةَ لِقِلَّةِ
الْمَطَرِ،
فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَلَا
نَسْتَمْطِرُ؟ فَدَعَا وَدَعَا النَّاسُ، فَمَا زَالُوا يَدْعُونَ حَتَّى سُقُوا،
وَدَخَلُوا مَكَّةَ وَمَعَهُمُ الْمَطَرُ، وَجَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ حَتَّى خَافَ
أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ شِدَّةِ الْمَطَرِ، وَمُطِرَتْ عَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ
وَمِنًى، وَأَخْصَبَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ السَّنَةَ خِصْبًا عَظِيمًا بِمَكَّةَ
وَمَا حَوْلَهَا، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَكَانَ النُّوَّابُ عَلَى الْبُلْدَانِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ هُمُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرِ بْنِ أَبِي بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
صَحَابِيٌّ كَأَبِيهِ، سَكَنَ حِمْصَ، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
التَّابِعِينَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ،
عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً. زَادَ غَيْرُهُ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ تُوَفِّيَ
مِنَ الصَّحَابَةِ بِالشَّامِ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَعِيشُ
قَرْنًا. فَعَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى عَلْقَمَةُ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ
الْخُزَاعِيُّ ثُمَّ الْأَسْلَمِيُّ
صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْكُوفَةِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِيمَا قَالَهُ الْبُخَارِيُّ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ،
وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ، وَقِيلَ: قَارَبَهَا. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ
الْمَخْزُومِيُّ الْمَدَنِيُّ
وَكَانَ حَمَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَنَائِبَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ،
وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ قَدِمَ
دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ دِرَاسَةَ الْقُرْآنِ
بِجَامِعِ دِمَشْقَ، فَمَاتَ بِهَا فِي السَّبْعِ.
حَكِيمُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَنْسِيُّ الشَّامِيُّ
لَهُ رِوَايَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الشَّامِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيبَ
الْحَجَّاجَ عَلَانِيَةً إِلَّا هُوَ وَابْنُ مُحَيْرِيزٍ أَبُو الْأَحْوَصِ،
قُتِلَ فِي غَزْوَةِ طُوَانَةَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنُ أَخِيهِ الْعَبَّاسُ
بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَا حُصُونًا كَثِيرَةً;
مِنْهَا حِصْنُ سُورِيَّةَ وَعَمُّورِيَّةَ وَهِرَقْلَةَ وَقَمُودِيَّةَ،
وَغَنِمَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَأَسَرَا جَمًّا غَفِيرًا.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ الصُّغْدِ وَنَسَفَ وَكِسَّ،
وَقَدْ لَقِيَهُ هُنَالِكَ خَلْقٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَظَفِرَ بِهِمْ
فَقَتَلَهُمْ، وَسَارَ إِلَى بُخَارَى فَلَقِيَهُ دُونَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
التَّرْكِ، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ عِنْدَ مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ:
خَرْقَانُ. وَظَفِرَ بِهِمْ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ:
وَبَاتَتْ لَهُمْ مِنَّا بِخَرْقَانَ لَيْلَةٌ وَلَيْلَتُنَا كَانَتْ بِخَرْقَانَ
أَطْوَلَا
ثُمَّ قَصَدَ قُتَيْبَةُ وَرْدَانَ خُذَاهْ، مَلِكَ بُخَارَى، فَقَاتَلَهُ
وَرْدَانُ قِتَالًا شَدِيدًا، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ قُتَيْبَةُ، فَرَجَعَ عَنْهُ
إِلَى مَرْوَ، فَجَاءَهُ كِتَابُ الْحَجَّاجِ يُعَنِّفُهُ عَلَى الْفِرَارِ
وَالنُّكُولِ عَنْ أَعْدَاءِ
الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِصُورَةِ هَذَا الْبَلَدِ يَعْنِي
بُخَارَى فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِصُورَتِهَا فَكَتَبَ إِلَيْهِ; أَنِ ارْجِعْ
إِلَيْهَا وَتُبْ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِكِ، وَائْتِهَا مِنْ مَكَانِ كَذَا
وَكَذَا، وَرِدْ وَرْدَانَ خُذَاهْ، وَإِيَّاكَ وَالتَّحْوِيطَ، وَدَعْنِي
وَبُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَّى الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِمْرَةَ مَكَّةَ
لِخَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيِّ، فَحَفَرَ بِئْرًا بِأَمْرِ
الْوَلِيدِ عِنْدَ ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ، فَجَاءَتْ عَذْبَةَ
الْمَاءِ طَيِّبَةً، وَكَانَ يَسْتَقِي النَّاسُ مِنْهَا.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى
بَنِي مَخْزُومٍ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ
يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: أَيُّهَا النَّاسُ،
أَيُّهُمَا أَعْظَمُ خَلِيفَةً: الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ، أَمْ رَسُولُهُ
إِلَيْهِمْ؟ وَاللَّهِ لَوْ لَمْ تَعْلَمُوا فَضْلَ الْخَلِيفَةِ إِلَّا أَنَّ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ اسْتَسْقَاهُ فَسَقَاهُ مِلْحًا أُجَاجًا،
وَاسْتَسْقَى الْخَلِيفَةُ فَسَقَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا. يَعْنِي الْبِئْرَ الَّتِي
احْتَفَرَهَا بِالثَّنِيَّتَيْنِ; ثَنِيَّةِ طُوًى وَثَنِيَّةِ الْحَجُونِ فَكَانَ
يُنْقَلُ مَاؤُهَا فَيُوضَعُ فِي حَوْضٍ مِنْ أَدَمٍ إِلَى جَنْبِ زَمْزَمَ;
لِيُعْرَفَ فَضْلُهُ عَلَى زَمْزَمَ. قَالَ: ثُمَّ غَارَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ
فَذَهَبَ مَاؤُهَا، فَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ إِلَى الْيَوْمِ. وَهَذَا
الْإِسْنَادُ غَرِيبٌ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ كُفْرًا إِنْ صَحَّ عَنْ قَائِلِهِ،
وَعِنْدِي أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ لَا يَصِحُّ عَنْهُ
هَذَا الْكَلَامُ، وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ عَدُوُّ اللَّهِ. وَقَدْ قِيلَ عَنِ
الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ نَحْوُ هَذَا
الْكَلَامِ; مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ
الْخَلِيفَةَ أَفْضَلَ مِنَ الرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَتَضَمَّنُ كُفْرَ قَائِلِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَسْلَمَةُ التُّرْكَ حَتَّى بَلَغَ الْبَابَ مِنْ
نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، وَفَتَحَ حُصُونًا وَمَدَائِنَ هُنَالِكَ، وَحَجَّ
بِالنَّاسِ فِيهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ صِقِلِّيَةُ
وَمَيُورْقَةُ. وَقِيلَ: مَنُورْقَةُ. وَهُمَا فِي الْبَحْرِ بَيْنَ جَزِيرَةِ
صِقِلِّيَةَ وَحَدَارُّهُ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ، وَفِيهَا سَيَّرَ مُوسَى
بْنُ نُصَيْرٍ وَلَدَهُ إِلَى النِّقْرِيسِ مَلِكِ الْفِرِنْجِ، فَافْتَتَحَ
بِلَادًا كَثِيرَةً.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرِ بْنِ أَبِي
بُسْرٍ الْمَازِنِيُّ
لَهُ وَلِأَبِيهِ صُحْبَةٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي الَّتِي
قَبْلَهَا.
قَالَ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَحَدُ التَّابِعِينَ
الْعُذْرِيُّ الشَّاعِرُ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ
حَيَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِهِ.
وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ النَّسَبَ.
وَالْعُمَّالُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ مِنَ
الْهِجْرَةِ
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ
بِلَادَ الرُّومِ، فَفَتَحَا حُصُونًا، وَقَتَلَا خَلْقًا مِنَ الرُّومِ،
وَغَنِمَا وَأَسَرَا خَلْقًا كَثِيرًا. وَفِيهَا أَسَرَتِ الرُّومُ خَالِدَ بْنَ
كَيْسَانَ صَاحِبَ الْبَحْرِ، وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ، فَأَهْدَاهُ
مَلِكُ الرُّومِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ
إِمْرَةِ مِصْرَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا قُرَّةَ بْنَ شَرِيكٍ.
وَفِيهَا قَتَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الثَّقَفِيُّ مَلِكَ السِّنْدِ دَاهِرَ
بْنَ صَصَّةَ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ هَذَا عَلَى جَيْشٍ مِنْ جِهَةِ
الْحَجَّاجِ، وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَدِينَةَ بُخَارَى،
وَهَزَمَ جَمْعَ الْعَدُوِّ مِنَ التُّرْكِ بِهَا، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ فُصُولٌ
يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ تَقَصَّاهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَفِيهَا طَلَبَ طَرْخُونُ
مَلِكُ الصُّغْدِ بَعْدَ فَتْحِ بُخَارَى مِنْ قُتَيْبَةَ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى
مَالٍ يَبْذُلُهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَأَجَابَهُ قُتَيْبَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَأَخَذَ
مِنْهُ رَهْنًا عَلَيْهِ.
وَفِيهَا اسْتَنْجَدَ وَرْدَانُ خُذَاهْ بِالتُّرْكِ، فَأَتَوْهُ مِنْ جَمِيعِ
النَّوَاحِي وَهُوَ صَاحِبُ بُخَارَى بَعْدَ أَخْذِ قُتَيْبَةَ لَهَا وَخَرَجَ
وَرْدَانُ خُذَاهْ وَحَمَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَطَّمُوهُمْ، ثُمَّ عَادَ
الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَصَالَحَ
قُتَيْبَةُ مَلِكَ الصُّغْدِ، وَفَتَحَ بُخَارَى وَحُصُونَهَا، وَرَجَعَ
قُتَيْبَةُ بِالْجُنْدِ إِلَى بِلَادِهِ فَأَذِنَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا
سَارَ إِلَى بِلَادِهِ بَلَغَهُ أَنَّ صَاحِبَ الصُّغْدِ قَالَ لِمُلُوكِ
التُّرْكِ: إِنِ الْعَرَبَ بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ، فَإِنْ أُعْطُوا شَيْئًا
ذَهَبُوا، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ هَكَذَا يَقْصِدُ الْمُلُوكَ، فَإِنْ
أَعْطَوْهُ شَيْئًا أَخْذَهُ وَرَجَعَ
عَنْهُمْ، وَإِنَّ قُتَيْبَةَ لَيْسَ بِمَلِكٍ، وَلَا يَطْلُبُ مُلْكًا. فَبَلَغَ
قُتَيْبَةَ قَوْلُهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، فَكَاتَبَ نَيْزَكُ مَلِكُ التُّرْكِ
مُلُوكَ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ; مِنْهُمْ مَلِكُ الطَّالَقَانِ، وَكَانَ قَدْ
صَالَحَ قُتَيْبَةَ فَنَقَضَ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
قُتَيْبَةَ، وَاسْتَجَاشَ عَلَيْهِ بِالْمُلُوكِ كُلِّهَا، فَأَتَاهُ مُلُوكٌ
كَثِيرٌ كَانُوا قَدْ عَاهَدُوا قُتَيْبَةَ عَلَى الصُّلْحِ، فَنَقَضُوا كُلُّهُمْ
وَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى قُتَيْبَةَ، وَاتَّعَدُوا إِلَى الرَّبِيعِ،
وَتَعَاهَدُوا وَتَعَاقَدُوا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فَيُقَاتِلُوا كُلُّهُمْ فِي
فَصْلِ الرَّبِيعِ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ قُتَيْبَةُ فِي
ذَلِكَ الْحِينِ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا، وَصَلَبَ
مِنْهُمْ سِمَاطَيْنِ فِي مَسَافَةِ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ فِي نِظَامٍ وَاحِدٍ،
وَذَلِكَ مِمَّا كَسَرَ جُمُوعَهُمْ كُلَّهُمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ هَرَبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَأَخَوَاهُ
الْمُفَضَّلُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ سِجْنِ الْحَجَّاجِ، فَلَحِقُوا
بِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَمَّنَهُمْ مِنَ الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ
أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدِ احْتَاطَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَاقَبَهُمْ
عُقُوبَةً عَظِيمَةً، وَأَخَذَ مِنْهُمْ سِتَّةَ آلَافِ أَلْفٍ، وَكَانَ
أَصْبَرَهُمْ عَلَى الْعُقُوبَةِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، كَانَ لَا يُسْمَعُ
لَهُ صَوْتٌ، وَلَوْ فَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا، فَكَانَ ذَلِكَ يَغِيظُ
الْحَجَّاجَ، حَتَّى قَالَ قَائِلٌ لِلْحَجَّاجِ: إِنَّ فِي سَاقِهِ أَثَرَ
نُشَّابَةٍ بَقِيَ نَصْلُهَا فِيهِ، وَإِنَّهُ مَتَى أَصَابَهَا شَيْءٌ لَا
يَمْلِكُ نَفْسَهُ أَنْ يَصْرُخَ، فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ أَنْ يُنَالَ ذَلِكَ
الْمَوْضِعُ مِنْهُ بِعَذَابٍ، فَصَاحَ، فَلَمَّا سَمِعَتْ أُخْتُهُ هِنْدُ بِنْتُ
الْمُهَلَّبِ وَكَانَتْ تَحْتَ الْحَجَّاجِ صَوْتَهُ بَكَتْ
وَنَاحَتْ عَلَيْهِ فَطَلَّقَهَا
الْحَجَّاجُ، ثُمَّ أَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، ثُمَّ خَرَجَ الْحَجَّاجُ إِلَى
بَعْضِ الْمَحَالِّ لِيُنْفِذَ جَيْشًا إِلَى الْأَكْرَادِ، وَاسْتَصْحَبَهُمْ
مَعَهُ، فَخَنْدَقَ حَوْلَهُمْ، وَوَكَّلَ بِهِمُ الْحَرَسَ، فَلَمَّا كَانَ فِي
بَعْضِ اللَّيَالِي أَمَرَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ فَصُنِعَ
لِلْحَرَسِ، فَاشْتَغَلُوا بِهِ، ثُمَّ تَنَكَّرَ فِي هَيْئَةِ بَعْضِ
الطَّبَّاخِينَ، وَجَعَلَ لِحْيَتَهُ لِحْيَةً بَيْضَاءَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَرَآهُ
بَعْضُ الْحَرَسِ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مِشْيَةً أَشْبَهَ بِمِشْيَةِ يَزِيدَ
بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنْ هَذَا. ثُمَّ اتَّبَعَهُ يَتَحَقَّقُهُ، فَلَمَّا رَأَى
بَيَاضَ لِحْيَتِهِ انْصَرَفَ عَنْهُ، ثُمَّ لَحِقَهُ أَخَوَاهُ، فَرَكِبُوا
السُّفُنَ، وَسَارُوا نَحْوَ الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحَجَّاجَ هَرَبُهُمُ
انْزَعَجَ لِذَلِكَ، وَذَهَبَ وَهْمُهُ أَنَّهُمْ سَارُوا إِلَى خُرَاسَانَ،
فَكَتَبَ إِلَى قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ يُحَذِّرُهُ قُدُومَهُمْ، وَيَأْمُرُهُ
بِالِاسْتِعْدَادِ لَهُمْ، وَأَنْ يَرْصُدَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَكْتُبَ
إِلَى أُمَرَاءِ الثُّغُورِ وَالْكُوَرِ بِتَحْصِيلِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُخْبِرُهُ بِهَرَبِهِمْ،
وَأَنَّهُ لَا يَرَاهُمْ هَرَبُوا إِلَّا إِلَى خُرَاسَانَ، وَخَافَ الْحَجَّاجُ
مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ، أَنْ يَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَجَمْعِ النَّاسِ
لَهُ.
وَأَمَّا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَإِنَّهُ سَلَكَ عَلَى الْبَطَائِحِ،
وَجَاءَتْهُ خُيُولٌ كَانَ قَدْ أَعَدَّهَا لَهُ أَخُوهُ مَرْوَانُ بْنُ
الْمُهَلَّبِ لِهَذَا الْيَوْمِ، فَرَكِبَهَا وَسَلَكَ بِهِ دَلِيلٌ مِنْ بَنِي
كَلْبٍ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ يَزِيدَ. فَأَخَذَ بِهِمْ عَلَى
السَّمَاوَةِ. وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى الْحَجَّاجِ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَنَّ
يَزِيدَ قَدْ سَلَكَ نَحْوَ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ،
وَسَارَ يَزِيدُ حَتَّى نَزَلَ
الْأُرْدُنَّ، عَلَى وُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَزْدِيِّ وَكَانَ
كَرِيمًا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَسَارَ وُهَيْبٌ إِلَى
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ
وَأَخَوَيْهِ فِي مَنْزِلِي، قَدْ جَاءُوا مُسْتَعِيذِينَ بِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ.
قَالَ: فَاذْهَبْ فَائْتِنِي بِهِمْ، فَهُمْ آمِنُونَ مَا دُمْتُ حَيًّا.
فَجَاءَهُمْ، فَذَهَبَ بِهِمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَأَمَّنَهُمْ سُلَيْمَانُ، وَكَتَبَ إِلَى أَخِيهِ الْوَلِيدِ: إِنَّ
آلَ الْمُهَلَّبِ قَدْ أَمَّنْتُهُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لِلْحَجَّاجِ عِنْدَهُمْ
ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفٍ، وَهِيَ عِنْدِي. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا
أُؤَمِّنُهُ حَتَّى تَبْعَثَ بِهِ إِلَيَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا
أَبْعَثُهُ حَتَّى أَجِيءَ مَعَهُ، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَفْضَحَنِي أَوْ تُخْفِرَنِي فِي جِوَارِي. فَكَتَبَ
إِلَيْهِ: لَا وَاللَّهِ لَا تَجِئْ مَعَهُ وَابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ فِي وَثَاقٍ.
فَقَالَ يَزِيدُ: ابْعَثْنِي إِلَيْهِ، فَمَا أُحِبُّ أَنْ أُوقِعَ بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً وَحَرْبًا، فَابْعَثْنِي إِلَيْهِ، وَابْعَثْ مَعِي ابْنَكَ،
وَاكْتُبْ إِلَيْهِ بِأَلْطَفِ عِبَارَةٍ تَقْدِرُ عَلَيْهَا. فَبَعَثَهُ وَبَعَثَ
مَعَهُ ابْنَهُ أَيُّوبَ، وَقَالَ لِابْنِهِ: إِذَا دَخَلْتَ فِي الدِّهْلِيزِ
فَادْخُلْ مَعَ يَزِيدَ فِي السِّلْسِلَةِ، وَادْخُلَا عَلَيْهِ كَذَلِكَ.
فَلَمَّا رَأَى الْوَلِيدُ ابْنَ أَخِيهِ فِي السِّلْسِلَةِ، قَالَ: وَاللَّهِ
لَقَدْ بَلَغْنَا مِنْ سُلَيْمَانَ. وَدَفَعَ أَيُّوبُ كِتَابَ أَبِيهِ إِلَى
عَمِّهِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَفْسِي فِدَاؤُكَ لَا تَخْفِرْ
ذِمَّةَ أَبِي، وَأَنْتَ أَحَقُّ مَنْ مَنَعَهَا، وَلَا تَقْطَعْ مِنَّا رَجَاءَ
مَنْ رَجَا السَّلَامَةَ فِي جِوَارِنَا لِمَكَانِنَا مِنْكَ، وَلَا تُذِلَّ مَنْ
رَجَا الْعِزَّ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْنَا لِعِزِّنَا بِكَ.
ثُمَّ قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَإِذَا
فِيهِ:
أَمَّا بَعْدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَوَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ
لَوِ اسْتَجَارَ بِي عَدُوٌّ قَدْ نَابَذَكَ وَجَاهَدَكَ فَأَنْزَلْتُهُ
وَأَجْرَتْهُ، أَنَّكَ لَا تُذِلُّ
جَارِي، وَلَا تَخْفِرُ جِوَارِي، بَلْ
لَمْ أُجِرْ إِلَّا سَامِعًا مُطِيعًا، حَسَنَ الْبَلَاءِ وَالْأَثَرِ فِي
الْإِسْلَامِ، هُوَ وَأَبُوهُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ، وَقَدْ بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ،
فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُعِدُّ قَطِيعَتِي وَالْإِخْفَارَ بِذِمَّتِي
وَالْإِبْلَاغَ فِي مَسَاءَتِي، فَقَدْ قَدَرْتَ إِنْ أَنْتَ فَعَلْتَ، وَأَنَا
أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنِ احْتِرَادِ قَطِيعَتِي، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِي،
وَتَرْكِ بِرِّي وَصِلَتِي، فَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَدْرِي
مَا بَقَائِي وَبَقَاؤُكَ، وَلَا مَتَى يُفَرِّقُ الْمَوْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ،
فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَدَامَ اللَّهُ سُرُورَهُ أَنْ لَا
يَأْتِيَ أَجَلُ الْوَفَاةِ عَلَيْنَا إِلَّا وَهُوَ لِي وَاصِلٌ، وَلِحَقِّي
مُؤَدٍّ، وَعَنْ مَسَاءَتِي نَازِعٌ، فَلْيَفْعَلْ، وَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مَا أَصْبَحْتُ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا بَعْدَ تَقْوَى
اللَّهِ بِأَسَرَّ مِنِّي بِرِضَاكَ وَسُرُورِكَ، وَإِنَّ رِضَاكَ وَسُرُورَكَ
مِمَّا أَلْتَمِسُ بِهِ رِضْوَانَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كُنْتَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ تُرِيدُ مَسَرَّتِي وَصِلَتِي
وَكَرَامَتِي وَإِعْظَامَ حَقِّي فَتَجَاوَزْ لِي عَنْ يَزِيدَ، وَكُلُّ مَا
طَلَبْتَهُ بِهِ فَهُوَ عَلَيَّ.
فَلَمَّا قَرَأَ الْوَلِيدُ كِتَابَهُ قَالَ: لَقَدْ أَشْفَقْنَا عَلَى
سُلَيْمَانَ. ثُمَّ دَعَا ابْنَ أَخِيهِ، فَأَدْنَاهُ مِنْهُ، وَتَكَلَّمَ يَزِيدُ
بْنُ الْمُهَلَّبِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى
رَسُولِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ بَلَاءَكُمْ عِنْدَنَا
أَحْسَنُ الْبَلَاءِ، فَمَنْ يَنْسَى ذَلِكَ فَلَسْنَا نَاسِيهِ، وَمَنْ
يَكْفُرُهُ فَلَسْنَا بِكَافِرِيهِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ بَلَائِنَا أَهْلَ
الْبَيْتِ فِي طَاعَتِكُمْ
وَالطَّعْنِ فِي أَعْيُنِ
أَعْدَائِكُمْ فِي الْمَوَاطِنِ الْعِظَامِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا
إِنَّ الْمِنَّةَ عَلَيْنَا فِيهِ عَظِيمَةٌ. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ. فَجَلَسَ،
فَأَمَّنَهُ، وَكَفَّ عَنْهُ، وَرَدَّهُ إِلَى سُلَيْمَانَ، فَكَانَ عِنْدَهُ
يُعَلِّمُهُ الْهَيْئَةَ، وَيَصِفُ لَهُ أَلْوَانَ الْأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ،
وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَهُ لَا يُهْدَى إِلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ إِلَّا بَعَثَ
إِلَيْهِ بِنِصْفِهَا، وَتَقَرَّبَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ إِلَى سُلَيْمَانَ
بِأَنْوَاعِ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالتَّقَادُمِ.
وَكَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى الْحَجَّاجِ: إِنِّي لَمْ أَصِلْ إِلَى يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ مَعَ أَخِي سُلَيْمَانَ، فَاكْفُفْ عَنْهُمْ،
وَالْهَ عَنِ الْكِتَابِ إِلَيَّ فِيهِمْ. فَكَفَّ الْحَجَّاجُ عَنْ آلِ
الْمُهَلَّبِ، وَتَرَكَ مَا كَانَ يُطَالِبُهُمْ بِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، حَتَّى
تَرَكَ لِأَبِي عُيَيْنَةَ بْنِ الْمُهَلَّبِ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلَمْ
يَزَلْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عِنْدَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
حَتَّى هَلَكَ الْحَجَّاجُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ ثُمَّ وَلِيَ يَزِيدُ بِلَادَ الْعِرَاقِ بَعْدَ الْحَجَّاجِ، كَمَا
أَخْبَرَهُ الرَّاهِبُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ
تَيَاذُوقُ الطَّبِيبُ الْحَاذِقُ
لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فَنِّهِ، وَكَانَ حَظِيًّا عِنْدَ الْحَجَّاجِ، مَاتَ فِي
حُدُودِ سَنَةِ تِسْعِينَ بِوَاسِطٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَأَبُو
الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيُّ،
وَسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ
الْمُحَبَّقِ، أَحَدُ الشُّجْعَانِ الْمَذْكُورِينَ، أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ،
وَتَوَلَّى غَزْوَ الْهِنْدِ، وَطَالَ عُمْرُهُ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ أَخُو
الْحَجَّاجِ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى الْيَمَنِ وَكَانَ يَلْعَنُ عَلِيًّا عَلَى
الْمَنَابِرِ. قِيلَ: إِنَّهُ أَمَرَ حُجْرًا الْمَدَرِيَّ أَنْ يَلْعَنَ
عَلِيًّا. فَقَالَ: بَلْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَلْعَنُ عَلِيًّا، وَلَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ وَرَّى فِي لَعْنِهِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، أَبُو هَاشِمٍ الْأُمَوِيُّ
الدِّمَشْقِيُّ
وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ تَلِي دَارَ الْحِجَارَةِ، وَكَانَ عَالِمًا
شَاعِرًا، وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ، وَكَانَ
يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ عُلُومِ الطَّبِيعَةِ. رَوَى عَنْ أَبِيهِ وَدِحْيَةَ
الْكَلْبِيِّ، وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ خَالِدُ يَصُومُ الْأَعْيَادَ كُلَّهَا: الْجُمُعَةَ
وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ. يَعْنِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ عِيدُ
الْمُسْلِمِينَ، وَيَوْمَ السَّبْتِ، وَهُوَ عِيدُ الْيَهُودِ، وَالْأَحَدُ
لِلنَّصَارَى. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ: كَانَ هُوَ وَأَخُوهُ
مُعَاوِيَةُ مِنْ
خِيَارِ الْقَوْمِ. وَقَدْ ذُكِرَ
لِلْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَزِيدَ، وَكَانَ وَلِيَّ
الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ مَرْوَانَ، فَلَمْ يَلْتَئِمْ لَهُ الْأَمْرُ، وَكَانَ
مَرْوَانُ زَوْجَ أُمِّهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ: أَقْرَبُ شَيْءٍ الْأَجَلُ،
وَأَبْعَدُ شَيْءٍ الْأَمَلُ، وَأَرْجَى شَيْءٍ الْعَمَلُ.
وَقَدِ امْتَدَحَهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
سَأَلْتُ النَّدَا وَالْجُودَ حُرَّانِ أَنْتُمَا فَقَالَا جَمِيعًا إِنَّنَا
لَعَبِيدُ فَقُلْتُ وَمَنْ مَوْلَاكُمَا فَتَطَاوَلَا
عَلَيَّ وَقَالَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدِ
قَالَ: فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ. وَقَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ
سَلِيمٍ الْأَسَدِيُّ، الشَّاعِرُ أَبُو كَثِيرٍ
وَيُقَالُ: أَبُو سَعْدٍ. وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَفَدَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ فَامْتَدَحَهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ
نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنْ وَصَاحِبَهَا.
يُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ فِي زَمَنِ الْحَجَّاجِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَتِسْعِينَ
فِيهَا غَزَا الصَّائِفَةَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَابْنُ أَخِيهِ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ.
وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بِلَادَ التُّرْكِ حَتَّى بَلَغَ الْبَابَ مِنْ
نَاحِيَةِ أَذْرَبِيجَانَ، فَفَتَحَ مَدَائِنَ وَحُصُونًا كَثِيرَةً أَيْضًا،
وَكَانَ الْوَلِيدُ قَدْ عَزَلَ عَمَّهُ مُحَمَّدَ بْنَ مَرْوَانَ عَنِ
الْجَزِيرَةِ وَأَذْرَبِيجَانَ، وَوَلَّاهُمَا أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ.
وَفِيهَا غَزَا مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِلَادَ الْمَغْرِبِ، فَفَتَحَ مُدُنًا
كَثِيرَةً، وَدَخَلَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ، وَوَلَجَ فِيهَا حَتَّى دَخَلَ
أَرَاضِيَ غَابِرَةً قَاصِيَةً، فِيهَا آثَارُ قُصُورٍ وَبُيُوتٍ لَيْسَ بِهَا
سَاكِنٌ، وَوَجَدَ هُنَاكَ مِنْ آثَارِ نِعْمَةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ مَا
يَلُوحُ عَلَى سِمَاتِهَا أَنَّ أَهْلَهَا كَانُوا أَصْحَابَ أَمْوَالٍ وَنِعْمَةٍ
دَارَّةٍ سَابِغَةٍ، فَبَادُوا جَمِيعًا فَلَا مُخْبِرَ بِهَا.
وَفِيهَا مَهَّدَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ
نَقَضُوا مَا كَانُوا عَاهَدُوهُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصَالَحَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ
قِتَالٍ شَدِيدٍ، وَحَرْبٍ يَشِيبُ لَهَا الْوَلِيدُ، وَذَلِكَ أَنَّ مُلُوكَهُمْ
كَانُوا قَدِ اتَّعَدُوا فِي الْعَامِ الْمَاضِي فِي أَوَانِ الرَّبِيعِ أَنْ
يَجْتَمِعُوا، وَيُقَاتِلُوا قُتَيْبَةَ، وَأَنْ لَا يُوَلُّوا عَنِ الْقِتَالِ
حَتَّى يُخْرِجُوا الْعَرَبَ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا اجْتِمَاعًا
هَائِلًا لَمْ يَجْتَمِعُوا مِثْلَهُ فِي مَوْقِفٍ، فَكَسَرَهُمْ قُتَيْبَةُ،
وَقَتَلَ مِنْهُمْ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَرَدَّ الْأُمُورَ إِلَى مَا كَانَتْ
عَلَيْهِ، حَتَّى ذُكِرَ أَنَّهُ صَلَبَ مِنْهُمْ فِي
بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأُسَارَى سِمَاطَيْنِ طُولُهُمَا أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ مِنْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَاتَّبَعَ نَيْزَكَ خَانَ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى إِقْلِيمٍ، وَمِنْ كُورَةٍ إِلَى كُورَةٍ، وَمِنْ رُسْتَاقٍ إِلَى رُسْتَاقٍ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ وَدَأْبَهُ حَتَّى حَصَرَهُ فِي قَلْعَةٍ هُنَالِكَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَ نَيْزَكَ خَانَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ، وَأَشْرَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْهَلَاكِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ قُتَيْبَةُ مَنْ جَاءَ بِهِ مُسْتَأْمَنًا مَذْمُومًا مَخْذُولًا، فَسَجَنَهُ عِنْدَهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي أَمْرِهِ، فَجَاءَ الْكِتَابُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بِقَتْلِهِ، فَجَمَعَ قُتَيْبَةُ الْأُمَرَاءَ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِيهِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ; فَقَائِلٌ يَقُولُ: اقْتُلْهُ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: لَا تَقْتُلْهُ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّكَ أَعْطَيْتَ اللَّهَ عَهْدًا أَنَّكَ إِنْ ظَفِرْتَ بِهِ لَتَقْتُلَنَّهُ، وَقَدْ أَمْكَنَكَ اللَّهُ مِنْهُ. فَقَالَ قُتَيْبَةُ: وَاللَّهِ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي إِلَّا مَا يَسَعُ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ لَقَتَلْتُهُ. ثُمَّ قَالَ: اقْتُلُوهُ اقْتُلُوهُ اقْتُلُوهُ، فَقُتِلَ هُوَ وَسَبْعُمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَخَذَ قُتَيْبَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَخُيُولِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ فِي هَذَا الْعَامِ مُدُنًا كَثِيرَةً، وَقَرَّرَ مَمَالِكَ كَثِيرَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ الْمَدِينَةِ أَشْرَافَ الْمَدِينَةِ فَتَلَقَّوْهُ، فَرَحَّبَ بِهِمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ النَّبَوِيَّةَ، فَأُخْلِيَ لَهُ الْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ، فَلَمْ يَبْقَ بِهِ أَحَدٌ سِوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، لَمْ يَتَجَاسَرْ أَحَدٌ أَنْ يُخْرِجَهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ثِيَابٌ لَا تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالُوا لَهُ: تَنَحَّ عَنِ الْمَسْجِدِ أَيُّهَا الشَّيْخُ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَخْرُجُ مِنْهُ. فَدَخَلَ الْوَلِيدُ الْمَسْجِدَ فَجَعَلَ يَدُورُ فِيهِ يُصَلِّي هَاهُنَا وَهَاهُنَا، وَيَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: وَجَعَلْتُ أَعْدِلُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِ سَعِيدٍ خَشْيَةَ أَنْ يَرَاهُ، فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا ؟ أَهْوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ عَلِمَ بِمَكَانِكَ لَقَامَ إِلَيْكَ وَسَلَّمَ عَلَيْكَ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: قَدْ عَلِمْتُ حَالَهُ. وَجَعَلَ يَدُورُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَتَفَرَّجُ فِي عِمَارَتِهِ، وَيَسْأَلُنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ وَإِنَّهُ، وَقَصَدْتُ مُوَافَقَتَهُ فِي ذَلِكَ، فَشَرَعَ الْوَلِيدُ يُثْنِي عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهُ ضَعِيفُ الْبَصَرِ وَإِنَّمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِأَعْتَذِرَ لَهُ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ. فَجَاءَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقُمْ لَهُ سَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ
الْوَلِيدُ: كَيْفَ الشَّيْخُ؟
فَقَالَ: بِخَيْرٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، كَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ
الْوَلِيدُ: بِخَيْرٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ، وَهُوَ يَقُولُ
لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: هَذَا بَقِيَّةُ النَّاسِ. فَقَالَ: أَجَلْ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالُوا: ثُمَّ خَطَبَ الْوَلِيدُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ فِي الْخُطْبَةِ الْأُولَى، وَانْتَصَبَ قَائِمًا فِي
الثَّانِيَةِ، وَقَالَ: هَكَذَا خَطَبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. ثُمَّ انْصَرَفَ،
فَصَرَفَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَهَبًا كَثِيرًا وَفِضَّةً
كَثِيرَةً، ثُمَّ كَسَا الْمَسْجِدَ النَّبَوِيَّ كُسْوَةً مِنْ كُسْوَةِ
الْكَعْبَةِ الَّتِي مَعَهُ، وَهِيَ مِنْ دِيبَاجٍ غَلِيظٍ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ ثُمَامَةَ
وَقَدْ حَجَّ بِهِ أَبُوهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَكَانَ عُمْرُ السَّائِبِ سَبْعَ سِنِينَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
فَلِهَذَا قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ،
وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: سَنَةَ سِتٍّ.
وَقِيلَ: ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ، صَحَابِيٌّ مَدَنِيٌّ جَلِيلٌ، تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ خَمْسَ
عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ مِمَّنْ خَتَمَهُ الْحَجَّاجُ فِي عُنُقِهِ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، هُوَ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
فِي يَدِهِ; لِيُذِلَّهُمْ كَيْلَا يَسْمَعَ النَّاسُ مِنْ رَأْيِهِمْ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ
عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: لَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ. وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَتِسْعِينَ
فِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ، وَابْنُ أَخِيهِ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ،
فَفَتَحَا حُصُونًا كَثِيرَةً، وَغَنِمَا شَيْئًا كَثِيرًا، وَهَرَبَتْ مِنْهُمُ
الرُّومُ إِلَى أَقْصَى بِلَادِهِمْ.
وَفِيهَا غَزَا طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ مَوْلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ بِلَادَ
الْأَنْدَلُسِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَخَرَجَ إِلَيْهِ مَلِكُهَا
أَذَرِينُوقُ فِي جَحَافِلِهِ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَمَعَهُ سَرِيرُ مُلْكِهِ،
فَقَاتَلَهُ طَارِقٌ فَهَزَمَهُ، وَغَنِمَ مَا فِي مُعَسْكَرِهِ، فَكَانَ مِنْ
جُمْلَةِ ذَلِكَ السَّرِيرُ، وَتَمَلَّكَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ بِكَمَالِهَا.
قَالَ الذَّهَبِيُّ: كَانَ طَارِقُ بْنُ زِيَادٍ أَمِيرَ طَنْجَةَ، وَهِيَ أَقْصَى
بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ نَائِبًا لِمَوْلَاهُ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ الْخَضْرَاءِ يَسْتَنْجِدُ بِهِ عَلَى
عَدُوِّهِ، فَدَخَلَ طَارِقٌ إِلَى جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ مِنْ زُقَاقِ
سَبْتَةَ، وَانْتَهَزَ الْفُرْصَةَ لِكَوْنِ الْفِرِنْجِ قَدِ اقْتَتَلُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ، وَأَمْعَنَ طَارِقٌ فِي بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ فَافْتَتَحَ
قُرْطُبَةَ، وَقَتَلَ مَلِكَهَا أَذَرِينُوقَ، وَكَتَبَ إِلَى مُوسَى بْنِ
نُصَيْرٍ بِالْفَتْحِ، فَحَسَدَهُ مُوسَى عَلَى الِانْفِرَادِ بِهَذَا الْفَتْحِ،
وَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُبَشِّرُهُ بِالْفَتْحِ، وَيَنْسِبُهُ إِلَى نَفْسِهِ،
وَكَتَبَ إِلَى طَارِقٍ يَتَوَعَّدُهُ لِكَوْنِهِ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ،
وَيَأْمُرُهُ أَنْ لَا يَتَجَاوَزَ مَكَانَهُ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ، ثُمَّ سَارَ
إِلَيْهِ مُسْرِعًا بِجُيُوشِهِ، فَدَخَلَ الْأَنْدَلُسَ وَمَعَهُ حَبِيبُ بْنُ
أَبِي عُبَيْدَةَ الْفِهْرِيُّ، فَأَقَامَ سِنِينَ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ
الْأَنْدَلُسِ، وَيَأْخُذُ الْمُدُنَ وَالْأَمْوَالَ، وَيَقْتُلُ الرِّجَالَ،
وَيَأْسِرُ النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ، فَغَنِمَ شَيْئًا لَا يُحَدُّ وَلَا
يُوصَفُ وَلَا يُعَدُّ مِنَ
الْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْأَثَاثِ وَالْخُيُولِ وَالْبِغَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَفَتَحَ مِنَ الْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ وَالْمُدُنِ شَيْئًا كَثِيرًا.
وَكَانَ مِمَّا فَتَحَ مَسْلَمَةُ وَابْنُ أَخِيهِ عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ
حُصُونِ بِلَادِ الرُّومِ حِصْنُ سَوْسَنَةَ، وَبَلَغَا إِلَى خَلِيجِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.
وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ شُومَانَ وَكِسَّ، وَنَسَفَ،
وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ فِرْيَابَ فَأَحْرَقَهَا، وَجَهَّزَ أَخَاهُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ إِلَى الصُّغْدِ إِلَى طَرْخُونَ خَانَ مَلِكِ تِلْكَ الْبِلَادِ،
فَصَالَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَعْطَاهُ طَرْخُونُ خَانَ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً، وَقَدِمَ عَلَى أَخِيهِ وَهُوَ ببُخَارَى فَرَجَعَ إِلَى مَرْوَ،
وَلَمَّا صَالَحَ طَرْخُونُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَرَحَلَ عَنْهُ، اجْتَمَعَتِ
الصُّغْدُ وَقَالُوا لِطَرْخُونَ: إِنَّكَ قَدْ بُؤْتَ بِالذُّلِّ وَأَدَّيْتَ
الْجِزْيَةَ، وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيكَ، ثُمَّ عَزَلُوهُ
وَوَلَّوْا عَلَيْهِمْ غَوْزَكَ خَانَ أَخَا طَرْخُونَ خَانَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ
عَصَوْا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ سِجِسْتَانَ يُرِيدُ رُتْبِيلَ مَلِكَ التُّرْكِ
الْأَعْظَمَ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى أَوَّلِ مَمْلَكَةِ رُتْبِيلَ تَلَقَّتْهُ
رُسُلُهُ يُرِيدُونَ مِنْهُ الصُّلْحَ عَلَى أَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ; خُيُولٍ
وَرَقِيقٍ وَنِسَاءٍ مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ يُحْمَلُ ذَلِكَ إِلَيْهِ،
فَصَالَحَهُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ
الْمَدِينَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
.
وَتُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّصْرِيُّ أَبُو سَعِيدٍ الْمَدَنِيُّ
مُخْتَلَفٌ فِي
صُحْبَتِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
رَكِبَ الْخَيْلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَرَأَى أَبَا بَكْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ
بْنُ سَعْدٍ: رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ
يَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ مَعِينٍ وَالْبُخَارِيُّ
وَأَبُو حَاتِمٍ وَقَالُوا: لَا تَصِحُّ لَهُ صُحْبَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. مَاتَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
طُوَيْسٌ الْمُغَنِّي
اسْمُهُ عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ الْمُنْعِمِ الْمَدَنِيُّ،
مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، كَانَ بَارِعًا فِي صِنَاعَتِهِ، وَكَانَ طَوِيلًا
مُضْطَرِبًا أَحْوَلَ الْعَيْنِ، وَكَانَ مَشْئُومًا; لِأَنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُطِمَ يَوْمَ
تُوُفِّيَ الصِّدِّيقُ، وَاحْتَلَمَ يَوْمَ قُتِلَ عُمَرُ، وَتَزَوَّجَ يَوْمَ
قُتِلَ عُثْمَانُ، وَوُلِدَ لَهُ يَوْمَ قُتِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ.
وَقِيلَ: وُلِدَ لَهُ يَوْمَ قُتِلَ عَلِيٌّ. حَكَاهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
وَغَيْرُهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ سَنَةً بِالسُّوَيْدَاءِ، وَهِيَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنَ
الْمَدِينَةِ.
الْأَخْطَلُ
كَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، فَاقَ أَقْرَانَهُ فِي الشِّعْرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ
وَفِيهَا افْتَتَحَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حُصُونًا كَثِيرَةً مِنْ
بِلَادِ الرُّومِ; مِنْهَا حِصْنُ الْحَدِيدِ، وَغَزَالَةُ، وَمَاسَةُ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ، وَفِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ سَبَسْطِيَةَ،
وَفِيهَا غَزَا مَرْوَانُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ حَتَّى بَلَغَ خَنْجَرَةَ.
وَفِيهَا كَتَبَ خَوَارِزْمُ شَاهْ إِلَى قُتَيْبَةَ يَدْعُوهُ إِلَى الصُّلْحِ،
وَأَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ بِلَادِهِ مَدَائِنَ، وَأَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ أَمْوَالًا
وَرَقِيقًا كَثِيرًا عَلَى أَنْ يُقَاتِلَ أَخَاهُ، وَيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِ،
فَإِنَّهُ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَبَغَى عَلَى النَّاسِ، وَعَسَفَهُمْ،
وَكَانَ أَخُوهُ هَذَا لَا يَسْمَعُ بِشَيْءٍ حَسَنٍ عِنْدَ أَحَدٍ إِلَّا بَعَثَ
إِلَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ نِسَاءً أَوْ صِبْيَانًا
أَوْ دَوَابَّ أَوْ غَيْرَهُ، فَأَقْبَلَ قُتَيْبَةُ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي
الْجُيُوشِ فَسَلَّمَ إِلَيْهِ خَوَارِزْمُ شَاهْ مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ،
وَبَعَثَ قُتَيْبَةُ إِلَى بِلَادِ أَخِي خَوَارِزْمَ شَاهْ جَيْشًا، فَقَتَلُوا
مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرُوا أَخَاهُ وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ
أَسِيرٍ، فَدَفَعَ أَخَاهُ إِلَيْهِ وَأَمَرَ قُتَيْبَةُ بِالْأُسَارَى فَضُرِبَتْ
أَعْنَاقُهُمْ بِحَضْرَتِهِ; قَتَلَ أَلْفًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَلْفًا عَنْ
يَمِينِهِ، وَأَلْفًا عَنْ شِمَالِهِ، وَأَلْفًا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ;
لِيُرْهِبَ بِذَلِكَ الْأَعْدَاءَ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَغَيْرِهِمْ.
فَتْحُ سَمَرْقَنْدَ
وَذَلِكَ أَنَّ قُتَيْبَةَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، وَعَزَمَ عَلَى
الرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِ، قَالَ لَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ: إِنَّ أَهْلَ
الصُّغْدِ قَدْ أَمِنُوكَ عَامَكَ هَذَا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَعْدِلَ
إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فَإِنَّكَ مَتَى فَعَلْتَ ذَلِكَ أَخَذْتَهَا
إِنْ كُنْتَ تُرِيدُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ. فَقَالَ قُتَيْبَةُ لِذَلِكَ
الْأَمِيرِ: هَلْ قُلْتَ هَذَا لِأَحَدٍ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَلَئِنْ يَسْمَعْهُ
مِنْكَ أَحَدٌ أَضْرِبْ عُنُقَكَ، ثُمَّ بَعَثَ قُتَيْبَةُ أَخَاهُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ مُسْلِمٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا، فَسَبَقَهُ
إِلَى سَمَرْقَنْدَ، وَلَحِقَهُ قُتَيْبَةُ فِي بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، فَلَمَّا
سَمِعَتِ الْأَتْرَاكُ بِقُدُومِهِمْ إِلَيْهِمُ انْتَخَبُوا مِنْ بَيْنِهِمْ
كُلَّ شَدِيدِ السَّطْوَةِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ،
وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى قُتَيْبَةَ فِي اللَّيْلِ، فَيَكْبِسُوا
جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ إِلَى قُتَيْبَةَ بِذَلِكَ،
فَجَرَّدَ أَخَاهُ صَالِحًا فِي سِتِّمِائَةِ فَارِسٍ مِنَ الْأَبْطَالِ الَّذِينَ
لَا يُطَاقُونَ، وَقَالَ: خُذُوا عَلَيْهِمُ الطَّرِيقَ. فَسَارُوا فَوَقَفُوا
لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَلَمَّا
اجْتَازُوا بِهِمْ فِي اللَّيْلِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَمْرِهِمْ ثَارُوا
عَلَيْهِمْ، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَإِيَّاهُمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْ أُولَئِكَ
الْأَتْرَاكِ إِلَّا النَّفَرُ الْيَسِيرُ، وَاحْتَزُّوا رُءُوسَهُمْ، وَغَنِمُوا
مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْأَسْلِحَةِ الْمُحَلَّاةِ بِالذَّهَبِ وَالْأَمْتِعَةِ،
وَقَالَ لَهُمْ بَعْضُ أُولَئِكَ: تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ لَمْ تَقْتُلُوا فِي
مَقَامِكُمْ هَذَا إِلَّا ابْنَ مَلِكٍ، أَوْ بَطَلًا مِنَ الْأَبْطَالِ
الْمَعْدُودِينَ بِمِائَةِ فَارِسٍ، أَوْ بِأَلْفِ فَارِسٍ، فَنَفَلَهُمْ
قُتَيْبَةُ جَمِيعَ مَا غَنِمُوهُ مِنْهُمْ مِنْ ذَهَبٍ وَسِلَاحٍ.
وَاقْتَرَبَ قُتَيْبَةُ مِنَ الْمَدِينَةِ الْعُظْمَى الَّتِي بِالصُّغْدِ، وَهِيَ سَمَرْقَنْدُ، فَنَصَبَ عَلَيْهَا الْمَجَانِيقَ، فَرَمَاهَا بِهَا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُقَاتِلُهُمْ لَا يُقْلِعُ عَنْهُمْ، وَنَاصَحَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بُخَارَى وَخَوَارِزْمَ، فَقَاتَلُوا أَهْلَ الصُّغْدِ قِتَالًا شَدِيدًا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ غَوْزَكُ مَلِكُ الصُّغْدِ: إِنَّمَا تُقَاتِلُنِي بِإِخْوَتِي وَأَهْلِ بَيْتِي، فَأَخْرِجْ إِلَيَّ الْعَرَبَ. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ قُتَيْبَةُ، وَمَيَّزَ الْعَرَبَ مِنَ الْعَجَمِ وَأَمَرَ الْعَجَمَ بِاعْتِزَالِهِمْ، وَقَدَّمَ الشُّجْعَانَ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَعْطَاهُمْ جَيِّدَ السِّلَاحِ، وَانْتَزَعَهُ مِنْ أَيْدِي الْجُبَنَاءِ، وَزَحَفَ بِالْأَبْطَالِ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَرَمَاهَا بِالْمَجَانِيقِ فَثَلَمَ فِيهَا ثُلْمَةً، فَسَدَّهَا التُّرْكُ بِغَرَائِرِ الدُّخْنِ، وَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوْقَهَا، فَجَعَلَ يَشْتُمُ قُتَيْبَةَ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ فَقَلَعَ عَيْنَهُ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ قَبَّحَهُ اللَّهُ فَأَعْطَى قُتَيْبَةُ الَّذِي رَمَاهُ عَشَرَةَ آلَافٍ، ثُمَّ دَخَلَ اللَّيْلُ فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَمَاهُمْ بِالْمَجَانِيقِ فَثَلَمَ أَيْضًا ثُلْمَةً، وَصَعِدَ الْمُسْلِمُونَ فَوْقَهَا، وَتَرَامَوْا هُمْ وَأَهْلُ الْبَلَدِ بِالنُّشَّابِ، فَقَالَتِ التَّرْكُ لِقُتَيْبَةَ: ارْجِعْ عَنَّا يَوْمَكَ هَذَا، وَنَحْنُ نُصَالِحُكَ غَدًا. فَرَجَعَ عَنْهُمْ، وَصَالَحُوهُ مِنَ الْغَدِ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَةِ أَلْفٍ يَحْمِلُونَهَا إِلَيْهِ فِي كُلِّ عَامٍ، وَعَلَى أَنْ يُعْطُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ الرَّقِيقِ، لَيْسَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَا شَيْخٌ وَلَا عَيْبٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: مِائَةَ أَلْفٍ مِنْ رَقِيقٍ، وَعَلَى أَنْ يَأْخُذَ حِلْيَةَ الْأَصْنَامِ، وَمَا فِي بُيُوتِ النِّيرَانِ، وَعَلَى أَنْ يُخْلُوا الْمَدِينَةَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ حَتَّى يَبْنِيَ فِيهَا قُتَيْبَةُ مَسْجِدًا، وَيُوضَعُ لَهُ فِيهِ مِنْبَرٌ يَخْطُبُ عَلَيْهِ، وَيَتَغَدَّى وَيَخْرُجُ، فَأَجَابُوهُ
إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَهَا
قُتَيْبَةُ دَخَلَهَا وَمَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنَ الْأَبْطَالِ، وَذَلِكَ
بَعْدَ أَنْ بُنِيَ الْمَسْجِدُ، وَوُضِعَ فِيهِ الْمِنْبَرُ، فَصَلَّى فِي
الْمَسْجِدِ وَخَطَبَ وَتَغَدَّى، وَأُتِيَ بِالْأَصْنَامِ الَّتِي لَهُمْ
فَسُلِبَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأُلْقِيَتْ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، حَتَّى
صَارَتْ كَالْقَصْرِ الْعَظِيمِ، ثُمَّ أَمَرَ بِتَحْرِيقِهَا، وَقَالَ
الْمَجُوسُ: إِنَّ فِيهَا أَصْنَامًا قَدِيمَةً مَنْ أَحْرَقَهَا هَلَكَ. وَجَاءَ
الْمَلِكُ غَوْزَكُ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لِقُتَيْبَةَ: إِنِّي لَكَ
نَاصِحٌ. فَقَالَ: أَنَا أُحَرِّقُهَا بِيَدِي، ثُمَّ أَخَذَ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ،
ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، وَهُوَ يُكَبِّرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَلْقَى فِيهَا
النَّارَ فَاحْتَرَقَتْ، فَوَجَدَ مِنْ بَقَايَا مَا كَانَ فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ
خَمْسِينَ أَلْفَ مِثْقَالٍ مِنْ ذَهَبٍ.
وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَصَابَ قُتَيْبَةُ فِي السَّبْيِ جَارِيَةً مِنْ
وَلَدِ يَزْدَجِرْدَ، فَأَهْدَاهَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَهْدَاهَا إِلَى
الْوَلِيدِ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى
قُتَيْبَةُ بِأَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَا أُرِيدُ مِنْكُمْ
أَكْثَرَ مِمَّا صَالَحْتُكُمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ جُنْدٍ
يُقِيمُونَ عِنْدَكُمْ مِنْ جِهَتِنَا، فَانْتَقَلَ عَنْهَا مَلِكُهَا غَوْزَكُ
خَانَ فَتَلَا قُتَيْبَةُ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا
أَبْقَى ( النَّجْمِ: 50، 51 ) الْآيَاتِ، ثُمَّ ارْتَحَلَ عَنْهَا قُتَيْبَةُ
إِلَى بِلَادِ مَرْوَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى سَمَرْقَنْدَ أَخَاهُ عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ مُسْلِمٍ، وَقَالَ لَهُ: لَا تَدَعَنَّ مُشْرِكًا يَدْخُلُ بَابَ
سَمَرْقَنْدَ إِلَّا مَخْتُومَ الْيَدِ، ثُمَّ لَا تَدَعْهُ بِهَا إِلَّا مِقْدَارَ
مَا تَجِفُّ طِينَةُ خَتْمِهِ، فَإِنْ جَفَّتْ وَهُوَ بِهَا فَاقْتُلْهُ، وَمَنْ
رَأَيْتَهُ مِنْهُمْ وَمَعَهُ حَدِيدَةٌ أَوْ سِكِّينَةٌ فَاقْتُلْهُ بِهَا،
وَإِذَا أَغْلَقْتَ الْبَابَ فَوَجَدْتَ بِهَا أَحَدًا مِنْهُمْ فَاقْتُلْهُ.
فَقَالَ فِي ذَلِكَ كَعْبٌ
الْأَشْقَرِيُّ، وَيُقَالُ: هِيَ لِرَجُلٍ مِنْ جُعْفِيٍّ:
كُلَّ يَوْمٍ يَحْوِي قُتَيْبَةُ نَهْبًا وَيَزِيدُ الْأَمْوَالَ مَالًا جَدِيدَا
بَاهِلِيٌّ قَدْ أُلْبِسَ التَّاجَ حَتَّى
شَابَ مِنْهُ مَفَارِقٌ كُنَّ سُودَا دَوَّخَ الصُّغْدَ بِالْكَتَائِبِ
حَتَّى تَرَكَ الصُّغْدَ بِالْعَرَاءِ قُعُودَا فَوَلِيدٌ يَبْكِي لِفَقْدِ
أَبِيهِ
وَأَبٌ مُوجَعٌ يُبَكِّي الْوَلِيدَا كُلَّمَا حَلَّ بَلْدَةً أَوْ أَتَاهَا
تَرَكَتْ خَيْلُهُ بِهَا أُخْدُودَا
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ نَائِبَ بِلَادِ الْمَغْرِبِ
مَوْلَاهُ طَارِقًا عَنِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى مَدِينَةِ
طُلَيْطِلَةَ فَفَتَحَهَا، فَوَجَدَ فِيهَا مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ
عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَفِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ شَيْءٌ كَثِيرٌ
جِدًّا، فَبَعَثُوا بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَمَا وَصَلَتْ
إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ فِيمَا قِيلَ فَقَدِمَ بِهَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِيهَا قَحَطَ أَهْلُ إِفْرِيقِيَّةَ
وَأَجْدَبُوا جَدْبًا شَدِيدًا، فَخَرَجَ بِهِمْ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ يَسْتَسْقِي
بِهِمْ، فَمَا زَالَ يَدْعُو حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ
يَنْزِلَ عَنِ الْمِنْبَرِ قِيلَ لَهُ: أَلَا تَدْعُو لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: لَيْسَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ ذَاكَ. فَسَقَاهُمُ اللَّهُ مَطَرًا
غَزِيرًا.
وَفِيهَا ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ خُبَيْبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ خَمْسِينَ سَوْطًا بِأَمْرِ الْوَلِيدِ لَهُ بِذَلِكَ، وَصَبَّ فَوْقَ
رَأْسِهِ قِرْبَةً مِنْ مَاءٍ بَارِدٍ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، وَأَقَامَهُ عَلَى بَابِ
الْمَسْجِدِ يَوْمَهُ ذَلِكَ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ مَوْتِ خُبَيْبٍ شَدِيدَ الْخَوْفِ لَا يَأْمَنُ،
وَكَانَ إِذَا بُشِّرَ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ يَقُولُ: وَكَيْفَ وَخُبَيْبٌ
لِي بِالطَّرِيقِ؟ وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ: هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ خُبَيْبٌ
بِالطَّرِيقِ، ثُمَّ يَصِيحُ صِيَاحَ الْمَرْأَةِ الثَّكْلَى، وَكَانَ إِذَا
أُثْنِيَ عَلَيْهِ يَقُولُ: خُبَيْبٌ وَمَا خُبَيْبٌ ! إِنْ نَجَوْتُ مِنْهُ
فَأَنَا بِخَيْرٍ. وَمَا زَالَ عَلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ ضَرَبَ خُبَيْبًا
فَمَاتَ، فَاسْتَقَالَ وَرَكِبَهُ الْحُزْنُ وَالْخَوْفُ مِنْ حِينِئِذٍ، وَأَخَذَ
فِي الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَالْبُكَاءِ، وَكَانَتْ تِلْكَ هَفْوَةً
مِنْهُ وَزَلَّةً، وَلَكِنْ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبِهَا خَيْرٌ كَثِيرٌ; مِنْ
عِبَادَةٍ وَبُكَاءٍ وَحُزْنٍ وَخَوْفٍ وَإِحْسَانٍ وَعَدْلٍ وَصَدَقَةٍ وَبِرٍّ
وَعِتْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ الْحَجَّاجِ
بْنِ يُوسُفَ مَدِينَةَ الدَّيْبُلِ وَغَيْرَهَا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ، وَكَانَ
قَدْ وَلَّاهُ الْحَجَّاجُ غَزْوَ الْهِنْدِ، وَعُمْرُهُ
سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَسَارَ فِي
الْجُيُوشِ فَلَقُوا الْمَلِكَ دَاهِرَ وَهُوَ مَلِكُ الْهِنْدِ فِي جَمْعٍ
عَظِيمٍ، وَمَعَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فِيلًا مُنْتَخَبَةً، فَاقْتَتَلُوا
فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ، وَهَرَبَ الْمَلِكُ دَاهِرُ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ
أَقْبَلَ الْمَلِكُ وَمَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا، فَأَحَاطُوا
بِالْمُسْلِمِينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَقُتِلَ الْمَلِكُ دَاهِرُ
وَغَالِبُ مَنْ مَعَهُ، وَتَبِعَ الْمُسْلِمُونَ مَنِ انْهَزَمَ مِنَ الْهُنُودِ
فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ سَارَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ فَافْتَتَحَ مَدِينَةَ
الْكَيْرَجِ وَبَرَّهَا، وَرَجَعَ بِغَنَائِمَ كَثِيرَةٍ وَأَمْوَالٍ لَا تُحْصَى
كَثْرَةً; مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْوَلِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ إِمْرَةِ
الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ
إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُمْ فِي ضَيْمٍ وَضِيقٍ
مَعَ الْحَجَّاجِ مِنْ ظُلْمِهِ وَغَشْمِهِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْحَجَّاجُ
فَكَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ عُمَرَ ضَعِيفٌ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ،
وَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَدْ لَجَأُوا
إِلَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، وَهَذَا وَهْنٌ وَضَعْفٌ فِي الْوِلَايَةِ،
فَاجْعَلْ عَلَى الْحَرَمَيْنِ مَنْ يَضْبِطُ أَمْرَهُمَا. فَوَلِّ عَلَى
الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ، وَعَلَى مَكَّةَ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيَّ، فَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْحَجَّاجُ، فَخَرَجَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي شَوَّالٍ فَنَزَلَ السُّوَيْدَاءَ،
وَقَدِمَ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ الْمَدِينَةَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ
أَنَسُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ ضَمْضَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ
جُنْدُبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ أَبُو حَمْزَةَ
وَيُقَالُ: أَبُو ثُمَامَةَ الْأَنْصَارِيُّ النَّجَّارِيُّ، خَادِمُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ، وَأُمُّهُ أُمُّ حَرَامٍ
مُلَيْكَةُ بِنْتُ مِلْحَانَ بْنِ خَالِدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ، زَوْجَةُ
أَبِي طَلْحَةَ زَيْدِ بْنِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ. رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ جَمَّةً، وَأَخْبَرَ بِعُلُومٍ
مُهِمَّةٍ، وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ. قَالَ أَنَسٌ: قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ
عَشْرِ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ
ثُمَامَةَ قَالَ: قِيلَ لِأَنَسٍ: أَشَهِدْتَ بَدْرًا؟ فَقَالَ: وَأَيْنَ أَغِيبُ
عَنْ بَدْرٍ لَا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ الْأَنْصَارِيُّ: شَهِدَهَا يَخْدِمُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو
الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ: لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ
الْمَغَازِي. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا شَهِدَ مَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ
الْمَغَازِي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أُمَّهُ أَتَتْ
بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: عَمُّهُ زَوْجُ أُمِّهِ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا
أَنَسٌ خَادِمٌ لَبِيبٌ يَخْدِمُكَ. فَوَهَبَتْهُ لَهُ، فَقَبِلَهُ، وَسَأَلَتْهُ
أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ،
وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَنَّانِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقْلَةٍ كُنْتُ أَجْتَنِيهَا.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ عَلَى عِمَالَةِ الْبَحْرَيْنِ
وَشَكَرَاهُ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا ضَرَبَنِي، وَلَا سَبَّنِي، وَلَا عَبَسَ فِي
وَجْهِي، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ لَا فَعَلْتَ كَذَا؟ وَقِيلَ: إِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ
كَثِّرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَطَوِّلْ حَيَاتَهُ وَكَانَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْعِبَادَةِ.
وَقَدِ انْتَقَلَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَنَ
الْبَصْرَةَ، وَكَانَ لَهُ بِهَا أَرْبَعُ دُورٍ، وَقَدْ نَالَهُ أَذًى مِنْ
جِهَةِ الْحَجَّاجِ، وَذَلِكَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ; تَوَهَّمَ
الْحَجَّاجُ مِنْهُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْأَمْرِ، وَأَنَّهُ أَفْتَى فِيهِ،
فَخَتَمَهُ الْحَجَّاجُ فِي عُنُقِهِ: هَذَا عَتِيقُ الْحَجَّاجِ.
وَقَدْ شَكَاهُ أَنَسٌ كَمَا
قَدَّمْنَا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يُعَنِّفُهُ،
فَفَزِعَ الْحَجَّاجُ مِنْ ذَلِكَ وَصَالَحَ أَنَسًا. وَقَدْ وَفَدَ أَنَسٌ عَلَى
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ، قِيلَ: فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ يَبْنِي جَامِعَ دِمَشْقَ.
قَالَ مَكْحُولٌ: رَأَيْتُ أَنَسًا يَمْشِي فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَقُمْتُ
إِلَيْهِ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْوُضُوءِ مِنَ الْجِنَازَةِ، فَقَالَ: لَا وُضُوءَ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي الْمُهَاجِرِ قَالَ: قَدِمَ أَنَسٌ عَلَى الْوَلِيدِ، فَقَالَ لَهُ
الْوَلِيدُ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَذْكُرُ بِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: أَنْتُمْ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَرَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: قَدِمَ أَنَسٌ عَلَى
الْوَلِيدِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ، فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ
يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: لَا أَعْرِفُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا هَذِهِ
الصَّلَاةَ، وَقَدْ صَنَعْتُمْ فِيهَا مَا صَنَعْتُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَهَذِهِ
الصَّلَاةُ قَدْ
ضُيِّعَتْ. يَعْنِي مَا كَانَ
يَفْعَلُهُ خُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ
وَقْتِهَا الْمُوَسَّعِ; كَانُوا يُوَاظِبُونَ عَلَى التَّأْخِيرِ إِلَّا عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَتْ بِي أُمِّي إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا غُلَامٌ، فَقَالَتْ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أُنَيْسٌ فَادْعُ اللَّهَ لَهُ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَكْثِرْ
مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَقَدْ رَأَيْتُ
اثْنَتَيْنِ، وَأَنَا أَرْجُو الثَّالِثَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ أَنَسٌ:
فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي لَكَثِيرٌ حَتَّى نَخْلِي وَكَرْمِي لَيُثْمِرُ فِي
السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى
نَحْوِ الْمِائَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنَّ وَلَدِي لِصُلْبِي مِائَةٌ
وَسِتَّةٌ. وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ، وَأَلْفَاظٌ مُنْتَشِرَةٌ
جِدًّا، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ أَنَسٌ: وَأَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أَمِينَةُ: أَنَّهُ
دُفِنَ لِصُلْبِي إِلَى حِينِ مَقْدَمِ الْحَجَّاجِ عِشْرُونَ وَمِائَةٌ. وَقَدْ
تَقَصَّى ذَلِكَ بِطُرُقِهِ وَأَسَانِيدِهِ، وَأَوْرَدَ أَلْفَاظَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ، وَقَدْ أَوْرَدْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ
فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي أَوَاخِرِ السِّيرَةِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَقَالَ ثَابِتٌ لِأَنَسٍ: هَلْ
مَسَّتْ يَدُكَ كَفَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ:
نَعَمْ. قَالَ: فَأَعْطِنِيهَا أُقَبِّلْهَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ
أَبِي نُعَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ
عَمْرٍو، قَالَ: كَانَ أَنَسٌ صَاحِبَ نَعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِدَاوَتِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: عَنْ مُسْلِمِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ الذَّارِعِ قَالَ: سَمِعْتُ
أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَا مِنْ لَيْلَةٍ إِلَّا وَأَنَا أَرَى فِيهَا
حَبِيبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ يَبْكِي.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ
قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُوَيْدِمُكَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، ثَنَا حَرْبُ بْنُ مَيْمُونٍ،
عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفَعَ لِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: أَنَا
فَاعِلٌ قُلْتُ: فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟
قَالَ: اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصِّرَاطِ. قُلْتُ: فَإِذَا
لَمْ أَلْقَكَ؟ قَالَ: فَأَنَا عِنْدَ الْمِيزَانِ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ
عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: فَأَنَا عِنْدَ الْحَوْضِ، لَا أُخْطِئُ هَذِهِ
الثَّلَاثَ مَوَاطِنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ،
مِنْ حَدِيثِ حَرْبِ بْنِ مَيْمُونٍ أَبِي
الْخَطَّابِ الْأَنْصَارِيِّ بِهِ،
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا رَأَيْتُ
أَحَدًا أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِنِ ابْنِ أُمِّ سُلَيْمٍ، يَعْنِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ
سِيرِينَ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ صَلَاةً فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ. وَقَالَ
أَنَسٌ: يَا ثَابِتُ خُذْ مِنِّي; فَإِنِّي أَخَذْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَسْتَ تَجِدُ أَوْثَقَ مِنِّي.
وَقَالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ:
مَا بَقِيَ أَحَدٌ صَلَّى الْقِبْلَتَيْنِ غَيْرِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ لَنَا
يُكَنَّى أَبَا حُبَابٍ، سَمِعْتُ الْجَرِيرِيَّ يَقُولُ: أَحْرَمَ أَنَسٌ مِنْ
ذَاتِ عِرْقٍ، فَمَا سَمِعْنَاهُ مُتَكَلِّمًا إِلَّا
بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى
أَحَلَّ. فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي، هَكَذَا الْإِحْرَامُ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: دَخَلَ
عَلَيْنَا أَنَسٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَنَحْنُ فِي بَعْضِ أَبْيَاتِ أَزْوَاجِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ فَقَالَ: مَهْ.
فَلَمَّا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ
أَبْطَلْتُ جُمُعَتِي بِقَوْلِي لَكُمْ: مَهْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا بَشَّارُ بْنُ مُوسَى الْخَفَّافُ، ثَنَا
جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَنَسٍ فَجَاءَ
قَهْرَمَانُهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، عَطِشَتْ أَرْضُنَا. قَالَ: فَقَامَ
أَنَسٌ، فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
دَعَا، فَرَأَيْتُ السَّحَابَ يَلْتَئِمُ، ثُمَّ مَطَرَتْ حَتَّى مَلَأَتْ كُلَّ
شَيْءٍ، فَلَمَّا سَكَنَ الْمَطَرُ بَعَثَ أَنَسٌ بَعْضَ أَهْلِهِ فَقَالَ:
انْظُرْ أَيْنَ بَلَغَتِ السَّمَاءُ، فَنَظَرَ فَلَمْ تَعْدُ أَرْضَهُ إِلَّا
يَسِيرًا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، ثَنَا ابْنُ
عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ إِذَا حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَفَرَغَ مِنْهُ قَالَ: أَوْ كَمَا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: بَعَثَ
أَمِيرٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ إِلَى
أَنَسٍ شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ، فَقَالَ: أَخُمُسٌ؟ قَالَ: لَا. فَلَمْ
يَقْبَلْهُ.
وَقَالَ النَّضِرُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ: مَرِضَ أَنَسٌ، فَقِيلَ لَهُ:
أَلَا نَدْعُو لَكَ الطَّبِيبَ؟ فَقَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّقَاشِيُّ،
ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: كُنْتَ فِي
الْقَصْرِ مَعَ الْحَجَّاجِ وَهُوَ يَعْرِضُ النَّاسَ لَيَالِيَ ابْنِ الْأَشْعَثِ،
فَجَاءَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ الْحَجَّاجُ: هِي يَا خَبِيثُ، جَوَّالٌ فِي
الْفِتَنِ، مَرَّةً مَعَ عَلِيٍّ، وَمَرَّةً مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمَرَّةً
مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ الْحَجَّاجِ بِيَدِهِ
لَأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ الصِّمْغَةُ، وَلَأُجَرِّدَنَّكَ كَمَا
يُجَرَّدُ الضَّبُّ. قَالَ: يَقُولُ أَنَسٌ: مَنْ يَعْنِي الْأَمِيرُ؟ قَالَ:
إِيَّاكَ أَعْنِي، أَصَمَّ اللَّهُ سَمْعَكَ. قَالَ: فَاسْتَرْجَعَ أَنَسٌ،
وَشُغِلَ الْحَجَّاجُ، فَخَرَجَ أَنَسٌ فَتَبِعْنَاهُ إِلَى الرَّحْبَةِ، فَقَالَ:
لَوْلَا أَنِّي ذَكَرْتُ وَلَدِي وَخِفْتُهُ عَلَيْهِمْ لَكَلَّمْتُهُ بِكَلَامٍ
فِي مَقَامِي هَذَا لَا يَسْتَحْيِينِي بَعْدَهُ أَبَدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ أَنَّ أَنَسًا بَعَثَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ يَشْكُو إِلَيْهِ الْحَجَّاجَ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: إِنِّي
خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ،
وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَدْرَكُوا
رَجُلًا خَدَمَ نَبِيَّهُمْ لَأَكْرَمُوهُ. وَذَكَرَ لَهُ أَذِيَّةَ الْحَجَّاجِ
لَهُ، فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ كِتَابَهُ حَصَلَ عِنْدَهُ أَمْرٌ
عَظِيمٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: وَيْلَكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَصْلُحَ
عَلَى يَدَيَّ أَحَدٌ. وَذَكَرَ لَهُ كَلَامًا فِيهِ غِلْظَةٌ، وَيَقُولُ فِيهِ:
إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي فَقُمْ إِلَى أَنَسٍ، وَاعْتَذِرْ لَهُ. فَجَاءَ كِتَابُ
عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْغِلْظَةِ فِي ذَلِكَ، فَهَمَّ أَنْ
يَنْهَضَ إِلَى أَنَسٍ، فَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
الْمُهَاجِرِ الَّذِي قَدِمَ بِالْكِتَابِ أَنْ لَا يَذْهَبَ إِلَى أَنَسٍ،
وَأَشَارَ عَلَى أَنَسٍ أَنْ يُبَادِرَ إِلَى الْحَجَّاجِ بِالْمُصَالَحَةِ
وَكَانَ إِسْمَاعِيلُ صَدِيقَ الْحَجَّاجِ فَجَاءَ أَنَسٌ، فَقَامَ إِلَيْهِ
الْحَجَّاجُ يَتَلَقَّاهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكَ، كَمَا قِيلَ:
إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ. أَرَدْتُ أَنْ لَا يَبْقَى لِأَحَدٍ
عَلَيَّ مَنْطِقٌ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ لَمَّا
قَالَ لِأَنَسٍ مَا قَالَ: يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ بِحَبِّ الزَّبِيبِ،
لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْكُلَكَ رَكْلَةً تَهْوِي بِهَا إِلَى نَارِ
جَهَنَّمَ، قَاتَلَكَ اللَّهُ
أُخَيْفِشَ الْعَيْنَيْنِ، أُقَيْبِلَ الرِّجْلَيْنِ، أَسْوَدَ الْجَاعِرَتَيْنِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: الْمُسْتَفْرِمَةِ بِحَبِّ الزَّبِيبِ، أَيْ: تُضَيِّقُ
فَرْجَهَا عِنْدَ الْجِمَاعِ بِهِ. وَمَعْنَى: أَرْكُلُكَ، أَيْ: أَرْفُسُكَ
بِرِجْلِي. وَسَيَأْتِي بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ فِي سَنَةِ
خَمْسٍ وَتِسْعِينَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ: لَمْ يُبْتَلَ أَحَدٌ مِنَ
الصَّحَابَةِ إِلَّا رَجُلَيْنِ; مُعَيْقِيبٌ كَانَ بِهِ الْجُذَامُ، وَأَنَسُ
بْنُ مَالِكٍ; كَانَ بِهِ وَضَحٌ. وَقَالَ الْحُمَيْدِيُّ: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: رَأَيْتُ
أَنَسًا يَأْكُلُ، فَرَأَيْتُهُ يَلْقَمُ لُقَمًا عِظَامًا، وَرَأَيْتُ بِهِ
وَضَحًا شَدِيدًا.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ
الْعَنْبَرِيُّ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ أَيُّوبَ قَالَ: ضَعُفَ
أَنَسٌ عَنِ الصَّوْمِ فَصَنَعَ جَفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ،
وَدَعَا ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ،
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا. وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى
السُّنْبُلَانِيِّ، قُلْتُ لِأَنَسٍ: أَنْتَ آخِرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قَدْ بَقِيَ قَوْمٌ
مِنَ الْأَعْرَابِ، فَأَمَّا مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَنَا آخِرُ مَنْ بَقِيَ.
وَقِيلَ لَهُ فِي مَرَضِهِ: أَلَا نَدْعُو لَكَ طَبِيبًا؟ فَقَالَ: الطَّبِيبُ
أَمْرَضَنِي. وَجَعَلَ يَقُولُ: لَقِّنُونِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهُوَ
مُحْتَضِرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُهَا حَتَّى قُبِضَ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ
عُصَيَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِهَا
فَدُفِنَتْ مَعَهُ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَاتَ وَلَهُ مِائَةٌ وَسَبْعُ
سِنِينَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ: ثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ، أَنَّ أَنَسًا عُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ غَيْرَ سَنَةٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْبَصْرَةِ،
وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ والْفَلَّاسُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُؤَرِّخُونَ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ; فَقِيلَ: سَنَةَ
تِسْعِينَ. وَقِيلَ: إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَقِيلَ: ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ.
وَقِيلَ: ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنِي أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: تُوُفِّيَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَجَابِرُ بْنُ
زَيْدٍ فِي جُمُعَةٍ وَاحِدَةٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
لَمَّا مَاتَ أَنَسٌ قَالَ مُوَرِّقُ الْعِجْلِيُّ: ذَهَبَ الْيَوْمَ نِصْفُ
الْعِلْمِ. قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا أَبَا الْمُعْتَمِرِ؟ قَالَ: كَانَ
الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، إِذَا خَالَفُونَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا لَهُمْ: تَعَالَوْا
إِلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ
يُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ يَوْمَ تُوُفِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَخُتِنَ
يَوْمَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، وَتَزَوَّجَ يَوْمَ مَقْتَلِ عَلِيٍّ. فَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَكَانَ مَشْهُورًا بِالتَّغَزُّلِ الْمَلِيحِ الْبَلِيغِ، كَانَ
يَتَغَزَّلُ فِي امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا: الثُّرَيَّا بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ الْأُمَوِيَّةُ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا عَمْرَكَ اللَّهَ كَيْفَ
يَلْتَقِيَانِ هِيَ شَامِيَّةٌ إِذَا مَا اسْتَقَلَّتْ
وَسُهَيْلٌ إِذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِ
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ:
حَيِّ طَيْفًا مِنَ الْأَحِبَّةِ زَارَا بَعْدَ مَا صَرَّعَ الْكَرَى السُّمَّارَا
طَارِقًا فِي الْمَنَامِ تَحْتَ دُجَى
اللَّيْ لِ ضَنِينًا بِأَنْ يَزُورَ نَهَارَا
قُلْتُ مَا بَالُنَا جَفَيْنَا وَكُنَّا قَبْلَ ذَاكَ الْأَسْمَاعَ
وَالْأَبْصَارَا
قَالَ إِنَّا كَمَا عَهِدْتَ وَلَكِنْ شَغَلَ الْحَلْيُ أَهْلَهُ أَنْ يُعَارَا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ
فِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ أَرْضَ الرُّومِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ
فَتَحَ أَنْطَالِيَةَ.
وَغَزَا أَخُوهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْوَلِيدِ فَبَلَغَ غَزَالَةَ، وَبَلَغَ
الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ الْمُعَيْطِيُّ أَرْضَ بُرْجِ الْحَمَامِ، وَبَلَغَ
يَزِيدُ بْنُ أَبِي كَبْشَةَ أَرْضَ سُورِيَّةَ.
وَفِيهَا كَانَتِ الرَّجْفَةُ بِالشَّامِ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنْدَرَةَ مِنْ أَرْضِ
الرُّومِ.
وَفِيهَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فُتُوحَاتٍ عَظِيمَةً فِي دَوْلَةِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَلَى يَدَيْ أَوْلَادِهِ وَأَقْرِبَائِهِ
وَأُمَرَائِهِ، حَتَّى عَادَ الْجِهَادُ شَبِيهًا بِأَيَّامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ أَرْضَ الْهِنْدِ،
وَغَنِمَ أَمْوَالًا لَا تُعَدُّ وَلَا تُوصَفُ، وَقَدْ وَرَدَ فِي غَزْوِ
الْهِنْدِ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ الشَّاشَ وَفَرْغَانَةَ حَتَّى بَلَغَ
خُجَنْدَةَ،
وَكَاشَانَ مَدِينَتَيْ فَرْغَانَةَ،
وَذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الصُّغْدِ، وَفَتْحِ سَمَرْقَنْدَ، ثُمَّ خَاضَ
تِلْكَ الْبِلَادَ يَفْتَحُ فِيهَا حَتَّى وَصَلَ إِلَى كَابُلَ، فَحَاصَرَهَا
وَافْتَتَحَهَا، وَقَدْ لَقِيَهُ الْمُشْرِكُونَ فِي جُمُوعٍ هَائِلَةٍ مِنَ
التُّرْكِ فَقَاتَلَهُمْ قُتَيْبَةُ عِنْدَ خُجَنْدَةَ مِرَارًا.
كُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ الظَّفَرُ لَهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ قَالَ سَحْبَانُ وَائِلٍ يَذْكُرُ قِتَالَهُمْ
بِخُجَنْدَةَ:
فَسَلِ الْفَوَارِسَ فِي خُجَنْ دَةَ تَحْتَ مُرْهَفَةِ الْعَوَالِي هَلْ كُنْتُ
أَجْمَعُهُمْ إِذَا
هُزِمُوا وَأُقْدِمُ فِي قِتَالِي أَمْ كُنْتُ أَضْرِبُ هَامَّةَ الْ
عَاتِي وَأَصْبِرُ لِلنِّزَالِ هَذَا وَأَنْتِ قَرِيعُ قَيْ
سٍ كُلِّهَا ضَخْمُ النَّوَالِ وَفَضَلْتَ قَيْسًا فِي النَّدَى
وَأَبُوكَ فِي الْحِجَجِ الْخَوَالِي تَمَّتْ مُرُوءَتُكُمْ وَنَا
غَى عِزُّكُمْ غُلْبَ الْجِبَالِ وَلَقَدْ تَبَيَّنَ عَدْلُ حُكْ
مِكَ فِيهِمُ فِي كُلِّ مَالِ
هَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا مِنْ شِعْرِ سَحْبَانَ وَائِلٍ فِي
هَذِهِ الْغَزْوَةِ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ; أَنَّ سَحْبَانَ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ
بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ الْخَمْسِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَقْتَلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَتَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ
سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ قَدْ
جَعَلَهُ عَلَى نَفَقَاتِ الْجُنْدِ حِينَ بَعَثَهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْأَشْعَثِ إِلَى قِتَالِ رُتْبِيلَ، فَلَمَّا خَلَعَهُ ابْنُ
الْأَشْعَثِ خَلَعَهُ مَعَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، فَلَمَّا ظَفِرَ الْحَجَّاجُ
بِابْنِ الْأَشْعَثِ وَأَصْحَابِهِ هَرَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِلَى
أَصْبَهَانَ، فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهَا أَنْ يَبْعَثَهُ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ سَعِيدٌ هَرَبَ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ يَعْتَمِرُ فِي
كُلِّ سَنَةٍ وَيَحُجُّ، ثُمَّ إِنَّهُ لَجَأَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا
إِلَى أَنْ وَلِيَهَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، فَأَشَارَ مَنْ
أَشَارَ عَلَى سَعِيدٍ بِالْهَرَبِ مِنْهَا، فَقَالَ سَعِيدٌ: وَاللَّهِ لَقَدِ
اسْتَحْيَيْتُ مِنَ اللَّهِ، مِمَّ أَفِرُّ وَلَا مَفَرَّ مِنْ قَدَرِهِ؟!
وَتَوَلَّى عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ بَدَلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَجَعَلَ يَبْعَثُ مَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى الْحَجَّاجِ فِي الْقُيُودِ،
فَتَعَلَّمَ مِنْهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، فَعَيَّنَ مَنْ
عِنْدَهُ مِنْ مَكَّةَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءَ
بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، وَمُجَاهِدَ بْنَ
جَبْرٍ، وَعَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، وَطَلْقَ بْنَ حَبِيبٍ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إِلَى الْوَلِيدِ يُخْبِرُهُ أَنَّ بِمَكَّةَ
أَقْوَامًا مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ، فَبَعَثَ خَالِدٌ بِهَؤُلَاءِ إِلَيْهِ، ثُمَّ
عَفَا عَنْ عَطَاءٍ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ; لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ،
وَبَعَثَ بِأُولَئِكَ الثَّلَاثَةِ، فَأَمَّا طَلْقٌ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ
قَبْلَ أَنْ يَصِلَ، وَأَمَّا مُجَاهِدٌ فَحُبِسَ حَتَّى مَاتَ الْحَجَّاجُ.
وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيِ الْحَجَّاجِ قَالَ
لَهُ: يَا سَعِيدُ، أَلَمْ أُشْرِكْكَ فِي أَمَانَتِي؟ أَلَمْ أَسْتَعْمِلْكَ؟
أَلَمْ أَفْعَلْ، أَلَمْ أَفْعَلْ؟ كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: نَعَمْ. حَتَّى ظَنَّ
مَنْ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَيُخْلِي سَبِيلَهُ حَتَّى قَالَ لَهُ: فَمَا حَمَلَكَ
عَلَى أَنْ خَرَجْتَ عَلَيَّ، وَخَلَعْتَ بَيْعَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟
فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ ابْنَ الْأَشْعَثِ أَخَذَ مِنِّي الْبَيْعَةَ عَلَى
ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيَّ. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ غَضَبًا شَدِيدًا،
وَانْتَفَخَ حَتَّى سَقَطَ أَحَدُ طَرَفَيْ رِدَائِهِ عَنْ مَنْكِبِهِ، وَقَالَ
لَهُ: وَيْحَكَ، أَلَمْ أَقْدَمْ مَكَّةَ فَقَتَلْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ وَأَخَذْتُ
بَيْعَةَ أَهْلِهَا، وَأَخَذْتُ بَيْعَتَكَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ
الْمَلِكِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْكُوفَةَ وَالِيًا عَلَى
الْعِرَاقِ فَجَدَّدْتُ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَيْعَةَ، فَأَخَذْتُ
بَيْعَتَكَ لَهُ ثَانِيَةً؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَتَنْكُثُ بَيْعَتَيْنِ
لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَفِي بِوَاحِدَةٍ لِلْحَائِكِ ابْنِ الْحَائِكِ؟ يَا
حَرَسِيُّ اضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ: فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ، فَنَدَرَ رَأْسُهُ،
عَلَيْهِ لَاطِئَةٌ صَغِيرَةٌ بَيْضَاءُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا أُوقِفَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُدَّامَ الْحَجَّاجِ، قَالَ: يَا شَقِيُّ بْنَ كُسَيْرٍ،
أَمَا قَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَجَعَلْتُكَ إِمَامًا؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَمَا
وَلَّيْتُكَ الْقَضَاءَ، فَضَجَّ أَهْلُ الْكُوفَةِ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ
لِلْقَضَاءِ إِلَّا عَرَبِيٌّ. فَجَعَلْتُ أَبَا بُرْدَةَ، وَأَمَّرْتُهُ أَنْ لَا
يَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَمَا أَعْطَيْتُكَ مِائَةَ
أَلْفٍ تُفَرِّقُهَا عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا
أَخْرَجَكَ عَلَيَّ؟ قَالَ: بَيْعَةٌ كَانَتْ فِي عُنُقِي لِابْنِ الْأَشْعَثِ.
فَغَضِبَ الْحَجَّاجُ، وَقَالَ: أَمَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
فِي عُنُقِكَ مِنْ قَبْلُ؟ ثُمَّ قَالَ: أَكَفَرْتَ إِذْ خَرَجْتَ عَلَيَّ؟ قَالَ:
مَا كَفَرْتُ مُنْذُ آمَنْتُ. فَقَالَ: اخْتَرْ أَيَّ قِتْلَةٍ أَقْتُلُكَ.
فَقَالَ: اخْتَرْ أَنْتَ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ أَمَامَكَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا
حَرَسِيُّ، اضْرِبْ عُنُقَهُ. وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
بِوَاسِطٍ، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ يُزَارُ.
وَلَمَّا قَتَلَهُ خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ حَتَّى رَاعَ الْحَجَّاجَ، فَدَعَا
طَبِيبًا، فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَتَلْتَهُ وَنَفْسُهُ
مَعَهُ، وَقَلْبُهُ حَاضِرٌ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ رُئِيَ فِي الْمَنَامِ،
فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: قَتَلَنِي بِكُلِّ رَجُلٍ
قَتَلْتُهُ قَتْلَةً، وَقَتَلَنِي بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ اثْنَتَيْنِ
وَسَبْعِينَ قَتْلَةً. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فَحُدِّثْتُ عَنْ
أَبِي غَسَّانَ مَالِكِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ خَلَفَ بْنَ خَلِيفَةَ
يَذْكُرُ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ
فَنَدَرَ رَأْسُهُ هَلَّلَ ثَلَاثًا; مَرَّةً يُفْصِحُ بِهَا، وَفِي الثِّنْتَيْنِ
يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُفْصِحُ بِهَا.
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ أَبِي شَيْخٍ
يَقُولُ: لَمَّا أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لُعِنَ ابْنُ
النَّصْرَانِيَّةِ يَعْنِي خَالِدًا الْقَسْرِيَّ، وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
بِهِ مِنْ مَكَّةَ أَمَا كُنْتُ أَعْرِفُ مَكَانَهُ؟! بَلَى وَاللَّهِ،
وَالْبَيْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِمَكَّةَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا
سَعِيدُ، مَا أَخْرَجَكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، أَنَا
امْرُؤٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُخْطِئُ مَرَّةً، وَيُصِيبُ أُخْرَى. فَطَابَتْ
نَفْسُ الْحَجَّاجِ، وَانْطَلَقَ وَجْهُهُ، وَرَجَا الْحَجَّاجُ أَنْ يَتَخَلَّصَ
مِنْ أَمْرِهِ، ثُمَّ عَاوَدَهُ فِي شَيْءٍ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّمَا كَانَتْ
بَيْعَةٌ فِي عُنُقِي. فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ الْحَجَّاجُ، فَكَانَ مَا كَانَ
مِنْ قَتْلِهِ.
وَذَكَرَ عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ قَالَ: أُتِيَ
الْحَجَّاجُ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَهُوَ يُرِيدُ الرُّكُوبَ، وَقَدْ وَضَعَ
إِحْدَى رِجْلَيْهِ فِي الْغَرْزِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرْكَبُ حَتَّى
تَتَبَوَّأَ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ، اضْرِبُوا عُنُقَهُ. فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ،
قَالَ: وَالْتَبَسَ الْحَجَّاجُ فِي عَقْلِهِ مَكَانَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ:
قُيُودَنَا قُيُودَنَا. فَظَنُّوا أَنَّهُ يُرِيدُ الْقُيُودَ
الَّتِي عَلَى سَعِيدٍ، فَقَطَعُوا
رِجْلَيْهِ مِنْ أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقُيُودَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ: ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ قَالَ: جِيءَ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَى
الْحَجَّاجِ فَقَالَ: كَتَبْتَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ؟ فَقَالَ: بَلْ
كَتَبَ إِلَيَّ مُصْعَبٌ. قَالَ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ. قَالَ: إِنِّي إِذًا
لَسَعِيدٌ كَمَا سَمَّتْنِي أُمِّي. قَالَ: فَقَتَلَهُ. فَلَمْ يَلْبَثِ
الْحَجَّاجُ بَعْدَهُ إِلَّا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَكَانَ إِذَا نَامَ يَرَاهُ
فِي الْمَنَامِ يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ، وَيَقُولُ: يَا عَدُوَّ اللَّهِ
فِيمَ قَتَلْتَنِي؟ فَيَقُولُ الْحَجَّاجُ: مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
مَا لِي وَلِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؟ !
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ هِشَامِ الْأَسَدِيُّ،
مَوْلَى بَنِي وَالِبَةَ كُوفِيًّا، أَحَدَ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ،
وَكَانَ أَسْوَدَ اللَّوْنِ، وَكَانَ لَا يَكْتُبُ عَلَى الْفُتْيَا، فَلَمَّا
عَمِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَتَبَ، فَغَضِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ ذَلِكَ. وَذَكَرَ
مَقْتَلَهُ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي شَعْبَانَ،
وَأَنَّ الْحَجَّاجَ مَاتَ بَعْدَهُ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ: بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.
وَذُكِرَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ سَعِيدُ
بْنُ جُبَيْرٍ وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ أَوْ
قَالَ: مُفْتَقِرٌ إِلَى عِلْمِهِ.
وَيُقَالُ إِنَّ الْحَجَّاجَ لَمْ
يُسَلَّطْ بَعْدَهُ عَلَى أَحَدٍ. وَسَيَأْتِي فِي تَرْجَمَةِ الْحَجَّاجِ أَيْضًا
شَيْءٌ مِنْ هَذَا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ يُقَالُ لِهَذِهِ السَّنَةِ: سَنَةُ الْفُقَهَاءِ;
لِأَنَّهُ مَاتَ فِيهَا عَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ; مَاتَ فِي أَوَّلِهَا
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ، ثُمَّ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ،
ثُمَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَ هَؤُلَاءِ فِي كِتَابِنَا " التَّكْمِيلِ "،
وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا صَالِحًا هَاهُنَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَاسْتَقْضَى الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَلَى الشَّامِ سُلَيْمَانَ بْنَ حَبِيبٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَخُوهُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، فِي قَوْلِ
بَعْضِهِمْ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
الْوَلِيدِ، وَيُقَالُ:
مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَكَانَ عَلَى نِيَابَةِ مَكَّةَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ،
وَعَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، وَعَلَى الْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ
الْحَجَّاجُ، وَعَلَى خُرَاسَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَعَلَى الْكُوفَةِ
مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ زِيَادُ بْنُ جَرِيرٍ، وَعَلَى قَضَائِهَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى إِمْرَةِ الْبَصْرَةِ مِنْ جِهَةِ الْحَجَّاجِ
الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ أُذَيْنَةَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمَشَاهِيرِ وَالْأَعْيَانِ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْأَسَدِيُّ الْوَالِبِيُّ
مَوْلَاهُمْ، أَبُو مُحَمَّدٍ، وَيُقَالُ: أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْكُوفِيُّ
الْمَكِّيُّ، مِنْ أَكَابِرِ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ، كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ
الْإِسْلَامِ فِي التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَأَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَكَثْرَةِ
الْعَمَلِ الصَّالِحِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ رَأَى خَلْقًا مِنَ الصَّحَابَةِ،
وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ، وَعَنْهُ خَلْقٌ مِنَ التَّابِعِينَ، يُقَالُ:
إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِيمَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ
خَتْمَةً تَامَّةً، وَكَانَ يَقْعُدُ فِي الْكَعْبَةِ الْقَعْدَةَ فَيَقْرَأُ
فِيهَا الْخَتْمَةَ، وَرُبَّمَا قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ
فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَتَاهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ يَسْأَلُونَهُ: أَلَيْسَ
فِيكُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ؟
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: لَقَدْ مَاتَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ
إِلَّا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى عِلْمِهِ.
وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَلَى الْحَجَّاجِ،
فَلَمَّا ظَفِرَ الْحَجَّاجُ هَرَبَ سَعِيدٌ إِلَى أَصْبَهَانَ، ثُمَّ كَانَ
يَتَرَدَّدُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى مَكَّةَ مَرَّتَيْنِ; مَرَّةً لِلْعُمْرَةِ
وَمَرَّةً لِلْحَجِّ، وَرُبَّمَا دَخَلَ الْكُوفَةَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
فَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ بِخُرَاسَانَ يَتَحَزَّنُ; لِأَنَّهُ كَانَ لَا
يَسْأَلُهُ أَحَدٌ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ هُنَاكَ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ مِمَّا
يُهِمُّنِي مَا عِنْدِي مِنَ الْعِلْمِ، وَدِدْتُ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوهُ.
وَاسْتَمَرَّ فِي هَذَا الْحَالِ مُخْتَفِيًا مِنَ الْحَجَّاجِ قَرِيبًا مِنْ
ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ أَرْسَلَهُ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ مِنْ مَكَّةَ
إِلَى الْحَجَّاجِ، فَكَانَ مِنْ مُخَاطَبَتِهِ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ ":
ثَنَا أَبُو حَامِدِ بْنُ جَبَلَةَ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
أَبِي حَفْصَةَ قَالَ: لَمَّا أُتِيَ بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِلَى الْحَجَّاجِ
قَالَ لَهُ: أَنْتَ شَقِيُّ
بْنُ كُسَيْرٍ؟ قَالَ: لَا، إِنَّمَا
أَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ: لَأَقْتُلَنَّكَ. قَالَ: أَنَا إِذًا كَمَا
سَمَّتْنِي أُمِّي. ثُمَّ قَالَ: دَعُونِي أُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ:
وَجِّهُوهُ إِلَى قِبْلَةِ النَّصَارَى. قَالَ: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ
وَجْهُ اللَّهِ. قَالَ: إِنِّي أَسْتَعِيذُ مِنْكَ بِمَا اسْتَعَاذَتْ بِهِ
مَرْيَمُ. قَالَ: وَمَا عَاذَتْ بِهِ؟ قَالَ: قَالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ سُفْيَانُ: لَمْ يَقْتُلْ
بَعْدَهُ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا صِفَةَ مَقْتَلِهِ إِيَّاهُ، وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ غَرِيبَةٌ
فِي صِفَةِ مَقْتَلِهِ، أَكْثَرُهَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ عُوقِبَ الْحَجَّاجُ
بَعْدَهُ وَعُوجِلَ بِالْعُقُوبَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَهُ إِلَّا قَلِيلًا
ثُمَّ أَخَذَهُ اللَّهُ أَخَذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ كَمَا سَنَذْكُرُ وَفَاتَهُ فِي
السَّنَةِ الْآتِيَةِ فَقِيلَ: إِنَّهُ مَكَثَ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي عُمْرِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، حِينَ قُتِلَ،
فَقِيلَ: كَانَ عُمْرُهُ تِسْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: سَبْعًا
وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ
اللَّالَكَائِيُّ: كَانَ مَقْتَلُهُ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. وَذَكَرَ
ابْنُ جَرِيرٍ مَقْتَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ; سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بْنُ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَائِذِ بْنِ
عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَدَنِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، سَيِّدُ التَّابِعِينَ عَلَى
الْإِطْلَاقِ، وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ مَضَتَا - وَقِيلَ: بَقِيَتَا - مِنْ خِلَافَةِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَقِيلَ: لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْهَا. وَقَوْلُ
الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَشَرَةَ. وَهْمٌ مِنْهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَكِنْ أَرْسَلَ عَنْهُمْ كَمَا أَرْسَلَ كَثِيرًا عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَوَى عَنْ عُمَرَ كَثِيرًا،
فَقِيلَ: سَمِعَ مِنْهُ. وَقِيلَ: لَمْ يَسْمَعْ. وَعَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ
وَسَعْدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَكَانَ زَوْجَ ابْنَتِهِ وَأَعْلَمَ النَّاسِ
بِحَدِيثِهِ وَرَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ
مِنَ التَّابِعِينَ، وَخَلْقٍ مِمَّنْ سِوَاهُمْ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَانَ سَعِيدٌ
أَحَدَ الْمُفْتِينَ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: جَالَسْتُهُ سَبْعَ حِجَجٍ، وَأَنَا
لَا أَظُنُّ عِنْدَ أَحَدٍ عِلْمًا غَيْرَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ،
عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: طُفْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، فَمَا
لَقِيتُ أَعْلَمَ مِنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سُئِلَ الزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ: مَنْ أَفْقَهُ مَنْ
لَقِيتُمَا؟ قَالَا: سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا رَأَيْتُ أَعْلَمَ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنْهُ.
وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا أَشْهَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَتَبَ إِلَى سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ. وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ يُقَالُ لَهُ: فَقِيهُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:
كُنْتُ أَرْحَلُ الْأَيَّامَ
وَاللَّيَالِيَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ
الْوَاحِدِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَبَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُرْسِلُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ يَسْأَلُهُ عَنْ قَضَايَا عُمَرَ وَأَحْكَامِهِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: إِرْسَالُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هِيَ صِحَاحٌ. قَالَ: وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَا أَعْلَمُ فِي التَّابِعِينَ أَوْسَعَ
عِلْمًا مِنْهُ. وَإِذَا قَالَ سَعِيدٌ: مَضَتِ السُّنَّةُ. فَحَسْبُكَ بِهِ،
وَهُوَ عِنْدِي أَجْلُّ التَّابِعِينَ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ: كَانَ سَعِيدُ رَجُلًا
صَالِحًا فَقِيهًا، كَانَ لَا يَأْخُذُ الْعَطَاءَ، وَكَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ،
أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانَ يَتَّجِرُ فِي الزَّيْتِ، وَكَانَ أَعْوَرَ.
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مَدَّنِيٌّ ثِقَةٌ إِمَامٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ فِي التَّابِعِينَ أَنْبَلُ مِنْهُ، وَهُوَ أَثْبَتُهُمْ فِي أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ الْفُقَهَاءِ، وَهِيَ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ، عَنْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً. رَحِمَهُ اللَّهُ.
طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ الْعَنَزِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَنَسٍ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ حُمَيْدٌ
الطَّوِيلُ، وَالْأَعْمَشُ وَطَاوُسٌ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَأَثْنَى
عَلَيْهِ فِي قِرَاءَتِهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ.
وَقَدْ كَانَ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَكَانَ يَقُولُ: اتَّقُوهَا
بِالتَّقْوَى. فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا التَّقْوَى. فَقَالَ: التَّقْوَى
الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ، رَجَاءَ رَحْمَةِ اللَّهِ،
وَالتَّقْوَى تَرْكُ مَعَاصِي اللَّهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللَّهِ; مَخَافَةَ
عَذَابِ اللَّهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهَا
الْعِبَادُ، وَإِنَّ نِعَمَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَلَكِنْ أَصْبِحُوا
تَائِبِينَ، وَأَمْسُوا تَائِبِينَ. قَالَ مَالِكٌ: قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ
وَجَمَاعَةً مِنَ الْقُرَّاءِ; مِنْهُمْ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِيمَا
سَبَقَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ بَعَثَ مِنْ مَكَّةَ
ثَلَاثَةً إِلَى الْحَجَّاجِ، وَهُمْ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ،
وَطَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، فَمَاتَ طَلْقٌ فِي الطَّرِيقِ، وَحُبِسَ مُجَاهِدٌ،
وَكَانَ مِنْ أَمْرِ سَعِيدٍ مَا كَانَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعَنِ الْعَبَادِلَةِ، وَمُعَاوِيَةَ،
وَالْمُغِيرَةِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأُمِّهِ أَسْمَاءَ، وَخَالَتِهِ عَائِشَةَ،
وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَخَلْقٌ مِمَّنْ
سِوَاهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ عُرْوَةُ ثِقَةً، كَثِيرَ الْحَدِيثِ،
عَالِمًا مَأْمُونًا ثَبَتًا.
وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: مَدَّنِيٌّ، تَابِعِيٌّ، رَجُلٌ صَالِحٌ، لَمْ يَدْخُلْ فِي
شَيْءٍ مِنَ الْفِتَنِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ فَقِيهًا، عَالِمًا، حَافِظًا، ثَبَتًا، حُجَّةً،
عَالِمًا بِالسِّيَرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ الْمَغَازِيَ، وَكَانَ مِنْ
فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ الْمَعْدُودِينَ، وَلَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ، وَكَانَ أَرْوَى
النَّاسِ لِلشِّعْرِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ: الْعِلْمُ
لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ: لِذِي حَسَبٍ يُزَيِّنُهُ بِهِ، أَوْ ذِي دِينٍ
يَسُوسُ بِهِ دِينَهُ، أَوْ مُخْتَلِطٍ
بِسُلْطَانٍ يُتْحِفُهُ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَشْرَطَ
لِهَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ إِلَّا عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَكَانَ عُرْوَةُ يَقْرَأُ كُلَّ يَوْمٍ رُبْعَ الْقُرْآنِ، وَيَقُومُ بِهِ فِي
اللَّيْلِ. وَكَانَ أَيَّامَ الرُّطَبِ يَثْلِمُ حَائِطَهُ، ثُمَّ يَأْذَنُ
لِلنَّاسِ، فَيَدْخُلُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَحْمِلُونَ، فَإِذَا ذَهَبَ الرُّطَبُ
أَعَادَهُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ عُرْوَةُ بَحْرًا لَا يُنْزَفُ، وَقَالَ
مَرَّةً: كَانَ بَحْرًا لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْ عُرْوَةَ، وَمَا
أَعْلَمُهُ يَعْلَمُ شَيْئًا أَجْهَلُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ
يُنْتَهَى إِلَى قَوْلِهِمْ. وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْفُقَهَاءِ الْعَشَرَةِ
الَّذِينَ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ فِي
زَمَنِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ
وَفَدَ عَلَى الْوَلِيدِ بِدِمَشْقَ، فَلَمَّا رَجَعَ أَصَابَتْهُ فِي رِجْلِهِ
الْأَكِلَةُ، فَأَرَادُوا قَطْعَهَا، فَعَرَضُوا عَلَيْهِ أَنْ يَشْرَبَ شَيْئًا
يُغَيِّبُ عَقْلَهُ، حَتَّى لَا يَحِسَّ بِالْأَلَمِ، وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ
قَطْعِهَا،
فَقَالَ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يَشْرَبُ شَيْئًا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ حَتَّى لَا يَعْرِفَ رَبَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ هَلُمُّوا فَاقْطَعُوهَا. فَقَطَعُوهَا مِنْ رُكْبَتِهِ
وَهُوَ صَامِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، وَلَا يُسْمَعُ لَهُ حِسٌّ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ
قَطَعُوهَا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَشْعُرْ لِشُغْلِهِ بِالصَّلَاةِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الَّتِي قُطِعَتْ فِيهَا رِجْلُهُ وَلَدٌ لَهُ
يُسَمَّى مُحَمَّدًا كَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِهِ مِنْ سَطْحٍ فَمَاتَ، فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ فَعَزَّوْهُ فِيهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، كَانُوا
سَبْعَةً فَأَخَذْتَ وَاحِدًا، وَأَبْقَيْتَ سِتَّةً، وَكُنَّ أَطْرَافًا
أَرْبَعًا، فَأَخَذْتَ وَاحِدَةً، وَأَبْقَيْتَ ثَلَاثًا، فَلَئِنْ كُنْتَ قَدْ
أَخَذْتَ فَلَقَدْ أَعْطَيْتَ، وَلَئِنْ كُنْتَ قَدِ ابْتَلَيْتَ فَلَقَدْ
عَافَيْتَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَقْطُوعَةَ فِي الطَّسْتِ، قَالَ: اللَّهُ
أَعْلَمُ أَنِّي مَا مَشَيْتُ بِهَا إِلَى مَعْصِيَةٍ قَطُّ.
قِيلَ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي حَيَاةِ عُمَرَ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وُلِدَ بَعْدَ
عُمَرَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ
مِائَةٍ. وَقِيلَ: إِحْدَى وَتِسْعِينَ. وَقِيلَ: إِحْدَى وَمِائَةٍ. وَقِيلَ:
سَنَةَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ، أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ.
وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ، الْمَشْهُورُ بِزَيْنِ
الْعَابِدِينَ
وَأُمُّهُ أَمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا سَلَّامَةُ، وَكَانَ لَهُ أَخٌ أَكْبَرُ مِنْهُ
يُقَالُ لَهُ: عَلِيٌّ أَيْضًا، قُتِلَ مَعَ أَبِيهِ، رَوَى عَلِيٌّ هَذَا
الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، وَعَمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجَابِرٍ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَفِيَّةَ،
وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ بَنُوهُ: زَيْدٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعُمَرُ،
وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ،
وَطَاوُسٌ وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
الْأَنْصَارِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَخَلْقٌ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَتْ أُمُّهُ سَلَّامَةَ بِنْتَ
يَزْدَجِرْدَ آخِرِ مُلُوكِ الْفُرْسِ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي " رَبِيعِ الْأَبْرَارِ ": أَنَّ
يَزْدَجِرْدَ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ سُبِينَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،
فَحَصَلَتْ وَاحِدَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَوْلَدَهَا سَالِمًا،
وَالْأُخْرَى لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَأَوْلَدَهَا
الْقَاسِمَ، وَالْأُخْرَى لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَأَوْلَدَهَا عَلِيًّا
زَيْنَ الْعَابِدِينَ هَذَا، فَكُلُّهُمْ بَنُو خَالَةٍ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَمَّا
قَتَلَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فَيْرُوزَ بْنَ يَزْدَجِرْدَ بَعَثَ
بِابْنَتَيْهِ إِلَى الْحَجَّاجِ فَأَخَذَ إِحْدَاهُمَا، وَبَعَثَ بِالْأُخْرَى
إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَوْلَدَهَا الْوَلِيدُ يَزِيدَ
النَّاقِصَ.
وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " الْمَعَارِفِ " ; أَنَّ زَيْنَ
الْعَابِدِينَ هَذَا كَانَتْ أُمُّهُ سِنْدِيَّةً، يُقَالُ لَهَا: سَلَّامَةُ.
وَيُقَالُ: غَزَالَةُ.
وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ بِكَرْبَلَاءَ، فَاسْتُبْقِيَ لِصِغَرِهِ، وَقِيلَ:
لِمَرَضِهِ. فَإِنَّهُ كَانَ ابْنَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ أَكْثَرُ
مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ هَمَّ بِقَتْلِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، ثُمَّ
صَرَفَهُ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَشَارَ بَعْضُ الْفَجَرَةِ عَلَى يَزِيدَ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بِقَتْلِهِ أَيْضًا، فَمَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ،
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، ثُمَّ كَانَ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ
وَيُعَظِّمُهُ، وَيُجْلِسُهُ مَعَهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ،
ثُمَّ بَعَثَهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ مُكَرَّمِينَ، وَكَانَ عَلِيٌّ
بِالْمَدِينَةِ مُحْتَرَمًا مُعَظَّمًا.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَمَسْجِدُهُ بِدِمَشْقَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ
مَعْرُوفٌ. قُلْتُ: وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: مَشْهَدُ عَلِيٍّ شَرْقِيَّ
جَامِعِ دِمَشْقَ، وَقَدِ اسْتَقْدَمَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ مَرَّةً
أُخْرَى إِلَى دِمَشْقَ فَاسْتَشَارَهُ فِي جَوَابِ مَلِكِ الرُّومِ عَنْ بَعْضِ
مَا كَتَبَ إِلَيْهِ فِيهِ مِنْ أَمْرِ السَّكَّةِ وَطِرَازِ الْقَرَاطِيسِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا رَأَيْتُ
قُرَشِيًّا أَفْضَلَ مِنْهُ، وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ يَوْمَ قُتِلَ ابْنَ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: لَا تَعَرَّضُوا
لِهَذَا الْمَرِيضِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ مِنْ أَوْرَعِ النَّاسِ، وَأَعْبَدِهِمْ،
وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ إِذَا مَشَى لَا يَخْطُرُ بِيَدِهِ،
وَكَانَ يَعْتَمُّ بِعِمَامَةٍ بَيْضَاءَ يُرْخِيهَا مِنْ وَرَائِهِ، وَكَانَ
كُنْيَتَهُ أَبُو الْحَسَنِ، وَقِيلَ: أَبُو مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، كَثِيرَ الْحَدِيثِ،
عَالِيًا، رَفِيعًا وَرِعًا. وَأُمُّهُ غَزَالَةُ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ
الْحُسَيْنِ مَوْلَاهُ زُبَيْدٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زُبَيْدٍ.
وَهُوَ عَلِيٌّ الْأَصْغَرُ، فَأَمَّا عَلِيٌّ الْأَكْبَرُ فَقُتِلَ مَعَ أَبِيهِ،
وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو
حَازِمٍ: لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ مِثْلُهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُ
هَاشِمِيٍّ أَدْرَكْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَحِبُّونَا حُبَّ
الْإِسْلَامِ، فَمَا بَرِحَ بِنَا حُبُّكُمْ حَتَّى صَارَ عَلَيْنَا عَارًا. وَفِي
رِوَايَةٍ: حَتَّى بَغَّضْتُمُونَا إِلَى النَّاسِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمْ يَكُنْ لِلْحُسَيْنِ عَقِبٌ إِلَّا مِنْ عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ، وَلَمْ
يَكُنْ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
نَسْلٌ إِلَّا مِنَ ابْنَةِ عَمِّهِ الْحَسَنِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ بْنُ
الْحَكَمِ: لَوِ اتَّخَذْتَ السِّرَارِيَّ حَتَّى يَكْثُرَ أَوْلَادُكُ. فَقَالَ:
لَيْسَ لِي مَا أَتَسَرَّى بِهِ. فَأَقْرَضَهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَاشْتَرَى لَهُ
السِّرَارِيَّ، فَوَلَدْنَ لَهُ، وَكَثُرَ نَسْلُهُ، ثُمَّ لَمَّا مَرِضَ
مَرْوَانُ أَوْصَى أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ مَا كَانَ
أَقْرَضَهُ، فَجَمِيعُ الْحُسَيْنِيِّينَ مِنْ نَسْلِهِ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ كُلِّهَا
الزُّهْرِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ احْتَرَقَ الْبَيْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَمْ تَنْصَرِفْ؟ فَقَالَ:
إِنِّي اشْتَغَلْتُ عَنْ هَذِهِ النَّارِ بِالنَّارِ الْأُخْرَى. وَكَانَ إِذَا
تَوَضَّأَ يَصْفَرُّ لَوْنُهُ، فَإِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ ارْتَعَدَ مِنَ
الْفَرَقِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَلَا تَدْرُونَ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ
أُرِيدُ أَنْ أَقُومَ وَلِمَنْ أُنَاجِي؟ وَلَمَّا حَجَّ أَرَادَ أَنْ يُلَبِّيَ،
فَارْتَعَدَ وَقَالَ: أَخْشَى أَنْ أَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ.
فَيَقُولُ لِي: لَا لَبَّيْكَ. فَشَجَّعُوهُ، وَقَالُوا: لَا بُدَّ مِنَ التَّلْبِيَةِ؟
فَلَمَّا لَبَّى غُشِيَ عَلَيْهِ حَتَّى سَقَطَ عَنِ الرَّاحِلَةِ، وَأَنَّهُ
كَانَ يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَلْفَ رَكْعَةٍ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: سَمِعْتُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ الْحِجْرِ يَقُولُ: عُبَيْدُكَ
بِفِنَائِكَ،
مِسْكِينُكَ بِفِنَائِكَ، سَائِلُكَ
بِفِنَائِكَ، فَقِيرُكَ بِفِنَائِكَ. قَالَ طَاوُسٌ: فَوَاللَّهِ مَا دَعَوْتُ
بِهَا فِي كَرْبٍ قَطُّ إِلَّا كُشِفَ عَنِّي، وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ
الصَّدَقَةِ بِاللَّيْلِ، وَكَانَ يَقُولُ: صَدَقَةُ اللَّيْلِ تُطْفِئُ غَضَبَ
الرَّبِّ. وَأَنَّهُ قَاسَمَ اللَّهُ تَعَالَى مَالَهُ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ نَاسٌ بِالْمَدِينَةِ يَعِيشُونَ، لَا
يَدْرُونَ مِنْ أَيْنَ يَعِيشُونَ وَمَنْ يُعْطِيهِمْ، فَلَمَّا مَاتَ عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَدُوا ذَلِكَ، فَعَرَفُوا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ
يَأْتِيهِمْ فِي اللَّيْلِ بِمَا يَأْتِيهِمْ بِهِ. وَلَمَّا مَاتَ وَجَدُوا فِي
ظَهْرِهِ وَأَكْتَافِهِ أَثَرَ حَمْلِ الْجُرْبِ إِلَى بُيُوتِ الْأَرَامِلِ
وَالْمَسَاكِينِ فِي اللَّيْلِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَعُولُ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ
بِالْمَدِينَةِ، وَلَا يَدْرُونَ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَ. وَدَخَلَ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ يَعُودُهُ، فَبَكَى ابْنُ
أُسَامَةَ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: عَلَيَّ دَيْنٌ. قَالَ: وَكَمْ
هُوَ؟ قَالَ: خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعَةَ عَشَرَ
أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ: هِيَ عَلَيَّ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَتِهِمَا مِنْهُ
بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَنَالَ مِنْهُ رَجُلٌ يَوْمًا فَجَعَلَ يَتَغَافَلُ عَنْهُ
يُرِيهِ أَنَّهُ
لَمْ يَسْمَعْهُ فَقَالَ لَهُ
الرَّجُلُ: إِيَّاكَ أَعْنِي. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: وَعَنْكَ أُغْضِي.
وَخَرَجَ يَوْمًا مِنَ الْمَسْجِدِ، فَسَبَّهُ رَجُلٌ، فَابْتَدَرَ النَّاسُ
إِلَيْهِ فَقَالَ: دَعُوهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا سُتِرَ عَنْكَ
مِنْ أَمْرِنَا أَكْثَرُ، أَلَكَ حَاجَةٌ نُعِينُكَ عَلَيْهَا؟ فَاسْتَحْيَا
الرَّجُلُ، فَأَلْقَى إِلَيْهِ خَمِيصَةً كَانَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ
مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ.
قَالُوا: وَاخْتَصَمَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ وَحَسَنُ بْنُ حَسَنٍ وَكَانَ
بَيْنَهُمَا مُنَافَسَةٌ فَنَالَ مِنْهُ حَسَنُ بْنُ حَسَنٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ،
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِلَى مَنْزِلِهِ،
فَقَالَ: يَا ابْنَ عَمِّ، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي، وَإِنْ
كُنْتَ كَاذِبًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ. ثُمَّ رَجَعَ،
فَلَحِقَهُ فَصَالَحَهُ. وَقِيلَ لَهُ: مَنْ أَعْظَمُ النَّاسِ خَطَرًا؟ فَقَالَ:
مَنْ لَمْ يَرْضَ الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطَرَا. وَقَالَ أَيْضًا: الْفِكْرَةُ
مِرْآةٌ تُرِي الْمُؤْمِنَ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ.
وَقَالَ: فَقْدُ الْأَحِبَّةِ
غُرْبَةٌ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ قَوْمًا عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً، فَتِلْكَ
عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَآخَرُونَ عَبَدُوهُ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ
التُّجَّارِ، وَآخَرُونَ عَبَدُوهُ مَحَبَّةً وَشُكْرًا، فَتِلْكَ عِبَادَةُ
الْأَحْرَارِ الْأَخْيَارِ.
وَقَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، لَا تَصْحَبْ فَاسِقًا; فَإِنَّهُ يَبِيعُكَ
بِأَكْلَةٍ وَأَقَلَّ مِنْهَا، يَطْمَعُ فِيهَا ثُمَّ لَا يَنَالُهَا، وَلَا
بَخِيلًا; فَإِنَّهُ يَخْذُلُكَ فِي مَالِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ، وَلَا
كَذَّابًا; فَإِنَّهُ كَالسَّرَابِ يُقَرِّبُ مِنْكَ الْبَعِيدَ وَيُبَاعِدُ
عَنْكَ الْقَرِيبَ، وَلَا أَحْمَقَ; فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْفَعَكَ
فَيَضُرُّكَ، وَلَا قَاطِعَ رَحِمٍ; فَإِنَّهُ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا
فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( مُحَمَّدٍ: 22 ).
وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ تَخَطَّى النَّاسَ
حَتَّى يَجْلِسَ فِي حَلْقَةِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ
جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، أَنْتَ سَيِّدُ النَّاسِ تَأْتِي
تَخَطَّى حَتَّى تَجْلِسَ مَعَ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ: إِنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ حَيْثُ يَنْتَفِعُ، وَإِنَّ
الْعِلْمَ يُبْتَغَى وَيُؤْتَى، وَيُطْلَبُ مِنْ حَيْثُ كَانَ. وَقَالَ
الْأَعْمَشُ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ:
أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنِي
وَبَيْنَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؟ فَقُلْتُ: مَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُرِيدُ
أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَنْفَعُنَا اللَّهُ بِهَا، إِنَّهُ لَيْسَ
عِنْدَنَا مَا يَرْمِينَا بِهِ هَؤُلَاءِ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْعِرَاقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَزِينِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ
عَبَّاسٍ، فَأَتَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرْحَبًا
بِالْحَبِيبِ ابْنِ الْحَبِيبِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الصُّولِيُّ، ثَنَا
الْعَلَائِيُّ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَشَّارٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،
عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيٍّ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَبَّلَهُ وَأَقْعَدَهُ إِلَى جَنْبِهِ، ثُمَّ
قَالَ: يُولَدُ لِابْنِي هَذَا ابْنٌ يُقَالُ لَهُ عَلِيٌّ، إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: لِيَقُمْ سَيِّدُ
الْعَابِدِينَ، فَيَقُومُ هُوَ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا، أَوْرَدَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ أَكْثَرُ مُجَالَسَتِي مَعَ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ، وَمَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ،
وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَحْسَنِهِمْ طَاعَةً، وَأَحَبِّهِمْ
إِلَى مَرْوَانَ، وَابْنِهِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَكَانَ يُسَمِّيهِ: زَيْنَ الْعَابِدِينَ.
وَقَالَ جُوَيْرِيَّةُ بْنُ أَسْمَاءَ: مَا أَكَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
بِقَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمًا
قَطُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، قَالَ: بَعَثَ الْمُخْتَارُ إِلَى عَلِيِّ
بْنِ الْحُسَيْنِ بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَكَرِهَ أَنْ يَقْبَلَهَا، وَخَافَ أَنْ
يَرُدَّهَا، فَاحْتَبَسَهَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ الْمُخْتَارُ كَتَبَ إِلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ: إِنَّ الْمُخْتَارَ بَعَثَ إِلَيَّ بِمِائَةِ
أَلْفٍ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَقْبَلَهَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّهَا، فَابْعَثْ مَنْ
يَقْبِضُهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: يَا ابْنَ عَمٍّ، خُذْهَا
فَقَدْ طَيَّبْتُهَا لَكَ. فَقَبِلَهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: سَادَةُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا
الْأَسْخِيَاءُ الْأَتْقِيَاءُ، وَفِي الْآخِرَةِ أَهْلُ الدِّينِ وَأَهْلُ
الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَالَ أَيْضًا: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَرَى
الْأَخَ مِنْ إِخْوَانِي، فَأَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ الْجَنَّةَ، وَأَبْخَلَ
عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ لِي: لَوْ
كَانَتِ الْجَنَّةُ بِيَدِكَ لَكُنْتَ بِهَا أَبْخَلَ وَأَبْخَلَ وَأَبْخَلَ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:
إِنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، بَكَى حَتَّى ابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ عَلَى يُوسُفَ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَاتَ، وَإِنِّي رَأَيْتُ
بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُذْبَحُونَ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ،
أَفَتَرَوْنَ حُزْنَهُمْ يَذْهَبُ مِنْ قَلْبِي أَبَدًا؟!
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: سَكَبَتْ جَارِيَةٌ لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ
عَلَيْهِ مَاءً لِيَتَوَضَّأَ، فَسَقَطَ الْإِبْرِيقُ مِنْ يَدِهَا عَلَى وَجْهِهِ
فَشَجَّهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهَا، فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ: إِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فَقَالَ: قَدْ كَظَمْتُ
غَيْظِي. قَالَتْ: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ. فَقَالَ: قَدْ عَفَا اللَّهُ
عَنْكِ. فَقَالَتْ: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( آلِ عِمْرَانَ: 134 ).
قَالَ: فَاذْهَبِي، أَنْتِ حُرَّةٌ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ،
أَبُو قُدَامَةَ الْجُمَحِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
فَذَكَرُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَنَالُوا مِنْهُمَا، ثُمَّ ابْتَدَءُوا فِي
عُثْمَانَ، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي، أَنْتُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَإِلَى قَوْلِهِ: أُولَئِكَ هُمُ
الصَّادِقُونَ ( الْحَشْرِ: 8 ) ؟ قَالُوا: لَا، لَسْنَا مِنْهُمْ. قُلْتُ:
فَأَنْتُمْ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
إِلَى قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ( الْحَشْرِ: 9 ). قَالُوا: لَا، لَسْنَا مِنْهُمْ. قَالَ:
فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا أَنْتُمْ فَقَدَ تَبَرَّأْتُمْ وَأَقْرَرْتُمْ
وَشَهِدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْهُمْ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ
الْفِرْقَةِ الثَّالِثَةِ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: وَالَّذِينَ
جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( الْحَشْرِ: 10 ) قُومُوا
عَنِّي، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمْ، وَلَا قَرَّبَ دُورَكُمْ، أَنْتُمْ
مُسْتَهْزِئُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَلَسْتُمْ مِنْ أَهْلِهِ.
وَجَاءَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ: مَتَى يُبْعَثُ عَلِيٌّ؟ فَقَالَ: يُبْعَثُ وَاللَّهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَهُمُّهُ نَفْسُهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حُدِّثْتُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ
الْحُسَيْنِ كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أَتَصَدَّقُ الْيَوْمَ أَوْ أَهَبُ عِرْضِي الْيَوْمَ مَنِ اسْتَحَلَّهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ غُلَامًا سَقَطَ مِنْ يَدِهِ سَفُّودٌ،
وَهُوَ يَشْوِي شَيْئًا فِي التَّنُّورِ عَلَى رَأْسِ صَبِيٍّ لِعَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ فَقَتَلَهُ، فَنَهَضَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُسْرِعًا، فَلَمَّا
نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ لِلْغُلَامِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَمْ تَتَعَمَّدْ أَنْتَ
حُرٌّ. ثُمَّ شَرَعَ فِي
جَهَازِ ابْنِهِ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ
الْحُسَيْنِ يَقُولُ: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِنَصِيبِي مِنَ الذُّلِّ حُمْرَ
النَّعَمِ. وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْهُ.
وَمَاتَ لِرَجُلٍ وَلَدٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَجَزِعَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِ
إِسْرَافِهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ إِنَّ مِنْ وَرَاءِ ابْنِكَ
خِلَالًا ثَلَاثًا: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَشَفَاعَةَ
رَسُولِ اللَّهِ، وَرَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: قَارَفَ الزُّهْرِيُّ ذَنْبًا، فَاسْتَوْحَشَ مِنْهُ،
وَهَامَ عَلَى وَجْهِهِ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ
بِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ لَهُ: يَا زُهْرِيُّ، قُنُوطُكَ مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْ ذَنْبِكِ. فَقَالَ الزُّهْرِيُّ:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ
أَصَابَ دَمًا خَطَأً، فَأَمَرَهُ عَلِيٌّ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ،
وَأَنْ يَبْعَثَ الدِّيَةَ إِلَى أَهْلِهِ. وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ: عَلِيُّ
بْنُ الْحُسَيْنِ أَعْظَمُ النَّاسِ عَلَيَّ مِنَّةً.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: لَا
يَقُولُ رَجُلٌ فِي
رَجُلٍ مِنَ الْخَيْرِ مَا لَا
يَعْلَمُ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَقُولَ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ مَا لَا يَعْلَمُ،
وَمَا اصْطَحَبَ اثْنَانِ عَلَى مَعْصِيَةٍ إِلَّا أَوْشَكَ أَنْ يَفْتَرِقَا
عَلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ زَوَّجَ ابْنَةً مِنْ مَوْلًى لَهُ، وَأَعْتَقَ أَمَةً
فَتَزَوَّجَهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَلُومُهُ فِي ذَلِكَ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ وَقَدْ
أَعْتَقَ صَفِيَّةَ فَتَزَوَّجَهَا، وَزَوَّجَ مَوْلَاهُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
مِنِ ابْنَةِ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ.
قَالُوا: وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الشِّتَاءِ خَمِيصَةً مِنْ خَزٍّ بِخَمْسِينَ
دِينَارًا، فَإِذَا جَاءَ الصَّيْفُ تَصَدَّقَ بِهَا، وَيَلْبَسُ فِي الصَّيْفِ
الثِّيَابَ الْمُرَقَّعَةَ وَدُونَهَا، وَيَتْلُو قَوْلَهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ ( الْأَعْرَافِ: 32 ).
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ ذَكَرَهَا الصُّولِيُّ وَالْجُرَيْرِيُّ وَغَيْرُ
وَاحِدٍ، أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ حَجَّ فِي خِلَافَةِ أَبِيهِ أَوْ
أَخِيهِ الْوَلِيدِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَسْتَلِمَ
الْحَجَرَ لَمْ يَتَمَكَّنْ حَتَّى نُصِبَ لَهُ مِنْبَرٌ، فَاسْتَلَمَ وَجَلَسَ
عَلَيْهِ، وَقَامَ أَهْلُ الشَّامِ حَوْلَهُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ
أَقْبَلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحَجَرِ;
لِيَسْتَلِمَهُ تَنَحَّى عَنْهُ النَّاسُ إِجْلَالًا لَهُ وَهِيبَةً وَاحْتِرَامًا،
وَهُوَ فِي بِزَّةٍ حَسَنَةٍ، وَشَكْلٍ مَلِيحٍ، فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ
لِهِشَامٍ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ. لِئَلَّا يَرْغَبَ فِيهِ أَهْلُ
الشَّامِ. فَقَالَ
الْفَرَزْدَقُ وَكَانَ حَاضِرًا: أَنَا
أَعْرِفُهُ. فَقَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ فَأَنْشَأَ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ
وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ
الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي
الْكَرَمُ
يُنْمَى إِلَى ذُرْوَةِ الْعِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ
الْإِسْلَامِ وَالْعَجَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ
يَسْتَلِمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ
يَبْتَسِمُ
بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ
شَمَمُ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ طَابَتْ عَنَاصِرُهَا وَالْخِيمُ
وَالشِّيَمُ
يَنْجَابُ نُورُ الْهُدَى مِنْ نُورِ غُرَّتِهِ كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ
إِشْرَاقِهَا الْقَتَمُ
حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا فُدِحُوَا حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو
عِنْدَهُ نَعَمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ قَدْ
خُتِمُوا
اللَّهُ فَضَّلَهُ قِدْمًا وَشَرَّفَهُ جَرَى بِذَاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ الْقَلَمُ
مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ
الْأَنْبِيَاءِ لَهُ وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهَا الْأُمَمُ
عَمَّ الْبَرِّيَّةَ بِالْإِحْسَانِ فَانْقَشَعَتْ عَنْهَا الْغَيَابَةُ
وَالْإِمْلَاقُ وَالظُّلَمُ
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا يَسْتَوْكِفَانِ وَلَا يَعْرُوهُمَا
الْعَدَمُ
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ يَزِينُهُ اثْنَانِ حُسْنُ الْخُلْقِ
وَالْكَرَمُ
لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ مَيْمُونٌ نَقِيبَتُهُ رَحْبُ الْفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ
يَعْتَزِمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَبُغْضُهُمُ كَفْرٌ وَقُرْبُهُمْ مَنْجَى
وَمُعْتَصَمُ
يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ وَالْبَلْوَى بِحُبِّهِمُ وَيُسْتَرَبُّ بِهِ الْإِحْسَانُ
وَالنِّعَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ ذِكْرُهُمُ فِي كُلِّ حُكْمٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الْكَلِمُ
إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ
الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ
لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ وَلَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ
كَرُمُوا هُمُ
الْغُيُوثُ إِذَا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ وَالْأُسْدُ أُسْدُ الشَّرَى وَالْبَأْسُ
مُحْتَدِمُ
يَأْبَى لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ خِيمٌ كَرِيمٌ وَأَيْدٍ
بِالنَّدَى هُضُمُ
لَا يَنْقُصُ الْعُسْرُ بَسْطًا مِنْ أَكُفِّهِمُ سِيَّانَ ذَلِكَ إِنْ أَثْرَوْا
وَإِنْ عَدِمُوا
أَيُّ الْخَلَائِقِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ
نِعَمُ
فَلَيْسَ قَوْلُكَ " مَنْ هَذَا؟ " بِضَائِرِهِ الْعُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ
أَنْكَرْتَ وَالْعَجَمُ
مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ
أَوَّلِيَّةَ ذَا فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ
قَالَ: فَغَضِبَ هِشَامٌ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِحَبْسِ الْفَرَزْدَقِ
بِعُسْفَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ
الْحُسَيْنِ بَعَثَ إِلَى الْفَرَزْدَقِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ،
وَأَرْسَلَ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ أَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ الْيَوْمَ غَيْرُهَا،
فَرَدَّهَا الْفَرَزْدَقُ، وَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ مَا قُلْتُ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَنُصْرَةً لِلْحَقِّ، وَقِيَامًا بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذُرِّيَّتِهِ، وَلَسْتُ أَعْتَاضُ عَنْ ذَلِكَ
بِشَيْءٍ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: قَدْ عَلِمَ
اللَّهُ صِدْقَ نِيَّتِكَ فِي ذَلِكَ، وَأَقْسَمْتُ لَتَقْبَلَنَّهَا. فَقَبِلَهَا
مِنْهُ ثُمَّ جَعَلَ يَهْجُو هِشَامًا، فَكَانَ مِمَّا قَالَ فِيهِ:
يُحَبِّسُنِي بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالَّتِي إِلَيْهَا قُلُوبُ النَّاسِ يَهْوِي
مُنِيبُهَا
يُقَلِّبُ رَأْسًا لَمْ يَكُنْ رَأْسَ سَيِّدٍ وَعَيْنَيْنِ حَوْلَاوَيْنِ بَادٍ
عُيُوبُهَا
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّتْ بِهِ
الْجِنَازَةُ يَقُولُ:
نُرَاعُ إِذَا الْجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا وَنَلْهُو حِينَ تَمْضِي ذَاهِبَاتِ
كَرَوْعَةِ ثَلَّةٍ لِمُغَارِ سَبْعٍ فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
الْمُقْرِئِ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ سَيِّدَ الْعَابِدِينَ
يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، وَيُنَاجِي
رَبَّهُ يَقُولُ:
يَا نَفْسُ حَتَّامَ إِلَى الدُّنْيَا غُرُورُكِ، وَإِلَى عِمَارَتِهَا رُكُونُكِ،
أَمَا اعْتَبَرْتِ بِمَنْ مَضَى مِنْ أَسْلَافِكِ، وَمَنْ وَارَتْهُ الْأَرْضُ
مِنْ أُلَّافِكِ؟ وَمَنْ فُجِعْتِ بِهِ مِنْ إِخْوَانِكِ، وَنُقِلَ إِلَى الْبِلَى
مِنْ أَقْرَانِكِ؟
فَهُمْ فِي بُطُونِ الْأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَا مَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بِوَالٍ
دَوَاثِرُ
خَلَتْ دُورُهُمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عِرَاصُهُمْ وَسَاقَتْهُمْ نَحْوَ
الْمَنَايَا الْمَقَادِرُ
وَخُلُّوا عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا وَضَمَّتْهُمُ تَحْتَ التُّرَابِ
الْحَفَائِرُ
كَمْ تَخَرَّمَتْ أَيْدِي الْمَنُونِ مِنْ قُرُونٍ بَعْدَ قُرُونٍ، وَكَمْ
غَيَّرَتِ الْأَرْضُ بِبَلَائِهَا، وَغَيَّبَتْ فِي ثَرَاهَا مِمَّنْ عَاشَرْتَ
مِنْ صُنُوفِ النَّاسِ، وَشَيَّعْتَهُمْ إِلَى الْأَرْمَاسِ،
وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ
مُكَاثِرُ
عَلَى خَطَرٍ تُمْسِي وَتُصْبِحُ لَاهِيًا أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ
تُخَاطِرُ
وَإِنَّ امْرَأً يَسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائِبًا وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لَا
شَكَّ خَاسِرُ
فَحَتَّامَ عَلَى الدُّنْيَا إِقْبَالُكَ؟ وَبِشَهَوَاتِكَ اشْتِغَالُكَ؟ وَقَدْ
وَخَطَكَ الْقَتِيرُ،
وَأَتَاكَ النَّذِيرُ، وَأَنْتَ عَمَّا
يُرَادُ بِكَ سَاهٍ، وَبِلَذَّةِ يَوْمِكَ لَاهٍ.
وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ الْمَوْتِ وَالْقَبْرِ وَالْبِلَى عَنِ اللَّهْوِ
وَاللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ
أَبَعْدَ اقْتِرَابِ الْأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ وَشَيْبِ قَذَالٍ مُنْذِرٌ لَكَ
كَاسِرُ
كَأَنَّكَ مَعْنِيٌّ بِمَا هُوَ صَائِرٌ لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ
جَائِرُ
انْظُرْ إِلَى الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْمُلُوكِ الْفَانِيَةِ كَيْفَ
أَفْنَتْهُمُ الْأَيَّامُ وَوَافَاهُمُ الْحِمَامُ; فَانْمَحَتْ مِنَ الدُّنْيَا
آثَارُهُمْ، وَبَقِيَتْ فِيهَا أَخْبَارُهُمْ.
وَأَضْحَوْا رَمِيمًا فِي التُّرَابِ وَعُطِّلَتْ مَجَالِسُ مِنْهُمْ أَقْفَرَتْ
وَمَقَاصِرُ
وَحَلُّوا بِدَارٍ لَا تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّى لِسُكَّانِ الْقُبُورِ
تَزَاوُرُ
فَمَا إِنْ تَرَى إِلَّا جُثًى قَدْ ثَوَوْا بِهَا مُسَطَّحَةً تُسْفِي عَلَيْهَا
الْأَعَاصِرُ
كَمْ مِنْ ذِي مَنَعَةٍ وَسُلْطَانٍ، وَجُنُودٍ وَأَعْوَانٍ، تَمَكَّنَ مِنْ
دُنْيَاهُ، وَنَالَ فِيهَا مَا
تَمَنَّاهُ، وَبَنَى فِيهَا الْقُصُورَ
وَالدَّسَاكِرَ، وَجَمَعَ الْأَعْلَاقَ، وَالذَّخَائِرَ.
فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ مُبَادِرَةً تَهْوِي إِلَيْهِ
الذَّخَائِرُ
وَلَا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونُ الَّتِي بَنَى وَحَفَّ بِهَا أَنْهَارُهُ
وَالدَّسَاكِرُ
وَلَا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ وَلَا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهُ
الْعَسَاكِرُ
أَتَاهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يُرَدُّ، وَنَزَلَ بِهِ مِنْ قَضَائِهِ مَا لَا
يُصَدُّ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْقَهَّارُ
قَاصِمُ الْجَبَّارِينَ، وَمُبِيدُ الْمُتَكَبِّرِينَ.
مَلِيكٌ عَزِيزٌ لَا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِذُ الْأَمْرِ قَاهِرُ
عَنَا كُلُّ ذِي عِزٍّ لِعِزَّةِ وَجْهِهِ فَكُلُّ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ
لَقَدْ خَضَعَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَاءَلَتْ لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ
الْمُلُوكُ الْجَبَابِرُ
فَالْبِدَارَ الْبِدَارَ، وَالْحِذَارَ الْحِذَارَ مِنَ الدُّنْيَا
وَمَكَايِدِهَا، وَمَا نَصَبَتْ لَكَ مِنْ مَصَايِدِهَا، وَتَحَلَّتْ لَكَ مِنْ
زِينَتِهَا، وَأَظْهَرَتْ لَكَ مِنْ بَهْجَتِهَا.
وَفِي دُونِ مَا عَايَنْتَ مِنْ
فَجَعَاتِهَا إِلَى رَفْضِهَا دَاعٍ وَبِالزُّهْدِ آمِرُ
فَجِدَّ وَلَا تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ زَائِلٌ وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الْإِقَامَةِ
صَائِرُ
وَلَا تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ طِلَابَهَا وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا غُبَّةً لَكَ
ضَائِرُ
فَهَلْ يَحْرِصُ عَلَيْهَا لَبِيبٌ، أَوْ يُسَرُّ بِهَا أَرِيبٌ؟ وَهُوَ عَلَى
ثِقَةٍ مِنْ فَنَائِهَا، وَغَيْرُ طَامِعٍ فِي بَقَائِهَا، أَمْ كَيْفَ تَنَامُ
عَيْنَا مَنْ يَخْشَى الْبَيَاتَ، وَتَسْكُنُ نَفْسُ مَنْ يَتَوَقَّعُ الْمَمَاتَ.
أَلَا لَا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا وَتَشْغَلُنَا اللَّذَّاتُ عَمَّا
نُحَاذِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ بِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى
السَّرَائِرُ
كَأَنَّا نَرَى أَنْ لَا نُشُورَ وَأَنَّنَا سُدًى مَا لَنَا بَعْدَ الْمَمَاتِ
مَصَائِرُ
وَمَا عَسَى أَنْ يَنَالَ صَاحِبُ الدُّنْيَا مِنْ لَذَّتِهَا، وَيَتَمَتَّعُ بِهِ
مِنْ بَهْجَتِهَا، مَعَ صُنُوفِ عَجَائِبِهَا وَكَثْرَةِ تَعَبِهِ فِي طَلَبِهَا،
وَمَا يُكَابِدُ مِنْ أَسْقَامِهَا وَأَوْصَابِهَا وَآلَامِهَا؟
أَمَا قَدْ تَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا
وَيُبَاكِرُ
؟ تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا وَكَمْ قَدْ تُرَى يَبْقَى لَهَا
الْمُتَعَاوِرُ
فَلَا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ وَلَا هُوَ عَنْ تَطْلَابِهَا النَّفْسَ
قَاصِرُ
كَمْ قَدْ غَرَّتِ الدُّنْيَا مِنْ
مُخْلِدٍ إِلَيْهَا، وَصَرَعَتْ مِنْ مُكِبٍّ عَلَيْهَا، فَلَمْ تُنْعِشْهُ مِنْ
عَثْرَتِهِ، وَلَمْ تُقِمْهُ مِنْ صَرْعَتِهِ، وَلَمْ تَشْفِهِ مِنْ أَلَمِهِ،
وَلَمْ تُبْرِهِ مِنْ سَقَمِهِ.
بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمَنْعَةٍ مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ
مَصَادِرُ
فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَا نَجَاةَ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَوْتُ لَا يُنْجِيهِ مِنْهُ
التَّحَاذُرُ
تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ
الْكَبَائِرُ
بَكَى عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَطَايَاهُ، وَتَحَسَّرَ عَلَى مَا خَلَفَ مِنْ
دُنْيَاهُ، حِينَ لَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِغْفَارُ، وَلَا يُنْجِيهِ الِاعْتِذَارُ،
عِنْدَ هَوْلِ الْمَنِيَّةِ وَنُزُولِ الْبَلِيَّةِ.
أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ وَأَبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ
الْمَعَاذِرُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ
نَاصِرُ
وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا
وَالْحَنَاجِرُ
هُنَالِكَ خَفَّ عُوَّادُهُ، وَأَسْلَمَهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ، وَارْتَفَعَتِ
الرَّنَّةُ بِالْعَوِيلِ، وَقَدْ أَيِسُوا مِنَ الْعَلِيلِ، فَغَمَّضُوا
بِأَيْدِيهِمْ عَيْنَيْهِ، وَمَدَّ عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ رِجْلَيْهِ.
فَكَمْ مُوجَعٍ يَبْكِي عَلَيْهِ وَمُفْجَعٍ وَمُسْتَنْجِدٍ صَبْرًا وَمَا هُوَ
صَابِرُ
وَمُسْتَرْجِعٍ دَاعٍ لَهُ اللَّهَ مُخْلِصًا يُعَدِّدُ مِنْهُ خَيْرَ مَا هُوَ
ذَاكِرُ
وَكَمْ شَامِتٍ مُسْتَبْشِرٍ بِوَفَاتِهِ وَعَمَّا قَلِيلٍ كَالَّذِي صَارَ
صَائِرُ
فَشَقَّ جُيُوبَهَا نِسَاؤُهُ،
وَلَطَمَ خُدُودَهَا إِمَاؤُهُ، وَأَعْوَلَ لِفَقْدِهِ جِيرَانُهُ، وَتَوَجَّعَ
لِرُزْئِهِ إِخْوَانُهُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى جَهَازِهِ، وَشَمَّرُوا
لِإِبْرَازِهِ.
وَظَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ لِقُرْبِهِ يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ
وَيُبَادِرُ
وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ وَوَجَّهَ لَمَّا قَامَ لِلْقَبْرِ
حَافِرُ
وَكُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعَتْ لَهُ مُشَيِّعَةً إِخْوَانُهُ
وَالْعَشَائِرُ
فَلَوْ رَأَيْتَ الْأَصْغَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ، وَقَدْ غَلَبَ الْحُزْنُ عَلَى
فُؤَادِهِ، وَغُشِيَ مِنَ الْجَزَعِ عَلَيْهِ، وَخَضَّبَتِ الدُّمُوعُ خَدَّيْهِ،
وَهُوَ يَنْدُبُ أَبَاهُ وَيَقُولُ: يَا وَيْلَاهُ.
لَعَايَنْتَ مِنْ قُبْحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظَرًا يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ
نَاظِرُ
أَكَابِرُ أَوْلَادٍ يَهِيجُ اكْتِئَابُهُمْ إِذَا مَا تَنَاسَاهُ الْبَنُونَ
الْأَصَاغِرُ
وَرَنَّةُ نِسْوَانٍ عَلَيْهِ جَوَازِعٍ مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ
غَوَازِرُ
ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ سَعَةِ قَصْرِهِ إِلَى ضِيقِ قَبْرِهِ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ
فِي اللَّحْدِ وَهَى عَلَيْهِ
اللَّبِنُ، وَحَثَوْا بِأَيْدِيهِمْ
عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَأَكْثَرُوا التَّلَدُّدَ عَلَيْهِ وَالِانْتِحَابَ، ثُمَّ
وَقَفُوا سَاعَةً عَلَيْهِ، وَأَيِسُوا مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ.
فَوَلَّوْا عَلَيْهِ مُعْوِلِينَ وَكُلُّهُمْ لِمِثْلِ الَّذِي لَاقَى أَخُوهُ
مُحَاذِرُ
كَشَاءٍ رِتَاعٍ آمِنِينَ بَدَا لَهَا بِمُدْيَتِهِ بَادِي الذِّرَاعَيْنِ حَاسِرُ
فَرِيعَتْ وَلَمْ تَرْتَعْ قَلِيلًا وَأَجْفَلَتْ فَلَمَّا نَأَى عَنْهَا الَّذِي
هُوَ جَازِرُ
عَادَتْ إِلَى مَرْعَاهَا، وَنَسِيَتْ مَا فِي أُخْتِهَا دَهَاهَا،
أَفَبِأَفْعَالِ الْبَهَائِمِ اقْتَدَيْنَا؟ أَمْ عَلَى عَادَتِهَا جَرَيْنَا؟
عُدْ إِلَى ذِكْرِ الْمَنْقُولِ إِلَى دَارِ الْبِلَى وَالثَّرَى، وَاعْتَبِرْ
بِمَوْضِعِهِ تَحْتَ الثَّرَى، الْمَدْفُوعِ إِلَى هَوْلِ مَا تَرَى.
ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ مَوَارِيثَهُ أَرْحَامُهُ
وَالْأَوَاصِرُ
وَأَحْنَوْا عَلَى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا فَلَا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا
وَشَاكِرُ
فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا وَيَا آمِنًا مِنْ أَنْ تَدُورَ
الدَّوَائِرُ
كَيْفَ أَمِنْتَ هَذِهِ الْحَالَةَ وَأَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهَا لَا مَحَالَةَ؟!
أَمْ كَيْفَ تَتَهَنَّأُ لِحَيَاتِكَ، وَهِيَ مَطِيَّتُكَ إِلَى مَمَاتِكَ؟! أَمْ
كَيْفَ تَسِيغُ طَعَامَكَ وَأَنْتَ مُنْتَظِرٌ حِمَامَكَ؟!.
وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلرَّحِيلِ وَقَدْ
دَنَا وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكًا مُسَافِرُ
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي كَمْ أُسَوِّفُ تَوْبَتِي وَعُمْرِيَ فَانٍ وَالرَّدَى لِي
نَاظِرُ
وَكُلُّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحْفِ مُثْبَتٌ يُجَازِي عَلَيْهِ عَادِلُ
الْحُكْمِ قَادِرُ
فَكَمْ تُرَقِّعُ بِآخِرَتِكَ دُنْيَاكَ؟ وَتَرْكَبُ فِي ذَلِكَ هَوَاكَ؟ أَرَاكَ
ضَعِيفَ الْيَقِينِ، يَا مُؤْثِرَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ، أَبِهَذَا أَمَرَكَ
الرَّحْمَنُ؟ أَمْ عَلَى هَذَا نَزَلَ الْقُرْآنُ؟
تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى وَتَعْمُرُ فَانِيًا فَلَا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلَا ذَاكَ
عَامِرُ
وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى
اللَّهِ عَاذِرُ
أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِيَ وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ
وَافِرُ
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّارِيخِ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ; فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ
أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ فِي
أَوَّلِهَا عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِالْبَقِيعِ،
وَدُفِنَ بِهِ.
قَالَ الْفَلَّاسُ: مَاتَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ،
وَعُرْوَةُ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُوُفِّيَ ثِنْتَيْنِ - أَوْ ثَلَاثٍ - وَتِسْعِينَ.
وَأَغْرَبَ الْمَدَائِنِيُّ فِي
قَوْلِهِ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ
بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
الْقُرَشِيُّ الْمَدَنِيُّ، أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، قِيلَ: اسْمُهُ
مُحَمَّدٌ. وَقِيلَ: اسْمُهُ أَبُو بَكْرٍ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَهُ وَكُنْيَتَهُ وَاحِدٌ، وَلَهُ مِنَ
الْأَوْلَادِ وَالْإِخْوَةِ كَثِيرٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى عَنْ
عَمَّارٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ،
وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ: مِنْهُمْ بَنُوهُ سَلَمَةُ،
وَعَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَعُمَرُ، وَمَوْلَاهُ سُمَيٌّ، وَعَامِرٌ
الشَّعْبِيُّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ،
وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ.
وُلِدَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: رَاهِبُ قُرَيْشٍ. لِكَثْرَةِ
صَلَاتِهِ، وَكَانَ مَكْفُوفًا، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَكَانَ مِنَ
الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْفِقْهِ وَصِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَلَى جَانِبٍ
عَظِيمٍ.
وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ يُكْرِمُهُ وَيَعْرِفُ فَضْلَهُ، وَيَقُولُ:
إِنِّي أَهُمُّ
بِالشَّيْءِ أَفْعَلُهُ بِأَهْلِ
الْمَدِينَةِ; لِسُوءِ أَثَرِهِمْ عِنْدَنَا، فَأَذْكُرُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ فَأَسْتَحِي مِنْهُ، وَأَتْرُكُ ذَلِكَ الْأَمْرَ مِنْ أَجْلِهِ.
وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ قَدْ كُفَّ، وَكَانَ إِذَا سَجَدَ يَضَعُ يَدَهُ فِي
طَسْتٍ; لِعِلَّةٍ كَانَ يَجِدُهَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَاتَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي الَّتِي قَبْلَهَا. وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ
فِيهَا غَزَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بِلَادَ الرُّومِ، وَافْتَتَحَ حُصُونًا
كَثِيرَةً.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَدِينَةَ الْبَابِ مِنْ
إِرْمِينِيَّةَ، وَخَرَّبَهَا، ثُمَّ بَنَاهَا مَسْلَمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتِسْعِ
سِنِينَ.
وَفِيهَا افْتَتَحَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الثَّقَفِيُّ مَدِينَةَ
الْمُولْتَانِ مِنْ أَرْضِ الْهِنْدِ، وَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا جَزِيلَةً.
وَفِيهَا قَدِمَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ إِلَى
إِفْرِيقِيَّةَ، وَمَعَهُ الْأَمْوَالُ عَلَى الْعَجَلِ تُحْمَلُ مِنْ
كَثْرَتِهَا، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَأْسٍ مِنَ السَّبْيِ.
وَفِيهَا غَزَا قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ بِلَادَ الشَّاشِ فَفَتَحَ مُدُنًا
وَأَقَالِيمَ كَثِيرَةً، فَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَوْتِ
الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَقَمَعَهُ ذَلِكَ، وَرَجَعَ بِالنَّاسِ إِلَى
مَدِينَةِ مَرْوَ، وَتَمَثَّلَ بِقَوْلِ بَعْضِ الشُّعَرَاءِ:
لَعَمْرِي لَنِعْمَ الْمَرْءُ مِنْ آلِ جَعْفَرٍ بِحَوْرَانَ أَمْسَى أَعْلَقَتْهُ
الْحَبَائِلُ فَإِنْ تَحْيَ لَا أَمْلَلْ حَيَاتِي وَإِنْ تَمُتْ
فَمَا فِي حَيَاتِي بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ
وَفِيهَا كَتَبَ الْوَلِيدُ إِلَى
قُتَيْبَةَ بِأَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مُنَاجَزَةِ
الْأَعْدَاءِ، وَيَعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَجْزِيهِ خَيْرًا، وَيُثْنِي عَلَيْهِ
بِمَا صَنَعَ مِنَ الْجِهَادِ، وَفَتْحِ الْبِلَادِ، وَقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ
وَالْعِنَادِ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ اسْتَخْلَفَ عَلَى الصَّلَاةِ ابْنَهُ
عَبْدَ اللَّهِ، فَوَلَّى الْوَلِيدُ الصَّلَاةَ وَالْحَرْبَ بِالْمِصْرَيْنِ
الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ يَزِيدَ بْنَ أَبِي كَبْشَةَ، وَوَلَّى خَرَاجَهُمَا
يَزِيدَ بْنَ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ يَسْتَخْلِفُهُمَا عَلَى
ذَلِكَ، فَأَقَرَّهُمَا الْوَلِيدُ. وَاسْتَمَرَّ سَائِرُ نُوَّابِ الْحَجَّاجِ
عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَكَانَتْ وَفَاةُ الْحَجَّاجِ لِخَمْسٍ، وَقِيلَ:
لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيلَ: مَاتَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَهُ
أَبُو مَعْشَرٍ وَالْوَاقِدِيُّ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْوَضَّاحِيُّ بِأَرْضِ الرُّومِ، وَمَعَهُ أَلْفٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ مَوْلِدُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْحَجَّاجِ بْنِ
يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ وَذِكْرُ وَفَاتِهِ
هُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي عَقِيلِ بْنِ مَسْعُودِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ مُعَتِّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ
بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ وَهُوَ قَسِيُّ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ
هَوَازِنَ أَبُو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَرَوَى عَنْ
أَنَسٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَبِي
بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى. وَرَوَى عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَثَابِتٌ
الْبُنَانِيُّ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَمَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَجَرَادُ بْنُ
مُجَالِدٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَهُ
ابْنُ عَسَاكِرَ.
قَالَ: وَكَانَتْ لَهُ بِدِمَشْقَ آدُرٌ مِنْهَا دَارُ الزَّاوِيَةِ بِقُرْبِ
قَصْرِ ابْنِ أَبِي الْحَدِيدِ، وَوَلَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ الْحِجَازَ، فَقَتَلَ
ابْنَ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا وَوَلَّاهُ الْعِرَاقَ، وَقَدِمَ
دِمَشْقَ وَافِدًا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ.
ثُمَّ رَوَى مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ
قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: خَطَبَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ
يُوسُفَ، فَذَكَرَ
الْقَبْرَ، فَمَا زَالَ يَقُولُ:
إِنَّهُ بَيْتُ الْوَحْدَةِ، وَبَيْتُ الْغُرْبَةِ. حَتَّى بَكَى وَبَكَى مَنْ
حَوْلَهُ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ
مَرْوَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مَرْوَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: خَطَبَنَا
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: مَا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَبْرٍ أَوْ ذَكَرَهُ إِلَّا بَكَى.
وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ شَاهِدٌ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ "
وَغَيْرِهِ، وَسَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ: ثَنَا
سَيَّارٌ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا
عَلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا يَحْيَى، أَلَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ
حَسَنٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى.
فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ إِلَى اللَّهِ
حَاجَةٌ فَلْيَدْعُ بِهَا فِي دُبُرِ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَهُ
شَاهِدٌ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِ فِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: سَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ
دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَهِيَ تَتَخَلَّلُ أَيْ تُخَلِّلُ أَسْنَانَهَا
لِيَخْرُجَ مَا بَيْنَهَا مِنْ أَذًى وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ،
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتِ بَاكَرْتِ الْغَذَاءَ إِنَّكَ لِرَغِيبَةٌ
دَنِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي
تُخَلِّلِينَ مِنْهُ شَيْءٌ بَقِيَ فِي
فِيكِ مِنَ الْبَارِحَةِ إِنَّكِ لِقَذِرَةٌ. فَطَلَّقَهَا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ
مَا كَانَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتَ، وَلَكِنَّنِي بَاكَرْتُ مَا تُبَاكِرُهُ
الْحُرَّةُ مِنَ السِّوَاكِ، فَبَقِيَتْ شَظِيَّةٌ فِي فَمِي مِنْهُ
فَحَاوَلْتُهَا لِأُخْرِجَهَا. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ لِيُوسُفَ أَبِي الْحَجَّاجِ:
تَزَوَّجْهَا، فَإِنَّهَا لِخَلِيقَةٌ أَنْ تَأْتِيَ بِرَجُلٍ يَسُودُ.
فَتَزَوَّجَهَا يُوسُفُ أَبُو الْحَجَّاجِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأُخْبِرْتُ
أَنَّ أَبَا الْحَجَّاجِ لَمَّا بَنَى بِهَا وَاقَعَهَا فَنَامَ، فَقِيلَ لَهُ فِي
النَّوْمِ: مَا أَسْرَعَ مَا أَلْقَحْتَ بِالْمُبِيرِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَاسْمُ أُمِّهِ الْفَارِعَةُ بِنْتُ هَمَّامِ بْنِ
عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ زَوْجُهَا الْحَارِثُ بْنُ
كَلَدَةَ الثَّقَفِيُّ طَبِيبَ الْعَرَبِ. وَذَكَرَ عَنْهُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ
فِي السِّوَاكِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْعِقْدِ " أَنَّ الْحَجَّاجَ
كَانَ هُوَ وَأَبُوهُ يُعَلِّمَانِ الْغِلْمَانَ بِالطَّائِفِ، ثُمَّ قَدِمَ
دِمَشْقَ فَكَانَ عِنْدَ رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وَزِيرِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَشَكَا
عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى رَوْحٍ أَنَّ الْجَيْشَ لَا يَنْزِلُونَ لِنُزُولِهِ وَلَا
يَرْحَلُونَ لِرَحِيلِهِ، فَقَالَ رَوْحٌ: عِنْدِي رَجُلٌ تُوَلِّيهِ ذَلِكَ.
فَوَلَّى عَبْدُ الْمَلِكِ الْحَجَّاجَ أَمْرَ الْجَيْشِ، فَكَانَ لَا يَتَأَخَّرُ
أَحَدٌ فِي النُّزُولِ وَالرَّحِيلِ، حَتَّى اجْتَازَ إِلَى فُسْطَاطِ رَوْحِ بْنِ
زِنْبَاعٍ وَهُمْ يَأْكُلُونَ، فَضَرَبَهُمْ وَطَوَّفَ بِهِمْ، وَأَحْرَقَ
الْفُسْطَاطَ، فَشَكَا رَوْحٌ ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ
لِلْحَجَّاجِ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَمْ أَفْعَلْهُ، إِنَّمَا فَعَلَهُ
أَنْتَ; فَإِنَّ يَدِي يَدُكَ وَسَوْطِي سَوْطُكَ، وَمَا ضَرَّكَ إِذَا أَعْطَيْتَ
رَوْحًا فُسْطَاطَيْنِ بَدَلَ فُسْطَاطِهِ، وَبَدَلَ الْغُلَامِ غُلَامَيْنِ،
وَلَا تَكْسِرُنِي فِي الَّذِي وَلَّيْتَنِي؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ
الْحَجَّاجُ عِنْدَهُ.
قَالَ: وَبَنَى وَاسِطَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ، وَفَرَغَ مِنْهَا فِي
سَنَةِ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ. وَقِيلَ قَبْلَ ذَلِكَ.
قَالَ: وَفِي أَيَّامِهِ نُقِطَتِ الْمَصَاحِفُ. وَذُكِرَ فِي حِكَايَتِهِ مَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يُسَمَّى كُلَيْبًا، ثُمَّ سُمِّيَ
الْحَجَّاجَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ وُلِدَ وَلَا مَخْرَجَ لَهُ حَتَّى فُتِقَ لَهُ
مَخْرَجٌ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَضِعْ أَيَّامًا حَتَّى سَقَوْهُ دَمَ جَدْيٍ
أَيَّامًا، ثُمَّ دَمَ سَالِخٍ، وَلُطِّخَ وَجْهُهُ بِدَمِهِ فَارْتَضَعَ،
وَكَانَتْ فِيهِ شَهَامَةٌ وَحُبٌّ لِسَفْكِ الدِّمَاءِ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا
ارْتَضَعَ ذَلِكَ الدَّمُ الَّذِي لُطِّخَ بِهِ وَجْهُهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّ أُمَّهُ هِيَ الْمُتَمَنِّيَةُ لِنَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ بْنِ
عِلَاطٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا أُمُّ أَبِيهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ فِيهِ شَهَامَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي سَيْفِهِ رَهَقٌ، وَكَانَ كَثِيرَ
قَتْلِ النُّفُوسِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ، وَكَانَ
يَغْضَبُ غَضَبَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُ يَتَشَبَّهُ بِزِيَادِ بْنِ
أَبِيهِ، وَكَانَ زِيَادٌ يَتَشَبَّهُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فِيمَا يَزْعُمُ
أَيْضًا. وَلَا سَوَاءٌ وَلَا قَرِيبٌ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمِ بْنِ عِتْرٍ التُّجِيبِيِّ
قَاضِي مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ
خُطْبَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِالْجَابِيَةِ، وَكَانَ مِنَ الزَّهَادَةِ
وَالْعِبَادَةِ عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ ثَلَاثَ خَتَمَاتٍ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ مَعَ أَبِيهِ بِمِصْرَ فِي جَامِعِهَا،
فَاجْتَازَ بِهِمَا سُلَيْمُ بْنُ عِتْرٍ هَذَا، فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَبُو
الْحَجَّاجِ فَسَلَّمَ
عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي
ذَاهِبٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَلْ مِنْ حَاجَةٍ لَكَ عِنْدَهُ؟ قَالَ:
نَعَمْ، تَسْأَلُهُ أَنْ يَعْزِلَنِي عَنِ الْقَضَاءِ. فَقَالَ: سُبْحَانَ
اللَّهِ! وَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ قَاضِيًا الْيَوْمَ خَيْرًا مِنْكَ. ثُمَّ رَجَعَ
إِلَى ابْنِهِ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: يَا أَبَهْ، أَتَقُومُ إِلَى
رَجُلٍ مِنْ تُجِيبَ وَأَنْتَ ثَقَفِيٌّ ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ وَاللَّهِ
إِنِّي لَأَحْسَبُ أَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا يُرْحَمُونَ بِهَذَا وَأَمْثَالِهِ.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَضَرُّ مِنْ
هَذَا وَأَمْثَالِهِ. فَقَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا
وَأَمْثَالَهُ يَجْتَمِعُ النَّاسُ إِلَيْهِمْ فَيُحَدِّثُونَهُمْ عَنْ سِيرَةِ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَيُحَقِّرُ النَّاسُ سِيرَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
وَلَا يَرَوْنَهَا شَيْئًا عِنْدَ سِيرَتِهِمَا، فَيَخْلَعُونَهُ وَيَخْرُجُونَ
عَلَيْهِ، وَيَبْغَضُونَهُ وَلَا يَرَوْنَ طَاعَتَهُ، وَاللَّهِ لَوْ خَلَصَ
إِلَيَّ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَ هَذَا وَأَمْثَالِهِ. فَقَالَ
لَهُ أَبُوهُ: يَا بُنَيَّ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ خَلَقَكَ شَقِيًّا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَاهُ كَانَ ذَا وَجَاهَةٍ
عِنْدَ الْخَلِيفَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ ذَا فِرَاسَةٍ صَحِيحَةٍ; فَإِنَّهُ
تَفَرَّسَ فِي ابْنِهِ مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَكَانَ مَوْلِدُ الْحَجَّاجِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ:
فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ. ثُمَّ نَشَأَ
شَابًّا لَبِيبًا فَصِيحًا بَلِيغًا حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، قَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ: كَانَ الْحَجَّاجُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ. وَقَالَ
أَبُو الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْهُ وَمِنَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ.
وَكَانَ الْحَسَنُ أَفْصَحَ مِنْهُ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ذَكَرَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ، عَنْ صَالِحِ
بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ:
قَالَ عُتْبَةُ بْنُ عَمْرٍو: مَا
رَأَيْتُ عُقُولَ النَّاسِ إِلَّا قَرِيبًا بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، إِلَّا الْحَجَّاجَ
وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، فَإِنَّ عُقُولَهُمَا كَانَتْ تَرْجَحُ عَلَى عُقُولِ
النَّاسِ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ لَمَّا قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ
سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ بَعَثَ الْحَجَّاجَ إِلَى أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ
بِمَكَّةَ فَحَاصَرَهُ بِهَا، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ عَامَئِذٍ، وَلَمْ
يَتَمَكَّنِ الْحَجَّاجُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلَا
تَمَكَّنَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَمَنْ عِنْدَهُ مِنَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلَمْ
يَزَلْ مُحَاصِرَهُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ فِي جُمَادَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ،
ثُمَّ اسْتَنَابَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ
وَالْيَمَنِ، ثُمَّ وَلَّاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ الْعِرَاقَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ
بِشْرٍ، فَدَخَلَ الْكُوفَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ لَهُمْ وَفَعَلَ بِهِمْ مَا
تَقَدَّمَ إِيرَادُهُ مُفَصَّلًا، فَأَقَامَ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ عِشْرِينَ
سَنَةً كَامِلَةً. وَفَتَحَ فِيهَا فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً هَائِلَةً مُنْتَشِرَةً،
حَتَّى وَصَلَتْ خُيُولُهُ إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ وَالسِّنْدِ، فَفَتَحَ فِيهَا
جُمْلَةَ مُدُنٍ وَأَقَالِيمَ، وَوَصَلَتْ خُيُولُهُ أَيْضًا إِلَى قَرِيبٍ مِنْ
بِلَادِ الصِّينِ، وَجَرَتْ لَهُ فُصُولٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا. وَنَحْنُ نُورِدُ
هُنَا أَشْيَاءَ أُخَرَ مِمَّا وَقَعَ لَهُ مِنَ الْأُمُورِ وَالْجَرَاءَةِ
وَالْإِقْدَامِ، وَالتَّهَوُّرِ فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ، مِمَّا يُمْدَحُ عَلَى
مِثْلِهِ، وَمِمَّا يُذَمُّ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، مِمَّا سَاقَهُ الْحَافِظُ
ابْنُ عَسَاكِرَ وَغَيْرُهُ:
فَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَثِيرٍ ابْنِ أَخِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ
جَعْفَرٍ الْمَدِينِيِّ مَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ صَلَّى
مَرَّةً بِجَنْبِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ شَيْئًا
فَجَعَلَ يَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَيَقَعُ قَبْلَهُ فِي السُّجُودِ، فَلَمَّا
سَلَّمَ أَخَذَ سَعِيدٌ بِطَرْفِ رِدَائِهِ وَكَانَ لَهُ ذِكْرٌ يَقُولُهُ بَعْدَ
الصَّلَاةِ فَمَا زَالَ الْحَجَّاجُ يُنَازِعُهُ رِدَاءَهُ حَتَّى قَضَى سَعِيدٌ
ذِكْرَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَعِيدٌ فَقَالَ لَهُ: يَا سَارِقُ يَا
خَائِنُ، تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَاةَ! لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَضْرِبَ بِهَذَا
النَّعْلِ وَجْهَكَ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَضَى الْحَجَّاجُ إِلَى
الْحَجِّ، ثُمَّ رَجَعَ فَعَادَ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ جَاءَ نَائِبًا عَلَى
الْحِجَازِ، فَلَمَّا قَتَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ
نَائِبًا عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ إِذَا مَجْلِسُ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ فَقَصَدَهُ الْحَجَّاجُ فَخَشِيَ النَّاسُ عَلَى سَعِيدٍ مِنْهُ،
فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ صَاحِبُ الْكَلِمَاتِ؟
فَضَرَبَ سَعِيدٌ صَدْرَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَجَزَاكَ اللَّهُ
مِنْ مُعَلِّمٍ وَمُؤَدِّبٍ خَيْرًا، مَا صَلَّيْتُ بَعْدَكَ صَلَاةً إِلَّا
وَأَنَا أَذْكُرُ قَوْلَكَ. ثُمَّ قَامَ وَمَضَى.
وَرَوَى الرِّيَاشِيُّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ
الْعَلَاءِ أَخِي أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ قَالَ: لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ
ابْنَ الزُّبَيْرِ ارْتَجَّتْ مَكَّةُ بِالْبُكَاءِ، فَأَمَرَ بالنَّاسِ
فَجُمِعُوا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ بَعْدَ حَمْدِ
اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، بَلَغَنِي إِكْبَارُكُمْ
قَتْلَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَلَا وَإِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ مِنْ خِيَارِ
هَذِهِ الْأُمَّةِ، حَتَّى رَغِبَ فِي الْخِلَافَةِ وَنَازَعَ فِيهَا أَهْلَهَا،
فَنَزَعَ طَاعَةَ اللَّهِ وَاسْتَكَنَّ بِحَرَمِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ
مَانِعَ الْعُصَاةِ لَمَنَعَتْ آدَمَ حُرْمَةُ اللَّهِ; إِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ
بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ وَأَبَاحَ
لَهُ كَرَامَتَهُ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، فَلَمَّا أَخْطَأَ أَخْرَجَهُ مِنَ
الْجَنَّةِ بِخَطِيئَتِهِ، وَآدَمُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنِ ابْنِ
الزُّبَيْرِ، وَالْجَنَّةُ أَعْظَمُ حُرْمَةً
مِنَ الْكَعْبَةِ، اذْكُرُوا اللَّهَ
يَذْكُرْكُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، ثَنَا عَوْفٌ،
عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ، أَنَّ الْحَجَّاجَ دَخَلَ عَلَى أَسْمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَمَا قَتَلَ ابْنَهَا عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّ
ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَذَاقَهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ، وَفَعَلَ بِهِ وَفَعَلَ. فَقَالَتْ: كَذَبْتَ، كَانَ بَرًّا
بِوَالِدَيْهِ، صَوَّامًا قَوَّامًا، وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ
كَذَّابَانِ; الْآخَرُ مِنْهُمَا شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُبِيرٌ.
وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ وَهْبِ بْنِ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَوْفٍ،
عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ. قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ دَخَلَ عَلَى
أَسْمَاءَ... فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا زُهَيْرٌ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
زِيَادٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ الْأَحْنَفِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ
الْمُثْلَةِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ رَجُلَانِ كَذَّابٌ
وَمُبِيرٌ. قَالَتْ: فَقُلْتُ لِلْحَجَّاجِ: أَمَّا الْكَذَّابُ فَقَدْ
رَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ هُوَ يَا حَجَّاجُ.
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَنْبَأَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَ
الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ تَقُولُ لِلْحَجَّاجِ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهَا
يُعَزِّيهَا فِي ابْنِهَا: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ مِنْ
ثَقِيفٍ رَجُلَانِ مُبِيرٌ وَكَذَّابٌ. فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ
تَعْنِي الْمُخْتَارَ وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَأَنْتَ. وَتَقَدَّمَ فِي "
صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْرَدْنَاهُ عِنْدَ مَقْتَلِ
ابْنِهَا عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ
الْوَكِيعِيُّ، ثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَتْنَا أُمُّ غُرَابٍ، عَنِ امْرَأَةٍ
يُقَالُ لَهَا: عَقِيلَةُ. عَنْ سَلَّامَةَ بِنْتِ الْحُرِّ قَالَتْ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي ثَقِيفٍ كَذَّابٌ
وَمُبِيرٌ. تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو يَعْلَى.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ أُمِّ غُرَابٍ وَاسْمُهَا
طَلْحَةُ عَنْ عَقِيلَةَ، عَنْ سَلَّامَةَ حَدِيثًا آخَرَ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ،
فَقَالَ أَبُو يَعْلَى: ثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بَسْطَامٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، ثَنَا إِسْرَائِيلُ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ، قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ،أَنْبَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ فِي ثَقِيفٍ مُبِيرًا وَكَذَّابًا. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ
مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُصْمٍ وَيُقَالُ: عِصْمَةَ
وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَنْبَأَ
مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
اعْتَزَلَ لَيَالِيَ قِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَالْحَجَّاجِ بِمِنًى، فَكَانَ
يُصَلِّي مَعَ الْحَجَّاجِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ فَلَمْ يُسَلِّمْ
عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي وَرَاءَهُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ:
أَنْبَأَ جَرِيرٌ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ،
فَقَالَ: إِنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ غَيَّرَ كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:
مَا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَنْتَ مَعَهُ وَلَوْ شِئْتُ أَنْ
أَقُولَ: كَذَبْتَ، لَفَعَلْتُ.
وَرُوِيَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحَجَّاجَ أَطَالَ
الْخُطْبَةَ، فَجَعَلَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، مِرَارًا،
ثُمَّ قَامَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ فَقَامَ النَّاسُ، فَصَلَّى الْحَجَّاجُ
بِالنَّاسِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لِابْنِ عُمَرَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟
فَقَالَ: إِنَّمَا نَجِيءُ لِلصَّلَاةِ، فَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، ثُمَّ
بَقْبِقْ مَا شِئْتَ بَعْدُ مِنْ بَقْبَقَةٍ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ عَمِّي يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْحَجَّاجَ
لَمَّا فَرَغَ مِنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدِمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لَقِيَ شَيْخًا
خَارِجًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ:
بِشَرِّ حَالٍ; قُتِلَ ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: وَمَنْ قَتَلَهُ؟ قَالَ: الْفَاجِرُ اللَّعِينُ
الْحَجَّاجُ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَتَهْلُكَتُهُ; مِنْ
قَلِيلِ الْمُرَاقَبَةِ لِلَّهِ. فَغَضِبَ
الْحَجَّاجُ غَضَبًا شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، أَتَعْرِفُ
الْحَجَّاجَ إِذَا رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَا عَرَّفَهُ اللَّهُ خَيْرًا،
وَلَا وَقَاهُ ضُرًّا. فَكَشَفَ الْحَجَّاجُ عَنْ لِثَامِهِ، وَقَالَ: سَتَعْلَمُ
أَيُّهَا الشَّيْخُ الْآنَ إِذَا سَالَ دَمُكَ السَّاعَةَ. فَلَمَّا تَحَقَّقَ
الشَّيْخُ الْجَدُّ، قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ يَا حَجَّاجُ،
لَوْ كُنْتَ تَعْرِفُنِي مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، أَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ
أَبِي دَاوُدَ، أُصْرَعُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ:
انْطَلِقْ، فَلَا شَفَى اللَّهُ الْأَبْعَدَ مِنْ جُنُونِهِ وَلَا عَافَاهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ
زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنَ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلَ
بِكِ فَقُولِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ
اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا
حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ هَذَا. قَالَ حَمَّادٌ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ قَالَ: فَلَمْ
يَصِلْ إِلَيْهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمَّا تَزَوَّجَ الْحَجَّاجُ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ، قَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ: أَتُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ؟ قَالَ:
أَشَدُّ الْبَأْسِ وَاللَّهِ. قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ ذَهَبَ مَا فِي صَدْرِي عَلَى آلِ الزُّبَيْرِ مُنْذُ
تَزَوَّجْتُ رَمْلَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ. قَالَ: فَكَأَنَّهُ كَانَ نَائِمًا
فَأَيْقَظَهُ، فَكَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ يَعْزِمُ عَلَيْهِ فِي طَلَاقِهَا
فَطَلَّقَهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ: حَجَّ الْحَجَّاجُ مَرَّةً، فَمَرَّ بَيْنَ
مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَأُتِيَ
بِغَدَائِهِ فَقَالَ لِحَاجِبِهِ:
انْظُرْ مَنْ يَأْكُلُ مَعِي. فَذَهَبَ فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ نَائِمٌ فَضَرَبَهُ
بِرِجْلِهِ، وَقَالَ: أَجِبِ الْأَمِيرَ. فَقَامَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى
الْحَجَّاجِ قَالَ لَهُ: اغْسِلْ يَدَيْكَ ثُمَّ تَغَدَّ مَعِي. فَقَالَ: إِنَّهُ
دَعَانِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ فَأَجَبْتُهُ. قَالَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ:
اللَّهُ دَعَانِي إِلَى الصَّوْمِ فَأَجَبْتُهُ. قَالَ: فِي هَذَا الْحَرِّ
الشَّدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ صُمْتُ لِيَوْمٍ هُوَ أَشَدُّ حَرًّا مِنْهُ. قَالَ:
فَأَفْطِرْ وَصُمْ غَدًا. قَالَ: إِنْ ضَمِنْتَ لِيَ الْبَقَاءَ إِلَى غَدٍ.
قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ. قَالَ: فَكَيْفَ تَسْأَلُنِي عَاجِلًا بِآجِلٍ لَا
تَقْدِرُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: إِنَّ طَعَامَنَا طَعَامٌ طَيِّبٌ. قَالَ: لَمْ
تُطَيِّبْهُ أَنْتَ وَلَا الطَّبَّاخُ، إِنَّمَا طَيَّبَتْهُ الْعَافِيَةُ.
فَصْلٌ ( كَيْفِيَّةُ دُخُولِ الْحَجَّاجِ الْكُوفَةَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ )
قَدْ ذَكَرْنَا كَيْفِيَّةَ دُخُولِ الْحَجَّاجِ الْكُوفَةَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ، وَخُطْبَتَهُ إِيَّاهُمْ بَغْتَةً، وَتَهْدِيدَهُ وَوَعِيدَهُ
إِيَّاهُمْ، وَأَنَّهُمْ خَافُوهُ مَخَافَةً شَدِيدَةً، وَأَنَّهُ قَتَلَ عُمَيْرَ
بْنَ ضَابِئٍ، وَكَذَلِكَ قَتَلَ كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ صَبْرًا أَيْضًا، ثُمَّ
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ فِي قِتَالِ ابْنِ الْأَشْعَثِ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ; مِنْ
ظَفَرِهِ بِهِ بَعْدَ الْمُطَاوَلَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَتَسَلُّطِهِ عَلَى مَنْ
كَانَ مَعَهُ مِنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعُبَّادِ وَالْقُرَّاءِ،
حَتَّى كَانَ آخِرُ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قَالَ الْقَاضِي
الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ
الْكَلْبِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا
الْغَلَّابِيُّ، ثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَطَاءٍ يَعْنِي ابْنَ مُصْعَبٍ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ أَهْلَ الْعِرَاقِ بَعْدَ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدِ اسْتَبْطَنَكُمْ فَخَالَطَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ وَالْعَصَبَ وَالْمَسَامِعَ وَالْأَطْرَافَ ثُمَّ أَفْضَى إِلَى الْأَسْمَاخِ وَالْأَمْخَاخِ وَالْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ، ثُمَّ ارْتَفَعَ فَعَشَّشَ، ثُمَّ بَاضَ وَفَرَّخَ، ثُمَّ دَبَّ وَدَرَجَ، فَحَشَاكُمْ نِفَاقًا وَشِقَاقًا، وَأَشْعَرَكُمْ خِلَافًا، اتَّخَذْتُمُوهُ دَلِيلًا تَتَّبِعُونَهُ، وَقَائِدًا تُطِيعُونَهُ، وَمُؤَامِرًا تُشَاوِرُونَهُ وَتَسْتَأْمِرُونَهُ، فَكَيْفَ تَنْفَعُكُمْ تَجْرِبَةٌ أَوْ يَنْفَعُكُمْ بَيَانٌ؟ أَلَسْتُمْ أَصْحَابِي بِالْأَهْوَازِ حَيْثُ رُمْتُمُ الْمَكْرَ وَأَجْمَعْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَخْذُلُ دِينَهُ وَخِلَافَتَهُ؟ وَأَنَا أَرْمِيكُمْ بِطَرْفِي وَأَنْتُمْ تَتَسَلَّلُونَ لِوَاذًا، وَتَنْهَزِمُونَ سِرَاعًا. يَوْمُ الزَّاوِيَةِ وَمَا يَوْمُ الزَّاوِيَةِ؟ مِمَّا كَانَ مِنْ فَشَلِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ وَتَخَاذُلِكُمْ وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْكُمْ وَنُكُوسِ قُلُوبِكُمْ; إِذْ وَلَّيْتُمْ كَالْإِبِلِ الشَّارِدَةِ عَنْ أَوْطَانِهَا النَّوَازِعِ، لَا يَسْأَلُ الْمَرْءُ عَنْ أَخِيهِ، وَلَا يَلْوِي الشَّيْخُ عَلَى بَنِيهِ حِينَ عَضَّكُمُ السِّلَاحُ وَنَخَسَتْكُمُ الرِّمَاحُ. يَوْمُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ وَمَا يَوْمُ دَيْرِ الْجَمَاجِمِ ! بِهَا كَانَتِ الْمَعَارِكُ وَالْمَلَاحِمُ، بِضَرْبٍ يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ، وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ،
يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، يَا أَهْلَ
الْكَفَرَاتِ بَعْدَ الْفَجَرَاتِ، وَالْغَدَرَاتِ بَعْدَ الْخَتَرَاتِ،
وَالنَّزْوَةِ بَعْدَ النَّزَوَاتِ، إِنْ بَعَثْنَاكُمْ إِلَى ثُغُورِكُمْ
غَلَلْتُمْ وَخُنْتُمْ، وَإِنْ أَمِنْتُمْ أَرَجَفْتُمْ، وَإِنْ خِفْتُمْ
نَافَقْتُمْ، لَا تَذْكُرُونَ نِعْمَةً وَلَا تَشْكُرُونَ مَعْرُوفًا، هَلِ
اسْتَخَفَّكُمْ نَاكِثٌ أَوِ اسْتَغْوَاكُمْ غَاوٍ، أَوِ اسْتَنْقَذَكُمْ عَاصٍ،
أَوِ اسْتَنْصَرَكُمْ ظَالِمٌ، أَوِ اسْتَعْضَدَكُمْ خَالِعٌ إِلَّا لَبَّيْتُمْ
دَعْوَتَهُ، وَأَجَبْتُمْ صَيْحَتَهُ، وَنَفَرْتُمْ إِلَيْهِ خِفَافًا وَثِقَالًا،
وَفُرْسَانًا وَرِجَالًا؟ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، هَلْ شَغَبَ شَاغِبٌ أَوْ نَعَبَ
نَاعِبٌ، أَوْ زَفَرَ زَافِرٌ إِلَّا كُنْتُمْ أَتْبَاعَهُ وَأَنْصَارَهُ؟ يَا
أَهْلَ الْعِرَاقِ، أَلَمْ تَنْفَعْكُمُ الْمَوَاعِظُ؟ أَلَمْ تَزْجُرْكُمُ
الْوَقَائِعُ؟ أَلَمْ يُشَدِّدِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَطْأَتَهُ، وَيُذِقْكُمْ
حَرَّ سَيْفِهِ، وَأَلِيمَ بَأْسِهِ وَمَثُلَاتِهِ؟
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الشَّامِ، إِنَّمَا
أَنَا لَكُمْ كَالظَّلِيمِ الرَّامِحِ عَنْ فِرَاخِهِ، يَنْفِي عَنْهَا الْقَذَرَ،
وَيُبَاعِدُ عَنْهَا الْحَجَرَ، وَيُكِنُّهَا مِنَ الْمَطَرِ، وَيَحْمِيهَا مِنَ
الضَّبَابِ، وَيَحْرُسُهَا مِنَ الذُّبَابِ، يَا أَهْلَ الشَّامِ، أَنْتُمْ
الْجُنَّةُ وَالرِّدَاءُ، وَأَنْتُمُ
الْمُلَاءَةُ وَالْحِذَاءُ، أَنْتُمُ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَنْصَارُ، وَالشِّعَارُ
وَالدِّثَارُ، بِكُمْ يُذَبُّ عَنِ الْبَيْعَةِ وَالْحَوْزَةِ، وَبِكُمْ تُرْمَى
كَتَائِبُ الْأَعْدَاءِ، وَيُهْزَمُ مَنْ عَانَدَ وَتَوَلَّى.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، سَمِعْتُ شَيْخًا مِنْ
قُرَيْشٍ يُكَنَّى أَبَا بَكْرٍ التَّيْمِيَّ، قَالَ: كَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ
فِي خُطْبَتِهِ وَكَانَ لَسِنًا: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ مِنَ
الْأَرْضِ فَأَمْشَاهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا، فَأَكَلُوا ثِمَارَهَا، وَشَرِبُوا
أَنْهَارَهَا، وَهَتَكُوهَا بِالْمَسَاحِي وَالْمُرُورِ، ثُمَّ أَدَالَ اللَّهُ
الْأَرْضَ مِنْهُمْ فَرَدَّهُمْ إِلَيْهَا، فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ كَمَا أَكَلُوا
ثِمَارَهَا، وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ كَمَا شَرِبُوا أَنْهَارَهَا، وَقَطَّعَتْهُمْ
فِي جَوْفِهَا، وَفَرَّقَتْ أَوْصَالَهُمْ كَمَا هَتَكُوهَا بِالْمَسَاحِي
وَالْمُرُورِ.
وَمِمَّا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ
فِي الْمَوَاعِظِ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، رَجُلٌ
خَطَمَ نَفْسَهُ وَزَمَّهَا فَقَادَهَا بِخِطَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ،
وَكَفَّهَا بِزِمَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً رَدَّ
نَفْسَهُ، امْرَأً اتَّهَمَ نَفْسَهُ، امْرَأً
اتَّخَذَ نَفْسَهُ عَدُوَّهُ، امْرَأً
حَاسَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الْحِسَابُ إِلَى غَيْرِهِ، امْرَأً نَظَرَ
إِلَى مِيزَانِهِ، امْرَأً نَظَرَ إِلَى حِسَابِهِ، امْرَأً وَزَنَ عَمَلَهُ،
امْرَأً فَكَّرَ فِيمَا يَقْرَأُ غَدًا فِي صَحِيفَتِهِ، وَيَرَاهُ فِي
مِيزَانِهِ، وَكَانَ عِنْدَ قَلْبِهِ زَاجِرًا، وَعِنْدَ هَمِّهِ آمِرًا، امْرَأً
أَخَذَ بِعِنَانِ عَمَلِهِ كَمَا يَأْخُذُ بِعِنَانِ جَمَلِهِ، فَإِنْ قَادَهُ
إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَبِعَهُ وَإِنْ قَادَهُ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَفَّ،
امْرَأً عَقَلَ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ، امْرَأً فَاقَ وَاسْتَفَاقَ وَأَبْغَضَ
الْمَعَاصِيَ وَالنِّفَاقَ، وَكَانَ إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ بِالْأَشْوَاقِ.
فَمَا زَالَ يَقُولُ امْرَأً امْرَأً. حَتَّى بَكَى مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ
الشَّعْبِيُّ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ
أَحَدٌ; يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَى
الدُّنْيَا الْفَنَاءَ، وَعَلَى الْآخِرَةِ الْبَقَاءَ، فَلَا فَنَاءَ لِمَا
كُتِبَ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ، وَلَا بَقَاءَ لِمَا كُتِبَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ،
فَلَا يَغُرَنَّكُمْ شَاهِدُ الدُّنْيَا عَنْ غَائِبِ الْآخِرَةِ، وَاقْهَرُوا
طُولَ الْأَمَلِ بِقِصَرِ الْأَجَلِ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ عَمِّهِ
قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: وَقَذَتْنِي كَلِمَةٌ
سَمِعْتُهَا مِنَ الْحَجَّاجِ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ عَلَى هَذِهِ الْأَعْوَادِ:
إِنَّ امْرَأً ذَهَبَتْ سَاعَةٌ مِنْ عُمْرِهِ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ
لَحَرِيٌّ أَنْ تَطُولَ عَلَيْهَا حَسْرَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ
الْحَجَّاجُ يَوْمًا: مَنْ كَانَ لَهُ بَلَاءٌ أَعْطَيْنَاهُ عَلَى قَدْرِهِ.
فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَعْطِنِي فَإِنِّي قَتَلْتُ
الْحُسَيْنَ. فَقَالَ: وَكَيْفَ
قَتَلْتَهُ؟ قَالَ: دَسَرْتُهُ بِالرُّمْحِ دَسْرًا، وَهَبَرْتُهُ بِالسَّيْفِ
هَبْرًا، وَمَا أَشْرَكْتُ مَعِي فِي قَتْلِهِ أَحَدًا. فَقَالَ: اذْهَبْ،
فَوَاللَّهِ لَا تَجْتَمِعُ أَنْتَ وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَلَمْ يُعْطِهِ
شَيْئًا.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَجَّاجِ فَقَالَ: إِنَّ
أَخِي خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ، فَضُرِبَ عَلَى اسْمِي فِي الدِّيوَانِ،
وَمُنِعْتُ الْعَطَاءَ، وَقَدْ هُدِمَتْ دَارِي. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: أَمَا
سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
جَانِيكَ مَنْ يَجْنِي عَلَيْكَ وَقَدْ تُعْدِي الصِّحَاحَ مَبَارِكُ الْجُرْبِ
وَلَرُبَّ مَأْخُوذٍ بِذَنْبِ قَرِيبِهِ
وَنَجَا الْمُقَارِفُ صَاحِبُ الذَّنْبِ
فَقَالَ الرَّجُلُ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ غَيْرَ
هَذَا، وَقَوْلُ اللَّهِ أَصْدَقُ مِنْ هَذَا. قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: قَالُوا
يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا
مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ
إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [ يُوسُفَ:
78، 79 ]. قَالَ: يَا غُلَامُ، أَعِدِ اسْمَهُ فِي الدِّيوَانِ، وَابْنِ دَارَهُ،
وَأَعْطِهِ عَطَاءَهُ، وَمُرْ مُنَادِيًا يُنَادِي: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ
الشَّاعِرُ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ
إِلَى الْحَجَّاجِ أَنِ
ابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسِ أَسْلَمَ
بْنِ عَبْدٍ الْبَكْرِيِّ; لِمَا بَلَغَنِي عَنْهُ. فَأَحْضَرَهُ الْحَجَّاجُ،
فَقَالَ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أَنْتَ الشَّاهِدُ وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْغَائِبُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( الْحُجُرَاتِ: 6 ) وَمَا بَلَغَهُ
عَنِّي فَبَاطِلٌ، وَإِنِّي أَعُولُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ امْرَأَةً مَا لَهُنَّ
كَاسِبٌ غَيْرِي، وَهُنَّ بِالْبَابِ. فَأَمَرَ الْحَجَّاجُ بِإِحْضَارِهِنَّ،
فَلَمَّا حَضَرْنَ جَعَلَتْ هَذِهِ تَقُولُ: أَنَا خَالَتُهُ. وَهَذِهِ: أَنَا
عَمَّتُهُ. وَهَذِهِ: أَنَا أُخْتُهُ. وَهَذِهِ: أَنَا ابْنَتُهُ. وَهَذِهِ: أَنَا
زَوْجَتُهُ. وَتَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ جَارِيَةٌ فَوْقَ الثَّمَانِي وَدُونَ
الْعَشَرَةِ، فَقَالَ لَهَا الْحَجَّاجُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا
ابْنَتُهُ. ثُمَّ قَالَتْ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ، وَجَثَتْ عَلَى
رُكْبَتَيْهَا، وَقَالَتْ:
أَحَجَّاجُ لَمْ تَشْهَدْ مَقَامَ بَنَاتِهِ وَعَمَّاتِهِ يَنْدُبْنَهُ اللَّيْلَ
أَجْمَعَا
أَحَجَّاجُ كَمْ تَقْتُلْ بِهِ إِنْ قَتَلْتَهُ ثَمَانًا وَعَشْرًا وَاثْنَتَيْنِ
وَأَرْبَعَا
أَحَجَّاجُ مَنْ هَذَا يَقُومُ مَقَامَهُ عَلَيْنَا فَمَهْلًا أَنْ تَزِدْنَا
تَضَعْضُعَا
أَحَجَّاجُ إِمَّا أَنْ تَجُودَ بِنِعْمَةٍ عَلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ تُقَتِّلَنَا
مَعَا
قَالَ: فَبَكَى الْحَجَّاجُ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَعَنْتُ عَلَيْكُنَّ، وَلَا
زِدْتُكُنَّ تَضَعْضُعًا، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِمَا قَالَ
الرَّجُلُ، وَبِمَا قَالَتِ ابْنَتُهُ هَذِهِ، فَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى
الْحَجَّاجِ يَأْمُرُهُ بِإِطْلَاقِهِ وَحُسْنِ صِلَتِهِ، وَبِالْإِحْسَانِ إِلَى
هَذِهِ الْجَارِيَةِ، وَتَفَقُّدِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، الصَّبْرُ
عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللَّهِ. فَقَامَ
إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ، مَا أَصْفَقَ وَجْهَكَ،
وَأَقَلَّ حَيَاءَكَ، تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ وَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا
الْكَلَامِ؟ خِبْتَ وَضَلَّ سَعْيُكَ.
فَقَالَ لِلْحَرَسِ: خُذُوهُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ قَالَ لَهُ: مَا
الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ أَنْتَ تَجْتَرِئُ
عَلَى اللَّهِ وَلَا أَجْتَرِئُ أَنَا عَلَيْكَ! وَمَنْ أَنْتَ حَتَّى لَا
أَجْتَرِئَ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ تَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ. فَأُطْلِقَ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: أُتِيَ الْحَجَّاجُ بِأَسِيرَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ
الْأَشْعَثِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ لِي عِنْدَكَ
يَدًا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ الْأَشْعَثِ يَوْمًا أُمَّكَ،
فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: وَمَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ قَالَ: صَاحِبِي هَذَا.
فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ؟
قَالَ: بُغْضُكَ. قَالَ: أَطْلِقُوا هَذَا لِصِدْقِهِ، وَهَذَا لِفِعْلِهِ،
فَأَطْلَقُوهُمَا.
وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْحَجَّاجَ نَادَى فِي الْبَلَدِ; أَنَّ مَنْ خَرَجَ
بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ مِنْ بَيْتِهِ قُتِلَ، فَأُتِيَ لَيْلَةً بِرَجُلٍ،
فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكَ مِنْ بَيْتِكَ هَذِهِ السَّاعَةَ مِنْ بَعْدِ مَا
سَمِعْتَ الْمُنَادِيَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَكْذِبُ الْأَمِيرَ،
إِنَّ أُمِّي مَرِيضَةٌ هَالِكَةٌ، وَأَنَا عِنْدَهَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ،
فَلَمَّا كَانَ السَّاعَةُ أَفَاقَتْ، وَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَعْزِمُ
عَلَيْكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ إِلَّا مَضَيْتَ إِلَى أَهْلِكَ وَأَوْلَادِكَ،
فَإِنَّهُمْ مَغْمُومُونَ بِتَخَلُّفِكَ عَنْهُمْ. فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهَا،
فَأَخَذَنِي الْعَسَسُ وَأَتَوْا بِي إِلَيْكَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: نَنْهَاكُمْ
وَتَعْصُونَنَا. ثُمَّ أَمَرَ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِآخَرَ،
فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ: مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ
مَا أَكْذِبُكَ، إِنَّهُ كَانَ عِنْدِي
لِرَجُلٍ دَرَاهِمُ فَأَقْعَدَنِي
عَلَى بَابِهِ وَلَزِمَنِي، وَقَالَ: لَا أُفَارِقُكَ إِلَّا بِحَقِّي. فَلَمَّا
كَانَ هَذِهِ السَّاعَةُ دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَغْلَقَ بَابَهُ،
وَتَرَكَنِي عَلَى بَابِهِ، فَجَاءَنِي طَائِفُكَ فَأَخَذَنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ
الْحَجَّاجُ: اضْرِبُوا عُنُقَهُ. قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ بِآخَرَ، فَقَالَ لَهُ: مَا
أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ فَقَالَ: كُنْتُ أَشْرَبُ مَعَ قَوْمٍ، فَلَمَّا
سَكِرْتُ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَأَنَا لَا أَدْرِي، فَأَخَذُونِي إِلَيْكَ.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ لِرَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ: مَا أَرَاهُ إِلَّا صَادَقًا. ثُمَّ
قَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ. فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ الْأَعْرَابِيِّ فِيمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ
كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: جَحْدَرُ بْنُ مَالِكٍ. وَكَانَ
فَاتِكًا بِأَرْضِ الْيَمَامَةِ، فَأَرْسَلَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهَا
يُؤَنِّبُهُ وَيَلُومُهُ عَلَى عَدَمِ أَخْذِهِ، فَمَا زَالَ نَائِبُهَا فِي
طَلَبِهِ حَتَّى أَسَرَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ لَهُ
الْحَجَّاجُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا كُنْتَ تَصْنَعُهُ؟ فَقَالَ: جَرَاءَةُ
الْجَنَانِ، وَجَفَاءُ السُّلْطَانِ، وَكَلْبُ الزَّمَانِ، وَلَوِ اخْتَبَرَنِي
الْأَمِيرُ لَوَجَدَنِي مِنْ صَالِحِ الْأَعْوَانِ، وَبُهْمِ الْفُرْسَانِ،
وَلَوَجَدَنِي مِنْ أَصْلَحِ رَعِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنِّي مَا لَقِيتُ فَارِسًا
قَطُّ إِلَّا كُنْتُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِي مُقْتَدِرًا. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ:
إِنَّا قَاذِفُوكَ فِي حَائِرٍ فِيهِ أَسَدٌ عَاقِرٌ، فَإِنْ قَتَلَكَ كَفَانَا
مُؤْنَتَكَ، وَإِنْ قَتَلْتَهُ
خَلَّيْنَا سَبِيلَكَ. ثُمَّ
أَوْدَعَهُ السِّجْنَ مُقَيَّدًا مَغْلُولَةً يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ،
وَكَتَبَ الْحَجَّاجُ إِلَى نَائِبِهِ بِكَسْكَرَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِأَسَدٍ
عَظِيمٍ ضَارٍ، وَقَدْ قَالَ جَحْدَرٌ هَذَا فِي مَحْبَسِهِ هَذَا أَشْعَارًا
يَتَحَزَّنُ فِيهَا عَلَى امْرَأَتِهِ سُلَيْمَى أَمِّ عَمْرٍو، يَقُولُ فِي
بَعْضِهَا:
أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو وَإِيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي
بَلَى وَنَرَى الْهِلَالَ كَمَا تَرَاهُ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ إِذَا عَلَانِي
إِذَا جَاوَزْتُمَا نَخَلَاتِ حَجْرٍ وَأَوْدِيَةَ الْيَمَامَةِ فَانْعَيَانِي
وَقُولَا جَحْدَرٌ أَمْسَى رَهِينًا يُحَاذِرُ وَقْعَ مَصْقُولٍ يَمَانِي
فَلَمَّا قَدِمَ الْأَسَدُ عَلَى الْحَجَّاجِ أَمَرَ بِهِ فَجُوِّعَ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، ثُمَّ أُبْرِزَ إِلَى حَائِرٍ وَهُوَ الْبُسْتَانُ وَأَمَرَ بِجَحْدَرٍ،
فَأُخْرِجَ فِي قُيُودِهِ وَيَدُهُ الْيُمْنَى مَغْلُولَةٌ بِحَالِهَا، وَأُعْطِيَ
سَيْفًا فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، وَخُلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَسَدِ، وَجَلَسَ
الْحَجَّاجُ وَأَصْحَابُهُ فِي مَنْظَرَةٍ، وَأَقْبَلَ جَحْدَرٌ نَحْوَ الْأَسَدِ،
وَهُوَ يَقُولُ:
لَيْثٌ وَلَيْثٌ فِي مَجَالِ ضَنْكِ كِلَاهُمَا ذُو أَنَفٍ وَمَحْكِ
وَشِدَّةٍ فِي نَفْسِهِ وَفَتْكِ إِنْ يَكْشِفِ اللَّهُ قِنَاعَ الشَّكِّ
فَهْوَ أَحَقُّ مَنْزِلٍ بِتَرْكِ
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْأَسَدُ زَأَرَ زَأْرَةً شَدِيدَةً، وَتَمَطَّى
وَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، فَلَمَّا صَارَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ رُمْحٍ وَثَبَ الْأَسَدُ
عَلَىجَحْدَرٍ وَثْبَةً شَدِيدَةً، فَتَلَقَّاهُ جَحْدَرٌ بِالسَّيْفِ، فَضَرَبَهُ
ضَرْبَةً حَتَّى خَالَطَ ذُبَابُ السَّيْفِ لَهَوَاتِهِ، فَخَرَّ الْأَسَدُ
كَأَنَّهُ خَيْمَةٌ قَدْ
صَرَعَتْهَا الرِّيحُ، مِنْ شِدَّةِ
الضَّرْبَةِ، وَسَقَطَ جَحْدَرٌ مِنْ شِدَّةِ وَثْبَةِ الْأَسَدِ; وَشِدَّةِ
مَوْضِعِ الْقُيُودِ عَلَيْهِ، فَكَبَّرَ الْحَجَّاجُ وَكَبَّرَ أَصْحَابُهُ،
وَأَنْشَأَ جَحْدَرٌ يَقُولُ:
يَا جُمْلُ إِنَّكِ لَوْ رَأَيْتِ كَرِيهَتِي فِي يَوْمِ هَوْلٍ مُسْدِفٍ
وَعَجَاجِ
وَتَقَدُّمِي لِلَّيْثِ أَرْسُفُ مُوَثَقًا كَيْمَا أُثَاوِرَهُ عَلَى
الْأَحْرَاجِ
شَثْنٌ بَرَاثِنُهُ كَأَنَّ نُيُوبَهُ زُرْقُ الْمَعَاوِلِ أَوْ شِبَاهُ زُجَاجِ
يَسْمُو بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيهِمَا لَهَبًا أَحَدُّهُمَا شُعَاعُ سِرَاجِ
وَكَأَنَّمَا خِيطَتْ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ بَرْقَاءُ أَوْ خِرَقٌ مِنَ الدِّيبَاجِ
لَعَلِمْتِ أَنِّي ذُو حِفَاظٍ مَاجِدٌ مِنْ نَسْلِ أَقْوَامٍ ذَوِي أَبْرَاجِ
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَقَالَ:
عَلِمَ النِّسَاءُ بِأَنَّنِي لَا أَنْثَنِي إِذْ لَا يَثِقْنَ بِغَيْرَةِ
الْأَزْوَاجِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ كَرِهْتُ نِزَالَهُ أَنِّي مِنَ الْحَجَّاجِ لَسْتُ
بِنَاجِ
فَعِنْدَ ذَلِكَ خَيَّرَهُ الْحَجَّاجُ إِنْ شَاءَ أَقَامَ عِنْدَهُ، وَإِنْ شَاءَ
انْطَلَقَ إِلَى بِلَادِهِ، فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عِنْدَ الْحَجَّاجِ، فَأَحْسَنَ
جَائِزَتَهُ وَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا.
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ يَلْحَنُ فِي حُرُوفٍ
مِنَ الْقُرْآنِ أَنْكَرَهَا يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ; مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ
يُبْدِلُ " إِنِ " الْمَكْسُورَةَ بِ " أَنِ "
الْمَفْتُوحَةِ، وَعَكْسُهُ،
وَكَانَ يَقْرَأُ: قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ ( التَّوْبَةِ: 24
) فَيَقْرَؤُهَا بِرَفْعِ " أَحَبَّ ".
وَأَنْكَرَ يَوْمًا أَنْ يَكُونَ الْحُسَيْنُ مِنْ ذُرِّيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; لِكَوْنِهِ ابْنَ بِنْتِهِ، فَقَالَ لَهُ
يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ: كَذَبْتَ. فَقَالَ الْحَجَّاجُ: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى مَا
قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ. فَقَالَ:
قَالَ اللَّهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ:
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى ( الْأَنْعَامِ: 84، 85 ) فَعِيسَى مِنْ
ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَهُوَ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ مَرْيَمَ،
وَالْحُسَيْنُ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ الْحَجَّاجُ: صَدَقْتَ. وَنَفَاهُ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَغَيْرُهُ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ
يَسْأَلُهُ عَنْ أَمْسِ وَالْيَوْمَ وَغَدٍ، فَقَالَ لِلرَّسُولِ: أَكَانَ
خُوَيْلِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ عِنْدَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَكَتَبَ الْحَجَّاجُ
إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ: أَمَّا أَمْسِ فَأَجَلٌ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَعَمَلٌ،
وَأَمَّا غَدًا فَأَمَلٌ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ، عَنْ أَبِي
عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى قَالَ: لَمَّا قَتَلَ الْحَجَّاجُ ابْنَ
الْأَشْعَثِ، وَصَفَتْ لَهُ الْعِرَاقُ وَسَّعَ عَلَى النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ،
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّكَ تُنْفِقُ فِي الْيَوْمِ مَا لَا يُنْفِقُهُ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأُسْبُوعِ، وَتُنْفِقُ فِي الْأُسْبُوعِ مَا لَا يُنْفِقُهُ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الشَّهْرِ، ثُمَّ قَالَ مُنْشِدًا:
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي
الْأَمْرِ كُلِّهِ وَكُنْ لِوَعِيدِ اللَّهِ تَخْشَى وَتَضْرَعُ
وَوَفِّرْ خَرَاجَ الْمُسْلِمِينَ وَفَيْئَهُمْ وَكُنْ لَهُمُ حِصْنًا تُجِيرُ
وَتَمْنَعُ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ:
لَعَمْرِي لَقَدْ جَاءَ الرَّسُولُ بِكُتْبِكُمْ قَرَاطِيسَ تُمْلَى ثُمَّ تُطْوَى
فَتُطْبَعُ
كِتَابٌ أَتَانِي فِيهِ لِينٌ وَغِلْظَةٌ وَذُكِّرْتُ وَالذِّكْرَى لِذِي اللُّبِّ
تَنْفَعُ
وَكَانَتْ أُمُورٌ تَعْتَرِينِي كَثِيرَةٌ فَأَرْضَخُ أَوْ أَعْتَلُّ حِينًا
فَأَمْنَعُ
إِذَا كُنْتُ سَوْطًا مِنْ عَذَابٍ عَلَيْهِمُ وَلَمْ يَكُ عِنْدِي بِالْمَنَافِعِ
مَطْمَعُ
أَيَرْضَى بِذَاكَ النَّاسُ أَوْ يَسْخَطُونَهُ أَمُ احْمَدُ فِيهِمْ أَمْ أُلَامُ
فَأُقْذَعُ
وَكَانَتْ بِلَادٌ جِئْتُهَا حِينَ جِئْتُهَا بِهَا كُلُّ نِيرَانِ الْعَدَاوَةِ
تَلْمَعُ
فَقَاسَيْتُ مِنْهَا مَا عَلِمْتَ وَلَمْ أَزَلْ أُصَارِعُ حَتَّى كِدْتُ
بِالْمَوْتِ أُصْرَعُ
وَكَمْ أَرَجَفُوا مِنْ رَجْفَةٍ قَدْ سَمِعْتُهَا وَلَوْ كَانَ غَيْرِي طَارَ
مِمَّا يُرَوَّعُ
وَكُنْتُ إِذَا هَمُّوا بِإِحْدَى قَنَاتِهِمْ حَسَرْتُ لَهُمْ رَأْسِي وَلَا
أَتَقَنَّعُ
فَلَوْ لَمْ يَذُدْ عَنِّي صَنَادِيدُ مِنْهُمُ تُقَسِّمُ أَعْضَائِي ذِئَابٌ
وَأَضْبُعُ
قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ. وَقَالَ
التَّوْزِيُّ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسْتَوْرِدِ الْجُمَحِيِّ، قَالَ: أُتِيَ
الْحَجَّاجُ بِسَارِقٍ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ غَنِيًّا أَنْ يَأْتِيَكَ
الْحُكْمُ، فَيُبْطِلَ عَلَيْكَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ:
إِذَا قَلَّ ذَاتُ الْيَدِ سَخَتِ النَّفْسُ بِالْمَتَالِفِ. قَالَ: صَدَقْتَ، وَاللَّهِ
لَوْ كَانَ حُسْنُ اعْتِذَارٍ يُبْطِلُ
حَدًّا لَكُنْتُ لَهُ مُوضِعًا، يَا
غُلَامُ، سَيْفٌ صَارِمٌ وَرَجُلٌ قَاطِعٌ. فَقَطَعَ يَدَهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، عَنِ
الْفَرَّاءِ قَالَ: تَغَدَّى الْحَجَّاجُ يَوْمًا مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَلَمَّا انْقَضَى غَدَاؤُهُمَا دَعَاهُ الْوَلِيدُ إِلَى شُرْبِ
النَّبِيذِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْحَلَالُ مَا أَحْلَلْتَ،
وَلَكِنِّي أَنْهَى عَنْهُ أَهْلَ عَمَلِي، وَأَكْرَهُ أَنْ أُخَالِفَ قَوْلَ
الْعَبْدِ الصَّالِحِ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ
عَنْهُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ
إِلَى الْحَجَّاجِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي إِسْرَافِهِ فِي صَرْفِ الْأَمْوَالِ
وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ وَنَحْنُ
خُزَّانُهُ، وَسِيَّانَ مَنْعُ حَقٍّ وَإِعْطَاءُ بَاطِلٍ. وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ
الْكِتَابِ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَتْرُكْ أُمُورًا كَرِهْتَهَا وَتَطْلُبْ رِضَائِي فِي الَّذِي
أَنَا طَالِبُهْ
وَتَخْشَى الَّذِي يَخْشَاهُ مِثْلُكَ هَارِبًا إِلَى اللَّهِ مِنْهُ ضَيَّعَ
الدُّرَّ جَالِبُهْ
فَإِنْ تَرَ مِنِّي غَفْلَةً قُرَشِيَّةً فَيَا رُبَّمَا قَدْ غَصَّ بِالْمَاءِ
شَارِبُهْ
وَإِنْ تَرَ مِنِّي وَثْبَةً أُمَوِيَّةً فَهَذَا وَهَذَا كُلُّهُ أَنَا صَاحِبُهْ
فَلَا تَعْدُ مَا يَأْتِيكَ مِنِّي فَإِنْ تَعُدْ تَقُمْ فَاعْلَمَنْ يَوْمًا
عَلَيْكَ نَوَادِبُهْ
فَلَمَّا قَرَأَهُ الْحَجَّاجُ كَتَبَ: أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَاءَنِي كِتَابُ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَذْكُرُ فِيهِ سَرَفِي فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ،
فَوَاللَّهِ مَا بَالَغْتُ فِي عُقُوبَةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا قَضَيْتُ
حَقَّ أَهْلِ الطَّاعَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ سَرَفًا فَلْيُحِدَّ لِي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ حَدًّا أَنْتَهِي
إِلَيْهِ، وَلَا أَتَجَاوَزُهُ.
وَكَتَبَ فِي أَسْفَلِ الْكِتَابِ:
إِذَا أَنَا لَمْ أَطْلُبْ رِضَاكَ وَأَتَّقِي أَذَاكَ فَيَوْمِي لَا تَوَارَتْ
كَوَاكِبُهْ
إِذَا قَارَفَ الْحَجَّاجُ فِيكَ خَطِيئَةً فَقَامَتْ عَلَيْهِ فِي الصَّبَاحِ
نَوَادِبُهْ
أُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتَ مِنْ ذِي هَوَادَةٍ وَمَنْ لَمْ تُسَالِمْهُ فَإِنِّي
مُحَارِبُهْ
إِذَا أَنَا لَمْ أُدْنِ الشَّفِيقَ لِنُصْحِهِ وَأُقْصِ الَّذِي تَسْرِي إِلَيَّ
عَقَارِبُهْ
فَمَنْ يَتَّقِي يَوْمِي وَيَرْجُو إذًا غَدِي عَلَى مَا أَرَى وَالدَّهْرُ جَمٌّ
عَجَائِبُهْ
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لِلْغَازِ
بْنِ رَبِيعَةَ أَنْ يَسْأَلَ الْحَجَّاجَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ; هَلْ
يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا أَصَابَ مِنَ الدِّمَاءِ شَيْئًا؟ فَسَأَلَهُ كَمَا
أَمَرَهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِيلُبْنَانَ أَوْ سَنِيرًا
ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَكَانَ مَا أَبْلَانِي اللَّهُ مِنَ
الطَّاعَةِ.
فَصْلٌ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْكَلِمَاتِ النَّاقِصَةِ وَالْجَرَاءَةِ
الْبَالِغَةِ
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، ثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ
عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
اتَّقَوْا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ لَيْسَ فِيهَا
مَثْنَوِيَّةٌ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا
لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ،
وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ النَّاسَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ
فَخَرَجُوا مِنْ بَابٍ آخَرَ لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ،
وَاللَّهِ لَوْ أَخَذْتُ رَبِيعَةَ بِمُضَرَ لَكَانَ ذَلِكَ لِي مِنَ اللَّهِ
حَلَالًا، وَمَا عَذِيرِي مِنْ عَبْدِ هُذَيْلٍ يَزْعُمُ أَنَّ قُرْآنَهُ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا رَجَزٌ مِنْ رَجَزِ الْأَعْرَابِ مَا
أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَعَذِيرِي مِنْ هَذِهِ الْحَمْرَاءِ، يَزْعُمُ أَحَدُهُمْ يَرْمِي بِالْحَجَرِ
فَيَقُولُ: إِلَى أَنْ يَقَعَ الْحَجَرُ حَدَثَ أَمْرٌ. فَوَاللَّهِ
لَأَدَعَنَّهُمْ كَالْأَمْسِ الدَّابِرِ. قَالَ: فَذَكَرْتُهُ لِلْأَعْمَشِ،
فَقَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ سَمِعْتُهُ مِنْهُ.
وَرْوَرَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ
وَالْأَعْمَشِ، أَنَّهُمَا سَمِعَا الْحَجَّاجَ قَبَّحَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ،
وَفِيهِ: وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ،
فَخَرَجْتُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَحَلَّتْ لِي دِمَاؤُكُمْ، وَلَا أَجِدُ
أَحَدًا يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ،
وَلَأَحُكَّنَّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ وَلَوْ بِضِلْعِ خِنْزِيرٍ.
وَرْوَرَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ بِنَحْوِهِ وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْتُ عَبْدَ هُذَيْلٍ لَضَرَبْتُ
عُنُقَهُ. وَهَذَا مِنْ جَرَاءَةِ الْحَجَّاجِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ -
وَإِقْدَامِهِ عَلَى الْكَلَامِ
السَّيِّئِ وَالدِّمَاءِ الْحَرَامِ. وَإِنَّمَا نَقَمَ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ خَالَفَ الْقِرَاءَةَ عَلَى
الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، الَّذِي جَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عُثْمَانَ
وَمُوَافِقِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُبَشِّرٍ، عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ،
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا الصَّلْتُ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُ
الْحَجَّاجَ عَلَى مِنْبَرِ وَاسِطٍ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، لَوْ أَدْرَكْتُهُ لَأَسْقَيْتُ الْأَرْضَ مِنْ دَمِهِ.
قَالَ: وَسَمِعْتُهُ عَلَى مِنْبَرِ وَاسِطٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: وَهَبْ لِي
مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ
سُلَيْمَانُ لَحَسُودًا. وَهَذِهِ جَرَاءَةٌ عَظِيمَةٌ تُفْضِي بِهِ إِلَى
الْكُفْرِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَأَبْعَدَهُ وَأَقْصَاهُ.
وَمِنِ الطَّامَّاتِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ الطَّالْقَانِيُّ، ثَنَا جَرِيرٌ ( ح ). وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ
حَرْبٍ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ بَزِيعِ بْنِ خَالِدٍ الضَّبِّيِّ،
قَالَ: سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَخْطُبُ، فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: رَسُولُ
أَحَدِكُمْ فِي حَاجَتِهِ أَكْرَمُ عَلَيْهِ أَمْ خَلِيفَتُهُ فِي أَهْلِهِ؟
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أُصَلِّيَ خَلْفَكَ صَلَاةً
أَبَدًا، وَإِنْ وَجَدْتُ قَوْمًا يُجَاهِدُونَكَ لَأُجَاهِدَنَّكَ مَعَهُمْ.
زَادَ إِسْحَاقُ فِي حَدِيثِهِ: فَقَاتَلَ فِي الْجَمَاجِمِ حَتَّى قُتِلَ. فَإِنْ
صَحَّ هَذَا عَنْهُ فَظَاهِرُهُ
كُفْرٌ إِنْ أَرَادَ تَفْضِيلَ
مَنْصِبَ الْخِلَافَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ، أَوْ أَرَادَ أَنَّ الْخَلِيفَةَ مِنْ
بَنِي أُمَيَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الرَّسُولِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، ثَنَا أَبُو حَفْصٍ
الثَّقَفِيُّ، قَالَ: خَطَبَ الْحَجَّاجُ يَوْمًا فَأَقْبَلَ عَنْ يَمِينِهِ
فَقَالَ: أَلَا إِنَّ الْحَجَّاجَ كَافِرٌ، ثُمَّ أَطْرَقَ فَقَالَ: إِنَّ
الْحَجَّاجَ كَافِرٌ. ثُمَّ أَطْرَقَ فَأَقْبَلَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ: أَلَا
إِنَّ الْحَجَّاجَ كَافِرٌ. فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: كَافِرٌ يَا
أَهْلَ الْعِرَاقِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
ثَنَا ابْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: بَيْنَمَا الْحَجَّاجُ
يَخْطُبُنَا يَوْمًا، إِذْ قَالَ: الْحَجَّاجُ كَافِرٌ. قُلْنَا: مَا لَهُ؟ أَيُّ
شَيْءٍ يُرِيدُ؟ قَالَ: الْحَجَّاجُ كَافِرٌ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَالْبَغْلَةِ
الشَّهْبَاءِ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا
لِلْحَجَّاجِ: إِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يَعْرِفُ عَيْبَ نَفْسِهِ،
فَصِفْ لِي عَيْبَ نَفْسِكَ. فَقَالَ: اعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَبَى، فَقَالَ: أَنَا لَجُوجٌ حَقُودٌ حَسُودٌ. فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: مَا
فِي الشَّيْطَانِ شَرٌّ مِمَّا ذَكَرْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: إذًا
بَيْنَكَ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ نَسَبٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ نِقْمَةً عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ بِمَا
سَلَفَ لَهُمْ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْخُرُوجِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَخُذْلَانِهِمْ
لَهُمْ، وَعِصْيَانِهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ، وَالِافْتِيَاتِ
عَلَيْهِمْ.
قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ
مَنْ حَدَّثَهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ حَصَبُوا أَمِيرَهُمْ
فَخَرَجَ غَضْبَانَ، فَصَلَّى لَنَا صَلَاةً، فَسَهَا فِيهَا حَتَّى جَعَلَ
النَّاسُ يَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ. فَلَمَّا سَلَّمَ
أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ؟ فَقَامَ
رَجُلٌ، ثُمَّ قَامَ آخَرُ، ثُمَّ قُمْتُ أَنَا ثَالِثًا أَوْ رَابِعًا، فَقَالَ:
يَا أَهْلَ الشَّامِ، اسْتَعِدُّوا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
قَدْ بَاضَ فِيهِمْ وَفَرَّخَ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ قَدْ لَبَسُوا عَلَيْهِمْ
فَالْبِسْ عَلَيْهِمْ، وَعَجِّلْ عَلَيْهِمْ بِالْغُلَامِ الثَّقَفِيِّ، يَحْكُمُ
فِيهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَلَا
يَتَجَاوَزُ عَنْ مُسِيئِهِمْ. وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ " مُسْنَدِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَذْبَةَ الْحِمَّصِيِّ، عَنْ
عُمَرَ مِثْلَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكِ
بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
اللَّهُمَّ كَمَا ائْتَمَنْتُهُمْ فَخَانُونِي وَنَصَحْتُ لَهُمْ فَغَشُّونِي،
فَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ فَتَى ثَقِيفٍ الذَّيَّالَ الْمَيَّالَ يَأْكُلُ
خَضِرَتَهَا، وَيَلْبَسُ فَرْوَتَهَا، وَيَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِ
الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ: يَقُولُ الْحَسَنُ: وَمَا خُلِقَ الْحَجَّاجُ يَوْمَئِذٍ.
وَرَوَاهُ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ
مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ
الْحَدَثَانِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ
قَالَ: الشَّابُّ الذَّيَّالُ أَمِيرُ الْمِصْرَيْنِ، يَلْبَسُ فَرْوَتَهَا،
وَيَأْكُلُ خَضِرَتَهَا وَيَقْتُلُ أَشْرَافَ أَهْلِهَا، يَشْتَدُّ مِنْهُ
الْفَرَقُ، وَيَكْثُرُ مِنْهُ الْأَرَقُ، وَيُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَى شِيعَتِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ ":
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ
بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، ثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَسْعُودٍ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ
هَارُونَ، أَنْبَأَ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي
ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ لِرَجُلٍ: لَا مِتَّ حَتَّى تُدْرِكَ فَتَى
ثَقِيفٍ. قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا فَتَى ثَقِيفٍ؟ قَالَ:
لَيُقَالَنَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اكْفِنَا زَاوِيَةً مِنْ زَوَايَا
جَهَنَّمَ. رَجُلٌ يَمْلِكُ عِشْرِينَ أَوْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ - سَنَةً، لَا
يَدَعُ لِلَّهِ مَعْصِيَةً إِلَّا ارْتَكَبَهَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَبْقَ إِلَّا
مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَابٌ مُغْلَقٌ لَكَسَرَهُ
حَتَّى يَرْتَكِبَهَا، يَقْتُلُ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، ثَنَا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السَّدِّيُّ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ
الْأَجْلَحِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ سِنَانٍ
الْجَدَلِيَّةِ قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ عَلَى عَلِيٍّ
فَرَدَّهُ قُنْبُرٌ فَأَدْمَى أَنْفَهُ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَقَالَ: مَا لَكَ
وَلَهُ يَا أَشْعَثُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ بِعَبْدِ ثَقِيفٍ
تَمَرَّسْتَ لَاقْشَعَرَّتْ
شُعَيْرَاتُ اسْتِكَ. قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ عَبْدُ
ثَقِيفٍ؟ قَالَ: غُلَامٌ يَلِيهِمْ لَا يُبْقِي أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْعَرَبِ
إِلَّا أَلْبَسَهُمْ ذُلًّا. قِيلَ: كَمْ يَمْلِكُ؟ قَالَ: عِشْرِينَ إِنْ بَلَغَ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ، أَنْبَأَ الْحُسَيْنُ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ، ثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ يُوسُفَ التِّنِّيسِيُّ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَوْ جَاءَتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِخَبِيثِهَا
وَجِئْنَا بِالْحَجَّاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ،
عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ أَنَّهُ قَالَ: مَا بَقِيَتْ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ حُرْمَةٌ إِلَّا وَقَدِ ارْتَكَبَهَا الْحَجَّاجُ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ:إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا، وَقَدْ
ذَكَرْنَا شَأْنَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَهُوَ الْكَذَّابُ
الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَ يُظْهِرُ الرَّفْضَ أَوَّلًا،
وَيُبْطِنُ الْكُفْرَ الْمَحْضَ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَهُوَ الْحَجَّاجُ بْنُ
يُوسُفَ هَذَا، وَقَدْ كَانَ نَاصِبِيًّا يُبْغِضُ عَلِيًّا وَشِيعَتَهُ فِي هَوَى
آلِ مَرْوَانَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَكَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا مِقْدَامًا عَلَى
سَفْكِ الدِّمَاءِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَلْفَاظٌ بَشِعَةٌ شَنِيعَةٌ ظَاهِرُهَا الْكُفْرُ كَمَا
قَدَّمْنَا، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا، وَإِلَّا فَهُوَ
بَاقٍ فِي عُهْدَتِهَا، وَلَكِنْ قَدْ يُخْشَى أَنَّهَا رُوِيَتْ عَنْهُ بِنَوْعٍ
مِنْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ; فَإِنَّ الشِّيعَةَ كَانُوا
يُبْغِضُونَهُ جِدًّا لِوُجُوهٍ،
وَرُبَّمَا حَرَّفُوا عَلَيْهِ بَعْضَ الْكَلِمِ، وَزَادُوا فِيمَا يَحْكُونَهُ
عَنْهُ بَشَاعَاتٍ وَشَنَاعَاتٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَتَدَيَّنُ بِتَرْكِ الْمُسْكِرِ،
وَكَانَ يُكْثِرُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَيَتَجَنَّبُ الْمَحَارِمَ، وَلَمْ
يَشْتَهِرْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ التَّلَطُّخِ بِالْفُرُوجِ، وَإِنْ كَانَ
مُتَسَرِّعًا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ. فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
وَحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَسَائِرِهَا، وَخَفِيَّاتِ الصُّدُورِ وَضَمَائِرِهَا.
وَقَالَ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا الْجُرَيْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
طَرَارَا الْبَغْدَادِيُّ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الْأَنْبَارِيُّ،
ثَنَا أَبِي، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
السَّائِبِ الْكَلْبِيُّ، ثَنَا عَوَانَةُ بْنُ الْحَكَمِ الْكَلْبِيُّ، قَالَ:
دَخَلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَلَمَّا وَقَفَ
بَيْنَ يَدَيْهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِيهٍ إِيهٍ يَا أُنَيْسُ، يَوْمٌ
لَكَ مَعَ عَلِيٍّ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَوْمٌ لَكَ مَعَ
ابْنِ الْأَشْعَثِ، وَاللَّهِ لَأَسْتَأْصِلَنَّكَ كَمَا تُسْتَأْصَلُ
الشَّأْفَةُ، وَلَأَدْمَغَنَّكَ كَمَا تُدْمَغُ الصَّمْغَةُ. فَقَالَ أَنَسٌ:
إِيَّايَ يَعْنِي الْأَمِيرُ أَصْلَحَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: إِيَّاكَ، سَكَّ اللَّهُ
سَمْعَكَ. قَالَ أَنَسٌ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاللَّهِ
لَوْلَا الصِّبْيَةُ الصِّغَارُ مَا بَالَيْتُ
أَيَّ قِتْلَةٍ قُتِلْتُ، وَلَا أَيَّ
مِيتَةٍ مِتُّ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ الْحَجَّاجِ فَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُخْبِرُهُ بِمَا قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا
قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ كِتَابَ أَنَسٍ اسْتَشَاطَ غَضَبًا، وَصَفَّقَ عَجَبًا،
وَتَعَاظَمَ ذَلِكَ مِنَ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ كِتَابُ أَنَسٍ إِلَى عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَمَّا بَعْدُ; فَإِنَّ
الْحَجَّاجَ قَالَ لِي هُجْرًا، وَأَسْمَعَنِي نُكْرًا، وَلَمْ أَكُنْ لِذَلِكَ
أَهْلًا، فَخُذْ لِي عَلَى يَدَيْهِ، فَإِنِّي أَمُتُّ بِخِدْمَتِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُحْبَتِي إِيَّاهُ، وَالسَّلَامُ
عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فَبَعَثَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
الْمُهَاجِرِ وَكَانَ مُصَادِقًا لِلْحَجَّاجِ فَقَالَ لَهُ: دُونَكَ كِتَابَيَّ
هَذَيْنِ فَخُذْهُمَا، وَارْكَبِ الْبَرِيدَ إِلَى الْعِرَاقِ، وَابْدَأْ بِأَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَادْفَعْ كِتَابِي إِلَيْهِ، وَأَبْلِغْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَا
أَبَا حَمْزَةَ، قَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْحَجَّاجِ الْمَلْعُونِ كِتَابًا، إِذَا
قَرَأَهُ كَانَ أَطْوَعَ لَكَ مِنْ أَمَتِكَ. وَكَانَ كِتَابُ عَبْدِ الْمَلِكِ
إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ،
إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَمَّا بَعْدُ; فَقَدْ قَرَأْتُ كِتَابَكَ، وَفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَ
مِنْ شِكَايَتِكَ الْحَجَّاجَ، وَمَا سَلَّطْتُهُ عَلَيْكَ، وَلَا أَمَرْتُهُ
بِالْإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَإِنْ عَادَ لِمِثْلِهَا اكْتُبْ إِلَيَّ بِذَلِكَ
أُنْزِلْ بِهِ عُقُوبَتِي، وَتَحْسُنْ لَكَ مَعُونَتِي، وَالسَّلَامُ.
فَلَمَّا قَرَأَ أَنَسٌ كِتَابَهُ وَأُخْبِرَ بِرِسَالَتِهِ قَالَ: جَزَى اللَّهُ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِّي خَيْرًا، وَعَافَاهُ وَكَفَاهُ، وَكَافَأَهُ
بِالْجَنَّةِ، فَهَذَا كَانَ ظَنِّي بِهِ وَالرَّجَاءَ مِنْهُ.
فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ لِأَنَسٍ:
يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ الْحَجَّاجَ
عَامِلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ بِكَ عَنْهُ غِنًى، وَلَا بِأَهْلِ
بَيْتِكَ، وَلَوْ جُعِلَ لَكَ فِي جَامِعَةٍ ثُمَّ دُفِعَ إِلَيْكَ لَقَدَرَ أَنْ
يَضُرَّ وَيَنْفَعَ، فَقَارِبْهُ وَدَارِهِ; تَعِشْ مَعَهُ بِخَيْرٍ وَسَلَامٍ.
فَقَالَ أَنَسٌ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ
عِنْدِهِ فَدَخَلَ عَلَى الْحَجَّاجِ، فَلَمَّا رَآهُ الْحَجَّاجُ قَالَ:
مَرْحَبًا بِرَجُلٍ أُحِبُّهُ وَكُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَهُ. فَقَالَ إِسْمَاعِيلُ:
أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أُحِبُّ لِقَاءَكَ فِي غَيْرِ مَا أَتَيْتُكَ بِهِ.
فَتَغَيَّرَ لَوْنُ الْحَجَّاجِ، وَقَالَ: مَا أَتَيْتَنِي بِهِ؟ قَالَ: فَارَقْتُ
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ أَشَدُّ النَّاسِ عَلَيْكَ غَضَبًا، وَمِنْكَ
بُعْدًا. قَالَ: فَاسْتَوَى الْحَجَّاجُ جَالِسًا مَرْعُوبًا فَرَمَى إِلَيْهِ
إِسْمَاعِيلُ بِالطُّومَارِ، فَجَعَلَ الْحَجَّاجُ يَنْظُرُ فِيهِ مَرَّةً
وَيَعْرَقُ، وَيَنْظُرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ أُخْرَى، فَلَمَّا نَقَضَهُ قَالَ:
قُمْ بِنَا إِلَى أَبِي حَمْزَةَ نَعْتَذِرُ إِلَيْهِ وَنَتَرَضَّاهُ. فَقَالَ
لَهُ إِسْمَاعِيلُ: لَا تَعْجَلْ. فَقَالَ: كَيْفَ لَا أَعْجَلُ، وَقَدْ
أَتَيْتَنِي بِآبِدَةٍ؟
وَكَانَ فِي الطُّومَارِ: إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، أَمَّا بَعْدُ; فَإِنَّكَ عَبْدٌ
طَمَتْ بِكَ الْأُمُورُ فَسَمَوْتَ فِيهَا، وَعَدَوْتَ طَوْرَكَ، وَجَاوَزْتَ
قَدْرَكَ، وَرَكِبْتَ دَاهِيَةً إِدًّا، وَأَرَدْتَ أَنْ تَبُورَنِي، فَإِنْ
سَوَّغْتُكَهَا مَضَيْتَ قُدُمًا، وَإِنْ لَمْ أُسَوِّغْهَا
رَجَعْتَ الْقَهْقَرَى، فَلَعَنَكَ
اللَّهُ عَبْدًا أَخْفَشَ الْعَيْنَيْنِ، مَنْقُوصَ الْجَاعِرَتَيْنِ، أَنَسِيتَ
مَكَاسِبَ آبَائِكَ بِالطَّائِفِ، وَحَفْرَهُمُ الْآبَارَ، وَنَقْلَهُمُ
الصُّخُورَ عَلَى ظُهُورِهِمْ فِي الْمَنَاهِلِ؟ يَا ابْنَ الْمُسْتَفْرِمَةِ
بِعُجْمِ الزَّبِيبِ، وَاللَّهِ لَأَغْمِزَنَّكَ غَمْزَ اللَّيْثِ الثَّعْلَبَ،
وَالصَّقْرَ الْأَرْنَبَ، وَثَبْتَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، فَلَمْ تَقْبَلْ لَهُ
إِحْسَانَهُ، وَلَمْ تَجَاوَزْ لَهُ إِسَاءَتَهُ، جُرْأَةً مِنْكَ عَلَى الرَّبِّ
عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتِخْفَافًا مِنْكَ بِالْعَهْدِ، وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ
الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى رَأَتْ رَجُلًا خَدَمَ عُزَيْرَ بْنَ عِزْرَا وَعِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ لَعَظَّمَتْهُ وَشَرَّفَتْهُ وَأَكْرَمَتْهُ، فَكَيْفَ وَهَذَا
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثَمَانِيَ سِنِينَ، يُطْلِعُهُ عَلَى سِرِّهِ، وَيُشَاوِرُهُ فِي أَمْرِهِ، ثُمَّ هُوَ
مَعَ هَذَا بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا أَصْحَابِهِ، فَإِذَا قَرَأْتَ كِتَابِي هَذَا
فَكُنْ أَطْوَعَ لَهُ مِنْ خُفِّهِ وَنَعْلِهِ، وَإِلَّا أَتَاكَ مِنِّي سَهْمٌ
مُثْكَلٌ بِحَتْفٍ قَاضٍ، وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ طَرَارَا عَلَى مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ
الْغَرِيبِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزُّبَيْرِ يَعْنِي
ابْنَ عَدِيٍّ قَالَ:شَكَوْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ مَا نَلْقَى مِنَ
الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا; فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ أَوْ
يَوْمٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ عَزَّ
وَجَلَّ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ وَهُوَ
الثَّوْرِيُّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَا يَأْتِي
عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ الْحَدِيثَ. قُلْتُ:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَرْوِي هَذَا الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى فَيَقُولُ: كُلُّ
عَامٍ تَرْذُلُونَ. وَهَذَا اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ
مِنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى
الْحَجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
أَبِي السَّفْرِ قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُمْ
لَتَمَنَّوُنَّ الْحَجَّاجَ. وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: قِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّكَ
تَقُولُ: الْآخِرُ شَرٌّ مِنَ الْأَوَّلِ. وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بَعْدَ الْحَجَّاجِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ تَنْفِيسَاتٍ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ بَعَثَ الْحَجَّاجُ إِلَى الْحَسَنِ وَقَدْ
هَمَّ بِهِ، فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: يَا حَجَّاجُ، كَمْ بَيْنَكَ
وَبَيْنَ آدَمَ مِنْ أَبٍ؟ قَالَ: كَثِيرٌ. قَالَ: فَأَيْنَ
هُمْ ؟ قَالَ: مَاتُوا. قَالَ: فَنَكَّسَ
الْحَجَّاجُ رَأْسَهُ، وَخَرَجَ الْحَسَنُ.
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: إِنَّ الْحَجَّاجَ أَرَادَ قَتْلَ الْحَسَنِ
مِرَارًا، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْهُ. وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مَعَهُ مُنَاظَرَاتٍ،
عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى الْخُرُوجَ عَلَيْهِ، وَكَانَ
يَنْهَى أَصْحَابَ ابْنِ الْأَشْعَثِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَعَهُمْ
مُكْرَهًا، كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ نِقْمَةٌ،
فَلَا تُقَابَلُ نِقْمَةُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ، وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ وَالسَّكِينَةِ
وَالتَّضَرُّعِ.
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَضِرِ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ
قَالَ: أُتِيَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِرَجُلٍ مِنَ الْخَوَارِجِ،
فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَأَثْنَى خَيْرًا، قَالَ:
فَعُثْمَانَ؟ فَأَثْنَى خَيْرًا، حَتَّى قِيلَ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ؟ فَقَالَ: الْآنَ جَاءَتِ الْمَسْأَلَةُ، مَا أَقُولُ
فِي رَجُلٍ الْحَجَّاجُ خَطِيئَةٌ مِنْ خَطَايَاهُ؟
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، قَالَ: أُتِيَ
الْحَجَّاجُ بِامْرَأَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُهَا وَهِيَ لَا
تَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلَا تَرُدُّ عَلَيْهِ كَلَامًا، فَقَالَ لَهَا بَعْضُ
الشُّرَطِ: يُكَلِّمُكِ الْأَمِيرُ وَأَنْتِ مُعْرِضَةٌ عَنْهُ؟ فَقَالَتْ: إِنِّي
لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَنْظُرَ إِلَى مَنْ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ
إِلَيْهِ. فَأَمَرَ بِهَا فَقُتِلَتْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ كَيْفِيَّةَ مَقْتَلِ
الْحَجَّاجِ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمَا دَارَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْكَلَامِ
وَالْمُرَاجَعَةِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبُو ظَفَرٍ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ بِسْطَامَ
بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: خَرَجْتَ
عَلَى الْحَجَّاجِ؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ عَلَيْهِ حَتَّى كَفَرَ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بَعْدَهُ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا اسْمُهُ
مَاهَانُ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ قَبْلَهُ خَلْقًا كَثِيرًا، أَكْثَرُهُمْ مِمَّنْ
خَرَجَ مَعَ ابْنِ الْأَشْعَثِ.
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ
سَلْمٍ الْبَلْخِيُّ، ثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ،
قَالَ: أَحْصَوْا مَا قَتَلَ الْحَجَّاجُ صَبْرًا فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفًا. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عَبَّادِ
بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ قَحْذَمٍ، قَالَ: أَطْلَقَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ أَحَدًا وَثَمَانِينَ أَلْفَ أَسِيرٍ، وَعُرِضَتِ
السُّجُونُ بَعْدَ الْحَجَّاجِ فَوَجَدُوا فِيهَا ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا،
لَمْ يَجِبْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطْعٌ وَلَا صَلْبٌ، وَكَانَ فِي مَنْ حُبِسَ
أَعْرَابِيٌّ وُجِدَ يَبُولُ فِي أَصْلِ رَبَضِ مَدِينَةِ وَاسِطٍ، وَكَانَ فِي
مَنْ أُطْلِقُ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
إِذَا نَحْنُ جَاوَزْنَا مَدِينَةَ وَاسِطٍ خَرَيْنَا وَصَلَّيْنَا بِغَيْرِ حِسَابِ
وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ مَعَ هَذَا الْعُنْفِ الشَّدِيدِ لَا يَسْتَخْرِجُ مِنْ
خَرَاجِ الْعِرَاقِ كَبِيرَ أَمْرٍ. قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمُ
الْحَرْبِيُّ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ، ثَنَا
صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَوْ تَخَابَثَتِ الْأُمَمُ وَجِئْنَا
بِالْحَجَّاجِ لَغَلَبْنَاهُمْ، وَمَا كَانَ يَصْلُحُ لِدُنْيَا وَلَا لِآخِرَةٍ،
لَقَدْ وَلِيَ الْعِرَاقَ وَهُوَ أَوْفَرُ مَا يَكُونُ فِي الْعِمَارَةِ،
فَأَخَسَّ بِهِ حَتَّى صَيَّرَهُ إِلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَلَقَدْ
أُدِّيَ إِلَيَّ فِي عَامِي هَذَا ثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفٍ، وَإِنْ بَقِيتُ إِلَى
قَابِلٍ رَجَوْتُ أَنْ يُؤَدَّى إِلَيَّ مَا أُدِّيَ إِلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ ; مِائَةُ أَلْفِ أَلْفٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ أَلْفٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئِ: ثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ، ثَنَا عَمْرُو
بْنُ عُثْمَانَ، ثَنَا أَبِي سَمِعْتُ جَدِّي قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ أَرْطَاةَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَسْتَنُّ بِسَنَنِ
الْحَجَّاجِ فَلَا تَسْتَنَّ بِسَنَنِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الصَّلَاةَ
لِغَيْرِ وَقْتِهَا، وَيَأْخُذُ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهَا، وَكَانَ لِمَا
سِوَى ذَلِكَ أَضْيَعَ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَسَدٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
عَنِ الرَّيَّانِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: بَعَثَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بِآلِ أَبِي عَقِيلٍ أَهْلِ بَيْتِ الْحَجَّاجِ إِلَى صَاحِبِ الْيَمَنِ، وَكَتَبَ
إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ بِآلِ أَبِي عَقِيلٍ وَهُمْ
شَرُّ بَيْتٍ فِي الْعَرَبِ، فَفَرِّقْهُمْ فِي الْعَمَلِ عَلَى قَدْرِ
هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْنَا، وَعَلَيْكَ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا
نَفَاهُمْ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُخَيْمِرَةَ يَقُولُ: كَانَ
الْحَجَّاجُ يَنْقُضُ
عُرَى الْإِسْلَامِ. وَذَكَرَ
حِكَايَةً. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ: لَمْ يُبْقِ
لِلَّهِ حُرْمَةً إِلَّا ارْتَكَبَهَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ. وَقَالَ يَحْيَى
بْنُ عِيسَى الرَّمْلِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ: اخْتَلَفُوا فِي الْحَجَّاجِ،
فَسَأَلُوا مُجَاهِدًا، فَقَالَ: تَسْأَلُونِي عَنِ الشَّيْخِ الْكَافِرِ؟
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْحَجَّاجُ مُؤْمِنٌ
بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ، كَافِرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ. كَذَا قَالَ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: عَجَبًا لِإِخْوَانِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ; يُسَمُّونَ
الْحَجَّاجَ مُؤْمِنًا ! وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ: سَمِعْتُ أَبَا
وَائِلٍ يُسْأَلُ عَنِ الْحَجَّاجِ: أَتَشْهَدُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟
قَالَ: أَتَأْمُرُونِي أَنْ أَشْهَدَ عَلَى اللَّهِ الْعَظِيمِ. وَقَالَ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ لَعْنِ الْحَجَّاجِ
أَوْ بَعْضِ الْجَبَابِرَةِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: أَلَا لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( هُودٍ: 18 ) ؟ وَبِهِ; قَالَ إِبْرَاهِيمُ: وَكَفَى
بِالرَّجُلِ عَمًى أَنْ يَعْمَى عَنْ أَمْرِ الْحَجَّاجِ.
وَقَالَ سَلَامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ: لَأَنَا لِلْحَجَّاجِ أَرْجَى مِنِّي
لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ; لَأَنَّ الْحَجَّاجَ قَتَلَ
النَّاسَ عَلَى الدُّنْيَا، وَعَمْرُو
بْنُ عُبَيْدٍ أَحْدَثَ لِلنَّاسِ بِدْعَةً، فَقَتَلَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا. وَقَالَ الزِّبْرِقَانُ: سَبَبْتُ الْحَجَّاجَ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي
وَائِلٍ، فَقَالَ: لَا تَسُبُّهُ; لَعَلَّهُ قَالَ يَوْمًا: اللَّهُمَّ
ارْحَمْنِي. فَيَرْحَمُهُ، إِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ مَنْ يَقُولُ: أَرَأَيْتَ أَرَأَيْتَ.
وَقَالَ عَوْفٌ: ذُكِرَ الْحَجَّاجُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، فَقَالَ:
مِسْكِينٌ أَبُو مُحَمَّدٍ; إِنْ يُعَذِّبْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَبِذَنْبِهِ،
وَإِنْ يَغْفِرْ لَهُ فَهَنِيئًا لَهُ، وَإِنْ يَلْقَ اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ،
فَقَدْ أَصَابَ الذُّنُوبَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. فَقِيلَ لَهُ: مَا الْقَلْبُ
السَّلِيمُ؟ قَالَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ
قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.
وَقَالَ أَبُو قَاسِمٍ الْبَغَوِيُّ: ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ،
قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: اشْهَدْ عَلَى الْحَجَّاجِ وَعَلَى
أَبِي مُسْلِمٍ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ. قَالَ: لَا، إِذَا أَقَرَّا
بِالتَّوْحِيدِ. وَقَالَ الرِّيَاشِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْأَزْرَقُ، عَنِ
السِّرِّيِّ بْنِ يَحْيَى قَالَ: مَرَّ الْحَجَّاجُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ فَسَمِعَ
اسْتِغَاثَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: أَهْلُ السُّجُونِ يَقُولُونَ:
قَتَلَنَا الْحَرُّ. فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ: اخْسَئُوا فِيهَا
وَلَا تُكَلِّمُونَ. قَالَ: فَمَا
عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَقَلَّ مِنْ جُمُعَةٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَأْتِي الْجُمُعَةَ، وَقَدْ كَادَ يَهْلِكُ مِنَ الْعِلَّةِ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمَّا مَرِضَ الْحَجَّاجُ أَرْجَفَ النَّاسُ بِمَوْتِهِ،
فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: إِنْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ
نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، فَقَالُوا: مَاتَ الْحَجَّاجُ، وَمَاتَ
الْحَجَّاجُ. فَمَهْ، وَهَلْ يَرْجُو الْحَجَّاجُ الْخَيْرَ إِلَّا بَعْدَ
الْمَوْتِ؟ وَاللَّهُ مَا يَسُرُّنِي أَنْ لَا أَمُوتَ وَأَنَّ لِيَ الدُّنْيَا
وَمَا فِيهَا، وَمَا رَأَيْتُ اللَّهَ رَضِيَ التَّخْلِيدَ إِلَّا لِأَهْوَنِ
خَلْقِهِ عَلَيْهِ إِبْلِيسَ، قَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ [
الْأَعْرَافِ: 15 ]. فَأَنْظَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَلَقَدْ دَعَا اللَّهُ
الْعَبْدَ الصَّالِحَ، فَقَالَ: وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِي [ ص: 35 ]. فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا الْبَقَاءَ، فَمَا عَسَى
أَنْ يَكُونَ أَيُّهَا الرَّجُلُ، وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الرَّجُلُ، كَأَنِّي
وَاللَّهِ بِكُلِّ حَيٍّ مِنْكُمْ مَيِّتًا، وَبِكُلِّ رَطْبٍ يَابِسًا، ثُمَّ
نُقِلَ فِي ثِيَابِ أَكْفَانِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ طُولًا فِي ذِرَاعٍ
عَرْضًا، فَأَكَلَتِ الْأَرْضُ لَحْمَهُ، وَمَصَّتْ صَدِيدَهُ، وَانْصَرَفَ
الْحَبِيبُ مِنْ وَلَدِهِ يَقْسِمُ الْحَبِيبَ مِنْ مَالِهِ، إِنَّ الَّذِينَ
يَعْقِلُونَ يَعْقِلُونَ مَا أَقُولُ. ثُمَّ نَزَلَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِشَامِ بْنِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى الْغَسَّانِيُّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ:
مَا حَسَدْتُ الْحَجَّاجَ عَدُوَّ اللَّهِ عَلَى شَيْءٍ
حَسَدِي إِيَّاهُ عَلَى حُبِّهِ
الْقُرْآنَ وَإِعْطَائِهِ أَهْلَهُ، وَقَوْلِهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ
الْمَاجِشُونُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ يُبْغِضُ الْحَجَّاجَ، فَنَفَسَ عَلَيْهِ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا
عِنْدَ الْمَوْتِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّكَ لَا
تَفْعَلُ. قَالَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ: قِيلَ لِلْحَسَنِ:
إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: أَقَالَهَا؟
قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: عَسَى. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ، عَنِ
الرِّيَاشِيِّ، عَنِ الْأَصْمَعِيِّ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتِ الْحَجَّاجَ
الْوَفَاةُ أَنْشَأَ يَقُولُ:
يَا رَبِّ قَدْ حَلَفَ الْأَعْدَاءُ وَاجْتَهَدُوا بِأَنَّنِي رَجُلٌ مِنْ
سَاكِنِي النَّارِ
أَيَحْلِفُونَ عَلَى عَمْيَاءَ وَيْحَهُمُ مَا عِلْمُهُمْ بِعَظِيمِ الْعَفْوِ
غَفَّارِ
قَالَ: فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ فَقَالَ: تَاللَّهِ إِنْ نَجَا فَبِهِمَا.
وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ:
إِنَّ الْمَوَالِيَ إِذَا شَابَتْ عَبِيدُهُمْ فِي رِقِّهِمْ عَتَقُوهُمْ عِتْقَ
أَبْرَارِ
وَأَنْتَ يَا خَالِقِي أَوْلَى بِذَا كَرَمًا قَدْ شِبْتُ فِي الرِّقِّ
فَاعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ لَمْ
يُعْلَمْ بِمَوْتِهِ حَتَّى أَشْرَفَتْ جَارِيَةٌ فَبَكَتْ، فَقَالَتْ: أَلَا
إِنَّ مُطْعِمَ الطَّعَامِ وَمُفَلِّقَ الْهَامِ، وَسَيِّدَ أَهْلِ الشَّامِ قَدْ
مَاتَ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تَقُولُ:
الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا وَالْيَوْمَ يَأْمَنُنَا مَنْ كَانَ
يَخْشَانَا
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّهُ أُخْبِرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ مِرَارًا، فَلَمَّا تَحَقَّقَ وَفَاتَهُ
قَالَ: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ( الْأَنْعَامِ: 45 ).
وَرَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْحَسَنَ لَمَّا بُشِّرَ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ
سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مُخْتَفِيًا فَظَهَرَ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ أَمَتَّهُ فَأَذْهِبْ عَنَّا سُنَّتَهُ. وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمَانَ: لَمَّا أَخْبَرْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ بِمَوْتِ الْحَجَّاجِ
بَكَى مِنَ الْفَرَحِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْخٍ، ثَنَا صَالِحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ
زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ الْحَارِثِيُّ لِأَهْلِ السِّجْنِ: يَمُوتُ الْحَجَّاجُ
فِي مَرَضِهِ هَذَا فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا. فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ
اللَّيْلَةُ لَمْ يَنَمْ أَهْلُ السِّجْنِ فَرَحًا، جَلَسُوا يَنْتَظِرُونَ حَتَّى
سَمِعُوا الْوَاعِيَةَ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ، وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَقِيلَ: فِي
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. وَكَانَ عُمْرُهُ إِذْ
ذَاكَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً; لِأَنَّ مَوْلِدَهُ كَانَ عَامَ الْجَمَاعَةِ
سَنَةَ أَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: بَعْدَهَا بِسَنَةٍ. وَقِيلَ: قَبْلَهَا بِسَنَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مَاتَ بِوَاسِطٍ، وَعُفِيَ قَبْرُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ الْمَاءُ لِكَيْلَا
يُنْبَشَ وَيُحْرَقَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَا كَانَ أَعْجَبَ الْحَجَّاجَ، مَا تَرَكَ إِلَّا
ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
قَرِيبٍ، ثَنَا عَمِّي قَالَ: زَعَمُوا أَنَّ الْحَجَّاجَ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ
إِلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمُصْحَفًا، وَسَيْفًا، وَسَرْجًا، وَرَحْلًا،
وَمِائَةَ دِرْعٍ مَوْقُوفَةٍ. وَقَالَ شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي
يَزِيدُ بْنُ حَوْشَبٍ قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ
فَقَالَ: حَدِّثْنِي بِوَصِيَّةِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ. فَقُلْتُ: اعْفِنِي
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: حَدِّثْنِي بِهَا. فَقُلْتُ: بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ،
أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ إِلَّا طَاعَةَ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَيْهَا يَحْيَا، وَعَلَيْهَا يَمُوتُ،
وَعَلَيْهَا يُبْعَثُ، وَأَوْصَى بِتِسْعِمِائَةِ دِرْعٍ حَدِيدٍ; سِتِّمِائَةٍ
مِنْهَا لِمُنَافِقِي أَهْلِ الْعِرَاقِ يَغْزُونَ بِهَا، وَثَلَاثِمِائَةٍ
لِلتُّرْكِ. قَالَ: فَرَفَعَ أَبُو جَعْفَرٍ رَأْسَهُ إِلَى أَبِي الْعَبَّاسِ
الطُّوسِيِّ وَكَانَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ
الشِّيعَةُ لَا شِيعَتُكُمْ.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ فِي الْمَنَامِ
فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: قَتَلَنِي بِكُلِّ قَتْلَةٍ قَتَلْتُ
بِهَا إِنْسَانًا. قَالَ: ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ الْحَوْلِ فَقُلْتُ:
يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَا صَنَعَ
اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ، أَمَا سَأَلْتَ عَنْ هَذَا
عَامَ أَوَّلَ؟ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ كُنْتُ عِنْدَ الرَّشِيدِ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، رَأَيْتُ
الْحَجَّاجَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ، قَالَ: فِي أَيِّ زِيٍّ رَأَيْتَهُ؟
قَالَ: فِي زِيٍّ قَبِيحٍ. فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: مَا
أَنْتَ وَذَاكَ يَا مَاصَّ بَظْرِ أُمِّهِ؟ فَقَالَ هَارُونُ: صَدَقْتَ وَاللَّهِ،
أَنْتَ رَأَيْتَ الْحَجَّاجَ حَقًّا، مَا كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ لِيَدَعَ
صَرَامَتَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَقَالَ حَنْبَلُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
ثَنَا ابْنُ شَوْذَبٍ، عَنْ أَشْعَثَ الْحُدَّانِيِّ. قَالَ: رَأَيْتُ الْحَجَّاجَ
فِي الْمَنَامِ فِي حَالَةٍ سَيِّئَةٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا صَنَعَ
بِكَ رَبُّكَ؟ قَالَ: مَا قَتَلْتُ أَحَدًا قِتْلَةً إِلَّا قَتَلَنِي بِهَا. فَقُلْتُ:
ثُمَّ مَهْ. قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ بِي إِلَى النَّارِ. قُلْتُ: ثُمَّ مَهْ. قَالَ:
ثُمَّ أَرْجُو مَا يَرْجُو أَهْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ: وَكَانَ
ابْنُ سِيرِينَ يَقُولُ: إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ
فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَيُخْلِفَنَّ اللَّهُ رَجَاءَهُ فِيهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا سُلَيْمَانَ
الدَّارَانِيَّ يَقُولُ: كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا
إِلَّا ذَكَرَ فِيهِ الْحَجَّاجَ فَدَعَا عَلَيْهِ، قَالَ: فَرَآهُ
فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ
الْحَجَّاجُ؟ قَالَ: أَنَا الْحَجَّاجُ. قَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ:
قُتِلْتُ بِكُلِّ قَتِيلٍ قَتَلْتُهُ، ثُمَّ عُزِلْتُ مَعَ الْمُوَحِّدِينَ.
قَالَ: فَأَمْسَكَ الْحَسَنُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ شَتْمِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ النَّخَعِيُّ
قَالَ: كُنَّا إِذَا حَضَرْنَا جِنَازَةً، أَوْ سَمِعْنَا بِمَيِّتٍ عُرِفَ ذَلِكَ
فِينَا أَيَّامًا; لِأَنَّا قَدْ عَرَفْنَا أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ صَيَّرَهُ
إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّكُمْ فِي جَنَائِزِكُمْ
تَتَحَدَّثُونَ بِأَحَادِيثَ دُنْيَاكُمْ. وَقَالَ: لَا يَسْتَقِيمُ رَأْيٌ إِلَّا
بِرِوَايَةٍ، وَلَا رِوَايَةٌ إِلَّا بِرَأْيٍ.
وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَهَاوَنُ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى
فَاغْسِلْ يَدَيْكَ مِنْ فَلَاحِهِ.
وَقَالَ إِنِّي لَأَرَى الشَّيْءَ مِمَّا يُعَابُ فَلَا يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِهِ
إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ أُبْتَلَى بِهِ. وَبَكَى عِنْدَ مَوْتِهِ فَقِيلَ لَهُ: مَا
يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: انْتِظَارُ مَلَكِ الْمَوْتِ، مَا أَدْرِي يُبَشِّرُنِي
بِجَنَّةٍ، أَوْ بِنَارٍ.
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
كُنْيَتُهُ أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ الْمُقَدَّمَ عَلَى إِخْوَتِهِ فِي الْفَضْلِ،
وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالِاخْتِلَافِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ، وَكَانَ
مِنْ
ظُرَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ
وَعُقَلَائِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ. قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ
وَغَيْرُهُ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ. وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ
رِسَالَةً ثُمَّ نَدِمَ عَلَيْهَا.
وَقَالَ غَيْرُهُمْ: كَانَ يَتَوَقَّفُ فِي عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ،
وَالزُّبَيْرِ، فَلَا يَتَوَلَّاهُمْ، وَلَا يَذُمُّهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
أَبَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ ضَرَبَهُ فَشَجَّهُ، وَقَالَ: وَيْحَكَ،
أَلَا تَتَوَلَّى أَبَاكَ عَلِيًّا؟
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تُوُفِّيَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ.
وَقَالَ خَلِيفَةُ: تُوُفِّيَ فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ
وَأُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَهِيَ أُخْتُ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لِأُمِّهِ، وَكَانَ حُمَيْدٌ فَقِيهًا نَبِيلًا عَالِمًا،
لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ.
مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ
تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ.
وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَهُمْ تَرَاجِمُ فِي كِتَابِ " التَّكْمِيلِ ".
وَفِيهَا كَانَ مَوْتُ الْحَجَّاجِ
بِوَاسِطٍ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مَبْسُوطًا مُسْتَقْصًى، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ
الْمَدَائِنِيِّ، وَجَمَاعَةٍ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ
وَفِيهَا فَتَحَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، كَاشْغَرَ
مِنْ أَرْضِ الصِّينِ، وَبَعَثَ إِلَى مَلِكِ الصِّينِ رُسُلًا يَتَهَدَّدُهُ
وَيَتَوَعَّدُهُ، وَيُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا يَرْجِعُ حَتَّى يَطَأَ بِلَادَهُ،
وَيَخْتِمَ مُلُوكَهُمْ وَأَشْرَافَهُمْ، وَيَأْخُذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ، أَوْ
يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَدَخَلَ الرُّسُلُ عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ
فِيهَا وَهُوَ فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ يُقَالُ: إِنَّ عَلَيْهَا تِسْعِينَ بَابًا
فِي سُورِهَا الْمُحِيطِ بِهَا يُقَالُ لَهَا: خَانُ بَالِقَ. مِنْ أَعْظَمِ
الْمُدُنِ، وَأَكْثَرِهَا رَيْعًا، وَمُعَامَلَاتٍ وَأَمْوَالًا، حَتَّى قِيلَ:
إِنَّ بِلَادَ الْهِنْدِ مَعَ اتِّسَاعِهَا كَالشَّامَةِ فِي مُلْكِ الصِّينِ.
وَالصِّينُ لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى أَنْ يُسَافِرُوا فِي مُلْكِ غَيْرِهِمْ;
لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ، وَغَيْرُهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمْ;
لِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ وَالدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ، وَسَائِرُ مُلُوكِ
تِلْكَ الْبِلَادِ تُؤَدِّي إِلَى مَلِكِ الصِّينَ الْخَرَاجَ; لِقَهْرِهِ
وَكَثْرَةِ جُنْدِهِ وَعُدَدِهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا دَخَلُوا عَلَى مَلِكِ الصِّينِ وَجَدُوا
مَمْلَكَةً عَظِيمَةً، وَجُنْدًا كَثِيرًا، وَمَدِينَةً حَصِينَةً ذَاتَ أَنْهَارٍ
وَأَسْوَاقٍ، وَحُسْنٍ وَبَهَاءٍ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فِي قَلْعَةٍ عَظِيمَةٍ
حَصِينَةٍ، بِقَدْرِ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ، فَقَالَ لَهُمْ مَلِكُ الصِّينِ: مَا
أَنْتُمْ؟ وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَسُولٍ عَلَيْهِمْ هُبَيْرَةُ فَقَالَ
الْمَلِكُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ: مَا أَنْتُمْ وَمَا تُرِيدُونَ؟
فَقَالُوا: نَحْنُ رُسُلُ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ يَدْعُوكَ إِلَى
الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَالْجِزْيَةُ، فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَالْحَرْبُ. فَغَضِبَ الْمَلِكُ، وَأَمَرَ بِهِمْ إِلَى دَارٍ، فَلَمَّا
كَانَ الْغَدُ دَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَكُونُونَ فِي عِبَادَةِ
إِلَهِكُمْ؟ فَصَلَّوُا الصَّلَاةَ عَلَى عَادَتِهِمْ، فَلَمَّا رَكَعُوا
وَسَجَدُوا ضَحِكَ مِنْهُمْ، فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُونَ فِي بُيُوتِكُمْ؟
فَلَبِسُوا ثِيَابَ مِهَنِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ بِالِانْصِرَافِ. فَلَمَّا كَانَ
مِنَ الْغَدِ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: كَيْفَ تَدْخُلُونَ عَلَى
مُلُوكِكُمْ؟ فَلَبِسُوا الْوَشْيَ وَالْعَمَائِمَ وَالْمَطَارِفَ، وَدَخَلُوا
عَلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُمْ: ارْجِعُوا. فَرَجَعُوا فَقَالَ الْمَلِكُ
لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ رَأَيْتُمْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالُوا: هَذِهِ أَشْبَهُ
بِهَيْئَةِ الرِّجَالِ مِنْ تِلْكَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهُمْ أُولَئِكَ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ:
كَيْفَ تَلْقَوْنَ عَدُوَّكُمْ ؟ فَشَدُّوا عَلَيْهِمْ سِلَاحَهُمْ وَلَبِسُوا
الْمَغَافِرَ وَالْبَيْضَ، وَتَقَلَّدُوا السُّيُوفَ، وَتَنْكَبُّوا الْقِسِيَّ،
وَأَخَذُوا الرِّمَاحَ، وَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ وَمَضَوْا، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ
مَلِكُالصِّينِ فَرَأَى أَمْثَالَ الْجِبَالِ مُقْبِلَةً، فَلَمَّا قَرُبُوا
مِنْهُ رَكَزُوا رِمَاحَهُمْ، ثُمَّ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ مُشَمِّرِينَ، فَقِيلَ
لَهُمْ: ارْجِعُوا وَذَلِكَ لِمَا دَخَلَ قُلُوبَ أَهْلِ الصِّينِ مِنَ الْخَوْفِ
مِنْهُمْ فَانْصَرَفُوا فَرَكِبُوا خُيُولَهُمْ، وَاخْتَلَجُوا رِمَاحَهُمْ، ثُمَّ
سَاقُوا خُيُولَهُمْ، كَأَنَّهُمْ يَتَطَارَدُونَ بِهَا، فَقَالَ الْمَلِكُ
لِأَصْحَابِهِ: كَيْفَ تَرَوْنَهُمْ ؟ فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَؤُلَاءِ
قَطُّ.
فَلَمَّا أَمْسَوْا بَعَثَ إِلَيْهِمُ الْمَلِكُ; أَنِ ابْعَثُوا إِلَيَّ
زَعِيمَكُمْ وَأَفْضَلَكُمْ. فَبَعَثُوا إِلَيْهِ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ لَهُ
الْمَلِكُ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ: قَدْ رَأَيْتُمْ عِظَمَ مُلْكِي، وَلَيْسَ
أَحَدٌ يَمْنَعُكُمْ مِنِّي وَأَنْتُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ فِي كَفِّي،
وَأَنَا سَائِلُكُ عَنْ أَمْرٍ فَإِنْ لَمْ تَصْدُقْنِي قَتَلْتُكَ. فَقَالَ:
سَلْ. فَقَالَ الْمَلِكُ: لِمَ صَنَعْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ مِنْ زِيٍّ أَوَّلَ
يَوْمٍ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ؟ فَقَالَ: أَمَّا زِيُّنَا أَوَّلَ يَوْمٍ
فَهُوَ لِبَاسُنَا فِي أَهْلِنَا وَنِسَائِنَا، وَطِيبُنَا عِنْدَهُمْ،
وَأَمَّا مَا فَعَلْنَا ثَانِيَ يَوْمٍ
فَهُوَ زِيُّنَا إِذَا دَخَلْنَا عَلَى مُلُوكِنَا، وَأَمَّا زِيُّنَا ثَالِثَ
يَوْمٍ فَهُوَ إِذَا لَقِينَا عَدُوَّنَا، فَقَالَ الْمَلِكُ: مَا أَحْسَنَ مَا
دَبَّرْتُمْ دَهْرَكُمْ! انْصَرِفُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ يَعْنِي قُتَيْبَةَ
وَقُولُوا لَهُ: يَنْصَرِفُ رَاجِعًا عَنْ بِلَادِي; فَإِنِّي قَدْ عَرَفْتُ
حِرْصَهُ وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، وَإِلَّا بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ مَنْ يُهْلِكُكُمْ
عَنْ آخِرِكُمْ. فَقَالَ لَهُ هُبَيْرَةُ: تَقُولُ لِقُتَيْبَةَ هَذَا؟ فَكَيْفَ يَكُونُ
قَلِيلَ الْأَصْحَابِ مَنْ أَوَّلُ خَيْلِهِ فِي بِلَادِكَ وَآخِرُهَا فِي
مَنَابِتِ الزَّيْتُونِ؟! وَكَيْفَ يَكُونُ حَرِيصًا مَنْ خَلَّفَ الدُّنْيَا
قَادِرًا عَلَيْهَا، وَغَزَاكَ فِي بِلَادِكَ؟! وَأَمَّا تَخْوِيفُكَ إِيَّانَا
بِالْقَتْلِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا أَجَلًا إِذَا حَضَرَ، فَأَكْرَمُهَا
عِنْدَنَا الْقَتْلُ فَلَسْنَا نَكْرَهُهُ وَلَا نَخَافُهُ. فَقَالَ الْمَلِكُ:
فَمَا الَّذِي يُرْضِي صَاحِبَكُمْ؟ فَقَالَ: قَدْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ
حَتَّى يَطَأَ أَرْضَكَ، وَيَخْتِمَ مُلُوكَكَ، وَيَجْبِيَ الْجِزْيَةَ مِنْ
بِلَادِكَ. فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنَا أَبِرُّ يَمِينَهُ وَأُخْرِجُهُ مِنْهَا;
أُرْسِلُ إِلَيْهِ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِي، وَأَرْبَعِ غِلْمَانٍ مِنْ أَبْنَاءِ
الْمُلُوكِ، وَأُرْسِلُ إِلَيْهِ ذَهَبًا كَثِيرًا، وَحَرِيرًا وَثِيَابًا صِينِيَّةً
لَا تُقَوَّمُ، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ قَدْرَهَا، ثُمَّ جَرَتْ لَهُمْ مَعَهُ
مُقَاوَلَاتٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ شَرَعَ يَتَهَدَّدُهُمْ فَتَهَدَّدُوهُ،
وَيَتَوَعَّدَهُمْ فَتَوَعَّدُوهُ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى أَنْ بَعَثَ
صِحَافًا مَنْ ذَهَبٍ مُتَّسِعَةً، فِيهَا تُرَابٌ مِنْ أَرْضِهِ لِيَطَأَهُ
قُتَيْبَةُ، وَبَعَثَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ الْمُلُوكِ
لِيَخْتِمَ رِقَابَهُمْ، وَبَعَثَ بِمَالٍ جَزِيلٍ لِيَبِرَّ بِيَمِينِ
قُتَيْبَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَ أَرْبَعَمِائَةٍ مِنْ أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِ
الْمُلُوكِ.
فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قُتَيْبَةَ مَا أَرْسَلَهُ مَلِكُ الصِّينِ قَبِلَ ذَلِكَ
مِنْهُ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ قَدِ انْتَهَى إِلَيْهِ خَبَرُ مَوْتِ
الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَانْكَسَرَتْ
هِمَّتُهُ لِذَلِكَ، وَقَدْ عَزَمَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ عَلَى
عَدَمِ مُبَايَعَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَأَرَادَ الدَّعْوَةَ
إِلَى نَفْسِهِ; لِمَا تَحْتَ يَدِهِ مِنَ الْعَسَاكِرِ، وَلِمَا فَتَحَ مِنَ
الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ، فَلَمْ
يُمْكِنْهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي
آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ
مَا كُسِرَتْ لَهُ رَايَةٌ. وَكَانَ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
وَاجْتَمَعَ لَهُ مِنَ الْعَسَاكِرِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِغَيْرِهِ.
وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الصَّائِفَةَ، وَغَزَا
الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الرُّومَ، فَفَتَحَ طُولَسَ وَالْمَرْزُبَانَيْنِ
مِنْ بِلَادِ الرُّومِ.
وَفِيهَا تَكَامَلَ بِنَاءُ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ بِدِمَشْقَ عَلَى يَدِ
بَانِيهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرَ الْجَزَاءِ، وَكَانَ
أَصْلُ مَوْضِعِ هَذَا الْجَامِعِ قَدِيمًا مَعْبَدًا بَنَتْهُ الْيُونَانُ
الْكُلْدَانِيُّونَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمُرُونَ دِمَشْقَ، وَهُمُ الَّذِينَ
وَضَعُوهَا وَعَمَرُوهَا أَوَّلًا; فَهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَنَاهَا، وَقَدْ كَانُوا
يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ الْمُتَحَيِّرَةَ; وَهِيَ الْقَمَرُ فِي
السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَعُطَارِدُ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، وَالزُّهْرَةُ فِي
السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، وَالشَّمْسُ فِي الرَّابِعَةِ، وَالْمِرِّيخُ فِي
الْخَامِسَةِ، وَالْمُشْتَرِي فِي السَّادِسَةِ، وَزُحَلُ فِي السَّابِعَةِ.
وَكَانُوا قَدْ صَوَّرُوا عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ هَيْكَلًا
لِكَوْكَبٍ مِنْ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَكَانَتْ أَبْوَابُ دِمَشْقَ
سَبْعَةً، وَضَعُوهَا قَصْدًا لِذَلِكَ، فَنَصَبُوا هَيَاكِلَ سَبْعَةً لِكُلِّ
كَوْكَبٍ هَيْكَلٌ، وَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ دِمَشْقَ
عِيدٌ فِي السَّنَةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ وَضَعُوا الْأَرْصَادَ،
وَتَكَلَّمُوا عَلَى حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّصَالَاتِهَا وَمُقَارَنَتِهَا،
وَبَنَوْا دِمَشْقَ، وَاخْتَارُوا لَهَا هَذِهِ الْبُقْعَةَ إِلَى جَانِبِ
الْمَاءِ الْوَارِدِ مِنْ بَيْنِ هَذَيْنِ
الْجَبَلَيْنِ، وَصَرَّفُوهُ
أَنْهَارًا تَجْرِي إِلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ وَالْمُنْخَفِضَةِ،
وَسَلَكُوا الْمَاءَ فِي أَفْنَاءِ أَبْنِيَةِ الدُّورِ بِدِمَشْقَ، فَكَانَتْ
دِمَشْقُ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ أَحْسَنِ الْمُدُنِ، بَلْ هِيَ أَحْسَنُهَا لِمَا
فِيهَا مِنَ التَّصَارِيفِ الْعَجِيبَةِ.
وَبَنَوْا هَذَا الْمَعْبَدَ وَهُوَ الْجَامِعُ الْيَوْمَ إِلَى جِهَةِ الْقُطْبِ،
وَكَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى الْقُطْبِ الشَّمَالِيِّ، وَكَانَتْ مَحَارِيبُهُ
تُجَاهَ الشَّمَالِ، وَكَانَ بَابُ مَعْبَدِهِمْ يُفْتَحُ إِلَى جِهَةِ
الْقِبْلَةِ، خَلْفَ الْمِحْرَابِ الْيَوْمَ، كَمَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ عِيَانًا،
وَرَأَيْنَا مَحَارِيبَهُمْ إِلَى جِهَةِ الْقُطْبِ، وَرَأَيْنَا الْبَابَ، وَهُوَ
بَابٌ حَسَنٌ، مَبْنِيٌّ بِحِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَعَلَيْهِ كِتَابٌ
بِخَطِّهِمْ، وَعَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ بَابَانِ صَغِيرَانِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ، وَكَانَ غَرْبِيَّ الْمَعْبَدِ قَصْرٌ مُنِيفٌ جِدًّا، تَحْمِلُهُ
هَذِهِ الْأَعْمِدَةُ الَّتِي بِبَابِ الْبَرِيدِ، وَشَرْقِيَّ الْمَعْبَدِ قَصْرُ
جَيْرُونَ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ مَلِكَهُمْ وَكَانَ هُنَاكَ دَارَانِ
عَظِيمَتَانِ مُعَدَّتَانِ لِمَنْ يَتَمَلَّكُ دِمَشْقَ قَدِيمًا مِنْهُمْ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ مَعَ الْمَعْبَدِ ثَلَاثُ دُورٍ عَظِيمَةٍ لِلْمُلُوكِ،
وَيُحِيطُ بِهَذِهِ الدُّورِ وَالْمَعْبَدِ سُورٌ وَاحِدٌ عَالٍ مُنِيفٌ،
بِحِجَارَةٍ كِبَارٍ مَنْحُوتَةٍ; وَهُنَّ دَارُ الْمُطْبِقِ، وَدَارُ الْخَيْلِ،
وَدَارٌ كَانَتْ تَكُونُ مَكَانَ الْخَضْرَاءِ الَّتِي بَنَاهَا مُعَاوِيَةُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ كُتُبِ بَعْضِ
الْأَوَائِلِ: إِنَّهُمْ مَكَثُوا يَأْخُذُونَ الطَّالِعَ لِبِنَاءِ دِمَشْقَ،
وَهَذِهِ الْأَمَاكِنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ حَفَرُوا أَسَاسَ
الْجُدْرَانِ حَتَّى وَافَاهُمُ الْوَقْتُ الَّذِي طَلَعَ فِيهِ الْكَوْكَبَانِ
اللَّذَانِ أَرَادُوا أَنَّ الْمَسْجِدَ
لَا يَخْرُبُ أَبَدًا وَلَا تَخْلُو
مِنْهُ الْعِبَادَةُ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ إِذَا بُنِيَتْ لَا تَخْلُو مِنْ
أَنْ تَكُونَ دَارَ الْمَلِكِ وَالسَّلْطَنَةِ. قُلْتُ: أَمَّا الْمَعْبَدُ فَلَمْ
يَخْلُ مِنَ الْعِبَادَةِ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَا يَخْلُو مِنْهَا حَتَّى
تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَأَمَّا دَارُ الْمَلِكِ الَّتِي هِيَ الْخَضْرَاءُ فَقَدْ جَدَّدَ بِنَاءَهَا
مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ أُحْرِقَتْ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
كَمَا سَنَذْكُرُهُ فَبَادَتْ وَصَارَتْ مَسَاكِنَ ضُعَفَاءِ النَّاسِ
وَأَرَاذِلِهِمْ فِي الْغَالِبِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْيُونَانَ اسْتَمَرُّوا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي
ذَكَّرْنَاهَا بِدِمَشْقَ مُدَدًا طَوِيلَةً، تَزِيدُ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافِ
سَنَةٍ، حَتَّى إِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى جُدْرَانَ هَذَا
الْمَعْبَدِ الْأَرْبَعَةَ هُودٌ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ كَانَ
هُودٌ قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ.
وَقَدْ وَرَدَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، دِمَشْقَ وَنَزَلَ
شَمَالِيَّهَا عِنْدَ بَرْزَةَ، وَقَاتَلَ هُنَاكَ قَوْمًا مِنْ أَعْدَائِهِ
فَظَفِرَ بِهِمْ، وَنَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ مَقَامُهُ
لِمُقَاتَلَتِهِمْ عِنْدَ بَرْزَةَ. فَهَذَا الْمَكَانُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ
بِهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَأْثِرُونَهُ كَابِرًا
عَنْ كَابِرٍ، وَإِلَى زَمَانِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ دِمَشْقُ إِذْ ذَاكَ عَامِرَةً آهِلَةً بِمَنْ فِيهَا مِنَ الْيُونَانِ،
وَكَانُوا خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ; وَهُمْ خُصَمَاءُ الْخَلِيلِ،
وَقَدْ نَاظَرَهُمْ الْخَلِيلُ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ وَالْكَوَاكِبَ
وَغَيْرَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَمَا قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ،
وَفِي قِصَّةِ
إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ
السَّلَامُ، مِنْ كِتَابِنَا هَذَا " الْبِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ "،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْيُونَانَ لَمْ يَزَالُوا يَعْمُرُونَ دِمَشْقَ
وَيَبْنُونَ فِيهَا وَفِي مُعَامَلَاتِهَا مِنْ أَرْضِ حَوْرَانَ وَالْبِقَاعِ
وَبَعْلَبَكَّ وَغَيْرِهَا الْبِنَايَاتِ الْهَائِلَةَ الْغَرِيبَةَ الْعَجِيبَةَ،
حَتَّى إِذَا كَانَ بَعْدَ الْمَسِيحِ بِمُدَّةٍ نَحْوٍ مَنْ ثَلَاثِمِائَةِ
سَنَةٍ تَنَصَّرَ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى يَدِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ بْنِ
قُسْطَنْطِينَ، الَّذِي بَنَى الْمَدِينَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي بِلَادِ الرُّومِ
الَّتِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي وَضَعَ
لَهُمُ الْقَوَانِينَ، وَقَدْ كَانَ أَوَّلًا هُوَ وَقَوْمُهُ وَغَالِبُ أَهْلِ
الْأَرْضِ يُونَانًا، وَوَضَعَتْ لَهُ بَطَارِكَةُ النَّصَارَى دِينًا مُخْتَرَعًا
مُرَكَّبًا مِنْ أَصْلِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ مَمْزُوجًا بِشَيْءٍ مِنْ
عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَصَلَّوْا بِهِ إِلَى الشَّرْقِ، وَزَادُوا فِي
الصِّيَامِ، وَأَحَلُّوا الْخِنْزِيرَ، وَعَلَّمُوا أَوْلَادَهُمُ الْأَمَانَةَ
الْكَبِيرَةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِيَانَةٌ
كَبِيرَةٌ، وَجِنَايَةٌ كَثِيرَةٌ حَقِيرَةٌ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْحَجْمِ
صَغِيرَةٌ حَقِيرَةٌ نَقِيرَةٌ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ
وَبَيَّنَّاهُ. فَبَنَى لَهُمْ هَذَا الْمَلِكُ، الَّذِي يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ
الطَّائِفَةُ الْمَلَكِيَّةُ مِنَ النَّصَارَى كَنَائِسَ كَثِيرَةً فِي دِمَشْقَ
وَفِي غَيْرِهَا، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ بُنِيَ فِي زَمَانِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ
أَلْفَ كَنِيسَةً، وَأُوقِفَ عَلَيْهَا أَوْقَافًا دَارَّةً، مِنْ ذَلِكَ
كَنِيسَةُ
بَيْتِ لَحْمٍ وَقُمَامَةَ
بِالْقُدْسِ، بَنَتْهَا أُمُّ هَيْلَانَةَ الْفَنْدَقَانِيَّةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يَعْنِي النَّصَارَى حَوَّلُوا بِنَاءَ هَذَا
الْمَعْبَدِ الَّذِي هُوَ بِدِمَشْقَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الْيُونَانِ، فَجَعَلُوهُ
كَنِيسَةً، وَبَنَوْا لَهُ الْمَذَابِحَ فِي شَرْقِيِّهِ، وَسَمَّوْهُ كَنِيسَةَ
مَرْيُحَنَّا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: كَنِيسَةُ يُوحَنَّا. وَبَنَوْا
بِدِمَشْقَ كَنَائِسَ كَثِيرَةً غَيْرَهَا مُسْتَأْنَفَةً.
وَاسْتَمَرَّ النَّصَارَى عَلَى دِينِهِمْ هَذَا بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا نَحْوًا
مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ
مَا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي كِتَابِ السِّيرَةِ، مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَقَدْ
بَعَثَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ فِي
زَمَانِهِ وَهُوَ قَيْصَرُ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاسْمُهُ هِرَقْلُ يَدْعُوهُ إِلَى
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ مِنْ مُرَاجَعَتِهِ وَمُخَاطَبَتِهِ إِلَى أَبِي
سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ مَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ بَعَثَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُمَرَاءَهُ الثَّلَاثَةَ; زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، وَجَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ، إِلَى الْبَلْقَاءِ مِنْ تُخُومِ الشَّامِ فَبَعَثَ الرُّومُ
إِلَيْهِمْ جَيْشًا كَثِيرًا، فَقَتَلُوا هَؤُلَاءِ الْأُمَرَاءَ وَجَمَاعَةً
مِمَّنْ مَعَهُمْ مِنَ الْجَيْشِ فَعَزَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ الرُّومِ وَدُخُولِ الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ، ثُمَّ رَجَعَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ عَامَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَرِّ وَضَعْفِ الْحَالِ وَضِيقِهِ
عَلَى النَّاسِ.
ثُمَّ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الصِّدِّيقُ الْجُيُوشَ إِلَى الشَّامِ وَإِلَى الْعِرَاقِ كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا هَذَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الشَّامَ بِكَمَالِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ دِمَشْقَ بِأَعْمَالِهَا، وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ فَتْحِهَا. فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْيَدُ الْإِسْلَامِيَّةُ عَلَيْهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ رَحْمَتَهُ فِيهَا، وَسَاقَ بِرَّهُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ أَمِيرُ الْحَرْبِ إِذْ ذَاكَ، وَهُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ لِأَهْلِ دِمَشْقَ كِتَابَ أَمَانٍ، وَأَقَرُّوا أَيْدِيَ النَّصَارَى عَلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَنِيسَةً، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ نِصْفَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهَا كَنِيسَةَ مَرْيُحَنَّا، بِحُكْمِ أَنَّ الْبَلَدَ فَتَحَهُ خَالِدٌ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ بِالسَّيْفِ، وَأَخَذَتِ النَّصَارَى الْأَمَانَ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَكَانَ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ الصُّلْحُ، فَاخْتَلَفُوا، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا نِصْفَ الْبَلَدِ صُلْحًا، وَنِصْفَهُ عَنْوَةً، فَأَخَذُوا نِصْفَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ الشَّرْقِيَّ، فَجَعَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَسْجِدًا وَكَانَ قَدْ صَارَتْ إِلَيْهِ إِمْرَةُ الشَّامِ; لِعَزْلِ عُمَرَ خَالِدًا وَتَوْلِيَةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَبُو عُبَيْدَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ فِي الْبُقْعَةِ الشَّرْقِيَّةِ مِنْهُ; الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مِحْرَابُ الصَّحَابَةِ. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنِ الْجِدَارُ مَفْتُوحًا بِمِحْرَابٍ مَحْنِيٍّ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ عِنْدَ هَذِهِ الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلِيدَ هُوَ الَّذِي فَتَقَ الْمَحَارِيبَ فِي الْجِدَارِ الْقِبْلِيِّ. وَقَدْ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّلَاةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَحَارِيبِ،
وَجَعَلُوهُ مِنَ الْبِدَعِ
الْمُحْدَثَةِ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يَدْخُلُونَ هَذَا
الْمَعْبَدَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَابُ الْمَعْبَدِ الْأَصْلِيُّ الَّذِي
كَانَ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، مَكَانَ الْمِحْرَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي فِي
الْمَقْصُورَةِ الْيَوْمَ، فَيَنْصَرِفُ النَّصَارَى إِلَى جِهَةِ الْغَرْبِ إِلَى
كَنِيسَتِهِمْ، وَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ يَمْنَةً إِلَى مَسْجِدِهِمْ، وَلَا
يَسْتَطِيعُ النَّصَارَى أَنْ يَجْهَرُوا بِقِرَاءَةِ كِتَابِهِمْ، وَلَا
يَضْرِبُوا بِنَاقُوسِهِمْ; إِجْلَالًا لِلصَّحَابَةِ وَمَهَابَةً وَخَوْفًا.
وَقَدْ بَنَى مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي أَيَّامِ وِلَايَتِهِ عَلَى
الشَّامِ دَارَ الْإِمَارَةِ قِبْلِيَّ الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ لِلصَّحَابَةِ،
وَبَنَى فِيهَا قُبَّةً خَضْرَاءً، فَعُرِفَتِ الدَّارُ بِكَمَالِهَا بِهَا،
فَسَكَنَهَا مُعَاوِيَةُ أَرْبَعِينَ سَنَةً كَمَا قَدَّمْنَا.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ
شَطْرَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، مِنْ سَنَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا، وَقَدْ صَارَتِ
الْخِلَافَةُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا،
فَعَزَمَ الْوَلِيدُ عَلَى أَخْذِ بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَإِضَافَتِهَا
إِلَى مَا بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا، وَجَعْلِ الْجَمِيعِ مَسْجِدًا
وَاحِدًا; وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يَتَأَذَّى بِسَمَاعِ
قِرَاءَةِ النَّصَارَى لِلْإِنْجِيلِ، وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي صَلَوَاتِهِمْ،
فَأَحَبَّ أَنْ يُبْعِدَهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ
الْمَكَانَ إِلَى هَذَا، فَيُكَبِّرَ بِهِ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ، فَطَلَبَ
النَّصَارَى، وَسَأَلَ مِنْهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لَهُ عَنْ هَذَا الْمَكَانِ،
وَيُعَوِّضَهُمْ إِقْطَاعَاتٍ كَثِيرَةً، وَعَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُقِرَّ
لَهُمْ أَرْبَعَ كَنَائِسَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَهْدِ; وَهِيَ كَنِيسَةُ مَرْيَمَ،
وَكَنِيسَةُ الْمُصَلِّبَةِ دَاخِلَ
الْبَابِ الشَّرْقِيِّ، وَكَنِيسَةُ تَلِّ الْجُبْنِ، وَكَنِيسَةُ حُمَيْدِ بْنِ
دُرَّةَ الَّتِي بِدَرْبِ الصَّقِيلِ، فَأَبَوْا ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ،
فَقَالَ: ائْتُونِي بِعَهْدِكُمْ. فَأَتَوْا بِعَهْدِهِمُ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ
مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَقُرِئَ بِحَضْرَةِ الْوَلِيدِ، فَإِذَا كَنِيسَةُ
تُومَا الَّتِي كَانَتْ خَارِجَ بَابِ تُومَا عِنْدَ النَّهْرِ لَمْ تَدْخُلْ فِي
الْعَهْدِ، وَكَانَتْ فِيمَا يُقَالُ أَكْبَرَ مِنْ كَنِيسَةِ مَرْيُحَنَّا،
فَقَالَ الْوَلِيدُ: أَنَا أَهْدِمُهَا وَأَجْعَلُهَا مَسْجِدًا. فَقَالُوا: بَلْ
يَتْرُكُهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا ذَكَرَ مِنَ الْكَنَائِسِ، وَنَحْنُ
نَرْضَى بِأَخْذِ بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى تِلْكَ
الْكَنَائِسِ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ. هَذَا قَوْلٌ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْوَلِيدَ لَمَّا أَهَمَّهُ ذَلِكَ وَعَرَضَ مَا عَرَضَ عَلَى
النَّصَارَى فَأَبَوْا مِنْ قَبُولِهِ، دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ،
فَأَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَقِيسَ مِنْ بَابِ الشَّرْقِيِّ وَمِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ،
فَوَجَدَ مُنْتَصَفَ ذَلِكَ عِنْدَ سُوقِ الرَّيْحَانِ تَقْرِيبًا; فَإِذَا
الْكَنِيسَةُ الْمُنَازَعُ فِيهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْعَنْوَةِ، فَأَخَذَهَا.
وَحُكِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ مَوْلَى الْوَلِيدِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْوَلِيدِ
فَوَجَدْتُهُ مَهْمُومًا، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
مَهْمُومًا؟ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ، وَقَدْ ضَاقَ
بِهِمُ الْمَسْجِدُ، فَأَحْضَرْتُ
النَّصَارَى وَبَذَلْتُ لَهُمُ الْأَمْوَالَ فِي بَقِيَّةِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ;
لِأُضِيفَهَا إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَّسِعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَبَوْا.
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، عِنْدِي مَا يُزِيلُ هَمَّكَ.
قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا أَخَذُوا دِمَشْقَ دَخَلَ
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ مِنْ بَابِ الشَّرْقِيِّ بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا سَمِعَ
أَهْلُ الْبَلَدِ بِذَلِكَ فَزِعُوا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ
الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، وَفَتَحُوا لَهُ بَابَ الْجَابِيَةِ، فَدَخَلَ مِنْهُ
أَبُو عُبَيْدَةَ بِالصُّلْحِ، فَنَحْنُ نُمَاسِحُهُمْ إِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ
بَلَغَ السَّيْفُ أَخَذْنَاهُ، وَمَا بِالصُّلْحِ تَرَكْنَاهُ بِأَيْدِيهِمْ،
وَأَرْجُو أَنْ تُدْخَلَ الْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي الْعَنْوَةِ، فَتَدْخُلَ فِي
الْمَسْجِدِ. فَقَالَ الْوَلِيدُ: فَرَّجْتَ عَنِّي، فَتَوَلَّ أَنْتَ ذَلِكَ
بِنَفْسِكَ. فَتَوَلَّاهُ الْمُغِيرَةُ وَمَسَحَ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ إِلَى
نَحْوِ بَابِ الْجَابِيَةِ إِلَى سُوقِ الرَّيْحَانِ; فَوَجَدَ السَّيْفَ لَمْ
يَزَلْ عَمَّالًا حَتَّى جَاوَزَ الْقَنْطَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِأَرْبَعَةِ
أَذْرُعٍ وَكَسْرٍ، فَدَخَلَتِ الْكَنِيسَةُ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَرْسَلَ
الْوَلِيدُ إِلَى النَّصَارَى فَأَخْبَرَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْكَنِيسَةَ
كُلَّهَا دَخَلَتْ فِي الْعَنْوَةِ فَهِيَ لَنَا دُونَكُمْ. فَقَالُوا: إِنَّكَ
أَوَّلًا دَفَعْتَ إِلَيْنَا الْأَمْوَالَ وَأَقْطَعْتَنَا الْإِقْطَاعَاتِ فَأَبَيْنَا،
فَمِنْ إِحْسَانِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصَالِحَنَا فَيُبْقِيَ لَنَا
هَذِهِ الْكَنَائِسَ الْأَرْبَعَةَ بِأَيْدِينَا، وَنَحْنُ نَتْرُكُ لَهُ
بَقِيَّةَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ. فَصَالَحَهُمْ عَلَى إِبْقَاءِ هَذِهِ الْأَرْبَعِ
كَنَائِسَ بِأَيْدِيهِمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ عَوَّضَهُمْ مِنْهَا كَنِيسَةً عِنْدَ حَمَّامِ الْقَاسِمِ
عِنْدَ بَابِ الْفَرَادِيسِ، فَسَمَّوْهَا مَرْيُحَنَّا بِاسْمِ تِلْكَ
الْكَنِيسَةِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَأَخَذُوا شَاهِدَهَا فَوَضَعُوهُ
فَوْقَ الَّتِي أَخَذُوهَا بَدَلَهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ أَمَرَ الْوَلِيدُ بِإِحْضَارِ آلَاتِ الْهَدْمِ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْأُمَرَاءُ وَالْكُبَرَاءُ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ أَسَاقِفَةُ النَّصَارَى وَقَسَاوِسَتُهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ مَنْ يَهْدِمُ هَذِهِ الْكَنِيسَةَ يُجَنُّ. فَقَالَ: أَنَا أُحِبُّ أَنْ أُجَنَّ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَوَاللَّهِ لَا يَهْدِمُ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا قَبْلِي، ثُمَّ صَعِدَ الْمَنَارَةَ الشَّرْقِيَّةَ ذَاتِ الْأَضَالِعِ الْمَعْرُوفَةِ بِالسَّاعَاتِ وَكَانَتْ صَوْمَعَةً هَائِلَةً فِيهَا رَاهِبٌ مُعَظَّمٌ عِنْدَهُمْ، فَأَمَرَهُ الْوَلِيدُ بِالنُّزُولِ مِنْهَا، فَأَكْبَرَ الرَّاهِبُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ الْوَلِيدُ بِقَفَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْفَعُهُ حَتَّى أَحْدَرَهُ مِنْهَا، ثُمَّ صَعِدَ الْوَلِيدُ عَلَى أَعْلَى مَكَانٍ فِي الْكَنِيسَةِ; فَوْقَ الْمَذْبَحِ الْأَكْبَرِ مِنْهَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الشَّاهِدَ; وَهُوَ تِمْثَالٌ فِي أَعْلَى الْكَنِيسَةِ، فَقَالَ لَهُ الرُّهْبَانُ: احْذَرِ الشَّاهِدَ. فَقَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَا أَضَعُ فَأْسِي فِي رَأْسِ الشَّاهِدِ. ثُمَّ كَبَّرَ وَضَرَبَهُ فَهَدَمَهُ، وَكَانَ عَلَى الْوَلِيدِ قَبَاءٌ لَوْنُهُ أَصْفَرُ سَفَرْجَلِيٌّ، قَدْ غَرَزَ أَذْيَالَهُ فِي الْمِنْطَقَةِ، ثُمَّ أَخَذَ فَأْسًا فِي يَدِهِ فَضَرَبَ بِهَا فِي أَعْلَى حَجَرٍ فَأَلْقَاهُ، فَتَبَادَرَ الْأُمَرَاءُ إِلَى الْهَدْمِ، وَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ، وَصَرَخَتِ النَّصَارَى بِالْعَوِيلِ عَلَى دَرَجِ جَيْرُونَ، وَكَانُوا قَدِ اجْتَمَعُوا هُنَالِكَ، فَأَمَرَ الْوَلِيدُ أَمِيرَ الشُّرَطَةِ وَهُوَ أَبُو نَاتِلٍ رِيَاحٌ الْغَسَّانِيُّ أَنْ يَضْرِبَهُمْ حَتَّى يَذْهَبُوا مِنْ
هُنَالِكَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَهَدَمَ
الْوَلِيدُ وَالْأُمَرَاءُ جَمِيعَ مَا جَدَّدَهُ النَّصَارَى فِي تَرْبِيعِ هَذَا
الْمَكَانِ; مِنَ الْمَذَابِحِ وَالْأَبْنِيَةِ وَالْحَنَايَا، حَتَّى بَقِيَ
صَرْحَةً مُرَبَّعَةً، ثُمَّ شَرَعَ فِي بِنَائِهِ بِفِكْرَةٍ جَيِّدَةٍ عَلَى
هَذِهِ الصِّفَةِ الْحَسَنَةِ الْأَنِيقَةِ، الَّتِي لَمْ يَشْتَهِرْ مِثْلُهَا
قَبْلَهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ وَنُشِيرُ إِلَيْهِ.
وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْوَلِيدُ فِي بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ خَلْقًا كَثِيرًا
مِنَ الصُّنَّاعِ وَالْمُهَنْدِسِينَ وَالْفَعَلَةِ، وَكَانَ الْمُسْتَحِثُّ عَلَى
عِمَارَتِهِ أَخُوهُ وَوَلِيُّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْوَلِيدَ بَعَثَ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ يَطْلُبُ
مِنْهُ صُنَّاعًا فِي الرُّخَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ; لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى
عِمَارَةِ هَذَا الْمَسْجِدِ عَلَى مَا يُرِيدُ، وَأَرْسَلَ يَتَوَعَّدُهُ; لَئِنْ
لَمْ يَفْعَلْ لَيَغْزُوَنَّ بِلَادَهُ بِالْجُيُوشِ، وَلَيُخَرِّبَنَ كُلَّ
كَنِيسَةٍ فِي بِلَادِهِ، حَتَّى كَنِيسَةَ الْقُدْسِ، وَكَنِيسَةَ الرُّهَا،
وَسَائِرَ آثَارِ الرُّومِ، فَبَعَثَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَيْهِ صُنَّاعًا
كَثِيرَةً جِدًّا; مِائَتَيْ صَانِعٍ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُولُ: إِنْ كَانَ
أَبُوكَ فَهِمَ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُهُ وَتَرَكَهُ، فَإِنَّهُ لَوَصْمَةٌ
عَلَيْكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهِمَهُ وَفَهِمْتَهُ أَنْتَ، فَإِنَّهُ لَوَصْمَةٌ
عَلَيْهِ.
فَلَمَّا وَصَلَ ذَلِكَ الْكِتَابُ إِلَى الْوَلِيدِ أَرَادَ أَنْ يُجِيبَ عَنْ
ذَلِكَ، وَاجْتَمَعَ
النَّاسُ عِنْدَهُ لِذَلِكَ، وَكَانَ
فِيهِمُ الْفَرَزْدَقُ الشَّاعِرُ، فَقَالَ: أَنَا أُجِيبُهُ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ الْوَلِيدُ: وَمَا هُوَ
وَيْحَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا
آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، وَسُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ دَاوُدَ، فَفَهَّمَهُ
اللَّهُ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ أَبُوهُ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ، فَأَرْسَلَ
بِهِ جَوَابًا إِلَى مَلِكِ الرُّومِ. وَقَدْ قَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي ذَلِكَ:
فَرَّقْتَ بَيْنَ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ وَالْعَابِدِينَ مَعَ
الْأَسْحَارِ وَالْعَتَمِ وَهُمْ جَمِيعًا إِذَا صَلَّوْا وَأَوْجُهُهُمْ
شَتَّى إِذَا سَجَدُوا لِلَّهِ وَالصَّنَمِ وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ النَّاقُوسُ
يَضْرِبُهُ
أَهْلُ الصَّلِيبِ مَعَ الْقُرَّاءِ لَمْ تَنَمِ فُهِّمْتَ تَحْوِيلَهَا عَنْهُمْ
كَمَا فَهِمَا
إِذْ يَحْكُمَانِ لَهُمْ فِي الْحَرْثِ وَالْغَنَمِ دَاوُدُ وَالْمَلِكُ
الْمَهْدِيُّ إِذْ جَزَّا
أَوْلَادَهَا وَاجْتِزَازُ الصُّوفِ بِالْجَلَمِ فَهَّمَكَ اللَّهُ تَحْوِيلًا
لِبَيْعَتِهِمْ
عَنْ مَسْجِدٍ فِيهِ يُتْلَى طَيِّبُ الْكَلِمِ مَا مِنْ أَبٍ حَمَلَتْهُ الْأَرْضُ
نَعْلَمُهُ
خَيْرٌ بَنِينَ وَلَا خَيْرٌ مِنَ الْحَكَمِ
قَالَ الْحَافِظُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ إِبْرَاهِيمَ دُحَيْمٌ الدِّمَشْقِيُّ: بَنَى الْوَلِيدُ مَا كَانَ دَاخِلَ
حِيطَانِ الْمَسْجِدِ، وَزَادَ فِي سَمْكِ الْحِيطَانِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ: إِنَّ هُودًا، عَلَيْهِ السَّلَامُ،
هُوَ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّ مِنْ مَسْجِدِ دِمَشْقَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا أَرَادَ الْوَلِيدُ بِنَاءَ الْقُبَّةِ الَّتِي وَسَطَ
الرِّوَاقَاتِ وَهِيَ قُبَّةُ النَّسْرِ، وَهُوَ اسْمٌ حَادِثٌ لَهَا،
وَكَأَنَّهُمْ شَبَّهُوهَا بِالنَّسْرِ فِي شَكْلِهِ; لِأَنَّ الرِّوَاقَاتِ عَنْ
يَمِينِهَا وَشِمَالِهَا كَالْأَجْنِحَةِ لَهَا حَفَرُوا لِأَرْكَانِهَا، حَتَّى
وَصَلُوا إِلَى الْمَاءِ وَشَرِبُوا مِنْهُ مَاءً عَذْبًا زُلَالًا، ثُمَّ
إِنَّهُمْ وَضَعُوا فِيهِ جِرَارَ الْكَرْمِ، وَبَنَوْا فَوْقَهَا بِالْحِجَارَةِ
فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْأَرْكَانُ بَنَوْا عَلَيْهَا الْقُبَّةَ فَسَقَطَتْ،
فَقَالَ الْوَلِيدُ لِبَعْضِ الْمُهَنْدِسِينَ: أُرِيدُ أَنْ تَبْنِيَ لِي أَنْتَ
هَذِهِ الْقُبَّةَ. فَقَالَ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ
أَنْ لَا يَبْنِيَهَا أَحَدٌ غَيْرِي. فَفَعَلَ، فَبَنَى الْأَرْكَانَ ثُمَّ
غَلَّفَهَا بِالْبَوَارِي، وَغَابَ عَنْهَا سَنَةً كَامِلَةً لَا يَدْرِي
الْوَلِيدُ أَيْنَ ذَهَبَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ السَّنَةِ حَضَرَ، فَهَمَّ بِهِ
الْوَلِيدُ، فَأَخَذَهُ وَمَعَهُ رُءُوسُ النَّاسِ، فَكَشَفَ الْبَوَارِيَ عَنِ
الْأَرْكَانِ; فَإِذَا هِيَ قَدْ هَبَطَتْ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا حَتَّى سَاوَتِ
الْأَرْضَ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ هَذَا أُتِيتَ. ثُمَّ
بَنَاهَا فَانْعَقَدَتْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ الْوَلِيدُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْضَةَ الْقُبَّةِ مِنْ
ذَهَبٍ خَالِصٍ; لِيُعَظِّمَ بِذَلِكَ شَأْنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ
الْمِعْمَارُ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ؟ فَضَرَبَهُ خَمْسِينَ سَوْطًا
وَقَالَ لَهُ: وَيْلَكَ أَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَتَزْعُمُ أَنِّي
أَعْجَزُ عَنْهُ، وَخَرَاجُ الْأَرْضِ وَأَمْوَالُهَا تُجْبَى إِلَيَّ؟ قَالَ:
نَعَمْ، أَنَا أُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ. قَالَ: فَبَيِّنْ ذَلِكَ. قَالَ: اضْرِبْ
لَبِنَةً وَاحِدَةً مِنَ الذَّهَبِ وَقِسْ عَلَيْهَا مَا تُرِيدُ هَذِهِ الْقُبَّةُ
مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَرَ الْوَلِيدُ، فَأُحْضِرَ مِنَ الذَّهَبِ مَا سُبِكَ بِهِ
لَبِنَةٌ; فَإِذَا هِيَ قَدْ دَخَلَهَا أُلُوفٌ مِنَ الذَّهَبِ، فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا نُرِيدُ مِنْ هَذِهِ كَذَا وَكَذَا أَلْفِ
لَبِنَةً، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَا يَكْفِي مِنْ ذَلِكَ عَمِلْنَاهُ. فَلَمَّا
تَحَقَّقَ الْوَلِيدُ صِحَّةَ قَوْلِهِ أَطْلَقَ لَهُ خَمْسِينَ دِينَارًا، ثُمَّ
عَقَدَهَا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ الْمِعْمَارُ.
وَلَمَّا سَقَفَ الْوَلِيدُ الْجَامِعَ جَعَلُوا سَقْفَهُ جَمَلُونَاتٍ،
وَبَاطِنَهَا مُسَطَّحًا مُقَرْنَصًا بِالذَّهَبِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ:
أَتْعَبْتَ النَّاسَ بَعْدَكَ فِي تَطْيِينِ أَسْطِحَةِ هَذَا الْمَسْجِدِ فِي
كُلِّ عَامٍ. فَأَمَرَ الْوَلِيدُ أَنْ يُجْمَعَ مَا فِي بِلَادِهِ مِنَ
الرَّصَاصِ; لِيَجْعَلَهُ
عِوَضَ الطِّينِ، وَيَكُونَ أَخَفَّ
عَلَى السُّقُوفِ، فَجَمَعَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ مِنَ الشَّامِ وَغَيْرِهِ مِنَ
الْأَقَالِيمِ، فَعَازُوا، فَإِذَا عِنْدَ امْرَأَةٍ مِنْهُ قَنَاطِيرُ
مُقَنْطَرَةٌ، فَسَاوَمُوهَا فِيهِ، فَأَبَتْ أَنْ تَبِيعَهُ إِلَّا بِوَزْنِهِ
فِضَّةً، فَكَتَبُوا إِلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: اشْتَرُوهُ مِنْهَا، وَلَوْ
بِوَزْنِهِ فِضَّةً. فَلَمَّا بَذَلُوا لَهَا ذَلِكَ قَالَتْ: أَمَا إِذَا
فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ لِلَّهِ يَكُونُ فِي سَقْفِ هَذَا الْمَسْجِدِ.
فَكَتَبُوا عَلَى أَلْوَاحِهَا بِطَابَعٍ: " لِلَّهِ ". وَيُقَالُ:
إِنَّهَا كَانَتْ إِسْرَائِيلِيَّةً، وَإِنَّهُ كُتِبَ عَلَى الْأَلْوَاحِ الَّتِي
أُخِذَتْ مِنْهَا: هَذَا مَا أَعْطَتْهُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ: سَمِعْتُ الْمَشَايِخَ يَقُولُونَ: مَا تَمَّ
بِنَاءُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ إِلَّا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، لَقَدْ كَانَ يَفْضُلُ
عِنْدَ الرَّجُلِ مِنَ الْقَوَمَةِ يَعْنُونَ الْفَعَلَةَ الْفَأْسَ وَرَأْسَ
الْمِسْمَارِ، فَيَجِيءُ حَتَّى يَضَعَهُ فِي الْخِزَانَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ الدَّمَاشِقَةِ: لَيْسَ فِي الْجَامِعِ مِنَ الرُّخَامِ
شَيْءٌ إِلَّا الرُّخَامَتَانِ اللَّتَانِ فِي الْمَقَامِ مِنْ عَرْشِ بِلْقِيسَ،
وَالْبَاقِي كُلُّهُ مَرْمَرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اشْتَرَى الْوَلِيدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَمُودَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ تَحْتَ النَّسْرِ،
مِنْ حَرْبِ بْنِ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ دُحَيْمٌ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ جَنَاحٍ،
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَرْخَمٍ.
وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ، عَنْ دُحَيْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ الْأَنْصَارِيِّ: إِنَّهُمْ حَسَبُوا مَا أَنْفَقَهُ
الْوَلِيدُ عَلَى الْكَرْمَةِ الَّتِي فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ; فَإِذَا هُوَ
سَبْعُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ، أُنْفِقَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ أَرْبَعُمِائَةِ
صُنْدُوقٍ، فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِي
رِوَايَةٍ: فِي كُلِّ صُنْدُوقٍ ثَمَانِيَةً وَعِشْرُونَ أَلْفَ دِينَارٍ. قُلْتُ:
فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ذَلِكَ خَمْسَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَسِتَّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ الْمَصْرُوفُ فِي
عِمَارَةِ الْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو قُصَيٍّ: وَأَتَى الْحَرَسِيُّ إِلَى الْوَلِيدِ فَقَالَ: يَا
أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَنْفَقَ الْوَلِيدُ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَا. فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلَاةَ جَامِعَةً. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْوَلِيدُ الْمِنْبَرَ، وَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكُمْ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ: أَنْفَقَ الْوَلِيدُ بُيُوتَ الْأَمْوَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهَا. ثُمَّ قَالَ: يَا عَمْرُو بْنَ مُهَاجِرٍ، قُمْ فَأَحْضِرْ أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ. فَحُمِلَتْ عَلَى الْبِغَالِ إِلَى الْجَامِعِ، وَبُسِطَتْ لَهَا الْأَنْطَاعُ تَحْتَ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أُفْرِغَ عَلَيْهَا الْمَالُ ذَهَبًا صَبِيبًا، وَفِضَّةً خَالِصَةً حَتَّى صَارَتْ كُوَمًا، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ لَا يَرَى الرَّجُلَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَهَذَا شَيْءٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ جِيءَ بِالْقَبَّانِينَ فَوُزِنَتِ الْأَمْوَالُ; فَإِذَا هِيَ تَكْفِي النَّاسَ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً وَفِي رِوَايَةٍ: سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً لَوْ لَمْ يُدْخِلْ لِلنَّاسِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَفَرِحَ النَّاسُ وَكَبَّرُو ا، وَحَمِدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ الْوَلِيدُ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ، إِنَّكُمْ تَفْخَرُونَ عَلَى النَّاسِ بِأَرْبَعٍ; بِهَوَائِكُمْ، وَمَائِكُمْ، وَفَاكِهَتِكُمْ، وَحَمَّامَاتِكُمْ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَزِيدَكُمْ خَامِسَةً، وَهِيَ هَذَا الْجَامِعُ، فَاحْمَدُوا اللَّهَ تَعَالَى. وَانْصَرَفُوا شَاكِرِينَ دَاعِينَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ فِي
قِبْلَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ ثَلَاثُ صَفَائِحَ مُذَهَّبَةٍ بِلَازُورْدَ، فِي كُلٍّ
مِنْهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، رَبُّنَا
اللَّهُ وَحْدَهُ، وَدِينُنَا الْإِسْلَامُ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَمَرَ بِبُنْيَانِ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَهَدْمِ
الْكَنِيسَةَ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ، عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
الْوَلِيدُ، فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ. وَفِي صَفِيحَةٍ
أُخْرَى رَابِعَةٍ مِنْ تِلْكَ الصَّفَائِحِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [ الْفَاتِحَةِ: 2
- 4 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ النَّازِعَاتِ، ثُمَّ عَبَسَ، ثُمَّ إِذَا
الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [ التَّكْوِيرِ: 1 ].
قَالُوا: ثُمَّ مُحِيَتْ بَعْدَ مَجِيءِ الْمَأْمُونِ إِلَى دِمَشْقَ. وَذَكَرُوا
أَنَّ أَرْضَهُ كَانَتْ مُفَضَّضَةً كُلَّهَا، وَأَنَّ الرُّخَامَ كَانَ فِي
جُدْرَانِهِ إِلَى قَامَاتٍ، وَفَوْقَ الرُّخَامِ كَرْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ ذَهَبٍ،
وَفَوْقَ الْكَرْمَةِ الْفُصُوصُ الْمُذَهَّبَةُ وَالْخُضْرُ وَالْحُمْرُ
وَالزُّرْقُ وَالْبِيضُ، قَدْ صَوَّرُوا بِهَا سَائِرَ الْبُلْدَانِ
الْمَشْهُورَةِ: الْكَعْبَةَ فَوْقَ الْمِحْرَابِ، وَسَائِرَ الْأَقَالِيمِ
يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَصَوَّرُوا مَا فِي الْبُلْدَانِ مِنَ الْأَشْجَارِ
الْحَسَنَةِ الْمُثْمِرَةِ وَالْمُزْهِرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَسَقْفُهُ
مُقَرْنَصٌ بِالذَّهَبِ، وَالسَّلَاسِلُ الْمُعَلَّقَةُ فِيهِ جَمِيعُهَا مِنْ
ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَنْوَارُ الشُّمُوعِ فِي أَمَاكِنِهِ مُفَرَّقَةٌ.
قَالَ: وَكَانَ فِي مِحْرَابِ
الصَّحَابَةِ بَرْنِيَّةٌ; حَجَرٌ مِنْ بَلُّورٍ وَيُقَالُ: بَلْ كَانَتْ حَجَرًا
مِنْ جَوْهَرٍ، وَهِيَ الدُّرَّةُ، وَكَانَتْ تُسَمَّى الْقَلِيلَةَ، وَكَانَتْ
إِذَا طَفِئَتِ الْقَنَادِيلُ تُضِيءُ لِمَنْ هُنَاكَ بِنُورِهَا، فَلَمَّا كَانَ
زَمَنُ الْأَمِينِ بْنِ الرَّشِيدِ وَكَانَ يُحِبُّ الْبَلُّورَ، وَقِيلَ:
الْجَوْهَرَ بَعَثَ إِلَى سُلَيْمَانَ وَإِلَى شُرَطَةِ دِمَشْقَ أَنْ يَبْعَثَ
بِهَا إِلَيْهِ، فَسَرَقَهَا، وَسَيَّرَهَا إِلَى الْأَمِينِ، فَلَمَّا وَلِيَ
الْمَأْمُونُ رَدَّهَا إِلَى دِمَشْقَ; لِيُشَنِّعَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَمِينِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: ثُمَّ ذَهَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَجُعِلَ مَكَانَهَا
بَرْنِيَّةٌ مِنْ زُجَاجٍ. قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ تِلْكَ الْبَرْنِيَّةَ ثُمَّ
انْكَسَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَمْ يُجْعَلْ مَكَانَهَا شَيْءٌ. قَالُوا:
وَكَانَتِ الْأَبْوَابُ الشَّارِعَةُ مِنْ دَاخِلِ الصَّحْنِ لَيْسَ عَلَيْهَا
أَغْلَاقٌ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَيْهَا السُّتُورُ مُرْخَاةً، وَكَذَلِكَ
السُّتُورُ عَلَى سَائِرِ جُدْرَانِهِ إِلَى حَدِّ الْكَرْمَةِ الَّتِي فَوْقَهَا
الْفُصُوصُ الْمُذَهَّبَةُ، وَرُءُوسُ الْأَعْمِدَةِ مَطْلِيَّةٌ بِالذَّهَبِ
الْخَالِصِ الْكَثِيرِ، وَعَمِلُوا لَهُ شُرُفَاتٍ تُحِيطُ بِهِ، وَبَنَى
الْوَلِيدُ الْمَنَارَةَ الشَّمَالِيَّةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مِئْذَنَةُ
الْعَرُوسِ. فَأَمَّا الشَّرْقِيَّةُ وَالْغَرْبِيَّةُ فَكَانَتَا فِيهِ قَبْلَ
ذَلِكَ بِدُهُورٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَقَدْ كَانَ فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْ هَذَا
الْمَعْبَدِ صَوْمَعَةٌ شَاهِقَةٌ جِدًّا، بَنَتْهَا الْيُونَانُ لِلرَّصْدِ،
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَقَطَتِ الشَّمَالِيَّتَانِ وَبَقِيَتِ الْقِبْلِيَّتَانِ
إِلَى الْآنَ، وَقَدْ أُحْرِقَ بَعْضُ الشَّرْقِيَّةِ بَعْدَ
الْأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ،
فَنُقِضَتْ وَجُدِّدَ بِنَاؤُهَا مِنْ أَمْوَالِ النَّصَارَى، حَيْثُ اتُّهِمُوا
بِحَرِيقِهَا، فَقَامَتْ عَلَى أَحْسَنِ الْأَشْكَالِ بَيْضَاءَ بِذَاتِهَا
وَهِيَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، الْمَنَارَةُ الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي يَنْزِلُ
عَلَيْهَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَعْدَ خُرُوجِ
الدَّجَّالِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ "، عَنِ
النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ.
قُلْتُ: ثُمَّ أُحْرِقَ أَعْلَى هَذِهِ الْمَنَارَةِ وَجُدِّدَتْ، وَكَانَ
أَعْلَاهَا مِنْ خَشَبٍ، فَبُنِيَتْ بِحِجَارَةٍ كُلُّهَا فِي آخِرِ السَّبْعِينَ
وَسَبْعِمِائَةٍ، فَصَارَتْ كُلُّهَا مَبْنِيَّةً بِالْحِجَارَةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ لَمَّا كَمُلَ بِنَاؤُهُ لَمْ
يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَلَا أَبْهَى وَلَا
أَجَلَّ مِنْهُ، بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى
أَيِّ جِهَةٍ مِنْهُ أَوْ إِلَى أَيِّ بُقْعَةٍ أَوْ مَكَانٍ مِنْهُ، تَحَيَّرَ
فِيمَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ; لِحُسْنِهِ جَمِيعِهِ، وَلَا يَمَلُّ نَاظِرُهُ، بَلْ
كُلَّمَا أَدْمَنَ النَّظَرَ، بَانَتْ لَهُ أُعْجُوبَةٌ لَيْسَتْ كَالْأُخْرَى.
وَكَانَتْ فِيهِ طِلَّسْمَاتٌ مِنْ أَيَّامِ الْيُونَانَ، فَلَا يَدْخُلُ هَذِهِ
الْبُقْعَةَ شَيْءٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ; لَا مِنَ الْحَيَّاتِ،
وَلَا مِنَ الْعَقَارِبِ، وَلَا الْخَنَافِسِ، وَلَا الْعَنَاكِيبِ، وَيُقَالُ:
وَلَا الْعَصَافِيرُ أَيْضًا تُعَشِّشُ فِيهِ، وَلَا الْحَمَامُ، وَلَا شَيْءٌ
مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ.
وَأَكْثَرُ هَذِهِ الطِلَّسْمَاتِ أَوْ
كُلُّهَا كَانَتْ مُودَعَةً فِي سَقْفِ الْجَامِعِ، مِمَّا يَلِي السُّبْعَ،
فَأُحْرِقَتْ لَمَّا وَقَعَ فِيهِ الْحَرِيقُ، وَكَانَ ذَلِكَ لَيْلَةَ النِّصْفِ
مِنْ شَعْبَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
فِي دَوْلَةِ الْفَاطِمِيِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَقَدْ كَانَتْ بِدِمَشْقَ طِلَّسْمَاتٌ وَضَعَتْهَا الْيُونَانُ، بَعْضُهَا بَاقٍ
إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَمِنْ ذَلِكَ، الْعَمُودُ الَّذِي فِي رَأْسِهِ مِثْلُ الْكُرَةِ بِسُوقِ
الشَّعِيرِ عِنْدَ قَنْطَرَةِ أُمِّ حَكِيمٍ، وَهَذَا الْمَكَانُ يُعْرَفُ
الْيَوْمَ بِالْعَلَبِيِّينَ، ذَكَرَ مَشَايِخُ دِمَشْقَ أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ
الْيُونَانِ لِعُسْرِ بَوْلِ الْحَيَوَانِ، فَإِذَا دَارُوا بِالْحَيَوَانِ حَوْلَ
هَذَا الْعَمُودِ ثَلَاثَ دَوْرَاتٍ انْطَلَقَ بَوْلُهُ، وَذَلِكَ مُجَرَّبٌ
عِنْدَ الْيُونَانِ.
وَمَا زَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَعْمَلُ فِي تَكْمِلَةِ الْجَامِعِ
الْأُمَوِيِّ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مُدَّةَ وِلَايَتِهِ، وَجُدِّدَتْ لَهُ فِيهِ
الْمَقْصُورَةُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَزَمَ
عَلَى أَنْ يُجَرِّدَ مَا فِيهِ مِنَ
الذَّهَبِ، وَيَقْلَعُ السَّلَاسِلَ وَالرُّخَامَ وَالْفُسَيْفِسَاءَ، وَيَرُدَّ
ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَيُطَيِّنَهُ مَكَانَ ذَلِكَ كُلِّهِ،
فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ، وَاجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ إِلَيْهِ،
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ: أَنَا أُكَلِّمُهُ لَكُمْ.
فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالَ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بَلَغَنَا
أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ خَالِدٌ:
لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ يَا ابْنَ
الْكَافِرَةِ؟ وَكَانَتْ أُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً رُومِيَّةً أُمَّ وَلَدٍ فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، فَقَدْ وَلَدَتْ رَجُلًا
مُؤْمِنًا. فَقَالَ: صَدَقْتَ. وَاسْتَحْيَا عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: فَلِمَ
قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ; لِأَنَّ غَالِبَ مَا فِيهِ
مِنَ الرُّخَامِ إِنَّمَا حَمَلَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِنْ
سَائِرِ الْأَقَالِيمِ، وَلَيْسَ هُوَ لِبَيْتِ الْمَالِ. فَأَطْرَقَ عُمَرُ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالُوا: وَاتَّفَقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ قُدُومُ جَمَاعَةٍ مِنْ بِلَادِ
الرُّومِ رُسُلًا مِنْ عِنْدِ مَلِكِهِمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ بَابِ
الْبَرِيدِ، وَانْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي تَحْتَ النَّسْرِ،
وَرَأَوْا مَا بَهَرَ عُقُولَهُمْ مِنْ حُسْنِ ذَلِكَ الْجَامِعِ الْبَاهِرِ،
وَالزَّخْرَفَةِ الَّتِي لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا صَعِقَ كَبِيرُهُمْ، وَخَرَّ
مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَبَقِيَ أَيَّامًا
مُدْنِفًا، فَلَمَّا تَمَاثَلَ سَأَلُوهُ عَمَّا عَرَضَ لَهُ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ
أَظُنُّ أَنْ يَبْنِيَ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ هَذَا الْبِنَاءِ، وَكُنْتُ أَعْتَقِدُ
أَنَّ مُدَّتَهُمْ تَكُونُ أَقْصَرَ مِنْ هَذَا. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ
بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: أَوَإِنَّ
هَذَا لَغَيْظُ الْكُفَّارِ؟ دَعُوهُ.
وَسَأَلَتِ النَّصَارَى فِي أَيَّامِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَعْقِدَ
لَهُمْ مَجْلِسًا فِي شَأْنِ مَا كَانَ أَخَذَهُ الْوَلِيدُ مِنْهُمْ وَكَانَ
عُمَرُ عَادِلًا، فَأَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ أَخَذَهُ
الْوَلِيدُ مِنْهُمْ فَأَدْخَلَهُ فِي الْجَامِعِ، ثُمَّ حَقَّقَ عُمَرُ
الْقَضِيَّةَ، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا الْكَنَائِسُ الَّتِي هِيَ خَارِجُ الْبَلَدِ
لَمْ تَدْخُلْ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُمُ الصَّحَابَةُ; مِثْلَ
كَنِيسَةِ دَيْرِ مُرَّانَ، وَكَنِيسَةِ الرَّاهِبِ، وَكَنِيسَةِ تُومَا، خَارِجَ
بَابِ تُومَا، وَسَائِرِ الْكَنَائِسِ الَّتِي بِقُرَى الْحَوَاجِزِ، فَخَيَّرَهُمْ
بَيْنَ رَدِّ مَا سَأَلُوهُ، وَتَخْرِيبِ هَذِهِ الْكَنَائِسِ كُلِّهَا، أَوْ
تَبْقَى تِلْكَ الْكَنَائِسُ وَيَطِيبُوا نَفْسًا لِلْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ
الْبُقْعَةِ، فَاتَّفَقَتْ آرَاؤُهُمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَلَى إِبْقَاءِ
تِلْكَ الْكَنَائِسِ، وَيَكْتُبُ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ بِهَا، وَيَطِيبُوا
نَفْسًا بِهَذِهِ الْبُقْعَةِ، فَكَتَبَ لَهُمْ كِتَابَ أَمَانٍ بِهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ كَانَ حِينَ تَكَامَلَ بِنَاؤُهُ
لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ فِي حُسْنِهِ وَبَهْجَتِهِ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ: أَهْلُ دِمَشْقَ فِي بَلَدِهِمْ قَصْرٌ مِنْ قُصُورِ
الْجَنَّةِ، يَعْنِي بِهِ الْجَامِعَ الْأُمَوِيَّ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ
ابْنِ ثَوْبَانَ: مَا
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَشَدَّ
شَوْقًا إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ; لِمَا يَرَوْنَ مِنْ حُسْنِ
مَسْجِدِهَا.
قَالُوا: وَلَمَّا دَخَلَ الْمَهْدِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْعَبَّاسِيُّ
دِمَشْقَ يُرِيدُ زِيَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، نَظَرَ إِلَى جَامِعِ دِمَشْقَ
فَقَالَ لِكَاتِبِهِ أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيِّ: سَبَقَنَا بَنُو
أُمَيَّةَ بِثَلَاثٍ; بِهَذَا الْمَسْجِدِ، لَا أَعْلَمُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
مِثْلَهُ، وَبِنُبْلِ الْمَوَالِي، وَبِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، لَا
يَكُونُ وَاللَّهِ فِينَا مِثْلُهُ أَبَدًا. ثُمَّ لَمَّا أَتَى بَيْتَ
الْمَقْدِسِ فَنَظَرَ إِلَى الصَّخْرَةِ وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ
هُوَ الَّذِي بَنَاهَا قَالَ لِكَاتِبِهِ: وَهَذِهِ رَابِعَةٌ.
وَلَمَّا دَخَلَ الْمَأْمُونُ دِمَشْقَ فَنَظَرَ إِلَى جَامِعِهَا، وَكَانَ مَعَهُ
أَخُوهُ الْمُعْتَصِمُ، وَقَاضِيهِ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، قَالَ: مَا أَعْجَبُ
مَا فِيهِ؟ فَقَالَ أَخُوهُ: هَذِهِ الْأَذْهَابُ الَّتِي فِيهِ. وَقَالَ يَحْيَى
بْنُ أَكْثَمَ: هَذَا الرُّخَامُ، وَهَذِهِ الْعُقَدُ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ:
إِنَّمَا أَعْجَبُ مِنْ حُسْنِ بُنْيَانِهِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ مُتَقَدِّمٍ.
ثُمَّ قَالَ الْمَأْمُونُ لِقَاسِمٍ
التَّمَّارِ: أَخْبِرْنِي بِاسْمٍ
حَسَنٍ أُسَمِّي بِهِ جَارِيَتِي هَذِهِ. فَقَالَ: سَمِّهَا مَسْجِدَ دِمَشْقَ;
فَإِنَّهُ أَحْسَنُ شَيْءٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، عَنِ
الشَّافِعِيِّ قَالَ: عَجَائِبُ الدُّنْيَا خَمْسَةٌ; أَحَدُهَا مَنَارَتُكُمْ
هَذِهِ يَعْنِي مَنَارَةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ الَّتِي بِإِسْكَنْدَرِيَّةَ
وَالثَّانِيَةُ أَصْحَابُ الرَّقِيمِ; وَهْمُ بِالرُّومِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا،
أَوْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَالثَّالِثَةُ مِرْآةٌ بِبَابِ الْأَنْدَلُسِ
عَلَى بَابِ مَدِينَتِهَا، يَجْلِسُ الرَّجُلُ تَحْتَهَا، فَيَنْظُرُ فِيهَا
صَاحِبَهُ مِنْ مَسَافَةِ مِائَةِ فَرْسَخٍ، وَالرَّابِعُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ وَمَا
يُوصَفُ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، وَالْخَامِسُ الرُّخَامُ وَالْفُسَيْفِسَاءُ;
فَإِنَّهُ لَا يُدْرَى لَهُمَا مَوْضِعٌ، وَيُقَالُ: إِنَّ الرُّخَامَ مَعْجُونٌ،
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَذُوبُ عَلَى النَّارِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَذَكَرَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي اللَّيْثِ الْكَاتِبُ
وَكَانَ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِي
رِسَالَةٍ لَهُ قَالَ: ثُمَّ أُمِرْنَا بِالِانْتِقَالِ إِلَى الْبَلَدِ،
فَانْتَقَلْتُ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ تَمَّتْ مَحَاسِنُهُ، وَوَافَقَ ظَاهِرَهُ
بَاطِنُهُ، أَزِقَّتُهُ
أَرِجَةٌ، وَشَوَارِعُهُ فَرِجَةٌ،
فَحَيْثُ مَا شِئْتَ شَمَمْتَ طِيبًا، وَأَيْنَ سَعَيْتَ رَأَيْتَ مَنْظَرًا
عَجِيبًا، وَأَفْضَيْتُ إِلَى جَامِعِهِ، فَشَاهَدْتُ مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي
اسْتِطَاعَةِ الْوَاصِفِ أَنْ يَصِفَهُ، وَلَا الرَّائِي أَنْ يُعَرِّفَهُ،
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ بِكْرُ الدَّهْرِ، وَنَادِرَةُ الْوَقْتِ، وَأُعْجُوبَةُ
الزَّمَانِ، وَغَرِيبَةُ الْأَوْقَاتِ، وَلَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ،
بِهِ ذِكْرًا يُدْرَسُ، وَخَلَّفَ بِهِ أَمْرًا لَا يَخْفَى وَلَا يَدْرُسُ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِبَعْضِ
الْمُحَدِّثِينَ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ، عَمَّرَهُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ:
دِمَشْقُ قَدْ شَاعَ حُسْنُ جَامِعِهَا وَمَا حَوَتْهُ رُبَى مَرَابِعِهَا
بَدِيعَةُ الْحَسَنِ فِي الْكَمَالِ لِمَا يُدْرِكُهُ الطَّرْفُ مِنْ بَدَائِعِهَا
طَيِّبَةٌ أَرْضُهَا مُبَارَكَةٌ بِالْيُمْنِ وَالسَّعْدِ أَخْذُ طَالِعِهَا
جَامِعُهَا جَامِعُ الْمَحَاسِنِ قَدْ فَاقَتْ بِهِ الْمُدْنَ فِي جَوَامِعِهَا
بَنِيَّةٌ بِالْإِتْقَانِ قَدْ وُضِعَتْ لَا ضَيَّعَ اللَّهُ سَعْيَ وَاضِعِهَا
تُذْكَرُ فِي فَضْلِهِ وَرِفْعَتِهِ أَخْبَارُ صِدْقٍ رَاقَتْ لِسَامِعِهَا
قَدْ كَانَ قَبْلَ الْحَرِيقِ مَدْهَشَةً فَغَيَّرَتْهُ نَارٌ بِلَافِعِهَا
فَأَذْهَبَتْ بِالْحَرِيقِ بَهْجَتَهُ
فَلَيْسَ يُرْجَى إِيَابُ رَاجِعِهَا
إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي الْفُصُوصِ وَمَا فِيهَا تَيَقَّنْتَ حِذْقَ رَاصِعِهَا
أَشْجَارُهَا لَا تَزَالُ مُثْمِرَةً لَا تَذْهَبُ الرِّيحُ مِنْ مَدَافِعِهَا
كَأَنَّهَا مِنْ زُمُرُّدٍ غُرِسَتْ فِي أَرْضِ تِبْرٍ تَغْشَى بِفَاقِعِهَا
فِيهَا ثِمَارٌ تَخَالُهَا يَنَعَتْ وَلَيْسَ يُخْشَى فَسَادُ يَانِعِهَا
تُقْطَفُ بِاللَّحْظِ لَا بِجَارِحَةِ الْ أَيْدِي وَلَا تُجْتَنَى لِبَائِعِهَا
وَتَحْتَهَا مِنْ رُخَامِهِ قِطَعٌ لَا قَطَّعَ اللَّهُ كَفَّ قَاطِعِهَا
أَحْكَمَ تَرْخِيمَهَا الْمُرَخِّمُ قَدْ بَانَ عَلَيْهَا إِحْكَامُ صَانِعِهَا
وَإِنْ تَفَكَّرْتَ فِي قَنَاطِرِهِ وَسَقْفِهِ بَانَ حِذْقُ رَافِعِهَا
وَإِنْ تَبَيَّنْتَ حُسْنَ قُبَّتِهِ تَحَيَّرَ اللُّبُّ فِي أَضَالِعِهَا
تَخْتَرِقُ الرِّيحُ فِي مَخَارِمِهَا عَصْفًا فَتَقْوَى عَلَى زَعَازِعِهَا
وَأَرْضُهُ بِالرُّخَامِ قَدْ فُرِشَتْ يَنْفَسِحُ الطَّرْفُ فِي مَوَاضِعِهَا
مَجَالِسُ الْعِلْمِ فِيهِ مُتْقَنَةٌ يَنْشَرِحُ الصَّدْرُ فِي مَجَامِعِهَا
وَكُلُّ بَابٍ عَلَيْهِ مَطْهَرَةٌ
قَدْ أَمِنَ النَّاسُ دَفْعَ مَانِعِهَا
يَرْتَفِقُ الْخَلْقُ مِنْ مَرَافِقِهَا وَلَا يَصُدُّونَ عَنْ مَنَافِعِهَا
وَلَا تَزَالُ الْمِيَاهُ جَارِيَةً فِيهَا لِمَا شُقَّ مِنْ مَشَارِعِهَا
وَسُوقُهَا لَا تَزَالُ آهِلَةً لِيَزْدَحِمَ النَّاسُ فِي شَوَارِعِهَا
لِمَا يَشَاءُونَ مِنْ فَوَاكِهِهَا وَمَا يُرِيدُونَ مِنْ بَضَائِعِهَا
كَأَنَّهَا جَنَّةٌ مُعَجَّلَةٌ فِي الْأَرْضِ لَوْلَا سُرَى فَجَائِعِهَا
دَامَتْ بِرَغْمِ الْعِدَى مُسَلَّمَةً وَحَاطَهَا اللَّهُ مِنْ قَوَارِعِهَا
فَصْلٌ فِيمَا رُوِيَ فِي جَامِعِ دِمَشْقَ مِنَ الْآثَارِ
وَمَا وَرَدَ فِي فَضْلِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّادَةِ
الْأَخْيَارِ
رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ قَالَ:
هُوَ مَسْجِدُ دِمَشْقَ. وَالزَّيْتُونِ قَالَ: هُوَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَطُورِ سِنِينَ حَيْثُ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ
وَهُوَ مَكَّةُ.
وَنَقَلَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُمْ
قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالتِّينِ هُوَ مَسْجِدُ دِمَشْقَ. رَوَاهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ.
وَقَالَ صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ
عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ
قَيْسٍ الْكِلَابِيِّ، قَالَ: قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَيُبْنَيَنَّ فِي
دِمَشْقَ مَسْجِدٌ يَبْقَى بَعْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاتِكَةِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: أَوْحَى
اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَبَلِ قَاسِيُونَ أَنْ هَبْ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ إِلَى
جَبَلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: فَفَعَلَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَمَا
إِذْ فَعَلْتَ فَإِنِّي سَأَبْنِي لِي فِي حِضْنِكَ بَيْتًا أُعْبَدُ فِيهِ بَعْدَ
خَرَابِ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَا تَذْهَبُ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي
حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْكَ ظِلَّكَ وَبَرَكَتَكَ. قَالَ: فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْمُتَضَرِّعِ.
وَقَالَ دُحَيْمٌ: حِيطَانُ الْمَسْجِدِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ بِنَاءِ هُودٍ،
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا كَانَ مِنَ الْفُسَيْفِسَاءِ إِلَى فَوْقَ فَهُوَ مِنْ
بِنَاءِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يَعْنِي أَنَّهُ رَفَعَ الْجِدَارَ
فَعَلَّاهُ مِنْ حَدِّ الرُّخَامِ وَالْكَرْمَةِ إِلَى فَوْقَ. وَقَالَ غَيْرُهُ:
إِنَّمَا بَنَى هُودٌ الْجِدَارَ الْقِبْلِيَّ فَقَطْ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَرَجِ، الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ الْبِرَامِيِّ،
الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ
بْنُ مَرْوَانَ، سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُلَّاسٍ يَقُولُ:
سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ قَالَ: كَانَ خَارِجَ بَابِ السَّاعَاتِ صَخْرَةٌ
يُوضَعُ عَلَيْهَا الْقُرْبَانُ، فَمَا تُقُبِّلَ مِنْهُ جَاءَتْ نَارٌ
فَأَكَلَتْهُ، وَمَا لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ بَقِيَ عَلَى حَالِهِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الصَّخْرَةُ نُقِلَتْ إِلَى دَاخِلِ بَابِ السَّاعَاتِ، وَهِيَ
مَوْجُودَةٌ إِلَى الْآنَ، وَبَعْضُ الْعَامَّةِ يَزْعُمُ أَنَّهَا الصَّخْرَةُ
الَّتِي وَضَعَ عَلَيْهَا ابْنَا آدَمَ قُرْبَانَهُمَا، فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى الْخُشَنِيُّ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ صَلَّى
فِي مَوْضِعِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ. قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَهَذَا مُنْقَطِعٌ.
قُلْتُ: وَمُنْكَرٌ جِدًّا، وَلَا يَثْبُتُ أَيْضًا لَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ،
وَلَا مِنْ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبِرَامِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
أَبِيهِ، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تَقَدَّمَ إِلَى الْقُوَّامِ
لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ اللَّيْلَةَ
فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا تَتْرُكُوا فِيهِ أَحَدًا حَتَّى أُصَلِّيَ اللَّيْلَةَ.
ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى بَابَ السَّاعَاتِ، فَاسْتَفْتَحَ الْبَابَ فَفُتِحَ لَهُ،
فَإِذَا رَجُلٌ
قَائِمٌ بَيْنَ بَابِ السَّاعَاتِ،
وَبَابِ الْخَضْرَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَقْصُورَةَ يُصَلِّي، وَهُوَ أَقْرَبُ
إِلَى بَابِ الْخَضْرَاءِ مِنْهُ إِلَى بَابِ السَّاعَاتِ، فَقَالَ لِلْقُوَّامِ:
أَلَمْ آمُرْكُمْ أَنْ لَا تَتْرُكُوا أَحَدًا اللَّيْلَةَ يُصَلِّي فِي
الْمَسْجِدِ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا
الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُصَلِّي كُلَّ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ. فِي
إِسْنَادِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ وَصِحَّتِهَا نَظَرٌ، وَلَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا
وُجُودُ الْخَضِرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا صَلَاتُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ
الْمَذْكُورِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَنَّ الزَّاوِيَةَ
الْقِبْلِيَّةَ عِنْدَ بَابِ الْمِئْذَنَةِ الْغَرْبِيَّةِ تُسَمَّى زَاوِيَةَ
الْخَضِرِ، وَمَا أَدْرِي مَا سَبَبُ ذَلِكَ، وَالَّذِي ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ
صَلَاةُ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَأَوَّلُ مَنْ صَلَّى فِيهِ إِمَامًا أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَهُوَ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ بِالشَّامِ، وَأَحَدُ
الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ،
وَصَلَّى فِيهِ خَلْقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، لَكِنْ قَبْلَ أَنْ يُغَيِّرَهُ
الْوَلِيدُ إِلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ غُيِّرَ إِلَى هَذَا
الشَّكْلِ فَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ، فَإِنَّهُ وَرَدَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَهُوَ
يَبْنِي فِي هَذَا الْجَامِعِ، فَصَلَّى فِيهِ أَنَسٌ وَرَاءَ الْوَلِيدِ،
وَأَنْكَرَ أَنَسٌ عَلَى الْوَلِيدِ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا،
كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
وَسَيُصَلِّي فِيهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إِذَا نَزَلَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ،
إِذَا خَرَجَ الدَّجَّالُ
وَعَمَّتِ الْبَلْوَى بِهِ،
وَانْحَصَرَ النَّاسُ مِنْهُ بِدِمَشْقَ، فَيَنْزِلُ مَسِيحُ الْهُدَى فَيَقْتُلُ
مَسِيحَ الضَّلَالَةِ، وَيَكُونُ نُزُولُهُ عَلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ
بِدِمَشْقَ وَقْتَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَيَأْتِي وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ،
فَيَقُولُ لَهُ إِمَامُ النَّاسِ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ. فَيَقُولُ:
إِنَّمَا أُقِيمَتْ لَكَ. فَيُصَلِّي عِيسَى تِلْكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ رَجُلٍ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ. يُقَالُ إِنَّهُ الْمَهْدِيُّ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ يَخْرُجُ عِيسَى بِالنَّاسِ، فَيُدْرِكُ الدَّجَّالَ عِنْدَ عَقَبَةِ
أَفِيقَ، وَقِيلَ: بِبَابِ لُدٍّ. فَيَقْتُلُهُ بِيَدِهِ هُنَالِكَ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا ذَلِكَ مَبْسُوطًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( النِّسَاءِ: 159 )، وَفِي
الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، وَإِمَامًا
عَادِلًا، فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ،
وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَنْزِلُ وَالْبَلَدُ مُحَصَّنٌ
مِنَ الدَّجَّالِ، وَيَكُونُ نُزُولُهُ عَلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ
بِدِمَشْقَ وَهِيَ هَذِهِ الْمَنَارَةُ الْمَبْنِيَّةُ فِي زَمَانِنَا مِنْ
أَمْوَالِ النَّصَارَى; حَيْثُ أَحْرَقُوهَا فَجُدِّدَتْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثُمَّ
يَكُونُ نُزُولُ عِيسَى حَتْفًا لَهُمْ، وَهَلَاكًا وَدَمَارًا عَلَيْهِمْ،
يَنْزِلُ بَيْنَ مَلَكَيْنِ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى
مَنَاكِبِهِمَا، وَعَلَيْهِ
مَهْرُودَتَانِ وَفِي رِوَايَةٍ: مُمَصَّرَتَانِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً،
كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْفَجْرِ، فَيَنْزِلُ مِنَ
الْمَنَارَةِ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي
الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ بِدِمَشْقَ، وَهُوَ هَذَا الْجَامِعُ.
وَمَا وَقَعَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ رِوَايَةِ النَّوَّاسِ بْنِ
سَمْعَانَ الْكِلَابِيُّ: فَيَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ
دِمَشْقَ كَأَنَّهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ مَرْوِيٌّ بِالْمَعْنَى بِحَسَبِ مَا
فَهِمَهُ الرَّاوِي، وَإِنَّمَا هُوَ يَنْزِلُ عَلَى الْمَنَارَةِ الشَّرْقِيَّةِ
بِدِمَشْقَ، وَقَدْ أُخْبِرْتُ - وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إِلَّا الْآنَ - أَنَّهُ
كَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الْمُصَنَّفَاتِ،
وَاللَّهُ الْمَسْئُولُ الْمَأْمُولُ أَنْ يُوَفِّقَنِي، فَيُوقِفَنِي عَلَى
هَذِهِ اللَّفْظَةِ.
وَلَيْسَ فِي الْبَلَدِ مَنَارَةٌ تُعْرَفُ بِالشَّرْقِيَّةِ سِوَى هَذِهِ، وَهِيَ
بَيْضَاءُ بِنَفْسِهَا، وَلَا يُعْرَفُ فِي بِلَادِ الشَّامِ مَنَارَةٌ أَحْسَنُ
مِنْهَا، وَلَا أَبْهَى وَلَا أَعْلَى مِنْهَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
الْكَلَامُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ
بِرَأْسِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ قَالَ: وَكَّلَنِي الْوَلِيدُ
عَلَى الْعُمَّالِ فِي بِنَاءِ جَامِعِ دِمَشْقَ فَوَجَدْنَا فِيهِ مَغَارَةً،
فَعَرَّفْنَا الْوَلِيدَ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ وَافَانَا وَبَيْنَ
يَدَيْهِ الشَّمْعُ، فَنَزَلَ فَإِذَا هِيَ كَنِيسَةٌ لَطِيفَةٌ ثَلَاثَةُ
أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، وَإِذَا فِيهَا صُنْدُوقٌ، فَفَتَحَ
الصُّنْدُوقَ فَإِذَا فِيهِ سَفَطٌ، وَفِي السَّفَطِ رَأْسُ يَحْيَى بْنِ
زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا رَأْسُ يَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا. فَأَمَرَ بِهِ الْوَلِيدُ فَرُدَّ إِلَى الْمَكَانِ. وَقَالَ:
اجْعَلُوا الْعَمُودَ الَّذِي فَوْقَهُ مُغَيَّرًا مِنْ بَيْنِ الْأَعْمِدَةِ.
فَجُعِلَ عَلَيْهِ عَمُودٌ مُسَفَّطَ الرَّأْسِ.
وَفِي رِوَايَةٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ كَانَ
تَحْتَ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْقُبَّةِ يَعْنِي قَبْلَ أَنْ تُبْنَى قَالَ:
وَكَانَ عَلَى الرَّأْسِ شَعْرٌ وَبَشَرٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَاقَدٍ، قَالَ: حَضَرْتُ
رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَقَدْ أُخْرِجَ مِنَ اللِّيطَةِ الْقِبْلِيَّةِ
الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي عِنْدَ مَجْلِسِ بُجَيْلَةَ، فَوُضِعَ تَحْتَ عَمُودِ
السِّبْطِ السَّكَاسِكِ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَالْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ: هُوَ الْعَمُودُ الرَّابِعُ الْمُسَفَّطُ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْبِرَامِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ حَبِيبٍ الْمُؤَذِّنِ، عَنْ أَبِي زِيَادٍ، وَأَبِي أُمَيَّةَ
الشَّعْبَانِيَّيْنِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةٌ فِي
مَسْجِدِ دِمَشْقَ بِثَلَاثِينَ أَلْفَ صَلَاةٍ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُسْهِرٍ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ
نَافِعٍ مَوْلَى أَمِّ عَمْرٍو بِنْتِ مَرْوَانَ عَنْ أَبِيهِ وَفِي رِوَايَةٍ:
عَنْ رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ أَنَّ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ خَرَجَ مِنْ بَابِ
الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي بَابَ جَيْرُونَ فَلَقِيَهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ،
فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ وَاثِلَةُ: أُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ:
تَعَالَ حَتَّى أُرِيَكَ مَوْضِعًا فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، مَنْ صَلَّى فِيهِ
فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَذَهَبَ بِهِ فَأَرَاهُ مَا بَيْنَ
الْبَابِ الْأَصْفَرِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الْوَالِي إِلَى الْحَنِيَّةِ
يَعْنِي الْقَنْطَرَةَ الْغَرْبِيَّةَ فَقَالَ: مَنْ صَلَّى فِيمَا بَيْنَ
هَذَيْنِ فَكَأَنَّمَا صَلَّى فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ وَاثِلَةُ: إِنَّهُ
لَمَجْلِسِي وَمَجْلِسُ قَوْمِي. قَالَ كَعْبٌ: هُوَ ذَاكَ. وَهَذَا أَيْضًا
غَرِيبٌ جِدًّا وَمُنْكَرٌ، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ.
وَعَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ
وَجَدُوا فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ
الْقِبْلِيِّ لَوْحًا مِنْ حَجَرٍ فِيهِ كِتَابٌ نَقْشٌ، فَأَتَوْا بِهِ
الْوَلِيدَ، فَبَعَثَ إِلَى الرُّومِ، فَلَمْ يَسْتَخْرِجُوهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى
الْعِبْرَانِيِّينَ، فَلَمْ يَسْتَخْرِجُوهُ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى مَنْ كَانَ
بِدِمَشْقَ مِنْ بَقِيَّةِ الْأَشْبَانِ، فَلَمْ يَسْتَخْرِجُوهُ. فَدُلَّ عَلَى
وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ أَخْبَرَهُ
بِمَوْضِعِ ذَلِكَ اللَّوْحِ، فَوَجَدُوهُ فِي ذَلِكَ الْحَائِطِ وَيُقَالُ: إِنْ
ذَلِكَ الْحَائِطَ بَنَاهُ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ
وَهْبٌ حَرَّكَ رَأْسَهُ وَقَرَأَهُ فَإِذَا هُوَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ابْنَ آدَمَ، لَوْ رَأَيْتَ يَسِيرَ مَا
بَقِيَ مِنْ أَجَلِكَ، لَزَهَدْتَ فِي طُولِ مَا تَرْجُو مِنْ أَمَلِكَ،
وَإِنَّمَا تَلْقَى نَدَمَكَ. لَوْ قَدْ زَلَّتْ بِكَ قَدَمُكَ، وَأَسْلَمَكَ
أَهْلُكَ وَحَشَمُكَ، وَانْصَرَفَ عَنْكَ الْحَبِيبُ، وَوَدَّعَكَ الْقَرِيبُ،
ثُمَّ صِرْتَ تُدْعَى فَلَا تُجِيبُ، فَلَا أَنْتَ إِلَى أَهْلِكَ عَائِدٌ، وَلَا
فِي عَمَلِكَ زَائِدٌ، فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَبْلَ
الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ بِكَ أَجَلُكَ، وَتُنْزَعَ
مِنْكَ رُوحُكَ، فَلَا يَنْفَعُكَ مَالٌ جَمَعْتَهُ، وَلَا وَلَدٌ وَلَدْتَهُ،
وَلَا أَخٌ تَرَكْتَهُ، ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى بَرْزَخِ الثَّرَى، وَمُجَاوَرَةِ
الْمَوْتَى، فَاغْتَنِمِ الْحَيَاةَ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالْقُوَّةَ قَبْلَ
الضَّعْفِ، وَالصِّحَّةَ قَبْلَ السَّقَمِ، قَبْلَ أَنْ تُؤْخَذَ بِالْكَظْمِ،
وَيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ
الْعَمَلِ. وَكُتِبَ فِي زَمَنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيِّ، أَنْبَأَنَا تَمَّامٌ الرَّازِيُّ، أَنْبَأَنَا
ابْنُ الْبِرَامِيِّ، سَمِعْتُ أَبَا مَرْوَانَ عَبْدَ الرَّحِيمِ بْنَ عُمَرَ
الْمَازِنِيَّ، يَقُولُ: لَمَّا كَانَ فِي أَيَّامِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَبِنَائِهِ الْمَسْجِدَ احْتَفَرُوا فِيهِ مَوْضِعًا، فَوَجَدُوا بَابًا
مِنْ حِجَارَةٍ مُغْلَقًا، فَلَمْ يَفْتَحُوهُ، وَأَعْلَمُوا بِهِ الْوَلِيدَ،
فَخَرَجَ مِنْ دَارِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، وَفُتِحَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِذَا
دَاخِلُهُ مَغَارَةٌ فِيهَا تَمْثَالُ إِنْسَانٍ مِنْ حِجَارَةٍ عَلَى فَرَسٍ مِنْ
حِجَارَةٍ فِي يَدِ التَّمْثَالِ الْوَاحِدَةِ الدُّرَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِي
الْمِحْرَابِ، وَيَدُهُ الْأُخْرَى مَقْبُوضَةٌ، فَأَمَرَ بِهَا فَكُسِرَتْ،
فَإِذَا فِيهَا حَبَّتَانِ; حَبَّةُ قَمْحٍ وَحَبَّةُ شَعِيرٍ، فَسَأَلَ عَنْ
ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ: لَوْ تَرَكْتَ الْكَفَّ لَمْ تَكْسِرْهَا لَمْ يُسَوِّسْ فِي
هَذَا الْبَلَدِ قَمْحٌ وَلَا شَعِيرٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَحْمَدُ الْوَرَّاقُ، وَكَانَ قَدْ عُمِّرَ مِائَةَ سَنَةٍ:
سَمِعْتُ بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ الْمُسْلِمُونَ دِمَشْقَ
وَجَدُوا عَلَى الْعَمُودِ الَّذِي عَلَى الْمِقْسِلَّاطِ عَلَى السَّفُّودِ
الْحَدِيدِ الَّذِي فِي أَعْلَاهُ صَنَمًا مَادًّا يَدَهُ بِكَفٍّ مُطْبَقَةٍ،
فَكَسَرُوهُ، فَإِذَا فِي يَدِهِ حَبَّةُ قَمْحٍ، فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ
لَهُمْ: هَذِهِ الْحَبَّةُ الْقَمْحِ جَعَلَهَا حُكَمَاءُ الْيُونَانِ فِي كَفِّ
هَذَا الصَّنَمِ طِلَّسْمًا، حَتَّى لَا يُسَوِّسَ الْقَمْحُ،
وَلَوْ أَقَامَ سِنِينَ كَثِيرَةً.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَقَدْ رَأَيْتُ أَنَا هَذَا السَّفُّودَ عَلَى قَنَاطِرِ
كَنِيسَةِ الْمِقْسِلَّاطِ، فَلَمَّا هُدِمَتِ الْقَنَاطِرُ ذَهَبَ. قُلْتُ:
كَنِيسَةُ الْمِقْسِلَّاطِ كَانَتْ مَبْنِيَّةً فَوْقَ الْقَنَاطِرِ الَّتِي فِي
السُّوقِ الْكَبِيرِ، عِنْدَ الصَّابُونِيِّينَ وَالْعَطَّارِينَ الْيَوْمَ،
وَعِنْدَهَا اجْتَمَعَتْ جُيُوشُ الْإِسْلَامِ يَوْمَ فَتْحِ دِمَشْقَ، دَخَلَ
أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ، وَخَالِدٌ مِنَ الْبَابِ الشَّرْقِيِّ،
وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ مِنْ بَابِ الْجَابِيَةِ الصَّغِيرِ، كَمَا
قَدَّمْنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ التَّمِيمِيُّ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ عَبْدِ الْوَهَّابِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ: سَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ
دِمَشْقَ يَقُولُونَ: إِنَّ فِي سَقْفِ مَسْجِدِ الْجَامِعِ طَلَاسِمَ عَمِلَهَا
الْحُكَمَاءُ فِي السَّقْفِ، مِمَّا يَلِي الْحَائِطَ الْقِبْلِيَّ، فِيهَا
طَلَاسِمُ لِلصَّنُونِيَّاتِ، لَا تَدْخُلُهُ وَلَا تُعَشِّشُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ
الْأَوْسَاخِ الَّتِي تَكُونُ مِنْهَا، وَلَا يَدْخُلُهُ غُرَابٌ، وَطِلَّسْمٌ
لِلْفَأْرِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ مَا أَبْصَرَ النَّاسُ مِنْ هَذَا
شَيْئًا إِلَّا الْفَأْرَ، وَيُشَكُّ أَنْ يَكُونَ قَدْ عُدِمَ طِلَّسْمُهَا
وَطِلَّسْمٌ لِلْعَنْكَبُوتِ
حَتَّى لَا يَنْسِجَ فِي زَوَايَاهُ،
فَيَرْكَبُهُ الْغُبَارُ وَالْوَسَخُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَسَمِعْتُ جَدِّي أَبَا الْفَضْلِ يَحْيَى
بْنَ عَلِيٍّ الْقَاضِيَ، يَذْكُرُ أَنَّهُ أَدْرَكَ فِي الْجَامِعِ قَبْلَ
حَرِيقِهِ طِلَّسْمَاتٍ لِسَائِرِ الْحَشَرَاتِ، مُعَلَّقَةً فِي السَّقْفِ فَوْقَ
الْبَطَائِنِ مِمَّا يَلِي السُّبْعَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِي
الْجَامِعِ شَيْءٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ قَبْلَ الْحَرِيقِ، فَلَمَّا احْتَرَقَتِ
الطِّلَّسْمَاتُ وُجِدَتْ، وَكَانَ حَرِيقُ الْجَامِعِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ
شَعْبَانَ بَعْدَ الْعَصْرِ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَقَدْ كَانَتْ بِدِمَشْقَ طِلَّسْمَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا سِوَى
الْعَمُودِ الَّذِي بِسُوقِ الْعَلَبِيِّينَ الْيَوْمَ الَّذِي فِي أَعْلَاهُ
مِثْلُ الْكُرَةِ الْعَظِيمَةِ، وَهُوَ لِعُسْرِ بَوْلِ الدَّوَابِّ إِذَا دَارُوا
بِالدَّابَّةِ حَوْلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ انْطَلَقَ.
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا هَذَا قَبْرُ مُشْرِكٍ مُتَمَرِّدٍ مَدْفُونٌ
هُنَالِكَ يُعَذَّبُ، فَإِذَا سَمِعَتِ الدَّابَّةُ صِيَاحَهُ فَزِعَتْ
فَانْطَلَقَ طَبْعُهَا. قَالَ: وَلِهَذَا يَذْهَبُونَ بِالدَّوَابِّ إِلَى
مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا مَغَلَتْ فَيَنْطَلِقُ طِبَاعُهَا
وَتَرُوثُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهَا تَسْمَعُ أَصْوَاتَهُمْ وَهُمْ
يُعَذَّبُونَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ السَّاعَاتِ الَّتِي عَلَى
بَابِهِ
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ زَبْرٍ: إِنَّمَا سُمِّيَ
بَابُ الْجَامِعِ الْقِبْلِيُّ بَابَ السَّاعَاتِ; لِأَنَّهُ عُمِلَ هُنَاكَ
بِرْكَارُ السَّاعَاتِ; يُعْلَمُ بِهَا كُلُّ سَاعَةٍ تَمْضِي مِنَ النَّهَارِ،
عَلَيْهَا عَصَافِيرُ مِنْ نُحَاسٍ، وَحَيَّةٌ مِنْ نُحَاسٍ، وَغُرَابٌ، فَإِذَا
تَمَّتِ السَّاعَةُ خَرَجَتِ الْحَيَّةُ فَصَفَّرَتِ الْعَصَافِيرُ، وَصَاحَ
الْغُرَابُ، وَسَقَطَتْ حَصَاةٌ فِي الطَّسْتِ فَيَعْلَمُ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ
ذَهَبَ مِنَ النَّهَارِ سَاعَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِهَا.
قُلْتُ: هَذَا يَحْتَمِلُ أَحَدَ شَيْئَيْنِ; إِمَّا أَنَّ السَّاعَاتِ كَانَتْ
فِي الْبَابِ الْقِبْلِيِّ مِنَ الْجَامِعِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَابُ
الزِّيَادَةِ، وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مُحْدَثٌ بَعْدَ بِنَاءِ الْجَامِعِ،
وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ أَنَّ السَّاعَاتِ كَانَتْ عِنْدَهُ فِي زَمَنِ الْقَاضِي
ابْنِ زَبْرٍ. وَإِمَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي الْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مِنَ
الْجَامِعِ، فِي حَائِطِهِ الْقِبْلِيِّ بَابٌ آخَرُ فِي مُحَاذَاةِ بَابِ
الزِّيَادَةِ، وَعِنْدَهُ السَّاعَاتُ، ثُمَّ نُقِلَتْ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى
بَابِ الْوَرَّاقِينَ الْيَوْمَ; وَهُوَ بَابُ الْجَامِعِ مِنَ الشَّرْقِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَأَمَّا الْقُبَّةُ الَّتِي فِي وَسَطِ صَحْنِ الْجَامِعِ الَّتِي فِيهَا
الْمَاءُ الْجَارِي، وَتَقُولُ
الْعَامَّةُ لَهَا: قُبَّةُ أَبِي
نُوَاسٍ. فَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
أَرَّخَ ذَلِكَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ خَطِّ بَعْضِ الدَّمَاشِقَةِ، وَأَمَّا
الْقُبَّةُ الْغَرْبِيَّةُ الْعَالِيَةُ الَّتِي فِي صَحْنِ الْجَامِعِ، الَّتِي
يُقَالُ لَهَا: قُبَّةُ عَائِشَةَ. فَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الذَّهَبِيَّ يَقُولُ:
إِنَّهَا إِنَّمَا بُنِيَتْ فِي حُدُودِ سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَةٍ، فِي أَيَّامِ
الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ الْعَبَّاسِيِّ، وَجَعَلُوهَا لِحَوَاصِلِ
الْجَامِعَ وَكُتُبِ أَوْقَافِهِ. وَأَمَّا الْقُبَّةُ الشَّرْقِيَّةُ الَّتِي
عَلَى بَابِ مَشْهَدِ عَلِيٍّ فَيُقَالُ: إِنَّهَا بُنِيَتْ فِي زَمَنِ الْحَاكِمِ
الْعُبَيْدِيِّ فِي حُدُودِ سَنَةِ أَرْبَعِمِائَةٍ.
وَأَمَّا الْفَوَّارَةُ الَّتِي تَحْتَ دُرْجِ جَيْرُونَ فَعَمِلَهَا الشَّرِيفُ
فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو يَعْلَى حَمْزَةُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ
الْحُسَيْنِيُّ، وَكَأَنَّهُ كَانَ نَاظِرَ الْجَامِعِ، وَجَرَّ إِلَيْهَا
قِطْعَةً مِنْ حَجَرٍ كَبِيرٍ مِنْ قَصْرِ حَجَّاجٍ، وَأَجْرَى فِيهَا الْمَاءَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ
سَبْعَ عَشَرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَعُمِلَتْ حَوْلَهَا قَنَاطِرُ، وَعُقِدَ عَلَيْهَا
قُبَّةٌ، ثُمَّ سَقَطَتِ الْقُبَّةُ بِسَبَبِ جِمَالٍ تَحَاكَّتْ عِنْدَهَا
وَازْدَحَمَتْ، وَذَلِكَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
فَأُعِيدَتْ، ثُمَّ سَقَطَتْ أَعْمِدَتُهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ حَرِيقِ
اللَّبَّادِينَ وَدَارِ الْحِجَارَةِ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ
وَخَمْسِمِائَةٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
قُلْتُ: وَأَمَّا الْقَصْعَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْفَوَّارَةِ، فَمَا زَالَتْ
وَسَطَهَا، وَقَدْ أَدْرَكْتُهَا
كَذَلِكَ، ثُمَّ رُفِعَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ.
وَكَانَ بِطَهَّارَةِ جَيْرُونَ قَصْعَةٌ أُخْرَى مِثْلُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهَا،
ثُمَّ لَمَّا انْهَدَمَتِ اللَّبَّادِينَ بِسَبَبِ حَرِيقِ النَّصَارَى فِي سَنَةِ
إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، اسْتُؤْنِفَ بِنَاءُ الطَّهَارَةِ عَلَى وَجْهٍ
آخَرَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَتْ، وَذَهَبَتْ تِلْكَ الْقَصْعَةُ فَلَمْ يَبْقَ
لَهَا أَثَرٌ، ثُمَّ عُمِلَ الشَّاذِرْوَانُ الَّذِي هُوَ شَرْقِيُّ فَوَّارَةِ
جَيْرُونَ بَعْدَ الْخَمْسِمِائَةِ، أَظُنُّهُ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ
وَخَمْسِمِائَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ السُّبْعِ بِالْجَامِعِ الْأُمَوِيِّ
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ مُوسَى بْنُ عَامِرٍ
الْمُرِّيُّ، ثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو
الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: الدِّرَاسَةُ مُحْدَثَةٌ،
أَحْدَثَهَا هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ فِي قَدْمَتِهِ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ، فَحَجَبَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَجَلَسَ بَعْدَ الصُّبْحِ فِي
مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَسَمِعَ قِرَاءَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ أَنَّ
عَبْدَ الْمَلِكِ يَقْرَأُ فِي الْخَضْرَاءِ، فَقَرَأَ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
فَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَقْرَأُ بِقِرَاءَةِ هِشَامٍ، فَقَرَأَ بِقِرَاءَتِهِ
مَوْلًى لَهُ، فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ مَنْ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، فَقَرَءُوا
بِقِرَاءَتِهِ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ خَطِيبُ دِمَشْقَ: ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ حَسَّانَ،
ثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ،
ثَنَا خَالِدُ بْنُ دِهْقَانَ، قَالَ:
أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ الْقِرَاءَةَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ هِشَامُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَأَوَّلُ مَنْ
أَحْدَثَ الْقِرَاءَةَ بِفِلَسْطِينَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْجُرَشِيُّ.
قُلْتُ: هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا كَانَ نَائِبًا عَلَى الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ضَرَبَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمَّا
امْتَنَعَ مِنَ الْبَيْعَةِ لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَبْلَ أَنْ
يَمُوتَ أَبُوهُ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا الْوَلِيدُ، وَوَلَّى عَلَيْهَا عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ حَضَرَ هَذَا السُّبْعَ جَمَاعَاتٌ مِنْ سَادَاتِ السَّلَفِ مِنَ
التَّابِعِينَ بِدِمَشْقَ; مِنْهُمْ هِشَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَخْزُومِيُّ،
وَمَوْلَاهُ رَافِعٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ
وَكَانَ مُكْتِبًا لِأَوْلَادِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَقَدْ وَلِيَ
إِمْرَةَ إِفْرِيقِيَّةَ لِهِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَابْنَاهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ وَمَرْوَانُ.
وَحَضَرَهُ مِنَ الْقُضَاةِ أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْخَوْلَانِيُّ، وَنُمَيْرُ بْنُ أَوْسٍ الْأَشْعَرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي
الْهَمْدَانِيِّ، وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيُّ، وَمُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَبِيدٍ الْأَسَدِيُّ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْحُفَّاظِ الْمُقْرِئِينَ، أَبُو
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ مُعَاوِيَةَ،
وَمَكْحُولٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى الْأَشْدَقُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْعَلَاءِ بْنِ زَبْرٍ، وَأَبُو إِدْرِيسَ الْأَصْغَرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عِرَاكٍ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَامِرٍ
الْيَحْصُبِيُّ أَخُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ
الذِّمَارِيُّ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ النُّعْمَانِ الْمُزَنِيُّ، وَأَنَسُ بْنُ
أُنَيْسٍ الْعُذْرِيُّ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ بَزِيعٍ الْقَارِئُ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ دَاوُدَ الْخُشَنِيُّ، وَنَمْرَانُ أَوْ هَزَّانُ بْنُ حَكِيمٍ الْقُرَشِيُّ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ الْأَزْدِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ
عُبَيْدَةَ بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، وَعَيَّاشُ بْنُ دِينَارٍ وَغَيْرُهُمْ،
هَكَذَا أَوْرَدَهُمُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ كَرِهَ اجْتِمَاعَهُمْ وَأَنْكَرَهُ، وَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ.
ثُمَّ سَاقَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، ثَنَا عَمْرُو بْنُ
عُثْمَانَ، ثَنَا الْوَلِيدُ هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَرْزَبٍ
يُنْكِرُ الدِّرَاسَةَ، وَيَقُولُ: مَا رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ، وَقَدْ
أَدْرَكْتُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَانَ الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَمِيرًا
عَلَى دِمَشْقَ، فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَصْلٌ ( فِي ابْتِدَاءِ عِمَارَةِ
جَامِعِ دِمَشْقَ )
كَانَ ابْتِدَاءُ عِمَارَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ فِي أَوَاخِرَ سَنَةِ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ; هُدِمَتِ الْكَنِيسَةُ الَّتِي كَانَتْ مَوْضِعَهُ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الْهَدْمِ، شَرَعُوا فِي الْبِنَاءِ،
وَتَكَامَلَ فِي عَشْرِ سِنِينَ، فَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ بَانِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَدْ بَقِيَتْ
فِيهِ بَقَايَا، فَكَمَّلَهَا أَخُوهُ سُلَيْمَانُ، كَمَا ذَكَرْنَا.
فَأَمَّا قَوْلُ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ: سَأَلْتُ هِشَامَ بْنَ عَمَّارٍ عَنْ
قِصَّةِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَهَذِهِ الْكَنِيسَةِ قَالَ: كَانَ الْوَلِيدُ قَالَ
لِلنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ: مَا شِئْتُمْ، إِنَّا أَخَذْنَا كَنِيسَةَ
تُومَا عَنْوَةً وَكَنِيسَةَ الدَّاخِلَةِ صُلْحًا، فَأَنَا أَهْدِمُ كَنِيسَةَ
تُومَا؟ قَالَ هِشَامٌ: وَتِلْكَ أَكْبَرُ مِنْ هَذِهِ الدَّاخِلَةِ، قَالَ:
فَرَضُوا أَنْ أَهْدِمَ كَنِيسَةَ الدَّاخِلَةِ، وَأُدْخِلَهَا فِي الْمَسْجِدِ.
قَالَ: وَكَانَ بَابُهَا قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ، وَهُوَ الْمِحْرَابُ
الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ قَالَ: وَهَدْمُ الْكَنِيسَةِ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ
الْوَلِيدِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَمَكَثُوا فِي بِنَائِهِ سَبْعَ سِنِينَ،
حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ، وَلَمْ يُتِمَّ بِنَاءَهُ، فَأَتَمَّهُ هِشَامٌ مِنْ
بَعْدِهِ. فَفِيهِ فَوَائِدُ، وَفِيهِ غَلَطٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ
مَكَثُوا فِي بِنَائِهِ سَبْعَ سِنِينَ. وَالصَّوَابُ: عَشْرَ سِنِينَ، فَإِنَّهُ
لَا خِلَافَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ وَقَدْ حَكَى أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ
أَهْلِ السِّيَرِ. وَقَوْلُهُ: لَمْ يَتِمَّ بِنَاؤُهُ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ.
بَلْ قَدْ تَمَّ، وَلَكِنْ بَقِيَتْ بَقِيَّاتٌ مِنَ الزَّخْرَفَةِ، فَأَكْمَلَهَا
أَخُوهُ سُلَيْمَانُ لَا هِشَامٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي جَامِعِ دِمَشْقَ،
وَذِكْرُ وَفَاتِهِ فِي هَذَا الْعَامِ
هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، أَبُو
الْعَبَّاسِ الْأُمَوِيُّ، بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَبِيهِ بِعَهْدٍ
مِنْهُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ
وَالْوَلِيَّ مِنْ بَعْدِهِ، وَأُمُّهُ وَلَّادَةُ بِنْتُ الْعَبَّاسِ بْنِ
جُزِيِّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
خَمْسِينَ، وَكَانَ أَبَوَاهُ يُتْرِفَانِهِ، فَشَبَّ بِلَا أَدَبٍ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ
الْعَرَبِيَّةَ، وَكَانَ طَوِيلًا أَسْمَرَ، بِهِ أَثَرُ جُدَرِيٍّ، أَفْطَسَ
الْأَنْفِ سَائِلَهُ، وَكَانَ إِذَا مَشَى يَتَوَكَّفُ فِي الْمِشْيَةِ أَيْ
يَتَبَخْتَرُ وَكَانَ جَمِيلًا، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ دَمِيمًا، قَدْ شَابَ فِي
مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ، وَقَدْ رَأَى سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَسَمِعَ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ; لَمَّا قَدِمَ
عَلَيْهِ سَأَلَهُ مَاذَا سَمِعَ فِي
أَشْرَاطِ السَّاعَةَ؟ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَرْجَمَةِ أَنَسٍ، وَسَمِعَ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيِّبِ، وَحَكَى عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ أَرَادَ أَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ ثُمَّ
تَوَقَّفَ; لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ، فَجَمَعَ الْوَلِيدُ جَمَاعَةً
مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ عِنْدَهُ فَأَقَامُوا سَنَةً، وَقِيلَ: سِتَّةَ أَشْهُرٍ.
فَخَرَجَ يَوْمَ خَرَجَ أَجْهَلَ مِمَّا كَانَ، فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: قَدْ
أُجْهِدَ وَأُعْذِرَ.
وَقِيلَ: إِنَّ أَبَاهُ عَبْدَ الْمَلِكِ أَوْصَاهُ عِنْدَ مَوْتِهِ، فَقَالَ
لَهُ: لَا أَلْفَيَنَّكَ إِذَا مِتُّ، تَجْلِسُ تَعْصِرُ عَيْنَيْكَ، وَتَحِنُّ
حَنِينَ الْأَمَةِ، وَلَكِنْ شَمِّرْ وَائْتَزِرْ وَدَلِّنِي فِي حُفْرَتِي
وَخَلِّنِي وَشَأْنِي، وَادْعُ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ; فَمَنْ قَالَ
بِرَأْسِهِ هَكَذَا فَقُلْ بِسَيْفِكَ هَكَذَا.
وَقَالَ اللَّيْثُ: وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعَيْنِ غَزَا الْوَلِيدُ بِلَادَ
الرُّومِ، وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَيْضًا. وَقَالَ غَيْرُهُ: غَزَا فِي
الَّتِي قَبْلَهَا، وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا بِلَادَ مَلَطْيَةَ وَغَيْرَهَا.
وَكَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: أُؤْمِنُ بِاللَّهِ مُخْلِصًا. وَقِيلَ: كَانَ
نَقْشُهُ: يَا وَلِيدُ إِنَّكَ مَيِّتٌ. وَيُقَالُ: إِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ
بِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَةَ: قَالَ لِي الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ يَوْمًا: فِي كَمْ تَخْتِمُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: فِي كَذَا وَكَذَا.
فَقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى شُغْلِهِ يَخْتِمُهُ فِي
كُلِّ ثَلَاثٍ. وَقِيلَ: فِي كُلِّ
سَبْعٍ. قَالَ: وَكَانَ يَقْرَأُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ خَتْمَةً.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَلِيدُ ! وَأَيْنَ مِثْلُهُ؟ بَنَى
مَسْجِدَ دِمَشْقَ وَكَانَ يُعْطِينِي قِصَاعَ الْفِضَّةِ، فَأُقَسِّمُهَا عَلَى
قُرَّاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ الْوَلِيدُ
يَوْمًا مِنَ الْبَابِ الْأَصْغَرِ، فَرَأَى رَجُلًا عِنْدَ الْمِئْذَنَةِ
الشَّرْقِيَّةِ يَأْكُلُ شَيْئًا، فَأَتَاهُ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ
يَأْكُلُ خُبْزًا وَتُرَابًا، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ:
الْقُنُوعُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَذَهَبَ إِلَى مَجْلِسِهِ، ثُمَّ
اسْتَدْعَى بِهِ، فَقَالَ: إِنْ لَكَ لَشَأْنًا، فَأَخْبِرْنِي بِهِ وَإِلَّا
ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ. فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
كُنْتُ رَجُلًا جَمَّالًا، فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مِنْ مَرْجِ الصُّفَّرِ
قَاصِدًا إِلَى الْكُسْوَةِ إِذْ زَرَتَنِي الْبَوْلُ، فَعَدَلْتُ إِلَى خَرِبَةٍ
لِأَبُولَ، فَإِذَا سَرَبٌ فَحَفَرْتُهُ فَإِذَا مَالٌ صَبِيبٌ، فَمَلَأْتُ مِنْهُ
غَرَائِرِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَقُودُ بِرَوَاحِلِي، وَإِذَا بِمِخْلَاةٍ مَعِي
فِيهَا طَعَامٌ فَأَلْقَيْتُهُ مِنْهَا، وَقُلْتُ: إِنِّي سَآتِي الْكُسْوَةَ،
وَرَجَعْتُ إِلَى الْخَرِبَةِ، لِأَمْلَأَ تِلْكَ الْمِخْلَاةَ مِنْ ذَلِكَ
الْمَالِ، فَلَمْ أَهْتَدِ إِلَى الْمَكَانِ بَعْدَ الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ،
فَلَمَّا أَيِسْتُ رَجَعْتُ إِلَى الرَّوَاحِلِ فَلَمْ أَجِدْهَا وَلَمْ أَجِدِ
الطَّعَامَ، فَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنِّي لَا آكُلُ إِلَّا خُبْزًا وَتُرَابًا.
قَالَ: فَهَلْ لَكَ عِيَالٌ؟ قَالَ:
نَعَمْ. فَفَرَضَ لَهُ فِي بَيْتِ
الْمَالِ.
قَالَ ابْنُ جَابِرٍ: وَبَلَغَنَا أَنَّ تِلْكَ الرَّوَاحِلَ سَارَتْ حَتَّى
أَتَتْ بَيْتَ الْمَالِ، فَتَسَلَّمَهَا خَازِنُهُ فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ.
وَقَالَ نُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السَّمْعَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَوْمَ
لُوطٍ فِي الْقُرْآنِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا.
قَالُوا: وَكَانَ الْوَلِيدُ لَحَّانًا. كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ
الْوَلِيدَ خَطَبَ يَوْمًا، فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ
الْقَاضِيَةَ [ الْحَاقَّةِ: 27 ] فَضَمَّ التَّاءَ مِنْ لَيْتَهَا فَقَالَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ عَلَيْكَ وَأَرَاحَنَا اللَّهُ
مِنْكَ. وَكَانَ يَقُولُ: يَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: إِنَّكَ لَرَجُلٌ
لَوْلَا أَنَّكَ تَلْحَنُ. فَقَالَ: وَهَذَا ابْنُكَ الْوَلِيدُ يَلْحَنُ.
فَقَالَ: لَكِنَّ ابْنِي سُلَيْمَانَ لَا يَلْحَنُ. فَقَالَ الرَّجُلُ: وَأَخِي
أَبُو فُلَانٍ لَا يَلْحَنُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنِي
عُمَرُ، ثَنَا عَلِيٌّ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيَّ قَالَ: كَانَ
الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ أَفْضَلَ خَلَائِفِهِمْ،
بَنَى الْمَسَاجِدَ بِدِمَشْقَ، وَوَضَعَ الْمَنَارَ، وَأَعْطَى النَّاسَ
وَأَعْطَى الْمَجْذُومِينَ، وَقَالَ لَهُمْ: لَا تَسْأَلُوا النَّاسَ، وَأَعْطَى
كُلَّ مُقْعَدٍ خَادِمًا، وَكُلَّ ضَرِيرٍ قَائِدًا، وَفَتَحَ فِي وِلَايَتِهِ
فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً عِظَامًا، فَفَتَحَ الْهِنْدَ وَالسِّنْدَ وَالْأَنْدَلُسَ،
وَغَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ مَعَ هَذَا يَمُرُّ بِالْبَقَّالِ فَيَأْخُذُ
حُزْمَةَ الْبَقْلِ بِيَدِهِ، وَيَقُولُ: بِكَمْ تَبِيعُ هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِفَلْسٍ.
فَيَقُولُ: زِدْ فِيهَا فَإِنَّكَ تَرْبَحُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَبَرُّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ وَيُكْرِمُهُمْ، وَيَقْضِي
عَنْهُمْ دُيُونَهُمْ.
قَالُوا: وَكَانَتْ هِمَّةُ الْوَلِيدِ فِي الْبِنَاءِ وَكَانَ النَّاسُ كَذَلِكَ;
يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: مَاذَا بَنَيْتَ ؟ مَاذَا عَمَرْتَ ؟
وَكَانَتْ هِمَّةُ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ فِي النِّسَاءِ، فَكَانَ النَّاسُ
كَذَلِكَ; يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ، فَيَقُولُ: كَمْ تَزَوَّجْتَ؟ مَاذَا
عِنْدَكَ مِنَ السَّرَارِيِّ؟ وَكَانَتْ هِمَّةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، فَكَانَ النَّاسُ
كَذَلِكَ; يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: كَمْ وِرْدُكَ؟ كَمْ تَقْرَأُ
كُلَّ يَوْمٍ؟ مَاذَا صَلَّيْتَ الْبَارِحَةَ؟.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الْوَلِيدُ جَبَّارًا ذَا سَطْوَةٍ شَدِيدَةٍ لَا
يَتَوَقَّفُ إِذَا غَضِبَ،
لَجُوجًا، كَثِيرَ الْأَكْلِ
وَالْجِمَاعِ، مِطْلَاقًا، يُقَالُ: إِنَّهُ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ
امْرَأَةً غَيْرَ الْإِمَاءِ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُرَادُ بِهَذَا الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ لَا
الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بَانِي الْجَامِعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: بَنَى الْوَلِيدُ الْجَامِعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَلَمْ
يَكُنْ لَهُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرٌ، وَبَنَى صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَقَدَ
عَلَيْهَا الْقُبَّةَ، وَبَنَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَوَسَّعَهُ، حَتَّى دَخَلَتِ الْحُجْرَةُ الَّتِي فِيهَا الْقَبْرُ
فِيهِ، وَلَهُ آثَارٌ حِسَانٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
يَوْمِ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ السِّيَرِ. وَقَالَ عَمْرُو
بْنُ عَلِيٍّ الْفَلَّاسُ وَجَمَاعَةٌ: كَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتِ
لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ - وَقِيلَ: ثَلَاثٍ،
وَقِيلَ: تِسْعٍ، وَقِيلَ: أَرْبَعٍ - وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدَيْرِ مُرَّانَ، فَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ
حَتَّى دُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ، وَقِيلَ: بِمَقَابِرِ بَابِ
الْفَرَادِيسِ. حَكَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ.
وَكَانَ الَّذِي صَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ; لِأَنَّ أَخَاهُ
سُلَيْمَانَ كَانَ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ، وَقِيلَ: صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ
عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ.
وَالصَّحِيحُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ إِلَى
قَبْرِهِ، وَقَالَ حِينَ أَنْزَلَهُ: لَتَنْزِلَنَّهُ غَيْرَ مُوَسَّدٍ وَلَا
مُمَهَّدٍ، قَدْ خَلَّفْتَ الْأَسْبَابَ، وَفَارَقْتَ الْأَحْبَابَ، وَسَكَنْتَ
التُّرَابَ، وَوَاجَهْتَ الْحِسَابَ، فَقِيرًا إِلَى مَا تُقْدِمُ عَلَيْهِ،
غَنِيًّا عَمَّا تُخَلِّفُ.
وَجَاءَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَنَّهُ
أَخْبَرَ أَنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْوَلِيدَ فِي لَحْدِهِ ارْتَكَضَ فِي
أَكْفَانِهِ، وَجُمِعَتْ رِجْلَاهُ إِلَى عُنُقِهِ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ تِسْعَ سِنِينَ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ عَلَى الْمَشْهُورِ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَكَانَ لَهُ مِنَ الْوَلَدِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا
ذَكَرًا; وَهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْعَبَّاسُ، وَإِبْرَاهِيمُ،
وَتَمَّامٌ، وَخَالِدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَمُبَشِّرٌ، وَمَسْرُورٌ، وَأَبُو
عُبَيْدَةَ، وَصَدَقَةُ، وَمَنْصُورٌ، وَمَرْوَانُ، وَعَنْبَسَةُ، وَعُمَرُ،
وَرَوْحٌ، وَبِشْرٌ، وَيَزِيدُ، وَيَحْيَى، فَأُمُّ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَمُحَمَّدٍ; أُمُّ الْبَنِينَ بِنْتُ عَمِّهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ،
وَأُمُّ أَبِي عُبَيْدَةَ فَزَارِيَّةٌ، وَسَائِرُهُمْ مِنْ أُمَّهَاتِ أَوْلَادٍ
شَتَّى.
قَالَ الْمَدَائِنِيُّ: وَقَدْ رَثَاهُ جَرِيرٌ فَقَالَ:
يَا عَيْنُ جُودِي بِدَمْعٍ هَاجَهُ
الذِّكَرُ فَمَا لِدَمْعِكِ بَعْدَ الْيَوْمِ مُدَّخَرُ إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ
وَارَتْ شَمَائِلَهُ
غَبْرَاءُ مُلْحَدَةٌ فِي جَوْلِهَا زَوَرُ أَضْحَى بَنُوهُ وَقَدْ جَلَّتْ
مُصِيبَتُهُمْ
مِثْلَ النُّجُومِ هَوَى مِنْ بَيْنِهَا الْقَمَرُ كَانُوا جَمِيعًا فَلَمْ
يَدْفَعْ مَنِيَّتَهُ
عَبْدُ الْعَزِيزِ وَلَا رَوْحٌ وَلَا عُمْرَ
وَمِمَّنْ هَلَكَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ:
زِيَادُ بْنُ جَارِيَةَ التَّمِيمِيُّ الدِّمَشْقِيُّ
كَانَتْ دَارُهُ غَرْبِيَّ قَصْرِ الثَّقَفِيِّينَ. رَوَى عَنْ حَبِيبِ بْنِ
مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِمَنْ لَهُ مَا
يُغَدِّيهِ وَيُعَشِّيهِ، وَفِي النَّفْلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ
صُحْبَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ. رَوَى عَنْهُ عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ،
وَمَكْحُولٌ، وَيُونُسُ بْنُ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ، وَمَعَ هَذَا قَالَ فِيهِ
أَبُو حَاتِمٍ: شَيْخٌ مَجْهُولٌ. وَوَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى
مَسْجِدِ دِمَشْقَ وَقَدْ أُخِّرَتِ الصَّلَاةُ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا بَعَثَ
اللَّهُ نَبِيًّا بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَكُمْ
بِهَذِهِ الصَّلَاةِ هَذَا الْوَقْتَ. قَالَ: فَأُخِذَ فَأُدْخِلَ الْخَضْرَاءَ
فَقُطِعَ رَأْسُهُ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ
عُثْمَانَ
أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ قَاضِيَ الْمَدِينَةِ وَكَانَ شَرِيفًا، كَثِيرَ
الْمَعْرُوفِ، جَوَادًا، مُمَدَّحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
خِلَافَةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ يَوْمَ مَاتَ،
وَكَانَ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بِالرَّمْلَةِ، وَكَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مِنْ
بَعْدِ أَخِيهِ عَنْ وَصِيَّةِ أَبِيهِمَا عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَقَدْ كَانَ الْوَلِيدُ قَدْ عَزَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى خَلْعِ أَخِيهِ
سُلَيْمَانَ، وَأَنْ يَجْعَلَ وِلَايَةَ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ الْحَجَّاجُ طَاوَعَهُ عَلَى
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَقَدْ أَنْشَدَ فِي ذَلِكَ جَرِيرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ قَصَائِدَ
فَلَمْ يَنْتَظِمْ ذَلِكَ لَهُ حَتَّى مَاتَ، وَانْعَقَدَتِ الْبَيْعَةُ إِلَى
سُلَيْمَانَ، فَخَافَهُ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَزَمَ عَلَى أَنْ لَا
يُبَايِعَهُ، فَعَزَلَهُ سُلَيْمَانُ، وَوَلَّى عَلَى إِمْرَةِ الْعِرَاقِ ثُمَّ
خُرَاسَانَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ; فَأَعَادَهُ إِلَى إِمْرَتِهَا بَعْدَ
عَشْرِ سِنِينَ، وَأَمَرَهُ بِمُعَاقَبَةِ آلِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، وَكَانَ
الْحَجَّاجُ هُوَ الَّذِي عَزَلَ يَزِيدَ عَنْ خُرَاسَانَ.
وَلِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ سُلَيْمَانُ عَنْ إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ
بْنَ حَيَّانَ، وَوَلَّى عَلَيْهَا أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، وَكَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ حِينَ بَلَغَهُ وِلَايَةُ سُلَيْمَانَ
الْخِلَافَةَ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا يُعَزِّيهِ فِي أَخِيهِ، وَيُهَنِّئُهُ
بِوِلَايَتِهِ، وَيَذْكُرُ فِيهِ بَلَاءَهُ وَعَنَاءَهُ وَقِتَالَهُ وَهَيْبَتَهُ
فِي صُدُورِ الْأَعْدَاءِ، وَمَا فَتَحَ اللَّهُ مِنَ الْبِلَادِ وَالْمُدُنِ
وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ عَلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ لَهُ عَلَى مِثْلِ مَا
كَانَ لِلْوَلِيدِ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الطَّاعَةِ وَالنَّصِيحَةِ، إِنْ لَمْ
يَعْزِلْهُ عَنْ خُرَاسَانَ وَنَالَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ، ثُمَّ كَتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَذْكُرُ فِيهِ مَا فَعَلَ مِنَ
الْقِتَالِ وَالْفُتُوحَاتِ وَهَيْبَتَهُ فِي صُدُورِ الْمُلُوكِ وَالْأَعَاجِمِ،
وَيَذُمُّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَيْضًا، وَيُقْسِمُ فِيهِ لَئِنْ عَزَلَهُ
وَوَلَّى يَزِيدَ لَيَخْلَعَنَّ سُلَيْمَانَ عَنِ الْخِلَافَةِ، وَكَتَبَ كِتَابًا
ثَالِثًا فِيهِ خَلْعُ سُلَيْمَانَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبَعَثَ بِهَا مَعَ
الْبَرِيدِ، وَقَالَ لَهُ: ادْفَعْ إِلَيْهِ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ فَإِنْ
قَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فَادْفَعْ إِلَيْهِ
الثَّانِيَ، فَإِنْ قَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَادْفَعْ إِلَيْهِ
الثَّالِثَ، فَلَمَّا قَرَأَ سُلَيْمَانُ الْكِتَابَ الْأَوَّلَ وَاتَّفَقَ
حُضُورُ يَزِيدَ عِنْدَ سُلَيْمَانَ دَفَعَهُ إِلَى يَزِيدَ، فَقَرَأَهُ،
فَنَاوَلَهُ الْبَرِيدُ الْكِتَابَ الثَّانِيَ، فَقَرَأَهُ وَدَفَعَهُ إِلَى
يَزِيدَ، فَنَاوَلَهُ الْبَرِيدُ الْكِتَابَ الثَّالِثَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ
التَّصْرِيحُ بِعَزْلِهِ وَخَلْعِهِ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ خَتَمَهُ
وَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَى يَزِيدَ، وَأَمَرَ بِإِنْزَالِ
الْبَرِيدِ فِي دَارِ الضِّيَافَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ اللَّيْلِ بَعَثَ إِلَى
الْبَرِيدِ فَأَحْضَرَهُ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ ذَهَبًا وَكِتَابًا فِيهِ وِلَايَةُ
قُتَيْبَةَ عَلَى خُرَاسَانَ، وَأَرْسَلَ مَعَ ذَلِكَ الْبَرِيدِ بَرِيدًا آخَرَ
مِنْ جِهَتِهِ لِيُقَرِّرَهُ عَلَيْهَا، فَلَمَّا وَصَلَا بِلَادَ خُرَاسَانَ
بَلَغَهُمَا أَنَّ قُتَيْبَةَ قَدْ خَلَعَ الْخَلِيفَةَ،
فَدَفَعَ بَرِيدُ سُلَيْمَانَ
الْكِتَابَ الَّذِي مَعَهُ إِلَى بَرِيدِ قُتَيْبَةَ، ثُمَّ بَلَغَهُمَا مَقْتَلُ
قُتَيْبَةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ بَرِيدُ سُلَيْمَانَ.
ذِكْرُ سَبَبِ مَقْتَلِ قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ
وَذَلِكَ أَنَّهُ جَمَعَ الْجُنْدَ وَالْجُيُوشَ، وَعَزَمَ عَلَى خَلْعِ
سُلَيْمَانَ وَتَركِ طَاعَتِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ هِمَّتَهُ وَفُتُوحَهُ وَعَدْلَهُ
فِيهِمْ، وَدَفْعَهُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ
مَقَالَتِهِ، لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى مَقَالَتِهِ، فَشَرَعَ فِي
تَأْنِيبِهِمْ وَذَمِّهِمْ، قَبِيلَةً قَبِيلَةً، وَطَائِفَةً طَائِفَةً،
فَغَضِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَتَفَرَّقُوا، وَعَمِلُوا عَلَى
مُخَالَفَتِهِ وَسَعَوْا فِي قَتْلِهِ، وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً
ثُمَّ نَاهَضَهُ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى قَتَلَهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلَ مَعَهُ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ إِخْوَتِهِ
وَأَبْنَاءِ إِخْوَتِهِ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ سِوَى ضِرَارِ بْنِ مُسْلِمٍ
وَكَانَتْ أُمُّهُ الْغَرَّاءَ بِنْتَ ضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ مَعْبَدِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ، فَحَمَتْهُ أَخْوَالُهُ وَعَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ،
وَكَانَ عَامِلَ الْجَوْزَجَانِ. وَقُتِلَ قُتَيْبَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
وَعَبْدُ اللَّهِ وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَصَالِحٌ وَبَشَّارٌ، وَهَؤُلَاءِ أَبْنَاءُ
مُسْلِمٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَبْنَائِهِمْ فَقَتَلَهُمْ كُلَّهُمْ وَكِيعُ بْنُ
سُودٍ.
وَقَدْ كَانَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُصَيْنِ بْنِ رَبِيعَةَ
أَبُو حَفْصٍ الْبَاهِلِيُّ، مِنْ سَادَاتِ الْأُمَرَاءِ وَخِيَارِهِمْ، وَكَانَ
مِنَ الْقَادَةِ النُّجَبَاءِ الْكُبَرَاءِ، وَالشُّجْعَانِ وَذَوِي
الْحُرُوبِ وَالْفُتُوحَاتِ
السَّعِيدَةِ، وَالْآرَاءِ الْحَمِيدَةِ، وَقَدْ هَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ
خَلْقًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ، فَأَسْلَمُوا وَدَانُوا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَفَتَحَ مِنَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ الْكِبَارِ وَالْمُدُنِ
الْعِظَامِ شَيْئًا كَثِيرًا، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُضِيعُ سَعْيَهُ، وَلَا يُخَيِّبُ تَعَبَهُ
وَجِهَادَهُ.
وَلَكِنْ زَلَّ زَلَّةً كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ، وَفَعَلَ فَعْلَةً رَغِمَ فِيهَا
أَنْفُهُ، وَخَلَعَ الطَّاعَةَ فَبَادَرَتْ إِلَيْهِ الْمَنِيَّةُ، وَفَارَقَ
الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، لَكِنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ
الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا قَدْ يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ مِنْ
سَيِّئَاتِهِ، وَيَمْحُو بِهَا عَنْهُ مِنْ خَطِيَّاتِهِ، وَاللَّهُ يُسَامِحُهُ
وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَتَقَبَّلُ مِنْهُ مَا كَانَ يُكَابِدُهُ مِنْ مُنَاجَزَةِ
الْأَعْدَاءِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِفَرْغَانَةَ مِنْ أَقْصَى بِلَادِ خُرَاسَانَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً، وَكَانَ أَبُوهُ أَبُو صَالِحٍ مِمَّنْ قُتِلَ مَعَ مُصْعَبِ بْنِ
الزُّبَيْرِ، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَى خُرَاسَانَ عَشْرَ سِنِينَ،
وَاسْتَفَادَ وَأَفَادَ فِيهَا خَيْرًا كَثِيرًا، وَقَدْ رَثَاهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ جُمَانَةَ الْبَاهِلِيُّ فَقَالَ:
كَأَنَّ أَبَا حَفْصٍ قُتَيْبَةَ لَمْ يَسِرْ بِجَيْشٍ إِلَى جَيْشٍ وَلَمْ يَعْلُ
مِنْبَرَا وَلَمْ تَخْفِقِ الرَّايَاتُ وَالْقَوْمُ حَوْلَهُ
وُقُوفٌ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ النَّاسُ عَسْكَرَا دَعَتْهُ الْمَنَايَا
فَاسْتَجَابَ لِرَبِّهِ
وَرَاحَ إِلَى الْجَنَّاتِ عَفًّا مُطَهَّرَا فَمَا رُزِئَ الْإِسْلَامُ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ
بِمَثَلِ أَبِي حَفْصٍ فَبَكِّيهِ عَبْهَرَا
وَلَقَدْ بَالَغَ هَذَا الشَّاعِرُ فِي
بَيْتِهِ الْأَخِيرِ، وَعَبْهَرُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ. وَقَالَ الطِّرْمَاحُ فِي
هَذِهِ الْوَقْعَةِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا قُتَيْبَةُ عَلَى يَدِ وَكِيعِ بْنِ أَبِي
سُودٍ:
لَوْلَا فَوَارِسُ مَذْحِجِ ابْنَةِ مَذْحِجِ وَالْأَزْدُ زُعْزِعَ وَاسْتُبِيحَ
الْعَسْكَرُ
وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْبِلَادُ وَلَمْ يَؤُبْ مِنْهُمْ إِلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ
مُخَبِّرُ
وَاسْتَضْلَعَتْ عُقَدُ الْجَمَاعَةِ وَازْدَرَى أَمْرُ الْخَلِيفَةِ وَاسْتُحِلَّ
الْمُنْكَرُ
قَوْمٌ هُمُو قَتَلُوا قُتَيْبَةَ عَنْوَةً وَالْخَيْلُ جَانِحَةٌ عَلَيْهَا
الْعِثْيَرُ
بِالْمَرْجِ مَرْجِ الصِّينِ حَيْثُ تَبَيَّنَتْ مُضَرُ الْعِرَاقِ مَنِ
الْأَعَزُّ الْأَكْبَرُ
إِذْ حَالَفَتْ جَزَعًا رَبِيعَةُ كُلُّهَا وَتَفَرَّقَتْ مُضَرٌ وَمَنْ
يَتَمَضَّرُ
وَتَقَدَّمَتْ أَزْدُ الْعِرَاقِ وَمَذْحِجٌ لِلْمَوْتِ يَجْمَعُهَا أَبُوهَا
الْأَكْبَرُ
قَحْطَانُ تَضْرِبُ رَأْسَ كُلَّ مُدَجَّجٍ تَحْمِي بَصَائِرَهُنَّ إِذْ لَا
تُبْصِرُ
وَالْأَزْدُ تَعْلَمُ أَنَّ تَحْتَ لِوَائِهَا مُلْكًا قُرَاسِيَةً وَمَوْتٌ
أَحْمَرُ
فَبِعِزِّنَا نُصِرَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ وَبِنَا تَثَبَّتَ فِي دِمَشْقَ
الْمِنْبَرُ
وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذِهِ الْقِصَّةَ بَسَطًا كَثِيرًا وَذَكَرَ
أَشْعَارًا كَثِيرَةً جِدًّا.
وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ:
وَقَالَ جَرِيرٌ فِي قُتَيْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ:
نَدِمْتُمْ عَلَى قَتْلِ الْأَغَرِّ ابْنِ مُسْلِمٍ وَأَنْتُمْ إِذَا لَاقَيْتُمُ
اللَّهَ أَنْدَمُ
لَقَدْ كُنْتُمُ مِنْ غَزْوِهِ فِي غَنِيمَةٍ وَأَنْتُمْ لِمَنْ لَاقَيْتُمُ
الْيَوْمَ مَغْنَمُ
عَلَى أَنَّهُ أَفْضَى إِلَى حُورِ جَنَّةٍ وَتُطْبِقُ بِالْبَلْوَى عَلَيْكُمْ
جَهَنَّمُ
قَالَ: وَقَدْ وَلِيَ مِنْ أَوْلَادِهِ وَذُرِّيَّتِهِ جَمَاعَةٌ الْإِمْرَةَ فِي
الْبُلْدَانِ، فَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَلْمِ بْنِ قُتَيْبَةَ بْنِ
مُسْلِمٍ، وَكَانَ جَوَادًا مُمَدَّحًا، رَثَاهُ حِينَ مَاتَ أَبُو عَمْرٍو
أَشْجَعُ بْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ الرِّقِّيُّ نَزِيلُ الْبَصْرَةِ بِقَوْلِهِ:
مَضَى ابْنُ سَعِيدٍ حِينَ لَمْ يَبْقَ مَشْرِقٌ وَلَا مَغْرِبٌ إِلَّا لَهُ فِيهِ
مَادِحُ
وَمَا كُنْتُ أَدْرِي مَا فَوَاضِلُ كَفِّهِ عَلَى النَّاسِ حَتَّى غَيَّبَتْهُ
الصَّفَائِحُ
وَأَصْبَحَ فِي لَحْدٍ مِنَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ وَكَانَتْ بِهِ حَيًّا تَضِيقُ
الصَّحَاصِحُ
سَأُبْكِيكَ مَا فَاضَتْ دُمُوعِي فَإِنْ تَغِضْ فَحَسْبُكَ مِنِّي مَا تُجِنُّ
الْجَوَانِحُ
فَمَا أَنَا مِنْ رُزْءٍ وَإِنْ جَلَّ
جَازِعٌ وَلَا بِسُرُورٍ بَعْدَ مَوْتِكَ فَارِحُ
كَأَنْ لَمْ يَمُتْ حَيٌّ سِوَاكَ وَلَمْ تَقُمْ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا عَلَيْكَ
النَّوَائِحُ
لَئِنْ حَسُنَتْ فِيكَ الْمَرَاثِي وَذِكْرُهَا لَقَدْ حَسُنَتْ مِنْ قَبْلُ فِيكَ
الْمَدَائِحُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاثِي، وَهِيَ فِي
الْحَمَاسَةِ. ثُمَّ تَكَلَّمَ عَلَى بَاهِلَةَ، وَأَنَّهَا قَبِيلَةٌ مَرْذُولَةٌ
عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْمَجَامِيعِ أَنَّ
الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَتَكَافَأُ دِمَاؤُنَا؟
قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ قَتَلْتَ رَجُلًا مِنْ بَاهِلَةَ لَقَتَلْتُكَ بِهِ وَقِيلَ
لِبَعْضِ الْعَرَبِ: أَيَسُرُّكَ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَنْتَ بَاهِلِيٌّ؟
قَالَ: بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ. وَسَأَلَ بَعْضُ
الْأَعْرَابِ رَجُلًا: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ بَاهِلَةَ. فَجَعَلَ يَرْثِي
لَهُ. فَقَالَ: وَأَزِيدُكَ أَنِّي لَسْتُ مِنَ الصَّمِيمِ وَإِنَّمَا أَنَا مِنْ
مَوَالِيهِمْ. فَجَعَلَ يُقَبِّلُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَقَالَ: وَلِمَ تَفْعَلُ
هَذَا؟ فَقَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا ابْتَلَاكَ بِهَذِهِ الرَّزِيَّةِ
فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِيُعَوِّضَكَ الْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ قُرَّةُ بْنُ شَرِيكٍ
الْقَيْسِيُّ أَمِيرُ مِصْرَ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيدِ. وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ
أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَكَانَ هُوَ الْأَمِيرَ
عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَلَى مَكَّةَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
خَالِدِ
بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى حَرْبِ الْعِرَاقِ وَصَلَاتِهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، وَعَلَى خَرَاجِهَا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَلَى نِيَابَةِ الْبَصْرَةِ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْكِنْدِيُّ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أُذَيْنَةَ، وَعَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مُوسَى، وَعَلَى حَرْبِ خُرَاسَانَ وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ
وَفِيهَا جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْجُيُوشَ إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ. وَفِيهَا أَمَّرَ ابْنَهُ دَاوُدَ عَلَى الصَّائِفَةِ،
فَفَتَحَ حِصْنَ الْمَرْأَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْضَ
الْوَضَّاحِيَّةِ فَافْتَتَحَ الْحِصْنَ الَّذِي فَتَحَهُ الْوَضَّاحُ صَاحِبُ
الْوَضَّاحِيَّةِ.
وَفِيهَا غَزَا مَسْلَمَةُ أَيْضًا بَرْجَمَةَ، فَفَتَحَ حُصُونًا، وَبَرْجَمَةَ،
وَحِصْنَ الْحَدِيدِ وَسَرْدَوْسَلَ، وَشَتَّى بِأَرْضِ الرُّومِ.
وَفِيهَا غَزَا عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ الْفَزَارِيُّ فِي الْبَحْرِ أَرْضَ
الرُّومِ وَشَتَّى بِهَا. وَفِيهَا قُتِلَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُوسَى بْنِ
نُصَيْرٍ، وَقَدِمَ بِرَأْسِهِ عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حَبِيبُ
بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ الْفِهْرِيُّ.
وَفِيهَا وَلَّى سُلَيْمَانُ نِيَابَةَ خُرَاسَانَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ،
مُضَافًا إِلَى مَا بِيَدِهِ مِنْ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ
أَنَّ وَكِيعَ بْنَ أَبِي سُودٍ لَمَّا قُتِلَ قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ
وَذُرِّيَّتُهُ، بَعَثَ بِرَأْسِ قُتَيْبَةَ إِلَى سُلَيْمَانَ فَحَظِيَ عِنْدَهُ،
وَكَتَبَ لَهُ بِإِمْرَةِ خُرَاسَانَ فَبَعَثَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَهْتَمِ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ;
لِيُحَسِّنَ عِنْدَهُ أَمْرَ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ فِي إِمْرَةِ خُرَاسَانَ
وَيَنْتَقِصُ عِنْدَهُ
وَكِيعَ بْنَ أَبِي سُودٍ، فَسَارَ
ابْنُ الْأَهْتَمِ وَكَانَ ذَا دَهَاءٍ وَمَكْرٍ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى عَزَلَ وَكِيعًا عَنْ خُرَاسَانَ وَوَلَّى
عَلَيْهَا يَزِيدَ مَعَ إِمْرَةِ الْعِرَاقِ، وَبَعَثَ بِعَهْدِهِ مَعَ ابْنِ
الْأَهْتَمِ فَسَارَ فِي سَبْعٍ حَتَّى جَاءَ يَزِيدَ، فَأَعْطَاهُ عَهْدَ
خُرَاسَانَ مَعَ الْعِرَاقِ، وَكَانَ يَزِيدُ وَعَدَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَلَمْ
يَفِ لَهُ بِهَا، وَبَعَثَ يَزِيدُ ابْنَهُ مَخْلَدًا بَيْنَ يَدَيْهِ إِلَى
خُرَاسَانَ وَمَعَهُ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; مَضْمُونُهُ أَنَّ قَيْسًا
زَعَمُوا أَنَّ قُتَيْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ لَمْ يَكُنْ خَلَعَ الطَّاعَةَ، فَإِنْ
كَانَ وَكِيعٌ قَدْ تَعَرَّضَ لَهُ وَثَارَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ خَلَعَ
وَلَمْ يَكُنْ خَلَعَ فَقَيِّدْهُ، وَابْعَثْ بِهِ إِلَيَّ. فَتَقَدَّمَ مَخْلَدٌ
فَأَخَذَ وَكِيعًا فَعَاقَبَهُ، وَحَبَسَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ أَبُوهُ،
فَكَانَتْ إِمْرَةُ وَكِيعِ بْنِ أَبِي سُودٍ عَلَى خُرَاسَانَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ
أَوْ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَدِمَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ فَتَسَلَّمَ
خُرَاسَانَ وَأَقَامَ بِهَا، وَاسْتَنَابَ فِي الْبِلَادِ نُوَّابًا، ذَكَرَهُمُ
ابْنُ جَرِيرٍ
قَالَ: وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَنُوَّابُ
الْبِلَادِ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، غَيْرَ أَنَّ خُرَاسَانَ
عُزِلَ عَنْهَا وَكِيعُ بْنُ أَبِي سُودٍ، وَوَلِيَهَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
بْنِ أَبِي صُفْرَةَ مَعَ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ الْهَاشِمِيُّ. رَوَى عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ
مَرْفُوعًا: مَنْ عَالَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَهُمْ
وَلَيْلَتَهُمْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
جَعْفَرٍ، عَنْ عَلِيٍّ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ، وَعَنْ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ
بِنْتِ الْحُسَيْنِ، وَعَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَجَمَاعَةٌ. وَفَدَ عَلَى
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَأَكْرَمَهُ وَنَصَرَهُ عَلَى الْحَجَّاجِ،
وَأَقَرَّهُ وَحْدَهُ عَلَى وِلَايَةِ صَدَقَةِ عَلِيٍّ. وَقَدْ تَرْجَمَهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فَأَحْسَنَ، وَذَكَرَ عَنْهُ آثَارًا تَدُلُّ عَلَى
سِيَادَتِهِ وَعِلْمِهِ وَتَسَنُّنِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقِيلَ: إِنَّ
الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِالْمَدِينَةِ: إِنَّ
الْحَسَنَ بْنَ الْحَسَنِ كَاتَبَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي
هَذَا فَاجْلِدْهُ مِائَةَ ضَرْبَةٍ، وَقِفْهُ لِلنَّاسِ، وَلَا أُرَانِي إِلَّا
قَاتِلَهُ. فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَعَلَّمَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ كَلِمَاتِ
الْكَرْبِ، فَقَالَهَا حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ فَنَجَّاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ،
وَهِيَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ وَرَبُّ الْأَرْضِ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. تُوُفِّيَ
بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ خَوْلَةَ بِنْتَ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ.
وَقَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ مِنَ
الرَّافِضَةِ: وَاللَّهِ إِنَّ قَتْلَكَ لَقُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنَّكَ تَمْزَحُ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا مِنِّي
بِمَزْحٍ وَلَكِنَّهُ الْجِدُّ. وَقَالَ لَهُ آخَرُ مِنْهُمْ: أَلَمْ يَقُلْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ
مَوْلَاهُ ؟ فَقَالَ: بَلَى، وَلَوْ أَرَادَ الْخِلَافَةَ لَخَطَبَ النَّاسَ
فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا وَلِيُّ أَمْرِكُمْ وَهُوَ
الْقَائِمُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَاللَّهِ
لَئِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اخْتَارَ عَلِيًّا لِهَذَا الْأَمْرِ ثُمَّ
تَرَكَهُ عَلِيٌّ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ تَرَكَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَقَالَ لَهُمْ أَيْضًا: وَاللَّهِ لَئِنْ وُلِّينَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْئًا
لَنُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ، ثُمَّ لَا نَقْبَلُ
لَكُمْ تَوْبَةً، وَيْلَكُمْ غَرَرْتُمُونَا مِنْ أَنْفُسِنَا، وَيَلْكُمْ لَوْ
كَانَتِ الْقَرَابَةُ تَنْفَعُ بِلَا عَمَلٍ لَنَفَعَتْ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. فَلَوْ
كَانَ مَا تَقُولُونَ فِينَا حَقًّا لَكَانَ آبَاؤُنَا إِذْ لَمْ يُعْلِمُونَا بِذَلِكَ
قَدْ ظَلَمُونَا وَكَتَمُوا عَنَّا أَفْضَلَ الْأُمُورِ، وَاللَّهِ إِنِّي
لَأَخْشَى أَنْ يُضَاعَفَ لِلْعَاصِي مِنَّا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ، كَمَا إِنِّي
لَأَرْجُوَ لِلْمُحْسِنِ مِنَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ،
وَيْلَكُمْ أَحِبُّونَا إِنْ أَطَعْنَا اللَّهَ، وَأَبْغِضُونَا إِنْ عَصَيْنَا
اللَّهَ.
مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ اللَّخْمِيُّ
مَوْلَاهُمْ، كَانَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ
مِنْهُمْ، وَقِيلَ: كَانَ مَوْلًى
لِبَنِي أُمَيَّةَ. افْتَتَحَ بِلَادَ الْمَغْرِبِ، وَغَنِمَ مِنْهَا أَمْوَالًا
لَا تُعَدُّ وَلَا تُوصَفُ، وَلَهُ بِهَا مَقَامَاتٌ مَشْهُورَةٌ هَائِلَةٌ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ أَعْرَجَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ
عَشْرَةَ. وَأَصْلُهُ مِنْ عَيْنِ التَّمْرِ، وَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ إِرَاشَةَ
مِنْ بَلِيٍّ. سُبِيَ أَبُوهُ مِنْ جَبَلِ الْخَلِيلِ مِنَ الشَّامِ فِي أَيَّامِ
الصِّدِّيقِ، وَكَانَ اسْمُ أَبِيهِ نَصْرًا فَصُغِّرَ.
رَوَى عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ،
وَيَزِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ الْيَحْصُبِيُّ. وَوَلِيَ غَزْوَ الْبَحْرِ لِمُعَاوِيَةَ،
فَغَزَا قُبْرُصَ، وَبَنَى هُنَالِكَ حُصُونًا كَالْمَاغُوصَةِ وَحِصْنِ يَانِسَ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُصُونِ الَّتِي بَنَاهَا بِقُبْرُصَ وَكَانَ نَائِبَ
مُعَاوِيَةَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ فَتَحَهَا مُعَاوِيَةُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ. وَشَهِدَ مَرْجَ رَاهِطٍ مَعَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَلَمَّا
قُتِلَ الضَّحَّاكُ لَجَأَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ إِلَى عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
مَرْوَانَ، ثُمَّ لَمَّا دَخَلَ مَرْوَانُ بِلَادَ مِصْرَ كَانَ مَعَهُ فَتَرَكَهُ
عِنْدَ ابْنِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ لَمَّا أَخَذَ عَبْدُ الْمَلِكِ بِلَادَ
الْعِرَاقِ جَعَلَهُ وَزِيرًا عِنْدَ أَخِيهِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَكَانَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ هَذَا ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ وَحَزْمٍ وَخِبْرَةٍ
بِالْحَرْبِ. قَالَ الْفَسَوِيُّ: وَلِيَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ إِمْرَةَ بِلَادِ
إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ، فَافْتَتَحَ
بِلَادًا كَثِيرَةً. وَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّهُ افْتَتَحَ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَهِيَ بِلَادٌ ذَاتُ مُدُنٍ وَقُرًى
وَرِيفٍ، فَسَبَى مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَغَنِمَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً، مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ شَيْئًا لَا يُحْصَى وَلَا
يُعَدُّ، وَأَمَّا الْآلَاتُ وَالْمَتَاعُ وَالدَّوَابُّ فَشَيْءٌ لَا يُدْرَى مَا
هُوَ، وَسَبَى مِنَ الْغِلْمَانِ الْحِسَانِ وَالنِّسَاءِ الْحِسَانِ شَيْئًا
كَثِيرًا، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَسْبِ أَحَدٌ مِثْلَهُ مِنَ الْأَعْدَاءِ،
وَأَسْلَمَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ عَلَى يَدَيْهِ، وَبَثَّ فِيهِمُ الدِّينَ
وَالْقُرْآنَ، وَكَانَ إِذَا سَارَ إِلَى مَكَانٍ، تُحْمَلُ الْأَمْوَالُ مَعَهُ
عَلَى الْعَجَلِ لِكَثْرَتِهَا وَعَجْزِ الدَّوَابِّ عَنْهَا.
وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ هَذَا يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ،
وَقُتَيْبَةُ يَفْتَحُ فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ، فَجَزَاهُمَا اللَّهُ خَيْرًا،
فَكِلَاهُمَا فَتَحَ مِنَ الْأَقَالِيمِ وَالْبُلْدَانِ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَلَكِنَّ مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ حَظِيَ بِأَشْيَاءَ لَمْ يَحْظَ بِهَا قُتَيْبَةُ،
حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْأَنْدَلُسَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:
ابْعَثْ مَعِي رِجَالًا حَتَّى أَدُلَّكَ عَلَى كَنْزٍ عَظِيمٍ، فَبَعَثَ مَعَهُ
رِجَالًا فَأَتَى بِهِمْ إِلَى مَكَانٍ، فَقَالَ: احْفِرُوا. فَحَفَرُوا فَأَفْضَى
بِهِمُ الْحَفْرُ إِلَى قَاعَةٍ عَظِيمَةٍ ذَاتِ لَوَاوِينَ حَسَنَةٍ، فَوَجَدُوا
هُنَاكَ مِنَ الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ وَالزَّبَرْجَدِ مَا أَبْهَتَهُمْ،
وَأَمَّا الذَّهَبُ فَشَيْءٌ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَوَجَدُوا فِي ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ الطَّنَافِسَ، الطِّنْفِسَةُ مِنْهَا مَنْسُوجَةٌ بِقُضْبَانِ
الذَّهَبِ، مَنْظُومَةٌ بِاللُّؤْلُؤِ الْغَالِي الْمُفْتَخِرِ، وَالطِّنْفِسَةُ
مَنْظُومَةٌ بِالْجَوْهَرِ الْمُثَمَّنِ، وَالْيَوَاقِيتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا
نَظِيرٌ فِي شَكْلِهَا
وَحُسْنِهَا وَصِفَاتِهَا. وَلَقَدْ
سُمِعَ يَوْمَئِذٍ مُنَادٍ يُنَادِي لَا يَرَوْنَ شَخْصَهُ: أَيُّهَا النَّاسُ،
إِنَّهُ قَدْ فُتِحَ عَلَيْكُمْ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فَخُذُوا
حِذْرَكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ وَجَدُوا فِي هَذَا الْكَنْزِ مَائِدَةَ سُلَيْمَانَ
بْنِ دَاوُدَ الَّتِي كَانَ يَأْكُلُ عَلَيْهَا. وَقَدْ جَمَعَ أَخْبَارَهُ وَمَا
جَرَى لَهُ فِي حُرُوبِهِ وَغَزَوَاتِهِ رَجُلٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ يُقَالُ لَهُ:
أَبُو مُعَاوِيَةَ مُعَارِكُ بْنُ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
بْنِ مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ النُّصَيْرِيُّ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ سَأَلَ
مُوسَى بْنَ نُصَيْرٍ حِينَ قَدِمَ دِمَشْقَ أَيَّامَ الْوَلِيدِ عَنْ أَعْجَبِ
شَيْءٍ رَآهُ فِي الْبَحْرِ، فَقَالَ: انْتَهَيْنَا مَرَّةً إِلَى جَزِيرَةٍ
فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ جَرَّةً خَضْرَاءَ مَخْتُومَةً عَلَيْهَا
بِخَاتَمِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَأَمَرْتُ
بِأَرْبَعَةٍ مِنْهَا فَأُخْرِجَتْ، وَأَمَرْتُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا فَنُقِبَتْ
فَإِذَا شَيْطَانٌ يَنْفُضُ رَأْسَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ
بِالنُّبُوَّةِ لَا أَعُودُ بَعْدَهَا أُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ: ثُمَّ
نَظَرَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَرَى بِهَا سُلَيْمَانَ وَمُلْكَهُ. فَانْسَاخَ
فِي الْأَرْضِ فَذَهَبَ، قَالَ: فَأَمَرْتُ بِالثَّلَاثِ الْبَوَاقِي فَرُدَّتْ إِلَى
مَكَانِهَا.
وَقَدِ اسْتَسْقَى مُوسَى بْنُ
نُصَيْرٍ بِالنَّاسِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ حِينَ أَقْحَطُوا
بِإِفْرِيقِيَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَبْلَ
الِاسْتِسْقَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَيَّزَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَأَوْلَادِهَا ثُمَّ أَمَرَ
بِرَفْعِ الضَّجِيجِ وَالْبُكَاءِ، وَهُوَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى
انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ نَزَلَ فَقِيلَ لَهُ: أَلَا دَعَوْتَ لِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا مَوْطِنٌ لَا يُذْكَرُ فِيهِ إِلَّا اللَّهُ.
فَسَقَاهُمُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا قَالَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَفَدَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي
آخِرِ أَيَّامِهِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ وَالْوَلِيدُ عَلَى الْمِنْبَرِ،
وَقَدْ لَبِسَ مُوسَى ثِيَابًا حَسَنَةً وَهَيْئَةً حَسَنَةً، وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ
مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَالْأَشْبَانِ، وَقَدْ أَلْبَسَهُمْ تِيجَانَ
الْمُلُوكِ مَعَ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْخَدَمِ وَالْحَشَمِ وَالْأُبَّهَةِ
الْعَظِيمَةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ الْوَلِيدُ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ
عَلَى مِنْبَرِ جَامِعِ دِمَشْقَ بُهِتَ إِلَيْهِمْ، لِمَا رَأَى عَلَيْهِمْ مِنَ
الْحَرِيرِ وَالْجَوَاهِرِ
وَالزِّينَةِ الْبَالِغَةِ، وَجَاءَ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ فَسَلَّمَ عَلَى
الْوَلِيدِ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَمَرَ أُولَئِكَ فَوَقَفُوا عَنْ يَمِينِ
الْمِنْبَرِ وَشِمَالِهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ الْوَلِيدُ، وَشَكَرَهُ عَلَى مَا
أَيَّدَهُ بِهِ وَوَسَّعَ مُلْكَهُ، وَأَطَالَ الدُّعَاءَ وَالتَّحْمِيدَ
وَالشُّكْرَ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ،
ثُمَّ اسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ فَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ وَأَعْطَاهُ
شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَ مُوسَى قَدْ قَدِمَ مَعَهُ بِمَائِدَةِ سُلَيْمَانَ
بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، الَّتِي كَانَ يَأْكُلُ عَلَيْهَا وَكَانَتْ
مِنْ خَلِيطَيْنِ، ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَعَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَطْوَاقِ لُؤْلُؤٍ
وَجَوْهَرٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَجَدَهَا فِي مَدِينَةِ طُلَيْطِلَةَ مِنْ
بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ مَعَ أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ بَعَثَ ابْنَهُ
مَرْوَانَ عَلَى جَيْشٍ، فَأَصَابَ مِنَ السَّبْيِ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ،
وَبَعَثَ ابْنَ أَخِيهِ فِي جَيْشٍ، فَأَصَابَ مِائَةَ أَلْفِ رَأْسٍ أَيْضًا مِنَ
الْبَرْبَرِ، فَلَمَّا جَاءَ كِتَابُهُ إِلَى الْوَلِيدِ وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّ
خُمُسَ الْغَنَائِمِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَأْسٍ. قَالَ النَّاسُ: إِنَّ هَذَا
أَحْمَقُ، مِنْ أَيْنَ لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ رَأْسٍ خُمُسُ الْغَنَائِمِ؟
فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَأَرْسَلَ أَرْبَعِينَ أَلْفَ رَأْسٍ وَهِيَ خُمُسُ مَا
غَنِمَ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْإِسْلَامِ بِمِثْلِ سَبَايَا مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ
أَمِيرِ الْمَغْرِبِ.
وَقَدْ جَرَتْ لَهُ عَجَائِبُ فِي فَتْحِهِ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ، وَقَالَ: لَوِ
انْقَادَ النَّاسُ لِي لَقُدْتُهُمْ حَتَّى أَفْتَحَ بِهِمْ مَدِينَةَ رُومِيَّةَ
وَهِيَ الْمَدِينَةُ الْعُظْمَى فِي بِلَادِ الْفِرِنْجِ ثُمَّ لَيَفْتَحَنَّهَا
اللَّهُ عَلَى يَدَيَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا قَدِمَ عَلَى
الْوَلِيدِ قَدِمَ مَعَهُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا مِنَ السَّبْيِ غَيْرَ مَا
ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ خُمُسُ مَا كَانَ غَنِمَهُ فِي آخِرِ غَزَاةٍ غَزَاهَا
بِبِلَادِ
الْمَغْرِبِ، وَقَدِمَ مَعَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ وَاللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا
يُوصَفُ.
وَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا بِدِمَشْقَ حَتَّى مَاتَ الْوَلِيدُ وَتَوَلَّى
سُلَيْمَانُ، وَكَانَ عَاتِبًا عَلَى مُوسَ ى فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ، وَطَالَبَهُ
بِأَمْوَالٍ عَظِيمَةٍ. وَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ حَتَّى حَجَّ سُلَيْمَانُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ فَمَاتَ بِالْمَدِينَةِ. وَقِيلَ: بِوَادِي
الْقُرَى. وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَتِسْعِينَ
فَفِي هَذِهِ السَّنَةِ جَهَّزَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لِغَزْوِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَرَاءَ الْجَيْشِ الَّذِينَ هُمْ بِهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا
وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ الْتَفَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجَيْشُ الَّذِينَ
هُمْ هُنَاكَ، وَقَدْ أَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَ الْجَيْشِ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ
عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ مُدَّيْنِ مِنْ طَعَامٍ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا
جَمَعُوا ذَلِكَ، فَإِذَا هُوَ أَمْثَالُ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُمْ مَسْلَمَةُ:
اتْرُكُوا هَذَا الطَّعَامَ وَكُلُوا مِمَّا تَجِدُونَهُ فِي بِلَادِهِمْ،
وَازْرَعُوا فِي أَمَاكِنِ الزَّرْعِ وَاسْتَغِلُّوهُ، وَابْنُوا لَكُمْ بُيُوتًا
مِنْ خَشَبٍ، فَإِنَّا لَا نَرْجِعُ عَنْ هَذِهِ الْبَلَدِ حَتَّى نَفْتَحَهَا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ دَاخَلَ مَسْلَمَةَ رَجُلٌ مِنَ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُ: إِلْيُونَ.
وَوَاطَأَهُ فِي الْبَاطِنِ لِيَأْخُذَ لَهُ بِلَادَ الرُّومِ، فَظَهَرَ مِنْهُ
نُصْحٌ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ تُوُفِّيَ مَلِكُ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَدَخَلَ إِلْيُونَ فِي رِسَالَةٍ مِنْ مَسْلَمَةَ، وَقَدْ
خَافَتْهُ الرُّومُ خَوْفًا شَدِيدًا، فَلَمَّا دَخَلَ إِلَيْهِمْ إِلْيُونُ
قَالُوا لَهُ: رُدَّهُ عَنَّا وَنَحْنُ نُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا. فَخَرَجَ
فَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ فِي الْغَدْرِ وَالْمَكْرِ، وَلَمْ يَزَلْ قَبَّحَهُ
اللَّهُ حَتَّى أَحْرَقَ ذَلِكَ الطَّعَامَ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ قَالَ لِمَسْلَمَةَ: إِنَّهُمْ مَا دَامُوا يَرَوْنَ هَذَا الطَّعَامَ
عِنْدَكَ يَظُنُّونَ أَنَّكَ تُطَاوِلُهُمْ فِي الْقِتَالِ، فَلَوْ أَحْرَقْتَهُ
لَتَحَقَّقُوا مِنْكَ الْعَزْمَ، وَسَلَّمُوا لَكَ الْبَلَدَ سَرِيعًا، فَأَمَرَ
مَسْلَمَةُ
بِالطَّعَامِ فَأُحْرِقَ، ثُمَّ
انْشَمَرَ إِلْيُونُ فِي السُّفُنِ وَأَخَذَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ أَمْتِعَةِ
الْجَيْشِ فِي اللَّيْلِ، وَأَصْبَحَ وَهُوَ بِالْبَلَدِ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ،
وَأَظْهَرَ الْعَدَاوَةَ الْأَكِيدَةَ، وَتَحَصَّنَ بِالْبَلَدِ، وَاجْتَمَعَتْ
عَلَيْهِ الرُّومُ، وَضَاقَ الْحَالُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَكَلُوا كُلَّ
شَيْءٍ إِلَّا التُّرَابَ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُمْ حَتَّى جَاءَتْهُمْ
وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَتَوْلِيَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَكَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى الشَّامِ وَقَدْ
جُهِدُوا جَهْدًا شَدِيدًا، لَكِنْ لَمْ يَرْجِعْ مَسْلَمَةُ حَتَّى بَنَى
مَسْجِدًا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ شَدِيدَ الْبِنَاءِ مُحْكَمًا، رَحْبَ
الْفِنَاءِ، شَاهِقًا فِي السَّمَاءِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا وَلِيَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرَادَ
الْإِقَامَةَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ أَرْسَلَ الْعَسَاكِرَ إِلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ بِأَنْ يَفْتَحَ
مَا دُونَهَا مِنَ الْمُدُنِ وَالرَّسَاتِيقِ وَالْحُصُونِ، حَتَّى يَبْلُغَ
الْمَدِينَةَ فَلَا يَأْتِيَهَا إِلَّا وَقَدْ هُدِمَتْ حُصُونُهَا وَوَهَنَتْ
قُوَّتُهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا مَانِعٌ،
فَيُعْطُوا بِأَيْدِيهِمْ وَيُسَلِّمُوا لَكَ الْبَلَدَ، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَخَاهُ
مَسْلَمَةَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدَعَ مَا دُونَهَا مِنَ الْبِلَادِ
وَيَفْتَحَهَا عَنْوَةً، فَمَتَى مَا فُتِحَتْ فَإِنَّ بَاقِيَ مَا دُونَهَا مِنَ
الْبِلَادِ وَالْحُصُونِ بِيَدِكَ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ: هَذَا هُوَ الرَّأْيُ.
ثُمَّ أَخَذَ فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ مِنَ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ فَجَهَّزَ
فِي الْبَرِّ مِائَةً وَعِشْرِينَ أَلْفًا، وَفِي الْبَحْرِ مِائَةً وَعِشْرِينَ
أَلْفًا مِنَ الْمُقَاتِلَةِ وَأَخْرَجَ لَهُمُ الْأَعْطِيَةَ وَأَنْفَقَ فِيهِمُ
الْأَمْوَالَ الْكَثِيرَةَ وَأَعْلَمَهُمْ بِغَزْو الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَالْإِقَامَةِ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ يَفْتَحُوهَا، ثُمَّ سَارَ سُلَيْمَانُ مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدَخَلَ دِمَشْقَ وَقَدِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الْعَسَاكِرُ
فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَخَاهُ مَسْلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ:
سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ،
وَعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالصَّبْرِ وَالتَّنَاصُحِ وَالتَّنَاصُفِ. ثُمَّ
سَارَ سُلَيْمَانُ حَتَّى نَزَلَ مَرْجَ دَابِقٍ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ
أَيْضًا مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ الْمُحْتَسِبِينَ أُجُورَهُمْ عَلَى اللَّهِ،
فَاجْتَمَعَ لَهُ جُنْدٌ عَظِيمٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، ثُمَّ أَمَرَ مَسْلَمَةَ
أَنْ يَرْحَلَ بِالْجُيُوشِ وَأَخَذَ مَعَهُ إِلْيُونَ الرُّومِيَّ
الْمَرْعَشِيَّ، ثُمَّ سَارُوا حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
فَحَاصَرَهَا إِلَى أَنْ بَرَّحَ بِهِمْ، وَعَرَضَ أَهْلُهَا الْجِزْيَةَ عَلَى
مَسْلَمَةَ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَفْتَحَهَا عَنْوَةً، قَالُوا: فَابْعَثْ
إِلَيْنَا إِلْيُونَ نُشَاوِرْهُ. فَأَرْسَلَهُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: رُدَّ
هَذِهِ الْعَسَاكِرَ عَنَّا وَنَحْنُ نُعْطِيكَ وَنُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا. فَرَجَعَ
إِلَى مَسْلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَجَابُوا إِلَى فَتْحِهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ
لَا يَفْتَحُونَهَا مَا لَمْ تَنَحَّ عَنْهُمْ. فَقَالَ مَسْلَمَةُ: إِنِّي
أَخْشَى غَدْرَكَ، فَحَلَفَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ مَفَاتِيحَهَا وَمَا
فِيهَا، فَلَمَّا تَنَحَّى عَنْهُمْ أَخَذُوا فِي تَرْمِيمِ مَا تَهَدَّمَ مِنْ
أَسْوَارِهَا وَاسْتَعَدُّوا لِلْحِصَارِ. وَغَدَرَ إِلْيُونُ بِالْمُسْلِمِينَ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَخَذَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْعَهْدَ لِوَلَدِهِ أَيُّوبَ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ
بَعْدِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَخِيهِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
مَرْوَانَ، فَعَدَلَ عَنْ وِلَايَةِ أَخِيهِ يَزِيدَ إِلَى وِلَايَةِ وَلَدِهِ
أَيُّوبَ، وَتَرَبَّصَ بِأَخِيهِ الدَّوَائِرَ فَمَاتَ أَيُّوبُ فِي حَيَاةِ
أَبِيهِ، فَبَايَعَ سُلَيْمَانُ لِابْنِ عَمِّهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَنِعْمَ مَا فَعَلَ. وَفِيهَا
فُتِحَتْ مَدِينَةُ الصَّقَالِبَةِ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: وَقَدْ أَغَارَتِ
الْبُرْجَانُ عَلَى جَيْشِ مَسْلَمَةَ وَهُوَ فِي قِلَّةٍ مِنَ النَّاسِ، فِي
هَذِهِ السَّنَةِ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ جَيْشًا فَقَاتَلَ الْبُرْجَانَ
حَتَّى هَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ دِهِسْتَانَ مِنْ أَرْضِ
الصِّينِ فَحَاصَرَهَا وَقَاتَلَ عِنْدَهَا قِتَالًا شَدِيدًا، وَلَمْ يَزَلْ
حَتَّى تَسَلَّمَهَا، وَقَتَلَ مِنَ التُّرْكِ الَّذِينَ بِهَا أَرْبَعَةَ آلَافٍ
صَبْرًا، وَأَخَذَ مِنْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا
لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً وَقِيمَةً وَحُسْنًا، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا
إِلَى جُرْجَانَ فَاسْتَجَاشَ صَاحِبُهَا بِالدَّيْلَمِ، فَقَدِمُوا لِنَجْدَتِهِ
فَقَاتَلَهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَقَاتَلُوهُ، فَحَمَلَ مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ الْجُعَفِيُّ وَكَانَ فَارِسًا شُجَاعًا
بَاهِرًا عَلَى مَلِكِ الدَّيْلَمِ فَقَتَلَهُ وَهَزَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَلَقَدْ بَارَزَ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ هَذَا يَوْمًا بَعْضَ فُرْسَانِ التُّرْكِ،
فَضَرَبَهُ التُّرْكِيُّ بِالسَّيْفِ عَلَى الْبَيْضَةِ فَنَشِبَ فِيهَا،
وَضَرَبَهُ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ
وَسَيْفُهُ يَقْطُرُ دَمًا وَسَيْفُ التُّرْكِيِّ نَاشِبٌ فِي خَوْذَتِهِ،
فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ، فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا
أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالُوا: ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ.
فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ لَوْلَا انْهِمَاكُهُ فِي الشَّرَابِ. ثُمَّ صَمَّمَ
يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ عَلَى مُحَاصَرَةِ جُرْجَانَ وَمَا زَالَ يُضَيِّقُ
عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى سَبْعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ أَلْفِ ثَوْبٍ، وَأَرْبَعِمِائَةِ
حِمَارٍ مُوَقَّرَةٍ زَعْفَرَانًا، وَأَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ، عَلَى رَأْسِ كُلِّ
رَجُلٍ تُرْسٌ،
عَلَى التُّرْسِ طَيْلَسَانُ، وَجَامٌ
مِنْ فِضَّةٍ، وَسَرَقَةٌ مِنْ حَرِيرٍ.
وَهَذِهِ الْمَدِينَةُ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ قَدِ افْتَتَحَهَا صُلْحًا
عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا الْخَرَاجَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَكَانُوا يَحْمِلُونَ فِي
كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفٍ، وَفِي سَنَةٍ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَفِي بَعْضِ
السِّنِينَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ، وَيَمْنَعُونَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ،
ثُمَّ امْتَنَعُوا جُمْلَةً وَكَفَرُوا، فَغَزَاهُمْ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ
وَرَدَّهَا صُلْحًا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ.
قَالُوا: وَأَصَابَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ مِنْ جُرْجَانَ أَمْوَالًا
كَثِيرَةً جِدًّا، فَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا تَاجٌ فِيهِ جَوَاهِرُ نَفِيسَةٌ،
فَقَالَ: أَتَرَوْنَ أَحَدًا يَزْهَدُ فِي هَذَا؟ قَالُوا: لَا. فَدَعَا بِمُحَمَّدِ
بْنِ وَاسْعٍ وَكَانَ فِي الْجَيْشِ مُغَازِيًا فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَخْذَ
التَّاجِ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ
لَتَأْخُذَنَّهُ. فَأَخَذَهُ وَخَرَجَ بِهِ مِنْ عِنْدِهِ، فَأَمَرَ يَزِيدُ
رَجُلًا أَنْ يَتْبَعَهُ فَيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُ بِالتَّاجِ؟ فَمَرَّ
بِسَائِلٍ، فَطَلَبَ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَعْطَاهُ التَّاجَ بِكَمَالِهِ
وَانْصَرَفَ. فَبَعَثَ يَزِيدُ إِلَى ذَلِكَ السَّائِلِ فَأَخَذَ مِنْهُ التَّاجَ
وَعَوَّضَهُ عَنْهُ مَالًا كَثِيرًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ
الْهُذَلِيُّ: كَانَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ عَلَى خَزَائِنِ يَزِيدَ بْنِ
الْمُهَلَّبِ فَرَفَعُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ خَرِيطَةً فِيهَا مِائَةُ
دِينَارٍ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَعَمْ. وَأَحْضَرَهَا، فَقَالَ لَهُ يَزِيدُ:
هِيَ لَكَ. ثُمَّ اسْتَدْعَى
الَّذِي وَشَى بِهِ فَشَتَمَهُ.
فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْقُطَامِيُّ الْكَلْبِيُّ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا لِسِنَانِ
بْنِ مُكَمَّلٍ النُّمَيْرِيِّ:
لَقَدْ بَاعَ شَهْرٌ دِينَهُ بِخَرِيطَةٍ فَمَنْ يَأْمَنُ الْقُرَّاءَ بَعْدَكَ
يَا شَهْرُ أَخَذْتَ بِهِ شَيْئًا طَفِيفًا وَبِعْتَهُ
مِنِ ابْنِ جَوَنْبُوذَ انَّ هَذَا هُوَ الْغَدْرُ
وَقَالَ مُرَّةُ النَّخَعِيُّ:
يَا ابْنَ الْمُهَلَّبِ مَا أَرَدْتَ إِلَى امْرِئٍ لَوْلَاكَ كَانَ كَصَالِحِ
الْقُرَّاءِ
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَيُقَالُ: إِنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ كَانَ فِي
غَزْوَةِ جُرْجَانَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، مِنْهُمْ سِتُّونَ
أَلْفًا مِنْ جَيْشِ الشَّامِ أَثَابَهُمُ اللَّهُ، وَقَدْ تَمَهَّدَتْ تِلْكَ
الْبِلَادُ بِفَتْحِ جُرْجَانَ وَسَلَكَتِ الطُّرُقُ، وَكَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ
مُخَوِّفَةً جِدًّا، ثُمَّ عَزَمَ يَزِيدُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى طَبَرِسْتَانَ
وَقَدِمَ بَيْنَ يَدَيْهِ سَرِيَّةٌ هِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ سُرَاةِ
النَّاسِ، فَلَمَّا الْتَقَوُا اقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَقُتِلَ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَعْرَكَةِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. ثُمَّ عَزَمَ يَزِيدُ عَلَى فَتْحِ الْبِلَادِ لَا
مَحَالَةَ، وَمَا زَالَ حَتَّى صَالَحَهُ صَاحِبُهَا وَهُوَ الْإِصْبَهْبَذُ
بِمَالٍ كَثِيرٍ; سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ فِي كُلِّ عَامٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
كَانَ إِمَامًا حُجَّةً، وَكَانَ مُؤَدِّبَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَهُ
رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
أَبُو الْحَفْصِ النَّخَعِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرَاجِمَهُمْ فِي " التَّكْمِيلِ ". وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ وَقِيلَ: بَقِينَ مِنْ
صَفَرٍ مِنْهَا، عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: عَنْ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُجَاوِزِ الْأَرْبَعِينَ. وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَزَعَمَ أَبُو أَحْمَدَ
الْحَاكِمُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْهَا، وَأَنَّهُ اسْتَكْمَلَ فِي خِلَافَتِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ
وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمْرِ تِسْعٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الْقَوْلُ
الْأَوَّلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ
أَبِي الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَبُو
أَيُّوبَ.
كَانَ مَوْلِدُهُ بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي جَزِيلَةَ، وَنَشَأَ بِالشَّامِ عِنْدَ
أَبِيهِ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جِدِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ، رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، مِنْ طَرِيقِ
ابْنِهِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْهُ. وَرَوَى عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ هُنَيْدَةَ أَنَّهُ
صَحِبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ
إِلَى الْغَابَةِ، قَالَ: فَسَكَتُّ، فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: مَا لَكَ؟ فَقُلْتُ:
كُنْتُ أَتَمَنَّى، فَهَلْ تَتَمَنَّى يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ:
لَوْ أَنَّ لِي أُحُدًا هَذَا ذَهَبًا أَعْلَمُ عَدَدَهُ وَأُخْرِجُ زَكَاتَهُ مَا
كَرِهْتُ ذَلِكَ، أَوْ قَالَ: مَا خَشِيتُ أَنْ يَضُرَّنِي. رَوَاهُ مُحَمَّدُ
بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَكَانَتْ دَارُهُ بِدِمَشْقَ مَوْضِعَ
مِيضَأَةِ جَيْرُونَ الْآنَ فِي تِلْكَ السَّاحَةِ جَمِيعِهَا، وَبَنَى دَارًا
كَبِيرَةً مِمَّا يَلِي بَابَ الصَّغِيرِ مَوْضِعَ الدَّرْبِ الْمَعْرُوفِ
بِدَرْبِ مُحْرِزٍ وَجَعَلَهَا دَارَ الْإِمَارَةِ وَعَمِلَ فِيهَا قُبَّةً
صَفْرَاءَ تَشْبِيهًا بِالْقُبَّةِ الْخَضْرَاءِ. قَالَ: وَكَانَ فَصِيحًا
مُؤْثِرًا لِلْعَدْلِ مُحِبًّا لِلْغَزْوِ، وَقَدْ أَنْفَذَ الْجَيْشَ لِحِصَارِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ حَتَّى صَالَحُوهُمْ عَلَى بِنَاءِ الْجَامِعِ بِهَا.
وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ جَمَعَ بَنِيهِ
الْوَلِيدَ وَسُلَيْمَانَ وَمَسْلَمَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَاسْتَقْرَأَهُمُ
الْقُرْآنَ فَأَجَادُوا الْقِرَاءَةَ، ثُمَّ اسْتَنْشَدَهُمُ الشِّعْرَ
فَأَجَادُوا، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُكْمِلُوا أَوْ يُحْكِمُوا شِعْرَ
الْأَعْشَى، فَلَامَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: لِيُنْشِدْنِي كُلُّ رَجُلٍ
مِنْكُمْ أَرَقَّ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ وَلَا يُفْحِشُ، هَاتِ يَا وَلِيدُ:
فَقَالَ الْوَلِيدُ:
مَا مَرْكَبٌ وَرُكُوبُ الْخَيْلِ يُعْجِبُنِي كَمَرْكَبٍ بَيْنَ دُمْلُوجٍ
وَخَلْخَالِ
فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: وَهَلْ يَكُونُ مِنَ الشِّعْرِ أَرَفْثُ مِنْ هَذَا؟
هَاتِ
يَا سُلَيْمَانَ، فَقَالَ:
حَبَّذَا رَجْعُهَا يَدَيْهَا إِلَيْهَا فِي يَدِى دِرْعُهَا تَحُلُّ الْإِزَارَا
فَقَالَ: لَمْ تُصِبْ، هَاتِ يَا مَسْلَمَةُ، فَأَنْشَدَهُ قَوْلَ امْرِئِ
الْقَيْسِ:
وَمَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إِلَّا لِتَضْرِبِي بِسَهْمَيْكِ فِي أَعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
فَقَالَ: كَذَبَ امْرُؤُ الْقَيْسِ وَلَمْ يُصِبْ، إِذَا ذَرَفَتْ عَيْنَاهَا
بِالْوَجْدِ فَمَا بَقِيَ إِلَّا اللِّقَاءُ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلْعَاشِقِ
أَنْ يَقْتَضِيَ مِنْهَا الْجَفَاءَ وَيَكْسُوَهَا الْمَوَدَّةَ. ثُمَّ قَالَ:
أَنَا مُؤَجِّلُكُمْ فِي هَذَا الْبَيْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَمَنْ أَتَانِي
بِهِ فَلَهُ حُكْمُهُ أَيْ مَهْمَا طَلَبَ أَعْطَيْتُهُ فَنَهَضُوا مِنْ عِنْدِهِ،
فَبَيْنَمَا سُلَيْمَانُ فِي مَوْكِبٍ إِذَا هُوَ بِأَعْرَابِيٍّ يَسُوقُ إِبِلَهُ
وَهُوَ يَقُولُ:
لَوْ حَزَّ بِالسَّيْفِ رَأْسِي فِي مَوَدَّتِهَا لَمَالَ يَهْوِي سَرِيعًا
نَحْوَهَا رَأْسِي
فَأَمَرَ سُلَيْمَانُ بِالْأَعْرَابِيِّ فَاعْتُقِلَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَبِيهِ
فَقَالَ: قَدْ جِئْتُكَ بِمَا سَأَلْتَ. فَقَالَ: هَاتِ. فَأَنْشَدَهُ الْبَيْتَ،
فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، وَأَنَّى لَكَ هَذَا؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْأَعْرَابِيِّ،
فَقَالَ: سَلْ حَاجَتَكَ وَلَا تَنْسَ صَاحِبَكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ قَدْ عَهِدْتَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِكَ لِلْوَلِيدِ،
وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ. فَأَجَابَهُ
إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَهُ عَلَى الْحَجِّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ،
وَأَطْلَقَ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهَا سُلَيْمَانُ لِذَلِكَ
الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ الْبَيْتَ مِنَ الشِّعْرِ، فَلَمَّا مَاتَ
أَبُوهُ سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَصَارَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى
أَخِيهِالْوَلِيدِ، كَانَ بَيْنَ
يَدَيْهِ كَالْوَزِيرِ وَالْمُشِيرِ،
وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَحِثَّ عَلَى عِمَارَةِ جَامِعِ دِمَشْقَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ
أَخُوهُ الْوَلِيدُ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ
سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ بِالرَّمْلَةِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ
تَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ وَوُجُوهُ النَّاسِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ سَارُوا إِلَيْهِ
إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَايَعُوهُ هُنَاكَ. وَعَزَمَ عَلَى الْإِقَامَةِ
بِالْقُدْسِ، وَأَتَتْهُ الْوُفُودُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمْ يَرَوْا
وِفَادَةً، فَكَانَ يَجْلِسُ فِي قُبَّةٍ فِي صَحْنِ الْمَسْجِدِ مِمَّا يَلِي
الصَّخْرَةَ مِنْ جِهَةِ الشَّمَالِ، وَتَجْلِسُ أَكَابِرُ النَّاسِ عَلَى
الْكَرَاسِيِّ وَتُقَسَّمُ فِيهِمُ الْأَمْوَالُ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الْمَجِيءِ
إِلَى دِمَشْقَ فَدَخَلَهَا وَكَمَّلَ عِمَارَةَ الْجَامِعِ.
وَفِي أَيَّامِهِ جُدِّدَتِ الْمَقْصُورَةُ، وَاتَّخَذَ ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ مُسْتَشَارًا وَوَزِيرًا، وَقَالَ لَهُ: إِنَّا قَدْ وُلِّينَا
مَا تَرَى، وَلَيْسَ لَنَا عِلْمٌ بِتَدْبِيرِهِ، فَمَا رَأَيْتَ مِنْ مَصْلَحَةِ
الْعَامَّةِ فَمُرْ بِهِ فَلْيُكْتَبْ. وَكَانَ مِنْ ذَلِكَ عَزْلُ نُوَّابِ
الْحَجَّاجِ، وَإِخْرَاجُ أَهْلِ السُّجُونِ مِنْهَا، وَإِطْلَاقُ الْأُسَرَاءِ
وَبَذْلُ الْأَعْطِيَةِ بِالْعِرَاقِ وَرَدُّ الصَّلَاةِ إِلَى مِيقَاتِهَا
الْأَوَّلِ، بَعْدَ مَا كَانَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ يُؤَخِّرُونَهَا إِلَى آخَرِ
وَقْتِهَا، مَعَ أُمُورٍ حَسَنَةٍ كَانَ يَسْمَعُهَا مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَأَمَرَ بِغَزْوِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فَبَعَثَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَالْجَزِيرَةِ وَالْمَوْصِلِ فِي الْبَرِّ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ
وَعِشْرِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَبَعَثَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَإِفْرِيقِيَّةَ
أَلْفَ مَرْكَبٍ فِي الْبَحْرِ، عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ، وَعَلَى
جَمَاعَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَخُوهُ مَسْلَمَةُ وَمَعَهُ ابْنُهُ دَاوُدُ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ،
وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ مَشُورَةِ
مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ، حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَدِمَ فِي أَيَّامِ أَخِيهِ الْوَلِيدِ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ الْكُوفِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَوْنٍ الْأَسَدِيِّ، قَالَ: أَوَّلُ
كَلَامٍ تَكَلَّمَ بِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ حِينَ وَلِيَ
الْخِلَافَةَ أَنْ قَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا شَاءَ صَنَعَ، وَمَا شَاءَ رَفَعَ، وَمَا شَاءَ
وَضَعَ، وَمَنْ شَاءَ أَعْطَى، وَمَنْ شَاءَ مَنَعَ، إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ
غُرُورٍ، وَمَنْزِلُ بَاطِلٍ، وَزِينَةُ تَقَلُّبٍ، تُضْحِكُ بَاكِيًا، وَتُبْكِي
ضَاحِكًا، وَتُخِيفُ آمِنًا، وَتُؤَمِّنُ خَائِفًا، تُفْقِرُ مُثْرِيهَا،
وَتُثْرِي فَقِيرَهَا، مَيَّالَةٌ لَاعِبَةٌ بِأَهْلِهَا، يَا عِبَادَ اللَّهِ،
اتَّخِذُوا كِتَابَ اللَّهِ إِمَامًا وَارْضَوْا بِهِ حَكَمًا وَاجْعَلُوهُ لَكُمْ
قَائِدًا فَإِنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلَنْ يَنْسَخْهُ كِتَابٌ بَعْدَهُ
اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَجْلُو كَيْدَ الشَّيْطَانِ
وَضَغَائِنَهُ كَمَا يَجْلُو ضَوْءُ الصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِدْبَارَ اللَّيْلِ
إِذَا عَسْعَسَ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي
مَعْشَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: فَضْلُ الْقُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ
كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ
بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَخْطُبُنَا كُلَّ جُمُعَةٍ لَا يَدَعُ أَنْ يَقُولَ فِي
خُطْبَتِهِ: وَإِنَّمَا أَهْلُ الدُّنْيَا
عَلَى رَحِيلٍ، لَمْ تَمْضِ بِهِمْ
نِيَّةٌ، وَلَمْ تَطْمَئِنَّ لَهُمْ دَارٌ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ وَعْدِ اللَّهِ
وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا، وَلَا تُؤْمَنُ
فَجَائِعُهَا، وَلَا يُتَّقَى مِنْ شَرِّ أَهْلِهَا ثُمَّ يَتْلُو: أَفَرَأَيْتَ
إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [ الشُّعَرَاءِ: 205 207 ].
وَرَوَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِهِ: آمَنْتُ بِاللَّهِ مُخْلِصًا.
وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ سَلَمَةَ بْنِ الْعَيَّارِ
الْفَزَارِيِّ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: يَرْحَمُ اللَّهُ
سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، افْتَتَحَ خِلَافَتَهُ بِخَيْرٍ، وَخَتَمَهَا
بِخَيْرٍ; افْتَتَحَهَا بِإِحْيَائِهِ الصَّلَاةَ لِمَوَاقِيتِهَا، وَخَتَمَهَا
بِاسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ أَنَّهُ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ.
قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: حَجَّ سُلَيْمَانُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ، فَلَمَّا
رَأَى النَّاسَ بِالْمَوْسِمِ، قَالَ
لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَلَا تَرَى هَذَا الْخَلْقَ الَّذِي لَا
يُحْصِي عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَسَعُ رِزْقَهُمْ غِيْرُهُ. فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَؤُلَاءِ رَعِيَّتُكَ الْيَوْمَ وَهُمْ غَدًا
خُصَمَاؤُكَ. فَبَكَى سُلَيْمَانُ بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: بِاللَّهِ
أَسْتَعِينُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، ثَنَا جَرِيرٌ
عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي
سَفَرٍ مَعَ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَأَصَابَتْهُمُ السَّمَاءُ
بِرَعْدٍ وَبَرْقٍ وَظُلْمَةٍ وَرِيحٍ شَدِيدَةٍ، حَتَّى فَزِعُوا لِذَلِكَ،
وَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَضْحَكُ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا
أَضْحَكَكَ يَا عُمَرُ؟ أَمَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ فِيهِ شَدَائِدُ مَا تَرَى، فَكَيْفَ
بِآثَارِ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ؟!
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَوْلُهُ: الصَّمْتُ مَنَامُ
الْعَقْلِ وَالنُّطْقُ يَقَظَتُهُ وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا بِهَذَا.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَأَعْجَبَهُ مَنْطِقُهُ، ثُمَّ فَتَّشَهُ
فَلَمْ يَحْمَدْ عَقْلَهُ، فَقَالَ: فَضْلُ مَنْطِقِ الرَّجُلِ عَلَى عَقْلِهِ
خُدْعَةٌ، وَفَضْلُ عَقْلِهِ عَلَى مَنْطِقِهِ هُجْنَةٌ، وَخَيْرُ ذَلِكَ مَا
أَشْبَهَ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَالَ: الْعَاقِلُ أَحْرَصُ عَلَى إِقَامَةِ
لِسَانِهِ مِنْهُ عَلَى طَلَبِ
مَعَاشِهِ. وَقَالَ أَيْضًا: إِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فَأَحْسَنَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ
يَسْكُتَ فَيُحْسِنَ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ سَكَتَ فَأَحْسَنَ قَادِرًا عَلَى أَنْ
يَتَكَلَّمَ فَيُحْسِنَ.
وَمِنْ شِعْرِهِ يَتَسَلَّى عَنْ صَدِيقٍ لَهُ مَاتَ:
وَهَوَّنَ وَجْدِي فِي شَرَاحِيلَ أَنَّنِي مَتَى شِئْتُ لَاقَيْتُ امْرَءًا مَاتَ
صَاحِبُهْ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا:
وَمِنْ شِيمَتِي أَنْ لَا أُفَارِقَ صَاحِبِي وَإِنْ مَلَّنِي إِلَّا سَأَلْتُ
لَهُ رُشْدَا
وَإِنْ دَامَ لِي بِالْوُدِّ دُمْتُ وَلَمْ أَكُنْ كَآخَرِ لَا يَرْعَى ذِمَامًا
وَلَا عَهْدَا
وَسَمِعَ سُلَيْمَانُ لَيْلَةً صَوْتَ غِنَاءٍ فِي مُعَسْكَرِهِ، فَلَمْ يَزَلْ
يَفْحَصُ حَتَّى أَتَى بِهِمْ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ الْفَرَسَ لَيَصْهَلُ
فَتَسْتَوْدِقُ لَهُ الرَّمَكَةُ، وَإِنَّ الْجَمَلَ لَيَخْطِرُ فَتَضْبَعُ لَهُ
النَّاقَةُ، وَإِنَّ التَّيْسَ لَيَنِبُ، فَكَشَرَتْ لَهُ الْعَنْزُ، وَإِنَّ
الرَّجُلَ لَيَتَغَنَّى فَتَشْتَاقُ لَهُ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ
لِيَخْصُوَهُمْ. فَيُقَالُ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّهَا مُثْلَةٌ. فَتَرَكَهُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ خَصَى أَحَدَهُمْ ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَصْلِ الْغِنَاءِ
فَقِيلَ: إِنَّهُ بِالْمَدِينَةِ. فَكَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ بِهَا وَهُوَ أَبُو
بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ يَأْمُرُهُ أَنْ يَخْصِيَ مَنْ
عِنْدَهُ مِنَ الْمُغَنِّينَ الْمُخَنَّثِينَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَدَعَاهُ إِلَى
أَكْلِ الْفَالُوذَجِ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ أَكْلَهَا يَزِيدُ فِي الدِّمَاغِ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ رَأْسُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ رَأْسِ الْبَغْلِ.
وَذَكَرُوا أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ نَهِمًا فِي الْأَكْلِ، وَقَدْ نَقَلُوا
عَنْهُ أَشْيَاءَ فِي ذَلِكَ غَرِيبَةً; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اصْطَبَحَ فِي
بَعْضِ الْأَيَّامِ بِأَرْبَعِينَ دَجَاجَةً مَشْوِيَّةً، وَأَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
كُلْوَةً بِشَحْمِهَا، وَثَمَانِينَ جَرْدَقَةً، ثُمَّ أَكَلَ مَعَ النَّاسِ عَلَى
الْعَادَةِ فِي السِّمَاطِ الْعَامِّ.
وَدَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ بُسْتَانًا لَهُ
قَدْ أَمَرَ قَيِّمَهُ أَنْ يَحْبِسَ ثِمَارَهُ، وَقُطِفَتْ لَهُ وَمَعَهُ
أَصْحَابُهُ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ، وَاسْتَمَرَّ هُوَ يَأْكُلُ أَكْلًا ذَرِيعًا
مِنْ تِلْكَ الْفَوَاكِهِ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِشَاةٍ مَشْوِيَّةٍ فَأَكَلَهَا،
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْفَاكِهَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِدَجَاجَتَيْنِ فَأَكَلَهُمَا،
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْفَاكِهَةِ، ثُمَّ أُتِيَ بِقَعْبٍ يَقْعُدُ فِيهِ الرَّجُلُ
مَمْلُوءًا بِسَوِيقٍ وَسَمْنٍ وَسُكَّرٍ، فَأَكَلَهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ، وَأُتِيَ بِالسِّمَاطِ، فَمَا فَقَدَ مِنْ أَكْلِهِ شَيْئًا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عَرَضَتْ لَهُ حُمَّى أَدَّتْهُ إِلَى الْمَوْتِ. وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ مَرَضِهِ كَانَ مِنْ أَكْلِ أَرْبَعِمِائَةِ بَيْضَةٍ،
وَسَلَّتَيْنِ مِنْ تِينٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ الْفَضْلُ بْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ لَبِسَ فِي يَوْمِ
جُمُعَةٍ حُلَّةً صَفْرَاءَ، ثُمَّ نَزَعَهَا وَلَبِسَ بَدَلَهَا حُلَّةً
خَضْرَاءَ، وَاعْتَمَّ بِعِمَامَةٍ خَضْرَاءَ، وَجَلَسَ عَلَى فِرَاشٍ أَخْضَرَ،
وَقَدْ بُسِطَ مَا حَوْلَهُ بِالْخُضْرَةِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ
فَأَعْجَبَهُ حُسْنُهُ، وَشَمَّرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ وَقَالَ: أَنَا الْخَلِيفَةُ
الشَّابُّ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي
الْمِرْآةِ مِنْ فَرْقِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِيهَا وَيَقُولُ: كَانَ مُحَمَّدٌ
نَبِيًّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صِدِّيقًا،
وَكَانَ عُمَرُ فَارُوقًا، وَكَانَ عُثْمَانُ حَيِيًّا، وَكَانَ عَلِيٌّ شُجَاعًا،
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ حَلِيمًا، وَكَانَ يَزِيدُ صَبُورًا، وَكَانَ عَبْدُ
الْمَلِكِ سَائِسًا، وَكَانَ الْوَلِيدُ جَبَّارًا، وَأَنَا الْمَلِكُ الشَّابُّ.
قَالُوا: فَمَا دَارَ عَلَيْهِ شَهْرٌ وَفِي رِوَايَةٍ: جُمُعَةٌ حَتَّى مَاتَ.
قَالُوا: وَلَمَّا حُمَّ شَرَعَ يَتَوَضَّأُ، فَدَعَا بِجَارِيَةٍ، فَصَبَّتْ
عَلَيْهِ مَاءَ الْوُضُوءِ، ثُمَّ أَنْشَدَتْهُ:
أَنْتَ نِعْمَ الْمَتَاعُ لَوْ كُنْتَ تَبْقَى غَيْرَ أَنْ لَا بَقَاءَ
لِلْإِنْسَانِ
لَيْسَ فِيمَا عَلِمْتُهُ فِيكَ عَيْبٌ كَانَ فِي النَّاسِ غَيْرَ أَنَّكَ فَانِ
قَالُوا: فَصَاحَ بِهَا وَقَالَ: عَزَّتْنِي فِي نَفْسِي. وَصَرَفَهَا ثُمَّ
أَمَرَ خَالَهُ الْوَلِيدَ
بْنَ الْقَعْقَاعِ الْعَنْسِيَّ أَنْ
يَصُبَّ عَلَيْهِ وَقَالَ:
قَرِّبْ وُضُوءَكَ يَا وَلِيدُ فَإِنَّمَا هَذِي الْحَيَاةُ تَعِلَّةٌ وَمَتَاعُ
فَقَالَ الْوَلِيدُ:
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ صَالِحًا فَالدَّهْرُ فِيهِ فُرْقَةٌ
وَجِمَاعُ
وَيُرْوَى أَنَّ الْجَارِيَةَ لَمَّا جَاءَتْهُ بِالطَّسْتِ، جَعَلَتْ تَضْطَرِبُ
مِنَ الْحُمَّى فَقَالَ: أَيْنَ فُلَانَةُ؟ فَقَالَتْ: مَحْمُومَةٌ. قَالَ:
فَفُلَانَةُ؟ قَالَتْ: مَحْمُومَةٌ. وَكَانَ بِمَرْجِ دَابِقٍ مِنْ أَرْضِ
قِنَّسْرِينَ فَأَمَرَ خَالَهُ فَوَضَّأَهُ، ثُمَّ خَرَجَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ،
فَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ، ثُمَّ نَزَلَ وَقَدْ أَصَابَتْهُ
الْحُمَّى، فَاسْتَمَرَّ فِيهَا حَتَّى مَاتَ فِي الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ أَصَابَهُ ذَاتُ الْجَنْبِ، فَمَاتَ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ قَدْ أَقْسَمَ أَنَّهُ لَا يَبْرَحُ دَابِقًا حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ
الْخَبَرُ بِفَتْحِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَوْ يَمُوتَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَاتَ
قَبْلَ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
قَالُوا: وَجَعَلَ يَلْهَجُ فِي
مَرَضِهِ وَيَقُولُ:
إِنْ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صِغَارُ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ كِبَارُ
فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ يَقُولُ:
إِنَّ بَنِيَّ صِبْيَةٌ صَيْفِيُّونَ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ شِتْوِيُّونَ
وَيُرْوَى أَنَّ هَذَا آخِرُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ آخِرَ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: أَسْأَلُكَ مُنْقَلَبًا كَرِيمًا. ثُمَّ قَضَى.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ
لِبَنِي أُمَيَّةَ قَالَ: اسْتَشَارَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ
مَرِيضٌ أَنْ يُوَلِّيَ ابْنًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، فَقُلْتُ:
إِنَّ مِمَّا يَحْفَظُ الْخَلِيفَةَ فِي قَبْرِهِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
مِنْ بَعْدِهِ الرَّجُلَ الصَّالِحَ، ثُمَّ شَاوَرَنِي فِي وِلَايَةِ ابْنِهِ
دَاوُدَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ غَائِبٌ عَنْكَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَلَا
تَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: فَمَنْ تَرَى؟ فَقُلْتُ: رَأْيَكَ
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ؟ فَقُلْتُ: أَعْلَمُهُ وَاللَّهِ خَيِّرًا فَاضِلًا مُسْلِمًا.
فَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ إِخْوَتِي لَا
يَرْضُونَ بِذَلِكَ. فَأَشَارَ رَجَاءٌ أَنْ يَجْعَلَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ وَلِيَّ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
لِيُرْضِيَ بِذَلِكَ بَنِي مَرْوَانَ،
فَكَتَبَ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ
سُلَيْمَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، إِنِّي قَدْ
وَلَّيْتُكَ الْخِلَافَةَ مِنْ بَعْدِي، وَمِنْ بَعْدِهِ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ
الْمَلِكِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَخْتَلِفُوا
فَيُطْمَعَ فِيكُمْ.
وَخَتَمَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ حَامِدٍ الْعَبْسِيِّ صَاحِبِ
الشُّرَطَةِ، فَقَالَ لَهُ: اجْمَعْ أَهْلَ بَيْتِي، فَمُرْهُمْ فَلْيُبَايِعُوا
عَلَى مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَخْتُومًا، فَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ فَاضْرِبْ
عُنُقَهُ، فَاجْتَمَعُوا وَدَخَلَ رِجَالٌ مِنْهُمْ فَسَلَّمُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
فَقَالَ لَهُمْ: هَذَا الْكِتَابُ عَهْدِي إِلَيْكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ
وَأَطِيعُوا وَبَايِعُوا مَنْ وَلَّيْتُ فِيهِ. فَبَايَعُوا رَجُلًا رَجُلًا.
قَالَ رَجَاءٌ: فَلَمَّا تَفَرَّقُوا جَاءَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ وَحُرْمَتِي وَمَوَدَّتِي إِلَّا أَعْلَمْتَنِي إِنْ
كَانَ كَتَبَ لِي ذَلِكَ حَتَّى أَسْتَعْفِيَهُ الْآنَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ حَالٌ
لَا أَقْدِرُ فِيهَا عَلَى مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ السَّاعَةَ! فَقُلْتُ: وَاللَّهِ
لَا أُخْبِرُكَ حَرْفًا وَاحِدًا. قَالَ: وَلَقِيَنِي هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ فَقَالَ: يَا رَجَاءُ، إِنَّ لِي بِكَ حُرْمَةً وَمَوَدَّةً قَدِيمَةً،
فَأَخْبِرْنِي هَذَا الْأَمْرَ، فَإِنْ كَانَ إِلَيَّ عَلِمْتُ، وَإِنْ كَانَ
إِلَى غَيْرِي تَكَلَّمْتُ،
فَمَا مِثْلِي قُصِّرَ بِهِ. فَقُلْتُ:
وَاللَّهِ لَا أُخْبِرُكَ حَرْفًا وَاحِدًا مِمَّا أَسَرَّ إِلَيَّ.
قَالَ رَجَاءٌ: وَدَخَلْتُ عَلَى سُلَيْمَانَ، فَإِذَا هُوَ يَمُوتُ، فَجَعَلْتُ
إِذَا أَخَذَتْهُ السَّكْرَةُ مِنْ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ أَحُرِّفُهُ إِلَى
الْقِبْلَةِ، فَإِذَا أَفَاقَ يَقُولُ: لَمْ يَأْنِ لِذَلِكَ بَعْدُ يَا رَجَاءُ.
فَفَعَلْتُ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ قَالَ: مِنَ الْآنَ
يَا رَجَاءُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ شَيْئًا، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، قَالَ: فَحَرَّفْتُهُ
إِلَى الْقِبْلَةِ وَمَاتَ، فَغَطَّيْتُهُ بِقَطِيفَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَغْلَقْتُ
الْبَابَ عَلَيْهِ، وَأَرْسَلْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ حَامِدٍ، فَجَمَعَ النَّاسَ
فِي مَسْجِدِ دَابِقٍ فَقُلْتُ: بَايِعُوا لِمَنْ فِي هَذَا الْكِتَابِ.
فَقَالُوا: قَدْ بَايَعْنَا. فَقُلْتُ: بَايِعُوا ثَانِيَةً. فَفَعَلُوا، ثُمَّ
قُلْتُ: قُومُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ فَقَدْ مَاتَ. وَقَرَأْتُ الْكِتَابَ
عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى ذِكْرِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
تَغَيَّرَتْ وُجُوهُ بَنِي مَرْوَانَ، فَلَمَّا قَرَأْتُ: وَإِنَّ يَزِيدَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِهِ، تَرَاجَعُوا بَعْضَ الشَّيْءِ، وَنَادَى هِشَامٌ:
لَا نُبَايِعُهُ أَبَدًا. فَقُلْتُ: أَضْرِبُ وَاللَّهِ عُنُقَكَ، قُمْ فَبَايِعْ.
وَنَهَضَ النَّاسُ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ فِي مُؤَخَّرِ
الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَلَمْ تَحْمِلْهُ رِجْلَاهُ حَتَّى أَخَذُوا بِضَبْعَيْهِ،
فَأَصْعَدُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَسَكَتَ حِينًا، فَقَالَ رَجَاءُ بْنُ
حَيْوَةَ: أَلَا تَقُومُونَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَتُبَايِعُوهُ!
فَنَهَضَ الْقَوْمُ فَبَايَعُوهُ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ هِشَامٌ فَصَعِدَ
الْمِنْبَرَ لِيُبَايِعَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،
الَّذِي صِرْتُ أَنَا وَأَنْتَ نَتَنَازَعُ هَذَا الْأَمْرَ. ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ
النَّاسَ خُطْبَةً
بَلِيغَةً وَبَايَعُوهُ، فَكَانَ
مِمَّا قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي
مُتَّبِعٌ، وَإِنَّ مَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَمْصَارِ وَالْمُدُنِ إِنْ هُمْ
أَطَاعُوا كَمَا أَطَعْتُمْ فَأَنَا وَالِيكُمْ، وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَلَسْتُ
لَكُمْ بِوَالٍ.
ثُمَّ نَزَلَ فَشَرَعُوا فِي جِهَازِ سُلَيْمَانَ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: فَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ،
فَصَلَّى عُمَرُ بِالنَّاسِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ثُمَّ صَلَّى عَلَى سُلَيْمَانَ
وَدُفِنَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ عُمَرُ أُتِيَ بِمَرَاكِبِ
الْخِلَافَةِ فَلَمْ يَرْكَبْهَا، وَرَكِبَ دَابَّتَهُ، ثُمَّ سَارَ مَعَ النَّاسِ
حَتَّى أَتَوْا دِمَشْقَ فَمَالُوا بِهِ نَحْوَ دَارِ الْخِلَافَةِ فَقَالَ: لَا
أَنْزِلُ إِلَّا فِي مَنْزِلِي حَتَّى تَفْرُغَ دَارُ أَبِي أَيُّوبَ،
فَاسْتُحْسِنَ ذَلِكَ مِنْهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَى بِالْكَاتِبِ، فَجَعَلَ يُمْلِي
عَلَيْهِ نُسْخَةَ الْكِتَابِ الَّذِي يُبَايِعُ عَلَيْهِ الْأَمْصَارَ قَالَ
رَجَاءٌ: فَمَا رَأَيْتُ أَفْصَحَ مِنْهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ وَفَاةُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بِدَابِقٍ مِنْ أَرْضِ قِنَّسْرِينَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرِ
لَيَالٍ خَلَتْ مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، عَلَى رَأْسِ سَنَتَيْنِ
وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ مُتَوَفَّى الْوَلِيدِ. وَكَذَا
قَالَ الْجُمْهُورُ
فِي تَارِيخِ وَفَاتِهِ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ: لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ. وَقَالُوا: كَانَتْ وِلَايَتُهُ
سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، زَادَ بَعْضُهُمْ إِلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ الْحَاكِمِ أَبِي أَحْمَدَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ، وَكَانَتْ
خِلَافَتُهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ،
وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً. فَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا وَقَدْ خَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِي كُلِّ مَا
قَالَهُ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ فَقِيلَ: بِثَلَاثٍ.
وَقِيلَ: بِخَمْسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالُوا: وَكَانَ طَوِيلًا جَمِيلًا أَبْيَضَ نَحِيفًا، حَسَنَ الْوَجْهِ،
مَقْرُونَ الْحَاجِبَيْنِ، وَكَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ،
وَيَرْجِعُ إِلَى دِينٍ وَخَيْرٍ وَمَحَبَّةٍ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَاتِّبَاعِ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَإِظْهَارِ الشَّرَائِعِ الْإِسْلَامِيَّةِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ آلَى عَلَى نَفْسِهِ حِينَ خَرَجَ مِنْ دِمَشْقَ
إِلَى مَرْجِ دَابِقٍ وَدَابِقٌ قَرِيبَةٌ مِنْ بِلَادِ حَلَبٍ وَقَدْ جُهِّزَتِ
الْجُيُوشُ إِلَى مَدِينَةِ الرُّومِ الْعُظْمَى الْمُسَمَّاةُ
بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى دِمَشْقَ حَتَّى تُفْتَحَ أَوْ
يَمُوتَ. فَمَاتَ هُنَالِكَ كَمَا ذَكَرْنَا فَحَصَلَ لَهُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ
أَجْرُ الرِّبَاطِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهُوَ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ، مِمَّنْ يُجْرَى لَهُ ثَوَابُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ شَرَاحِيلَ بْنِ
عُبَيْدَةَ بْنِ قَيْسٍ الْعُقَيْلِيِّ مَا مَضْمُونُهُ، أَنَّ مَسْلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا ضَيَّقَ بِمُحَاصَرَتِهِ عَلَى أَهْلِ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَتَتَبَّعَ الْمَسَالِكَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِ
مَا هُنَالِكَ مِنَ الْمَمَالِكِ، كَتَبَ إِلْيُونُ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى مَلِكِ
الْبُرْجَانِ يَسْتَنْصِرُهُ عَلَى مَسْلَمَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ
الْقَوْمَ لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةٌ إِلَّا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِهِمْ،
الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ، وَإِنَّهُمْ مَتَى فَرَغُوا مِنِّي خَلَصُوا
إِلَيْكَ، فَمَهْمَا كُنْتَ صَانِعًا حِينَئِذٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ. فَعِنْدَ
ذَلِكَ شَرَعَ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ، فَكَتَبَ إِلَى
مَسْلَمَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّ إِلْيُونَ كَتَبَ إِلَيَّ يَسْتَنْصِرُنِي
عَلَيْكَ، وَأَنَا مَعَكَ فَمُرْنِي بِمَا شِئْتَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَسْلَمَةُ:
إِنِّي لَا أُرِيدُ مِنْكَ رِجَالًا وَلَا عُدَدًا وَلَكِنْ أَرْسِلْ إِلَيَّ
بِالْمِيرَةِ، فَقَدْ قَلَّ مَا عِنْدَنَا مِنَ الْأَزْوَادِ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ بِسُوقٍ عَظِيمَةٍ إِلَى
مَكَانِ كَذَا وَكَذَا،
فَأَرْسِلْ مَنْ يَتَسَلَّمُهَا
وَيَشْتَرِي مِنْهَا.
فَأَذِنَ مَسْلَمَةُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْجَيْشِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ
فَيَشْتَرِي لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَذَهَبَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَوَجَدُوا
هُنَالِكَ سُوقًا هَائِلَةً، فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَضَائِعِ وَالْأَمْتِعَةِ
وَالْأَطْعِمَةِ، فَأَقْبَلُوا يَشْتَرُونَ، وَاشْتَغَلُوا بِذَلِكَ، وَلَا
يَشْعُرُونَ بِمَا أَرْصَدَ لَهُمُ الْخَبِيثُ مِنَ الْكَمَائِنِ بَيْنَ تِلْكَ
الْجِبَالِ الَّتِي هُنَالِكَ، فَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ بَغْتَةً، فَقَتَلُوا
خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَسَرُوا آخَرِينَ، وَمَا رَجَعَ إِلَى
مَسْلَمَةَ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
فَكَتَبَ مَسْلَمَةُ بِذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَانَ يُخْبِرُهُ بِمَا وَقَعَ
مِنْ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ جَيْشًا كَثِيفًا صُحْبَةَ شَرَاحِيلَ بْنِ عُبَيْدَةَ
هَذَا، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُرُوا خَلِيجَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ أَوَّلًا
فَيُقَاتِلُوا مَلِكَ الْبُرْجَانِ، ثُمَّ يَعُودُوا إِلَى مَسْلَمَةَ فَذَهَبُوا
إِلَى بِلَادِ الْبُرْجَانِ وَقَطَعُوا إِلَيْهِمْ تِلْكَ الْخُلْجَانِ
فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِإِذْنِ
اللَّهِ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً، وَسَبَوْا وَأَسَرُوا خَلْقًا
كَثِيرًا، وَخَلَّصُوا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَحَيَّزُوا إِلَى
مَسْلَمَةَ، فَكَانُوا عِنْدَهُ حَتَّى اسْتَقْدَمَ الْجَمِيعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيز; خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنْ غَائِلَةِ الرُّومِ وَبِلَادِهِمْ، وَمِنْ
ضِيقِ الْعَيْشِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ هُنَالِكَ مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ.
أَثَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
خِلَافَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ
مَضَيْنَ وَقِيلَ: بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ
تِسْعٍ وَتِسْعِينَ يَوْمَ مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَهْدٍ
مِنْهُ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عُمَرَ كَمَا قَدَّمْنَا وَقَدْ ظَهَرَتْ
عَلَيْهِ مَخَايِلُ الْوَرَعِ وَالدِّينِ وَالتَّقَشُّفِ وَالصِّيَانَةِ
وَالنَّزَاهَةِ مِنْ أَوَّلِ حَرَكَةٍ بَدَتْ مِنْهُ; حَيْثُ أَعْرَضَ عَنْ
رُكُوبِ مَرَاكِبِ الْخِلَافَةِ، وَهِيَ الْخُيُولُ الْحِسَانُ الْجِيَادُ
الْمُعَدَّةُ لَهَا وَالِاجْتِزَاءُ بِمَرْكُوبِهِ الَّذِي كَانَ يَرْكَبُهُ،
وَسُكْنَى مَنْزِلِهِ رَغْبَةً عَنْ مَنْزِلِ الْخِلَافَةِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ
خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لِي نَفْسًا
تَوَّاقَةً لَا تُعْطَى شَيْئًا إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ،
وَإِنِّي لَمَّا أُعْطِيتُ الْخِلَافَةَ تَاقَتْ نَفْسِي إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى
مِنْهَا وَهِيَ الْجَنَّةُ; فَأَعِينُونِي عَلَيْهَا يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ.
وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ مِمَّا بَادَرَ إِلَيْهِ عُمَرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَنْ بَعَثَ إِلَى
مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ
بِأَرْضِ الرُّومِ مُحَاصِرُو الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَقَدِ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ
الْحَالُ وَضَاقَ عَلَيْهِمُ الْمَجَالُ; لِأَنَّهُمْ عَسْكَرٌ كَثِيرٌ فَكَتَبَ
إِلَيْهِمْ يَأْمُرُهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى الشَّامِ إِلَى مَنَازِلِهِمْ،
وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِطَعَامٍ كَثِيرٍ وَخُيُولٍ كَثِيرَةٍ عِتَاقٍ يُقَالُ: خَمْسُمِائَةِ
فَرَسٍ. فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَغَارَتِ
التُّرْكُ عَلَى أَذْرَبِيجَانَ فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ،
فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَاتِمَ بْنَ النُّعْمَانِ
الْبَاهِلِيَّ، فَقَتَلَ أُولَئِكَ الْأَتْرَاكَ، وَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا
الْيَسِيرُ، وَبَعَثَ مِنْهُمْ أُسَارَى إِلَى عُمَرَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ.
وَقَدْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ يُذَكِّرُونَهُ بَعْدَ أَذَانِهِمْ بِاقْتِرَابِ
الْوَقْتِ وَضِيقِهِ لِئَلَّا يُؤَخِّرَهَا كَمَا كَانَ يُؤَخِّرُهَا مَنْ كَانَ
قَبْلَهُ لِكَثْرَةِ الْأَشْغَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ حَرِيزِ بْنِ عُثْمَانَ الرَّحْبِيِّ
الْحِمْصِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ مُؤَذِّنِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ
عَلَى الْفَلَاحِ، الصَّلَاةُ قَدْ قَارَبَتْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَزَلَ عُمَرُ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ عَنْ إِمْرَةِ
الْعِرَاقِ، وَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ أَرْطَاةَ الْفَزَارِيَّ عَلَى إِمْرَةِ
الْبَصْرَةِ، فَاسْتَقْضَى عَلَيْهَا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، فَاسْتَعْفَاهُ
فَأَعْفَاهُ، وَاسْتَقْضَى مَكَانَهُ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الذَّكِيَّ الْمَشْهُورَ،
وَبَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ الْكُوفَةِ وَأَرْضِهَا عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، وَضَمَّ إِلَيْهِ أَبَا الزِّنَادِ
كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْضَى عَلَيْهَا عَامِرًا الشَّعْبِيَّ. قَالَ
الْوَاقِدِيُّ: فَلَمْ يَزَلْ قَاضِيًا عَلَيْهَا مُدَّةَ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَجَعَلَ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْحَكَمِيَّ، وَكَانَ نَائِبَ مَكَّةَ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَعَلَى إِمْرَةِ الْمَدِينَةِ أَبُو بَكْرِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَهُوَ الَّذِي حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَعَزَلَ عَنْ إِمْرَةِ مِصْرَ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ رِفَاعَةَ
وَوَلَّى عَلَيْهَا أَيُّوبَ بْنَ شُرَحْبِيلَ وَجَعَلَ الْفُتْيَا إِلَى جَعْفَرِ
بْنِ رَبِيعَةَ، وَيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
جَعْفَرٍ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُفْتُونَ النَّاسَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى
إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ،
وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ وَأَسْلَمَ فِي وِلَايَتِهِ عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْبَرْبَرِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ يُقَالُ: إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَالَ: تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ. وَذَكَرَ خَلِيفَةُ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا الذَّهَبِيُّ فِي الْأَعْلَامِ أَنَّهُ
تُوُفِّيَ هَذَا الْعَامَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَمَا تَقَدَّمَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزِ بْنِ
جُنَادَةَ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَشِيُّ
الْجُمَحِيُّ الْمَكِّيُّ، نَزِيلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ، رَوَى
عَنْ زَوْجِ أُمِّهِ أَبِي مَحْذُورَةَ الْمُؤَذِّنِ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
وَأَبِي سَعِيدٍ وَمُعَاوِيَةَ وَغَيْرِهِمْ. وَعَنْهُ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ
وَمَكْحُولٌ وَحَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ وَالزُّهْرِيُّ وَآخَرُونَ. وَقَدْ
وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَتَّى
قَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ: إِنْ يَفْخَرَ عَلَيْنَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ
بِعَابِدِهِمْ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّا نَفْخَرُ عَلَيْهِمْ بِعَابِدِنَا عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ. وَقَالَ بَعْضُ وَلَدِهِ: كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ
كُلَّ جُمُعَةٍ، وَكَانَ يُفْرَشُ لَهُ الْفِرَاشُ فَلَا يَنَامُ عَلَيْهِ.
قَالُوا: وَكَانَ صَمُوتًا مُعْتَزِلًا لِلْفِتَنِ. وَكَانَ لَا يَتْرُكُ
الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا
مِنْ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ. وَرَأَى عَلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ حُلَّةً مِنْ
حَرِيرٍ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَلْبَسُهَا مِنْ أَجْلِ
هَؤُلَاءِ وَأَشَارَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: لَا تَعْدِلْ بِخَوْفِكَ مِنَ اللَّهِ خَوْفَ
أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: مَنْ كَانَ مُقْتَدِيًا فَلْيَقْتَدِ بِمِثْلِهِ،
فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِلُّ أُمَّةً فِيهَا مِثْلُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُوُفِّيَ
أَيَّامَ الْوَلِيدِ. وَقَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: تُوُفِّيَ أَيَّامَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي " الْأَعْلَامِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
هَذَا الْعَامِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
مَحْمُودُ بْنُ لَبِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
أَبُو نُعَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ الْأَشْهَلِيُّ الْمَدَنِيُّ، وُلِدَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ، لَكِنْ
حُكْمُهَا الْإِرْسَالُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: لَهُ صُحْبَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هُوَ
أَسَنُّ مِنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ
وَقِيلَ: سَبْعٍ وَتِسْعِينَ.
وَذَكَرَ الذَّهَبِيُّ فِي " الْأَعْلَامِ " أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي
هَذَا الْعَامِ، أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْيَقِينِ.
نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
ابْنُ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلٍ، الْقُرَشِيُّ النَّوْفَلِيُّ الْمَدَنِيُّ،
رَوَى عَنْ أَبِيهِ، وَعُثْمَانَ،
وَعَلِيٍّ، وَالْعَبَّاسِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَرَوَى
عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ ثِقَةً عَابِدًا
يَحُجُّ مَاشِيًا، وَمَرْكُوبُهُ يُقَادُ مَعَهُ، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: تُوُفِّيَ
سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ بِالْمَدِينَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كُرَيْبُ بْنُ مُسْلِمٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ عِنْدَهُ حِمْلُ كُتُبٍ، وَكَانَ مِنَ
الثِّقَاتِ الْمَشْهُورِينَ بِالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهَا، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرةٌ،
تُوَفِّيَ فِي الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ.
مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ
لَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ يَعْقِلُ مَجَّةً مَجَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ، وَعُمْرُهُ أَرْبَعُ سِنِينَ، تُوُفِّيَ
وَعُمْرُهُ ثَلَاثٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً بِالْمَدِينَةِ.
مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ، لَهُ رِوَايَاتٌ،
كَانَ لَا يُفَضَّلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ
فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ عَابِدًا وَرِعًا زَاهِدًا كَثِيرَ الْخُشُوعِ وَقِيلَ:
إِنَّهُ وَقَعَ فِي دَارِهِ حَرِيقٌ فَأَطْفَئُوهُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ
يَشْعُرْ بِهِ، وَلَهُ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ. قُلْتُ:
وَانْهَدَمَتْ مَرَّةً نَاحِيَةٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَفَزِعَ أَهْلُ السُّوقِ
لِهَدَّتِهَا، وَإِنَّهُ لَفِي الْمَسْجِدِ فِي صَلَاتِهِ فَمَا الْتَفَتَ.
وَقَالَ ابْنُهُ: رَأَيْتُهُ سَاجِدًا، وَهُوَ يَقُولُ: مَتَى أَلْقَاكَ وَأَنْتَ
عَنِّي رَاضٍ؟ ثُمَّ يَذْهَبُ فِي الدُّعَاءِ ثُمَّ يَقُولُ: مَتَى أَلْقَاكَ
وَأَنْتَ عَنِّي رَاضٍ؟ وَكَانَ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ كَأَنَّهُ فِي
الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ.
حَنَشُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الصَّنْعَانِيُّ
كَانَ وَالِيَ إِفْرِيقِيَّةَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَبِإِفْرِيقِيَّةَ تُوَفِّيَ
غَازِيًا، وَلَهُ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنُ الضَّحَّاكِ، الْأَنْصَارِيُّ الْمَدَنِيُّ
الْفَقِيهُ، كَانَ يُفْتِي بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ مِنْ فُقَهَائِهَا
الْمَعْدُودِينَ، كَانَ عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ وَتَقْسِيمِ الْمَوَارِيثِ،
وَهُوَ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ مَدَارُ الْفَتْوَى عَلَى
قَوْلِهِمْ.
سَنَةُ مِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
النَّبَوِيَّةِ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ، أَنْبَأَ وَرْقَاءُ،
عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ دَجَاجَةَ
قَالَ: دَخَلَ أَبُو مَسْعُودٍ عَلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ
مِائَةُ عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ ؟ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ
عَامٍ وَعَلَى الْأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ مِمَّنْ هُوَ حَيٌّ وَإِنَّ رَخَاءَ
هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ الْمِائَةِ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: يَا
فَرُّوخُ، أَنْتَ الْقَائِلُ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى
الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ؟ أَخْطَأَتِ اسْتُكَ الْحُفْرَةَ، إِنَّمَا قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ
مِائَةُ سَنَةٍ وَعَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تَطْرِفُ مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ حَيٌّ
وَإِنَّمَا رَخَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفَرَجُهَا بَعْدَ الْمِائَةِ. تَفَرَّدَ
بِهِ.
وَهَكَذَا جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَوَهَلَ
النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تِلْكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ انْخِرَامَ قَرْنِهِ.
وَفِيهَا خَرَجَتْ خَارِجَةٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ بِالْعِرَاقِ، فَبَعَثَ أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
إِلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ نَائِبِ
الْكُوفَةِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَيَتَلَطَّفَ بِهِمْ،
وَلَا يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ
بَعَثَ إِلَيْهِمْ جَيْشًا فَكَسَرَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ، فَبَعَثَ عُمَرُ
إِلَيْهِ يَلُومُهُ عَلَى جَيْشِهِ، وَأَرْسَلَ عُمَرُ ابْنَ عَمِّهِ مَسْلَمَةَ
بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنَ الْجَزِيرَةِ إِلَى حَرْبِهِمْ، فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ
بِهِمْ، وَقَدْ أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى كَبِيرِ الْخَوَارِجِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ:
بِسْطَامُ يَقُولُ لَهُ: مَا أَخْرَجَكَ عَلَيَّ؟ فَإِنْ كُنْتَ خَرَجْتَ غَضَبًا
لِلَّهِ فَأَنَا أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ، وَلَسْتَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنِّي،
وَهَلُمَّ أُنَاظِرْكَ; فَإِنْ رَأَيْتَ حَقًّا اتَّبَعْتَهُ، وَإِنْ أَبْدَيْتَ
حَقًّا نَظَرْنَا فِيهِ.
فَبَعَثَ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَيْهِ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ عُمَرُ
رَجُلَيْنِ فَسَأَلَهُمَا: مَاذَا تَنْقِمُونَ؟ فَقَالَا: جَعْلَكَ يَزِيدَ بْنَ
عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَجْعَلْهُ أَبَدًا،
وَإِنَّمَا جَعَلَهُ غَيْرِي. قَالَا: فَكَيْفَ تَرْضَى بِهِ أَمِينًا لِلْأُمَّةِ
مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: أَنْظِرْنِي ثَلَاثَةً. فَيُقَالُ: إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ
دَسَّتْ إِلَيْهِ سُمًّا فَقَتَلُوهُ; خَشْيَةَ أَنْ يَخْرُجَ الْأَمْرُ مِنْ
أَيْدِيهِمْ، وَيَمْنَعَهُمُ الْأَمْوَالَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا عُمَرُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ
الْمُعَيْطِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ
الصَّائِفَةِ.
وَفِيهَا وَلَّى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عُمَرَ بْنَ هُبَيْرَةَ
الْجَزِيرَةَ، فَسَارَ إِلَيْهَا.
وَفِيهَا حُمِلَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
مِنَ الْعِرَاقِ; أَرْسَلَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ نَائِبُ الْبَصْرَةِ وَقَدْ
كَانَ أَظْهَرَ الِامْتِنَاعَ مَعَ مُوسَى بْنِ وَجِيهٍ، وَكَانَ عُمَرُ يُبْغِضُ
يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ جَبَابِرَةٌ وَلَا
أُحِبُّ مِثْلَهُمْ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ طَالَبَهُ بِمَا قِبَلَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي
كَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَى سُلَيْمَانَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ
إِنَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ لِأُرْهِبَ الْأَعْدَاءَ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي
وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ شَيْءٌ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَكَانَتِي عِنْدَهُ. فَقَالَ لَهُ
عُمَرُ: لَا أَسْمَعُ مِنْكَ هَذَا، وَلَسْتُ أُطْلِقُكَ حَتَّى تُؤَدِّيَ
أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَرَ بِسَجْنِهِ.
وَكَانَ عُمَرُ قَدْ بَعَثَ عَلَى إِمْرَةِ خُرَاسَانَ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عِوَضَهُ وَقَدِمَ وَلَدُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ
مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ قَدْ مَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِوِلَايَتِكَ عَلَيْهَا فَلَا
نَكُونَنَّ أَشْقَى النَّاسِ بِكَ، فَعَلَامَ تَحْبِسُ هَذَا الشَّيْخَ وَأَنَا
أَقُومُ بِمَا تُصَالِحُنِي عَنْهُ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُصَالِحُكَ عَنْهُ
إِلَّا أَنْ تَقُومَ بِجَمِيعِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ لَكَ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِمَا تَقُولُ وَإِلَّا
فَاقْبَلْ يَمِينَهُ أَوْ فَصَالِحْنِي عَنْهُ. فَقَالَ: لَا آخُذُ مِنْهُ إِلَّا
جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، فَلَمْ
يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ مَخْلَدٌ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ.
ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِأَنْ يَلْبَسَ يَزِيدُ بْنُ الْمُهَلَّبِ جُبَّةً
مِنْ صُوفٍ، وَيَرْكَبَ عَلَى بَعِيرٍ وَيَذْهَبُوا إِلَى جَزِيرَةِ دَهْلَكَ
الَّتِي كَانَ يُنْفَى إِلَيْهَا الْفُسَّاقُ، فَشَفَعُوا فِيهِ، فَرَدَّهُ إِلَى
السِّجْنِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى مَرِضَ عُمَرُ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ، فَهَرَبَ
مِنَ السِّجْنِ وَهُوَ مَرِيضٌ،
وَعَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ كَتَبَ إِلَيْهِ، كَمَا
سَيَأْتِي، وَأَظُنُّهُ كَانَ عَالِمًا أَنَّ عُمَرَ قَدْ سُقِيَ سُمًّا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ، فِي رَمَضَانَ مِنْهَا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ الْجَرَّاحَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيَّ عَنْ إِمْرَةِ
خُرَاسَانَ بَعْدَ سَنَةٍ وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ; وَإِنَّمَا عَزَلَهُ لِأَنَّهُ
كَانَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنَ الْكُفَّارِ وَيَقُولُ:
أَنْتُمْ إِنَّمَا تُسْلِمُونَ فِرَارًا مِنْهَا. فَامْتَنَعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ
وَثَبَتُوا عَلَى دِينِهِمْ وَأَدَّوُا الْجِزْيَةَ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاعِيًا وَلَمْ يَبْعَثْهُ جَابِيًا. وَعَزَلَهُ
وَوَلَّى بَدَلَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيَّ عَلَى
الْحَرْبِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْخَرَاجِ.
وَفِيهَا كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عُمَّالِهِ يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَاهُمْ
عَنِ الشَّرِّ وَيُبَيِّنُ لَهُمُ الْحَقَّ، وَيُوَضِّحُهُ لَهُمْ، وَيَعِظُهُمْ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ بَأْسَ اللَّهِ وَانْتِقَامَهُ
فَكَانَ فِيمَا كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نُعَيْمٍ الْقُشَيْرِيِّ:
أَمَّا بَعْدُ، فَكُنْ عَبْدًا لِلَّهِ نَاصِحًا لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ، وَلَا
تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ أَوْلَى بِكَ مِنَ
النَّاسِ وَحَقَّهُ عَلَيْكَ أَعْظَمُ، وَلَا تُوَلِّيَنَّ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ إِلَّا الْمَعْرُوفَ بِالنَّصِيحَةِ لَهُمْ، وَالتَّوْفِيرِ
عَلَيْهِمْ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا اسْتُرْعِيَ، وَإِيَّاكَ أَنْ يَكُونَ
مَيْلُكَ مَيْلًا إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ; فَإِنَّ اللَّهَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ
خَافِيَةٌ وَلَا تَذْهَبَنَّ عَنِ اللَّهِ مَذْهَبًا; فَإِنَّهُ لَا مَلْجَأَ مِنَ
اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ. وَكَتَبَ مِثْلَ ذَلِكَ مَوَاعِظَ كَثِيرَةً إِلَى
الْعُمَّالِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي "
صَحِيحِهِ ": وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ
لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا، مَنِ اسْتَكْمَلَهَا
اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ
الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا،
وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ بُدُوُّ دَعْوَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ
وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ
مُقِيمًا بِأَرْضِ الشُّرَاةِ بَعَثَ مِنْ جِهَتِهِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ:
مَيْسَرَةُ. إِلَى الْعِرَاقِ وَأَرْسَلَ طَائِفَةً أُخْرَى وَهُمْ; مُحَمَّدُ
بْنُ خُنَيْسٍ وَأَبُو عِكْرِمَةَ السَّرَّاجُ وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ
وَحَيَّانُ الْعَطَّارُ خَالُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَلَمَةَ إِلَى خُرَاسَانَ
وَعَلَيْهَا يَوْمئِذٍ الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ قَبْلَ أَنْ
يُعْزَلَ فِي رَمَضَانَ وَأَمَرَهُمْ بِالدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَإِلَى أَهْلِ
بَيْتِهِ فَلَقُوا مَنْ لَقُوا ثُمَّ انْصَرَفُوا بِكُتُبِ مَنِ اسْتَجَابَ
مِنْهُمْ إِلَى مَيْسَرَةَ، الَّذِي بِالْعِرَاقِ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيٍّ فَفَرِحَ بِهَا وَاسْتَبْشَرَ وَسَرَّهُ وَكَانَ مَبَادِئَ أَمْرٍ
قَدْ كَتَبَ اللَّهُ إِتْمَامَهُ وَأَوَّلَ رَأْيٍ قَدْ أَحْكَمَ اللَّهُ
إِبْرَامَهُ،
وَذَلِكَ أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي
أُمَيَّةَ قَدْ بَانَ عَلَيْهَا مَخَايِلُ الْوَهْنِ وَالضَّعْفِ، وَلَا سِيَّمَا
بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَدِ
اخْتَارَ أَبُو مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيبًا وَهُمْ; سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ الْخُزَاعِيُّ وَلَاهِزُ بْنُ قُرَيْظٍ
التَّمِيمِيُّ وَقَحْطَبَةُ بْنُ شَبِيبٍ الطَّائِيُّ وَمُوسَى بْنُ كَعْبٍ
التَّمِيمِيُّ وَخَالِدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ
شَيْبَانَ بْنِ ذَهَبٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُجَاشِعٍ التَّمِيمِيُّ وَعِمْرَانُ
بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو النَّجْمِ مَوْلًى لِآلِ أَبِي مُعَيْطٍ وَمَالِكُ بْنُ الْهَيْثَمِ
الْخُزَاعِيُّ وَطَلْحَةُ بْنُ زُرَيْقٍ الْخُزَاعِيُّ وَعَمْرُو بْنُ أَعْيَنَ
أَبُو حَمْزَةَ مَوْلًى لِخُزَاعَةَ وَشِبْلُ بْنُ طَهْمَانَ أَبُو عَلِيٍّ
الْهَرَوِيُّ مَوْلًى لِبَنِي حَنِيفَةَ وَعِيسَى ابْنُ أَعْيَنَ مَوْلَى
خُزَاعَةَ أَيْضًا. وَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا أَيْضًا. وَكَتَبَ
إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ كِتَابًا يَكُونُ مِثَالًا وَسِيرَةً
يَقْتَدُونَ بِهَا وَيَسِيرُونَ بِهَا.
وَقَدْ حَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ نَائِبُ الْمَدِينَةِ. وَالنُّوَّابُ عَلَى الْأَمْصَارِ هُمُ
الْمَذْكُورُونَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا مِمَّنْ عُزِلَ
وَتَوَلَّى غَيْرُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَحُجَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ
لِشُغْلِهِ بِالْأُمُورِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يُبْرِدُ الْبَرِيدَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَيَقُولُ لَهُ: سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِّي. وَسَيَأْتِي بِإِسْنَادِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ
سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ
الْأَشْجَعِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ أَخُو زِيَادٍ وَعَبْدُ اللَّهِ
وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَعِمْرَانُ وَمُسْلِمٌ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ رَوَى عَنْ
ثَوْبَانَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ قَتَادَةُ وَالْأَعْمَشُ
وَآخَرُونَ وَكَانَ ثِقَةً نَبِيلًا جَلِيلًا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَلَى الْمَشْهُورِ.
أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
الْأَنْصَارِيُّ الْأَوْسِيُّ الْمَدَنِيُّ وُلِدَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ وَحَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ الزُّهْرِيُّ
وَأَبُو حَازِمٍ وَجَمَاعَةٌ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانَ مِنْ عِلْيَةِ الْأَنْصَارِ
وَعُلَمَائِهِمْ وَمِنْ أَبْنَاءِ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا. وَقَالَ يُوسُفُ
بْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: آخِرُ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْجُمُعَةِ، حَصَبَهُ
النَّاسُ وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ يَوْمَئِذٍ
أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ. قَالُوا: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الزَّاهِرِيَّةِ حُدَيْرُ بْنُ
كُرَيْبٍ الْحِمْصِيُّ
تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ سَمِعَ أَبَا أُمَامَةَ صَدَى بْنَ عَجْلَانَ وَعَبْدَ اللَّهِ
بْنَ بُسْرٍ وَيُقَالُ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَبَا الدَّرْدَاءِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ
رِوَايَتَهُ عَنْهُ وَعَنْ حُذَيْفَةَ مُرْسَلَةٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ أَغْرَبِ مَا رُوِيَ عَنْهُ قَوْلُ قُتَيْبَةَ: ثَنَا شِهَابُ بْنُ خِرَاشٍ
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ قَالَ: أَغْفَيْتُ فِي صَخْرَةِ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ فَجَاءَتِ السَّدَنَةُ، فَأَغْلَقُوا عَلَيَّ الْبَابَ، فَمَا
انْتَبَهْتُ إِلَّا بِتَسْبِيحِ الْمَلَائِكَةِ فَوَثَبْتُ مَذْعُورًا، فَإِذَا
الْمَلَائِكَةُ صُفُوفٌ; فَدَخَلْتُ مَعَهُمْ فِي الصَّفِّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ،
وَغَيْرُهُ: مَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ.
أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ
ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو اللَّيْثِيُّ الْكِنَانِيُّ صَحَابِيٌّ وَهُوَ
آخِرُ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَاةً
بِالْإِجْمَاعِ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
رَآهُ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ وَذَكَرَ صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ
وَمُعَاذٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدَّثَ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَعَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ وَأَبُو الزُّبَيْرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ. وَكَانَ مِنْ
أَنْصَارِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ شَهِدَ
مَعَهُ حُرُوبَهُ كُلَّهَا لَكِنْ نَقِمَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ كَوْنَهُ كَانَ مَعَ
الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ حَامِلَ رَايَتِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: مَا أَبْقَى لَكَ
الدَّهْرُ مِنْ ثَكْلِكَ عَلِيًّا؟ فَقَالَ: ثُكْلَ الْعَجُوزِ الْمِقْلَاتِ
وَالشَّيْخِ الرَّقُوبِ. قَالَ: كَيْفَ حُبُّكَ لَهُ؟ قَالَ: حُبُّ أُمِّ مُوسَى
لِمُوسَى وَإِلَى اللَّهِ أَشْكُو التَّقْصِيرَ. قِيلَ: إِنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ
حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانَ سِنِينَ وَمَاتَ
سَنَةَ مِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سَبْعٍ وَمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ عَشْرٍ
وَمِائَةٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: وَهُوَ آخِرُ
مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا وَمَاتَ سَنَةَ مِائَةٍ.
أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدَيُّ
وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلٍّ الْبَصْرِيُّ، أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ
وَحَجَّ فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَرَّتَيْنِ، وَأَسْلَمَ فِي حَيَاةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرَهُ، وَأَدَّى فِي
زَمَانِهِ الزَّكَاةَ ثَلَاثَ سِنِينَ إِلَى عُمَّالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ; وَمِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مُخَضْرَمًا.
وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَسَمِعَ
مِنْهُ وَمِنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَخَلْقٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَصَحِبَ
سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى دَفَنَهُ. وَرَوَى
عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ أَيُّوبُ وَحُمَيْدٌ
الطَّوِيلُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ التَّيْمِيُّ. وَقَالَ عَاصِمٌ
الْأَحْوَلُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَدْرَكْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَغُوثَ;
صَنَمًا مِنْ رَصَاصٍ يُحْمَلُ عَلَى جَمَلٍ أَجْرَدَ،
فَإِذَا بَلَغَ وَادِيَا بَرَكَ فِيهِ فَيَقُولُونَ: قَدْ رِضَى رَبُّكُمْ لَكُمْ هَذَا الْوَادِيَ فَيَنْزِلُونَ فِيهِ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: أَدْرَكْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَسْلَمْتُ عَلَى عَهْدِهِ وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِ الزَّكَاةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَلَمْ أَلْقَهُ وَشَهِدْتُ الْيَرْمُوكَ وَالْقَادِسِيَّةَ وَجَلُولَاءَ وَنَهَاوَنْدَ وَتُسْتَرَ وَأَذْرَبِيجَانَ وَرُسْتُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ الْبَشِيرَ إِلَى عُمَرَ فِي فَتْحِ نَهَاوَنْدَ. قَالُوا: وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا; يَسْرُدُ الصَّوْمَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ لَا يَتْرُكُهُ وَكَانَ يُصَلِّي حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ. وَحَجَّ سِتِّينَ مَرَّةً مَا بَيْنَ حِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ. قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنِّي لَأَحْسَبُهُ لَا يُصِيبُ ذَنْبًا; لِأَنَّهُ كَانَ لَيْلَهُ قَائِمًا وَنَهَارَهُ صَائِمًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَمِعْتُ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ يَقُولُ: أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ وَمَا مِنِّي شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ أَنْكَرْتُهُ خَلَا أَمَلِي فَإِنِّي أَجِدُهُ كَمَا هُوَ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حِينَ يَذْكُرُنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَنَقُولُ لَهُ: مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [ الْبَقَرَةِ: 152 ] فَإِذَا ذَكَرْتُ اللَّهَ ذَكَرَنِي. قَالَ: وَكُنَّا إِذَا دَعَوْنَا اللَّهَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَنَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالُوا: وَعَاشَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقِيلَ:
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً. قَالَهُ هُشَيْمٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْمَدَائِنِيُّ
وَغَيْرُهُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ مِائَةٍ. وَقَالَ الْفَلَّاسُ: تُوُفِّيَ سَنَةَ
خَمْسٍ وَتِسْعِينَ. وَالصَّحِيحُ سَنَةَ مِائَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ
يَفْضُلُ عَلَى وَالِدِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنِ النَّاسِ، وَلَهُ
كَلِمَاتٌ حِسَانٌ مَعَ أَبِيهِ وَوَعْظِهِ إِيَّاهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ هَرَبُ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ مِنَ السِّجْنِ حِينَ بَلَغَهُ
مَرَضُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَوَاعَدَ غِلْمَانِهِ يَلْقَوْنَهُ
بِالْخَيْلِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ وَقِيلَ: بِإِبِلٍ لَهُ. ثُمَّ نَزَلَ مِنْ
مَحْبَسِهِ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ وَامْرَأَتُهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْفُرَاتِ
الْعَامِرِيَّةُ فَلَمَّا جَاءَهُ غِلْمَانُهُ رَكِبَ رَوَاحِلَهُ وَسَارَ،
وَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنْ
سِجْنِكَ إِلَّا حِينَ بَلَغَنِي مَرَضُكَ وَلَوْ رَجَوْتُ حَيَاتَكَ مَا خَرَجْتُ
وَلَكِنِّي خَشِيتُ مِنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ; فَإِنَّهُ يَتَوَعَّدُنِي
بِالْقَتْلِ. وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ: لَئِنْ وُلِّيتُ
لَأَقْطَعَنَّ مِنْ يَزِيدَ بْنِ الْمُهَلَّبِ طَائِفَةً. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
وُلِّيَ الْعِرَاقَ عَاقَبَ أَصْهَارَهُ آلَ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُمْ بَيْتُ
الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيِّ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
مُزَوَّجًا بِبِنْتِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجَّاجِ، وَلَهُ مِنْهَا
ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْفَاسِقُ الْمَقْتُولُ، كَمَا سَيَأْتِي.
وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ
هَرَبَ مِنَ السِّجْنِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ
سُوءًا فَاكْفِهِمْ شَرَّهُ، وَارْدُدْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ.
ثُمَّ لَمْ يَزَلِ الْمَرَضُ يَتَزَايَدُ بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَتَّى
مَاتَ وَهُوَ بِخُنَاصِرَةَ مِنْ دَيْرِ سَمْعَانَ بَيْنَ حَمَاةَ وَحَلَبَ فِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ: فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ
رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَعْنِي سَنَةَ إِحْدَى وَمِائَةٍ عَنْ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ
سَنَةً وَأَشْهُرٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ
جَاوَزَ الْأَرْبَعِينَ بِأَشْهُرٍ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ سَنَتَيْنِ وَخَمْسَةَ
أَشْهُرٍ وَأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ حَكَمًا مُقْسِطًا وَإِمَامًا عَادِلًا
وَرِعًا دَيِّنًا، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيِّ الْإِمَامِ
الْمَشْهُورِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ
هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي
الْعاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَبُو حَفْصٍ
الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأُمُّهُ أُمُّ عَاصِمٍ
لَيْلَى بِنْتُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَيُقَالُ لَهُ: أَشَجُّ
بَنِي مَرْوَانَ. وَكَانَ يُقَالُ: الْأَشَجُّ وَالنَّاقِصُ أَعْدَلَا بَنِي
مَرْوَانَ. فَهَذَا هُوَ الْأَشَجُّ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النَّاقِصِ.
كَانَ عُمَرُ تَابِعِيًّا جَلِيلًا، رَوَى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالسَّائِبِ
بْنِ يَزِيدَ، وَيُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَيُوسُفُ صَحَابِيٌّ
صَغِيرٌ. وَرَوَى عَنْ خَلْقٍ مِنَ
التَّابِعِينَ. وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ
مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا
أَرَى قَوْلَ أَحَدٍ مِنَ التَّابِعِينَ حُجَّةً إِلَّا قَوْلَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ.
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ ابْنِ عَمِّهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ عَنْ عَهْدٍ مِنْهُ لَهُ بِذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَيُقَالُ: كَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِمِصْرَ. قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. وَقِيلَ:
سَنَةَ تِسْعٍ وَخَمْسِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ لَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَلَكِنِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ
أَبَوَيْهِ; أَبُو بَكْرٍ وَعَاصِمٌ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
خَيْثَمَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ
قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ
حَسَنَةَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا رَأَى فِي الْمَنَامِ لَيْلَةَ وُلِدَ عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَوْ لَيْلَةَ وَلِيَ الْخِلَافَةَ شَكَّ أَبُو بَكْرٍ
أَنَّ مُنَادِيًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ يُنَادِي: أَتَاكُمُ اللِّينُ
وَالدِّينُ، وَإِظْهَارُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْمُصَلِّينَ. فَقُلْتُ:
وَمَنْ هُوَ؟ فَنَزَلَ فَكَتَبَ فِي الْأَرْضِ: عُمَرُ. وَقَالَ آدَمُ بْنُ أَبِي
إِيَاسٍ: ثَنَا ضَمْرَةُ، ثَنَا أَبُو عَلِيٍّ ثَرْوَانُ مَوْلَى
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ:
دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى إِصْطَبْلِ أَبِيهِ وَهُوَ غُلَامٌ،
فَضَرَبَهُ فَرَسٌ فَشَجَّهُ، فَجَعَلَ أَبُوهُ يَمْسَحُ عَنْهُ الدَّمَ،
وَيَقُولُ: إِنْ كُنْتَ أَشَجَّ بَنِي أُمَيَّةَ إِنَّكَ إِذًا لَسَعِيدٌ. رَوَاهُ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ عَنْ ضَمْرَةَ.
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ثَنَا ضِمَامُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي
قُبَيْلٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَكَى، وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ،
فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهُ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ:
ذَكَرْتُ الْمَوْتَ. فَبَكَتْ أُمُّهُ. وَكَانَ قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ وَهُوَ غُلَامٌ
صَغِيرٌ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ الْحِزَامِيُّ: كَانَ أَبُوهُ قَدْ
جَعَلَهُ عِنْدَ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ يُؤَدِّبُهُ، فَلَمَّا حَجَّ أَبُوهُ
اجْتَازَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: مَا خَبَرْتُ أَحَدًا
اللَّهُ أَعْظَمُ فِي صَدْرِهِ مِنْ هَذَا الْغُلَامِ.
وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَأَخَّرَ
عَنِ الصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ يَوْمًا، فَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ مَا
شَغَلَكَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي. فَقَالَ لَهُ:
أَقَدَّمْتَ ذَلِكَ عَلَى الصَّلَاةِ؟ وَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عَلَى
مِصْرَ يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ أَبُوهُ رَسُولًا فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى
حَلَقَ رَأْسَهُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَخْتَلِفُ إِلَى
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَسْمَعُ مِنْهُ، فَبَلَغَ عُبَيْدَ اللَّهِ
أَنَّ عُمَرَ يَنْتَقِصُ
عَلِيًّا، فَلَمَّا أَتَاهُ عُمَرُ
أَعْرَضَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْهُ، وَقَامَ يُصَلِّي فَجَلَسَ عُمَرُ
يَنْتَظِرُهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ مُغْضَبًا، وَقَالَ لَهُ:
مَتَى بَلَغَكَ أَنَّ اللَّهَ سَخِطَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ بَعْدَ أَنْ رَضِيَ
عَنْهُمْ؟ قَالَ: فَفَهِمَهَا عُمَرُ، وَقَالَ: مَعْذِرَةً إِلَى اللَّهِ ثُمَّ
إِلَيْكَ، وَاللَّهِ لَا أَعُودُ. قَالَ: فَمَا سُمِعَ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ
عَلِيًّا إِلَّا بِخَيْرٍ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: ثَنَا أَبِي ثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا عُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ هَذَا الْبَابِ يَعْنِي بَابًا مِنْ أَبْوَابِ
مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ
الْقَوْمِ: بَعَثَ إِلَيْنَا الْفَاسِقُ بِابْنِهِ هَذَا يَتَعَلَّمُ الْفَرَائِضَ
وَالسُّنَنَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَكُونَ خَلِيفَةً وَيَسِيرُ
بِسِيرَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ دَاوُدُ: فَوَاللَّهِ مَا مَاتَ حَتَّى
رَأَيْنَا ذَلِكَ فِيهِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنِي الْعُتْبِيُّ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ
مَا اسْتُبْيِنَ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِرْصُهُ عَلَى الْعِلْمِ
وَرَغْبَتُهُ فِي الْأَدَبِ - أَنَّ أَبَاهُ وَلِيَ مِصْرَ وَهُوَ حَدِيثُ
السِّنِّ، يُشَكُّ فِي بُلُوغِهِ، فَأَرَادَ إِخْرَاجَهُ مَعَهُ، فَقَالَ: يَا
أَبَهْ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ لَعَلَّهُ يَكُونُ أَنْفَعَ لِي وَلَكَ؟ تُرَحِّلُنِي
إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقْعُدُ إِلَى فُقَهَاءِ أَهْلِهَا وَأَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِمْ.
فَوَجَّهَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَقَعَدَ مَعَ مَشَايِخِ قُرَيْشٍ، وَتَجَنَّبَ
شَبَابَهُمْ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى اشْتَهَرَ ذِكْرُهُ، فَلَمَّا
مَاتَ أَبُوهُ أَخَذَهُ عَمُّهُ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ فَخَلَطَهُ بِوَلَدِهِ، وَقَدَّمَهُ عَلَى كَثِيرٍ
مِنْهُمْ، وَزَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، وَهِيَ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا
الشَّاعِرُ:
بِنْتُ الْخَلِيفَةِ وَالْخَلِيفَةُ جَدُّهَا أُخْتُ الْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةُ
زَوْجُهَا
قَالَ: وَلَا نَعْرِفُ امْرَأَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا
سِوَاهَا.
قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَلَمْ يَكُنْ حَاسِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
يَنْقِمُ عَلَيْهِ شَيْئًا سِوَى مُتَابَعَتِهِ فِي النِّعْمَةِ، وَالِاخْتِيَالِ
فِي الْمِشْيَةِ. وَقَدْ قَالَ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ: الْكَامِلُ مَنْ عُدَّتْ
هَفَوَاتُهُ، وَلَا تُعَدُّ إِلَّا مِنْ قِلَّةٍ.
وَدَخَلَ يَوْمًا عَلَى عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يَتَجَانَفُ فِي
مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، مَا لَكَ تَمْشِي غَيْرَ مِشْيَتِكَ؟ قَالَ:
إِنَّ فِيَّ جُرْحًا. فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ مِنْ جَسَدِكَ؟ قَالَ: بَيْنَ
الرَّانِفَةِ وَالصَّفَنِ يَعْنِي بَيْنَ طَرَفِ الْأَلْيَةِ وَجِلْدَةِ
الْخِصْيَةِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِرَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ: بِاللَّهِ لَوْ
رَجُلٌ مِنْ قَوْمِكَ سُئِلَ عَنْ هَذَا مَا أَجَابَ هَذَا الْجَوَابَ.
قَالُوا: وَلَمَّا مَاتَ عَمُّهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَلَبِسَ
الْمُسُوحَ تَحْتَ ثِيَابِهِ سَبْعِينَ يَوْمًا. وَلَمَّا وَلِيَ الْوَلِيدُ
عَامَلَهُ بِمَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ، وَوَلَّاهُ الْمَدِينَةَ
وَمَكَّةَ وَالطَّائِفَ مِنْ سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ إِلَى سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ، وَأَقَامَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ وَسَنَةَ
تِسْعِينَ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْوَلِيدُ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، ثُمَّ
حَجَّ بِالنَّاسِ عُمَرُ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ.
وَبَنَى فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ
هَذِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَسَّعَهُ عَنْ
أَمْرِ الْوَلِيدِ لَهُ بِذَلِكَ، فَدَخَلَ فِيهِ قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ أَحْسَنِ
النَّاسِ مُعَاشَرَةً، وَأَعْدَلِهِمْ سِيرَةً; كَانَ إِذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ
مُشْكِلٌ جَمَعَ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ عَيَّنَ عَشَرَةً
مِنْهُمْ، وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا بِدُونِهِمْ أَوْ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ،
وَهُمْ: عُرْوَةُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبُو
بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ
سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي خَثْمَةَ وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ
مُحَمَّدٍ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ
رَبِيعَةَ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ.
وَكَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ
بْنُ الْمُسَيِّبِ لَا يَأْتِي أَحَدًا مِنَ الْخُلَفَاءِ وَكَانَ يَأْتِي إِلَى
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ
عَبْدِ الْجَبَّارِ الْأَيْلِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ:
قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَبِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَغَيْرُهُ وَقَدْ نَدَبَهُمْ
عُمَرُ يَوْمَئِذٍ رَأْيًا.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي قَادِمٌ الْبَرْبَرِيُّ،
أَنَّهُ ذَاكَرَ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْئًا مِنْ قَضَايَا
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ
رَبِيعَةُ: كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَخْطَأَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْطَأَ
قَطُّ. وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ
أَشْبَهَ صَلَاةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا
الْفَتَى يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ.
قَالُوا: وَكَانَ يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُخَفِّفُ الْقِيَامَ
وَالْقُعُودَ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: أَنَّهُ كَانَ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ عَشْرًا عَشْرًا. وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ
أَبِي النَّضْرِ الْمَدِينِيِّ، قَالَ: لَقِيتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ خَارِجًا
مِنْ عِنْدِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقُلْتُ لَهُ: مِنْ عِنْدِ عُمَرَ
خَرَجْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: تُعَلِّمُونَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ:
هُوَ وَاللَّهِ أَعْلَمُكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَتَيْنَاهُ نُعَلِّمُهُ فَمَا
بَرِحْنَا حَتَّى تَعَلَّمْنَا مِنْهُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ كَانَتِ
الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَلَامِذَةً. وَفِي رِوَايَةٍ:
قَالَ مَيْمُونٌ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُعَلِّمَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ قَدْ صَحِبَ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ
عَبَّاسٍ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى
الْجَزِيرَةِ قَالَ: مَا الْتَمَسْنَا عِلْمَ شَيْءٍ إِلَّا وَجَدْنَا عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَصْلِهِ وَفَرْعِهِ، وَمَا كَانَ
الْعُلَمَاءُ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَّا تَلَامِذَةً.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ: رَأَيْتُ أَبِي تَوَاقَفَ هُوَ وَعُمَرُ
بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ
بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى
أَصْبَحْنَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا قُلْتُ: يَا أَبَهْ، مَنْ هَذَا الرَّجُلُ ؟
قَالَ: هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ مِنْ صَالِحِي هَذَا
الْبَيْتِ، يَعْنِي بَنِي أُمَيَّةَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ قُلْتُ
لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا كَانَ بَدْءُ إِنَابَتِكَ؟ قَالَ: أَرَدْتُ
ضَرْبَ غُلَامٍ لِي فَقَالَ لِي: اذْكُرْ لَيْلَةً صَبِيحَتُهَا يَوْمُ
الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: لَمَّا عُزِلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ
الْمَدِينَةِ يَعْنِي فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَخَرَجَ مِنْهَا الْتَفَتَ
إِلَيْهَا وَبَكَى، وَقَالَ لِمَوْلَاهُ: يَا مُزَاحِمُ، نَخْشَى أَنْ نَكُونَ
مِمَّنْ نَفَتِ الْمَدِينَةُ. يَعْنِي أَنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا
يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَتَنْصَعُ طِيبَهَا.
قُلْتُ: خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَ بِمَكَانٍ قَرِيبٍ مِنْهَا يُقَالُ
لَهُ: السُّوَيْدَاءُ حِينًا، ثُمَّ قَدِمَ دِمَشْقَ عَلَى بَنِي عَمِّهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ قَالَ:
سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ
وَمَا مِنْ رَجُلٍ أَعْلَمَ مِنِّي، فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ نَسِيتُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: سَهِرْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: كُلُّ مَا
حَدَّثْتَ فَقَدْ سَمِعْتُهُ، وَلَكِنْ
حَفِظْتَ وَنَسِيتُ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ:
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعَثَ إِلَيَّ الْوَلِيدُ ذَاتَ سَاعَةٍ
مِنَ الظَّهِيرَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَابِسٌ، فَأَشَارَ إِلَيَّ
أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِيمَنْ يَسُبُّ
الْخُلَفَاءَ أَيُقْتَلُ ؟ فَسَكَتُّ ثُمَّ عَادَ فَسَكَتُّ ثُمَّ عَادَ،
فَقُلْتُ: أَقَتَلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ سَبَّ.
فَقُلْتُ: يُنَكَّلُ بِهِ. فَغَضِبَ وَانْصَرَفَ إِلَى أَهْلِهِ، وَقَالَ لِي
ابْنُ الرَّيَّانِ السَّيَّافُ: اذْهَبْ. قَالَ: فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَمَا
تَهُبُّ رِيحٌ إِلَّا وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولٌ يَرُدُّنِي إِلَيْهِ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ زُفَرَ: أَقْبَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ
وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَعَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَلَى
مُعَسْكَرِ سُلَيْمَانَ وَفِيهِ تِلْكَ الْخُيُولُ وَالْجِمَالُ وَالْبِغَالُ
وَالْأَثْقَالُ وَالرِّجَالُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: مَا تَقُولُ يَا عُمَرُ فِي
هَذَا؟ فَقَالَ: أَرَى دُنْيَا يَأْكُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَأَنْتَ الْمَسْئُولُ
عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ. فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنَ الْمُعَسْكَرِ إِذَا غُرَابٌ قَدْ
أَخَذَ لُقْمَةً فِي فِيهِ مِنْ فُسْطَاطِ سُلَيْمَانَ وَهُوَ طَائِرٌ بِهَا
وَنَعَبَ نَعْبَةً، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا يَا عُمَرُ؟
فَقَالَ: لَا أَدْرِي. فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ أَنَّهُ يَقُولُ؟ قَالَ: كَأَنَّهُ
يَقُولُ: مَنْ أَيْنَ جَاءَتْ؟ وَأَيْنَ يُذْهَبُ بِهَا؟ فَقَالَ لَهُ
سُلَيْمَانُ: مَا أَعْجَبَكَ!! فَقَالَ
عُمَرُ: أَعْجَبُ مِنِّي مَنْ عَرَفَ اللَّهَ فَعَصَاهُ، وَمَنْ عَرَفَ
الشَّيْطَانَ فَأَطَاعَهُ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَمَّا وَقَفَ سُلَيْمَانُ وَعُمَرُ بِعَرَفَةَ وَجَعَلَ
سُلَيْمَانُ يَعْجَبُ مِنْ كَثْرَةِ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هَؤُلَاءِ
رَعِيَّتُكَ الْيَوْمَ وَأَنْتَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ غَدًا. وَفِي رِوَايَةٍ:
وَهُمْ خُصَمَاؤُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَبَكَى سُلَيْمَانُ وَقَالَ: بِاللَّهِ
أَسْتَعِينُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُمْ لَمَّا أَصَابَهُمْ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ
رَعْدٌ شَدِيدٌ وَبَرْقٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْحَكُ مِنْ
ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: أَتَضْحَكُ وَنَحْنُ فِيمَا تَرَى؟ فَقَالَ:
نَعَمْ، هَذِهِ آثَارُ رَحْمَتِهِ وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَكَيْفَ
بِآثَارِ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ؟
وَذَكَرَ الْإِمَامُ مَالِكٌ أَنَّ سُلَيْمَانَ وَعُمَرَ تَقَاوَلَا مَرَّةً،
فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ: كَذَبْتَ. فَقَالَ: تَقُولُ
لِي: كَذَبْتَ ؟ وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ مُنْذُ عَرَفْتُ أَنَّ الْكَذِبَ يَضُرُّ
أَهْلَهُ. ثُمَّ هَجَرَهُ عُمَرُ وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى مِصْرَ، فَلَمْ
يُمَكِّنْهُ سُلَيْمَانُ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ فَصَالَحَهُ، وَقَالَ لَهُ: مَا
عَرَضَ لِي أَمْرٌ يَهُمُّنِي إِلَّا خَطَرْتَ عَلَى بَالِي.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ
الْوَفَاةُ، أَوْصَى بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَانْتَظَمَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
فَصْلٌ ( مَنَاقِبُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ )
قَالَ: أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ،
قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: يَا عَجَبًا ! يَزْعُمُ النَّاسُ أَنَّ الدُّنْيَا لَا
تَنْقَضِي حَتَّى يَلِيَ رَجُلٌ مِنْ آلِ عُمَرَ يَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِ عُمَرَ.
قَالَ: فَكَانُوا يَرَوْنَهُ بِلَالَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
وَكَانَ بِوَجْهِهِ أَثَرٌ، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ، وَإِذَا هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَأُمُّهُ ابْنَةُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَ الْحَاكِمُ، أَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيٍّ الْمَقْرِيُّ، ثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ، ثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ لَاحِقٍ، عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بْنِ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ،
قَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَلَدِي
رَجُلًا بِوَجْهِهِ شَيْنٌ يَلِي، فَيَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا.
قَالَ نَافِعٌ مِنْ قَبْلِهِ: وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ.
وَرَوَاهُ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ:
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْتَ شِعْرِي، مَنْ هَذَا الَّذِي مِنْ وَلَدِ
عُمَرَ فِي وَجْهِهِ عَلَامَةٌ يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا ؟ وَقَالَ: وُهَيْبُ
بْنُ الْوَرْدِ: بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ كَأَنَّ رَجُلًا دَخَلَ مِنْ
بَابِ بَنِي
شَيْبَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، وُلِّيَ عَلَيْكُمْ كِتَابُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: مَنْ ؟
فَأَشَارَ إِلَى ظَهْرِهِ، فَإِذَا مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: عُ مَ رُ. قَالَ:
فَجَاءَتْ بَيْعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ بَقِيَّةُ، عَنْ عِيسَى
بْنِ أَبِي رَزِينٍ، حَدَّثَنِي الْخُزَاعِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فَقَالَ لَهُ: " إِنَّكَ سَتَلِي أَمْرَ أُمَّتِي فَزَعْ
عَنِ الدَّمِ، فَإِنَّ اسْمَكَ فِي النَّاسِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَاسْمُكَ عِنْدَ اللَّهِ جَابِرٌ ".
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِيِّ: ثَنَا أَبُو عَرُوبَةَ الْحُسَيْنُ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ مَوْدُودٍ الْحَرَّانِيُّ، ثَنَا أَيُّوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْوَزَّانُ، ثَنَا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، ثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، عَنْ
رَبَاحِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى
الصَّلَاةِ، وَشَيْخٌ مُتَوَكِّئٌ عَلَى يَدِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ
هَذَا الشَّيْخَ جَافٌّ، فَلَمَّا صَلَّى وَدَخَلَ لَحِقْتُهُ، فَقُلْتُ: أَصْلَحَ
اللَّهُ الْأَمِيرَ، مَنِ الشَّيْخُ الَّذِي كَانَ مُتَّكِئًا عَلَى يَدِكَ ؟
فَقَالَ: يَا رَبَاحُ رَأَيْتَهُ ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَا أَحْسَبُكَ يَا
رَبَاحُ إِلَّا رَجُلًا صَالِحًا، ذَاكَ أَخِي الْخَضِرُ، أَتَانِي فَأَعْلَمَنِي
أَنِّي سَأَلِي أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنِّي سَأَعْدِلُ فِيهَا.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْرٍ، ثَنَا ضَمْرَةُ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْلَةَ، عَنْ أَبِي الْأَعْيَسِ، قَالَ: كُنْتُ
جَالِسًا مَعَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
فَجَاءَ شَابٌّ عَلَيْهِ مُقَطَّعَاتٌ،
فَأَخَذَ بِيَدِ خَالِدٍ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْنَا مِنْ عَيْنٍ ؟ فَقَالَ أَبُو
الْأَعْيَسِ: فَقُلْتُ: عَلَيْكُمَا مِنَ اللَّهِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ وَأُذُنٌ
سَمِيعَةٌ، قَالَ: فَتَرَقْرَقَتْ عَيْنَا الْفَتَى. فَأَرْسَلَ يَدَهُ مِنْ يَدِ
خَالِدٍ وَوَلَّى، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ ابْنُ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ
لَتَرَيَنَّهُ إِمَامَ هُدًى. قُلْتُ: قَدْ كَانَ عِنْدَ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ جَيِّدٌ مِنْ أَخْبَارِ الْأَوَائِلِ وَأَقْوَالِهِمْ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّهُ
لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَزَمَ أَنْ يَكْتُبَ الْعَهْدَ بِاسْمِ أَحَدِ
أَوْلَادِهِ، فَمَا زَالَ بِهِ وَزِيرُهُ الصَّادِقُ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ حَتَّى
صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ
لِأَصْلَحِ النَّاسِ لَهُمْ، فَأَلْهَمَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ رُشْدَهُ، فَعَيَّنَ
لَهَا ابْنَ عَمِّهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَجَوَّدَ رَأْيَهُ رَجَاءُ
بْنُ حَيْوَةَ وَصَوَّبَهُ، فَكَتَبَ سُلَيْمَانُ الْعَهْدَ فِي صَحِيفَةٍ،
وَخَتَمَهَا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ عُمَرُ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ
سِوَى سُلَيْمَانَ وَرَجَاءٍ، ثُمَّ أَمَرَ صَاحِبَ الشُّرَطَةِ بِإِحْضَارِ
الْأُمَرَاءِ، وَرُءُوسِ النَّاسِ مِنْ بَنِي مَرْوَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَبَايَعُوا
سُلَيْمَانَ عَلَى مَا فِي الصَّحِيفَةِ الْمَخْتُومَةِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، ثُمَّ
لَمَّا مَاتَ الْخَلِيفَةُ اسْتَدْعَاهُمْ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ فَبَايَعُوا
ثَانِيَةً، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا مَوْتَ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ فَتَحَهَا
فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ، فَإِذَا فِيهَا الْبَيْعَةُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، فَأَخَذُوهُ فَأَجْلَسُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَبَايَعُوهُ،
فَانْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا الصَّنِيعِ فِي الرَّجُلِ يُوصِي
الْوَصِيَّةَ فِي كِتَابٍ وَيُشْهِدُ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْرَأَ
عَلَى الشُّهُودِ، ثُمَّ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِيهِ فَيَنْفُذُ،
فَسَوَّغَ ذَلِكَ جَمَاعَاتٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ ; قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَرَجِ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا
الْجُرَيْرِيُّ: أَجَازَ ذَلِكَ وَأَمْضَاهُ وَأَنْفَذَ الْحُكْمَ بِهِ جُمْهُورُ
أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَمَكْحُولٍ، وَنُمَيْرِ بْنِ
أَوْسٍ، وَزُرْعَةَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ.
وَحَكَى نَحْوَ ذَلِكَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ
وَقُضَاةِ جُنْدِهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي مَنْ وَافَقَهُ مِنْ
فُقَهَاءِ أَهْلِ مِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ أَهْلِ
الْبَصْرَةِ وَقُضَاتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ فِي مَنْ سَلَكَ
سَبِيلَهُمْ. وَأَخَذَ بِهَذَا عَدَدٌ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ،
مِنْهُمْ: أَبُو عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ.
قُلْتُ: وَقَدِ اعْتَنَى بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ".
قَالَ الْمُعَافَى: وَأَبَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ،
مِنْهُمْ: إِبْرَاهِيمُ، وَحَمَّادٌ، وَالْحَسَنُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي ثَوْرٍ. قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ شَيْخِنَا أَبِي جَعْفَرٍ، وَكَانَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِالْعِرَاقِ يَذْهَبُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ. قَالَ
الْجَرِيرِيُّ: وَإِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ نَذْهَبُ.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ سُلَيْمَانَ أُتِيَ بِمَرَاكِبِ
الْخِلَافَةِ لِيَرْكَبَهَا، فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
فَلَوْلَا التُّقَى ثُمَّ النُّهَى خَشْيَةَ الرَّدَى لَعَاصَيْتُ فِي حُبِّ
الصِّبَا كُلَّ زَاجِرِ قَضَى مَا قَضَى فِيمَا مَضَى ثُمَّ لَا تَرَى
لَهُ صَبْوَةً أُخْرَى اللَّيَالِي الْغَوَابِرِ
ثُمَّ قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، قَدِّمُوا إِلَيَّ
بَغْلَتِي. ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْعِ تِلْكَ الْمَرَاكِبِ الْخَلِيفِيَّةِ فِي مَنْ
يُرِيدُ، وَكَانَتْ مِنَ الْخُيُولِ الْجِيَادِ الْمُثَمَّنَةِ، فَبَاعَهَا
وَجَعَلَ أَثْمَانَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ.
قَالُوا: فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْجِنَازَةِ، وَقَدْ بَايَعَهُ النَّاسُ،
وَاسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ بِاسْمِهِ، انْقَلَبَ وَهُوَ مُغْتَمٌّ مَهْمُومٌ،
فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: مَا لَكَ هَكَذَا مُغْتَمًّا مَهْمُومًا، وَلَيْسَ هَذَا
بِوَقْتِ هَذَا ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ ! وَمَا لِي لَا أَغْتَمُّ، وَلَيْسَ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَهُوَ
يُطَالِبُنِي بِحَقِّهِ ; أَنْ أُؤَدِّيَهُ إِلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ
أَوْ لَمْ يَكْتُبْ، طَلَبَهُ مِنِّي أَوْ لَمْ يَطْلُبْ. قَالُوا: ثُمَّ إِنَّهُ
خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَاطِمَةَ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا
فَرَاغَ لَهُ إِلَيْهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَبَكَتْ وَبَكَى
جَوَارِيهَا لِبُكَائِهَا، فَسُمِعَتْ ضَجَّةٌ فِي دَارِهِ، ثُمَّ اخْتَارَتْ
مُقَامَهَا مَعَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، رَحِمَهَا اللَّهُ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:
تَفَرَّغْ لَنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ
قَدْ جَاءَ شُغْلٌ شَاغِلٌ وَعَدَلْتُ عَنْ طُرُقِ السَّلَامَهْ
ذَهَبَ الْفَرَاغُ فَلَا فَرَا غَ لَنَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَهْ
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ سُلَيْمٍ، قَالَ: لَمَّا
وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَكَانَ أَوَّلَ
خُطْبَةٍ خَطَبَهَا حَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا
النَّاسُ، مَنْ صَحِبَنَا فَلْيَصْحَبْنَا بِخَمْسٍ، وَإِلَّا فَلْيُفَارِقْنَا ;
يَرْفَعُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ رَفْعَهَا، وَيُعِينُنَا عَلَى
الْخَيْرِ بِجُهْدِهِ، وَيَدُلُّنَا مِنَ الْخَيْرِ عَلَى مَا لَا نَهْتَدِي
إِلَيْهِ، وَلَا يَغْتَابَنَّ عِنْدَنَا الرَّعِيَّةَ، وَلَا يَعْرِضَنَّ فِيمَا
لَا يَعْنِيهِ. فَانْقَشَعَ عَنْهُ الشُّعَرَاءُ وَالْخُطَبَاءُ، وَثَبَتَ مَعَهُ
الْفُقَهَاءُ وَالزُّهَّادُ، وَقَالُوا: مَا يَسَعُنَا أَنْ نُفَارِقَ هَذَا
الرَّجُلَ حَتَّى يُخَالِفَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بَعَثَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَرَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ وَسَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُمْ: قَدْ تَرَوْنَ مَا ابْتُلِيتُ بِهِ وَمَا قَدْ
نَزَلَ بِي، فَمَا عِنْدَكُمْ ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: اجْعَلِ الشَّيْخَ
أَبًا، وَالشَّابَّ أَخًا، وَالصَّغِيرَ وَلَدًا، فَبِرَّ أَبَاكَ، وَصِلْ
أَخَاكَ، وَتَعَطَّفْ عَلَى وَلَدِكَ. وَقَالَ رَجَاءٌ: ارْضَ لِلنَّاسِ مَا
تَرْضَى لِنَفْسِكَ، وَمَا كَرِهْتَ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ فَلَا تَأْتِهِ
إِلَيْهِمْ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ أَوَّلُ خَلِيفَةٍ تَمُوتُ. وَقَالَ سَالِمٌ
اجْعَلِ الْأَمْرَ يَوْمًا وَاحِدًا صُمْ فِيهِ عَنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا،
وَاجْعَلْ آخِرَ فِطْرِكَ فِيهِ الْمَوْتَ، فَكَأَنْ قَدْ. فَقَالَ عُمَرُ: لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا النَّاسَ فَقَالَ، وَقَدْ خَنَقَتْهُ الْعَبْرَةُ:
أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْلِحُوا آخِرَتَكُمْ تَصْلُحْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ،
وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُمْ تَصْلُحْ لَكُمْ عَلَانِيَتُكُمْ، وَاللَّهِ إِنَّ
عَبْدًا لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمَ أَبٌ إِلَّا قَدْ مَاتَ، إِنَّهُ
لَمُعْرَقٌ لَهُ فِي الْمَوْتِ. وَقَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ: كَمْ مِنْ عَامِرٍ مُؤَنَّقٍ
عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُبُ، وَكَمْ مِنْ مُقِيمٍ مُغْتَبِطٍ عَمَّا قَلِيلٍ
يَظْعَنُ، فَأَحْسِنُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - مِنَ الدُّنْيَا الرِّحْلَةَ
بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ النَّقْلَةِ، بَيْنَمَا ابْنُ آدَمَ فِي
الدُّنْيَا يُنَافِسُ فِيهَا قَرِيرَ الْعَيْنِ قَانِعًا، إِذْ دَعَاهُ اللَّهُ
بِقَدَرِهِ وَرَمَاهُ بِيَوْمِ حَتْفِهِ، فَسَلَبَهُ آثَارَهُ وَدُنْيَاهُ،
وَصَيَّرَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ مَصَانِعَهُ وَمَغْنَاهُ، إِنَّ الدُّنْيَا لَا
تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ، تَسُرُّ قَلِيلًا، وَتُحْزِنُ طَوِيلًا.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُهَاجِرٍ، قَالَ: لَمَّا
اسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَامَ فِي النَّاسِ، فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَا كِتَابَ بَعْدَ
الْقُرْآنِ، وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنِّي
لَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مُنْفِذٌ، وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي
مُتَّبِعٌ، إِنَّ الرَّجُلَ الْهَارِبَ مِنَ الْإِمَامِ الظَّالِمِ لَيْسَ
بِظَالِمٍ، أَلَا إِنَّ الْإِمَامَ الظَّالِمَ هُوَ الْعَاصِي، أَلَا لَا طَاعَةَ
لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ
عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي رِوَايَةٍ
أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ وَلَكِنِّي
أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا، أَلَا لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ،
أَلَا هَلْ أَسْمَعْتُ ؟
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ،
ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ شُعَيْبِ
بْنِ صَفْوَانَ، حَدَّثَنِي ابْنٌ لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: كَانَ آخِرُ
خُطْبَةً خَطَبَهَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى،
عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكُمْ لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَنْ
تُتْرَكُوا سُدًى، وَإِنَّ لَكُمْ مَعَادًا يَنْزِلُ اللَّهُ فِيهِ لِلْحُكْمِ
فِيكُمْ وَالْفَصْلِ بَيْنَكُمْ، فَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ، وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ غَدًا إِلَّا مَنْ حَذِرَ الْيَوْمَ الْآخِرَ
وَخَافَهُ، وَبَاعَ نَافِدًا بِبَاقٍ، وَقَلِيلًا بِكَثِيرٍ، وَخَوْفًا بِأَمَانٍ
؟ أَلَا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ فِي أَسْلَابِ الْهَالِكِينَ، وَسَيَكُونُ مِنْ
بَعْدِكُمْ لِلْبَاقِينَ، كَذَلِكَ حَتَّى نُرَدَّ إِلَى خَيْرِ الْوَارِثِينَ ؟
ثُمَّ إِنَّكُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُشَيِّعُونَ غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللَّهِ،
قَدْ قَضَى نَحْبَهُ حَتَّى تُغَيِّبُوهُ فِي صَدْعٍ مِنَ الْأَرْضِ، فِي بَطْنِ
صَدْعٍ غَيْرِ مُوَسَّدٍ وَلَا مُمَهَّدٍ، قَدْ فَارَقَ الْأَحْبَابَ، وَبَاشَرَ
التُّرَابَ، وَوَاجَهَ الْحِسَابَ، فَهُوَ مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِهِ، غَنِيٌّ عَمَّا
تَرَكَ، فَقِيرٌ إِلَى مَا قَدَّمَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ قَبْلَ انْقِضَاءِ
مُرَاقَبَتِهِ وَنُزُولِ الْمَوْتِ بِكُمْ، أَمَا إِنِّي أَقُولُ هَذَا. ثُمَّ
وَضَعَ طَرْفَ رِدَائِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ. وَفِي
رِوَايَةٍ: وَايْمِ اللَّهِ، إِنِّي لَأَقُولَ قَوْلِي هَذَا، وَمَا أَعْلَمُ
عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي،
وَلَكِنَّهَا سُنَنٌ مِنَ اللَّهِ عَادِلَةٌ ; أَمَرَ
فِيهَا بِطَاعَتِهِ، وَنَهَى فِيهَا
عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَوَضَعَ كُمَّهُ عَلَى وَجْهِهِ
فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، فَمَا عَادَ لِمَجْلِسِهِ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ
اللَّهُ.
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ،
وَهُوَ يَقُولُ: " ادْنُ يَا عُمَرُ ". قَالَ: فَدَنَوْتُ حَتَّى
خَشِيتُ أَنْ أُصِيبَهُ، فَقَالَ: " إِذَا وُلِّيتَ فَاعْمَلْ نَحْوًا مِنْ
عَمَلِ هَذَيْنِ ". وَإِذَا كَهْلَانِ قَدِ اكْتَنَفَاهُ، فَقُلْتُ: وَمَنْ
هَذَانِ ؟ قَالَ: " هَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهَذَا عُمَرُ ". وَرُوِّينَا
أَنَّهُ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ اكْتُبْ لِي سِيرَةَ
عُمَرَ حَتَّى أَعْمَلَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ
ذَلِكَ. قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: إِنَّكَ إِنْ عَمِلْتَ بِهَا كُنْتَ أَفْضَلَ مِنْ
عُمَرَ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَجِدُ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا، وَأَنْتَ لَا تَجِدُ
مَنْ يُعِينُكَ عَلَى الْخَيْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ نَقْشُ خَاتَمِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: آمَنْتُ بِاللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ:
الْوَفَاءُ عَزِيزٌ. وَقَدْ جَمَعَ يَوْمًا رُءُوسَ النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ،
فَقَالَ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللَّهُ، ثُمَّ وَلِيَهَا أَبُو بَكْرٍ،
وَعُمَرُ كَذَلِكَ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَمَا أَدْرِي مَا قَالَ فِي عُثْمَانَ.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ مَرْوَانَ أَقْطَعَهَا فَحَصَلَ لِي مِنْهَا نَصِيبٌ،
وَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ وَسُلَيْمَانُ نَصِيبَهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِي
شَيْءٌ أَرَدَّ عَلَيَّ مِنْهَا، وَقَدْ رَدَدْتُهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى
مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. قَالَ: فَيَئِسَ النَّاسُ عِنْدَ
ذَلِكَ مِنَ الْمَظَالِمِ، ثُمَّ
أَخَذَ أَمْوَالَ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَرَدَّهَا إِلَى بَيْتِ
الْمَالِ، وَسَمَّاهَا أَمْوَالُ الْمَظَالِمِ، فَاسْتَشْفَعُوا إِلَيْهِ
بِالنَّاسِ، وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بِعَمَّتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ مَرْوَانَ
فَلَمْ يَنْجَعْ فِيهِ وَلَمْ يَرُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ شَيْءٌ، وَقَالَ لَهُمْ:
وَاللَّهِ لَتَدَعُنِّي، وَإِلَّا ذَهَبْتُ إِلَى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا
الْأَمْرِ لِأَحَقِّ النَّاسِ بِهِ. وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتُ فِيكُمْ
خَمْسِينَ عَامًا مَا أَقَمْتُ فِيكُمْ مَا أُرِيدُ مِنَ الْعَدْلِ، وَإِنِّي
لَأُرِيدُ الْأَمْرَ فَمَا أُنْفِذُهُ إِلَّا مَعَ طَمَعٍ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى
تَسْكُنَ قُلُوبُهُمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ
بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَهْدِيٌّ فَهُوَ
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيِّبِ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَالَ طَاوُسٌ: هُوَ مَهْدِيٌّ وَلَيْسَ بِهِ،
إِنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْعَدْلَ كُلَّهُ، إِذَا كَانَ الْمَهْدِيُّ تِيبَ
عَلَى الْمُسِيءِ مِنْ إِسَاءَتِهِ، وَزِيدَ الْمُحْسِنُ فِي إِحْسَانِهِ، سَمْحٌ
بِالْمَالِ، شَدِيدٌ عَلَى الْعُمَّالِ، رَحِيمٌ بِالْمَسَاكِينِ، وَقَالَ
مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: الْخُلَفَاءُ أَبُو بَكْرٍ وَالْعُمَرَانِ. فَقِيلَ
لَهُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ قَدْ عَرَفْنَاهُمَا، فَمَنْ عُمَرُ الْآخَرُ ؟
قَالَ: يُوشِكُ إِنْ عِشْتَ أَنْ تَعْرِفَهُ. يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَشَجُّ بَنِي
مَرْوَانَ. وَقَالَ عَبَّادٌ السَّمَّاكُ وَكَانَ يُجَالِسُ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ: سَمِعْتُ
الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: الْخُلَفَاءُ خَمْسَةٌ ; أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ،
وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ. وَأَجْمَعَ
الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ، وَأَحَدِ
الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ. وَذَكَرَهُ غَيْرُ
وَاحِدٍ فِي الْأَئِمَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِينَ جَاءَ فِيهِمُ الْحَدِيثُ
الصَّحِيحُ: لَا يَزَالُ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى يَكُونَ
فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ".
وَقَدِ اجْتَهَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُدَّةِ وِلَايَتِهِ مَعَ قِصَرِهَا حَتَّى
رَدَّ الْمَظَالِمَ، وَصَرَفَ إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَكَانَ مُنَادِيهِ
فِي كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِي: أَيْنَ الْغَارِمُونَ ؟ أَيْنَ النَّاكِحُونَ ؟ أَيْنَ
الْمَسَاكِينُ ؟ أَيْنَ الْيَتَامَى ؟ حَتَّى أَغْنَى كُلًّا مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ هُوَ أَوْ مُعَاوِيَةُ بْنُ
أَبِي سُفْيَانَ ؟ فَفَضَّلَ بَعْضُهُمْ عُمَرَ لِسِيرَتِهِ وَمَعْدَلَتِهِ
وَزُهْدِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَفَضَّلَ آخَرُونَ مُعَاوِيَةَ لِسَابِقَتِهِ
وَصُحْبَتِهِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيَوْمٌ شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَأَيَّامِهِ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " أَنَّ عُمَرَ
بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يُعْجِبُهُ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِي زَوْجَتِهِ
فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَانَ يَسْأَلُهَا إِيَّاهَا ; إِمَّا
بَيْعًا أَوْ هِبَةً، فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ
الْخِلَافَةَ أَلْبَسَتْهَا وَطَيَّبَتْهَا وَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ
وَوَهَبَتْهَا لَهُ، فَلَمَّا
أَخْلَتْهَا بِهِ أَعْرَضَ عَنْهَا، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَصَدَفَ عَنْهَا،
فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدِي، فَأَيْنَ مَا كَانَ يَظْهَرُ لِي مِنْ مَحَبَّتِكَ
إِيَّايَ ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَحَبَّتَكِ لَبَاقِيَةٌ كَمَا هِيَ،
وَلَكِنْ لَا حَاجَةَ لِي فِي النِّسَاءِ، فَقَدْ جَاءَنِي أَمْرٌ شَغَلَنِي
عَنْكِ، وَعَنْ غَيْرِكِ. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ أَصْلِهَا، وَمِنْ أَيْنَ
جَلَبُوهَا، فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَبِي أَصَابَ جِنَايَةً
بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَصَادَرَهُ مُوسَى بْنُ نُصَيْرٍ فَأُخِذْتُ فِي
الْجِنَايَةِ، وَبَعَثَ بِي إِلَى الْوَلِيدِ فَوَهَبَنِي الْوَلِيدُ لِأُخْتِهِ
فَاطِمَةَ زَوْجَتِكَ، فَأَهْدَتْنِي إِلَيْكَ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، كِدْنَا وَاللَّهِ نَفْتَضِحُ وَنَهْلَكُ، ثُمَّ
أَمَرَ بِرَدِّهَا مُكَرَّمَةً إِلَى بِلَادِهَا وَأَهْلِهَا.
وَقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي
مُصَلَّاهُ وَاضِعًا خَدَّهُ عَلَى يَدِهِ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ،
فَقُلْتُ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكِ يَا فَاطِمَةُ، إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ مِنْ
أَمْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَا وُلِّيتُ، فَتَفَكَّرْتُ فِي الْفَقِيرِ الْجَائِعِ،
وَالْمَرِيضِ الضَّائِعِ، وَالْعَارِي الْمَجْهُودِ، وَالْيَتِيمِ الْمَكْسُورِ،
وَالْأَرْمَلَةِ الْوَحِيدَةِ، وَالْمَظْلُومِ الْمَقْهُورِ، وَالْغَرِيبِ،
وَالْأَسِيرِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَذِي الْعِيَالِ الْكَثِيرِ وَالْمَالِ
الْقَلِيلِ، وَأَشْبَاهِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْبِلَادِ،
فَعَلِمْتُ أَنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ سَيَسْأَلُنِي عَنْهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ خَصْمِي دُونَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَخَشِيتُ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِي حُجَّةٌ عِنْدَ خُصُومَتِهِ،
فَرَحِمْتُ نَفْسِي فَبَكَيْتُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَلَّانِي
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عِمَالَةً، ثُمَّ قَالَ لِي: إِذَا جَاءَكَ كِتَابٌ
مِنِّي
عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَاضْرِبْ بِهِ
الْأَرْضَ. وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: إِذَا دَعَتْكَ قُدْرَتُكَ عَلَى
النَّاسِ إِلَى ظُلْمِهِمْ، فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَنَفَادَ مَا
تَأْتِي إِلَيْهِمْ، وَبَقَاءَ مَا يَأْتُونَ إِلَيْكَ. وَقَالَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ
عَاصِمٍ، قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ
عَدِيٍّ: إِنَّ لِلْإِسْلَامِ سُنَنًا وَشَرَائِعَ وَفَرَائِضَ، فَمَنِ
اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ
يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ أُبَيِّنْهَا لَكُمْ لِتَعْمَلُوا بِهَا،
وَإِنْ أَمُتْ فَوَاللَّهِ مَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ. وَذَكَرَهُ
الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ.
وَذَكَرَ الصُّولِيُّ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: عَلَيْكَ
بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي لَا يُقْبَلُ غَيْرُهَا، وَلَا
يُرْحَمُ إِلَّا أَهْلُهَا، وَلَا يُثَابُ إِلَّا عَلَيْهَا، وَإِنَّ
الْوَاعِظِينَ بِهَا كَثِيرٌ، وَالْعَامِلِينَ بِهَا قَلِيلٌ. وَقَالَ أَيْضًا:
مَنْ عَلِمَ أَنَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ أَقَلَّ مِنْهُ إِلَّا فِيمَا
يَنْفَعُهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ اجْتَزَأَ مِنَ الدُّنْيَا
بِالْيَسِيرِ. وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ
كَثُرَتْ خَطَايَاهُ، وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُهُ
أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ. وَكَلَّمَهُ رَجُلٌ يَوْمًا حَتَّى أَغْضَبَهُ
فَهَمَّ بِهِ عُمَرُ ثُمَّ أَمْسَكَ نَفْسَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّجُلِ: أَرَدْتَ
أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ بِعِزَّةِ السُّلْطَانِ فَأَنَالَ مِنْكَ مَا
تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا ! قُمْ عَافَاكَ اللَّهُ، لَا حَاجَةَ لَنَا فِي
مُقَاوَلَتِكَ. وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ
الْقَصْدُ فِي الْجِدِّ، وَالْعَفْوُ فِي الْمَقْدِرَةِ، وَالرِّفْقُ فِي
الْوِلَايَةِ،
وَمَا رَفَقَ عَبْدٌ بِعَبْدٍ فِي
الدُّنْيَا إِلَّا رَفَقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَخَرَجَ ابْنٌ لَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَشَجَّهُ صَبِيٌّ
مِنْهُمْ، فَاحْتَمَلُوا الصَّبِيَّ الَّذِي شَجَّ ابْنَهُ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى
عُمَرَ، فَسَمِعَ الْجَلَبَةَ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا مُرَيْئَةٌ تَقُولُ:
إِنَّهُ ابْنِي، وَإِنَّهُ يَتِيمٌ. فَقَالَ لَهَا عُمَرُ: أَلَهُ عَطَاءٌ فِي
الدِّيوَانِ ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَاكْتُبُوهُ فِي الذُّرِّيَّةِ. فَقَالَتْ
زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ إِنْ لَمْ يَشُجَّ ابْنَكَ
ثَانِيَةً. فَقَالَ: وَيْحَكِ، إِنَّكُمْ أَفْزَعْتُمُوهُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَقُولُونَ: مَالِكٌ زَاهِدٌ. أَيُّ زُهْدٍ عِنْدِي
! إِنَّمَا الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَتْهُ الدُّنْيَا
فَاغِرَةً فَاهَا فَتَرَكَهَا. قَالُوا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ
فَكَانَ إِذَا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي الْمَنْزِلِ حَتَّى يَيْبَسَ. وَقَدْ وَقَفَ
مَرَّةً عَلَى رَاهِبٍ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ عِظْنِي. فَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ
بِقَوْلِ الشَّاعِرِ
تَجَرَّدْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ
مُجَرَّدُ
قَالُوا: فَكَانَ يُعْجِبُهُ وَيُكَرِّرُهُ وَعَمِلَ بِهِ حَقَّ الْعَمَلِ.
قَالُوا: وَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ يَوْمًا فَسَأَلَهَا أَنْ تُقْرِضَهُ
دِرْهَمًا أَوْ فُلُوسًا يَشْتَرِي
لَهُ بِهَا عِنَبًا، فَلَمْ يَجِدْ
عِنْدَهَا شَيْئًا، فَقَالَتْ لَهُ: أَنْتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ فِي
خِزَانَتِكَ مَا تَشْتَرِي بِهِ عِنَبًا ؟ ! فَقَالَ: هَذَا أَيْسَرُ مِنْ
مُعَالَجَةِ الْأَغْلَالِ وَالْأَنْكَالِ غَدًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ.
قَالُوا: وَكَانَ سِرَاجُ بَيْتِهِ عَلَى ثَلَاثِ قَصَبَاتٍ فِي رَأْسِهِنَّ
طِينٌ. قَالُوا: وَبَعَثَ يَوْمًا غُلَامَهُ لِيَشْوِيَ لَهُ لَحْمَةً فَجَاءَهُ
بِهَا سَرِيعًا مَشْوِيَّةً، فَقَالَ: أَيْنَ شَوَيْتَهَا ؟ قَالَ: فِي
الْمَطْبَخِ. فَقَالَ: فِي مَطْبَخِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ:
كُلْهَا فَإِنِّي لَمْ أُرْزَقْهَا، هِيَ رِزْقُكَ. وَسَخَّنُوا لَهُ مَاءً فِي
الْمَطْبَخِ الْعَامِّ فَرَدَّ بَدَلَ ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ حَطَبًا. وَقَالَتْ
زَوْجَتُهُ: مَا جَامَعَ وَلَا احْتَلَمَ وَهُوَ خَلِيفَةٌ.
قَالُوا: وَبَلَغَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِي سَلَّامٍ الْأَسْوَدِ
أَنَّهُ يُحَدِّثُ عَنْ ثَوْبَانَ فِي الْحَوْضِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَأَحْضَرَهُ
عَلَى الْبَرِيدِ، وَقَالَ لَهُ كَالْمُتَوَجِّعِ: مَا أَرَدْنَا الْمَشَقَّةَ
عَلَيْكَ يَا أَبَا سَلَّامٍ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ أَنْ تُشَافِهَنِي بِالْحَدِيثِ
مُشَافَهَةً. فَقَالَ: سَمِعْتُ ثَوْبَانَ، يَقُولُ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْضِي مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى عَمَّانَ
الْبَلْقَاءِ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ،
أَكَاوِيبُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ
يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَأَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ
الْمُهَاجِرِينَ، الشُّعْثُ رُءُوسًا، الدُّنْسُ ثِيَابًا، الَّذِينَ لَا
يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ، وَلَا تُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ.
فَقَالَ عُمَرُ: لَكِنِّي نَكَحْتُ
الْمُتَنَعِّمَاتِ، فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَفُتِحَتْ لِيَ السُّدَدُ
فَلَا جَرَمَ لَا أَغْسِلُ رَأْسِي حَتَّى يَشْعَثَ، وَلَا أُلْقِى ثَوْبِي حَتَّى
يَتَّسِخَ.
قَالُوا: وَكَانَ لَهُ سِرَاجٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ حَوَائِجَهُ، وَسِرَاجٌ لِبَيْتِ
الْمَالِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَكْتُبُ عَلَى
ضَوْئِهِ لِنَفْسِهِ حَرْفًا. وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ كُلَّ يَوْمٍ
أَوَّلَ النَّهَارِ، وَلَا يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ شُرَطِيٍّ،
وَثَلَاثُمِائَةِ حَرَسِيٍّ، وَأَهْدَى لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ
تُفَّاحًا فَاشْتَمَّهُ ثُمَّ رَدَّهُ مَعَ الرَّسُولِ، وَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهُ:
قَدْ بَلَغَتْ مَحَلَّهَا. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ
الْهَدِيَّةَ، وَهَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ. فَقَالَ: إِنَّ الْهَدِيَّةَ
كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً، فَأَمَّا
نَحْنُ فَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ.
قَالُوا: وَكَانَ يُوَسِّعُ عَلَى عُمَّالِهِ فِي النَّفَقَةِ ; يُعْطِي الرَّجُلَ
مِنْهُمْ فِي الشَّهْرِ مِائَةَ دِينَارٍ، وَمِائَتَيْ دِينَارٍ، وَكَانَ
يَتَأَوَّلُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي كِفَايَةٍ تَفَرَّغُوا لِأَشْغَالِ
الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا لَهُ: لَوْ أَنْفَقْتَ عَلَى عِيَالِكَ كَمَا تُنْفِقُ
عَلَى عُمَّالِكَ ؟ فَقَالَ: لَا أَمْنَعُهُمْ حَقًّا لَهُمْ، وَلَا أُعْطِيهِمْ
حَقَّ غَيْرِهِمْ. وَكَانَ أَهْلُهُ قَدْ بَقُوا فِي جَهْدٍ عَظِيمٍ فَاعْتَذَرَ
بِأَنَّ مَعَهُمْ سَلَفًا كَثِيرًا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ، وَقَالَ يَوْمًا لِرَجُلٍ
مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ تَقِفَ بِبَابِي وَلَا
يُؤْذَنُ لَكَ. وَقَالَ لِآخَرَ مِنْهُمْ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ
وَأَرْغَبُ بِكَ أَنْ أُدَنِّسَكَ بِالدُّنْيَا لِمَا أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: كُنَّا نَحْنُ وَبَنُو عَمِّنَا بَنُو هَاشِمٍ، مَرَّةً لَنَا
وَمَرَّةً عَلَيْنَا، نَلْجَأُ إِلَيْهِمْ وَيَلْجَئُونَ إِلَيْنَا، حَتَّى
طَلَعَتْ شَمْسُ الرِّسَالَةِ
فَأَكْسَدَتْ كُلَّ نَافِقٍ، وَأَخْرَسَتْ كُلَّ مُنَافِقٍ، وَأَسْكَتَتْ كُلَّ
نَاطِقٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخُو خَطَّابٍ، ثَنَا
خَالِدُ بْنُ خِدَاشٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ
الرَّاعِي وَكَانَ يَرْعَى الْغَنَمَ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُيَيْنَةَ قَالَ:
كَانَتِ الْغَنَمُ وَالْأُسْدُ وَالْوَحْشُ تَرْعَى فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، فَعَرَضَ لِشَاةٍ مِنْهَا ذِئْبٌ،
فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ، مَا أَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ إِلَّا قَدْ هَلَكَ.
قَالَ: فَحَسَبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ هَلَكَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ حَمَّادٍ، فَقَالَ: كَانَ يَرْعَى الشَّاةَ بِكَرْمَانَ،
فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ.
وَمِنْ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ رِجَالًا أَطَاعُوكَ فِيمَا أَمَرْتَهُمْ،
وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَيْتَهُمْ، اللَّهُمَّ وَإِنَّ تَوْفِيقَكَ إِيَّاهُمْ
كَانَ قَبْلَ طَاعَتِهِمْ إِيَّاكَ، فَوَفِّقْنِي. وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ، إِنَّ
عُمَرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ تَنَالَهُ رَحْمَتُكَ، وَلَكِنَّ رَحْمَتَكَ أَهْلٌ
أَنْ تَنَالَ عُمَرَ.
وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَبْقَاكَ اللَّهُ مَا كَانَ الْبَقَاءُ خَيْرًا لَكَ.
فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ، وَلَكِنْ قُلْ: أَحْيَاكَ اللَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً، وَتَوَفَّاكَ مَعَ الْأَبْرَارِ. وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: كَيْفَ
أَصْبَحْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ: أَصْبَحْتُ بَطِيئًا بَطِينًا،
مُتَلَوِّثًا بِالْخَطَايَا، أَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ كَانَتِ الْخِلَافَةُ
لَهُمْ زَيْنٌ، وَأَنْتَ زَيْنُ الْخِلَافَةِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِذَا الدُّرُّ زَانَ حُسْنَ وُجُوهٍ كَانَ لِلدُّرِّ حُسْنُ وَجْهِكَ زَيْنَا
قَالَ: فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ. وَقَالَ رَجَاءُ بْنُ حَيْوَةَ سَمَرْتُ عِنْدَ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَعَشِيَ السِّرَاجُ فَقُلْتُ:
أَلَا أُنَبِّهُ هَذَا الْغُلَامَ يُصْلِحُهُ ؟ فَقَالَ: لَا، دَعْهُ يَنَامُ.
فَقُلْتُ: أَفَلَا أَقُومُ أُصْلِحُهُ ؟ فَقَالَ: لَا، لَيْسَ مِنْ مُرُوءَةِ
الرَّجُلِ اسْتِخْدَامُ ضَيْفِهِ. ثُمَّ قَامَ بِنَفْسِهِ فَأَصْلَحَهُ وَصَبَّ
فِيهِ زَيْتًا، ثُمَّ جَاءَ وَقَالَ: قُمْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ وَجِئْتُ وَأَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَالَ: أَكْثِرُوا
ذِكْرَ النِّعَمِ فَإِنَّ ذِكْرَهَا شُكْرُهَا. وَقَالَ: إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِي
مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ مَخَافَةَ الْمُبَاهَاةِ. وَبَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِهِ تُوُفِّيَ، فَجَاءَ إِلَى أَهْلِهِ لِيُعَزِّيَهُمْ فِيهِ، فَصَرَخُوا
فِي وَجْهِهِ بِالْبُكَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَهْ، إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَمْ
يَكُنْ يَرْزُقُكُمْ، وَإِنَّ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، وَإِنَّ
صَاحِبَكُمْ هَذَا، لَمْ يَسُدَّ شَيْئًا مِنْ حُفَرِكُمْ، وَإِنَّمَا سَدَّ
حُفْرَةَ نَفْسِهِ، وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُمْ حُفْرَةً لَا بُدَّ
وَاللَّهِ أَنْ يَسُدَّهَا، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا
حَكَمَ عَلَيْهَا بِالْخَرَابِ وَعَلَى أَهْلِهَا بِالْفَنَاءِ، وَمَا امْتَلَأَتْ
دَارٌ حَبْرَةً إِلَّا امْتَلَأَتْ عَبْرَةً، وَلَا اجْتَمَعُوا إِلَّا
تَفَرَّقُوا، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْهَا، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ
الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ
صَاحِبُكُمْ، كُلُّكُمْ يَصِيرُ
إِلَيْهِ غَدًا.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ إِلَى الْقُبُورِ، فَقَالَ
لِي: يَا أَبَا أَيُّوبَ، هَذِهِ قُبُورُ آبَائِي بَنِي أُمَيَّةَ، كَأَنَّهُمْ
لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهِمْ وَعَيْشِهِمْ، أَمَا
تَرَاهُمْ صَرْعَى قَدْ خَلَتْ فِيهِمُ الْمَثُلَاتُ، وَاسْتَحْكَمَ فِيهِمُ
الْبَلَاءُ ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ:
انْطَلِقُوا بِنَا فَوَاللَّهِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْعَمَ مِمَّنْ صَارَ إِلَى
هَذِهِ الْقُبُورِ، وَقَدْ أَمِنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا
دُفِنَتْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قِفُوا حَتَّى آتِيَ قُبُورَ الْأَحِبَّةِ.
فَأَتَاهُمْ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَدْعُو، إِذْ هَتَفَ بِهِ التُّرَابُ، فَقَالَ:
يَا عُمَرُ أَلَا تَسْأَلُنِي مَا فَعَلْتُ فِي الْأَحِبَّةِ ؟ قَالَ: قُلْتُ:
وَمَا فَعَلْتَ بِهِمْ ؟ قَالَ: مَزَّقْتُ الْأَكْفَانَ، وَأَكَلْتُ اللُّحُومَ،
وَشَدَخْتُ الْمُقْلَتَيْنِ، وَأَكَلْتُ الْحَدَقَتَيْنِ، وَنَزَعْتُ الْكَفَّيْنِ
مِنَ السَّاعِدَيْنِ، وَالسَّاعِدَيْنِ مِنَ الْعَضُدَيْنِ، وَالْعَضُدَيْنِ مِنَ
الْمَنْكِبَيْنِ، وَالْمَنْكِبَيْنِ مِنَ الصُّلْبِ، وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ
السَّاقَيْنِ، وَالسَّاقَيْنِ مِنَ الْفَخْذَيْنِ، وَالْفَخْذَيْنِ مِنَ
الْوِرْكِ، وَالْوِرْكَ مِنَ الصُّلْبِ وَعُمَرُ يَبْكِي. فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ
يَذْهَبَ قَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَكْفَانٍ لَا تَبْلَى ؟
قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ قَالَ: تَقْوَى اللَّهِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.
وَقَالَ مَرَّةً لِرَجُلٍ مِنْ جُلَسَائِهِ: لَقَدْ أَرِقْتُ اللَّيْلَةَ
مُفَكِّرًا. قَالَ: وَفِيمَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ: فِي الْقَبْرِ
وَسَاكِنِهِ، إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ الْمَيِّتَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فِي قَبْرِهِ
لَاسْتَوْحَشْتَ مِنْ قُرْبِهِ بَعْدَ طُولِ الْأُنْسِ مِنْكَ بِنَاحِيَتِهِ،
وَلَرَأَيْتَ بَيْتًا تَجُولُ فِيهِ الْهَوَامُّ، وَيَجْرِي فِيهِ الصَّدِيدُ،
وَتَخْتَرِقُهُ الدِّيدَانُ، مَعَ تَغَيُّرِ الرِّيحِ، وَبِلَى الْأَكْفَانِ
بَعْدَ حُسْنِ الْهَيْئَةِ، وَطِيبِ الرِّيحِ، وَنَقَاءِ الثَّوْبِ. قَالَ: ثُمَّ
شَهِقَ شَهْقَةً خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ فَقَرَأَ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ فَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا
وَمَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُجَاوِزَهَا. وَقَالَتِ امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ: مَا
رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ صَلَاةً وَصِيَامًا مِنْهُ، وَلَا أَحَدًا أَشَدَّ
فَرَقًا مِنْ رَبِّهِ مِنْهُ، كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ثُمَّ يَجْلِسُ يَبْكِي
حَتَّى تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ، ثُمَّ يَنْتَبِهُ فَلَا يَزَالُ يَبْكِي حَتَّى
تَغْلِبَهُ عَيْنُهُ. قَالَتْ: وَلَقَدْ كَانَ يَكُونُ مَعِي فِي الْفِرَاشِ
فَيَذْكُرُ الشَّيْءَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ ; فَيَنْتَفِضُ كَمَا يَنْتَفِضُ
الْعُصْفُورُ فِي الْمَاءِ، وَيَجْلِسُ يَبْكِي، فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ اللِّحَافَ
رَحْمَةً لَهُ، وَأَنَا أَقُولُ: يَا لَيْتَ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْخِلَافَةِ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا سُرُورًا مُنْذُ
دَخَلْنَا فِيهَا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ: مَا رَأَيْتُ رَجُلَيْنِ كَأَنَّ النَّارَ لَمْ
تُخْلَقْ إِلَّا لَهُمَا مِثْلَ الْحَسَنِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَيْتُهُ يَبْكِي حَتَّى بَكَى دَمًا. قَالُوا: وَكَانَ
إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَرَأَ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [ الْأَعْرَافِ: 54 ] الْآيَةَ.
وَيَقْرَأُ: أَفَأَمِنَ أَهْلُ
الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ وَنَحْوَ هَذِهِ
الْآيَاتِ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنَ
الْفُقَهَاءِ فَلَا يَذْكُرُونَ إِلَّا الْمَوْتَ وَالْآخِرَةَ، ثُمَّ يَبْكُونَ
حَتَّى كَأَنَّ بَيْنَهُمْ جِنَازَةً.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي
خِرَقِ
وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ
بِأَيِّمَا بَلَدٍ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ إِنْ لَا يَسِرْ طَائِعًا فِي قَصْدِهَا
يُسَقِ
وَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ فِي جِنَازَةٍ، إِلَى قَوْمٍ قَدْ
تَلَثَّمُوا مِنَ الْغُبَارِ وَالشَّمْسِ، وَانْحَازُوا إِلَى الظِّلِّ، فَبَكَى
وَأَنْشَدَ:
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ أَوِ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ
وَالشَّعَثَا
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا
جَدَثًا
فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ يُطِيلُ فِي قَعْرِهَا تَحْتَ الثَّرَى
لُبْثَا
تَجَهَّزِي بِجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي
عَبَثَا
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ الْغَلَّابِيُّ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ لَا يَجِفُّ فُوهُ
مِنْ هَذَا الْبَيْتِ:
وَلَا خَيْرَ فِي عَيْشِ امْرِئٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ اللَّهِ فِي دَارِ
الْقَرَارِ نَصِيبُ
وَزَادَ غَيْرُهُ مَعَهُ بَيْتًا حَسَنًا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
فَإِنْ تُعْجِبُ الدُّنْيَا أُنَاسًا فَإِنَّهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالزَّوَالُ
قَرِيبُ
وَمِنْ شَعْرِهِ الَّذِي أَنْشَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ:
أَنَا مَيْتٌ وَعَزَّ مَنْ لَا يَمُوتُ قَدْ تَيَقَّنْتُ أَنَّنِي سَأَمُوتُ
لَيْسَ مُلْكٌ يُزِيلُهُ الْمَوْتُ مُلْكًا إِنَّمَا الْمُلْكُ مُلْكُ مَنْ لَا
يَمُوتُ
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
يَقُولُ:
تُسَرُّ بِمَا يَبْلَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى كَمَا اغْتَرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي
النَّوْمِ حَالِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ
لَازِمُ
وَسَعْيكُ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ
الْبَهَائِمُ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَلُومُ
نَفْسَهُ وَيُعَاتِبُهَا:
أَيَقِظَانُ أَنْتَ الْيَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ وَكَيْفَ يُطِيقُ النَّوْمَ
حَيْرَانُ هَائِمُ
فَلَوْ كَنْتَ يَقْظَانَ الْغَدَاةَ لَحَرَّقَتْ مَدَامِعَ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ
السَّوَاجِمُ
نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ
لَازِمُ
بَلَ اصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ إِلَيْكَ أُمُورٌ
مُفْظِعَاتٌ عَظَائِمُ
وَشُغْلُكَ فِيمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ
الْبَهَائِمُ
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِسَنَدِهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَتْ: انْتَبَهَ عُمَرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا مُعْجِبَةً. فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهَا. فَقَالَ: حَتَّى نُصْبِحَ. فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ بِالْمُسْلِمِينَ دَخَلَ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي دُفِعْتُ إِلَى أَرْضٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ كَأَنَّهَا بِسَاطٌ أَخْضَرُ، وَإِذَا فِيهَا قَصْرٌ كَأَنَّهُ الْفِضَّةُ، فَخَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ فَنَادَى: أَيْنَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ؟ أَيْنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ إِذْ أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلَ ذَلِكَ الْقَصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ؟ فَأَقْبَلَ فَدَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَنَادَى: أَيْنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؟ فَقُمْتُ - فَدَخَلْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى جَانِبِ أَبِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقُلْتُ لِأَبِي: مَنْ هَذَا ؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ. ثُمَّ سَمِعْتُ هَاتِفًا يَهْتِفُ، بَيْنِي وَبَيْنَهُ نُورٌ لَا أَرَاهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
التالي ج23.وج24. بمشيئة الله الواحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق