ج27.وج28.البداية والنهاية لابن كثير الحافظ
ج27. البداية والنهاية لابن كثير الحافظ عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ شُقَيْرٍ أَبُو بَكْرٍ النَّحْوِيُّ كَانَ عَالِمًا بِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ، وَلَهُ فِيهِ تَصَانِيفُ.
أَحْمَدُ بْنُ مَهْدِيِّ بْنِ رُسْتُمَ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، أَنْفَقَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ، وَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا يَأْوِي إِلَى فِرَاشٍ.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ بِسَنَدِهِ عَنْهُ، أَنَّهُ جَاءَتْهُ
امْرَأَةٌ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنِّي قَدِ امْتُحِنْتُ بِمِحْنَةٍ،
أُكْرِهْتُ عَلَى الزِّنَى وَأَنَا حُبْلَى مِنْهُ، وَقَدْ تَسَتَّرْتُ بِكَ
وَزَعَمْتُ أَنَّكَ زَوْجِي، وَأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْكَ، فَاسْتُرْنِي
سَتَرَكَ اللَّهُ وَلَا تَفْضَحْنِي. فَسَكَتَ عَنْهَا، فَلَمَّا وَضَعَتْ
جَاءَنِي أَهْلُ الْمَحَلَّةِ وَإِمَامُ مَسْجِدِهِمْ يُهَنِّئُونَنِي
بِالْوَلَدِ، فَأَظْهَرْتُ الْبِشْرَ، وَبَعَثْتُ فَاشْتَرَيْتُ بِدِينَارَيْنِ
شَيْئًا حُلْوًا وَجَعَلْتُ أُرْسِلُ إِلَيْهَا مَعَ إِمَامِ الْمَسْجِدِ كُلَّ
شَهْرٍ دِينَارَيْنِ صِفَةَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ، وَأَقُولُ: أَقْرِئْهَا مِنِّي
السَّلَامَ، فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي مَا فَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا.
فَمَكَثَتْ كَذَلِكَ سَنَتَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلُودُ، فَجَاءُونِي
يُعَزُّونَنِي فِيهِ، فَأَظْهَرْتُ التَّغَمُّمَ وَالْحُزْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
جَاءَتْنِي الْمَرْأَةُ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي كُنْتُ أُرْسِلُ بِهَا إِلَيْهَا
قَدْ جَعَلَتْهَا عِنْدَهَا، فَقَالَتْ لِي: سَتَرَكَ اللَّهُ وَجَزَاكَ خَيْرًا،
وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي كُنْتَ تُرْسِلُ بِهَا. فَقُلْتُ: يَا هَذِهِ،
إِنِّي إِنَّمَا كُنْتُ
أُرْسِلُ بِهَا صِلَةً لِلْوَلَدِ،
فَخُذِيهَا فَافْعَلِي بِهَا مَا شِئْتِ.
بَدْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ بْنِ خَلَفِ بْنِ خَالِدِ بْنِ رَاشِدِ بْنِ الضَّحَّاكِ
بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُحَرِّقِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَبُو
الْقَاسِمِ اللَّخْمِيُّ الْقَاضِي الْكُوفِيُّ
نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
سَمَاعُهُ لِلْحَدِيثِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً
نَبِيلًا، عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكُوفَةِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ بْنِ
سَابُورَ بْنِ شَاهِنْشَاهْ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ بِنْتِ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
- وَقِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ - وَمِائَتَيْنِ، وَرَأَى أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ
بْنَ سَلَّامٍ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَسَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ،
وَخَلَفِ بْنِ هِشَامٍ الْبَزَّارِ، وَخَلْقٍ، وَكَانَ مَعَهُ جُزْءٌ فِيهِ
سَمَاعُهُ مِنَ ابْنِ مَعِينٍ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ،
فَرَمَاهُ فِي دِجْلَةَ، وَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ ؟!
وَقَدْ تَفَرَّدَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ شَيْخًا، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا
ضَابِطًا، رَوَى عَنِ الْحُفَّاظِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ.
قَالَ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ: كَانَ ابْنُ مَنِيعٍ ثِقَةً صَدُوقًا،
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ
هَاهُنَا نَاسًا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ،
فَقَالَ: يَحْسُدُونَهُ، ابْنُ مَنِيعٍ لَا يَقُولُ إِلَّا الْحَقَّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ: يَدْخُلُ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ الْبَغَوِيُّ، قَلَّمَا يَتَكَلَّمُ عَلَى
الْحَدِيثِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ كَالْمِسْمَارِ فِي السَّاجِ.
وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي " كَامِلِهِ " فَتَكَلَّمَ فِيهِ،
وَقَالَ: حَدَّثَ بِأَشْيَاءَ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مَعَهُ طَرَفٌ مِنْ
مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَانِيفِ. وَقَدِ انْتُدِبَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
لِلرَّدِّ عَلَى ابْنِ عَدِيٍّ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثَ
سِنِينَ وَشُهُورًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ صَحِيحُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ
وَالْأَسْنَانِ، يَطَأُ الْإِمَاءَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَ
بِمَقْبَرَةِ بَابِ التِّبْنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ الشَّهِيدُ
الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ الْهَرَوِيُّ
يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي سَعْدٍ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُ الْمُظَفَّرِ
الْحَافِظُ، وَكَانَ مِنَ الثِّقَاتِ الْأَثْبَاتِ الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ،
لَهُ مُنَاقَشَاتٌ عَلَى بِضْعَةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثًا مِنْ " صَحِيحِ
مُسْلِمٍ "، قَتَلَتْهُ
الْقَرَامِطَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جُمْلَةِ
مَنْ قَتَلُوا، رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ جَنَّاتِ
الْفِرْدَوْسِ مُتَقَلَّبَهُ وَمَثْوَاهُ.
الْكَعْبِيُّ الْمُتَكَلِّمُ
هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ الْبَلْخِيُّ
الْكَعْبِيُّ، نِسْبَةً إِلَى بَنِي كَعْبٍ، وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ
الْمُعْتَزِلَةِ، وَتُنْسَبُ إِلَيْهِ الطَّائِفَةُ الْكَعْبِيَّةُ مِنْهُمْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَ مِنْ كِبَارِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَهُ
اخْتِيَارَاتٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ ; مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ
أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى تَقَعُ بِلَا اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَلَا مَشِيئَةٍ.
هَكَذَا أَوْرَدَهُ عَنْهُ، وَقَدْ خَالَفَ الْكَعْبِيُّ نَصَّ الْقُرْآنِ فِي
غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
وَيَخْتَارُ [ الْقَصَصِ: 68 ] وَقَالَ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [ الْأَنْعَامِ:
112 ] وَقَالَ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [ السَّجْدَةِ:
13 ] وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [ الْإِسْرَاءِ:
16 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بِصَرِيحِ
الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانِيَ
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، فَكَانَتْ مُدَّةُ وِزَارَتِهِ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ
مَخْلَدٍ، وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى نَاظِرًا مَعَهُ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا أُحْرِقَتْ دَارُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ،
وَكَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَانْتَهَبَ النَّاسُ
أَخْشَابَهَا وَمَا وَجَدُوا فِيهَا مِنْ حَدِيدٍ وَرَصَاصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ،
وَصَادَرَهُ الْخَلِيفَةُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا طَرَدَ الْخَلِيفَةُ الرَّجَّالَةَ الَّذِينَ كَانُوا بِدَارِ
الْخِلَافَةِ عَنْ بَغْدَادَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا رَدُّوا الْمُقْتَدِرَ
إِلَى الْخِلَافَةِ شَرَعُوا يُنَفِّسُونَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ عَلَيْهِ ;
يَقُولُونَ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَصْعَدَ الْحِمَارَ
إِلَى السَّطْحِ يَقْدِرُ يُنْزِلُهُ. فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ عَنْ بَغْدَادَ
وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ عُوقِبَ، فَأُحْرِقَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ مِنْ
قَرَابَاتِهِمْ، وَاحْتَرَقَ بَعْضُ نِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، فَخَرَجُوا
مِنْهَا فِي غَايَةِ الْإِهَانَةِ، فَنَزَلُوا وَاسِطًا وَتَغَلَّبُوا عَلَيْهَا،
وَأَخْرَجُوا عَامِلَهَا مِنْهَا، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ
فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقَا كَثِيرًا، فَلَمْ
تَقُمْ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَايَةٌ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ بْنَ
حَمْدَانَ عَنِ الْمَوْصِلِ وَوَلَّى
عَلَيْهَا عَمَّيْهِ سَعِيدًا
وَنَصْرًا ابْنَيْ حَمْدَانَ. وَوَلَّاهُ دِيَارَ رَبِيعَةَ نَصِيبِينَ
وَسِنْجَارَ وَالْخَابُورَ وَرَأْسَ الْعَيْنِ وَمَعَهَا مَيَّافَارِقِينَ وَأَرْزَنَ،
ضَمِنَ ذَلِكَ مِنَ الْخَلِيفَةِ بِمَالٍ يَحْمِلُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى خَرَجَ رَجُلٌ بِبِلَادِ الْبَوَازِيجِ يُقَالُ لَهُ:
صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ. فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي مَالِكٍ،
ثُمَّ سَارَ إِلَى سِنْجَارَ، فَحَاصَرَهَا، فَدَخَلَهَا، وَأَخَذَ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهَا، وَخَطَبَ بِهَا خُطْبَةً، وَوَعَظَ فِيهَا وَذَكَّرَ
وَحَذَّرَ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: نَتَوَلَّى الشَّيْخَيْنِ،
وَنَتَبَرَّأُ مِنَ الْخَبِيثَيْنِ، وَلَا نَرَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
ثُمَّ سَارَ فَعَاثَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. فَانْتُدِبَ لَهُ نَصْرُ بْنُ
حَمْدَانَ، فَقَاتَلَهُ، فَأُسِرَ صَالِحُ بْنُ مَحْمُودٍ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ،
فَحُمِلَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ شُهْرَةً فَظِيعَةً.
وَخَرَجَ آخَرُ بِبِلَادِ الْمَوْصِلِ فَاتَّبَعَهُ أَلْفُ رَجُلٍ، فَحَاصَرَ
أَهْلَ نَصِيبِينَ فَخَرَجُوا إِلَيْهِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ
مِائَةً وَأَسَرَ أَلْفًا، ثُمَّ بَاعَهُمْ نُفُوسَهُمْ، وَصَادَرَ أَهْلَهَا
بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَانْتُدِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ
حَمْدَانَ، فَقَاتَلَهُ فَظَفِرَ بِهِ فَأَسَرَهُ، وَسَيَّرَهُ إِلَى بَغْدَادَ
أَيْضًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى ابْنِهِ هَارُونَ، وَرَكِبَ مَعَهُ الْوَزِيرُ
وَالْجَيْشُ، وَأَعْطَاهُ نِيَابَةَ فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ
وَمُكْرَانَ، وَخَلَعَ عَلَى ابْنِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ الرَّاضِي، وَجَعَلَهُ
نَائِبَ بِلَادِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ، وَيَكُونُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ
يَسُدُّ عَنْهُ أُمُورَهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَبْدُ السَّمِيعِ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَاشِمِيُّ،
وَخَرَجَ الْحَجِيجُ بِخُفَارَةٍ وَبَذْرَقَةٍ حَتَّى سَلِمُوا فِي الذَّهَابِ
وَالْإِيَابِ مِنَ الْقَرَامِطَةِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ بْنِ حَسَّانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ
أَبُو جَعْفَرَ التَّنُوخِيُّ
الْقَاضِي الْحَنَفِيُّ، الْعَدْلُ الثِّقَةُ الرَّضِيُّ، وَكَانَ فَقِيهًا ثِقَةً
نَبِيلًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ حَدِيثًا
وَاحِدًا، وَكَانَ عَالِمًا بِالنَّحْوِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، جَيِّدَ
الشِّعْرِ، مَحْمُودًا فِي الْأَحْكَامِ. اتَّفَقَ أَنَّ السَّيِّدَةَ أُمَّ
الْمُقْتَدِرِ وَقَفَتْ وَقْفًا، وَجَعَلَ الْحَاكِمُ هَذَا عِنْدَهُ نُسْخَةً
بِهِ فِي سَلَّةِ الْحُكْمِ، ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُضَ ذَلِكَ الْوَقْفَ،
فَطَلَبَتِ الْحَاكِمَ وَأَنْ يُحْضِرَ مَعَهُ كِتَابَ الْوَقْفِ، لِتَأْخُذَهُ
مِنْهُ فَتَعْدِمَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ مِنْ وَرَاءِ السِّتَارَةِ، فَهِمَ
الْمَقْصُودَ، فَقَالَ لَهَا: لَا يُمْكِنُ هَذَا ; لِأَنِّي خَازِنُ الْمُسْلِمِينَ،
فَإِمَّا أَنْ تَعْزِلُونِي عَنِ الْقَضَاءِ وَتُوَلُّوا عَلَى هَذَا غَيْرِي،
وَإِمَّا أَنْ تَتْرُكُوا هَذَا الَّذِي تُرِيدُونَهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ
وَأَنَا حَاكِمٌ. فَشَكَتْهُ إِلَى وَلَدِهَا الْمُقْتَدِرِ، فَشَفَعَ عِنْدَهُ
الْمُقْتَدِرُ فِي ذَلِكَ، فَذَكَرَ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ فَرَجَعَ إِلَى أُمِّهِ
فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِمَّنْ يُرْغَبُ فِيهِ، وَلَا سَبِيلَ
إِلَى عَزْلِهِ وَلَا التَّلَاعُبِ بِهِ. فَرَضِيَتْ عَنْهُ، وَبَعَثَتْ
تَشْكُرُهُ عَلَى مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَنْ قَدَّمَ أَمْرَ اللَّهِ
عَلَى
أَمْرِ الْعِبَادِ كَفَاهُ اللَّهُ
شَرَّهُمْ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
الثَّمَانِينَ.
يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
مَوْلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ، رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَتَبَ
وَسَمِعَ وَحَفِظَ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْحِفَّاظِ وَشُيُوخِ الرِّوَايَةِ،
وَكَتَبَ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَكَابِرِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ تَدُلُّ عَلَى
حِفْظِهِ وَفِقْهِهِ وَفَهْمِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْكُوفَةِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ بَشَّارِ بْنِ زِيَادٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْعَلَّافِ، الضَّرِيرُ النَّهْرَوَانِيُّ، الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ، وَكَانَ أَحَدَ سُمَّارِ الْخَلِيفَةِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ،
وَلَهُ مَرْثَاةٌ طَنَّانَةٌ فِي هِرٍّ لَهُ قَتَلَهُ جِيرَانُهُ ; لِأَكْلِهِ
أَفْرَاخَ الْحَمَامِ مِنْ أَبْرَاجِهِمْ، وَفِيهَا آدَابٌ وَرِقَّةٌ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ أَرَادَ بِهَا رِثَاءَ ابْنِ الْمُعْتَزِّ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَجَاسَرْ
أَنْ يَنْسِبَهَا إِلَيْهِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ حِينَ
قَتَلَهُ، وَأَوَّلُهَا:
يَا هِرُّ فَارَقْتَنَا وَلَمْ تَعُدِ وَكُنْتَ عِنْدِي بِمَنْزِلِ الْوَلَدِ
وَهِيَ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ بَيْتًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ الْحَجِيجُ بَغْدَادَ وَقَدْ
خَرَجَ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ إِلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ، خَوْفًا مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ،
وَزُيِّنَتْ بَغْدَادُ يَوْمَئِذٍ، وَضُرِبَتِ الْخِيَامُ وَالْقِبَابُ لِمُؤْنِسٍ
الْخَادِمِ، وَقَدْ بَلَغَ مُؤْنِسًا فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ أَنَّ
الْقَرَامِطَةَ أَمَامَهُ، فَعَدَلَ بِالنَّاسِ عَنْ جَادَّةِ الطَّرِيقِ،
فَأَخَذَ بِهِمْ فِي شِعَابٍ وَأَوْدِيَةٍ، فَتَاهُوا هُنَالِكَ أَيَّامًا،
فَشَاهَدَ النَّاسُ هُنَالِكَ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ ; رَأَوْا عِظَامًا فِي
غَايَةِ الضَّخَامَةِ، وَشَاهَدُوا نَاسًا قَدْ مُسِخُوا حِجَارَةً، وَرَأَى
بَعْضُهُمُ امْرَأَةً وَاقِفَةً عَلَى تَنُّورٍ قَدْ مُسِخَتْ حَجَرًا
وَالتَّنُّورَ قَدْ صَارَ حَجَرًا، وَحَمَلَ مُؤْنِسٌ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
كَثِيرًا إِلَى الْحَضْرَةِ لِيُصَدَّقَ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. ذَكَرَهُ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ". فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ مِنْ
قَوْمِ عَادٍ أَوْ مِنْ ثَمُودَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْمُقْتَدِرُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ الْوَزِيرَ بَعْدَ
سَنَةٍ وَشَهْرَيْنِ وَتِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ أَبَا
الْقَاسِمِ عَبِيدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ الْكَلْوَذَانِيَّ، ثُمَّ عَزَلَهُ
بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَاسْتَوْزَرَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ،
ثُمَّ عَزَلَهُ أَيْضًا.
وَفِيهَا وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ
الْخَلِيفَةِ وَمُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، بِسَبَبِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ وَلَّى
الْحِسْبَةَ لِرَجُلٍ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَاقُوتَ، وَكَانَ أَمِيرًا عَلَى
الشُّرْطَةِ أَيْضًا، فَقَالَ مُؤْنِسٌ: إِنَّ الْحِسْبَةَ لَا يَتَوَلَّاهَا
إِلَّا الْقُضَاةُ وَالْعُدُولُ، وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لَهَا، وَلَمْ يَزَلْ
بِالْخَلِيفَةِ حَتَّى عَزَلَ مُحَمَّدَ بْنَ يَاقُوتَ عَنِ الْحِسْبَةِ
وَالشُّرْطَةِ أَيْضًا، وَانْصَلَحَ الْحَالُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَجَدَّدَتِ
الْوَحْشَةُ بَيْنَهُمَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَمَا زَالَتْ
تَتَزَايَدُ حَتَّى آلَ الْحَالُ إِلَى قَتْلِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، كَمَا
سَنَذْكُرُهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْقَعَ ثَمِلٌ مُتَوَلِّي طَرَسُوسَ بِالرُّومِ وَقْعَةً
عَظِيمَةً جِدًّا، قَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ نَحْوًا مِنْ
ثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَغَنِمَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالدِّيبَاجِ شَيْئًا
كَثِيرًا جِدًّا، ثُمَّ أَوْقَعَ بِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً كَذَلِكَ. وَكَتَبَ
ابْنُ الدَّيْرَانِيِّ الْأَرْمَنِيُّ إِلَى الرُّومِ يَحُضُّهُمْ عَلَى
الدُّخُولِ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَوَعَدَهُمْ مِنْهُ النَّصْرَ
وَالْإِعَانَةَ، فَدَخَلُوا فِي جَحَافِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، وَانْضَافَ
إِلَيْهِمُ الْأَرْمَنُ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمْ مُفْلِحٌ، غُلَامُ يُوسُفَ بْنِ
أَبِي السَّاجِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ نَائِبُ أَذْرَبِيجَانَ وَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْمُطَّوِّعَةِ، فَقَصَدَ أَوَّلًا بِلَادَ ابْنِ الدَّيْرَانِيِّ،
فَقَتَلَ مِنَ الْأَرْمَنِ نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ، وَأَسَرَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَغَنِمَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَتَحَصَّنَ ابْنُ
الدَّيْرَانِيِّ بِقَلْعَةٍ لَهُ هُنَالِكَ، وَجَاءَتِ الرُّومُ، فَوَصَلُوا إِلَى
سُمَيْسَاطَ فَحَاصَرُوهَا، فَبَعَثَ أَهْلُهَا يَسْتَصْرِخُونَ بِسَعِيدِ بْنِ
حَمْدَانَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ فَسَارَ إِلَيْهِمْ مُسْرِعًا، فَوَجَدَ الرُّومَ قَدْ
كَادُوا يَفْتَحُونَهَا، فَلَمَّا عَلِمُوا بِقُدُومِهِ أَجْلَوْا عَنْهَا
وَاجْتَازُوا بِمَلَطْيَةَ فَنَهَبُوهَا، وَرَجَعُوا خَاسِئِينَ إِلَى
بِلَادِهِمْ، وَمَعَهُمُ ابْنُ نَفِيسٍ الْمُتَنَصِّرُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
بَغْدَادَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَرَكِبَ ابْنُ حَمْدَانَ فِي
آثَارِ الرُّومِ، فَدَخَلَ
بِلَادَهُمْ، فَقَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا مِنْهُمْ، وَغَنِمَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي شَوَّالٍ جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ
إِلَى تَكْرِيتَ ارْتَفَعَ فِي أَسْوَاقِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شِبْرًا، وَغَرِقَ
بِسَبَبِهِ أَرْبَعُمِائَةِ دَارٍ، وَخَلْقٌ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ،
حَتَّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى يُدْفَنُونَ جَمِيعًا، لَا يُعْرَفُ
هَذَا مِنْ هَذَا.
قَالَ: وَفِيهَا هَاجَتْ بِالْمَوْصِلِ رِيحٌ فِيهَا حُمْرَةٌ، ثُمَّ اسْوَدَّتْ
حَتَّى كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يُبْصِرُ صَاحِبَهُ، وَظَنَّ النَّاسُ أَنَّ
الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ، ثُمَّ انْجَلَى ذَلِكَ بِمَطَرٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْأَنْطَاكِيُّ
قَاضِي ثُغُورِ الشَّامِ يُعْرَفُ بِابْنِ الصَّابُونِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً
نَبِيلًا، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَرْبِ بْنِ عِيسَى، أَبُو عُبَيْدِ بْنِ
حَرْبُوَيْهِ
الْقَاضِي بِمِصْرَ، تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِمِصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً جِدًّا،
وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا جَلِيلًا، مِنْ خِيَارِ الْقُضَاةِ وَأَعْدَلِهِمْ،
وَكَانَ يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
" طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ
" بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ وَكِفَايَةٌ، وَقَدِ اسْتَعْفَى عَنِ الْقَضَاءِ،
فَعُزِلَ عَنْهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَجَعَ إِلَى
بَغْدَادَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي صَفَرٍ،
وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ
فِي الصَّحِيحِ، وَلَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَهُ بِعِشْرِينَ سَنَةً، وَذَكَرَ مِنْ
جَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ
الزَّاهِدُ
حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَخْطُ فِيهَا خُطْوَةً
لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا نَظَرَ فِي شَيْءٍ فَاسْتَحْسَنَهُ ; حَيَاءً مِنَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُ مَكَثَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يُمْلِ عَلَى
مَلَكَيْهِ قَبِيحًا.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقُ
صَاحِبُ أَبِي عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيِّ، وَكَانَ فَقِيهًا يَتَكَلَّمُ عَلَى
الْمُعَامَلَاتِ.
وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ،
أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا
سَامِعُوهُ، وَمَنْ غَضَّ نَفْسَهُ عَنْ شُبْهَةٍ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ نُورًا
يَهْتَدِي بِهِ إِلَى طَرِيقِ مَرْضَاةِ اللَّهِ.
يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، أَبُو زَكَرِيَّا الْفَارِسِيُّ
كَتَبَ بِمِصْرَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا حَسَنَ
الصَّلَاةِ، عَدْلًا عِنْدَ الْحُكَّامِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا كَانَ مَقْتَلُ الْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ سَبَبُ
ذَلِكَ أَنَّ مُؤْنِسًا الْخَادِمَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ مُغَاضِبًا لِلْخَلِيفَةِ فِي مَمَالِيكِهِ وَحَشَمِهِ،
مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَرَدَّ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ مَوْلَاهُ
بُشْرَى إِلَى الْمُقْتَدِرِ لِيَسْتَعْلِمَ لَهُ، وَبَعَثَ مَعَهُ رِسَالَةً
يُخَاطِبُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا وَصَلَ أَمْرُهُ الْوَزِيرَ
الْحُسَيْنَ بْنَ الْقَاسِمِ - وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ أَعْدَاءِ مُؤْنِسٍ - بِأَنْ
يُؤَدِّيَهَا إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا إِلَّا إِلَى الْخَلِيفَةِ،
فَأَحْضَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهَا لِلْوَزِيرِ،
فَامْتَنَعَ، وَقَالَ: مَا أَمَرَنِي صَاحِبِي بِهَذَا. فَشَتَمَهُ الْوَزِيرُ
وَشَتَمَ صَاحِبَهُ، وَأَمَرَ بِضَرْبِهِ وَمُصَادَرَتِهِ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأَخَذَ خَطَّهُ بِهَا، وَأَمَرَ بِنَهْبِ دَارِهِ، ثُمَّ أَمَرَ
الْوَزِيرُ بِالْقَبْضِ عَلَى أَقْطَاعِ مُؤْنِسٍ وَأَمْلَاكِهِ وَأَمْلَاكِ مَنْ
مَعَهُ، فَحُصِّلَ مِنْ ذَلِكَ مَالٌ عَظِيمٌ، وَارْتَفَعَ أَمْرُ الْوَزِيرِ
عِنْدَ الْمُقْتَدِرِ، وَلَقَّبَهُ عَمِيدَ الدَّوْلَةِ، وَضَرَبَ اسْمَهُ عَلَى
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَتَمَكَّنَ مِنَ الْأُمُورِ جِدًّا، فَعَزَلَ
وَوَلَّى، وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ حِينًا قَلِيلًا. وَأَرْسَلَ
إِلَى هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ فِي الْحَالِ، وَإِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ
يَسْتَحْضِرُهُمَا إِلَى الْحَضْرَةِ، عِوَضًا عَنْ مُؤْنِسٍ، فَصَمَّمَ
الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ فِي مَسِيرِهِ إِلَى الْمَوْصِلِ وَجَعَلَ يَقُولُ
لِأُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ: إِنَّ الْخَلِيفَةَ قَدْ وَلَّانِي الْمَوْصِلَ
وَدِيَارَ رَبِيعَةَ. فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَجَعَلَ يُنْفِقُ فِيهِمُ
الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَلَهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَيَادٍ سَابِغَةٌ.
وَقَدْ كَتَبَ الْوَزِيرُ إِلَى آلِ حَمْدَانَ - وَهُمْ وَلَاةُ الْمَوْصِلِ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي - يَأْمُرُهُمْ بِمُحَارَبَةِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ
فَرَكِبُوا إِلَيْهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَوَاجَهَهُمْ مُؤْنِسٌ فِي
ثَمَانِمِائَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ وَخَدَمِهِ، فَهَزَمَهُمْ وَلَمْ يُقْتَلْ
مِنْهُمْ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، كَانَ مِنْ أَشْجَعِهِمْ،
وَقَدْ كَانَ مُؤْنِسٌ رَبَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ. وَدَخَلَ مُؤْنِسٌ الْمَوْصِلَ
فَقَصَدَتْهُ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَدْخُلُونَ فِي طَاعَتِهِ ;
لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالشَّامِ
وَمِصْرَ وَمِنَ الْأَعْرَابِ، حَتَّى صَارَ فِي جَحَافِلَ مِنَ الْجُنُودِ.
وَأَمَّا الْوَزِيرُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ، فَإِنَّهُ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ
وَعَجْزُهُ، فَعَزَلَهُ الْمُقْتَدِرُ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ، وَوَلَّى مَكَانَهُ
الْفَضْلَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، فَكَانَ آخِرَ وُزَرَاءِ
الْمُقْتَدِرِ. وَأَقَامَ مُؤْنِسٌ بِالْمَوْصِلِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ رَكِبَ
فِي الْجُيُوشِ فِي شَوَّالٍ قَاصِدًا بَغْدَادَ ; لِيُطَالِبَ الْمُقْتَدِرَ
بِأَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ وَإِنْصَافِهِمْ، فَسَارَ - وَقَدْ بَعَثَ بَيْنَ
يَدَيْهِ الطَّلَائِعَ - حَتَّى جَاءَ فَنَزَلَ بِبَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ مِنْ
بَغْدَادَ وَقَابَلَهُ عِنْدَهُ ابْنُ يَاقُوتَ وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ - عَنْ
كُرْهٍ مِنْهُ - وَأُشِيرَ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِأَنْ يَسْتَدِينَ مِنْ
وَالِدَتِهِ مَا يُنْفِقُ فِي الْأَجْنَادِ، فَقَالَ: لَمْ يَبْقَ عِنْدَهَا
شَيْءٌ، وَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْهَرَبِ إِلَى وَاسِطٍ وَأَنْ يَتْرُكَ
بَغْدَادَ لِمُؤْنِسٍ حَتَّى يَتَرَاجَعَ أَمْرُ النَّاسِ، ثُمَّ يَعُودُ
إِلَيْهَا. فَرَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ يَاقُوتَ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ
بِمُوَاجَهَةِ مُؤْنِسٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ مَتَى مَا رَأَوْهُ كَرُّوا
كُلُّهُمْ إِلَيْهِ، وَتَرَكُوا مُؤْنِسًا، فَرَكِبَ وَهُوَ كَارِهٌ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَمَعَهُمُ
الْمَصَاحِفُ مُنَشَّرَةً، وَعَلَيْهِ الْبُرْدُ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَوَقَفَ عَلَى تَلٍّ عَالٍ بَعِيدٍ مِنَ الْمَعْرَكَةِ وَنُودِيَ فِي جَيْشِهِ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِ أُمَرَاؤُهُ يَعْزِمُونَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَامْتَنَعَ مِنَ التَّقَدُّمِ إِلَى مَحَلَّةِ الْمَعْرَكَةِ، ثُمَّ أَلَحُّوا عَلَيْهِ، فَجَاءَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، فَمَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ حَتَّى انْهَزَمُوا وَفَرُّوا رَاجِعِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَلَا عَطَفُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ لَقِيَهُ مِنْ أُمَرَاءِ مُؤْنِسٍ عَلِيُّ بْنُ يَلْبَقَ، فَلَمَّا رَآهُ تَرَجَّلَ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَشَارَ عَلَيْكَ بِالْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، ثُمَّ وَكَّلَ بِهِ قَوْمًا مِنَ الْمَغَارِبَةِ الْبَرْبَرِ، فَلَمَّا تَرَكَهُمْ وَإِيَّاهُ شَهَرُوا عَلَيْهِ السِّلَاحَ، فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمْ ! أَنَا الْخَلِيفَةُ. فَقَالُوا: قَدْ عَرَفْنَاكَ يَا سَفِلَةُ، إِنَّمَا أَنْتَ خَلِيفَةُ إِبْلِيسَ، تُنَادِي فِي جَيْشِكَ: مَنْ جَاءَ بِرَأْسٍ فَلَهُ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَمَنْ جَاءَ بِأَسِيرٍ فَلَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ؟! وَضَرَبَهُ أَحَدُهُمْ بِسَيْفِهِ عَلَى عَاتِقِهِ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَذَبَحَهُ آخَرُ، وَتَرَكُوا جُثَّتَهُ، وَقَدْ سَلَبُوهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى سَرَاوِيلَهُ، وَبَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ مُجَدَّلًا عَلَى الْأَرْضِ، حَتَّى جَاءَ رَجُلٌ فَغَطَّى عَوْرَتَهُ بِحَشِيشٍ، ثُمَّ دَفَنَهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَفَّا أَثَرَهُ. وَأَخَذَتِ الْمَغَارِبَةُ رَأْسَ الْمُقْتَدِرِ عَلَى خَشَبَةٍ قَدْ رَفَعُوهَا وَهُمْ يَلْعَنُونَهُ، فَلَمَّا انْتَهَوْا بِهِ إِلَى مُؤْنِسٍ - وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا الْوَقْعَةَ - فَحِينَ نَظَرَ إِلَى رَأْسِ الْمُقْتَدِرِ لَطَمَ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ، وَقَالَ: وَيْلَكُمْ ! لَمْ آمُرْكُمْ بِهَذَا، لَعَنَكُمُ اللَّهُ قَتَلْتُمُوهُ ! وَاللَّهِ لَنُقْتَلَنَّ كُلَّنَا. ثُمَّ رَكِبَ وَوَقَفَ عِنْدَ دَارِ الْخِلَافَةِ حَتَّى لَا تُنْهَبَ، وَهَرَبَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ وَهَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ وَابْنَا رَائِقٍ إِلَى الْمَدَائِنِ، وَكَانَ صَنِيعُ مُؤْنِسٍ هَذَا سَبَبًا لِطَمَعِ أَصْحَابِ الْأَطْرَافِ فِي الْخُلَفَاءِ، وَضَعْفِ أَمْرِ الْخِلَافَةِ جِدًّا، مَعَ مَا كَانَ الْمُقْتَدِرُ يَعْتَمِدُهُ مِنَ التَّبْذِيرِ وَالتَّفْرِيطِ فِي الْأَمْوَالِ، وَطَاعَةِ النِّسَاءِ، وَعَزْلِ الْوُزَرَاءِ، حَتَّى
قِيلَ إِنَّ جُمْلَةَ مَا صَرَفَهُ فِي
الْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّبْذِيرِ مَا يُقَارِبُ ثَمَانِينَ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
هُوَ جَعْفَرٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ بْنُ الْمُعْتَضِدِ
بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ جَعْفَرٍ
الْمُتَوَكِّلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمَهْدِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يُكَنَّى أَبَا
الْفَضْلِ الْعَبَّاسِيَّ، مَوْلِدُهُ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ بَقِينَ
مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأُمُّهُ أُمُّ
وَلَدٍ اسْمُهَا شَغَبُ، وَلُقِّبَتْ فِي خِلَافَةِ وَلَدِهَا بِالسَّيِّدَةِ،
بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ أَخِيهِ الْمُكْتَفِي يَوْمَ الْأَحَدِ
لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةٍ وَشَهْرٍ
وَأَيَّامٍ ; وَلِهَذَا أَرَادَ الْجُنْدُ خَلْعَهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
سَنَةِ سِتٍّ وَتِسْعِينَ مُحْتَجِّينَ بِصِغَرِهِ وَعَدَمِ بُلُوغِهِ،
وَتَوْلِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ،
وَانْتَقَضَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَمَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ لَمَّا كَانَ
شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
أَحْضَرَهُ مُؤْنِسٌ وَاجْتَمَعَ الْأُمَرَاءُ وَالْقُوَّادُ وَأَلْزَمُوهُ
بِخَلْعِ نَفْسِهِ، وَأَحْضَرُوا أَخَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ،
فَبَايَعُوهُ بِالْخِلَافَةِ وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ، فَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ
سِوَى يَوْمَيْنِ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُقْتَدِرُ إِلَى الْخِلَافَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا.
وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، حَسَنَ
الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ، بَعِيدَ
مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، حَسَنَ الشَّعْرِ، مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، مُشْرَبًا
بِحُمْرَةٍ، حَسَنَ الْخُلُقِ، قَدْ شَابَ رَأْسُهُ وَعَارِضَاهُ، وَقَدْ كَانَ
كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا، لَهُ عَقْلٌ جَيِّدٌ وَفَهْمٌ وَافِرٌ وَذِهْنٌ
صَحِيحٌ.
وَقَدْ كَانَ كَثِيرَ التَّحَجُّبِ وَالتَّوَسُّعِ فِي النَّفَقَاتِ، وَزَادَ فِي
رُسُومِ الْخِلَافَةِ وَأُمُورِ الرِّيَاسَةِ، وَمَا زَادَ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ.
كَانَ فِي دَارِهِ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفِ خَادِمٍ خَصِيٍّ، غَيْرَ الصَّقَالِبَةِ
وَالرُّومِ وَالسُّودَانِ، وَكَانَ لَهُ دَارٌ يُقَالُ لَهَا: دَارُ الشَّجَرَةِ،
فِيهَا مِنَ الْأَثَاثِ وَالْأَمْتِعَةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، كَمَا ذَكَرْنَا
ذَلِكَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ.
وَقَدْ رَكِبَ الْمُقْتَدِرُ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ، وَجَعَلَ يَسْتَعْجِلُ الطَّعَامَ
فَأَبْطَئُوا بِهِ، فَقَالَ لِمَلَّاحِ حَرَّاقَتِهِ: وَيْلَكَ ! أَعِنْدَكَ
شَيْءٌ نَأْكُلُهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْ لَحْمِ الْجَدْيِ
وَخُبْزٍ حَسَنٍ وَمُلُوحَاتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَعْجَبَهُ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ،
فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلْوَاءِ ; فَإِنِّي لَا أُحِسُّ
بِالشِّبَعِ حَتَّى آكُلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلْوَاءِ ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا حَلَاوَتُنَا التَّمْرُ وَالْكَسْبُ. فَقَالَ: هَذَا
شَيْءٌ لَا أُطِيقُهُ. ثُمَّ جِيءَ بِطَعَامِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأُتِيَ
بِالْحَلْوَاءِ، فَأَكَلَ وَأَطْعَمَ الْمَلَّاحِينَ، وَأَمَرَ بِتَرْتِيبِ
حَلَاوَةٍ تُعْمَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَكُونُ فِي الْحَرَّاقَةِ بِنَحْوِ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، إِذَا اتَّفَقَ رُكُوبُهُ فِيهَا يَأْكُلُ مِنْهَا، فَكَانَ
الْمَلَّاحُ يَأْخُذُ ذَلِكَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُدَّةَ سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ،
وَلَمْ يَتَّفِقْ رُكُوبُ الْمُقْتَدِرِ فِيهَا مَرَّةً أُخْرَى.
وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُ خَوَاصِّهِ أَنْ يُطَهِّرَ وَلَدَهُ، فَعَمِلَ أَشْيَاءَ
هَائِلَةً، ثُمَّ طَلَبَ مِنْ أُمِّ
الْخَلِيفَةِ أَنْ يُعَارَ الْقَرْيَةَ
الَّتِي عُمِلَتْ فِي طُهُورِ الْمُقْتَدِرِ مِنْ فِضَّةٍ ; لِيَرَاهَا النَّاسُ
فِي هَذَا الْمُهِمِّ، فَتَلَطَّفَتْ أُمُّ الْمُقْتَدِرِ عِنْدَهُ حَتَّى
أَطْلَقَهَا لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَانَتْ صِفَةَ قَرْيَةٍ مِنَ الْقُرَى
كُلُّهَا مِنْ فِضَّةٍ، بُيُوتُهَا، وَأَهَالِيهَا، وَأَبْقَارُهَا،
وَأَغْنَامُهَا، وَجِمَالُهَا، وَخُيُولُهَا، وَزُرُوعُهَا، وَثِمَارُهَا،
وَأَنْهَارُهَا، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي الْقُرَى، الْجَمِيعُ
مِنْ فِضَّةٍ مُصَوَّرٌ، وَأَمَرَ بِنَقْلِ سِمَاطِهِ إِلَى دَارِ هَذَا
الرَّجُلِ، وَأَنْ لَا يُكَلَّفَ شَيْئًا مِنَ الْمَطَاعِمِ سِوَى سَمَكٍ طَرِيٍّ
فَاشْتَرَى الرَّجُلُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ سَمَكًا، وَكَانَ جُمْلَةُ مَا
أُنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى سِمَاطِ الْمُقْتَدِرِ يَوْمَئِذٍ أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ.
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ
وَأَرْبَابِ الْوَظَائِفِ، وَكَانَ كَثِيرَ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالْعِبَادَةِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤْثِرًا لِشَهَوَاتِهِ، مُطِيعًا
لِحَظِيَّاتِهِ، كَثِيرَ التَّلَوُّنِ وَالْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ، وَمَا زَالَ
ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى كَانَ هَلَاكُهُ عَلَى يَدَيْ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ كَمَا
ذَكَرْنَا، فَقُتِلَ عِنْدَ بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ -
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَشَهْرٌ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ
شَهْرًا وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَكَانَ أَكْثَرَ مُدَّةً مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ
مِنَ الْخُلَفَاءِ.
خِلَافَةُ الْقَاهِرِ
لَمَّا قُتِلَ الْمُقْتَدِرُ بِاللَّهِ كَمَا ذَكَرْنَا عَزْمَ مُؤْنِسٌ
الْخَادِمُ عَلَى تَوْلِيَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بَعْدَ أَبِيهِ ; لِيُطَيِّبَ قَلْبَ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ جُمْهُورُ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُمَرَاءِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ: بَعْدَ التَّعَبِ وَالْكَدِّ نُبَايِعُ لِخَلِيفَةٍ لَهُ أَمٌّ وَخَالَاتٌ يُطِيعُهُنَّ وَيُشَاوِرُهُنَّ ؟! ثُمَّ أَحْضَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُعْتَضِدِ - وَهُوَ أَخُو الْمُقْتَدِرِ - فَبَايَعَهُ الْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ، وَلَقَّبُوهُ الْقَاهِرَ بِاللَّهِ، وَذَلِكَ فِي سَحَرِ يَوْمِ الْخَمِيسِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتُوزِرَ لَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، ثُمَّ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْخَصِيبُ وَشَرَعَ الْقَاهِرُ فِي مُصَادَرَةِ أَصْحَابِ الْمُقْتَدِرِ وَتَتَبُّعِ أَوْلَادِهِ، وَاسْتَدْعَى بِأُمِّ الْمُقْتَدِرِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ بِالِاسْتِسْقَاءِ، وَقَدْ تَزَايَدَ بِهَا الْوَجَعُ مِنْ شِدَّةِ جَزَعِهَا عَلَى وَلَدِهَا حِينَ بَلَغَهَا قَتْلُهُ، وَكَيْفَ بَقِيَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، فَبَقِيَتْ أَيَّامًا لَا تَأْكُلُ شَيْئًا، ثُمَّ وَعَظَهَا النِّسَاءُ حَتَّى أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنَ الْخُبْزِ وَالْمِلْحِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ اسْتَدْعَى بِهَا الْقَاهِرُ، فَقَرَّرَهَا عَلَى أَمْوَالِهَا، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْحُلِيِّ وَالْمَصَاغِ وَالثِّيَابِ، وَلَمْ تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْجَوَاهِرِ، وَقَالَتْ لَهُ: لَوْ كَانَ عِنْدِي مِنْ هَذَا شَيْءٌ مَا سَلَّمْتُ وَلَدِي. فَأَمَرَ بِضَرْبِهَا وَعُلِّقَتْ بِرِجْلَيْهَا وَمَسَّهَا بِعَذَابٍ شَدِيدٍ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَأَشْهَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِبَيْعِ أَمْلَاكِهَا، فَأَخَذَهُ الْجُنْدُ مِمَّا يُحَاسِبُونَ بِهِ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ، وَأَرَادَهَا عَلَى بَيْعِ أَوْقَافِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَبَتْ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَاسْتَدْعَى الْقَاهِرُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَوْلَادِ الْمُقْتَدِرِ، مِنْهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الرَّاضِي، وَهَارُونُ، وَالْعَبَّاسُ، وَعَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ، وَإِبْرَاهِيمُ، فَأَمَرَ بِمُصَادَرَتِهِمْ وَحَبْسِهِمْ وَسَلَّمَهُمْ إِلَى حَاجِبِهِ عَلِيِّ بْنِ يَلْبَقَ، وَتَمَكَّنَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَعَزَلَ وَوَلَّى، وَأَخَذَ وَأَعْطَى أَيَّامًا، وَمَنَعَ
بَنِي الْبَرِيدِيِّ مِنْ
أَعْمَالِهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جَوْصَاءَ، أَبُو الْحَسَنِ الدِّمَشْقِيُّ
أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ الْحُفَّاظِ، وَالرُّوَاةِ الْأَيْقَاظِ.
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَطْحَاءَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، أَبُو إِسْحَاقَ التَّمِيمِيُّ
الْمُحْتَسِبُ بِبَغْدَادَ، رَوَى عَنْ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ وَعَلِيِّ بْنِ
حَرْبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا، مَرَّ يَوْمًا عَلَى بَابِ
الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ وَالْخُصُومُ عُكُوفٌ عَلَى
بَابِهِ، وَالشَّمْسُ قَدِ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ حَاجِبَهُ إِلَيْهِ
يَقُولُ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَخْرُجَ فَتَفْصِلَ بَيْنَهُمْ، وَإِمَّا أَنْ
تَبْعَثَ فَتَعْتَذِرَ إِلَيْهِمْ إِنْ كَانَ لَكَ عُذْرٌ، حَتَّى يَعُودُوا
إِلَيْكَ بَعْدَ هَذَا الْوَقْتِ.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ، هُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ
صَالِحِ بْنِ خَيْرَانَ أَبُو عَلِيٍّ، الْفَقِيهُ الْكَبِيرُ الْوَرِعُ
الْبَارِعُ، عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبُ
الْقَضَاءِ فَلَمْ يَقْبَلْ، فَخَتَمَ
الْوَزِيرُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى عَلَى بَابِهِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَلَمْ يَجِدْ أَهْلُهُ مَاءً إِلَّا مِنْ بُيُوتِ الْجِيرَانِ، وَهُوَ
مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَتَمَنَّعُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَلِ لَهُمْ
شَيْئًا، فَقَالَ الْوَزِيرُ: إِنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُعَلِّمَ النَّاسَ أَنَّ
بِبَلَدِنَا وَفِي مَمْلَكَتِنَا مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْقُضَاةِ شَرْقًا
وَغَرْبًا فَلَمْ يَقْبَلْ. وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ
الشَّافِعِيَّةِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ، الْفَقِيهُ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحُفَّاظِ الْمُحَدِّثِينَ، وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي بِبَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا فِي سَائِرِ الْبِلَادِ،
كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَفَصَاحَةً وَبَلَاغَةً
وَعَقْلًا وَرِيَاسَةً، بِحَيْثُ كَانَ يُضْرَبُ بِعَقْلِهِ وَحِلْمِهِ الْمَثَلُ،
وَقَدْ رَوَى الْكَثِيرَ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَحَمَلَ النَّاسُ عَنْهُ عِلْمًا كَثِيرًا مِنَ
الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، وَقَدْ جُمِعَ لَهُ قَضَاءُ الْقُضَاةِ فِي سَنَةِ سَبْعَ
عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَجَمَعَ مُسْنَدًا حَافِلًا،
وَكَانَ إِذَا جَلَسَ لِلْحَدِيثِ، جَلَسَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ عَنْ
يَمِينِهِ، وَهُوَ
قَرِيبٌ مِنْ سِنِّ أَبِيهِ، وَعَنْ
يَسَارِهِ ابْنُ صَاعِدٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ،
وَسَائِرُ الْحُفَّاظِ حَوْلَ سَرِيرِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ.
قَالُوا: وَلَمْ يُنْتَقَدْ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهِ أَخْطَأَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ صَوَابِ أَحْكَامِهِ قَتْلُهُ الْحُسَيْنَ بْنَ
مَنْصُورٍ الْحَلَّاجَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ
تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ كَانَ جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ، حَسَنَ الْمُعَاشَرَةِ، اجْتَمَعَ يَوْمًا
عِنْدَ أَصْحَابِهِ، فَجِيءَ بِثَوْبٍ فَاخِرٍ لِيَشْتَرِيَهُ بِنَحْوٍ مَنْ
خَمْسِينَ دِينَارًا، فَاسْتَحْسَنَهُ الْحَاضِرُونَ، فَاسْتَدْعَى
بِالْقَلَانِسِيِّ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الثَّوْبَ قَلَانِسَ بِعَدَدِ
الْحَاضِرِينَ. وَلَهُ مَنَاقِبُ وَمَحَاسِنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ
إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا أَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ رَجُلًا كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ
بِدِجْلَةَ، فَضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَلْفَ سَوْطٍ، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ
وَقُطِعَتْ أَيْدِيَ أَصْحَابِهِ وَأَرْجُلُهُمْ.
وَفِيهَا أَمَرَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ بِإِبْطَالِ الْخَمْرِ وَالْمَغَانِي
وَالْقِيَانِ، وَأَمَرَ بِبَيْعِ الْجَوَارِي الْمُغَنِّيَاتِ فِي سُوقِ النَّخْسِ
عَلَى أَنَّهُنَّ سَوَاذِجُ، قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَإِنَّمَا فَعَلَ
الْقَاهِرُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُحِبًّا لِلْغِنَاءِ، فَأَرَادَ أَنْ
يَشْتَرِيَ الْجَوَارِيَ الْمُغَنِّيَاتِ بِأَرْخَصِ الْأَثْمَانِ، نُعَوذُ
بِاللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ.
وَفِيهَا أَشَاعَتِ الْعَامَّةُ بَيْنَهُمْ بِأَنَّ الْحَاجِبَ عَلِيَّ بْنِ
يَلْبَقَ يُرِيدُ أَنْ يَلْعَنَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمَنَابِرِ، فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ الْحَاجِبَ بَعَثَ إِلَى رَئِيسِ الْحَنَابِلَةِ أَبِي مُحَمَّدٍ
الْبَرْبَهَارِيِّ الْوَاعِظِ لِيُقَابِلَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَهَرَبَ وَاخْتَفَى،
فَأَمَرَ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَحُدِرُوا إِلَى الْبَصْرَةِ.
وَفِيهَا عَظَّمَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ وَخَاطَبَهُ
بِالِاحْتِرَامِ وَالْإِكْرَامِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ وَمُؤْنِسًا الْخَادِمَ
وَعْلَيَّ بْنَ يَلْبَقَ وَجَمَاعَةً مِنَ الْأُمَرَاءِ اشْتَوَرُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ عَلَى خَلْعِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ وَتَوْلِيَةِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ
الْمُكْتَفِي، وَبَايَعُوهُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ سِرًّا، وَضَيَّقُوا عَلَى الْقَاهِرِ بِاللَّهِ فِي رِزْقِهِ وَمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ، وَأَرَادُوا الْقَبْضَ عَلَيْهِ سَرِيعًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ عَلَى يَدَيْ طَرِيفٍ السُّبْكَرِيِّ، فَسَعَى فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَوَقَعَ فِي مَخَالِيبِهِ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ الْمُظَفَّرُ مُؤْنِسٌ الْخَادِمُ وَأَمَرَ بِحَبْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ، وَالِاحْتِيَاطِ عَلَى دُورِهِ وَأَمْلَاكِهِ، وَكَانَتْ فِيهِ عَجَلَةٌ وَجُرْأَةٌ وَهَوَجٌ وَخَرَقٌ شَدِيدٌ، وَجَعَلَ فِي مَنْزِلَتِهِ - إِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ وَرِيَاسَةِ الْجَيْشِ - طَرِيفًا السُّبْكَرِيَّ، وَقَدْ كَانَ أَحَدَ الْأُمَرَاءِ عِنْدَ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَقَبَضَ عَلَى يَلْبَقَ، وَاخْتَفَى وَلَدُهُ عَلِيُّ بْنُ يَلْبَقَ، وَكَذَا هَرَبَ الْوَزِيرُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَاسْتَوْزَرَ بَدَلَهُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ فِي مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ دَارِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَوَقَعَ النَّهْبُ بِبَغْدَادَ، وَهَاجَتِ الْفِتْنَةُ، وَأَمَرَ الْقَاهِرُ بِأَنْ يُجْعَلَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ الْمُكْتَفِي بَيْنَ حَائِطَيْنِ، وَيُسَدَّ عَلَيْهِ بِالْآجُرِّ وَالْكِلْسِ وَهُوَ حَيٌّ، فَمَاتَ، وَأُرْسِلَ إِلَى الْمُخْتَفِينَ فَنَادَى: إِنَّ مَنْ أَخْفَاهُمْ خُرِّبَتْ دَارُهُ. فَوَقَعَ بِعَلِيِّ بْنِ يَلْبَقَ فَقَتَلَهُ، ذُبِحَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ، فَأُخِذَ رَأْسُهُ فِي طَسْتٍ، وَدَخَلَ الْقَاهِرُ بِنَفْسِهِ عَلَى أَبِيهِ يَلْبَقَ، فَوَضَعَ الرَّأْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ بَكَى، وَأَخَذَ يُقَبِّلُهُ وَيَتَرَشَّفُهُ، فَأَمَرَ بِذَبْحِهِ أَيْضًا فَذُبِحَ، ثُمَّ أَخَذَ الرَّأْسَيْنِ فِي طَسْتَيْنِ، فَدَخَلَ بِهِمَا عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ فَلَمَّا رَآهُمَا تَشَهَّدَ وَلَعَنَ قَاتِلَهُمَا، فَقَالَ الْقَاهِرُ عِنْدَ ذَلِكَ: جُرُّوا بِرِجْلِ الْكَلْبِ. فَأُخِذَ فَذُبِحَ أَيْضًا، وَأُخِذَ رَأْسُهُ فَوُضِعَ فِي طَسْتٍ، وَطِيفَ بِالرُّءُوسِ فِي بَغْدَادَ وَنُودِيَ عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ يَخُونُ الْإِمَامَ، وَيَسْعَى فِي الدَّوْلَةِ فَسَادًا. ثُمَّ أُعِيدَتِ الرُّءُوسُ إِلَى خَزَائِنِ السِّلَاحِ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبَضَ
الْقَاهِرُ عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَجَنَهُ، وَكَانَ مَرِيضًا بِالْقُولَنْجِ، فَبَقِيَ
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمَاتَ، فَكَانَتْ وِزَارَتُهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ
وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَاسْتَوْزَرَ مَكَانَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْخَصِيبِيَّ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَى
طَرِيفٍ السَّبْكَرِيِّ وَسَجَنَهُ، فَلَمْ يَزَلِ السَّبْكَرِيُّ فِيهِ حَتَّى
خُلِعَ الْقَاهِرُ.
وَفِيهَا جَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ تِكِينِ الْخَاصَّةِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَأَنَّ
ابْنَهُ مُحَمَّدًا قَدْ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ فِيهَا، وَسَارَتِ الْخِلَعُ
إِلَيْهِ مِنَ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ تَنْفِيذًا لِوِلَايَتِهِ وَاسْتِقْرَارِهَا.
ذِكْرُ ابْتِدَاءِ أَمْرِ بَنِي بُوَيْهِ وَظُهُورِ دَوْلَتِهِمْ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ
وَهُمْ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ ; عِمَادُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ،
وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ، وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو
الْحَسَنِ أَحْمَدُ، أَوْلَادُ أَبِي شُجَاعٍ بُوَيْهِ بْنِ فَنَّاخُسْرُو بْنِ
تَمَّامِ بْنِ كُوهَى بْنِ شِيرِزِيلَ الْأَصْغَرِ بْنِ شِيرِكِنْدَةَ بْنِ
شِيرِزِيلَ الْأَكْبَرِ بْنِ شِيرَانَ شَاهِ بْنِ شِيرَفَنَّهِ بْنِ سَسْتَانَ
شَاهَ بْنِ سِيسَ بْنِ فَيْرُوزَ بْنِ
شَرْوَزِيلَ بْنِ سَسْنَاذَرَ بْنِ بَهْرَامَ جُورَ الْمَلِكِ بْنِ يَزْدَجِرْدَ الْمَلِكِ بْنِ سَابُورَ الْمَلِكِ بْنِ سَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ الْفَارِسِيِّ. كَذَا نَسَبَهُمُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا فِي " كِتَابِهِ ". وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمُ: الدَّيَالِمَةُ ; لِأَنَّهُمْ جَاوَرُوا الدَّيْلَمَ، وَكَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُدَّةً، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُمْ أَبُو شُجَاعٍ بُوَيْهِ فَقِيرًا مُدْقِعًا، يَصْطَادُ السَّمَكَ وَيَحْتَطِبُ بَنُوهُ الْحَطَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَمَاتَتِ امْرَأَتُهُ، وَخَلَّفَتْ لَهُ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادَ الثَّلَاثَةَ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ شَهْرِيَارُ بْنُ رُسْتُمَ الدَّيْلَمِيُّ، إِذْ مَرَّ مُنَجِّمٌ فَاسْتَدْعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ مَنَامًا غَرِيبًا ; رَأَيْتُ كَأَنِّي أَبُولُ فَخَرَجَ مِنْ ذَكَرِي نَارٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى كَادَتْ تَبْلُغُ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ انْفَرَقَتْ ثَلَاثَ شُعَبٍ، ثُمَّ انْتَشَرَتْ كُلُّ شُعْبَةٍ إِلَى شُعَبٍ كَثِيرَةٍ، فَأَضَاءَتِ الدُّنْيَا بِتِلْكَ النَّارِ، وَرَأَيْتُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ قَدْ خَضَعَتْ لِهَذِهِ النَّارِ. فَقَالَ لَهُ الْمُنَجِّمُ: هَذَا مَنَامٌ عَظِيمٌ لَا أُفَسِّرُهُ لَكَ إِلَّا بِمَالٍ جَزِيلٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا شَيْءَ عِنْدِي أُعْطِيكَ، وَلَا أَمْلِكُ غَيْرَ فَرَسِي هَذِهِ. فَقَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ صُلْبِكَ ثَلَاثَةُ مُلُوكٍ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ سُلَالَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُلُوكٌ عِدَّةٌ. فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! أَتَسْخَرُ بِي ؟ وَأَمَرَ بَنِيهِ فَصَفَعُوهُ، ثُمَّ أَعْطَاهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ لَهُمُ الْمُنَجِّمُ: اذْكُرُوا هَذَا إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ مُلُوكٌ. وَخَرَجَ وَتَرَكَهُمْ. وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةَ الثَّلَاثَةَ كَانُوا عِنْدَ مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ: مَاكَانُ بْنُ كَالِي. فِي بِلَادِ
طَبَرِسْتَانَ فَتَسَلَّطَ عَلَيْهِ
مَرْدَاوِيجُ، فَضَعُفَ أَمْرُ مَاكَانَ، فَشَاوَرُوهُ فِي مُفَارَقَتِهِ حَتَّى
يَكُونَ مِنْ أَمْرِهِ خَيْرٌ، فَخَرَجُوا عَنْهُ وَمَعَهُمْ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ، فَصَارُوا إِلَى مَرْدَاوِيجَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَاسْتَعْمَلَهُمْ
عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الْبُلْدَانِ، فَأَعْطَى عِمَادَ الدَّوْلَةِ عَلِيَّ بْنَ
بُوَيْهِ نِيَابَةَ الْكَرَجِ، فَأَحْسَنَ فِيهَا السِّيرَةَ، وَالْتَفَّ عَلَيْهِ
النَّاسُ وَأَحَبُّوهُ، فَحَسَدَهُ مَرْدَاوِيجُ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ يَعْزِلُهُ
عَنْهَا، وَيَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ، فَامْتَنَعَ مِنَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ،
وَصَارَ إِلَى أَصْبَهَانَ فَحَارَبَهُ نَائِبُهَا، فَقَهَرَهُ عِمَادُ
الدَّوْلَةِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا كَانَ مَعَهُ تِسْعُمِائَةِ
فَارِسٍ، فَرَدَّ بِهَا عَشْرَةَ آلَافٍ، وَعَظُمَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ،
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مَرْدَاوِيجَ قَلِقَ مِنْهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ جَيْشًا،
فَأَخْرَجُوهُ مِنْ أَصْبَهَانَ وَقَصَدَ أَرَّجَانَ فَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا،
وَحُصِّلَ لَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، ثُمَّ أَخَذَ بُلْدَانًا
كَثِيرَةً، وَاشْتُهِرَ أَمْرُهُ وَبَعُدَ صِيتُهُ وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُ،
وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنَ الْجُنْدِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ، وَقَدْ آلَ
بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنْ مَلَكُوا بَغْدَادَ مِنْ أَيْدِي الْخُلَفَاءِ
الْعَبَّاسِيِّينَ، لَهُمُ الْقَطْعُ وَالْوَصْلُ، وَالْوِلَايَةُ وَالْعَزْلُ،
وَإِلَيْهِمْ تُجْبَى الْأَمْوَالُ، وَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ
وَالْأَحْوَالِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ وَالْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الطَّحَاوِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيُّ
نِسْبَةً إِلَى طَحَا وَهِيَ قَرْيَةٌ بِصَعِيدِ مِصْرَ، الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ،
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ وَالْفَوَائِدِ، وَهُوَ أَحَدُ الثِّقَاتِ
الْأَثْبَاتِ، وَالْحُفَّاظِ الْجَهَابِذَةِ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ الْمُزَنِيِّ -
رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَذَكَرَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ أَنَّهُ وُلِدَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ
وَمِائَتَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّ سَبَبَ
انْتِقَالِهِ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُجُوعِهِ عَنْ مَذْهَبِ خَالِهِ
الْمُزَنِيِّ، أَنَّ خَالَهُ قَالَ لَهُ يَوْمًا: وَاللَّهِ لَا يَجِيءُ مِنْكَ
شَيْءٌ. فَغَضِبَ وَاشْتَغَلَ عَلَى أَبِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ
الْحَنَفِيِّ، حَتَّى بَرَعَ وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَصَنَّفَ كُتُبًا
كَثِيرَةً مِنْهَا " أَحْكَامُ الْقُرْآنِ " وَ " اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ
" وَ " مَعَانِي الْآثَارِ " وَ " التَّارِيخُ الْكَبِيرُ
" وَلَهُ فِي الشُّرُوطِ كِتَابٌ، وَكَانَ بَارِعًا فِيهَا. وَقَدْ كَتَبَ
لِلْقَاضِي أَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدَةَ، وَعَدَّلَهُ
الْقَاضِي أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ. وَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ
الْمُزَنِيَّ، لَوْ كَانَ حَيًّا لَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُسْتَهَلِّ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ،
وَقَبْرُهُ مَشْهُورٌ بِهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَتَرْجَمَهُ ابْنُ
عَسَاكِرَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ قَدِمَ دِمَشْقَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَأَخَذَ الْفِقْهَ
عَنْ قَاضِيهَا أَبِي خَازِمٍ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ النَّضْرِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ زَرْبِيٍّ، أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي حَامِدٍ
صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ، سَمِعَ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَخَلْقًا، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا جَوَادًا مُمَدَّحًا،
اتَّفَقَ فِي أَيَّامِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَتْ لَهُ
جَارِيَةٌ يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا، فَرَكِبَتْهُ دُيُونٌ كَثِيرَةٌ اقْتَضَى
الْحَالُ أَنْ بَاعَ تِلْكَ الْجَارِيَةَ فِي الدَّيْنِ، فَلَمَّا قَبَضَ
ثَمَنَهَا نَدِمَ نَدَامَةً عَظِيمَةً جِدًّا، وَبَقِيَ مُتَحَيِّرًا فِي
أَمْرِهِ، فَبَاعَهَا الَّذِي كَانَتْ عِنْدَهُ، فَبَلَغَ سَيِّدَهَا أَنَّ
الْجَارِيَةَ قَدِ اشْتَرَاهَا ابْنُ أَبِي حَامِدٍ صَاحِبُ بَيْتِ الْمَالِ،
فَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ بِبَعْضِ أَصْحَابِهِ فِي أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ
بِثَمَنِهَا، فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شُعُورٌ بِهَا،
وَذَلِكَ أَنَّ امْرَأَتَهُ كَانَتِ اشْتَرَتْهَا لَهُ، وَلَمْ تُعْلِمْهُ بَعْدُ
بِأَمْرِهَا حَتَّى تَحِلَّ مِنَ اسْتِبْرَائِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ
آخِرَهُ، فَلَبَّسُوهَا الْحُلِيَّ وَالْمَصَاغَ، وَصَنَعُوهَا لَهُ، وَحِينَ
شُفِعَ عِنْدَهُ فِي أَمْرِهَا بُهِتَ ; لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا، ثُمَّ دَخَلَ
يَسْتَكْشِفُ خَبَرَهَا مِنْ مَنْزِلِهِ، فَإِذَا بِهَا قَدْ هُيِّئَتْ لَهُ
وَزُخْرِفَتْ، فَفَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا إِذْ وَجَدَهَا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
الرَّجُلِ، فَأَخْرَجَهَا مَعَهُ وَهُوَ يُظْهِرُ السُّرُورَ، فَقَالَ
لِسَيِّدِهَا: هَذِهِ جَارِيَتُكَ ؟ فَلَمَّا رَآهَا اضْطَرَبَ كَلَامُهُ،
وَاخْتَلَطَ فِي عَقْلِهِ مِمَّا رَأَى مِنْ حُسْنِ مَنْظَرِهَا وَهَيْئَتِهَا،
وَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: خُذْهَا، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا. فَفَرِحَ الْفَتَى
فَرَحًا شَدِيدًا، وَقَالَ: يَا سَيِّدِي، تَأْمُرُ مَنْ يَحْمِلُ مَعِي الْمَالَ
؟ فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ، وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ، فَإِنِّي
أَخْشَى إِنْ لَمْ يَبْقَ مَعَكَ
شَيْءٌ أَنْ تَبِيعَهَا ثَانِيَةً مِمَّنْ لَا يَرُدُّهَا عَلَيْكَ. فَقَالَ: يَا
سَيِّدِي، فَهَذَا الْحُلِيُّ وَالْمَصَاغُ الَّذِي عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ: هَذَا
شَيْءٌ وَهَبْنَاهُ لَهَا لَا نَعُودُ فِيهِ أَبَدًا. فَاشْتَدَّ فَرَحُ الْفَتَى،
وَأَخَذَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا وَدَّعَ ابْنُ أَبِي حَامِدٍ قَالَ لِلْجَارِيَةِ:
أَيُّمَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكِ ; نَحْنُ أَوْ سَيِّدُكِ هَذَا ؟ فَقَالَتْ:
أَمَّا أَنْتُمْ فَأَغْنَيْتُمُونِي، فَجَزَاكُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَمَّا
سَيِّدِي هَذَا، فَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ مِنْهُ مَا مَلَكَ مِنِّي لَمْ أَبِعْهُ
بِالْأَمْوَالِ الْجَزِيلَةِ. فَاسْتَحْسَنَ الْحَاضِرُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهَا
مَعَ صِغَرِ سِنِّهَا.
شَغَبُ أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ الْمُلَقَّبَةُ
بِالسَّيِّدَةِ
كَانَ دَخْلُ أَمْلَاكِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَتْ
تَتَصَدَّقُ بِأَكْثَرِ ذَلِكَ عَلَى الْحَجِيجِ فِي أَشْرِبَةٍ وَأَزْوَادٍ
وَأَطِبَّاءَ يَكُونُونَ مَعَهُمْ، وَتَسْهِيلِ الطُّرُقَاتِ وَالْمَوَارِدِ.
وَكَانَتْ فِي غَايَةِ الْحِشْمَةِ وَالرِّيَاسَةِ وَنُفُوذِ الْكَلِمَةِ أَيَّامَ
خِلَافَةِ وَلَدِهَا، فَلَمَّا قُتِلَ كَانَتْ مَرِيضَةً فَزَادَهَا مَرَضًا إِلَى
مَرَضِهَا، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْقَاهِرِ فِي الْخِلَافَةِ - وَهُوَ
ابْنُ زَوْجِهَا الْمُعْتَضِدِ وَأَخُو ابْنِهَا، وَقَدْ كَانَتْ حَضَنَتْهُ حِينَ
تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ، وَخَلَّصَتْهُ مِنَ ابْنِهَا لَمَّا كَانَ مُؤْنِسٌ قَدْ
بَايَعَهُ وَلَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ - عَاقَبَهَا الْقَاهِرُ عُقُوبَةً عَظِيمَةً
جِدًّا، حَتَّى كَانَ يُعَلِّقُهَا بِرِجْلِهَا وَرَأْسُهَا مَنْكُوسٌ، فَرُبَّمَا
بَالَتْ، فَيَنْحَدِرُ عَلَى وَجْهِهَا ; لِيُقَرِّرَهَا عَلَى الْأَمْوَالِ
الَّتِي فِي يَدِهَا، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا شَيْئًا سِوَى ثِيَابِهَا وَمَصَاغِهَا وَحُلِيِّهَا
فِي صَنَادِيقَ لَهَا، قِيمَتُهَا مِائَةُ أَلْفٍ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ،
وَجَمِيعُ مَا كَانَ يَدْخُلُهَا تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَوَقَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَلَكِنْ كَانَ لَهَا
أَمَلَاكٌ أَمَرَ بِبَيْعِهَا، وَأَتَى
بِالشُّهُودِ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهَا بِالتَّوْكِيلِ فِي بَيْعِهَا، فَامْتَنَعَ
الشُّهُودُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حَتَّى يُحَلُّوهَا، فَرُفِعَ السِّتْرُ
بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، فَقَالُوا لَهَا: أَنْتِ شَغَبُ جَارِيَةُ الْمُعْتَضِدِ
أُمُّ جَعْفَرٍ الْمُقْتَدِرِ ؟ فَبَكَتْ بُكَاءً طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَتْ:
نَعَمْ. وَكَتَبُوا حِلْيَتَهَا، عَجُوزٌ، سَمْرَاءُ اللَّوْنِ، دَقِيقَةُ
الْجَبِينِ. وَبَكَى الشُّهُودُ وَتَفَكَّرُوا فِي تَقَلُّبِ الزَّمَانِ،
وَتَنَقُّلِ الْحَدَثَانِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهَا فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَتْ بِالرُّصَافَةِ. رَحِمَهَا اللَّهُ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ سَلَامِ بْنِ
خَالِدِ بْنِ حُمْرَانَ بْنِ أَبَانٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَهُوَ
أَبُو هَاشِمِ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْجَبَائِيُّ
الْمُتَكَلِّمُ ابْنُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُعْتَزِلِيُّ ابْنُ الْمُعْتَزِلِيِّ،
وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْبَهْشَمِيَّةُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ
فِي الِاعْتِزَالِ كَمَا لِأَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَ لَهُ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو
عَلِيٍّ. دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الصَّاحِبِ بْنِ عَبَّادَ فَأَكْرَمَهُ
وَاحْتَرَمَهُ، وَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: ( لَا أَعْرِفُ ) نِصْفُ
الْعِلْمِ. فَقَالَ: صَدَقْتَ وَسَبَقَكَ أَبُوكَ إِلَى النِّصْفِ الْآخَرِ !
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ
دُرَيْدِ بْنِ عَتَاهِيَةَ أَبُو بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ الْأَزْدِيُّ
اللُّغَوِيُّ النَّحْوِيُّ الشَّاعِرُ صَاحِبُ الْمَقْصُورَةِ، وُلِدَ
بِالْبَصْرَةِ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتَنَقَّلَ فِي
الْبِلَادِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ ذَوِي
الْيَسَارِ وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَقَدْ أَسَنَّ، فَأَقَامَ بِهَا إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ. رَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَخِي الْأَصْمَعِيِّ، وَأَبِي
حَاتِمٍ، وَالرِّيَاشِيِّ. وَعَنْهُ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ وَأَبُو بَكْرِ
بْنُ شَاذَانَ وَأَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْزُبَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَيُقَالُ: كَانَ أَعْلَمَ الشُّعَرَاءِ وَأَشْعَرَ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ كَانَ مُتَهَتِّكًا
فِي الشَّرَابِ، قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيُّ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ
فَوَجَدْتُهُ سَكْرَانَ، فَلَمْ أَعُدْ إِلَيْهِ.
وَسُئِلَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَالَ: تَكَلَّمُوا فِيهِ. وَقَالَ ابْنُ
شَاهِينَ: كُنَّا نَدْخُلُ عَلَيْهِ، فَنَسْتَحِي مِمَّا نَرَى مِنَ الْعِيدَانِ
الْمُعَلَّقَةِ وَالشَّرَابِ الْمُصَفَّى، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ وَقَارَبَ
الْمِائَةَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ
بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي هَاشِمِ بْنِ أَبِي عَلِيٍّ،
فَصُلِّيَ عَلَيْهِمَا مَعًا، وَدُفِنَا فِي مَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِيَّةِ،
وَقَالَ النَّاسُ: مَاتَ الْيَوْمَ عِلْمُ اللُّغَةِ، وَعِلْمُ الْكَلَامِ.
وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَطِيرًا. وَمِنْ مُصَنَّفَاتِ ابْنِ دُرَيْدٍ " الْجَمْهَرَةُ
" فِي اللُّغَةِ، فِي نَحْوِ عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَكِتَابُ "
الْمَطَرِ " وَالْمَقْصُورَةُ وَالْقَصِيدَةُ الْأُخْرَى فِي الْمَقْصُورِ
وَالْمَمْدُودِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، سَامِحَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ مَلَطْيَةَ فِي خَمْسِينَ أَلْفًا، فَحَاصَرَهَا،
ثُمَّ أَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ حَتَّى تَمَكَّنَ مِنْهُمْ، فَقَتَلَ خَلْقًا
كَثِيرًا، وَأَسَرَ مَا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مَرْدَاوِيجَ قَدْ تَسَلَّمَ أَصْبَهَانَ
وَانْتَزَعَهَا مِنْ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ بُوَيْهِ
تَوَجَّهَ إِلَى أَرَّجَانَ فَأَخَذَهَا، وَقَدْ أَرْسَلَ ابْنُ بُوَيْهِ إِلَى
الْحَضْرَةِ الْخَلِيفِيَّةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعُونَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ
يُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ الشَّرِيفَةَ وَيَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ إِنْ
رَسَمَ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى شِيرَازَ فَيَكُونَ مَعَ يَاقُوتَ. ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ صَارَ إِلَى شِيرَازَ وَأَخَذَهَا مِنْ نَائِبِهَا
يَاقُوتَ بَعْدَ قِتَالٍ عَظِيمٍ ظَفِرَ فِيهِ ابْنُ بُوَيْهِ بِيَاقُوتَ
وَأَصْحَابِهِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرَ جَمَاعَةً، فَلَمَّا
تَمَكَّنَ أَطْلَقَهُمْ، وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلَ
فِي النَّاسِ.
وَكَانَتْ مَعَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ قَدِ اسْتَفَادَهَا مِنْ أَصْبَهَانَ
وَقَبْلَهَا مِنَ الْكَرَجِ وَمِنْ هَمَذَانَ وَغَيْرِهَا. إِلَّا أَنَّهُ كَانَ
كَرِيمًا جَوَادًا مِعْطَاءً لِلْجُيُوشِ الَّذِينَ قَدِ الْتَفُّوا عَلَيْهِ،
ثُمَّ
إِنَّهُ أَمْلَقَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ
وَهُوَ بِشِيرَازَ، وَطَالَبَهُ الْجُنْدُ بِأَرْزَاقِهِمْ، وَخَافَ أَنْ
يَنْحَلَّ نِظَامُ أَمْرِهِ، فَاسْتَلْقَى يَوْمًا عَلَى قَفَاهُ مُفَكِّرًا فِي
أَمْرِهِ، وَإِذَا حَيَّةٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ سَقْفِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ
فِيهِ، وَدَخَلَتْ فِي آخَرَ، فَأَمَرَ بِنَزْعِ تِلْكَ السُّقُوفِ، فَوَجَدَ
هُنَاكَ مَكَانًا فِيهِ مِنَ الذَّهَبِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا نَحْوٌ مِنْ
خَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَأَنْفَقَ فِي جَيْشِهِ مَا أَرَادَ، وَبَقِيَ
عِنْدَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ.
وَرَكِبَ ذَاتَ يَوْمٍ يَتَفَرَّجُ فِي خَرَابِ الْبَلَدِ، وَيَنْظُرُ إِلَى
أَبْنِيَةِ الْأَوَائِلِ، وَيَتَّعِظُ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ، فَانْخَسَفَتِ
الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِ قَائِمَةِ جَوَادِهِ، فَأَمَرَ فَحُفِرَ هُنَالِكَ فَوَجَدَ
مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا أَيْضًا.
وَاسْتَعْمَلَ عِنْدَ رَجُلٍ خَيَّاطٍ قُمَاشًا لِيَلْبَسَهُ، فَاسْتَبْطَأَهُ
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ تَهَدَّدَهُ، وَكَانَ
الرَّجُلُ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ جَيِّدًا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لِابْنِ
يَاقُوتَ عِنْدِي سِوَى اثْنَيْ عَشَرَ صُنْدُوقًا، لَا أَدْرِي مَا فِيهَا.
فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهَا فَإِذَا فِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ تُقَارِبُ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَاطَّلَعَ عَلَى وَدَائِعَ كَانَتْ لِيَعْقُوبَ وَعَمْرٍو ابْنَيِ اللَّيْثِ،
فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ كَثْرَةً، فَقَوِيَ
أَمْرُهُ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ جِدًّا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ
الْمُقَدَّرَةِ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ السَّعَادَةِ
الدُّنْيَوِيَّةِ. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [ الْقَصَصِ: 68 ]
وَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [ الرُّومِ: 4 ].
وَكَتَبَ إِلَى الرَّاضِي وَوَزِيرِهِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ يَطْلُبُ أَنْ
يُقَاطَعَ عَلَى مَا قِبَلَهُ مِنَ الْبِلَادِ عَلَى أَلْفِ أَلْفٍ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، فَأَجَابَهُ الرَّاضِي إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ
وَاللِّوَاءِ وَأُبَّهَةِ الْمُلْكِ.
وَفِيهَا قَتَلَ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ أَمِيرَيْنِ كَبِيرَيْنِ ; وَهَمَا
إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النُّوبَخْتِيُّ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ قَدْ أَشَارَ
عَلَى الْأُمَرَاءِ بِخِلَافَةِ الْقَاهِرِ، وَأَبُو السَّرَايَا بْنُ حَمْدَانَ
أَصْغَرُ وَلَدِ أَبِيهِ، وَكَانَ فِي نَفْسِ الْقَاهِرِ مِنْهُمَا ; بِسَبَبِ
أَنَّهُمَا زَايَدَاهُ مَرَّةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ فِي
جَارِيَتَيْنِ مُغَنِّيَتَيْنِ، فَاسْتَدْعَاهُمَا إِلَى الْمُسَامَرَةِ
فَتَطَيَّبَا وَحَضَرَا، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِمَا فِي بِئْرٍ هُنَالِكَ،
فَتَضَرَّعَا إِلَيْهِ فَلَمْ يَرْحَمْهُمَا، بَلْ أُلْقِيَا فِيهَا، وَطَيَّنَهَا
عَلَيْهِمَا.
ذِكْرُ خَلْعِ الْقَاهِرِ وَسَمْلِ عَيْنَيْهِ
وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَزِيرَ أَبَا عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ كَانَ قَدْ
هَرَبَ مِنَ الْقَاهِرِ حِينَ قَبَضَ عَلَى مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ، وَاخْتَفَى فِي
دَارِهِ، وَكَانَ يُرَاسِلُ الْجُنْدَ وَيُكَاتِبُهُمْ وَيُغْرِيهِمْ
بِالْقَاهِرِ، وَيُخَوِّفُهُمْ سَطْوَتَهُ وَإِقْدَامَهُ وَسُرْعَةَ بَطْشِهِ،
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقَاهِرَ قَدْ أَعَدَّ لِأَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ أَمَاكِنَ
يَسْجِنُهُمْ فِيهَا، فَهَيَّجَهُمْ ذَلِكَ، وَأَشَبَهُمْ عَلَى الْقَبْضِ عَلَى
الْقَاهِرِ، فَاجْتَمَعُوا، وَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى مُنَاجَزَتِهِ فِي
هَذِهِ السَّاعَةِ، وَرَكِبُوا مَعَ الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بِسِيمَا، وَقَصَدُوا
دَارَ الْخِلَافَةِ فَأَحَاطُوا بِهَا، ثُمَّ هَجَمُوا عَلَى الْقَاهِرِ مِنْ
سَائِرِ أَبْوَابِهَا، فَخَرَجَ الْوَزِيرُ الْخَصِيبِيُّ مُسْتَتِرًا فِي زِيِّ
امْرَأَةٍ، وَانْهَزَمَ الْقَاهِرُ وَهُوَ مَخْمُورٌ، فَاخْتَفَى فِي سَطْحِ
حَمَّامٍ، فَظَهَرُوا عَلَيْهِ فَقَبَضُوهُ وَحَبَسُوهُ فِي مَكَانِ طَرِيفٍ
السُّبْكَرِيِّ، وَأَخْرَجُوا طَرِيفًا، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ وَنُهِبَتْ،
وَذَلِكَ يَوْمَ
السَّبْتِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ أَحْضَرُوهُ، فَسَمَلُوا
عَيْنَيْهِ حَتَّى سَالَتَا عَلَى خَدَّيْهِ، وَارْتُكِبَ مِنْهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ
لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَكَانَ تَارَةً
يُحْبَسُ، وَتَارَةً يُخَلَّى سَبِيلُهُ، وَقَدْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُ إِلَى سَنَةِ
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَافْتَقَرَ حَتَّى قَامَ يَوْمًا
بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَسَأَلَ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ،
وَيُقَالُ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الصَّنِيعِ التَّشْنِيعَ عَلَى
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ إِذَا
ذَكَرْنَا وَفَاتَهُ.
خِلَافَةُ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ
لَمَّا خَلَعَتِ الْجُنْدُ الْقَاهِرَ وَسَمَلُوهُ، أَحْضَرُوا أَبَا الْعَبَّاسِ
مُحَمَّدَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْخِلَافَةِ،
وَلَقَّبُوهُ الرَّاضِي بِاللَّهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ قَدْ أَشَارَ
بِأَنْ يُلَقَّبَ بِالْمَرْضِيِّ بِاللَّهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ وَعَدَلَ إِلَى هَذَا
اللَّقَبِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ - وَجَاءُوا بِالْقَاهِرِ وَهُوَ أَعْمَى قَدْ سُمِلَتْ
عَيْنَاهُ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ،
وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَقَامَ الرَّاضِي بِأَعْبَائِهَا، وَكَانَ مِنْ خِيَارِ
الْخُلَفَاءِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، فَوَلَّاهُ الْوِزَارَةَ، وَجَعَلَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى
نَاظِرًا عَلَيْهِ، وَأَطْلَقَ كُلَّ
مَنْ كَانَ فِي حَبْسِ الْقَاهِرِ، وَاسْتَدْعَى عِيسَى طَبِيبَ الْقَاهِرِ،
فَصَادَرَهُ بِمِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَسَلَّمَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ
الَّتِي كَانَ الْقَاهِرُ أَوْدَعَهَا عِنْدَهُ، وَكَانَتْ جُمْلَةً
مُسْتَكْثِرَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنَّفَائِسِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ أَمْرُ مَرْدَاوِيجَ بِأَصْبَهَانَ، وَتَحَدَّثَ
النَّاسُ أَنَّهُ يُرِيدُ قَصْدَ بَغْدَادَ وَأَنَّهُ مُمَالِئٌ لِصَاحِبِ
الْبَحْرَيْنِ وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى رَدِّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى
الْعَجَمِ، وَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي رَعِيَّتِهِ، لَا سِيَّمَا فِي خَوَاصِّهِ
مِنَ الْأَتْرَاكِ، فَتَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلُوهُ - قَبَّحَهُ اللَّهُ
- وَكَانَ الْقَائِمُ بِأَعْبَاءِ ذَلِكَ أَخَصَّ مَمَالِيكِهِ وَأَحْظَاهُمْ
عِنْدَهُ، وَهُوَ بَجْكَمُ - بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَهَذَا الْأَمِيرُ هُوَ
الَّذِي اسْتَنْقَذَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ أَيْدِي الْقَرَامِطَةِ،
وَافْتَدَاهُ مِنْهُمْ بِخَمْسِينَ أَلْفِ دِينَارٍ، بَذَلَهَا لَهُمْ حَتَّى
رَدُّوهُ إِلَى مَكَّةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمَّا قُتِلَ مَرْدَاوِيجُ بْنُ
زَيَّارٍ الدَّيْلَمِيُّ، عَظُمَ أَمْرُ عَلِيِّ بْنِ بُوَيْهِ، وَارْتَفَعَ
قَدْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، وَعَلَا شَأْنُهُ فِي الْمُلُوكِ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ
إِلَيْهِ حَالُهُ.
وَلَمَّا خُلِعَ الْقَاهِرُ وَوَلِّيَ الرَّاضِي، طَمِعَ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ
فِي الْخِلَافَةِ ; لِكَوْنِهِ ابْنَ خَالِ الْمُقْتَدِرِ، وَكَانَ نَائِبًا عَلَى
مَاهِ الْكُوفَةِ الدِّينَوَرِ وَمَاسَبَذَانَ، فَدَعَا إِلَى ذَلِكَ وَاتَّبَعَهُ
خَلْقٌ مِنَ الْجُنْدِ وَالْأُمَرَاءِ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ، وَاسْتَفْحَلَ
أَمْرُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَقَصَدَ بَغْدَادَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ
بْنُ يَاقُوتَ رَأْسُ الْحَجَبَةِ فِي جَمِيعِ جَيْشِ بَغْدَادَ فَاقْتَتَلُوا
هُنَالِكَ، فَخَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هَارُونُ بْنُ غَرِيبٍ يَتَقَصَّدُ
لَعَلَّهُ يَعْمَلُ حِيلَةً فِي أَسْرِ
مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ، فَتَقَنْطَرَ بِهِ فَرَسُهُ، فَسَقَطَ فِي نَهْرٍ،
فَضَرَبَهُ غُلَامٌ لَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ يَاقُوتَ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ هَارُونَ، وَرَجَعَ مُحَمَّدُ
بْنُ يَاقُوتَ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ وَرَأْسُ هَارُونَ بْنِ غَرِيبٍ يُحْمَلُ
بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى رُمْحٍ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِبَغْدَادَ يُعَرَفُ بِأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ الشَّلْمَغَانِيِّ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ أَبِي الْعَزَاقِرِ. فَذُكِرَ
عَنْهُ أَنَّهُ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ الْحَلَّاجُ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ،
وَكَانَ قَدْ مُسِكَ فِي دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ عِنْدَ حَامِدِ بْنِ الْعَبَّاسِ،
وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ. وَلَمَّا
كَانَتْ هَذِهِ الْمَرَّةُ أَحْضَرَهُ الرَّاضِي، وَادَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ
عَنْهُ، فَأَنْكَرَ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَشْيَاءَ، فَأَفْتَى قَوْمٌ أَنَّ دَمَهُ
حَلَالٌ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ، فَضُرِبَ ثَمَانِينَ
سَوْطًا، ثُمَّ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ وَصُلِبَ، وَأُلْحِقَ بِالْحَلَّاجِ -
قَبَّحَهُمَا اللَّهُ - وَقُتِلَ مَعَهُ صَاحِبُهُ ابْنُ أَبِي عَوْنٍ لَعَنَهُ
اللَّهُ، وَكَانَ هَذَا اللَّعِينُ مِنْ جُمْلَةِ طَائِفَةٍ قَدِ اتَّبَعُوهُ
وَصَدَّقُوهُ فِيمَا يَزْعُمُهُ مِنَ الْكُفْرِ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " مَذْهَبَ هَؤُلَاءِ
الْكَفَرَةِ بَسْطًا جَيِّدًا، وَشَبَّهَ مَذْهَبَهُمْ بِمَذْهَبِ
النَّصِيرِيَّةِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَادَّعَى رَجُلٌ بِبِلَادِ الشَّاشِ النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ مَخَارِيقَ
وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنَ الْحِيَلِ،
فَجَاءَتْهُ الْجُيُوشُ فَقَاتَلُوهُ،
فَقَتَلُوهُ، وَانْطَفَأَ خَبَرُهُ وَاضْمَحَلَّ أَمْرُهُ.
وَفَاةُ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ إِفْرِيقِيَّةَ، أَوَّلُ خُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ
فِيمَا زَعَمُوا
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ، الْمُدَّعِي أَنَّهُ عَلَوِيٌّ
- الْمُلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ - بَانِي الْمَهْدِيَّةِ بِمَدِينَتِهِ
الْمَهْدِيَّةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ، مُنْذُ
دَخَلَ رَقَّادَةَ وَادَّعَى الْإِمَامَةَ، أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً
وَشَهْرًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَهُوَ أَوَّلُ الْخُلَفَاءِ الْفَاطِمِيِّينَ.
وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا، ظَفِرَ بِجَمَاعَةٍ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَنَاوَأَهُ
وَقَاتَلَهُ وَعَادَاهُ، وَقَدْ قَامَ بِأَمْرِ الْخِلَافَةِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُلَقَّبُ بِالْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ وَحِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهُ، كَتَمَ مَوْتَهُ سَنَةً حَتَّى دَبَّرَ مَا
أَرَادَهُ مِنَ الْأُمُورِ، ثُمَّ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَعَزَّاهُ النَّاسُ فِيهِ،
وَقَدْ كَانَ شَهْمًا شُجَاعًا كَأَبِيهِ، فَتَحَ الْبِلَادَ، وَأَرْسَلَ
السَّرَايَا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، وَرَامَ أَخْذَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جَرَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيِ ابْنِ
ابْنِهِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ الَّذِي بَنَى الْقَاهِرَةَ الْمُعِزِّيَةَ،
كَمَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي
" الْوَفَيَاتِ ": وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي نَسَبِ الْمَهْدِيِّ هَذَا
اخْتِلَافًا كَثِيرًا جِدًّا ; فَقَالَ صَاحِبُ " تَارِيخِ الْقَيْرَوَانِ
": هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ التَّقِيِّ،
وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْوَفِيِّ، أَحْمَدَ بْنِ الرَّضِيِّ عَبْدِ اللَّهِ،
وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ يُقَالُ لَهُمُ: الْمَسْتُورُونَ ; لِخَوْفِهِمْ مِنْ
خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَالرَّضِيُّ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا هُوَ ابْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي
نَسَبِهِ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالْمُحَقِّقُونَ يُنْكِرُونَ دَعْوَاهُ فِي
النَّسَبِ.
قُلْتُ: قَدْ كَتَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، مِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْقُدُورِيُّ
أَنَّ هَؤُلَاءِ أَدْعِيَاءُ، لَيْسَ لَهُمْ نَسَبٌ صَحِيحٌ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ،
وَأَنَّ وَالِدَ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا كَانَ يَهُودِيًّا صَبَّاغًا
بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ سَعِيدًا، وَإِنَّمَا لُقِّبَ بِعُبَيْدِ
اللَّهِ. وَكَانَ زَوْجُ أُمِّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحَ، وَسُمِّي الْقَدَّاحَ ; لِأَنَّهُ
كَانَ كَحَّالًا يَقْدَحُ الْعُيُونَ، وَكَانَ الَّذِي وَطَّأَ لَهُ الْأَمْرَ
بِتِلْكَ الْبِلَادِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيعِيُّ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، ثُمَّ
اسْتَدْعَاهُ فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِ
سِجِلْمَاسَةَ
فَسَجَنَهُ، فَلَمْ يَزَلِ الشِّيعِيُّ
حَتَّى اسْتَنْقَذَهُ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ، ثُمَّ نَدِمَ الشِّيعِيُّ
وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَفَطِنَ عُبَيْدُ اللَّهِ لَهُ فَقَتَلَهُ وَقَتَلَ مَعَهُ
أَخَاهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ الشِّيعِيَّ لَمَّا دَخَلَ السِّجْنَ وَجَدَ صَاحِبَ
سِجِلْمَاسَةَ قَدْ قَتَلَهُ، وَوَجَدَ فِي السَّجْنِ رَجُلًا مَجْهُولًا،
فَأَخْرَجَهُ لِلنَّاسِ، وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْمَهْدِيُّ، وَرَوَّجَ بِهِ الْأَمْرَ،
فَهَؤُلَاءِ مِنْ سُلَالَتِهِ. حَكَاهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ
وَكَانَ مَوْلِدُ الْمُهْدِيِّ هَذَا فِي سَنَةِ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ:
قَبْلَهَا، وَقِيلَ: بَعْدَهَا. بِسَلَمْيَةَ، وَقِيلَ: بِالْكُوفَةِ. وَأَوَّلُ
مَا دُعِيَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ رَقَّادَةَ وَالْقَيْرَوَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
بَعْدَ رُجُوعِهِ مِنْ سِجِلْمَاسَةَ وَكَانَ ظُهُورُهُ بِهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ، وَزَالَتْ دَوْلَةُ بَنِي
الْعَبَّاسِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنْ هَذَا الْحِينِ إِلَى أَنْ هَلَكَ
الْعَاضِدُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسِتِّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَهْدِيَّةِ - الَّتِي بَنَاهَا فِي أَيَّامِهِ -
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِلنِّصْفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السِّتِّينَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِلَى اللَّهِ
عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، وَسَيَفْصِلُ بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ، يَوْمَ
الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ
قَاضِي مِصْرَ، حَدَّثَ
عَنْ أَبِيهِ بِكُتُبِهِ
الْمَشْهُورَةِ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ عَلَى قَضَاءِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ
وَقِيلَ: اسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَيُقَالُ: الْحَسَنُ بْنُ هَمَّامٍ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَسَكَنَ مِصْرَ، وَكَانَ مِنْ
أَبْنَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْكَتَبَةِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَحَفِظَ مِنْهُ كَثِيرًا، وَتَفَقَّهَ بِإِبْرَاهِيمَ
الْحَرْبِيِّ، وَأَخَذَ النَّحْوَ عَنْ ثَعْلَبٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ
وَالْبِرِّ لِلْفُقَرَاءِ، وَكَانَ إِذَا أَعْطَى الْفَقِيرَ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي
كَفِّهِ، ثُمَّ يَتَنَاوَلُهُ الْفَقِيرُ، يُرِيدُ أَنْ لَا تَكُونَ يَدُ
الْفَقِيرِ تَحْتَ يَدِهِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ:
وَلَوْ مَضَى الْكُلُّ مِنِّي لَمْ يَكُنْ عَجَبًا وَإِنَّمَا عَجَبِي فِي
الْبَعْضِ كَيْفَ بَقِي أَدْرِكْ بَقِيَّةَ رُوحٍ مَنْكَ قَدْ تَلِفَتْ
قَبْلَ الْفِرَاقِ فَهَذَا آخِرُ الرَّمَقِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَعْرُوفُ بِخَيْرٍ النَّسَّاجِ أَبُو الْحَسَنِ
الصُّوفِيُّ
مِنْ كِبَارِ الْمَشَايِخِ ذَوِي الْأَحْوَالِ الصَّالِحَةِ وَالْكَرَامَاتِ
الْمَشْهُورَةِ، أَدْرَكَ سَرِيًّا السَّقَطِيَّ وَغَيْرَهُ مِنْ مَشَايِخِ
الْقَوْمِ، وَعَاشَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ
نَظَرَ إِلَى زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: قِفْ رَحِمَكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ
عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَأَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَمَا أُمِرْتَ بِهِ لَا يَفُوتُ،
وَمَا أُمِرْتُ بِهِ يَفُوتُ. ثُمَّ قَامَ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وَتَمَدَّدَ
فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ:
مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: اسْتَرَحْنَا مِنْ دُنْيَاكُمُ الْوَضِرَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أُحْضِرَ ابْنُ شَنَبُوذَ الْمُقْرِئُ، فَأَنْكَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ عَلَيْهِ حُرُوفًا انْفَرَدَ بِهَا، فَاعْتَرَفَ
بِبَعْضِهَا، وَأَنْكَرَ بَعْضَهَا، فَاسْتُتِيبَ مِنْ ذَلِكَ، وَاسْتُكْتِبَ
بِخَطِّهِ بِالرُّجُوعِ عَمَّا نُقِمَ عَلَيْهِ، وَضُرِبَ سَبْعَ دُرَرٍ
بِإِشَارَةِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَنُفِيَ إِلَى الْبَصْرَةِ
أَوْ غَيْرِهَا، فَدَعَا عَلَى الْوَزِيرِ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ وَيُشَتَّتَ شَمْلُهُ،
فَكَانَ ذَلِكَ عَمَّا قَرِيبٍ.
وَفِيهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ نَادَى بَدْرٌ الْخَرْشَنِيُّ صَاحِبُ
الشُّرْطَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ مِنْ بَغْدَادَ أَنْ لَا يَجْتَمِعُ اثْنَانِ مِنْ
أَصْحَابِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيِّ الْوَاعِظِ الْحَنْبَلِيِّ، وَحَبَسَ
مِنْهُمْ جَمَاعَةً، وَاسْتَتَرَ الْبَرْبَهَارِيُّ، فَلَمْ يَظْهَرْ مُدَّةً.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ": وَفِي شَهْرِ أَيَّارَ
تَكَاثَفَتِ الْغُيُومُ، وَاشْتَدَّ الْحَرُّ جِدًّا، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ يَوْمٍ
مِنْهُ - وَهُوَ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ جِدًّا، وَأَظْلَمَتْ وَاسْوَدَّتْ إِلَى
بَعْدِ الْعَصْرِ،
ثُمَّ خَفَّتْ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى
بَعْدِ عَشَاءِ الْآخِرَةِ.
وَفِيهَا اسْتَبْطَأَ الْأَجْنَادُ أَرْزَاقَهُمْ، فَقَصَدُوا دَارَ الْوَزِيرِ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، فَنَقَبُوهَا وَأَخَذُوا مَا فِيهَا.
وَوَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ فِي طَرِيقِ الْبَزَّازِينَ، فَاحْتَرَقَ بِسَبَبِهِ
لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَعَوَّضَ عَلَيْهِمُ الرَّاضِي بِاللَّهِ بَعْضَ مَا
كَانَ ذَهَبَ لَهُمْ.
وَفِي رَمَضَانَ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَرَاءِ عَلَى بَيْعَةِ جَعْفَرِ
بْنِ الْمُكْتَفِي وَظَهَرَ الْوَزِيرُ عَلَى أَمْرِهِمْ، فَحَبَسَ جَعْفَرًا،
وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَحَبَسَ جَمَاعَةً مِمَّنْ كَانَ بَايَعَهُ، وَانْطَفَأَتْ
نَارُهُ.
وَخَرَجَ الْحُجَّاجُ فِي خُفَارَةِ الْأَمِيرِ لُؤْلُؤٍ، فَاعْتَرَضَهُمْ أَبُو
طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ - لَعَنَهُ اللَّهُ -
فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَرَجَعَ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ إِلَى بَغْدَادَ
وَبَطَلَ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ، وَكَانَ
قَتْلُهُ لَهُمْ فِي لَيْلَةِ الْأَرْبِعَاءِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بِعَيْنِهَا تَسَاقَطَتْ
كَوَاكِبُ كَثِيرَةٌ بِبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ عَلَى صِفَةٍ لَمْ يُرَ مَثْلُهَا
وَلَا مَا يُقَارِبُهَا. قَالَ: وَغَلَا السِّعْرُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، حَتَّى
بِيعَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا.
وَفِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ كَانَ
مَقْتَلُ مَرْدَاوِيجَ بْنِ زِيَّارَ الدَّيْلَمِيِّ، وَكَانَ قَبَّحَهُ اللَّهُ
سَيِّئَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ، يَزْعُمُ أَنَّ رُوحَ سُلَيْمَانَ بْنِ
دَاوُدَ حَلَّتْ فِيهِ، وَلَهُ سَرِيرٌ مِنْ ذَهَبٍ يَجْلِسُ عَلَيْهِ
وَالْأَتْرَاكُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُمُ الْجِنُّ الَّذِينَ
سُخِّرُوا لِسُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ يُسِيءُ الْمُعَامَلَةَ لَهُمْ،
وَيَحْتَقِرُهُمْ غَايَةَ الِاحْتِقَارِ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ دَأْبُهُ حَتَّى
أَمْكَنَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَقَتَلُوهُ فِي حَمَّامٍ، وَكَانَ الَّذِي مَالَأَ
عَلَى قَتْلِهِ غُلَامُهُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ - جَزَاهُ اللَّهُ عَنِ
الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ خَيْرًا - وَكَانَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ
رَهِينَةً عِنْدَهُ، فَلَمَّا قُتِلَ أُطْلِقَ مِنَ السِّجْنِ وَالْقَيْدِ،
فَذَهَبَ إِلَى أَخِيهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ
مَعَهُ إِلَى أَخِيهِ، وَالْتَفَّتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَنَ الْأَتْرَاكِ عَلَى
بَجْكَمَ، فَسَارَ بِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ،
ثُمَّ صُرِفُوا إِلَى الْبَصْرَةِ فَكَانُوا بِهَا.
وَأَمَّا الدَّيْلَمُ فَإِنَّهُمْ بَعَثُوا إِلَى أَخِي مَرْدَاوِيجَ، وَهُوَ
وُشْمَكِيرُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ تَلَقَّوْهُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
حُفَاةً مُشَاةً، فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَذْهَبَ مُلْكُهُمْ،
فَانْتُدِبَ لِمُحَارَبَتِهِ السَّعِيدُ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ السَّامَانِيُّ
نَائِبُ خُرَاسَانَ وَمَا وَالَاهَا مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ،
فَانْتَزَعَ مِنْهُ بُلْدَانًا هَائِلَةً.
وَفِيهَا بَعَثَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْفَاطِمِيُّ جَيْشًا مِنْ
إِفْرِيقِيَّةَ فِي الْبَحْرِ إِلَى نَاحِيَةِ الْفِرِنْجِ، فَافْتَتَحُوا
مَدِينَةَ جَنَوَةَ وَغَنِمُوا غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَثَرْوَةً، وَرَجَعُوا
سَالِمِينَ غَانِمِينَ.
وَفِيهَا بَعَثَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ
إِلَى أَصْبَهَانَ فَاسْتَوْلَى
عَلَيْهَا وَعَلَى بِلَادِ الْجَبَلِ،
وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَعَظُمَتْ
مَنْزِلَتُهُ.
وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِخُرَاسَانَ، وَفِنَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ كَانَ
يَهُمُّهُمْ أَمْرُ دَفْنِ الْمَوْتَى.
وَفِيهَا قَتَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبُ الْمَوْصِلِ عَمَّهُ أَبَا الْعَلَاءِ سَعِيدَ
بْنَ حَمْدَانَ ; لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهَا مِنْهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مُقْلَةَ فِي جُيُوشٍ، فَهَرَبَ مِنْهُ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا طَالَ مُقَامُ ابْنِ مُقْلَةَ بِالْمَوْصِلِ رَجَعَ
إِلَى بَغْدَادَ فَاسْتَقَرَّتْ يَدُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْمَوْصِلِ
وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَسْأَلُ أَنْ يَضْمَنَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ،
فَأُجِيبَ إِلَى ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَى مَا كَانَ.
وَخَرَجَ الْحَجِيجُ، فَلَقِيَهُمُ الْقُرْمُطَيْ فِي الْقَادِسِيَّةِ
فَقَاتَلُوهُ، فَظَفِرَ بِهِمْ، فَسَأَلُوهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ عَلَى أَنْ
يَرْجِعُوا إِلَى بَغْدَادَ فَرَجَعُوا، وَتَعَطَّلَ عَلَيْهِمُ الْحَجُّ عَامَهُمْ
ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
نِفْطَوَيْهِ النَّحْوِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرَفَةَ بْنِ
سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي
صُفْرَةَ الْأَزْدِيُّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْعَتَكِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِنِفْطَوَيْهِ النَّحْوِيِّ، لَهُ
مُصَنَّفَاتٌ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى عَنِ الْمَشَايِخِ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ الثِّقَاتُ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَلَهُ أَشْعَارٌ
حَسَنَةٌ.
وَرَوَى الْخَطِيبُ عَنْ نِفْطَوَيْهِ أَنَّهُ مَرَّ يَوْمًا عَلَى بَقَّالٍ،
فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى دَرْبِ الرَّءَّاسِينَ
- يَعْنِي دَرْبَ الرَّوَّاسِينَ - فَالْتَفَتَ الْبَقَّالُ إِلَى جَارِهِ،
فَقَالَ لَهُ: قَبَّحَ اللَّهُ غُلَامِي، أَبْطَأَ عَلَيَّ بِالسِّلْقِ، وَلَوْ
كَانَ عِنْدِي لَصَفَعْتُ هَذَا بِجُرْزَةٍ مِنْهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ
نِفْطَوَيْهِ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ.
تُوُفِّيَ نِفْطَوَيْهِ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْبَرْبَهَارِيُّ رَئِيسُ الْحَنَابِلَةِ،
وَدُفِنَ بِمَقَابِرِ بَابِ الْكُوفَةِ.
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي فِي " الْأَمَالِي ":
قَلْبِي أَرَقُّ عَلَيْهِ مِنْ خَدَّيْكَا وَقُوَايَ أَوْهَى مِنْ قُوَى
جَفْنَيْكَا لِمَ لَا تَرِقُّ لِمَنْ يُعَذِّبُ نَفْسَهُ
ظُلْمًا وَيَعْطِفُهُ هَوَاهُ عَلَيْكَا
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وُفِي نِفْطَوَيْهِ يَقُولُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْوَاسِطِيُّ،
الْمُتَكَلِّمُ الْمَشْهُورُ، صَاحِبُ " الْإِمَامَةِ " وَ "
إِعْجَازِ الْقُرْآنِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ:
مَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى فَاسِقًا
فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ لَا يَرَى نِفْطَوَيْهْ
أَحْرَقَهُ اللَّهُ بِنِصْفِ اسْمِهِ وَصَيَّرَ الْبَاقِي صُرَاخًا عَلَيْهْ
قَالَ الثَّعَالِبِيُّ: إِنَّمَا سُمِّيَ نِفْطَوَيْهِ لِدَمَامَتِهِ
وَأُدْمَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ: لَا يُعْرَفُ مَنِ اسْمُهُ
إِبْرَاهِيمُ، وَكُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سِوَاهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ
حَدَّثَ عَنْ سَيَّارِ بْنِ نَصْرٍ الْحَلَبِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا فَقِيهًا شَافِعِيًّا.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَدِيٍّ، أَبُو نُعَيْمٍ
الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا، تُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْحَسَنِ
الْبَلْخِيُّ
كَانَ مِنَ الْجَوَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا،
سَمِعَ أَبَا حَاتِمٍ الرَّازِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ، أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبُسْتُنْبَانِ، سَمِعَ الزُّبَيْرَ بْنَ بِكَارٍ
وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ. جَاوَزَ الثَّمَانِينَ
سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جَاءَتِ الْجُنْدُ، فَأَحْدَقُوا بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَقَالُوا:
لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي بِنَفْسِهِ فَيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهِمْ وَخَطَبَهُمْ، وَقَبَضَ الْغِلْمَانُ عَلَى الْوَزِيرِ
أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَسَأَلُوا مِنَ الْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَوْزِرَ
غَيْرَهُ، فَرَدَّ الْخِيَرَةَ إِلَيْهِمْ، فَاخْتَارُوا عَلِيَّ بْنَ عِيسَى،
فَلَمْ يَقْبَلْ، وَأَشَارَ بِأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى
فَاسْتَوْزَرَهُ، وَأُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ، وَسُلِّمَ هُوَ إِلَى عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عِيسَى، فَضُرِبَ ضَرْبًا عَنِيفًا، وَأُخِذَ خَطُّهُ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ عَجَزَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عِيسَى، فَعُزِلَ بَعْدَ
خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقُلِّدَ الْوِزَارَةَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ
الْقَاسِمِ الْكَرْخِيُّ، فَصَادَرَ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى بِمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَصَادَرَ أَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عِيسَى بِسَبْعِينَ أَلْفِ
دِينَارٍ، ثُمَّ عُزِلَ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَنِصْفٍ، وَقُلِّدَ
سُلَيْمَانُ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ عُزِلَ بِأَبِي الْفَتْحِ الْفَضْلِ بْنِ
جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَلَكِنْ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، وَأُحْرِقَتْ
دَارُهُ كَمَا أُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي أُحْرِقَتْ
تِلْكَ فِيهِ، بَيْنَهُمَا سَنَةٌ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَخْبِيطِ
الْأَتْرَاكِ وَالْغِلْمَانِ. وَلَمَّا أُحْرِقَتْ دَارُ ابْنِ مُقْلَةَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى بَعْضِ جُدْرَانِهَا:
أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي
بِهِ الْقَدَرُ
وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي
فَاغْتَرَرْتَ بِهَا
وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ
وَضَعُفَ أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا، وَبَعَثَ الرَّاضِي إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ
رَائِقٍ - وَكَانَ بِوَاسِطٍ - يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ ; لِيُوَلِّيَهُ إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ
بِبَغْدَادَ، وَأَمْرَ الْخَرَاجِ وَالْمُعَاوِنِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ
وَالدَّوَاوِينِ، وَأَمَرَ أَنْ يُخْطَبَ لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمَنَابِرِ،
وَأَنْفَذَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ، فَقَدِمَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى بَغْدَادَ عَلَى
ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَعَهُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ غُلَامُ مَرْدَاوِيجَ،
وَهُوَ الَّذِي سَاعَدَ عَلَى قَتْلِهِ وَأَرَاحَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ،
وَاسْتَحْوَذَ ابْنُ رَائِقٍ عَلَى أَمْرِ الْعِرَاقِ بِكَمَالِهِ، وَنَقَلَ
أَمْوَالَ بَيْتِ الْمَالِ إِلَى دَارِهِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْوَزِيرِ تَصَرُّفٌ
فِي شَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَهَى أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا، وَاسْتَقَلَّ
نُوَّابُ الْأَطْرَافِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا، وَلَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ حَكْمٌ
فِي غَيْرِ بَغْدَادَ وَمُعَامَلَاتِهَا، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ لَهُ مَعَ ابْنِ
رَائِقٍ نُفُوذٌ فِي شَيْءٍ، وَلَا كَلِمَةٌ تُطَاعُ، وَإِنَّمَا يَحْمِلُ
إِلَيْهِ ابْنُ رَائِقٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالنَّفَقَاتِ
وَغَيْرِهَا، وَهَكَذَا صَارَ أَمْرُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ أُمَرَاءِ
الْأُمَرَاءِ. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَطْرَافِ، فَالْبَصْرَةُ مَعَ ابْنِ رَائِقٍ
هَذَا، وَأَمْرُ خُوزِسْتَانَ فِي يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ،
وَقَدْ غَلَبَ يَاقُوتُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ
مَمْلَكَةِ تُسْتَرَ وَغَيْرِهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ،
وَأَمْرُ فَارِسَ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ
بُوَيْهِ، وَالرَّيُّ وَأَصْبَهَانُ وَالْجَبَلُ بِيَدِ أَخِيهِ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ ابْنِ بُوَيْهِ، وَمُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ وُشْمَكِيرُ أَخُو
مَرْدَاوِيجَ، وَكَرْمَانُ بِيَدِ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ
الْيَسَعَ، وَبِلَادُ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةُ وَدِيَارُ بَكْرٍ وَمُضَرُ
وَرَبِيعَةُ مَعَ بَنِي حَمْدَانَ، وَمِصْرُ وَالشَّامُ فِي يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ
طُغْجٍ، وَبِلَادُ إِفْرِيقِيَّةَ وَالْمَغْرِبُ فِي يَدِ
الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بْنِ
الْمَهْدِيِّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، وَقَدْ تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَنْدَلُسُ فِي يَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ،
الْمُلَقَّبِ بِالنَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، وَخُرَاسَانُ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ
فِي يَدِ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ السَّامَانِيِّ، وَطَبَرِسْتَانُ
وَجُرْجَانُ فِي يَدِ الدَّيْلَمِ، وَالْبَحْرَيْنِ وَالْيَمَامَةُ وَهَجَرُ فِي
يَدِ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ
الْقِرْمِطِيِّ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا وَقَعَ بِبَغْدَادَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَفَنَاءٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ عُدِمَ
الْخُبْزُ مِنْهَا خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ كَانَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَكَانَ الْمَوْتَى
يُلْقَوْنَ فِي الطُّرُقَاتِ لَيْسَ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ، وَيُحْمَلُ
عَلَى الْجِنَازَةِ الْوَاحِدَةِ الِاثْنَانُ مِنَ الْمَوْتَى، وَرُبَّمَا يُوضَعُ
بَيْنَهُمْ صَبِيٌّ، وَرُبَّمَا حُفِرَتِ الْحُفْرَةُ الْوَاحِدَةُ فَتُوَسَّعُ
حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا جَمَاعَةٌ، وَمَاتَ مِنْ أَصْبَهَانَ نَحْوُ مِائَتَيْ
أَلْفِ إِنْسَانٍ.
وَوَقَعَ فِيهَا حَرِيقٌ بِعُمَانَ احْتَرَقَ فِيهِ مِنَ السُّودَانِ أَلْفٌ،
وَمِنَ الْبِيضَانِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ فِيهِ
أَرْبَعُمِائَةِ حِمْلِ كَافُورٍ.
وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ أَحْمَدَ بْنَ كَيْغَلَغَ عَنْ نِيَابَةِ الشَّامِ
وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ طُغْجٍ نَائِبِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ.
وَفِيهَا وُلِدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ فَنَّاخُسْرُو بْنُ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ بأَصْبَهَانَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ مُجَاهِدٍ الْمُقْرِئُ
أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُجَاهِدٍ
الْمُقْرِئُ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي
هَذَا الشَّأْنِ. حَدَّثَ عَنْ خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَرَوَى عَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا، سَكَنَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مَنْ
بَغْدَادَ وَكَانَ ثَعْلَبٌ يَقُولُ: مَا بَقِيَ فِي عَصْرِنَا أَحَدٌ أَعْلَمُ
بِكِتَابِ اللَّهِ مِنْهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَأُخْرِجَ
يَوْمَ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ
رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقْرَأُ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا مُتَّ ؟
فَقَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَدْعُو اللَّهَ عَقِبَ كُلِّ خَتْمَةٍ أَنْ
أَكُونَ مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ، فَأَنَا مِمَّنْ يَقْرَأُ فِي قَبْرِهِ.
رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَحْظَةُ، الشَّاعِرُ الْبَرْمَكِيُّ
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُوسَى بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ بْنِ بَرْمَكَ
الْبَرْمَكِيُّ، أَبُو الْحَسَنِ النَّدِيمُ الْمَعْرُوفُ بِجَحْظَةَ، الشَّاعِرُ
الْمَاهِرُ الْأَدِيبُ الْأَخْبَارِيُّ، ذُو الْفُنُونِ فِي الْعُلُومِ
وَالنَّوَادِرِ الْحَاضِرَةِ، وَكَانَ جَيِّدَ الْغِنَاءِ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا لَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ
كَمْ وَاثِقٍ فِي الْعُمْرِ وَارَيْتُهُ
وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ
وَكَتَبَ لَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ رُقْعَةً عَلَى صَيْرَفِيٍّ بِمَالٍ أَطْلَقَهُ
لَهُ، فَلَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ قَبَضُهَا،
فَكَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ يَذْكُرُ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ:
إِذَا كَانَتْ صِلَاتُكُمْ رِقَاعًا
تُخَطَّطُ بِالْأَنَامِلِ وَالْأَكُفِّ
وَلَمْ تُجْدِ الرُّقَاعُ عَلَيَّ نَفْعًا فَهَا خَطِّي خُذُوهُ بِأَلْفِ أَلْفِ
وَمِنْ شَعْرِهِ يَهْجُو صَدِيقًا لَهُ، وَيَذُمُّهُ عَلَى شِدَّةِ بُخْلِهِ
وَحِرْصِهِ:
لَنَا صَاحِبٌ مِنْ أَبْرَعِ النَّاسِ فِي الْبُخْلِ وَأَفْضَلِهِمْ فِيهِ
وَلَيْسَ بِذِي فَضْلِ
دَعَانِي كَمَا يَدْعُو الصَّدِيقُ صَدِيقَهُ فَجِئْتُ كَمَا يَأْتِي إِلَى
مِثْلِهِ مِثْلِي
فَلَمَّا جَلَسْنَا لِلْغَدَاءِ رَأَيْتُهُ يَرَى أَنَّمَا مِنْ بَعْضِ
أَعْضَائِهِ أَكْلِي
وَيَغْتَاظُ أَحْيَانًا وَيَشْتِمُ عَبْدَهُ وَأَعْلَمُ أَنَّ الْغَيْظَ
وَالشَّتْمَ مِنْ أَجْلِي
أَمُدُّ يَدِي سِرًّا لِآكُلَ لُقْمَةً فَيَلْحَظُنِي شَزْرًا فَأَعْبَثُ
بِالْبَقْلِ
إِلَى أَنْ جَنَتْ كَفِّي لِحِينِي جِنَايَةً وَذَلِكَ أَنَّ الْجُوعَ أَعْدَمَنِي
عَقْلِي
فَأَهْوَتْ يَمِينِي نَحْوَ رِجْلِ دَجَاجَةٍ فَجُرَّتْ كَمَا جَرَّتْ يَدِي
رِجْلَهَا رِجْلِي
وَمِنْ قَوِيِّ شِعْرِهِ وَجِيدِهِ قَوْلُهُ:
رَحَلْتُمْ فَكَمْ مِنْ أَنَّةٍ بَعْدَ حَنَّةٍ مُبَيِّنَةٍ لِلنَّاسِ حُزْنِي
عَلَيْكُمُ
وَقَدْ كُنْتُ أَعْتَقْتُ الْجُفُونَ مِنَ الْبُكَا فَقَدْ رَدَّهَا فِي الرِّقِّ
شَوْقِي إِلَيْكُمُ
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ لَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ مِنَ الشَّعْرِ الرَّائِقِ
قَوْلُهُ:
فَقُلْتُ لَهَا بَخِلْتِ عَلَيَّ يَقْظَى فَجُودِي فِي الْمَنَامِ لِمُسْتَهَامِ
فَقَالَتْ لِي وَصِرْتَ تَنَامُ
أَيْضًا وَتَطْمَعُ أَنْ أَزُورَكَ فِي الْمَنَامِ
قَالَ: وَإِنَّمَا لَقَّبَهُ بِجَحْظَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ.
وَذَلِكَ لِسُوءِ مَنْظَرِهِ، كَمَا قَالَ فِيهِ بَعْضُ مَنْ هَجَاهُ:
نُبِّئْتُ جَحْظَةَ يَسْتَعِيرُ جُحُوظَهُ مِنْ فِيلِ شِطْرَنْجَ وَمِنْ سَرَطَانِ
وَارَحْمَتَا لِمُنَادِمِيهِ تَحَمَّلُوا أَلَمَ الْعُيُونِ لِلَذَّةِ الْآذَانِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ.
وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، بِوَاسِطٍ، وَحُمِلَ
إِلَى بَغْدَادَ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ.
ابْنُ الْمُغَلِّسِ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ أَبُو الْحَسَنِ،
الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ، الْمَشْهُورُ، لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمُفِيدَةُ فِي مَذْهَبِهِ،
أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُدَ، وَرَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَعَلِيِّ بْنِ دَاوُدَ الْقَنْطَرِيِّ، وَأَبِي
قِلَابَةَ الرَّقَاشِيِّ، وَآخَرِينَ. وَكَانَ فَقِيهًا ثِقَةً فَاضِلًا، وَهُوَ
الَّذِي نَشَرَ عِلْمَ دَاوُدَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ. تُوفِّيَ بِالسَّكْتَةِ.
أَبُو بَكْرِ بْنُ زِيَادٍ
النَّيْسَابُورِيُّ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ وَاصِلِ بْنِ مَيْمُونٍ أَبُو
بَكْرٍ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ، مَوْلَى أَبَانِ بْنِ
عُثْمَانَ، رَحَلَ إِلَى الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ
وَحَدَّثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَعَبَّاسٍ الدُّورِيِّ،
وَخَلْقٍ، وَعَنْهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْحُفَّاظِ.
قَالَ الدَّرَاقُطْنِيُّ: لَمْ نَرَ فِي مَشَايِخِنَا أَحْفَظَ مِنْهُ
لِلْأَسَانِيدِ وَالْمُتُونِ، وَكَانَ أَفْقَهَ الْمَشَايِخِ، جَالَسَ
الْمُزَنِيَّ وَالرَّبِيعَ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ: كُنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ ابْنِ
زِيَادٍ، وَكَانَ يُحْزَرُ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَحَابِرِ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ، أَنَا يُوسُفُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيَّ،
يَقُولُ: أَعْرِفُ مَنْ قَامَ اللَّيْلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ يَنَمْ إِلَّا
جَاثِيًا، وَيَتَقَوَّتْ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ حَبَّاتٍ، وَيُصَلِّي صَلَاةَ
الْغَدَاةِ بِطَهَارَةِ الْعِشَاءِ. ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا هُوَ، هَذَا كُلُّهُ
قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ أُمَّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَيْشِ أَقُولُ لِمَنْ زَوَّجَنِي
! ثُمَّ قَالَ فِي إِثْرِ هَذَا: مَا أَرَادَ إِلَّا الْخَيْرَ. تُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَفَّانُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ أَبُو الْحَسَنِ
التَّاجِرُ، أَقَامَ بِمِصْرَ، وَأَوْقَفَ بِهَا
أَوْقَافًا دَارَّةً عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ،
وَعَلَى سُلَالَةِ الْعَشَرَةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَكَانَ تَاجِرًا
مُوَسَّعًا عَلَيْهِ، مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْحُكَّامِ، تُوُفِّيَ فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي بِشْرٍ إِسْحَاقُ بْنُ سَالِمِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ، قِدَمَ بَغْدَادَ وَأَخَذَ الْحَدِيثَ
عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى السَّاجِيِّ، وَتَفَقَّهَ بِابْنِ سُرَيْجٍ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا تَرَجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " أَنَّهُ
كَانَ يَجْلِسُ فِي حَلْقَةِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَقَدْ
كَانَ مُعْتَزِلِيًّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَابَ مِنْهُ بِالْبَصْرَةِ فَوْقَ
الْمِنْبَرِ، ثُمَّ أَظْهَرَ فَضَائِحَهُمْ وَقَبَائِحَهُمْ، وَذُكِرَ لَهُ مِنَ
التَّصَانِيفِ " الْمُوجَزُ " وَغَيْرُهُ. وَحَكَى عَنِ ابْنِ حَزْمٍ
أَنَّهُ صَنَّفَ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ تَصْنِيفًا، وَذَكَرَ أَنَّ مُغَلَّهُ فِي
كُلِّ سَنَةٍ كَانَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ
النَّاسِ دُعَابَةً، وَأَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِيلَ:
سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي
سَنَةِ ثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو ذَرٍّ التَّمِيمِيُّ
كَانَ رَئِيسَ جُرْجَانَ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَفَقَّهَ
بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعَ الْعُلَمَاءِ، وَلَهُ
إِفْضَالٌ كَثِيرٌ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ. هَارُونُ بْنُ
الْمُقْتَدِرِ
أَخُو الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا،
فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الرَّاضِي، وَأَمَرَ بِنَفْيِ بَخْتَيْشُوعَ بْنِ
يَحْيَى الْمُتَطَبِّبَ إِلَى الْأَنْبَارِ ; لِأَنَّهُ اتُّهِمَ فِي عِلَاجِهِ،
ثُمَّ شَفَعَتْ فِيهِ أُمُّ الرَّاضِي، فَرَدَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الْخَلِيفَةُ الرَّاضِي وَأَمِيرُ الْأُمَرَاءِ
مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ قَاصِدِينَ وَاسِطًا ; لِقِتَالِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ نَائِبِ الْأَهْوَازِ، الَّذِي قَدْ تَجَبَّرَ
بِهَا، وَمَنَعَ الْخَرَاجَ، فَلَمَّا سَارَ ابْنُ رَائِقٍ إِلَى وَاسِطٍ خَرَجَ
عَلَيْهِ الْحُجَرِيَّةُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ بَجْكَمَ
فَطَحَنَهُمْ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُمْ لُؤْلُؤُ
أَمِيرُ الشُّرْطَةِ، فَاحْتَاطَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَنُهِبَتْ دَوْرُهُمْ،
وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يَرْتَفِعُ، وَقُطِعَتْ أَرْزَاقُهُمْ مِنْ بَيْتِ
الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ
يَتَهَدَّدَانِهِ، فَأَجَابَ إِلَى حَمْلِ كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ
وَسِتِّينَ أَلْفَ دِينَارٍ، يَقُومُ بِحَمْلِ كُلِّ شَهْرٍ عَلَى حِدَتِهِ،
وَإِلَى أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا إِلَى قِتَالِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ،
فَلَمَّا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا، وَلَمْ
يَبْعَثْ أَحَدًا، ثُمَّ بَعَثَ ابْنُ رَائِقٍ بَجْكَمَ وَبَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ لِقِتَالِ
الْبَرِيدِيِّ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ، وَأُمُورٌ يَطُولُ
ذِكْرُهَا. ثُمَّ لَجَأَ الْبَرِيدِيُّ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَاسْتَجَارَ
بِهِ، وَاسْتَحْوَذَ بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ الْأَهْوَازِ، وَجَعَلَ إِلَيْهِ
ابْنُ رَائِقٍ خَرَاجَهَا، وَكَانَ بَجْكَمُ هَذَا شُجَاعًا فَاتِكًا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ خَلَعَ
الْخَلِيفَةُ عَلَى بَجْكَمَ، وَعَقَدَ لَهُ الْإِمَارَةَ بِبَغْدَادَ، وَوَلَّاهُ
نِيَابَةَ الْمَشْرِقِ إِلَى خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو
حَامِدِ بْنُ الشَّرْقِيِّ
مُوَلِدُهُ سَنَةَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ حَافِظًا، كَبِيرَ
الْقَدْرِ، كَثِيرَ الْحِفْظِ، كَثِيرَ الْحَجِّ، رَحَلَ إِلَى الْأَمْصَارِ،
وَجَابَ الْأَقْطَارَ، وَسَمِعَ مِنَ الْكِبَارِ. نَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ
خُزَيْمَةَ يَوْمًا فَقَالَ: حَيَاةُ أَبِي حَامِدٍ تَحْجُزُ بَيْنَ النَّاسِ
وَبَيْنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْخَزَّازُ
النَّحْوِيُّ
حَدَّثَ عَنِ الْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ، وَكَانَ ثِقَةً، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي
عُلُومِ الْقُرْآنِ غَزِيرَةُ الْفَوَائِدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى، أَبُو الطِّيبِ النَّحْوِيُّ
ابْنُ الْوَشَّاءِ، لَهُ مُصَنَّفَاتٌ مَلِيحَةٌ فِي الْأَخْبَارِ، وَقَدْ حَدَّثَ
عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ وَالْمُبَرِّدِ وَثَعْلَبٍ وَغَيْرِهِمْ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ
أَبُو بَكْرٍ الْعَسْكَرِيُّ
الْفَقِيهُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي ثَوْرٍ، رَوَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَعَبَّاسٍ
الدُّورِيِّ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ والْآجُرِّيُّ وَغَيْرُهُمَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ الرَّاضِي
مَكْتُوبٌ بِالرُّومِيَّةِ وَالتَّفْسِيرُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَأَمَّا الرُّومِيُّ
فَبِالذَّهَبِ وَالْعَرَبِيُّ بِالْفِضَّةِ، وَحَاصِلُهُ طَلَبُ الْهُدْنَةِ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَوَجَّهَ مَعَ الْكِتَابِ بِهَدَايَا وَأَلْطَافٍ كَثِيرَةٍ
فَاخِرَةٍ، فَأَجَابَهُ الْخَلِيفَةُ إِلَى ذَلِكَ، وَفُودِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
سِتَّةُ آلَافِ أَسِيرٍ، مَا بَيْنَ ذِكَرٍ وَأُنْثَى عَلَى نَهْرِ
الْبَدَنْدُونِ.
وَفِيهَا ارْتَحَلَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْفُرَاتِ مِنْ بَغْدَادَ
إِلَى الشَّامِ وَتَرَكَ الْوِزَارَةَ، فَوَلِيَهَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ،
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ ضَعِيفَةً جِدًّا، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَعَ
ابْنِ رَائِقٍ وَطَلَبَ مِنَ ابْنِ رَائِقٍ أَنْ يَفْرُغَ لَهُ عَنْ أَمْلَاكِهِ،
فَجَعَلَ يُمَاطِلُهُ، فَكَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ يُطْمِعُهُ فِي بَغْدَادَ وَأَنْ
يَكُونَ عِوَضًا عَنِ ابْنِ رَائِقٍ، وَكَتَبَ ابْنُ مُقْلَةَ أَيْضًا إِلَى
الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ ابْنَ رَائِقٍ وَابْنَ
مُقَاتِلٍ، وَيَضْمَنَهُمْ بِأَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ
رَائِقٍ، فَأَخَذَهُ، فَقَطَعَ يَدَهُ، وَقَالَ: هَذَا أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ،
ثُمَّ جَعَلَ يُحَسِنُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَسْتَوْزِرَهُ، وَأَنَّ قَطْعَ يَدِهِ
لَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّهُ يَشُدُّ الْقَلَمَ عَلَى يَدِهِ
الْيُمْنَى الْمَقْطُوعَةِ
فَيَكْتُبُ بِهَا. ثُمَّ بَلَغَ ابْنَ
رَائِقٍ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ إِلَى بَجْكَمَ بِمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ يَدْعُو
عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ فَقَطَعَ لِسَانَهُ، وَسَجَنَهُ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ،
وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ بِنَفْسِهِ ;
يَتَنَاوَلُ الْحَبْلَ مِنَ الْبِئْرِ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يُمْسِكُهُ
بِفِيهِ، وَلَقِيَ شِدَّةً وَعَنَاءً، وَمَاتَ فِي مَحْبِسِهِ هَذَا وَحِيدًا،
فَدُفِنَ هُنَاكَ، ثُمَّ سَأَلَ أَهْلَهُ نَقْلَهُ فَدُفِنَ فِي دَارِهِ، ثُمَّ
نُقِلَ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، فَاتَّفَقَ لَهُ أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ ; مِنْهَا
أَنَّهُ وَزَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَوَلِيَ
لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَدُفِنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَسَافَرَ فِي
عُمْرِهِ ثَلَاثَ سَفْرَاتٍ ; مَرَّتَيْنِ مَنْفِيًّا، وَمَرَّةً فِي وِزَارَتِهِ
إِلَى الْمَوْصِلِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِيهَا دَخَلَ بَجْكَمُ بَغْدَادَ فَقَلَّدَهُ الرَّاضِي إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ
مَكَانَ ابْنِ رَائِقٍ، وَقَدْ كَانَ بَجْكَمُ هَذَا مِنْ غِلْمَانِ أَبِي عَلِيٍّ
الْعَارِضِ وَزِيرِ مَاكَانَ بْنِ كَالِي الدَّيْلَمِيِّ، فَاسْتَوْهَبَهُ مَا
كَانُ مِنَ الْوَزِيرِ، فَوَهَبَهُ لَهُ، ثُمَّ فَارَقَ مَا كَانَ، وَلَحِقَ
بِمَرْدَاوِيجَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَتَلَهُ فِي الْحَمَّامِ، كَمَا
تَقَدَّمَ.
وَسَكَنَ بَجْكَمُ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَعَظُمَ أَمَرُهُ جِدًّا،
وَانْفَصَلَ ابْنُ رَائِقٍ وَكَانَتْ أَيَّامُهُ سَنَةً وَعَشْرَةَ أَشْهُرٍ
وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَفِيهَا بَعَثَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَخَاهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ،
فَأَخَذَ بِلَادَ الْأَهْوَازِ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ،
وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ بَجْكَمَ، وَأَعَادَهَا إِلَيْهِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى لَشْكَرَى أَحَدُ أُمَرَاءِ وُشْمَكِيرَ الدَّيْلَمَيِّ عَلَى
بِلَادِ
أَذْرَبِيجَانَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ
رُسْتُمَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْكُرْدِيِّ، أَحَدِ أَصْحَابِ ابْنِ أَبِي السَّاجِ،
بَعْدَ قِتَالٍ طَوِيلٍ.
وَفِيهَا اضْطَرَبَ أَمْرُ الْقَرَامِطَةِ جِدًّا، وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،
وَانْكَفُّوا بِسَبَبِ قِلَّتِهِمْ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ،
وَلَزِمُوا بَلَدَهُمْ هَجَرَ لَا يَرُومُونَ مِنْهُ انْتِقَالًا إِلَى غَيْرِهِ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَحْمَدُ بْنُ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأَنْدَلُسِيُّ
كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ
أَدْخَلَ فِقْهَ مَالِكٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَقَدْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ
بِهَا فَلَمْ يَقْبَلْ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خَرَجَ الرَّاضِي بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُحَارَبَةِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِهَا، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَجْكَمُ أَمِيرُ
الْأُمَرَاءِ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
يُوسُفَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ عَلَى بَغْدَادَ وَلَدَهُ الْقَاضِي أَبَا نَصْرٍ
يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ، عَنْ أَمْرِ الْخَلِيفَةِ لَهُ بِذَلِكَ. وَكَانَ عَالِمًا وَفَاضِلًا،
وَلَمَّا انْتَهَى بَجْكَمُ إِلَى الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ وَاقَعَ الْحَسَنَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ، فَهَزَمَ بَجْكَمُ الْحَسَنَ بْنَ حَمْدَانَ،
وَقَرَّرَ الْخَلِيفَةُ أَمْرَ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ فَإِنَّهُ اغْتَنَمَ غَيْبَةَ الْخَلِيفَةِ عَنْ
بَغْدَادَ وَاسْتَجَاشَ بِأَلْفٍ مِنَ الْقَرَامِطَةِ، وَجَاءَ فَدَخَلَ بِهِمْ
بَغْدَادَ فَأَكْثَرَ فِيهَا الْفَسَادَ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِدَارِ
الْخِلَافَةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ
وَالْعَفْوَ عَمَّا جَنَى، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي
الْقُضَاةِ أَبَا الْحُسَيْنِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَتَرَحَّلَ
ابْنُ رَائِقٍ عَنْ بَغْدَادَ وَدَخَلَهَا الْخَلِيفَةُ فِي جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ.
وَنَزَلَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ آذَارَ -
وَذَلِكَ فِي جُمَادَى
الْأُولَى - مَطَرٌ عَظِيمٌ وَبَرَدٌ
كِبَارٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ نَحْوُ الْأُوقِيَّتَيْنِ، وَاسْتَمَرَّ فَسَقَطَ
بِسَبَبِهِ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ بَغْدَادَ. وَظَهَرَ جَرَادٌ كَثِيرٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكَانَ الْحَجُّ مِنْ جِهَةِ دَرْبِ الْعِرَاقِ قَدْ تَعَطَّلَ مِنْ
سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى هَذِهِ السَّنَةِ، فَشَفَعَ
الشَّرِيفُ أَبُو عَلِيٍّ عُمَرُ بْنُ يَحْيَى الْعَلَوِيُّ عِنْدَ
الْقَرَامِطَةِ، وَكَانُوا يُحِبُّونَهُ لِشَجَاعَتِهِ وَكَرَمِهِ، فِي أَنْ
يُمَكِّنُوا الْحَجِيجَ مِنَ الْحَجِّ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ عَلَى كُلِّ جَمَلٍ
خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، وَعَلَى الْمَحْمَلِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ، فَخَرَجَ النَّاسُ
لِلْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
مَنْ خَرَجَ الشَّيْخُأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَحَدُ أَئِمَّةِ
الشَّافِعِيَّةِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِمْ طَالَبُوهُ بِالْخُفَارَةِ، فَثَنَى
رَأْسَ رَاحِلَتِهِ وَرَجَعَ، وَقَالَ: مَا رَجَعْتُ شُحًّا، وَلَكِنْ سَقَطَ
عَنِّي وُجُوبُ الْحَجِّ بِطَلَبِ هَذِهِ الْخُفَارَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ، وَذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيَّ، صَاحِبَ الْأَنْدَلُسِ، الْمُلَقَّبَ بِالنَّاصِرِ
لِدِينِ اللَّهِ، قَتَلَ وَزِيرَهُ أَحْمَدَ، فَغَضِبَ لَهُ أَخُوهُ أُمَيَّةُ
بْنُ إِسْحَاقَ - وَكَانَ نَائِبًا عَلَى مَدِينَةِ شَنْتَرِينَ - فَارْتَدَّ
وَدَخَلَ بِلَادِ النَّصَارَى، وَاجْتَمَعَ بِمَلِكِهِمْ رُدْمِيرَ، وَدَلَّهُ
عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ فِي
الْجَلَالِقَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأُمَوِيُّ، فَأَوْقَعَ بِهِمْ بَأْسًا
شَدِيدًا، وَقَتَلَ مِنَ الْجَلَالِقَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ كَرَّ
الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا قَرِيبًا
مِمَّنْ قُتِلُوا مِنْهُمْ، ثُمَّ وَالَى الْمُسْلِمُونَ الْغَارَاتِ عَلَى
بِلَادِ الْجَلَالِقَةِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ أُمَمًا لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً،
ثُمَّ نَدِمَأُمَيَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَلَى مَا صَنَعَ، وَطَلَبَ الْأَمَانَ مِنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْأَمَانِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ
قَبَّلَهُ وَاحْتَرَمَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ دُحَيْمٍ، أَبُو عَلِيٍّ الدِّمَشْقِيُّ
مِنْ أَبْنَاءِ الْمُحَدِّثِينَ، وَكَانَ أَخْبَارِيًّا، لَهُ فِي ذَلِكَ
مُصَنَّفَاتٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَيْرُوتِيِّ
وَغَيْرِهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
أَنَافَ عَلَى الثَّمَانِينَ سَنَةً.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ
بِشْرٍ، أَبُو عَلِيٍّ الْكَوْكَبِيُّ الْكَاتِبُ
صَاحِبُ الْأَخْبَارِ وَالْآدَابِ، رَوَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ
وَأَبِي الْعَيْنَاءِ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ.
عُثْمَانُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَمْرٍو الْبَلَوِيُّ
الْمَغْرِبِيُّ الْأَشَجُّ
وَيُعْرَفُ بِأَبِي الدُّنْيَا، قَدِمَ هَذَا الرَّجُلُ بَغْدَادَ بَعْدَ
الثَّلَاثِمِائَةٍ، وَزَعَمَ أَنَّهُ وُلِدَ أَوَّلَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ
الصَّدِيقِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَنَّهُ وَفَدَ هُوَ
وَأَبَوْهُ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
فَأَصَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ عَطَشٌ شَدِيدٌ فَذَهَبَ
يَرْتَادُ لِأَبِيهِ مَاءً، فَرَأَى
عَيْنًا، فَشَرِبَ مِنْهَا وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى أَبِيهِ لِيَسْقِيَهُ،
فَمَاتَ أَبُوهُ، وَقَدِمَ هُوَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَأَرَادَ أَنْ
يُقَبِّلَ رُكْبَتَهُ، فَصَدَمَهُ الرِّكَابُ، فَشَجَّ رَأْسَهُ، فَكَانَ يُعْرَفُ
بِالْأَشَجِّ.
وَصَدَّقَهُ فِي هَذَا الزَّعْمِ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَرَوَوْا عَنْهُ
نُسْخَةً فِيهَا أَحَادِيثُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ ; مِمَّنْ صَدَّقَهُ
فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمُفِيدِ، وَرَوَاهَا
عَنْهُ، وَلَكِنْ كَانَ الْمُفِيدُ مُتَّهَمًا بِالتَّشَيُّعِ، فَسُمِحَ لَهُ فِي
ذَلِكَ لِانْتِسَابِهِ إِلَى عَلِيٍّ، وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَكَذَّبُوهُ فِي ذَلِكَ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ كَذِبَهُ،
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي رَوَاهَا مَوْضُوعَةٌ، مِنْهُمُ
الْحَافِظُ أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّلَفِيُّ، وَأَشْيَاخُنَا
الَّذِينَ أَدْرَكْنَاهُمْ ; شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ،
وَالْجَهْبَذُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ، وَالْحَافِظُ مُؤَرِّخُ
الْإِسْلَامِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ، وَقَدْ حَرَّرْتُ ذَلِكَ فِي
كِتَابِي " التَّكْمِيلِ ". وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ الْمُفِيدُ: بَلَغَنِي أَنَّ الْأَشَجَّ هَذَا مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى بَلَدِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ، أَبُو بَكْرٍ
الْخَرَائِطِيُّ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصَّلُهُ مِنْ أَهْلِ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَسَكَنَ
الشَّامَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ ابْنُ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ " وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ
الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْحَافِلُ
الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَى النَّقْلِ الْكَامِلِ، الَّذِي يُرْبِي فِيهِ عَلَى
تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَلَهُ كِتَابُ "
الْعِلَلِ " الْمُصَنَّفَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ،
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ النَّافِعَةِ، وَكَانَ مِنَ الْعِبَادَةِ
وَالزَّهَادَةِ وَالْوَرَعِ وَالْحِفْظِ وَالْكَرَامَاتِ الْكَثِيرَةِ
الْمَشْهُورَةِ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْرَمَ
مَثْوَاهُ.
وَقَدْ صَلَّى مَرَّةً، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ مَنْ
صَلَّى مَعَهُ: لَقَدْ أَطَلْتَ عَلَيْنَا، وَقَدْ سَبَّحْتُ فِي سُجُودِي
سَبْعِينَ مَرَّةً، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَكِنِّي وَاللَّهِ مَا سَبَّحْتُ
إِلَّا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَتَهَدَّمَ سُورُ بَعْضِ بِلَادِ الثُّغُورِ
فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ يَوْمًا عَلَى النَّاسِ
وَحَثَّهُمْ عَلَى عِمَارَتِهِ ; فَقَالَ: مَنْ يَعْمُرُهُ وَأَضْمَنُ لَهُ عَلَى
اللَّهِ الْجَنَّةَ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ، فَقَالَ: اكْتُبْ لِي
بِخَطِّكَ هَذَا الضَّمَانَ، وَهَذِهِ أَلْفُ دِينَارٍ لِعِمَارَتِهِ. فَكَتَبَ
لَهُ رُقْعَةً بِذَلِكَ، وَعَمَرَ ذَلِكَ السُّورَ. ثُمَّ اتَّفَقَ مَوْتُ ذَلِكَ
الرَّجُلِ عَمَّا قَرِيبٍ، فَلَمَّا حَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ طَارَتْ مِنْ
كَفَنِهِ رُقْعَةٌ، وَهِيَ
الَّتِي كَانَ كَتَبَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَإِذَا فِي ظَهْرِهَا مَكْتُوبٌ: قَدْ أَمْضَيْنَا لَكَ هَذَا الضَّمَانَ، وَلَا تَعُدْ إِلَى ذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ": فِي غُرَّةِ
الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَتْ فِي الْجَوِّ حُمْرَةٌ شَدِيدَةٌ مِنْ نَاحِيَةِ
الشَّمَالِ وَالْمَغْرِبِ، وَفِيهَا أَعْمِدَةٌ بِيضٌ عَظِيمَةٌ كَثِيرَةُ
الْعَدَدِ.
وَفِيهَا وَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ رُكْنَ الدَّوْلَةِ أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ
بْنَ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيَّ وَصَلَ إِلَى وَاسِطٍ فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ
وبَجْكَمُ لِقِتَالِهِ فَانْصَرَفَ رَاجِعًا، وَرَجَعَا إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَدِينَةَ
أَصْبَهَانَ أَخَذَهَا مِنْ وُشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوِيجَ ; لِقِلَّةِ جَيْشِهِ
فِي ذَلِكَ الْحِينِ.
وَفِي شَعْبَانَ زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً، وَانْتَشَرَتْ فِي
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَسَقَطَتْ دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَانْبَثَقَ بَثْقٌ مِنْ
نَوَاحِي الْأَنْبَارِ فَغَرَّقَ قُرًى كَثِيرَةً، وَهَلَكَ بِسَبَبِهِ
حَيَوَانَاتٌ وَسِبَاعٌ كَثِيرَةٌ فِي الْبَرِّيَّةِ.
وَفِيهَا تَزَوَّجَ بَجْكَمُ بِسَارَةَ بِنْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيِّ، وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْوَزِيرُ
يَوْمَئِذٍ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ صُرِفَ عَنِ الْوِزَارَةِ بِسُلَيْمَانَ بْنِ
الْحَسَنِ، وَضَمِنَ الْبَرِيدِيُّ بِلَادَ وَاسِطٍ وَأَعْمَالَهَا بِسِتِّمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ قَاضِي الْقُضَاةِ
أَبُو الْحُسَيْنِ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَتَوَلَّى مَكَانَهُ
وَلَدُهُ أَبُو نَصْرٍ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ الرَّاضِي يَوْمَ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا.
وَلَمَّا خَرَجَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى وَاسِطٍ كَتَبَ إِلَى
بَجْكَمَ يَحُثُّهُ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ ; لِيَفْتَحَهَا
وَيُسَاعِدُهُ هُوَ عَلَى أَخْذِ الْأَهْوَازِ مِنْ يَدِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْتَغْيِبَهُ عَنْ بَغْدَادَ
لِيَأْخُذَهَا، فَلَمَّا انْفَصَلَ بَجْكَمُ بِالْجُنُودِ بَلَغَهُ مَا
يُؤَمِّلُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ مِنَ الْمَكِيدَةِ، فَرَجَعَ
سَرِيعًا إِلَى بَغْدَادَ وَرَكِبَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ
الطُّرُقَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِئَلَّا يَشْعُرَ بِهِ إِلَّا وَهُوَ عِنْدَهُ
عَلَى حَافَّةِ السَّفِينَةِ، فَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي زَوْرَقٍ،
وَعِنْدَهُ كَاتِبٌ لَهُ، إِذْ سَقَطَتْ حَمَامَةٌ عَلَى جَانِبِ السَّفِينَةِ فِي
ذَنَبِهَا كِتَابٌ، فَأَخَذَهُ بَجْكَمُ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ مِنْ
هَذَا الْكَاتِبِ إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ يُعْلِمُهُمْ بِخَبَرِ
بَجْكَمَ، فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ ! أَهَذَا خَطُّكَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ، وَأُلْقِيَ فِي
دِجْلَةَ، وَحِينَ أَحَسَّ الْبَرِيدِيُّ بِقُدُومِ بَجْكَمَ هَرَبَ إِلَى
الْبَصْرَةِ وَلَمْ يُقِمْ بِهَا أَيْضًا، فَاسْتَوْلَى بَجْكَمُ عَلَى بِلَادِ
وَاسِطٍ وَتَسَلَّطَ الدَّيْلَمُ عَلَى جَيْشِهِ الَّذِينَ خَلَّفَهُمْ
بِالْجَبَلِ، فَفَرُّوا سِرَاعًا إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ
فَدَخَلَ حِمْصَ أَوَّلًا
فَأَخَذَهَا، ثُمَّ جَاءَ إِلَى
دِمَشْقَ وَعَلَيْهَا بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْإِخْشِيدِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِبُدَيْرٍ، مِنْ جِهَةِ الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ، فَأَخْرَجَهُ ابْنُ
رَائِقٍ مِنْهَا قَهْرًا، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا.
ثُمَّ رَكِبَ فِي جَيْشٍ إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَخَذَهَا، ثُمَّ قَصَدَ عَرِيشَ
مِصْرَ ; لِيَدْخُلَهَا، فَلَقِيَهُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ، فَاقْتَتَلَا هُنَاكَ،
فَهَزَمَهُ ابْنُ رَائِقٍ وَاشْتَغَلَ أَصْحَابُهُ بِالنَّهْبِ، وَنَزَلُوا فِي
خِيَامِ الْمِصْرِيِّينَ، فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْمِصْرِيُّونَ، فَقَتَلُوهُمْ
قَتْلًا عَظِيمًا، وَهَرَبَ مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ
أَصْحَابِهِ، فَدَخَلَ دِمَشْقَ فِي أَسْوَأِ حَالَةٍ وَشَرِّهَا، وَسَيَّرَ
إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ أَخَاهُ نَصْرَ بْنَ طُغْجٍ فِي جَيْشٍ،
فَاقْتَتَلُوا عِنْدَ اللَّجُّونِ فِي رَابِعِ ذِي الْحِجَّةِ، فَهُزِمَ
الْمِصْرِيُّونَ وَقُتِلَ أَخُو الْإِخْشِيدِ فِيمَنْ قُتِلَ، فَغَسَّلَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ وَكَفَّنَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى أَخِيهِ بِمِصْرَ،
وَأَرْسَلَ مَعَهُ وَلَدَهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ يَحْلِفُ لَهُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ
قَتْلَهُ، وَهَذَا وَلَدِي فَاقْتَدْ مِنْهُ. فَأَكْرَمَ الْإِخْشِيدُ وَلَدَ
مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ، وَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الرَّمْلَةُ وَمَا
بَعْدَهَا إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لِلْإِخْشِيدِ، وَيَحْمِلَ إِلَيْهِ الْإِخْشِيدُ
فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَمَا
بَعْدَ الرَّمْلَةِ يَكُونُ لِمُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ:
جَعْفَرُ الْمُرْتَعِشُ أَبُو مُحَمَّدٍ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ،
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّلَمِيُّ: اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ
النَّيْسَابُورِيُّ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ، فَتَخَلَّى عَنْهَا، وَصَحِبَ
الْجُنَيْدَ وَأَبَا حَفْصٍ وَأَبَا عُثْمَانَ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ حَتَّى صَارَ
شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ، فَكَانَ يُقَالُ: عَجَائِبُ بَغْدَادَ ثَلَاثٌ: إِشَارَاتُ
الشِّبْلِيِّ، وَنُكَتُ الْمُرْتَعِشِ، وَحِكَايَاتُ جَعْفَرٍ الْخَوَّاصِ
سَمِعْتُ أَبَا الْفَرَجِ الصَّائِغِ يَقُولُ: قَالَ الْمُرْتَعِشُ: مَنْ ظَنَّ
أَنَّ أَفْعَالَهُ تُنْجِيهِ مِنَ النَّارِ أَوْ تُبَلِّغُهُ الرِّضْوَانَ، فَقَدْ
جَعَلَ لِنَفْسِهِ وَلِفِعْلِهِ خَطَرًا، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ
بَلَّغَهُ اللَّهُ أَقْصَى مَنَازِلِ الرِّضْوَانِ.
وَقِيلَ لِلْمُرْتَعِشِ: إِنْ فُلَانًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ. فَقَالَ: إِنَّ
مُخَالَفَةَ الْهَوَى أَعْظَمُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ بِمَسْجِدِ الشُّونِيزِيَّةِ، حَسِبُوا مَا
عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِذَا عَلَيْهِ سَبْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، فَقَالَ:
بِيعُوا خُرَيْقَاتِي هَذِهِ وَاقْضُوا بِهَا دَيْنِي، وَأَرْجُو أَنْ يَرْزُقَنِي
اللَّهُ كَفَنًا، وَقَدْ سَأَلْتُ اللَّهَ ثَلَاثًا ; سَأَلْتُهُ أَنْ يُمِيتَنِي
وَأَنَا فَقِيرٌ، وَأَنْ يَجْعَلَ وَفَاتِي فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَإِنِّي
صَحِبْتُ فِيهِ أَقْوَامًا، وَأَنْ يَجْعَلَ عِنْدِي مَنْ آنَسُ بِهِ وَأُحِبُّهُ.
ثُمَّ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ وَمَاتَ.
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
عِيسَى بْنِ الْفَضْلِ بْنِ بَشَّارٍ
أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَانَ
زَاهِدًا
وَرِعًا نَاسِكًا عَابِدًا، وَلِيَ
الْقَضَاءَ بِقُمَّ، ثُمَّ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فَكَانَ يَدُورُ بِهَا وَيُصَلِّي
عَلَى بَغْلَتِهِ وَهُوَ سَائِرٌ بَيْنَ الْأَزِقَّةِ، وَكَانَ مُتَقَلِّلًا
جِدًّا. وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ
" بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلَهُ كِتَابُ " الْقَضَاءِ " لَمْ
يُصَنَّفْ مِثْلُهُ فِي بَابِهِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُزَيِّنُ الصَّغِيرُ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ
وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى تُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَالَ، وَيَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ: وَرَدْتُ بِئْرًا فِي أَرْضِ
تَبُوكَ فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهَا زَلِقْتُ فَسَقَطْتُ فِي الْبِئْرِ، وَلَيْسَ
أَحَدٌ يَرَانِي، فَلَمَّا كُنْتُ فِي أَسْفَلِهِ إِذَا فِيهَا مِصْطَبَةٌ
فَعَلَوْتُهَا، وَقُلْتُ: إِنْ مُتُّ لَا أُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ الْمَاءَ،
وَسَكَنَتْ نَفْسِي وَطَابَتْ لِلْمَوْتِ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذَا أَفْعَى
قَدْ تَدَلَّتْ عَلَيَّ فَلَفَّتْ عَلَيَّ ذَنَبَهَا، ثُمَّ رَفَعَتْنِي حَتَّى
أَخْرَجَتْنِي إِلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَانْسَابَتْ فَلَمْ أَدْرِ أَيْنَ
ذَهَبَتْ، وَلَا مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ.
وَفِي مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو جَعْفَرٍ الْمُزَيِّنُ
الْكَبِيرُ، جَاوَرَ بِمَكَّةَ، وَمَاتَ بِهَا أَيْضًا، وَكَانَ مِنَ الْعُبَّادِ.
رَوَى الْخَطِيبُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي عَلِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيَّ، عَنْ جَعْفَرٍ
الْخُلْدِيِّ، قَالَ: وَدَّعْتُ فِي بَعْضِ حَجَّاتِي الْمُزَيِّنَ الْكَبِيرَ،
فَقُلْتُ لَهُ: زَوِّدْنِي. فَقَالَ لِي: إِذَا فَقَدْتَ شَيْئًا، فَقُلْ: يَا
جَامِعَ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ، اجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ كَذَا. فَإِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَكَ
وَبَيْنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى الْكَتَّانِيِّ، فَوَدَّعْتُهُ،
وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُزَوِّدَنِي، فَأَعْطَانِي خَاتَمًا عَلَى فَصِّهِ نَقْشٌ،
فَقَالَ: إِذَا اغْتَمَمْتَ فَانْظُرْ إِلَى هَذَا الْفَصِّ يَزُلْ غَمُّكَ،
قَالَ: فَكُنْتُ لَا أَدْعُو بِذَلِكَ الدُّعَاءِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي وَلَا
أَنْظُرُ إِلَى ذَلِكَ الْفَصِّ إِلَّا زَالَ عَنِّي مَا أَجِدُهُ، فَبَيْنَا
أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ فِي سُمَيْرِيَّةٍ إِذْ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَأَخْرَجْتُ
الْخَاتَمَ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمْ أَدْرِ كَيْفَ ذَهَبَ، فَجَعَلْتُ أَدْعُو
بِذَلِكَ الدُّعَاءِ يَوْمِي كُلَّهُ، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ،
فَتَّشْتُ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي الْمَنْزِلِ، فَإِذَا الْخَاتَمُ فِي بَعْضِ
ثِيَابِي الَّتِي كَانَتْ بِالْمَنْزِلِ.
صَاحِبُ كِتَابِ " الْعِقْدِ الْفَرِيدِ " أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ
بْنِ حَبِيبِ بْنِ حُدَيْرِ بْنِ سَالِمٍ، أَبُو عُمَرُ الْقُرْطُبِيُّ
مَوْلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ، كَانَ مِنَ
الْفُضَلَاءِ الْمُكْثِرِينَ، وَالْعُلَمَاءِ بِأَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ
وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَكِتَابُهُ " الْعِقْدُ " يَدُلُّ عَلَى
فَضَائِلَ جَمَّةٍ،
وَعُلُومٍ كَثِيرَةٍ مُهِمَّةٍ،
وَلَكِنَّهُ يَدُلُّ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى تَشَيُّعٍ فِيهِ، وَمَيْلٍ
إِلَى الْحَطِّ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ أَحَدُ
مَوَالِيهِمْ، وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُوَالِيهِمْ لَا
مِمَّنْ يُعَادِيهِمْ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ حَسَنٍ. ثُمَّ أَوْرَدَ
مِنْهُ أَشْعَارًا فِي التَّغَزُّلِ فِي الْمُرْدَانِ وَالنِّسْوَانِ أَيْضًا،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَتُوُفِّيَ بِقُرْطُبَةَ يَوْمَ الْأَحَدِ ثَامِنَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عُمَرُ بْنُ أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ
الْأَزْدِيُّ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ الْقَاضِي ابْنُ الْقَاضِي، نَابَ عَنْ أَبِيهِ
وَعُمْرُهُ عِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَاللُّغَةِ
وَالنَّحْوِ وَالشِّعْرِ. وَصَنَّفَ مُسْنَدًا، وَرُزِقَ قُوَّةَ الْفَهْمِ
وَجَوْدَةَ الْقَرِيحَةِ، وَشَرَفَ الْأَخْلَاقِ، وَلَهُ الشِّعْرُ الرَّائِقُ
الْحَسَنُ، وَكَانَ مَشْكُورَ السِّيرَةِ فِي الْقَضَاءِ، عَدْلًا ثِقَةً
إِمَامًا.
قَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرْنَا أَبُو الطِّيبِ الطَّبَرَيُّ: سَمِعْتُ الْمُعَافَى
بْنَ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيَّ يَقُولُ: كُنَّا نَجْلِسُ فِي حَضْرَةِ الْقَاضِي
أَبِي الْحُسَيْنِ، فَجِئْنَا يَوْمًا نَنْتَظِرُهُ عَلَى الْعَادَةِ، فَجَلَسْنَا
عِنْدَ بَابِهِ، وَإِذَا أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ كَأَنَّ لَهُ حَاجَةً، إِذْ وَقَعَ
غُرَابٌ عَلَى نَخْلَةٍ فِي الدَّارِ، فَصَرَخَ ثُمَّ طَارَ. فَقَالَ
الْأَعْرَابِيُّ: هَذَا الْغُرَابُ يَقُولُ إِنَّ
صَاحِبَ هَذِهِ الدَّارِ يَمُوتُ
بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ. قَالَ: فَزَبَرْنَاهُ، فَقَامَ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ
خَرَجَ الْإِذْنُ مِنَ الْقَاضِي إِلَيْنَا أَنْ هَلُمُّوا فَادْخُلُوا،
فَدَخَلْنَا، فَإِذَا بِهِ مُتَغَيِّرُ اللَّوْنِ مُغْتَمٌّ، فَقُلْنَا: مَا
الْخَبَرُ ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ شَخْصًا
يَقُولُ:
مَنَازِلَ آلِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى أَهْلِيكِ وَالنِّعَمِ السَّلَامُ
وَقَدْ ضَاقَ لِذَلِكَ صَدْرِي. قَالَ: فَدَعَوْنَا لَهُ وَانْصَرَفْنَا. فَلَمَّا
كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ دُفِنَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ لِيَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَثَلَاثُونَ
سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ أَبُو نَصْرٍ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ.
قَالَ الصُّولِيُّ: بَلَغَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ مَبْلَغًا
عَظِيمًا مَعَ حَدَاثَةِ السِّنِّ، وَحِينَ تُوُفِّيَ كَانَ الرَّاضِي يَبْكِي
عَلَيْهِ بِحَضْرَتِنَا وَيَقُولُ: كُنْتُ أَضِيقُ بِالشَّيْءِ ذَرْعًا
فَيُوَسِّعُهُ عَلَيَّ. ثُمَّ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا بَقِيتُ بَعْدَهُ.
ابْنُ شَنَبُوذَ الْمُقْرِئُ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ
الصَّلْتِ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَنَبُوذَ، رَوَى عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ، وَبِشْرِ
بْنِ مُوسَى وَخَلْقٍ، وَكَانَ يَخْتَارُ حُرُوفًا أَنْكَرَهَا أَهْلُ زَمَانِهِ
عَلَيْهِ، وَصَنَّفَ أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ كِتَابًا فِي الرَّدِّ
عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، كَيْفَ أَنَّهُ عُقِدَ لَهُ
مَجْلِسٌ فِي دَارِ الْوَزِيرِ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مُقْلَةَ، وَأَنَّهُ ضُرِبَ حَتَّى رَجَعَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ
الشَّاذَّةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْقُرَّاءُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ عَلَيْهِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْهَا، وَقَدْ دَعَا ابْنُ شَنَبُوذَ عَلَى
ابْنِ مُقْلَةَ حِينَ أَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَلَمْ يُفْلِحِ ابْنُ مُقْلَةَ
بَعْدَهَا.
ابْنُ مُقْلَةَ الْوَزِيرُ أَحَدُ الْكُتَّابِ الْمَشَاهِيرِ، مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو عَلِيٍّ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
مُقْلَةَ الْوَزِيرِ
وَقَدْ كَانَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ ضَعِيفَ الْحَالِ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ
إِلَى أَنْ وَلِيَ الْوِزَارَةَ لِثَلَاثَةٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَهُمُ
الْمُقْتَدِرُ، وَالْقَاهِرُ، وَالرَّاضِي، وَعُزِلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقُطِعَتْ
يَدُهُ وَلِسَانُهُ فِي آخِرِ أَمْرِهِ وَحُبِسَ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ
بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَسْنَانِهِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَكْتُبُ بِيَدِهِ
الْيُمْنَى بَعْدَ قَطْعِهَا، كَمَا كَانَ يَكْتُبُ وَهِيَ صَحِيحَةٌ، وَقَدْ
كَانَ خَطُّهُ مِنْ أَقْوَى الْخُطُوطِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ، وَقَدْ
بَنَى لَهُ دَارًا فِي زَمَانِ وِزَارَتِهِ، فَجَمَعَ عِنْدَ بِنَائِهَا خَلْقًا
مِنَ الْمُنَجِّمِينَ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ تُبْنَى فِي الْوَقْتِ
الْفُلَانِيِّ، فَأَسَّسَ جُدْرَانَهَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ، كَمَا أَشَارُوا،
فَمَا لَبِثَ بَعْدَ اسْتِتْمَامِهَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى خُرِّبَتْ وَصَارَتْ
كَوْمًا، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا كَتَبُوا عَلَى جُدْرَانِهَا،
وَقَدْ
كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ كَبِيرٌ جِدًّا،
فِيهِ عِدَّةُ أَجْرِبَةٍ - أَيْ فَدَادِينَ - وَعَلَيْهِ جَمِيعِهِ شَبَكَةٌ مِنْ
إِبْرَيْسَمٍ، وَفِيهِ مِنَ الطُّيُورِ الْقَمَارِيِّ وَالْهَزَارِ وَالْبَبْغِ
وَالْبَلَابِلِ وَالطَّوَاوِيسِ وَالْقَبْجِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَفِي أَرْضِهِ مِنَ
الْغِزْلَانِ، وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَحَمِيرِهِ، وَالنَّعَامِ وَالْإِبِلِ شَيْءٌ
كَثِيرٌ أَيْضًا. ثُمَّ صَارَ هَذَا كُلُّهُ عَمَّا قَرِيبٍ بَعْدَ النُّضْرَةِ
وَالْبَهَاءِ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْفَنَاءِ. وَقَدْ أَنْشَدَ فِيهِ بَعْضُ
الشُّعَرَاءِ حِينَ بَنَى دَارَهُ:
قُلْ لِابْنِ مُقْلَةَ مَهْلًا لَا تَكُنْ عَجِلًا وَاصْبِرْ فَإِنَّكَ فِي
أَضْغَاثِ أَحْلَامِ
تَبْنِي بِأَنْقَاضِ دُورِ النَّاسِ مُجْتَهِدًا دَارًا سَتُنْقَضُ أَيْضًا بَعْدَ
أَيَّامِ
مَا زِلْتَ تَخْتَارُ سَعْدَ الْمُشْتَرِيِّ لَهَا فَلَمْ تُوَقَّ بِهِ مِنْ
نَحْسِ بَهْرَامِ
إِنَّ الْقُرَانَ وَبَطْلَيْمُوسَ مَا اجْتَمَعَا فِي حَالِ نَقْضٍ وَلَا فِي
حَالِ إِبْرَامِ
فَعُزِلَ ابْنُ مُقْلَةَ عَنْ وِزَارَتِهِ، وَخُرِّبَتْ دَارُهُ، وَأُتْلِفَتْ
أَشْجَارُهُ، وَقُطِعَتْ يَدُهُ، ثُمَّ قُطِعَ لِسَانُهُ، وَأُغْرِمَ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سُجِنَ وَحْدَهُ، مَعَ الْكِبَرِ وَالضَّعْفِ
وَالضَّرُورَةِ، فَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِنَفْسِهِ مِنْ بِئْرٍ عَمِيقٍ،
فَكَانَ يَمُدُّ الْحَبْلَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَيُمْسِكُهُ بِفِيهِ. وَقَاسَى
جَهْدًا جَهِيدًا، بَعْدَمَا ذَاقَ عَيْشًا رَغِيدًا، وَمِنْ شِعْرِهِ حِينَ
قُطِعَتْ يَدُهُ:
مَا سَئمْتُ الْحَيَاةَ لَكَنْ تَوَثَّقْتُ بِأَيْمَانِهِمْ فَبَانَتْ يَمِينِي
بِعْتُ دِينِي لَهُمْ بِدُنْيَايَ حَتَّى حَرَمُونِي دُنْيَاهُمْ بَعْدَ دِينِي
وَلَقَدْ حُطْتُ مَا اسْتَطَعْتُ
بِجَهْدِي حِفْظَ أَرْوَاحِهِمْ فَمَا حَفَظُونِي
لَيْسَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَذَّةُ عَيْشٍ يَا حَيَاتِي بَانَتْ يَمِينِي فَبِينِي
وَكَانَ يَبْكِي عَلَى يَدِهِ كَثِيرًا، وَيَقُولُ: بَعْدَمَا خَدَمْتُ بِهَا
ثَلَاثَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَكَتَبْتُ بِهَا الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ، تُقْطَعُ
كَمَا تُقْطَعُ أَيْدِيَ اللُّصُوصِ ! ثُمَّ يُنْشِدُ:
إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضًا فَإِنَّ الْبَعْضَ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ
وَقَدْ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَحْبِسِهِ هَذَا، وَدُفِنَ فِي دَارِ
السُّلْطَانِ، ثُمَّ سَأَلَ وَلَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَنْ يُحَوَّلَ فَأُجِيبَ،
فَنَبَشُوهُ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ عِنْدَهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ سَأَلَتْ زَوْجَتُهُ
الْمَعْرُوفَةُ بِالدِّينَارِيَّةِ أَنْ يُدْفَنَ فِي دَارِهَا، فَنُبِشَ وَدُفِنَ
عِنْدَهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ أَيْضًا. مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَهُ
مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَخَمْسُونَ سَنَةً.
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
بَشَّارِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بَيَانِ بْنِ سَمَاعَةَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ قَطَنِ
بْنِ دِعَامَةَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ
الْمُصَنَّفَاتِ، وَكَانَ مِنْ بُحُورِ الْعِلْمِ فِي اللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ. سَمِعَ الْكَدِيمِيَّ وَإِسْمَاعِيلَ الْقَاضِي وَثَعْلَبًا
وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَدِيبًا، دَيِّنًا فَاضِلًا، مِنْ أَهْلِ
السُّنَّةِ، مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ وَأَكْثَرِهِمْ
حِفْظًا لَهُ، وَكَانَتْ لَهُ مِنَ الْمَحَافِيظِ مُجَلَّدَاتٌ عَظِيمَةٌ
كَثِيرَةٌ
أَحْمَالُ أَجْمَالٍ، وَكَانَ لَا
يَأْكُلُ إِلَّا التَّقَالِيَ، وَلَا يَشْرَبُ مَاءً إِلَى قَرِيبِ الْعَصْرِ ;
مُرَاعَاةً لِحِفْظِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ مِائَةً وَعِشْرِينَ
تَفْسِيرًا. وَحَفِظَ تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا فِي لَيْلَةٍ، وَكَانَ يَحْفَظُ فِي
كُلِّ جُمُعَةٍ عَشْرَةَ آلَافِ وَرَقَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ
النَّحْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أُمُّ عِيسَى بِنْتُ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ
كَانَتْ عَالِمَةً فَاضِلَةً، تُفْتِي فِي الْفِقْهِ. تُوُفِّيَتْ فِي رَجَبٍ
مِنْهَا، وَدُفِنَتْ إِلَى جَانِبِ أَبِيهَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُنْتَصَفِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ
الرَّاضِي بِاللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ أَحْمَدَ بْنِ
الْمُوَفَّقِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ
الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ
الْعَبَّاسِيِّ، اسْتُخْلِفَ بَعْدَ عَمِّهِ الْقَاهِرِ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأُمُّهُ
أُمُّ وَلَدٍ رُومِيَّةٌ تُسَمَّى ظَلُومَ، كَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ
سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سِتَّ سِنِينَ
وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَعُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ إِحْدَى
وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَعَشَرَةَ أَشْهُرٍ.
وَكَانَ أَسْمَرَ رَقِيقَ السُّمْرَةِ، دُرِّيَّ اللَّوْنِ، أَسْوَدَ الشَّعْرِ
سَبْطَهُ، قَصِيرَ الْقَامَةِ، نَحِيفَ الْجِسْمِ، فِي وَجْهِهِ طُولٌ، وَفِي
مُقَدَّمِ لِحْيَتِهِ تَمَامٌ، وَفِي شَعْرِهَا رِقَّةٌ. هَكَذَا وَصَفَهُ مَنْ
شَاهَدَهُ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ لِلرَّاضِي فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ وَخَتَمَ
الْخُلَفَاءَ فِي أُمُورٍ عِدَّةٍ ; فَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ آخِرَ خَلِيفَةٍ لَهُ
شِعْرٌ مُدَوَّنٌ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ انْفَرَدَ بِتَدْبِيرِ
الْجُيُوشِ وَالْأَمْوَالِ، وَآخِرَ
خَلِيفَةٍ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ جَالَسَ
الْجُلَسَاءَ وَوَصَلَ إِلَيْهِ النُّدَمَاءُ، وَآخِرَ خَلِيفَةٍ كَانَتْ
نَفَقَتُهُ وَجَوَائِزُهُ وَعَطَايَاهُ وَجِرَايَاتُهُ وَخَزَائِنُهُ
وَمَطَابِخُهُ وَمَجَالِسُهُ وَخَدَمُهُ وَحُجَّابُهُ وَأُمُورُهُ، كُلُّ ذَلِكَ
يَجْرِي عَلَى تَرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْخُلَفَاءِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ فَصِيحًا بَلِيغًا كَرِيمًا جَوَادًا مُمَدَّحًا.
وَمِنْ جِيدِ كَلَامِهِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
الصُّولِيُّ: لِلَّهِ أَقْوَامٌ هُمْ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ، وَأَقْوَامٌ مَفَاتِيحُ
الشَّرِّ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا قَصَدَ بِهِ أَهْلَ الْخَيْرِ،
وَجَعَلَهُ الْوَسِيلَةَ إِلَيْنَا، فَنَقْضِي حَاجَتَهُ، فَهُوَ الشَّرِيكُ فِي
الثَّوَابِ وَالشُّكْرِ، وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ شَرًّا عَدَلَ بِهِ إِلَى
غَيْرِنَا، فَهُوَ الشَّرِيكُ فِي الْوِزْرِ وَالْإِثْمِ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَمِنْ أَلْطَفِ الِاعْتِذَارَاتِ مَا كَتَبَ بِهِ الرَّاضِي إِلَى أَخِيهِ
الْمُتَّقِي، وَهُمَا فِي الْمَكْتَبِ - وَكَانَ الْمُتَّقِي قَدِ اعْتَدَى عَلَى
الرَّاضِي، وَالرَّاضِي هُوَ الْكَبِيرُ مِنْهُمَا - فَكَتَبَ إِلَيْهِ الرَّاضِي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أَنَا مُعْتَرِفٌ لَكَ بِالْعُبُودِيَّةِ
فَرْضًا، وَأَنْتَ مُعْتَرِفٌ لِي بِالْأُخُوَّةِ فَضْلًا، وَالْعَبْدُ يُذْنِبُ
وَالْمَوْلَى يَعْفُو، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرَ:
يَا ذَا الَّذِي يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ شَيْ اعْتِبْ فَعُتْبَاكَ حَبِيبٌ إِلَيْ
أَنْتَ عَلَى أَنَّكَ لِي ظَالِمٌ
أَعَزُّ خَلْقِ اللَّهِ طُرًّا عَلَيْ
قَالَ: فَجَاءَ إِلَيْهِ أَخُوهُ الْمُتَّقِي، فَأَكَبَّ عَلَيْهِ يُقَبِّلُ
يَدَيْهِ، وَتَعَانَقَا وَاصْطَلَحَا.
وَمِنْ لَطِيفِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ
فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ ":
يَصْفَرُّ وَجْهِي إِذَا تَأَمَّلَهُ طَرْفِي وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ خَجَلَا
حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي بِوَجْنَتِهِ مِنْ دَمِ جِسْمِي إِلَيْهِ قَدْ نُقِلَا
قَالَ: وَمِمَّا رَثَى بِهِ أَبَاهُ الْمُقْتَدِرَ:
وَلَوْ أَنَّ حَيًّا كَانَ قَبْرًا لِمَيِّتٍ لَصَيَّرْتُ أَحْشَائِي لِأَعْظُمِهِ
قَبْرَا
وَلَوْ أَنَّ عُمْرِي كَانَ طَوْعَ مَشِيئَتِي وَسَاعَدَنِي الْمَقْدُورُ
قَاسَمْتُهُ الْعُمْرَا
بِنَفْسِي ثَرًى ضَاجَعْتُ فِي تُرْبِهِ الْبِلَى لَقَدْ ضَمَّ مِنْكَ الْغَيْثَ
وَاللَّيْثَ وَالْبَدْرَا
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ لَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ":
لَا تَعْذِلِي كَرَمِي عَلَى الْإِسْرَافِ رِبْحُ الْمَحَامِدِ مَتْجَرُ
الْأَشْرَافِ
أَجْرِي كَآبَائِي الْخَلَائِفِ سَابِقًا وَأَشِيدُ مَا قَدْ أَسَّسَتْ أَسْلَافِي
إِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَكُفُّهُمْ مُعْتَادَةُ الْإِخْلَافِ
وَالْإِتْلَافِ
وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ يَحْيَى الصُّولِيِّ النَّدِيمِ عَنْهُ قَوْلُهُ:
كُلُّ صَفْوٍ إِلَى كَدَرْ كُلُّ
أَمْنٍ إِلَى حَذَرْ
وَمَصِيرُ الشَّبَابِ لِلْ مَوْتِ فِيهِ أَوِ الْكِبَرْ
دَرَّ دَرُّ الْمَشِيبِ مِنْ وَاعِظٍ يُنْذِرُ الْبَشَرْ
أَيُّهَا الْآمِلُ الَّذِي تَاهَ فِي لُجَّةِ الْغَرَرْ
أَيْنَ مَنُ كَانَ قَبْلَنَا دَرَسَ الْعَيْنُ وَالْأَثَرْ
سَيَرُدُّ الْمُعَارَ مَنْ عُمْرُهُ كُلُّهُ خَطَرْ
رَبِّ إِنِّي ذَخَرْتُ عِنْ دَكَ أَرْجُوكَ مُدَّخَرْ
إِنَّنِي مُؤْمِنُّ بِمَا بَيَّنَ الْوَحْيِ فِي السُّوَرْ
وَاعْتِرَافِي بِتَرْكِ نَفْ عِي وَإِيثَارِيَ الضَّرَرْ
رَبِّ فَاغْفِرْ لِيَ الْخَطِي ئَةَ يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرْ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِعِلَّةِ الِاسْتِسْقَاءِ فِي لَيْلَةِ السَّادِسِ
عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ قَدْ أَرْسَلَ
إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ ; لِيَعْهَدَ إِلَى وَلَدِهِ الْأَصْغَرِ أَبِي
الْفَضْلِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ ذَلِكَ، وَبَايَعَ النَّاسُ أَخَاهُ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ. وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا
مَقْدُورًا.
ذِكْرُ خِلَافَةِ الْمُتَّقِي أَبِي
إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ
لَمَّا مَاتَ أَخُوهُ الرَّاضِي اجْتَمَعَ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بِدَارِ
بَجْكَمَ، وَاشْتَوَرُوا فِيمَنْ يُوَلُّونَ عَلَيْهِمْ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ
كُلُّهُمْ عَلَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِبْرَاهِيمَ هَذَا، فَأَحْضَرُوهُ إِلَى
دَارِ الْخِلَافَةِ، وَأَرَادُوا بَيْعَتَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ صَلَاةَ
الِاسْتِخَارَةِ، وَهُوَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَصْعَدْ إِلَى الْكُرْسِيِّ
بَعْدُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّرِيرِ، وَبَايَعَهُ النَّاسُ، وَكَانَ ذَلِكَ
يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، أَعْنِي سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَلَمْ يُغَيِّرْ
عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا، وَلَا غَدَرَ بِأَحَدٍ، حَتَّى وَلَا عَلَى سُرِّيَّتِهِ
لَمْ يُغَيِّرْهَا، وَلَمْ يَتَسَرَّ عَلَيْهَا.
وَكَانَ كَمَا سُمِّيَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ ; كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ
وَالتَّعَبُّدِ، وَقَالَ: لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنَ الْجُلَسَاءِ، حَسْبِيَ
الْمُصْحَفُ نَدِيمِي، لَا أُرِيدُ نَدِيمًا غَيْرَهُ، فَقَعَدَ عَنْهُ
الْجُلَسَاءُ وَالنُّدَمَاءُ وَالْتَفُّوا عَلَى بَجْكَمَ، وَكَانَ يُجَالِسُهُمْ فَيُحَادِثُونَهُ
وَيَتَنَاشَدُونَ عِنْدَهُ الْأَشْعَارَ، فَكَانَ لَا يَفْهَمُ كَثِيرَ شَيْءٍ
مِمَّا يَقُولُونَ ; لِعُجْمَتِهِ، وَكَانَ فِي جُمْلَتِهِمْ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ
الصَّابِئُ الْمُتَطَبِّبُ، وَكَانَ بَجْكَمُ يَشْكُو إِلَيْهِ قُوَّةَ النَّفْسِ
الْغَضَبِيَّةَ فِيهِ، فَكَانَ سِنَانٌ يُهَذِّبُ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَيُسَكِّنُ
جَأْشَهُ، وَيُرَوِّضُ نَفْسَهُ حَتَّى
يَسْكُنَ عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ
يَتَعَاطَاهُ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ، وَكَانَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ حَسَنَ
الْوَجْهِ، مُعْتَدِلَ الْخُلُقِ، قَصِيرَ الْأَنْفِ، أَبْيَضَ مُشْرَبًا
حُمْرَةً، وَفِي شِعْرِهِ شُقْرَةٌ وَجُعُودَةٌ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، أَشْهَلُ
الْعَيْنَيْنِ، أَبِيُّ النَّفْسِ، لَمْ يَشْرَبِ النَّبِيذَ قَطُّ، فَالْتَقَى
فِيهِ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُتَّقِي فِي الْخِلَافَةِ أَنْفَذَ الرُّسُلَ وَالْخِلَعَ
إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ، وَنَفَذَتِ الْمُكَاتَبَاتُ إِلَى الْآفَاقِ
بِوِلَايَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَحَارَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وبَجْكَمُ
بِنَاحِيَةِ الْأَهْوَازِ، فَقُتِلَ بَجْكَمُ فِي الْحَرْبِ، وَاسْتَظْهَرَ
الْبَرِيدِيُّ عَلَيْهِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، فَاحْتَاطَ الْخَلِيفَةُ عَلَى
حَوَاصِلِ بَجْكَمَ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِ أَلْفُ
أَلْفِ دِينَارٍ وَمِائَتَا أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَتْ أَيَّامُ بَجْكَمَ عَلَى
بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ.
ثُمَّ إِنَّ الْبَرِيدِيَّ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِبَغْدَادَ، فَأَنْفَقَ
الْخَلِيفَةُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي الْجُنْدِ لِيَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ،
وَرَكِبَ بِنَفْسِهِ، فَخَرَجَ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ
ذَلِكَ، فَخَالَفَهُ الْبَرِيدِيُّ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي ثَانِي رَمَضَانَ،
وَنَزَلَ بِالشُّفَيْعِيِّ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمُتَّقِي ذَلِكَ بَعْثَ
إِلَيْهِ يُهَنِّئُهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْأَطْعِمَةِ، وَخُوطِبَ
بِالْوَزِيرِ، وَلَمْ يُخَاطَبْ بِإِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ، فَأَرْسَلَ
الْبَرِيدِيُّ يَطْلُبُ مِنَ الْخَلِيفَةِ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
فَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، فَبَعَثَ يَتَهَدَّدُهُ وَيَتَوَعَّدُهُ
وَيُذَكِّرُهُ مَا حَلَّ بِالْمُعْتَزِّ وَالْمُسْتَعِينِ وَالْمُهْتَدِي،
وَاخْتَلَفَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ كَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ
إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ قَهْرًا، وَلَمْ
يَتَّفِقِ اجْتِمَاعُ الْخَلِيفَةِ وَالْبَرِيدِيِّ بِبَغْدَادَ حَتَّى خَرَجَ
الْبَرِيدِيُّ مِنْهَا إِلَى وَاسِطٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَارَتْ عَلَيْهِ
الدَّيَالِمَةُ، وَالْتَفُّوا عَلَى كَبِيرِهِمْ كُورْتَكِينَ، وَرَامُوا حَرِيقَ
دَارِ الْبَرِيدِيِّ حِينَ قَبَضَ الْمَالَ مِنَ الْخَلِيفَةِ وَلَمْ يُعْطِهِمْ
شَيْئًا، وَكَانَتِ الْبَجْكَمِيَّةُ طَائِفَةً أُخْرَى قَدِ اخْتَلَفَتْ مَعَهُ
أَيْضًا، وَهُمْ وَالدَّيَالِمُ قَدْ صَارُوا حِزْبَيْنِ، فَانْهَزَمَ
الْبَرِيدِيُّ مِنْ بَغْدَادَ يَوْمَ سَلْخِ رَمَضَانَ، فَاسْتَوْلَى كُورْتَكِينُ
عَلَى الْأُمُورِ بِبَغْدَادَ، وَدَخَلَ إِلَى الْمُتَّقِي، فَقَلَّدَهُ إِمْرَةَ
الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدْعَى الْمُتَّقِي لِلَّهِ عَلِيَّ بْنَ
عِيسَى وَأَخَاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَفَوَّضَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ
تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ بِوِزَارَةٍ، ثُمَّ قَبَضَ
كُورْتَكِينُ عَلَى رَئِيسِ الْأَتْرَاكِ تَكِينَكَ غُلَامِ بَجْكَمَ وَغَرَّقَهُ.
ثُمَّ تَظَلَّمَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الدَّيْلَمِ ; أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ
دُورَهُمْ، فَشَكَوَا ذَلِكَ إِلَى كُورْتَكِينَ، فَلَمْ يُشْكِهِمْ، فَمَنَعَتِ
الْعَامَّةُ الْخُطَبَاءَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْجَوَامِعِ، وَاقْتَتَلَ
الدَّيْلَمُ وَالْعَامَّةُ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ
غَفِيرٌ.
وَكَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ رَائِقٍ
صَاحِبِ الشَّامِ يَسْتَدْعِيهِ إِلَيْهِ لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الدَّيْلَمِ
وَالْبَرِيدِيِّ، فَرَكِبَ إِلَى بَغْدَادَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ،
وَمَعَهُ جَيْشٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ صَارَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَتْرَاكِ
الْبَجْكَمِيَّةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَحِينَ وَصَلَ إِلَى الْمَوْصِلِ حَادَ عَنْ
طَرِيقِهِ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، فَتَرَاسَلَا ثُمَّ اصْطَلَحَا،
وَحَمَلَ ابْنُ حَمْدَانَ إِلَى ابْنِ رَائِقٍ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا
اقْتَرَبَ ابْنُ رَائِقٍ مِنْ بَغْدَادَ خَرَجَ كُورْتَكِينُ فِي جَيْشِهِ
لِيُقَاتِلَهُ، فَدَخَلَ ابْنُ رَائِقٍ بَغْدَادَ مِنْ غَرْبِيِّهَا، وَرَجَعَ
كُورْتَكِينُ بِجَيْشِهِ مِنْ شَرْقِيِّهَا، ثُمَّ تَصَافُّوا بِبَغْدَادَ
لِلْقِتَالِ، فَسَاعَدَتِ الْعَامَّةُ ابْنَ رَائِقٍ عَلَى كُورْتَكِينَ،
فَانْهَزَمَ الدَّيْلَمُ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَهَرَبَ
كُورْتَكِينُ فَاخْتَفَى، وَاسْتَقَرَّ
أَمْرُ ابْنِ رَائِقٍ عَلَى بَغْدَادَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَرَكِبَ
هُوَ وَإِيَّاهُ فِي دِجْلَةَ، وَظَفِرَ ابْنُ رَائِقٍ بِكُورْتَكِينَ،
فَأَوْدَعَهُ السِّجْنَ الَّذِي فِي دَارِ الْخِلَافَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى حَضَرَ النَّاسُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِجَامِعِ بَرَاثَا،
وَقَدْ كَانَ الْمُقْتَدِرُ أَحْرَقَ هَذَا الْمَسْجِدَ ; لِأَنَّهُ كُبِسَ
فَوُجِدَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الشِّيعَةِ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ لِلسَّبِّ وَالشَّتْمِ،
فَلَمْ يَزَلْ خَرَابًا حَتَّى عَمَّرَهُ بَجْكَمُ فِي أَيَّامِ الرَّاضِي، ثُمَّ
أَمَرَ الْمُتَّقِي بِوَضْعِ مِنْبَرٍ فِيهِ كَانَ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّشِيدِ،
وَصَلَّى النَّاسُ فِيهِ هَذِهِ الْجُمُعَةَ، قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ تُقَامُ فِيهِ
إِلَى مَا بَعْدَ سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي لَيْلَةِ سَابِعِهِ
كَانَتْ لَيْلَةُ بَرْدٍ وَرَعْدٍ وَبَرْقٍ، فَسَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْخَضْرَاءُ
مِنْ قَصْرِ الْمَنْصُورِ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْقُبَّةُ تَاجَ بَغْدَادَ
وَعَلَمَ الْبَلَدِ، وَمَأْثُرَةً مِنْ مَآثِرِ بَنِي الْعَبَّاسِ عَظِيمَةً،
بُنِيَتْ أَوَّلَ مُلْكِهِمْ، وَكَانَ بَيْنَ بِنَائِهَا وَسُقُوطِهَا مِائَةٌ
وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَخَرَجَ التَّشْرِينَانِ وَالْكَانُونَانِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ وَلَمْ تُمْطَرْ بَغْدَادُ فِيهَا بِشَيْءٍ سِوَى مَطَرَةٍ
وَاحِدَةٍ لَمْ يَسِلْ مِنْهَا مِيزَابٌ، فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ
حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ بِمِائَةٍ
وَثَلَاثِينَ دِينَارًا، وَوَقَعَ الْفَنَاءُ فِي النَّاسِ حَتَّى كَانَ
الْجَمَاعَةُ يُدْفَنُونَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا
صَلَاةٍ، وَبِيعَ الْعَقَارُ وَالْأَثَاثُ بِأَرْخَصِ الْأَسْعَارِ، وَاشْتُرِيَ
بِالدِّرْهَمِ مَا كَانَ يُسَاوِي الدِّينَارَ، وَرَأَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهَا، وَهُوَ يَأْمُرُهَا
بِخُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّحْرَاءِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ، فَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِامْتِثَالِ ذَلِكَ، فَصَلَّى النَّاسُ وَاسْتَسْقَوْا، فَجَاءَتِ
الْأَمْطَارُ، فَزَادَتِ الْفُرَاتَ شَيْئًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، وَغَرِقَتِ
الْعَبَّاسِيَّةُ، وَدَخَلَ الْمَاءُ شَوَارِعَ بِبَغْدَادَ، فَسَقَطَتِ
الْقَنْطَرَةُ الْعَتِيقَةُ وَالْجَدِيدَةُ، وَقَطَعَتِ الْأَكْرَادُ عَلَى
قَافِلَةٍ مَنْ خُرَاسَانَ الطَّرِيقَ، فَأَخَذُوا مِنْهُمْ مَا قِيمَتُهُ
ثَلَاثَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ بَجْكَمَ
التُّرْكِيِّ.
وَخَرَجَ النَّاسُ لِلْحَجِّ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا مِنْ
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، بِسَبَبِ رَجُلٍ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ قَدْ ظَهَرَ
بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَخَرَجَ عَنِ
الطَّاعَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَوْمَرْدَ
الْفَقِيهُ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ سُرَيْجٍ، خَرَجَ مِنَ الْحَمَّامِ، فَسَقَطَ
عَلَيْهِ، فَمَاتَ مِنْ فَوْرِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ
الَّذِي تَوَلَّى إِمْرَةَ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ قَبْلَ بَنِي بُوَيْهِ،
وَكَانَ عَاقِلًا يَفْهَمُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِهَا، يَقُولُ:
أَخَافُ أَنْ أُخْطِئَ، وَالْخَطَأُ مِنَ الرَّئِيسِ قَبِيحٌ.
وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يُحِبُّ الْعِلْمَ
وَأَهْلَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَمْوَالِ وَالصَّدَقَاتِ، ابْتَدَأَ بِعَمَلِ
مَارَسْتَانَ بِبَغْدَادَ فَلَمْ يَتِمَّ، فَجَدَّدَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ
بُوَيْهِ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْعَدْلُ أَرْبَحُ لِلسُّلْطَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَكَانَ يَدْفِنُ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فِي الصَّحَارِي، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ
يُدْرَ أَيْنَ هِيَ.
وَكَانَ نُدَمَاءُ الرَّاضِي قَدِ انْحَدَرُوا إِلَى بَجْكَمَ وَهُوَ بِوَاسِطٍ،
وَكَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِثَمَانِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَكَانُوا
يُسَامِرُونَهُ كَالْخَلِيفَةِ، فَكَانَ لَا يَفْهَمُ أَكْثَرَ مَا يَقُولُونَ،
وَرَاضَ لَهُ مِزَاجَهُ الطَّبِيبُ سِنَانُ بْنُ ثَابِتٍ الصَّابِئُ حَتَّى لَانَ
خُلُقُهُ، وَحَسُنَتْ سِيرَتُهُ، وَقَلَّتْ سَطْوَتُهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَمَّرْ
إِلَّا قَلِيلًا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ مَرَّةً رَجُلٌ فَوَعَظَهُ فَأَبْكَاهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ، فَلَحِقَهُ بِهَا الْغُلَامُ، فَقَالَ بَجْكَمُ لِجُلَسَائِهِ: مَا
أَظُنُّهُ يَقْبَلُهَا وَلَا يُرِيدُهَا، وَمَا يَصْنَعُ هَذَا بِالدُّنْيَا ؟
هَذَا مُحَرَّقٌ بِالْعِبَادَةِ. فَرَجَعَ الْغُلَامُ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ،
فَقَالَ: قَبِلَهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ بَجْكَمُ: كُلُّنَا صَيَّادُونَ
وَلَكِنَّ الشِّبَاكَ تَخْتَلِفُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَسَبَبُ مَوْتِهِ أَنَّهُ خَرَجَ يَتَصَيَّدُ، فَلَقِيَ طَائِفَةً مِنَ
الْأَكْرَادِ، فَاسْتَهَانَ بِهِمْ، فَقَاتَلُوهُ فَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ
فَقَتَلَهُ. وَكَانَتْ إِمْرَتُهُ عَلَى بَغْدَادَ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ
أَشْهُرٍ وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ مَا
يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، أَخَذَهَا الْمُتَّقِي لِلَّهِ
كُلَّهَا.
أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ
الْوَاعِظُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَرْبَهَارِيُّ
الْعَالَمُ الزَّاهِدُ الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ، صَاحَبُ
الْمَرُّوذِيَّ وَسَهْلًا التُّسْتَرِيَّ، وَتَنَزَّهَ عَنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ -
وَكَانَ سَبْعِينَ أَلْفًا - لِأَمَرٍ كَرِهَهُ. وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ
الْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي، وَكَانَ كَبِيرَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ
وَالْعَامَّةِ، وَقَدْ عَطَسَ يَوْمًا وَهُوَ يَعِظُ النَّاسَ، فَشَمَّتَهُ
الْحَاضِرُونَ، ثُمَّ شَمَّتَهُ مَنْ سَمِعَهُمْ، حَتَّى شَمَّتَهُ أَهْلُ
بَغْدَادَ فَانْتَهَتِ الضَّجَّةُ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ، فَغَارَ الْخَلِيفَةُ
مِنْ ذَلِكَ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَرْبَابِ الدَّوْلَةِ فَطُلِبَ
فَاسْتَتَرَ عِنْدَ أُخْتِ تُوزُونَ شَهْرًا، ثُمَّ أَخَذَهُ الْقِيَامُ فَمَاتَ
عِنْدَهَا، فَأَمَرَتْ خَادِمَهَا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ،
فَامْتَلَأَتِ الدَّارُ رِجَالًا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ بِيضٌ، فَدَفَنَتْهُ
عِنْدَهَا، ثُمَّ أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ عِنْدَهُ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ
سِتًّا وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ أَبُو بَكْرٍ
الْأَزْرَقُ
لِأَنَّهُ كَانَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، التَّنُوخِيُّ الْكَاتِبُ، سَمِعَ
جَدَّهُ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ
وَالْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، يُقَالُ: إِنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ أَمَّارًا بِالْمَعْرُوفِ نِهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ، رَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا. تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا ظَهَرَ كَوْكَبٌ بِذَنَبٍ،
رَأْسُهُ إِلَى الْغَرْبِ، وَذَنَبُهُ إِلَى الشَّرْقِ، وَكَانَ عَظِيمًا جِدًّا،
وَذَنَبُهُ مُنْتَشِرٌ، وَبَقِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا إِلَى أَنِ اضْمَحَلَّ.
قَالَ: وَفِي نِصْفِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ بَلَغَ الْكُرُّ مِنَ الْحِنْطَةِ
مِائَتَيْ دِينَارٍ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ، وَمِنَ الشَّعِيرِ مِائَةً وَعِشْرِينَ
دِينَارًا، ثُمَّ بَلَغَ كُرُّ الْحِنْطَةِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَسِتَّةَ عَشَرَ
دِينَارًا، وَأَكَلَ الضُّعَفَاءُ الْمَيْتَةَ، وَدَامَ الْغَلَاءُ وَكَثُرَ
الْمَوْتُ، وَتَقَطَّعَتِ السُّبُلُ، وَشُغِلَ النَّاسُ بِالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ،
وَتُرِكَ دَفْنُ الْمَوْتَى، وَشُغِلَ النَّاسُ عَنِ الْمَلَاهِي وَاللَّعِبِ.
قَالَ: ثُمَّ جَاءَ مَطَرٌ كَأَفْوَاهِ الْقِرَبِ وَبَلَغَتْ زِيَادَةُ دِجْلَةَ
عِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
رَائِقٍ - الَّذِي هُوَ أَمِيرُ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ حِينَئِذٍ - وَقَعَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ الَّذِي بِوَاسِطٍ وَحْشَةٌ
بِسَبَبِ مَنْعِ الْبَرِيدِيِّ الْخَرَاجَ الَّذِي عِنْدَهُ، فَرَكَّبَ إِلَيْهِ
ابْنُ رَائِقٍ لِيَتَسَلَّمَ مَا عِنْدَهُ مِنَ
الْمَالِ، فَوَقَعَتْ مُصَالَحَةٌ،
وَرَجَعَ ابْنُ رَائِقٍ فَطَالَبَهُ الْجُنْدُ بِأَرْزَاقِهِمْ، وَضَاقَ عَلَيْهِ
حَالُهُ، وَتَحَيَّزَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ إِلَى الْبَرِيدِيِّ، فَضَعُفَ
جَانِبُ ابْنِ رَائِقٍ فَكَاتَبَ الْبَرِيدِيَّ بِالْوِزَارَةِ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ
قَطَعَ اسْمَ الْوِزَارَةِ عَنْهُ، فَاشْتَدَّ حَنَقُ الْبَرِيدِيِّ، وَعَزَمَ
عَلَى أَخْذِ بَغْدَادَ فَبَعَثَ أَخَاهُ أَبَا الْحُسَيْنِ فِي جَيْشٍ،
فَتَحَصَّنَ ابْنُ رَائِقٍ مَعَ الْخَلِيفَةِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَنَصَبَ
فِيهَا الْمَجَانِيقَ وَالْعَرَّادَاتِ، وَعَلَى دِجْلَةَ أَيْضًا، فَاضْطَرَبَتْ
بَغْدَادُ وَنَهَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَجَاءَ
أَبُو الْحُسَيْنِ أَخُو أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ بِمَنْ مَعَهُ،
فَقَاتَلَهُمُ النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَفِي دِجْلَةَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ،
وَاشْتَدَّ الْخَطْبُ جِدًّا، مَعَ الْغَلَاءِ وَالْوَبَاءِ وَالْفِنَاءِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثُمَّ إِنَّ الْخَلِيفَةَ وَابْنَ رَائِقٍ انْهَزَمَا فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ -
وَمَعَ الْخَلِيفَةِ ابْنُهُ أَبُو مَنْصُورٍ - فِي عِشْرِينَ فَارِسًا،
فَقَصَدُوا نَحْوَ الْمَوْصِلِ وَاسْتَحْوَذَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ، فَقَتَلَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ مَنْ وَجَدُوا بِدَارِ
الْخِلَافَةِ مِنَ الْحَاشِيَةِ، وَنَهَبُوهَا حَتَّى وَصَلَ النَّهْبُ إِلَى
الْحَرِيمِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْقَاهِرِ، وَهُوَ إِذْ ذَاكَ أَعْمَى
مَكْفُوفٌ، وَأَخْرَجُوا كُورْتَكِينَ مِنَ الْحَبْسِ، فَبَعَثَهُ أَبُو
الْحُسَيْنِ إِلَى أَخِيهِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَكَانَ آخِرَ
الْعَهْدِ بِهِ وَنَهَبُوا بَغْدَادَ جِهَارًا عَلَانِيَةً، وَنَزَلَ أَبُو
الْحُسَيْنِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا ابْنُ رَائِقٍ وَكَانُوا
يَكْبِسُونَ الدُّورَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَمْوَالِ، فَكَثُرَ
الْجَوْرُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا، وَضَرَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَكْسَ
عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَذَاقَ أَهْلُ بَغْدَادَ لِبَاسَ الْجُوعِ
وَالْخَوْفِ. وَكَانَ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْجَيْشِ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الْقَرَامِطَةِ، فَأَفْسَدُوا فِي الْبَلَدِ فَسَادًا عَظِيمًا، فَوَقَعَتْ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَتْرَاكِ حُرُوبٌ طَوِيلَةٌ شَدِيدَةٌ، فَغَلَبَتْهُمُ
التُّرْكُ، وَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ
بَغْدَادَ وَوَقَعَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَالدَّيْلَمِ أَيْضًا.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْحَالُ أَيْضًا، وَنُهِبَتِ
الْمَسَاكِنُ، وَكُبِسَ أَهْلُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، وَخَرَجَتِ الْجُنْدُ مِنْ
أَصْحَابِ الْبَرِيدِيِّ، فَنَهَبُوا الْغَلَّاتِ مِنَ الْقُرَى وَالْحَيَوَانَاتِ،
وَجَرَى ظُلْمٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا ; لِيَعْلَمَ الظَّلَمَةُ
أَنَّ أَخْبَارَهُمْ تُنْقَلُ وَتَبْقَى بَعْدَهُمْ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ،
فَرُبَّمَا تَرَكُوا الظُّلْمَ لِهَذَا إِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ أَرْسَلَ وَهُوَ بِبَغْدَادَ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ
بْنِ حَمْدَانَ نَائِبِ الْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ يَسْتَمِدُّهُ، وَيَسْتَجِيشُ
بِهِ عَلَى الْبَرِيدِيِّ، فَأَرْسَلَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَخَاهُ سَيْفَ
الدَّوْلَةِ عَلِيًّا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَلَمَّا كَانَ بِتَكْرِيتَ إِذَا
الْخَلِيفَةُ وَابْنُ رَائِقٍ قَدْ هَرَبَا، فَرَجَعَ مَعَهُمَا سَيْفُ
الدَّوْلَةِ إِلَى أَخِيهِ، وَقَدَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ لِلْخَلِيفَةِ
الْمُتَّقِي لِلَّهِ خِدْمَةً عَظِيمَةً فِي مَسِيرِهِ هَذَا، وَلَمَّا وَصَلُوا
إِلَى الْمَوْصِلِ خَرَجَ عَنْهَا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَنَزَلَ شَرْقِيَّهَا،
وَأَرْسَلَ التُّحَفَ وَالضِّيَافَاتِ، وَلَمْ يَجِئْ خَوْفًا مِنَ الْغَائِلَةِ
مِنْ جِهَةِ ابْنِ رَائِقٍ نَائِبِ الْعِرَاقِ وَصَاحِبِ الشَّامِ فَأَرْسَلَ
الْخَلِيفَةُ وَلَدَهُ أَبَا مَنْصُورٍ وَمَعَهُ ابْنُ رَائِقٍ لِلسَّلَامِ عَلَى
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَ أَنْ يُنْثَرَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ عَلَى رَأْسِ
وَلَدِ الْخَلِيفَةِ، وَجَلَسَا عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَا لِيَرْجِعَا،
فَرَكِبَ ابْنُ الْخَلِيفَةِ، وَأَرَادَ ابْنُ رَائِقٍ أَنْ يَرْكَبَ مَعَهُ،
فَقَالَ لَهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ: اجْلِسِ الْيَوْمَ عِنْدِي حَتَّى نُفَكِّرَ
فِيمَا نَصْنَعُ
فِي أَمْرِنَا هَذَا. فَاعْتَذَرَ
إِلَيْهِ بِابْنِ الْخَلِيفَةِ، وَاسْتَرَابَ الْأَمْرَ، فَقَبَضَ ابْنُ حَمْدَانَ
بِكُمِّهِ، فَجَبَذَهُ ابْنُ رَائِقٍ مِنْهُ، فَانْقَطَعَ كُمُّهُ، وَرَكِبَ
سَرِيعًا، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَأَمَرَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِقَتْلِهِ
فَقُتِلَ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ إِلَى ابْنِ حَمْدَانَ فَاسْتَحْضَرَهُ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ يَوْمَئِذٍ، وَجَعَلَهُ
أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَخَلَعَ عَلَى أَخِيهِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ،
وَلَقَّبَهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ يَوْمَئِذٍ أَيْضًا، وَلَمَّا قُتِلَ ابْنُ
رَائِقٍ، وَبَلَغَ خَبَرُ قَتْلِهِ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ
بْنِ طُغْجٍ، رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزْدَادَ
نَائِبِ ابْنِ رَائِقٍ وَلَمْ يَنْتَطِحْ فِيهَا عَنْزَانِ.
وَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ مَقْتَلِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَارَقَ أَكْثَرُ الْأَتْرَاكِ
أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيَّ لِسُوءِ سِيرَتِهِ، وَخُبْثِ سَرِيرَتِهِ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقَصَدُوا الْخَلِيفَةَ وَابْنَ حَمْدَانَ فِي الْمَوْصِلِ
فَقَوِيَ بِهِمْ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ هُوَ وَالْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي
لِلَّهِ إِلَى بَغْدَادَ فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْهَا، هَرَبَ عَنْهَا أَبُو
الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيُّ، وَدَخَلَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَعَهُ بَنُو حَمْدَانَ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ، وَذَلِكَ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَرِحَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ فَرَحًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ
إِلَى أَهْلِهِ - وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهُمْ إِلَى سَامَرَّاءَ - فَرَدَّهُمْ،
وَتَرَاجَعَ أَعْيَانُ النَّاسِ إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَمَا كَانُوا قَدْ رَحَلُوا
عَنْهَا، وَرَدَّ الْخَلِيفَةُ أَبَا إِسْحَاقَ الْقَرَارِيطِيَّ إِلَى
الْوِزَارَةِ وَوَلَّى تُوزُونَ شُرْطَةَ جَانِبَيْ بَغْدَادَ وَبَعَثَ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ أَخَاهُ سَيْفَ
الدَّوْلَةِ فِي جَيْشٍ وَرَاءَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَرِيدِيِّ، فَلَقِيَهُ
عِنْدَ الْمَدَائِنِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ،
ثُمَّ كَانَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ أَبُو الْحُسَيْنِ إِلَى أَخِيهِ
بِوَاسِطٍ، وَقَدْ رَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، فَنَزَلَ الْمَدَائِنَ
قُوَّةً لِأَخِيهِ.
وَقَدِ انْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ مَرَّةً مِنْ أَبِي الْحُسَيْنِ فَرَدَّهُ
أَخُوهُ، وَزَادَهُ جَيْشًا آخَرَ حَتَّى كَسَرَ الْبَرِيدِيَّ، وَأَسَرَ
جَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ، وَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ
غَفِيرٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ أَخَاهُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، فَانْهَزَمَ مِنْهُ الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ
إِلَى الْبَصْرَةِ وَتَسَلَّمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَاسِطًا، وَسَيَأْتِي مَا
كَانَ مِنْ خَبَرِهِ مَعَ الْبَرِيدِيِّ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ، إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا نَاصِرُ الدَّوْلَةِ، فَإِنَّهُ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا فِي
ثَالِثِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْأَسَارَى عَلَى الْجِمَالِ،
فَفَرِحَ النَّاسُ وَاطْمَأَنُّوا، وَنَظَرَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ،
وَأَصْلَحَ مِعْيَارَ الدِّينَارِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَجَدَهُ قَدْ غُيِّرَ عَمَّا
كَانَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ دَنَانِيرَ سَمَّاهَا الْإِبْرِيزِيَّةَ، فَكَانَتْ
تُبَاعُ كُلُّ دِينَارٍ بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُبَاعُ
الَّتِي قَبْلَهَا بِعَشْرَةٍ.
وَعَزَلَ الْخَلِيفَةُ بَدْرًا الْخَرْشَنِيَّ عَنِ الْحِجَابَةِ، وَوَلَّاهَا
سَلَامَةَ الطُّولُونِيَّ، وَجَعَلَ بَدْرًا عَلَى طَرِيقِ الْفُرَاتِ، فَسَارَ
إِلَى الْإِخْشِيدِ فَأَكْرَمَهُ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى دِمَشْقَ فَمَاتَ بِهَا.
وَفِيهَا وَصَلَتِ الرُّومُ إِلَى قَرِيبِ حَلَبَ، فَقَتَلُوا خَلْقًا، وَأَسَرُوا
نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ إِنْسَانٍ. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا دَخَلَ الثَّمِلِيُّ مِنْ طَرَسُوسَ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ
وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَأَسَرَ مِنْ بَطَارِقَتِهِمُ الْمَشْهُورِينَ
فِيهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَغَيْرَهُ
مِنْ أَئِمَّةِ الْقَوْمِ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ حَتَّى مَاتَ بِهَا.
وَمِنْ كَلَامِهِ الْحَسَنِ قَوْلُهُ: مَفَاوِزُ الدُّنْيَا تُقْطَعُ
بِالْأَقْدَامِ، وَمَفَاوِزُ الْآخِرَةِ تُقْطَعُ بِالْقُلُوبِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ أَبَانٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الضَّبِّيُّ الْقَاضِي الْمَحَامِلِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ الْمُحَدِّثُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَأَدْرَكَ خَلْقًا
مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عُيَيْنَةَ نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَرَوَى عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَخَلْقٌ، وَكَانَ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ نَحْوٌ مِنْ عَشْرَةِ آلَافٍ، وَكَانَ صَدُوقًا دَيِّنًا
فَقِيهًا مُحَدِّثًا، وَلِيَ قَضَاءَ الْكُوفَةِ سِتِّينَ سَنَةً، وَأُضِيفَ
إِلَيْهِ قَضَاءُ فَارِسَ وَأَعْمَالُهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ،
وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ تَنَاظَرَ هُوَ وَبَعْضُ الشِّيعَةِ بِحَضْرَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ،
فَجَعَلَ الشِّيعِيُّ يَذْكُرُ مَوَاقِفَ عَلَيٍّ يَوْمَ بِدْرٍ وَأُحُدٍ
وَالْخَنْدَقِ وَخَيْبَرَ وَحُنَيْنٍ وَشَجَاعَتَهُ، ثُمَّ قَالَ
لِلْمَحَامِلِيِّ: أَتَعْرِفُهَا ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنْ أَتَعْرِفُ أَيْنَ
كَانَ الصَّدِّيقُ يَوْمَ بِدْرٍ ؟ كَانَ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ بِمَنْزِلَةِ الرَّئِيسِ الَّذِي يُحَامَى
عَنْهُ كَمَا يُحَامَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَعَلِيٌّ فِي مَقَامِ الْمُبَارَزَةِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ انْهَزَمَ أَوْ
قُتِلَ، لَمْ يُهْزَمِ الْجَيْشُ بِسَبَبِهِ، فَأُفْحِمَ الشِّيعِيُّ. وَقَالَ
لَهُ الْمَحَامِلِيُّ: وَقَدْ قَدَّمَهُ الَّذِينَ رَوَوْا لَنَا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ
بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ لَا مَالَ لَهُ
وَلَا عَبِيدَ وَلَا عَشِيرَةَ تَمْنَعُهُ وَتُحَاجِفُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا
قَدَّمُوهُ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ خَيْرُهُمْ، فَأُفْحِمَ أَيْضًا.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَهْلٍ أَبُو الْحَسَنِ الصَّائِغُ
أَحَدُ الْعُبَّادِ الزُّهَّادِ أَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ. رُوِيَ عَنْ مُمْشَادَ
الدِّينَوَرِيِّ أَنَّهُ شَاهَدَ أَبَا الْحَسَنِ الصَّائِغَ يُصَلِّي فِي
الصَّحْرَاءِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، وَنَسْرٌ قَدْ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ يُظِلُّهُ
مِنَ الْحَرِّ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْأَشْعَرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ صَاحِبُ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ، وَكَانَ
مُوَلِدُهُ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ.
قُلْتُ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ النَّضْرِ الْهَرَوِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَخَذَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ صَاحِبِ
الشَّافِعِيِّ.
قُلْتُ: وَقَدْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَبُو حَامِدِ بْنُ بِلَالٍ، وَزَكَرِيَّا بْنُ
أَحْمَدَ الْبَلْخِيُّ، وَعَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ سَلَامَةَ الْحَافِظُ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ رَائِقٍ الْأَمِيرُ، وَالشَّيْخُ أَبُو صَالِحٍ مُفْلِحٌ
الْحَنْبَلِيُّ، وَاقِفُ مَسْجِدِ أَبِي صَالِحٍ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ مِنْ
دِمَشْقَ وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ وَأَحْوَالٌ وَمَقَامَاتٌ.
وَهَذِهِ تَرْجَمَةُ أَبِي صَالِحٍ الدِّمَشْقِيِّ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ
الْمَسْجِدُ ظَاهِرَ بَابِ شَرْقِيٍّ بِدِمَشْقَ:
مُفْلِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو صَالِحٍ الْمُتَعَبِّدُ، صَحِبَ الشَّيْخَ
أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ الدِّمَشْقِيَّ، وَتَأَدَّبَ
بِهِ، وَرَوَى عَنْهُ الْمُوَحِّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُرِّيِّ، وَأَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْقُجَّةِ قَيِّمُ الْمَسْجِدِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ
دَاوُدَ الدِّينَوَرِيُّ الدُّقِّيُّ.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ
طَرِيقِ الدُّقِّيِّ، عَنِ الشَّيْخِ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كُنْتُ أَطُوفُ
بِجَبَلِ اللُّكَّامِ ; أَطْلُبُ الزُّهَّادَ، فَمَرَرْتُ بِرَجُلٍ وَهُوَ جَالِسٌ
عَلَى صَخْرَةٍ مُطْرِقًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَصْنَعُ هَاهُنَا ؟ فَقَالَ:
أَنْظُرُ وَأَرْعَى. فَقُلْتُ لَهُ: لَا أَرَى بَيْنَ يَدَيْكَ إِلَّا
الْحِجَارَةَ. فَقَالَ: أَنْظُرُ خَوَاطِرَ قَلْبِي، وَأَرْعَى أَوَامِرَ رَبِّي،
وَبِحَقِّ الَّذِي أَظْهَرَكَ عَلَيَّ إِلَّا جُزْتَ عَنِّي. فَقُلْتُ لَهُ:
كَلِّمْنِي بِشَيْءٍ أَنْتَفِعُ بِهِ حَتَّى أَمْضِيَ. فَقَالَ لِي: مَنْ لَزِمَ
الْبَابَ أُثْبِتَ فِي الْخَدَمِ، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الذُّنُوبِ أَكْثَرَ
النَّدَمَ، وَمَنِ اسْتَغْنَى بِاللَّهِ أَمِنَ الْعَدَمَ. ثُمَّ تَرَكَنِي
وَمَضَى.
وَعَنِ الشَّيْخِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: مَكَثْتُ سِتَّةَ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ
لَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ، وَلَحِقَنِي عَطَشٌ عَظِيمٌ، فَجِئْتُ النَّهْرَ
الَّذِي وَرَاءَ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ، فَتَذَكَّرْتُ
قَوْلَهُ تَعَالَى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [ هُودٍ: 7 ] فَذَهَبَ عَنِّي
الْعَطَشُ، فَمَكَثْتُ تَمَامَ الْعَشْرَةِ أَيَّامٍ.
وَعَنْهُ قَالَ: مَكَثْتُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ أَشْرَبْ مَاءً، فَلَقِيَنِي
الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَيِّدٍ حَمْدَوَيْهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي
وَأَدْخَلَنِي مَنْزِلَهُ، وَجَاءَنِي بِمَاءٍ، وَقَالَ لِي: اشْرَبْ، فَشَرِبْتُ،
فَأَخَذَ فَضْلَتِي وَذَهَبَ إِلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ لَهَا: اشْرَبِي فَضْلَ
رَجُلٍ قَدْ مَكَثَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَشْرَبِ الْمَاءَ. قَالَ أَبُو
صَالِحٍ: وَلَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنِّي أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ.
وَمِنْ كَلَامِ أَبِي صَالِحٍ:
الدُّنْيَا حَرَامٌ عَلَى الْقُلُوبِ، حَلَالٌ عَلَى النُّفُوسِ ; لِأَنَّ كُلَّ
شَيْءٍ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ رَأْسِكَ، فَيَحْرُمُ
عَلَيْكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ قَلْبِكَ.
وَكَانَ يَقُولُ: الْبَدَنُ لِبَاسُ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ لِبَاسُ الْفُؤَادِ،
وَالْفُؤَادُ لِبَاسُ الضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ لِبَاسُ السِّرِّ، وَالسِّرُّ
لِبَاسُ الْمَعْرِفَةِ.
وَلِأَبِي صَالِحٍ مَنَاقِبُ كَثِيرَةٌ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ كَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى وَاسِطٍ وَقَدِ انْهَزَمَ
عَنْهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ وَأَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، ثُمَّ
اخْتَلَفَ التُّرْكُ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَمَالُوا إِلَى تُوزُونَ وَهُمَّ
بِالْقَبْضِ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ قَاصِدًا إِلَى
بَغْدَادَ وَبَلَغَ أَخَاهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ الْمُلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ بِبَغْدَادَ
الْخَبَرُ، فَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَنُهِبَتْ دَارُهُ بِبَغْدَادَ،
وَكَانَتْ إِمَارَةُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ عَلَى بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ
شَهْرًا وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَجَاءَ أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بَعْدَ
خُرُوجِهِ مِنْهَا، فَنَزَلَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَطَلَبَ مِنَ الْخَلِيفَةِ
الْمُتَّقِي لِلَّهِ أَنْ يَمُدَّهُ بِمَالٍ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ
تُوزُونَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَفَرَّقَهَا فِي
أَصْحَابِهِ. وَحِينَ سَمِعَ بِقُدُومِ تُوزُونَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ
وَدَخَلَهَا تُوزُونُ فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَخَلَعَ
عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ، وَجَعَلَهُ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
بِبَغْدَادَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ رَجَعَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ إِلَى
وَاسِطٍ وَأَخْرَجَ مَنْ كَانَ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ تُوزُونَ وَكَانَ فِي أَسْرِ
تُوزُونَ غُلَامٌ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ يُقَالُ لَهُ: ثِمَالٌ. فَأَرْسَلَهُ إِلَى
مَوْلَاهُ، فَحَسُنَ مُوقِعُ ذَلِكَ عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ
بِبِلَادِ نَسَا سَقَطَ مِنْهَا عِمَارَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَهَلَكَ بِسَبَبِهَا
خَلْقٌ كَثِيرٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ بِبَغْدَادَ فِي أَيْلُولَ وَتِشْرِينَ حَرٌّ
شَدِيدٌ يَأْخُذُ بِالْأَنْفَاسِ، وَفِي صَفَرٍ وَرَدَ الْخَبَرُ بِوُرُودِ
الرُّومِ إِلَى أَرْزَنَ وَمَيَّافَارِقِينَ، وَأَنَّهُمْ سَبَوْا وَأَحْرَقُوا.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عُقِدَ عَقْدُ أَبِي مَنْصُورٍ
إِسْحَاقِ بْنِ الْخَلِيفَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ عَلَى عُلْوِيَّةَ بِنْتِ
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ وَأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَوَلِيَ الْعَقْدَ عَلَى الْجَارِيَةِ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَلَمْ يَحْضُرْ
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ. وَضَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ سِكَّةً، زَادَ فِي
الْكِتَابَةِ عَلَيْهَا: عَبْدُ آلِ مُحَمَّدٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي آذَارَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ غَلَتِ
الْأَسْعَارُ حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ الْكِلَابَ، وَوَقَعَ الْوَبَاءُ فِي
النَّاسِ، وَوَافَى مِنَ الْجَرَادِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا، حَتَّى بِيعَ مِنْهُ
كُلُّ خَمْسِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ، فَارْتَفَقَ النَّاسُ بِهِ فِي الْغَلَاءِ.
وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابُ مَلِكِ الرُّومِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ فِيهِ
مِنْدِيلًا بِكَنِيسَةِ الرُّهَا كَانَ الْمَسِيحُ قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ بِهِ،
فَصَارَتْ صُورَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، وَيَعِدُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ إِذَا
أُرْسِلَ إِلَيْهِ يَبْعَثُ مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا،
فَأَحْضَرَ الْخَلِيفَةُ الْعُلَمَاءَ فَاسْتَشَارَهُمْ فِي ذَلِكَ ; فَمِنْ
قَائِلٍ: نَحْنُ أَحَقُّ بِعِيسَى مِنْهُمْ، وَفِي بَعْثِهِ إِلَيْهِمْ
غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَوَهْنٌ. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْوَزِيرُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،
إِنْقَاذُ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ
لِلنَّاسِ مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ بِتِلْكَ الْكَنِيسَةِ، فَأَمَرَ
الْخَلِيفَةُ بِإِرْسَالِ ذَلِكَ الْمِنْدِيلِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْلِيصِ الْأَسَارَى
مِنْ أَيْدِيهِمْ.
قَالَ الصُّولِيُّ: وَوَصَلَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْقِرْمِطِيَّ وُلِدَ لَهُ
مَوْلُودٌ، فَأَهْدَى إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ هَدَايَا
عَظِيمَةً، مِنْهَا مَهْدٌ مِنْ ذَهَبٍ، مُرَصَّعٌ بِالْجَوْهَرِ. وَكَثُرَ
الرَّفْضُ بِبَغْدَادَ، فَنُودِيَ بِهَا: مَنْ ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ
بِسُوءٍ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ.
وَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَى عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ خِلَعًا،
فَقَبِلَهَا وَلَبِسَهَا بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ السَّعِيدِ نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
السَّامَانِيِّ صَاحِبِ خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَدْ مَرِضَ قَبْلَ
مَوْتِهِ بِالسِّلِّ سَنَةً وَشَهْرًا، وَاتَّخَذَ فِي دَارِهِ بَيْتًا سَمَّاهُ
بَيْتَ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ يَلْبَسُ ثِيَابًا نِظَافًا، وَيَمْشِي إِلَيْهِ
حَافِيًا، وَيُصَلِّي فِيهِ، وَيَتَضَرَّعُ وَيُكْثِرُ الصَّلَاةَ، وَكَانَ
يَجْتَنِبُ الْمُنْكِرَاتِ وَالْآثَامَ إِلَى أَنْ مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ،
فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ السَّامَانِيُّ
وَلُقِّبَ بِالْأَمِيرِ الْحَمِيدِ، فَقَتَلَ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ
النَّسَفِيَّ - وَكَانَ قَدْ طُعِنَ فِيهِ عِنْدَهُ - وَصَلَبَهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
سِنَانُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ الصَّابِئُ
أَبُو سَعِيدٍ الْمُتَطَبِّبُ، أَسْلَمَ عَلَى يَدِ الْقَاهِرِ بِاللَّهِ، وَلَمْ
يُسْلِمْ وَلَدُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَقَدْ كَانَ مُقَدَّمًا
فِي الطِّبِّ وَفِي عُلُومٍ كَثِيرَةٍ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ بِعِلَّةِ الذَّرَبِ، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُ صِنَاعَتُهُ
شَيْئًا حِينَ جَاءَهُ الْمَوْتُ. وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ
فِي هَذَا الْمَعْنَى:
قُلْ لِلَّذِي صَنَعَ الدَّوَاءَ بِكَفِّهِ أَتَرُدُّ مَقْدُورًا عَلَيْكَ قَدْ
جَرَى مَاتَ الْمُدَاوَى وَالْمُدَاوِي وَالَّذِي
صَنَعَ الدَّوَاءَ بِكَفِّهِ وَمَنِ اشْتَرَى
أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " وَفَاةَ
الْأَشْعَرِيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَحَطَّ عَلَيْهِ كَمَا
جَرَتِ عَادَةُ الْحَنَابِلَةِ، يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَشْعَرِيَّةِ قَدِيمًا
وَحَدِيثًا. وَذَكَرَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَنَّهُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ صَحِبَ الْجُبَّائِيَّ أَرْبَعِينَ
سَنَةً، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ، وَدُفِنَ بِمَشْرَعَةِ
الرَّوَايَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ بْنِ الصَّلْتِ السَّدُوسَيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ
سَمِعَ جَدَّهُ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ أَبُو عُمَرَ
بْنُ مَهْدِيٍّ، وَكَانَ ثِقَةً.
وَرَوَى الْخَطِيبُ أَنَّ وَالِدَ مُحَمَّدٍ هَذَا حِينَ وُلِدَ أَخَذَ طَالَعَ
مَوْلِدِهِ الْمُنَجِّمُونَ، فَحَسَبُوا عُمْرَهُ، وَقَالُوا: إِنَّهُ يَعِيشُ
كَذَا وَكَذَا. فَأَرْصَدَ لَهُ أَبُوهُ حُبًّا، فِيهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ
عُمْرِهِ دِينَارٌ، ثُمَّ أَرْصَدَ لَهُ حُبًّا آخَرَ كَذَلِكَ، ثُمَّ آخَرَ
كَذَلِكَ، فَكَانَ يَعْدِلُ كُلَّ يَوْمٍ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ، وَمَعَ هَذَا
مَا أَفَادَهُ شَيْئًا، بَلِ افْتَقَرَ حَتَّى صَارَ يَسْتَعْطِي مِنَ النَّاسِ،
وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ السَّمَاعِ عَلَيْهِ بِلَا إِزَارٍ، يَتَصَدَّقُ
عَلَيْهِ أَهِلُ الْمَجْلِسِ بِشَيْءٍ يَقُومُ بِأَوَدِهِ. وَالسَّعِيدُ مَنْ
أَسْعَدَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدِ بْنِ حَفْصٍ أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ الْعَطَّارُ
كَانَ يَسْكُنُ الدُّورَ، وَهِيَ مَحَلَّةٌ بِطَرَفِ بَغْدَادَ سَمِعَ الْحَسَنَ
بْنَ عَرَفَةَ وَالزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ وَمُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ
وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ
ثِقَةً، فَهِمًا، وَاسِعَ الرِّوَايَةِ، مَشْكُورَ الدِّيَانَةِ، مَشْهُورًا
بِالْعِبَادَةِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدِ اسْتَكْمَلَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ
وَأَحَدًا وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
الْمَجْنُونُ الْبَغْدَادِيُّ
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ الشَّبْلِيِّ، قَالَ:
رَأَيْتُ مَجْنُونًا عِنْدَ جَامِعِ الرُّصَافَةِ وَهُوَ عُرْيَانٌ، وَهُوَ
يَقُولُ: أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا
لَكَ ؟ أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ الْجَامِعَ وَتُصَلِّي ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي
حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا هُمْ رَأَوْا حَالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَهَا وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْهَا
أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ الْمُتَّقِي لِلَّهِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ مُغَاضِبًا
لِتُوزُونَ أَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، وَكَانَ إِذْ ذَاكَ بِوَاسِطٍ، وَقَدْ زَوَّجَ
ابْنَتَهُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيِّ، وَصَارَا يَدًا وَاحِدَةً
عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَأَرْسَلَ ابْنُ شِيرَزَادَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى
بَغْدَادَ فَأَفْسَدَ فِيهَا وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَاسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ مِنْ
غَيْرِ مُرَاجَعَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَغَضِبَ الْمُتَّقِي، وَخَرَجَ مِنْهَا
مُغَاضِبًا بِأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَوَزِيرِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ
الْأُمَرَاءِ وَأَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ قَاصِدًا بَنِي حَمْدَانَ،
فَتَلَقَّاهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى تَكْرِيتَ ثُمَّ جَاءَهُ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ وَهُوَ بِتَكْرِيتَ أَيْضًا، وَحِينَ خَرَجَ الْمُتَّقِي مِنْ
بَغْدَادَ أَكْثَرَ ابْنُ شِيرَزَادَ الْفَسَادَ، وَظَلَمَ أَهْلَهَا وَصَادَرَهُمْ،
وَأَرْسَلَ يُعْلِمُ تُوزُونَ فَأَقْبَلَ مُسْرِعًا نَحْوَ تَكْرِيتَ فَتَوَاقَعَ
هُوَ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَ تُوزُونُ سَيْفَ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ
مُعَسْكَرَهُ وَمُعَسْكَرَ أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ كَرَّ إِلَيْهِ
سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَهَزَمَهُ تُوزُونُ أَيْضًا، وَانْهَزَمَ الْخَلِيفَةُ
الْمُتَّقِي وَنَاصِرُ الدَّوْلَةِ وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَوْصِلِ إِلَى
نَصِيبِينَ وَجَاءَ تُوزُونُ، فَدَخَلَ الْمَوْصِلَ وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
يَطْلُبُ رِضَاهُ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ، يَقُولُ: لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ
إِلَّا أَنْ تُصَالِحَ بَنِي حَمْدَانَ. فَاصْطَلَحُوا، وَضَمِنَ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ بِلَادَ الْمَوْصِلِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفٍ وَسِتِّمِائَةِ
أَلْفٍ، وَرَجَعَ تُوزُونُ إِلَى بَغْدَادَ وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ عِنْدَ بَنِي
حَمْدَانَ.
وَفِي غَيْبَةِ تُوزُونَ عَنْ وَاسِطٍ أَقْبَلَ إِلَيْهَا مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بْنُ بُوَيْهِ فِي خَلْقٍ مِنَ الدَّيْلَمِ
كَثِيرِينَ، فَانْحَدَرَ تُوزُونُ
مُسْرِعًا إِلَى وَاسِطٍ فَاقْتَتَلَ مَعَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، فَكَانَ آخِرَ الْأَمْرِ أَنِ انْهَزَمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَنُهِبَتْ
حَوَاصِلُهُ، وَقُتِلَ مِنْ جَيْشِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَشْرَافِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ عَاوَدَ تُوزُونَ مَا كَانَ يَعْتَرِيهِ مِنْ مَرَضِ
الصَّرَعِ، فَشُغِلَ بِنَفْسِهِ، فَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا قَتَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ أَخَاهُ أَبَا يُوسُفَ،
وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَلَّ مَا فِي يَدِهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ، فَكَانَ يَسْتَقْرِضُ مِنْ أَخِيهِ أَبِي يُوسُفَ، فَيُقْرِضُهُ
الْقَلِيلَ ثُمَّ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ وَيَذُمُّ تَصَرُّفَهُ، فَمَالَ الْجُنْدُ
إِلَى أَبِي يُوسُفَ، وَأَعْرَضُوا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَخَشِيَ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُبَايِعُوهُ وَيَتْرُكُوهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ طَائِفَةً
مِنْ غِلْمَانِهِ فَقَتَلُوهُ غِيلَةً، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دَارِهِ، وَأَخَذَ
جَمِيعَ حَوَاصِلِهِ وَأَمْوَالِهِ فَكَانَ قِيمَةُ مَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِ مِنَ
الْأَمْوَالِ يُقَارِبُ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُمَتَّعْ
بَعْدَهُ إِلَّا ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، مَرِضَ فِيهَا مَرَضًا شَدِيدًا
بِالْحُمَّى الْحَادَّةِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ أَبُو الْحُسَيْنِ، قَبَّحَهُ
اللَّهُ، فَأَسَاءَ السِّيرَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَثَارُوا بِهِ فَلَجَأَ إِلَى
الْقَرَامِطَةِ، فَاسْتَجَارَ بِهِمْ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ فِي بِلَادِ وَاسِطٍ
وَالْبَصْرَةِ وَتِلْكَ النَّوَاحِي مِنَ الْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا.
وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ عِنْدَ آلِ
حَمْدَانَ بِالْمَوْصِلِ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُمْ تَضَجُّرٌ، وَأَنَّهُمْ يَرْغَبُونَ
فِي مُفَارَقَتِهِ، فَكَتَبَ إِلَى تُوزُونَ فِي الصُّلْحِ فَاجْتَمَعَ تُوزُونُ
مَعَ الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ بِبَغْدَادَ، وَقَرَأُوا كِتَابَ الْخَلِيفَةِ،
وَقَابَلَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَحَلَفَ لَهُ وَوَضَعَ خَطَّهُ
بِالْإِقْرَارِ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ بِالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ
وَالْخُضُوعِ، فَكَانَ مِنَ
الْخَلِيفَةِ وَدُخُولِهِ إِلَى بَغْدَادَ مَا سَيَأْتِي فِي السَّنَةِ
الْآتِيَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّوسِ فِي الْبَحْرِ إِلَى
نُوَاحِي أَذْرَبِيجَانَ فَقَصَدُوا بَرْدَعَةَ فَحَاصَرُوهَا، فَلَمَّا ظَفِرُوا
بِأَهْلِهَا قَتَلُوهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ، وَغَنِمُوا أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَوْا
مَنِ اسْتَحْسَنُوا مِنْ نِسَائِهِمْ، ثُمَّ مَالُوا إِلَى مَرَاغَةَ فَوَجَدُوا
بِهَا ثِمَارًا كَثِيرَةً، فَأَكَلُوا مِنْهَا، فَأَصَابَهُمْ وَبَاءٌ شَدِيدٌ،
فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ، فَكَانَ إِذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ دَفَنُوا مَعَهُ سِلَاحَهُ
وَمَالَهُ، فَيَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِمُ الْمَرْزُبَانُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا أَيْضًا، مَعَ
مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْوَبَاءِ الشَّدِيدِ، وَطَهَّرَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِلَادَ
مِنْهُمْ.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ جَاءَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ
الرُّومِ إِلَى رَأْسِ الْعَيْنِ فِي ثَمَانِينَ أَلْفًا، فَدَخَلَهَا وَنَهَبَ
مَا فِيهَا، وَقَتَلَ أَهْلَهَا وَسَبَى مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ
أَلْفًا، وَأَقَامَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَقَصَدَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ
كُلِّ وَجْهٍ، فَقَاتَلُوهُ قِتَالًا عَظِيمًا حَتَّى انْجَلَى عَنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا،
وَكَثُرَتِ الْأَمْطَارُ جِدًّا حَتَّى تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَمَاتَ كَثِيرٌ
مِنَ النَّاسِ تَحْتَ الْهَدْمِ، وَتَعَطَّلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْحَمَّامَاتِ
وَالْمَسَاجِدِ مِنْ قِلَّةِ النَّاسِ، وَنَقَصَتْ قِيمَةُ الْعَقَارِ حَتَّى
كَانَ يُبَاعُ بِالدِّرْهَمِ مَا كَانَ يُسَاوِي الدِّينَارَ، وَخَلَتْ أَكْثَرُ
الدُّورِ، فَكَانَ الْمُلَّاكُ يُعْطُونَ مَنْ يَسْكُنُهَا أُجْرَةً لِيَحْفَظَهَا
عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْهَا لِتَخْرِيبِهَا. وَكَثُرَتِ الْكَبَسَاتُ
مِنَ اللُّصُوصِ بِاللَّيْلِ، حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَتَحَارَسُونَ بِالْبُوقَاتِ
وَالطُّبُولِ، وَكَثُرَتِ الْفِتَنُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
كَانَتْ وَفَاةُ أَبِي طَاهِرٍ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنِ
الْجَنَّابِيِّ الْهَجَرِيِّ الْقِرْمِطِيِّ رَئِيسِ الْقَرَامِطَةِ، لَعَنَهُ
اللَّهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْحَجِيجَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَفِيهَا،
وَسَلَبَهَا سُتُورَهَا وَبَابَهَا وَحِلْيَتَهَا، وَاقْتَلَعَ الْحَجَرَ
الْأَسْوَدَ مِنْ رُكْنِهَا، وَحَمَلَهُ إِلَى بَلَدِهِ هَجَرَ وَهُوَ فِي هَذِهِ
الْمُدَّةِ كُلِّهَا عِنْدَهُ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَلَمْ يَرُدَّهُ إِلَى سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا
سَيَأْتِي. وَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَاهِرٍ هَذَا قَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
فِي الْقَرَامِطَةِ إِخْوَتُهُ الثَّلَاثَةُ ; وَهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ
الْفَضْلُ، وَأَبُو الْقَاسِمِ سَعِيدٌ، وَأَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ، بَنُو أَبِي
سَعِيدٍ الْجَنَّابِيِّ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ ضَعِيفَ
الْبَدَنِ، مُقْبِلًا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُتُبِ، وَكَانَ أَبُو يَعْقُوبَ
مُقْبِلًا عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ، وَمَعَ هَذَا كَلِمَةُ الثَّلَاثَةِ
وَاحِدَةٌ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي شَيْءٍ، وَكَانَ لَهُمْ سَبْعَةٌ مِنَ
الْوُزَرَاءِ مُتَّفِقُونَ أَيْضًا، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَرِيدِيُّ كَمَا
ذَكَرْنَا، فَاسْتَرَاحَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذَا وَهَذَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ الْحَافِظُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْكُوفِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ عُقْدَةَ، لُقِّبَ أَبُوهُ بِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ تَعْقِيدِهِ
فِي التَّصْرِيفِ وَالنَّحْوِ، وَكَانَ عُقْدَةُ وَرِعًا نَاسِكًا، وَكَانَ أَبُو
الْعَبَّاسِ بْنُ عُقْدَةَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ فَسَمِعَ مِنْ خَلَائِقَ مِنَ الْمَشَايِخِ،
وَسَمِعَ مِنْهُ الطَّبَرَانِيُّ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ الْجِعَابِيِّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ الْمُظَفَّرِ
وَابْنُ شَاهِينَ.
قَالَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَمْ يُرَ مِنْ
زَمَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى زَمَانِ ابْنِ عُقْدَةَ أَحْفَظُ مِنْهُ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ،
مِنْهَا ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفٍ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ، بِمَا فِيهَا مِنَ
الصِّحَاحِ وَالضِّعَافِ، وَكَانَتْ كُتُبُهُ سِتَّمِائَةِ حِمْلِ جَمَلٍ، وَكَانَ
يُنْسَبُ مَعَ هَذَا كُلِّهِ إِلَى التَّشَيُّعِ.
قَالَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ رَجُلَ سُوءٍ.
وَنَسَبَهُ ابْنُ عَدِيٍّ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُسَوِّي النَّسْخَ لِأَشْيَاخٍ،
وَيَأْمُرُهُمْ بِرِوَايَتِهَا.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ، قَالَ:
سَمِعْتُ حَمْزَةَ بْنَ يُوسُفَ، سَمِعْتُ أَبَا عُمَرَ بْنَ حَيُّوَيْهِ يَقُولُ:
كَانَ ابْنُ عُقْدَةَ يَجْلِسُ فِي جَامِعِ بَرَاثَا يُمْلِي مَثَالِبَ
الصَّحَابَةِ - أَوْ قَالَ: الشَّيْخَيْنِ - فَتَرَكْتُ حَدِيثَهُ لَا أُحَدِّثُ
عَنْهُ بِشَيْءٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ حَرَّرْتُ الْكَلَامَ فِيهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فِي كِتَابِي
" التَّكْمِيلِ " وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا.
أَحْمَدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ بِشْرِ
بْنِ حَامِدٍ أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ
نِسْبَةً إِلَى مَرْوِالرُّوذِ - وَالرُّوذُ النَّهْرُ - الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
تِلْمِيذُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، نِسْبَةً إِلَى مَرْوِ
الشَّاهِجَانِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ. شَرَحَ " مُخْتَصَرَ
الْمُزَنِيِّ " وَلَهُ كِتَابُ " الْجَامِعِ " فِي الْمَذْهَبِ،
وَصَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَكَانَ إِمَامًا لَا يُشَقُّ غُبَارُهُ.
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا رَجَعَ الْخَلِيفَةُ الْمُتَّقِي إِلَى بَغْدَادَ وَخُلِعَ مِنَ
الْخِلَافَةِ وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ. كَانَ الْمُتَّقِي وَهُوَ مُقِيمٌ
بِالْمَوْصِلِ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ صَاحِبِ
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ
وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي الْمُنْتَصَفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَخَضَعَ لِلْخَلِيفَةِ غَايَةَ الْخُضُوعِ، وَكَانَ يَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ
كَمَا يَقُومُ الْغِلْمَانُ، وَيَمْشِي وَالْخَلِيفَةُ رَاكِبٌ، ثُمَّ عَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، أَوْ يُقِيمَ
بِبِلَادِ الشَّامِ فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ
بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَلَا يَذْهَبُ إِلَى تُوزُونَ بِبَغْدَادَ، وَحَذَّرَهُ
مِنْ تُوزُونَ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَكَذَلِكَ أَشَارَ
عَلَى الْوَزِيرِ أَبِي حُسَيْنِ بْنِ مُقْلَةَ فَلَمْ يَسْمَعْ، فَأَهْدَى ابْنُ
طُغْجٍ لِلْخَلِيفَةِ هَدَايَا كَثِيرَةً فَاخِرَةً، وَكَذَلِكَ إِلَى
الْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْوَزِيرِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى بِلَادِهِ.
وَقَدِ اجْتَازَ بِحَلَبَ، فَانْحَازَ عَنْهَا صَاحِبُهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَكَانَ ابْنُ مُقَاتِلٍ بِهَا، فَأَرْسَلَهُ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ نَائِبًا عَنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا.
وَأَمَّا الْخَلِيفَةُ فَإِنَّهُ
رَكِبَ مِنَ الرَّقَّةِ فِي دِجْلَةَ إِلَى بَغْدَادَ وَأَرْسَلَ إِلَى تُوزُونَ
فَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ مَا كَانَ حَلَفَ لَهُ مِنَ الْأَيْمَانِ، فَأَكَّدَهَا
وَقَرَّرَهَا، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهَا خَرَجَ إِلَيْهِ تُوزُونُ وَمَعَهُ
الْعَسَاكِرُ، فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةَ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَأَظْهَرَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ وَفَّى لَهُ بِمَا كَانَ حَلَفَ عَلَيْهِ،
وَأَنْزَلَهُ فِي مَضْرِبِهِ، ثُمَّ جَاءَ فَاحْتَاطَ عَلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ
الْكُبَرَاءِ، وَأَمَرَ بِسَمْلِ عَيْنَيِ الْخَلِيفَةِ فَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ،
فَصَاحَ صَيْحَةً عَظِيمَةً سَمِعَهَا الْحُرَمُ، فَضَجَّتِ الْأَصْوَاتُ
بِالْبُكَاءِ، فَأَمَرَ تُوزُونُ بِضَرْبِ الدَّبَادِبِ ; حَتَّى لَا تُسْمَعَ
أَصْوَاتُ الْحُرَمِ، ثُمَّ انْحَدَرَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى بَغْدَادَ فَبَايَعَ
لِلْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، فَكَانَتْ خِلَافَةُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ ثَلَاثَ
سِنِينَ وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقِيلَ: وَأَحَدَ عَشَرَ
شَهْرًا. وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ عِنْدَ ذِكْرِ وَفَاتِهِ.
خِلَافَةُ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُكْتَفِي بْنِ الْمُعْتَضِدِ
لَمَّا رَجَعَ تُوزُونُ إِلَى بَغْدَادَ وَقَدْ خَلَعَ الْمُتَّقِيَ لِلَّهِ
وَسَمَلَهُ، اسْتَدْعَى بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُكْتَفِي، فَبَايَعَهُ عَلَى
الْخِلَافَةِ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ
الْأَوَاخِرِ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَجَلَسَ تُوزُونُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَكَانَ
الْمُسْتَكْفِي مَلِيحَ الشَّكْلِ رَبْعَةً، حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْوَجْهِ،
أَبْيَضَ اللَّوْنِ
مُشْرَبًا حُمْرَةً، أَكْحَلَ، أَقْنَى
الْأَنْفِ، خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ بُويِعَ
بِالْخِلَافَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَأَحْضَرَ الْمُتَّقِيَ بَيْنَ
يَدَيْهِ، وَبَايَعَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ الْبُرْدَةَ وَالْقَضِيبَ، وَاسْتَوْزَرَ
أَبَا الْفَرَجِ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ السَّامَرِّيَّ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهِ
مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَوَلَّى الْأُمُورَ ابْنُ
شِيرَزَادَ، وَحَبَسَ الْمُتَّقِي فِي السِّجْنِ، وَطَلَبَ الْمُسْتَكْفِي أَبَا
الْقَاسِمِ الْفَضْلَ بْنَ الْمُقْتَدِرِ - وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْخِلَافَةَ
بَعْدَ ذَلِكَ، وَلُقِّبَ الْمُطِيعَ لِلَّهِ - فَاخْتَفَى مِنْهُ، وَلَمْ
يَظْهَرْ مُدَّةَ خِلَافَةِ الْمُسْتَكْفِي، فَأَمَرَ الْمُسْتَكْفِي بِهَدْمِ
دَارِهِ الَّتِي عِنْدَ دِجْلَةَ.
مَوْتُ الْقَائِمِ الْفَاطِمِيِّ وَوِلَايَةُ وَلَدِهِ الْمَنْصُورِ
وَفِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - وَالصَّحِيحُ فِي شَوَّالٍ مِنَ الَّتِي
بَعْدَهَا - تُوُفِّيَ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْقَاسِمُ بْنُ الْمَهْدِيِّ،
وَقَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْمَنْصُورِ إِسْمَاعِيلَ،
فَكَتَمَ مَوْتَ أَبِيهِ مُدَّةً حَتَّى اسْتَقَرَّ أَمْرُهُ، ثُمَّ أَظْهَرَهُ.
وَقَدْ كَانَ أَبُو يَزِيدَ الْخَارِجِيُّ قَدْ حَارَبَهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَأَخَذَ مِنْهُمْ مُدُنًا كِبَارًا، وَكَسَرُوهُ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ
يَثُورُ عَلَيْهِمْ، وَيَجْمَعُ الرِّجَالَ وَيُقَاتِلُهُمْ بِمَنْ قَدَرَ
عَلَيْهِ، فَانْتَدَبَ الْمَنْصُورُ لِقِتَالِ أَبِي يَزِيدَ بِنَفْسِهِ، وَرَكِبَ
فِي الْجُيُوشِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ بَسَطَهَا
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ". وَقَدِ انْهَزَمَ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ جَيْشُ الْمَنْصُورِ عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا فِي عِشْرِينَ
نَفْسًا، فَقَاتَلَ بِنَفْسِهِ قِتَالًا عَظِيمًا، فَهَزَمَ أَبَا يَزِيدَ
بَعْدَمَا كَادَ يَقْتُلُهُ، وَثَبَتَ الْمَنْصُورُ ثَبَاتًا عَظِيمًا، فَعَظُمَ
فِي أَعْيُنِ
النَّاسِ، وَزَادَتْ حُرْمَتُهُ
وَهَيْبَتُهُ، وَاسْتَنْقَذَ بِلَادَ الْقَيْرَوَانِ مِنْهُ، وَمَا زَالَ
يُحَارِبُهُ الْمَنْصُورُ حَتَّى ظَفِرَ بِهِ وَقَتَلَهُ. وَلَمَّا جِيءَ
بِرَأْسِهِ سَجَدَ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ أَبُو يَزِيدَ هَذَا
قَبِيحَ الشَّكْلِ، أَعْرَجَ، قَصِيرًا، خَارِجِيًّا شَدِيدًا، يَرَى تَكْفِيرَ
أَهْلِ الْمِلَّةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْبَرِيدِيُّ وَصُلِبَ ثُمَّ أُحْرِقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدِمَ بَغْدَادَ
يَسْتَنْجِدُ بَتُوزُونَ وَأَبِي جَعْفَرِ بْنِ شِيرَزَادَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ،
فَوَعَدُوهُ النَّصْرَ، ثُمَّ شَرَعَ يُفْسِدُ مَا بَيْنَ تُوزُونَ وَابْنِ
شِيرَزَادَ، فَعَلِمَ بِذَلِكَ ابْنُ شِيرَزَادَ، فَأَمَرَ بِسَجْنِهِ وَضَرْبِهِ،
وَأَحْضَرَ لَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فُتْيَا عَلَيْهَا خُطُوطُ الْفُقَهَاءِ
بِإِبَاحَةِ دَمِهِ، فَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ
وَصَلْبِهِ، ثُمَّ أَحْرَقَهُ، وَانْقَضَتْ أَيَّامُ الْبَرِيدِيِّينَ وَزَالَتْ
دَوْلَتُهُمْ، لَا جَمَعَ اللَّهُ بِهِمْ شَمَلًا.
وَفِيهَا أَخْرَجَ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْقَاهِرَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ -
الَّذِي كَانَ خَلِيفَةً، ثُمَّ سُمِلَتْ عَيْنَاهُ - وَأَنْزَلَهُ بِدَارِ ابْنِ
طَاهِرٍ، وَقَدِ افْتَقَرَ الْقَاهِرُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مِنَ اللِّبَاسِ
سِوَى قُطْنِ جُبَّةٍ يَلْتَفُّ بِهَا، وَفِي رِجْلِهِ قَبْقَابٌ مِنْ خَشَبٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فِي رَجَبٍ مِنْهَا إِلَى
وَاسِطٍ لِيُحَاصِرَهَا، فَبَلَغَ خَبَرُهُ إِلَى تُوزُونَ فَرَكِبَ هُوَ
وَالْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ رَجَعَ
عَنْهَا إِلَى بِلَادِهِ، وَتَسَلَّمَهَا الْخَلِيفَةُ، وَضَمِنَهَا أَبُو
الْقَاسِمِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
فَضَمَّنَهُ تُوزُونُ ثُمَّ رَجَعَ هُوَ
وَالْخَلِيفَةُ إِلَى بَغْدَادَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا رَكِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ حَمْدَانَ إِلَى حَلَبَ فَتَسَلَّمَهَا مِنْ يَأْنَسَ
الْمُؤْنِسِيِّ، ثُمَّ سَارَ إِلَى حِمْصَ لِيَأْخُذَهَا، فَجَاءَتْهُ جُيُوشُ
الْإِخْشِيدِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ مَعَ مَوْلَاهُ كَافُورٍ، فَاقْتَتَلُوا،
فَانْهَزَمَ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ، وَاسْتَوْلَى سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلَى
حِمْصَ ثُمَّ رَكِبَ إِلَى دِمَشْقَ فَحَاصَرَهَا، فَلَمْ يَفْتَحْهَا أَهْلُهَا
لَهُ، فَرَجَعَ عَنْهَا، وَقَصَدَهُ الْإِخْشِيدُ بِجُيُوشٍ كَثِيفَةٍ،
فَالْتَقَيَا بِقِنَّسْرِينَ، فَلَمْ يَظْفَرْ أَحَدٌ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ،
وَرَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْجَزِيرَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ
فَاسْتَقَرَّ مُلْكُهُ بِهَا، فَقَصَدَتْهُ الرُّومُ فِي جَحَافِلَ عَظِيمَةٍ،
فَالْتَقَى مَعَهُمْ، فَظَفِرَ بِهِمْ فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا زَادَ الْخَلِيفَةُ فِي لَقَبِهِ إِمَامَ الْحَقِّ،
وَكَتَبَ ذَلِكَ عَلَى سِكَّةِ الْمُعَامَلَةِ، وَقَالَهُ الْخُطَبَاءُ عَلَى
الْمَنَابِرِ أَيَّامَ الْجُمَعِ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ تُوزُونُ التُّرْكِيُّ فِي
دَارِهِ بِبَغْدَادَ، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ سَنَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ ابْنُ شِيرَزَادَ كَاتِبُهُ، وَكَانَ بِهِيتَ
لِتَخْلِيصِ الْمَالِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ
الْبَيْعَةَ لِنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاضْطَرَبَتِ الْأَجْنَادُ،
وَعُقِدَتِ الرِّيَاسَةُ لِنَفْسِهِ وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ،
وَخَرَجَ إِلَيْهِ الْأَجْنَادُ كُلُّهُمْ وَحَلَفُوا لَهُ، وَحَلَفَ لَهُ
الْخَلِيفَةُ وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ، وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ،
فَخَاطَبَهُ بِأَمِيرِ الْأُمَرَاءِ، فَزَادَ فِي أَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ، وَبَعَثَ
إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ يُطَالِبُهُ بِالْخَرَاجِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ
بِخَمْسمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَبِطَعَامٍ فَفَرَّقَهُ فِي النَّاسِ، وَأَمَرَ
وَنَهَى وَوَلَّى وَعَزَلَ وَقَطَعَ وَوَصَلَ، وَفَرِحَ بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ
أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ مُعِزَّ
الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ قَدْ أَقْبَلَ فِي الْجُيُوشِ قَاصِدًا إِلَى بَغْدَادَ
فَاخْتَفَى ابْنُ شِيرَزَادَ وَالْخَلِيفَةُ أَيْضًا، وَخَرَجَ أَكْثَرُ
الْأَتْرَاكِ قَاصِدِينَ إِلَى الْمَوْصِلِ لِيَكُونُوا مَعَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ
بْنِ حَمْدَانَ.
ذِكْرُ أَوَّلِ دَوْلَةِ بَنِي
بُوَيْهِ وَحُكْمِهِمْ بِبَغْدَادَ
أَقْبَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ فِي
جَحَافِلَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ بَغْدَادَ بَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْهَدَايَا وَالْإِنْزَالَاتِ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ:
أَخْبِرْهُ أَنِّي مَسْرُورٌ بِهِ، وَأَنِّي إِنَّمَا اخْتَفَيْتُ مِنْ شَرِّ
الْأَتْرَاكِ الَّذِينَ انْصَرَفُوا إِلَى الْمَوْصِلِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ
بِالْخِلَعِ وَالتُّحَفِ، وَدَخَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بَغْدَادَ
فِي حَادِي عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلَ بِبَابِ
الشَّمَّاسِيَّةِ، وَدَخَلَ مِنَ الْغَدِ إِلَى الْخَلِيفَةِ فَبَايَعَهُ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْمُسْتَكْفِي، وَلَقَّبَهُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَ
أَخَاهُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيًّا بِعِمَادِ الدَّوْلَةِ، وَأَخَاهُ أَبَا عَلِيٍّ
الْحَسَنَ بِرُكْنِ الدَّوْلَةِ، وَكَتَبَ أَلْقَابَهُمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ.
وَنَزَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بِدَارِ مُؤْنِسٍ الْخَادِمِ وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ
مِنَ الدَّيْلَمِ فِي دُورِ النَّاسِ، فَلَقِيَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ كُلْفَةً
شَدِيدَةً، وَأَمَّنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ ابْنَ شِيرَزَادَ، فَلَمَّا ظَهَرَ
اسْتَكْتَبَهُ عَلَى الْخَرَاجِ، وَرَتَّبَ لِلْخَلِيفَةِ بِسَبَبِ نَفَقَاتِهِ
خَمْسَةَ آلَافٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَاسْتَقَرَّتِ الْأُمُورُ عَلَى هَذَا
النِّظَامِ
ذِكْرُ الْقَبْضِ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَكْفِي وَخَلْعِهِ
لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ حَضَرَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى
الْحَضْرَةِ، فَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ
بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَجَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الدَّيْلَمِ، فَمَدَّا
أَيْدِيَهُمَا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَنْزَلَاهُ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَسَحَبَاهُ،
فَتَحَزَّبَتْ عِمَامَتُهُ فِي حَلْقِهِ، وَنَهَضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ،
وَاضْطَرَبَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ حَتَّى خُلِصَ إِلَى الْحَرِيمِ، وَتَفَاقَمَ
الْحَالُ، وَسِيقَ الْخَلِيفَةُ مَاشِيًا إِلَى دَارِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ،
فَاعْتُقِلَ بِهَا، وَأُحْضِرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْفَضْلُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ،
فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ، وَسُمِلَتْ عَيْنَا الْمُسْتَكْفِي، وَأَودِعَ
السِّجْنَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَسْجُونًا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَنَةِ
ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَذِكْرُ
تَرْجَمَتِهِ هُنَالِكَ.
خِلَافَةُ الْمُطِيعِ لِلَّهِ
لَمَّا قَدِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بَغْدَادَ وَقَبَضَ عَلَى الْمُسْتَكْفِي
وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ، اسْتَدْعَى بِأَبِي الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَقَدْ كَانَ مُخْتَفِيًا مِنَ الْمُسْتَكْفِي، وَهُوَ
يَحُثُّ فِي طَلَبِهِ وَيَجْتَهِدُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
اجْتَمَعَ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ سِرًّا، فَحَرَّضَهُ عَلَى الْمُسْتَكْفِي حَتَّى
كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، فَأُحْضِرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُقْتَدِرِ
فَبُويِعَ بِالْخِلَافَةِ وَلُقِّبَ بِالْمُطِيعِ لِلَّهِ، وَبَايَعَهُ
الْأُمَرَاءُ وَالْأَعْيَانُ وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْعَامَّةُ، وَضَعُفَ
أَمْرُ الْخِلَافَةِ جِدًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْخَلِيفَةِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ
وَلَا وَزِيرٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ كَاتِبٌ عَلَى أَقْطَاعِهِ
فَقَطْ، وَإِنَّمَا مَوْرِدُ أُمُورِ الْمَمْلَكَةِ وَمَصْدَرُهَا رَاجِعٌ إِلَى
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي بُوَيْهِ وَمِنْ
مَعَهُمْ مِنَ الدَّيْلَمِ فِيهِمْ تَشَيُّعٌ شَدِيدٌ، فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ
بَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ غَصَبُوا الْأَمْرَ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، حَتَّى عَزَمَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
عَلَى تَحْوِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُمْ
إِلَى الْعَلَوِيِّينَ، وَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي ذَلِكَ، فَكُلُّهُمْ أَشَارَ
عَلَيْهِ بِذَلِكَ، إِلَّا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، كَانَ سَدِيدَ الرَّأْيِ
فِيهِمْ، فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ: لَا أَرَى لَكَ هَذَا. قَالَ: وَلِمَ ذَاكَ ؟
قَالَ: لِأَنَّ هَذَا خَلِيفَةٌ تَرَى أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ أَنَّهُ غَيْرُ
صَحِيحِ الْإِمَارَةِ، فَمَتَى أَمَرْتَ بِقَتْلِهِ قَتَلَهُ أَصْحَابُكَ، وَلَوْ
وَلَّيْتَ رَجُلًا مِنَ الْعَلَوِيِّينَ لَكُنْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تَعْتَقِدُونَ
صِحَّةَ وِلَايَتِهِ، فَلَوْ أَمَرَ بِقَتْلِكَ لَقَتَلَكَ أَصْحَابُكَ. فَلَمَّا
فَهِمَ ذَلِكَ صَرَفَهُ عَنْ رَأْيِهِ الْأَوَّلِ، لِلدُّنْيَا لَا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
ثُمَّ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَرَكِبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ بَعْدَمَا
خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ إِلَى عُكْبَرَا فَدَخَلَ
بَغْدَادَ فَأَخَذَ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ ثُمَّ الْغَرْبِيَّ، وَضَعُفَ أَمْرُ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَالدَّيَالِمَةِ الَّذِينَ مَعَهُ، ثُمَّ مَكَرَ بِهِ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَخَدَعَهُ حَتَّى اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَانْتَصَرَ
أَصْحَابُهُ، فَنَهَبُوا بَغْدَادَ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ
التُّجَّارُ وَغَيْرِهِمْ، فَكَانَ قِيمَةُ مَا أَخَذَ أَصْحَابُ مُعِزِّ
الدَّوْلَةِ مِنَ النَّاسِ عَشَرَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ وَقَعَ
الصُّلْحُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَرَجَعَ ابْنُ
حَمْدَانَ إِلَى بَلَدِهِ الْمَوْصِلِ وَاسْتَقَرَّ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بِمَدِينَةِ السَّلَامِ بَغْدَادَ ثُمَّ شَرَعَ فِي اسْتِعْمَالِ السُّعَاةِ
لِيُبَلِّغُوا أَخَاهُ رُكْنَ الدَّوْلَةِ أَخْبَارَهُ، فَغَوَى الْعَامَّةُ فِي
ذَلِكَ، وَعَلَّمُوا أَبْنَاءَهُمْ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقْطَعُ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ فَرْسَخًا فِي يَوْمٍ، وَأَعْجَبَهُ الْمُصَارِعُونَ
وَالْمُلَاكِمُونَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي
لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلَّا قَلِيلًا ; كَالسِّبَاحَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَانَتْ
تُضْرَبُ الطُّبُولُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُصَارَعُ بَيْنَ الرِّجَالِ،
وَالْكُوسَاتُ
تُدَقُّ حَوْلَ سُورِ الْمَكَانِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَهَذِهِ رُعُونَةٌ شَدِيدَةٌ وَسَخَافَةُ عَقْلٍ مِنْهُ
وَمِمَّنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ احْتَاجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى
صَرْفِ أَمْوَالٍ فِي أَرْزَاقِ الْأَجْنَادِ، فَأَقْطَعَهُمُ الْبِلَادَ عِوَضًا
عَنْ أَرْزَاقِهِمْ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَخْرِيبِهَا وَتَرْكِ عِمَارَتِهَا،
إِلَّا الْأَرَاضِيَ الَّتِي بِأَيْدِي أَصْحَابِ الْجَاهَاتِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبَغْدَادَ حَتَّى أَكَلُوا
الْمَيْتَةَ وَالْكِلَابَ وَالسَّنَانِيرَ، وَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْرِقُ
الْأَوْلَادَ فَيَشْوِيهِمْ وَيَأْكُلُهُمْ، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ
حَتَّى كَانَ لَا يَدْفِنُ أَحَدٌ أَحَدًا، بَلْ يُتْرَكُونَ عَلَى الطُّرُقَاتِ،
فَيَأْكُلُ كَثِيرًا مِنْهُمُ الْكِلَابُ، وَبِيعَتِ الدُّورُ وَالْعَقَارُ
بِالْخُبْزِ، وَانْتَجَعَ النَّاسُ الْبَصْرَةَ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فِي
الطَّرِيقِ، وَمَنْ وَصَلَ مِنْهُمْ مَاتَ بَعْدَ مُدَيْدَةٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
الْمَنْصُورُ إِسْمَاعِيلُ، وَكَانَ حَازِمَ الرَّأْيِ شَدِيدًا شُجَاعًا، كَمَا
ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الصَّحِيحِ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ طُغْجٍ صَاحِبُ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَالْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ
وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ بِضْعٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، وَأُقِيمَ وَلَدُهُ أَبُو
الْقَاسِمِ أَنُوجُورُ - وَكَانَ صَغِيرًا - وَأُقِيمَ كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ
أَتَابِكَهُ، فَكَانَ
يُدَبِّرُ الْمَمَالِكَ بِالْبِلَادِ
كُلِّهَا، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَسَارَ إِلَى مِصْرَ،
فَقَصَدَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ دِمَشْقَ فَأَخَذَهَا مِنْ أَصْحَابِ
الْإِخْشِيدِ فَفَرِحَ بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَاجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْفَارَابِيِّ التُّرْكِيِّ الْفَيْلَسُوفِ بِهَا،
وَرَكِبَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يَوْمًا مَعَ الشَّرِيفِ الْعَقِيقِيِّ فِي بَعْضِ
نَوَاحِي دِمَشْقَ فَنَظَرَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْغُوطَةِ فَأَعْجَبَتْهُ،
وَقَالَ: يَنْبَغِي أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ كُلُّهَا لِدِيوَانِ السُّلْطَانِ،
كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِأَخْذِهَا مِنْ مُلَّاكِهَا، فَأَوْغَرَ ذَلِكَ
الْعَقِيقِيَّ إِلَى أَهْلِ دِمَشْقَ فَكَتَبُوا إِلَى كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ
يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ فِي جُيُوشٍ كَثِيرَةٍ كَثِيفَةٍ،
فَأَجْلَى عَنْهُمْ سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَطَرَدَهُ عَنْ حَلَبَ أَيْضًا،
وَاسْتَنَابَ عَلَيْهَا، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا فَاسْتَنَابَ عَلَى دِمَشْقَ
بَدْرًا الْإِخْشِيدِيَّ - وَيُعْرَفُ بِبُدَيْرٍ - فَلَمَّا صَارَ كَافُورٌ إِلَى
الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ رَجَعَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ فَأَخَذَهَا
كَمَا كَانَتْ أَوَّلًا لَهُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي دِمَشْقَ شَيْءٌ. وَكَافُورٌ
هَذَا هُوَ الَّذِي هَجَاهُ الْمُتَنَبِّي، وَمَدَحَهُ أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخِرَقِيُّ صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " الْمَشْهُورِ فِي الْفِقْهِ،
عُمَرُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْخِرَقِيُّ
صَاحِبُ " الْمُخْتَصَرِ " فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ، وَقَدْ شَرَحَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ،
وَالشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ بْنُ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيُّ، وَقَدْ كَانَ
الْخِرَقِيُّ هَذَا مِنْ سَادَاتِ الْفُقَهَاءِ وَالْعُبَّادِ، كَثِيرَ
الْفَضَائِلِ
وَالْعِبَادَةِ، خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ
لَمَّا كَثُرَ بِهَا السَّبُّ لِلصَّحَابَةِ، وَأَوْدَعَ كُتُبَهُ بِبَغْدَادَ،
فَاحْتَرَقَتِ الدَّارُ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَعُدِمَتْ مُصَنَّفَاتُهُ، وَقَصَدَ
دِمَشْقَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ بِبَابِ الصَّغِيرِ
يُزَارُ قَرِيبًا مِنْ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ.
وَفِي مُصَنَّفِهِ هَذَا " الْمُخْتَصَرِ " فِي كِتَابِ الْحَجِّ:
وَيَأْتِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيُقَبِّلُهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ. وَإِنَّمَا
قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَصْنِيفَهُ لِهَذَا الْكِتَابِ كَانَ حَالَ كَوْنِ
الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ بِأَيْدِي الْقَرَامِطَةِ حِينَ أَخَذُوهُ مِنْ مَكَانِهِ
فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يَرُدُّوهُ
إِلَّا سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي مَوْضِعِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: قَالَ لِي الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: كَانَتْ لَهُ مُصَنَّفَاتٌ
كَثِيرَةٌ وَتَخْرِيجَاتٌ عَلَى الْمَذْهَبِ لَمْ تَظْهَرْ; لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ
مَدِينَةِ السَّلَامِ لَمَّا ظَهَرَ سَبُّ الصَّحَابَةِ، وَأَوْدَعَ كُتُبَهُ،
فَاحْتَرَقَتِ الدَّارُ الَّتِي هِيَ فِيهَا، وَاحْتَرَقَتِ الْكُتُبُ فِيهَا
وَلَمْ تَكُنْ قَدِ انْتَشَرَتْ ; لِبُعْدِهِ عَنِ الْبَلَدِ.
ثُمَّ رَوَى الْخَطِيبُ مِنْ طَرِيقِهِ، عَنْ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ عَبْدِ
السَّمِيعِ الْهَاشِمِيِّ، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ شُخْرُفٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لِي: مَا
أَحْسَنَ تَوَاضُعَ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ ! قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ تِيهُ الْفُقَرَاءِ عَلَى
الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: وَرَفَعَ لِي كَفَّهُ فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ:
قَدْ كُنْتَ مَيْتًا فَصِرْتَ حَيًّا وَعَنْ قَلِيلٍ تَصِيرُ مَيْتَا فَابْنِ
بِدَارِ الْبَقَاءِ بَيْتًا
وَدَعْ بِدَارِ الْفَنَاءِ بَيْتَا
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: مَاتَ الْخِرَقِيُّ بِدِمَشْقَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَزُرْتُ قَبْرَهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُوسَى
الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي زَمَانِهِ،
وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَغْدَادَ لِلْمُتَّقِي، ثُمَّ لِلْمُسْتَكْفِي، وَكَانَ
ثِقَةً فَاضِلًا، كَبَسَتِ اللُّصُوصُ دَارَهُ فَظَنُّوهُ أَنَّهُ ذُو مَالٍ،
فَضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إِلَى
السُّطُوحِ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ إِلَى الْأَرْضِ، فَمَاتَ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْفَضْلِ
السُّلَمِيُّ، الْوَزِيرُ الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ الشَّاعِرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ
وَجَمَعَ وَصَنَّفَ، وَكَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَلَا يَدَعُ
صَلَاةَ اللَّيْلِ وَالتَّصْنِيفَ، وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ الشَّهَادَةَ
كَثِيرًا،
فَوَلِيَ الْوِزَارَةَ لِلسُّلْطَانِ،
فَقَصَدَهُ الْأَجْنَادُ يُطَالِبُونَهُ بِأَرْزَاقِهِمْ، وَاجْتَمَعَ مِنْهُمْ
بِبَابِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَاسْتَدْعَى بِحَلَّاقٍ فَحَلَقَ رَأْسَهُ،
وَتَنَوَّرَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ، وَقَامَ يُصَلِّي، فَدَخَلُوا
عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ سَاجِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْإِخْشِيدُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجِ بْنِ جُفَّ أَبُو بَكْرٍ
الْمُلَقَّبَ بِالْإِخْشِيدِ، وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ، لَقَّبَهُ بِذَلِكَ
الرَّاضِي ; لِأَنَّهُ كَانَ مَلِكَ فَرْغَانَةَ وَكُلُّ مَنْ مَلَكَهَا كَانَ
يُسَمَّى الْإِخْشِيدَ كَمَا أَنَّ مَنْ مَلَكَ أُشْرُوسَنَةَ يُسَمَّى
الْإِفْشِينَ، وَمَنْ مَلَكَ خُوَارِزْمَ يُسَمَّى خَوَارِزْمَ شَاهَ، وَمَنْ
مَلَكَ جُرْجَانَ يُسَمَّى صُولَ، وَمَنْ مَلَكَ أَذْرَبِيجَانَ يُسَمَّى
إِصْبَهْبَذَ، وَمَنْ مَلَكَ طَبَرِسْتَانَ يُسَمَّى سَالَارَ. قَالَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ".
قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ
الْجَزِيرَةِ كَافِرًا قَيْصَرَ، وَمَنْ مَلَكَ الْفُرْسَ يُسَمَّى كِسْرَى،
وَمَنْ مَلَكَ الْيَمَنَ يُسَمَّى تُبَّعًا، وَمَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ
النَّجَاشِيَّ وَمَنْ مَلَكَ الْهِنْدَ بَطْلَيْمُوسَ، وَمَنْ مَلَكَ
مِصْرَ كَافِرًا يُسَمَّى فِرْعَوْنُ،
وَمَنْ مَلَكَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ يُسَمَّى الْمُقَوْقِسَ وَذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ، وَنُقِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَدُفِنَ
هُنَاكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو بَكْرٍ الشَّبْلِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ، اخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ عَلَى أَقْوَالٍ،
فَقِيلَ: دُلَفُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَيُقَالُ: دُلَفُ بْنُ جَحْدَرٍ، وَقِيلَ:
جَعْفَرُ بْنُ يُونُسَ. أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: شِبْلِيَّةُ. مِنْ
بِلَادِ أُشْرُوسَنَةَ مِنْ خُرَاسَانَ وَوُلِدَ بِسَامَرَّاءَ، وَكَانَ أَبُوهُ
حَاجِبَ الْحُجَّابِ لِلْمُوَفَّقِ، وَكَانَ خَالُهُ نَائِبَ إِسْكَنْدَرِيَّةَ،
وَكَانَتْ تَوْبَةُ الشِّبْلِيِّ عَلَى يَدَيْ خَيْرٍ النَّسَّاجِ، سَمِعَهُ
يَعِظُ، فَوَقَعَ كَلَامُهُ فِي قَلْبِهِ، فَتَابَ مِنْ فَوْرِهِ، ثُمَّ صَحِبَ
الْفُقَرَاءَ وَالْمَشَايِخَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَئِمَّةِ
الْقَوْمِ.
قَالَ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
كَانَ الشِّبْلِيُّ تَاجَ هَؤُلَاءِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودٍ
الزَّوْزَنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمُثَنَّى التَّمِيمِيَّ يَقُولُ:
دَخَلْتُ عَلَى الشِّبْلِيِّ فِي دَارِهِ، وَهُوَ يَهِيجُ وَيَقُولُ:
عَلَى بُعْدِكَ لَا يَصْبِ رُ مَنْ عَادَتُهُ الْقُرْبُ
وَلَا يَقْوَى عَلَى حَجْبِ كَ مَنْ تَيَّمَهُ الْحُبُّ
فَإِنْ لَمْ تَرَكَ الْعَيْنُ فَقَدْ يُبْصِرُكَ الْقَلْبُ
وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِمَّنِ
اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَلَّاجِ وَوَافَقَهُ فِي بَعْضِ مَا نُسِبَ
إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ لِمَا تَحْتَهَا، مِمَّا كَانَ
الْحَلَّاجُ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ.
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِخَادِمِهِ: قَدْ كَانَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ
مِنْ مَظْلِمَةٍ، فَتَصَدَّقْتُ عَنْ صَاحِبِهِ بِأُلُوفٍ، وَمَعَ هَذَا مَا عَلَى
قَلْبِي شُغُلٌ أَعْظَمَ مِنْهُ. ثُمَّ أَمَرَهُ بِأَنْ يُوَضِّئَهُ، فَوَضَّأَهُ
وَتَرَكَ تَخْلِيلَ لِحْيَتِهِ، فَرَفَعَ يَدَهُ - وَكَانَ قَدِ اعْتُقِلَ
لِسَانُهُ - فَجَعَلَ يُخَلِّلُ
لِحْيَةَ نَفْسِهِ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " وَحَكَى
عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ يَوْمًا عَلَى الْجُنَيْدِ، فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
وَصَفَّقَ وَأَنْشَدَ:
عَوَّدُونِي الْوِصَالَ وَالْوَصْلُ عَذْبٌ وَرَمَوْنِي بِالصَّدِّ وَالصَّدُّ
صَعْبُ
زَعَمُوا حِينَ أَزْمَعُوا أَنَّ ذَنْبِي فَرْطُ حُبِّي لَهُمْ وَمَا ذَاكَ ذَنْبُ
لَا وَحَقِّ الْخُضُوعِ عِنْدَ التَّلَاقِي مَا جَزَا مَنْ يُحِبُّ إِلَّا يُحَبُّ
وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ الشِّبْلِيُّ مِنَ الْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ، وَقَدْ
أَوْرَدَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَتِهِ مِنْ " تَارِيخِهِ ":
أُسَائِلُكُمْ عَنْهَا فَهَلْ مِنْ مُخَبِّرٍ فَمَا لِي بِنُعْمَى بَعْدَ
مُكْثَتِنَا عِلْمُ
فَلَوْ كُنْتُ أَدْرِي أَيْنَ خَيَّمَ أَهْلُهَا وَأَيَّ بِلَادِ اللَّهِ إِذْ
ظَعَنُوا أَمُّوا
إِذًا لَسَلَكْنَا مَسْلَكَ الرِّيحِ خَلْفَهَا وَلَوْ أَصْبَحَتْ نُعْمَى وَمِنْ دُونِهَا
النَّجْمُ
وَمِنْ ذَلِكَ:
أُسَائِلُ عَنْ سَلْمَى فَهَلْ مِنْ مُخَبِّرٍ بِأَنَّ لَهُ عِلْمًا بِهَا أَيْنَ
تَنْزِلُ
ثُمَّ يَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ، وَمَا فِي الدَّارَيْنِ عَنْكَ مُخْبِرٌ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا شَطْحٌ ; فَقَدْ خَبَّرَتْ عَنْهُ تَعَالَى الرُّسُلُ
بِالْحَقِّ وَنَطَقُوا
بِالصِّدْقِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ
لِعَارِفٍ عَلَامَةٌ، وَلَا لِمُحِبٍّ شَكْوَى، وَلَا لِعَبْدٍ دَعْوَى، وَلَا
لِخَائِفٍ قَرَارٌ، وَلَا مِنَ اللَّهِ فِرَارٌ.
وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يَقُولُ: الْعَارِفُ صَدْرُهُ مَشْرُوحٌ، وَقَلْبُهُ
مَجْرُوحٌ، وَجَسَدُهُ مَطْرُوحٌ، وَالْعَارِفُ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ، وَعَرَفَ
مُرَادَ اللَّهِ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ، وَأَعْرَضَ عَمَّا نَهَى
اللَّهُ، وَدَعَا عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَالصُّوفِيُّ مَنْ صَفَّى
قَلْبَهُ مِنَ الْكَدَرِ فَصَفَا، وَسَلَكَ طَرِيقَ الْمُصْطَفَى، وَرَمَى
الدُّنْيَا خَلْفَ الْقَفَا، وَأَذَاقَ الْهَوَى طَعْمَ الْجَفَا.
وَقَالَ أَيْضًا: الصُّوفِيُّ مَنْ صَفَا مِنَ الْكَدَرِ، وَخَلَصَ مِنَ
الْغِيَرِ، وَامْتَلَأَ مِنَ الْفِكَرِ، وَتَسَاوَى عِنْدَهُ الذَّهَبُ وَالْمَدَرُ.
وَمِمَّا كَانَ يُنْشِدُهُ:
أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْكِ يَوْمًا سَحَابَةٌ أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَا
رَشَاشُهَا
فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْأَسَ طَامِعٌ وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوَى
عِطَاشُهَا
وَسُئِلَ: هَلْ يَتَحَقَّقُ الْعَارِفُ بِمَا يَبْدُو لَهُ مِنَ الْآثَارِ ؟
فَقَالَ: كَيْفَ يَتَحَقَّقُ بِمَا لَا يَثْبُتُ ؟ وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَى مَا
لَا يَظْهَرُ ؟ وَكَيْفَ يَأْنَسُ بِمَا يَخْفَى ؟ فَهُوَ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ.
ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
فَمَنْ كَانَ فِي طُولِ الْهَوَى ذَاقَ سَلْوَةً فَإِنِّي مَنْ لَيْلَى لَهَا
غَيْرُ ذَائِقِ
وَأَكْثَرُ شَيْءٍ نِلْتُهُ مِنْ
وِصَالِهَا أَمَانِيُّ لَمْ تَصْدُقْ كَلَمْحَةِ بَارِقِ
وَكَانَ يَقُولُ: الدُّنْيَا خَيَالٌ، وَظِلُّهَا وَبَالٌ، وَتَرْكُهَا جَمَالٌ،
وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا كَمَالٌ، وَالْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ اتِّصَالٌ:
لَتُحْشَرَنَّ عِظَامِي بَعْدَ إِذْ بَلِيتُ يَوْمَ الْحِسَابِ وَفِيهَا حُبُّكُمْ
عَلِقُ
وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ: هَلْ يَتَسَلَّى الْحَبِيبُ بِشَيْءٍ مِنْ حَبِيبِهِ دُونَ
مُشَاهَدَتِهِ ؟ فَأَنْشَدَ:
وَاللَّهِ لَوْ أَنَّكَ تَوَّجْتَنِي بِتَاجِ كِسْرَى مَلِكِ الْمَشْرِقِ
وَلَوْ بِأَمْوَالِ الْوَرَى جُدْتَ لِي أَمْوَالِ مَنْ بَادَ وَمَنْ قَدْ بَقِي
وَقُلْتَ لَا نَلْتَقِي سَاعَةً اخْتَرْتُ يَا مَوُلَايَ أَنْ نَلْتَقِي
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ
هَادِيًا
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
وَلَوْ أَنَّ رَكْبًا أَمَّمُوكَ لَقَادَهُمْ نَسِيمُكَ حَتَّى يَسْتَدِلَّ بِكَ
الرَّكْبُ
إِذَا أَبْصَرَتْكَ الْعَيْنُ مِنْ بَعْدِ غَايَةٍ وَعَارَضَ فِيكَ الشَّكُّ
أَثْبَتَكَ الْقَلْبُ
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
لَيْسَ تَخْلُو جَوَارِحِي مِنْكَ وَقْتًا هِيَ مَشْغُولَةٌ بِحَمْلِ هَوَاكَا
لَيْسَ يَجْرِي عَلَى لِسَانِي شَيْءٌ عَلِمَ اللَّهُ ذَا سِوَى ذِكْرَاكَا
وَتَمَثَّلْتَ حَيْثُ كُنْتَ بِعَيْنِي فَهِيَ إِنْ غِبْتَ أَوْ حَضَرْتَ تَرَاكَا
وَكَانَ يُنْشِدُ أَيْضًا:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَقُولُ نَسِيتُ إِلْفِي وَهَلْ أَنْسَى فَأَذْكُرُ مَنْ هَوِيتُ
أَمُوتُ إِذَا ذَكَرْتُكَ ثُمَّ أَحْيَا وَلَوْلَا مَا أُؤَمِّلُ مَا حَيِيتُ
فَأَحْيَا بِالْمُنَى وَأَمُوتُ شَوْقًا فَكَمْ أَحْيَا عَلَيْكَ وَكَمْ أَمُوتُ
جَعَلْتُ الصَّمْتَ سِتْرَ الْحُبِّ حَتَّى تَكَلَّمَتِ الْجُفُونُ بِمَا لَقِيتُ
شَرِبْتُ الْحُبَّ كَأْسًا بَعْدَ كَأْسٍ فَمَا نَفِدَ الشَّرَابُ وَمَا رَوِيتُ
وَقَالَ أَيْضًا: التَّصَوُّفُ تَرْوِيحُ الْقَلْبِ بِمَرَاوِحِ الصَّفَاءِ،
وَتَجْلِيلُ الْخَوَاطِرِ بِأَرْدِيَةِ الْوَفَاءِ، وَالتَّخَلُّقُ بِالسَّخَاءِ،
وَالْبِشْرُ فِي اللِّقَاءِ.
وَنَظَرَ يَوْمًا إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ فَأَنْشَأَ:
أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَرَى نِسَاءَ الْحَيِّ غَيْرَ
نِسَائِهَا
وَقَالَ أَيْضًا:
إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى
الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، فَانْظُرْ إِلَى الْمَزْبَلَةِ، وَإِذَا أَرَدْتَ
أَنْ تَنْظُرَ إِلَى نَفْسِكَ فَخُذْ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ ; فَإِنَّكَ مِنْهَا
خُلِقْتَ، وَفِيهَا تَعَودُ، وَمِنْهَا تَخْرُجُ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ
مَا أَنْتَ، فَانْظُرْ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْكَ عِنْدَ الْخَلَاءِ، فَلَا
تَتَطَاوَلْ وَلَا تَتَكَبَّرْ عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُكَ.
وَكَانَ يُنْشِدُ:
وَتَحْسَبُنِي حَيًّا وَإِنِّي لَمَيِّتٌ وَبَعْضِي مِنَ الْهِجْرَانِ يَبْكِي
عَلَى بَعْضِ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
وَكَذَّبْتُ طَرَفِي فِيكَ وَالطَّرْفُ صَادِقٌ وَأَسْمَعْتُ أُذْنِي فِيكَ مَا
لَيْسَ تَسَمَعُ
وَلَمْ أَسْكُنِ الْأَرْضَ الَّتِي تَسْكُنُونَهَا لِكَيْ لَا يَقُولُوا إِنَّنِي
بِكَ مُولَعُ
فَلَا كَبِدِي تَهْدَا وَلَا فِيكَ رَحْمَةٌ وَلَا عَنْكَ إِقْصَارٌ وَلَا فِيكَ
مَطْمَعُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:
فَيَا سَاقِيَ الْقَوْمِ لَا تَنْسَنِي وَيَا رَبَّةَ الْخِدْرِ غَنِّي رَمَلْ
خَلِيلَيَّ إِنْ دَامَ هَذَا الصُّدُودُ عَلَى مَا أَرَاهُ سَرِيعًا قَتَلْ
وَقَدْ كَانَ شَيْئًا يُسَمَّى السُّرُورَ قَدِيمًا سَمِعْنَا بِهِ مَا فَعَلْ
وَسُئِلَ الشِّبْلِيُّ عَنِ الرَّجُلِ يَسْمَعُ الشَّيْءَ فَلَا يَفْهَمُهُ،
وَيَتَوَاجَدُ مَعَ ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بِالضُّحَى
ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ فِي فَنَنِ
ذَكَرَتْ إِلْفًا وَدَهْرًا صَالِحًا فَبَكَتْ حُزْنًا فَهَاجَتْ حَزَنِي
فَبُكَائِي رُبَّمَا أَرَّقَهَا وَبُكَاهَا رُبَّمَا أَرَّقَنِي
وَلَقَدْ أَشْكُو فَمَا أُفْهِمُهَا وَلَقَدْ تَشْكُو فَمَا تُفْهِمُنِي
غَيْرَ أَنِّي بِالْجَوَى أَعْرِفُهَا وَهِيَ أَيْضًا بِالْجَوَى تَعْرِفُنِي
وَوُجِدَ فِي كَلَامِ الشِّبْلِيِّ: مَا ظَنُّكَ بِمَعَانٍ هِيَ شُمُوسٌ كُلُّهَا
; بَلِ الشُّمُوسُ فِيهَا ظُلْمَةٌ.
وَقَالَ أَيْضًا: الْوَجْدُ اصْطِلَامٌ. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
الْوَجْدُ عَنِّي جُحُودٌ مَا لَمْ يَكُنْ عَنْ شُهُودِ
وَشَاهِدُ الْحَقِّ عِنْدِي يُفْنِي شُهُودَ الْوُجُودِ
وَكَانَ يُنْشِدُ:
الْكُلُّ مِنِّي بَلَائِي وَرَاحَتِي فِي فَنَائِي
وَسَمِعَ الْقَوَّالَ يَوْمًا، فَتَوَاجَدَ كَثِيرًا وَالْمَشَايِخُ سُكُوتٌ لَمْ
يَتَوَاجَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فِي ذَلِكَ،
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ حَدِيثَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا
وَسُجُودًا
وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لِي سَكْرَتَانِ وَلِلنَّدْمَانِ وَاحِدَةٌ شَيْءٌ خُصِصْتُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ
وَحْدِي
وَكَانَ يَقُولُ:
وَكُنْتُ إِذَا مَا جِئْتُ جِئْتُ لِعِلَّةٍ فَأَفْنَيْتُ عِلَّاتِي فَكَيْفَ
أَقُولُ
إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مُرْسَلٌ فَرِيحُ الصَّبَا مِنِّي إِلَيْكَ
رَسُولُ
وَمِنْهُ أَيْضًا:
وَكَمْ كِذْبَةٍ لِي فِيكَ لَا أَسْتَقِيلُهَا أَقُولُ لِمَنْ أَلْقَاهُ إِنِّيَ
صَالِحُ
فَأَيُّ صَلَاحٍ لِي وَجِسْمِيَ نَاحِلٌ وَقَلْبِيَ مَشْغُوفٌ وَدَمْعِيَ سَافِحُ
وَأَنْشَدَ يَوْمًا، وَجَلَسَ عِنْدَهُ شَابٌّ أَمَرَدُ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ
حِسَانٌ، فَطَرَدَهُ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ قَالَ:
طَرَحُوا اللَّحْمَ لِلْبُزَا ةِ عَلَى ذِرْوَتَيْ عَدَنْ
ثُمَّ لَامُوا الْبُزَاةَ كَمْ طَوَّلُوا فِيهِمُ الرَّسَنْ
لَوْ أَرَادُوا صَلَاحَنَا سَرُّوا وَجْهَهُ الْحَسَنْ
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ الْكَاتِبِ،
أَنَّهُ أَنْشَدَ لَهُ فِي مَعْنَى هَذَا بَيْتَيْنِ أَخْطَأَ فِيهِمَا:
يَا رَبِّ تَخْلُقُ أَقْمَارَ لَيْلٍ وَأَغْصَانَ بَانٍ وَكُثْبَانَ رَمْلِ
وَتُبْدِعُ فِي كُلِّ طَرَفٍ بِسِحْرٍ وَفِي كُلِّ قَدٍّ رَشِيقٍ بِكَلِّ
وَتَنْهَى عِبَادَكَ أَنْ يَعْشَقُوا أَيَا حَكَمَ الْعَدْلِ أَحْكُمْ بِعَدْلِ
قُلْتُ: نَعَمْ، إِنَّ اللَّهَ
إِنَّمَا يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ، وَهُوَ الْحَكَمُ بِالْعَدْلِ فِي كُلِّ مَا
أَمَرَ بِهِ وَكُلِّ مَا يَنْهَى عَنْهُ.
وَلِلشِّبْلِيِّ:
فَيَوْمًا تَرَانَا فِي الْخُزُوزِ نَجُرُّهَا وَيَوْمًا تَرَانَا فِي الْحَدِيدِ
عَوَابِسَا
وَيَوْمًا تَرَانَا لِلثَّرِيدِ نَبُسُّهُ وَيَوْمًا تَرَانَا نَأْكُلُ الْخُبْزَ
يَابِسَا
وَسَافَرَ الشِّبْلِيُّ مَرَّةً إِلَى الْبَصْرَةِ فَلَمَّا عَادَ إِلَى بَغْدَادَ
سَمِعَ جَارَةً لِلْخَلِيفَةِ الْمُقْتَدِرِ تُغَنِّيهِ وَهُوَ فِي التَّاجِ مِنْ
دَارِ الْخِلَافَةِ:
أَيَا قَادِمًا مِنْ سَفْرَةِ الْهَجْرِ مَرْحَبًا أَيَا ذَاكَ لَا أَنْسَاكَ مَا
هَبَّتِ الصَّبَا
قَدِمْتَ عَلَى قَلْبِي كَمَا قَدْ تَرَكْتَهُ كَئِيبًا حَزِينًا بِالصَّبَابَةِ
مُتْعَبَا
فَصَاحَ الشِّبْلِيُّ صَيْحَةً، وَخَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فِي دِجْلَةَ،
فَتَدَارَكَهُ النَّاسُ، فَأَخْرَجُوهُ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِإِحْضَارِهِ،
فَقَالَ: أَنْتَ مَجْنُونٌ. قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي قَدِمْتُ مِنْ سَفَرٍ،
فَسَمِعْتُ هَذِهِ تُغَنِّيكَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ، فَحَصَلَ لِي مَا حَصَلَ،
فَبَكَى الْخَلِيفَةُ.
وَكَانَ الشِّبْلِيُّ يُنْشِدُ، وَسَمِعْتُهُ كَثِيرًا مِنْ شَيْخِنَا
الْعَلَّامَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يُنْشِدُ:
عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ لِلذِّئْبِ إِذْ عَوَى وَصَوَّتَ إِنْسَانٌ
فَكِدْتُ أَطِيرُ
وَلَهُ أَيْضًا:
النَّاسُ بِالْعِيدِ قَدْ سُرُّوا
وَقَدْ فَرِحُوا وَمَا سُرِرْتُ بِهِ وَالْوَاحِدِ الصَّمَدِ
لَمَّا تَيَقَّنْتُ أَنِّي لَا أُعَايِنُكُمْ غَمَّضْتُ عَيْنِي فَلَا أَنْظُرْ
إِلَى أَحَدِ
وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فُلَانًا مَاتَ فُجَاءَةً. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
قَضَى اللَّهُ فِي الْقَتْلَى قِصَاصَ دِمَائِهِمْ وَلَكِنْ دِمَاءُ الْعَاشِقِينَ
جُبَارُ
وَلَهُ أَيْضًا:
جُنِنَّا عَلَى لَيْلَى وَجُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ مَا
نُرِيدُهَا
وَلَهُ أَيْضًا:
يَا رَاحَتِي وَعَذَابِي مِنْ عَذَابِي أَنْتِ مَا بِي فَكَيْفَ أَكْتُمُ مَا بِي
وَلَهُ أَيْضًا:
فَلَوْ قُلْتَ طَأْ فِي النَّارِ بَادَرْتُ نَحْوَهَا سُرُورًا لِأَنِّي قَدْ
خَطَرْتُ بِبَالِكَا
وَلَمَّا مَرِضَ الشِّبْلِيُّ بَعَثَ إِلَيْهِ الْمُقْتَدِرُ طَبِيبًا
نَصْرَانِيًّا، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّ قَطْعَ بَعْضِ
جَسَدِي يَشْفِيكَ لَقَطَعْتُهُ. فَقَالَ لَهُ: يَشْفِينِي قَطْعُ مَا هُوَ
أَيْسَرُ عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ: وَمَا هُوَ ؟ قَالَ: قَطْعُ زُنَّارِكَ.
فَقَطَعَهُ وَأَسْلَمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ، فَقَالَ: بَعَثْنَا
طَبِيبًا إِلَى عَلِيلٍ، فَإِذَا هُوَ عَلِيلٌ إِلَى طَبِيبٍ.
قَالُوا: وَلَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ مَنْ عِنْدَهُ يَقُولُونَ: قُلْ: لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ:
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ
وَجْهُكَ الْمَأْمُولُ حُجَّتُنَا
يَوْمَ يَأْتِي النَّاسُ بِالْحُجَجِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَخْشَى أَنْ أَمُوتَ
بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنَّمَا كَانَ
ذِكْرُهُ: اللَّهَ اللَّهَ، وَيَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ [ الْأَنْعَامِ:
91 ]
وَفِيمَا نَحَاهُ نَظَرٌ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [ مُحَمَّدٍ: 19 ] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي: لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ مَجْنُونًا عَلَى بَابِ جَامِعِ
الرُّصَافَةِ يَوْمَ جُمْعَةٍ وَهُوَ عُرْيَانٌ، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مَجْنُونُ
اللَّهِ، أَنَا مَجْنُونُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: أَلَا تَسْتَتِرُ وَتَدْخُلُ مَعَ
النَّاسِ فَتُصَلِّي، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
يَقُولُونَ زُرْنَا وَاقْضِ وَاجِبَ حَقِّنَا وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَالِي
حُقُوقَهُمْ عَنِّي
إِذَا أَبْصَرُوا حَالِي وَلَمْ يَأْنَفُوا لَهَا وَلَمْ يَأْنَفُوا مِنْهَا
أَنِفْتُ لَهُمْ مِنِّي
وَذَكَرَ الْخَطِيبُ فِي " تَارِيخِهِ " عَنْهُ أَنَّهُ أَنْشَدَ
لِنَفْسِهِ:
مَضَتِ الشَّبِيبَةُ وَالْحَبِيبَةُ فَانْبَرَى دَمْعَانِ فِي الْأَجْفَانِ
يَزْدَحِمَانِ
مَا أَنْصَفَتْنِي الْحَادِثَاتُ رَمَيْنَنِي بِمُوَدِّعَيْنِ وَلَيْسَ لِي
قَلْبَانِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ
بَقِيَتَا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ
فِي مَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ بِبَغْدَادَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ فِي
دَارِ الْخِلَافَةِ، وَاصْطَلَحَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَنَاصِرُ
الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ حَارَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ
تَكِينَ التُّرْكِيَّ، فَاقْتَتَلَا مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً، ثُمَّ ظَفِرَ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ بِتَكِينَ، فَسَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ
بِالْمَوْصِلِ وَالْجَزِيرَةِ.
وَفِيهَا اسْتَحْوَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ عَلَى الرَّيِّ
وَانْتَزَعَهَا مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَةُ بَنِي بُوَيْهِ
; فَإِنَّهُ صَارَ بِأَيْدِيهِمْ أَعْمَالُ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَأَصْبَهَانَ
وَفَارِسَ وَالْأَهْوَازِ وَالْعِرَاقِ، وَيُحْمَلُ إِلَيْهِمْ ضَمَانُ
الْمَوْصِلِ وَدِيَارِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ مِنَ الْجَزِيرَةِ.
ثُمَّ اقْتَتَلَ جَيْشُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَجَيْشُ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ
الْبَرِيدِيِّ، فَهُزِمَ أَصْحَابُ الْبَرِيدِيِّ، وَأُسِرَ مِنْ أَعْيَانِهِمْ
جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ.
وَفِيهَا وَقَعَ الْفِدَاءُ بَيْنَ الرُّومِ وَالْمُسْلِمِينَ عَلَى يَدِ نَصْرٍ
الثَّمِلِيِّ أَمِيرِ الثُّغُورِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَكَانَ
عِدَّةُ الْأَسَارَى نَحْوًا مِنْ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةِ مُسْلِمٍ. وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ حَمُّوَيْهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، الْقَاضِي الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
رَوَى الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ، وَحَكَمَ بِبَلَدِهِ
مُدَّةً طَوِيلَةً، وَكَانَ مِنَ الْمُتَهَجِّدِينَ بِالْأَسْحَارِ، وَيُضْرَبُ
بِهِ الْمَثَلُ فِي مُرُوءَتِهِ وَوَجَاهَتِهِ، وَقَدْ مَاتَ فَجْأَةً عَلَى
صَدْرِ جَارِيَتِهِ عِنْدَ إِنْزَالِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْخُتُّلِيُّ
سَمِعَ ابْنَ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرَهُ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَخَلْقٌ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا حَافِظًا، حَدَّثَ مِنْ حَفِظِهِ بِخَمْسِينَ
أَلْفِ حَدِيثٍ.
عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ رَغْبَانَ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَغْبَانَ بْنِ زَيْدِ بْنِ تَمِيمٍ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْكَلْبِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِدِيكِ الْجِنِّ، الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الشِّيعِيُّ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ مِنْ مَوَالِي بَنِي تَمِيمٍ. وَكَانَتْ لَهُ أَشْعَارٌ قَوِيَّةٌ
خُمَارِيَّةٌ وَغَيْرُ خُمَارِيَّةٍ، وَقَدِ اسْتَجَادَ أَبُو نُوَاسٍ مِنْ
شَعْرِهِ فِي الْخُمَارِيَّاتِ.
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ بْنِ
الْجِرَّاحِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَزِيرُ
وَزِرَ لِلْمُقْتَدِرِ وَالْقَاهِرِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَعَنْهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ،
وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا عَفِيفًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ
وَالصِّيَامِ، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيُكْثِرُ مُجَالَسَتَهُمْ، وَكَانَ
أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ وَكَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْقَائِمِينَ عَلَى الْحَلَّاجِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَلَكْتُ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ،
أَنْفَقْتُ مِنْهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ وَثَمَانِينَ
أَلْفًا.
وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ حِينَ نُفِيَ مِنْ بَغْدَادَ طَافَ بِالْبَيْتِ
وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَ حَرٌّ شَدِيدٌ، فَجَاءَ الْمَنْزِلَ،
فَأَلْقَى نَفْسَهُ كَالْمَيِّتِ، وَقَالَ: أَشْتَهِي عَلَى اللَّهِ شَرْبَةً
بِثَلْجٍ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَهَيَّأُ هَاهُنَا.
فَقَالَ: أَعْرِفُ، وَلَكِنِّي اسْتَرْوَحْتُ إِلَى الْمُنَى. فَلَمَّا كَانَ فِي
أَثْنَاءِ النَّهَارِ جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَأَمْطَرَتْ، ثُمَّ سَقَطَ بَرَدٌ
شَدِيدٌ كَثِيرٌ، فَجَمَعَ لَهُ صَاحِبُهُ ذَاكَ مِنَ الْبَرَدِ شَيْئًا كَثِيرًا
وَخَبَّأَهُ لَهُ، وَكَانَ الْوَزِيرُ صَائِمًا، فَلَمَّا أَمْسَى جَاءَ
الْمَسْجِدَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْأَشْرِبَةِ
كُلُّهَا بِثَلْجٍ، فَجَعَلَ يُسْقِيهِ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ
وَالْمُجَاوِرِينَ وَلَمْ يَشْرَبْ هُوَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَجَعَ
إِلَى الْمَنْزِلِ، جِئْتُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّرَابِ كُنَّا قَدْ
خَبَّأْنَاهُ لَهُ، وَأَقْسَمْتُ
عَلَيْهِ لَيَشْرَبَنَّهُ، فَشَرِبَهُ بَعْدَ جَهْدٍ، وَقَالَ: كُنْتُ أَشْتَهِي
لَوْ كُنْتُ تَمَنَّيْتُ الْمَغْفِرَةَ. رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ.
وَمِنْ شِعْرِ الْوَزِيرِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى قَوْلُهُ:
فَمَنْ كَانَ عَنِّي سَائِلًا بِشَمَاتَةٍ لِمَا نَابَنِي أَوْ شَامِتًا غَيْرَ
سَائِلِ فَقَدْ أَبْرَزَتْ مِنِّي الْخُطُوبُ ابْنَ حُرَّةٍ
صَبُورًا عَلَى أَهْوَالِ تِلْكَ الزَّلَازِلِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ التَّنُوخِيُّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَمَاعَةٍ، أَنَّ عَطَّارًا مَنْ أَهْلِ الْكَرْخِ كَانَ مَشْهُورًا
بِالسُّنَّةِ، رَكِبَهُ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ دَيْنًا، فَغَلَّقَ دُكَّانَهُ،
وَانْكَسَرَ عَنْ كَسْبِهِ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ
وَالتَّضَرُّعِ وَالصَّلَاةِ لَيَالِيَ كَثِيرَةً، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ
تِلْكَ اللَّيَالِي رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اقْصِدْ عَلِيَّ بْنَ عِيسَى الْوَزِيرَ، فَقَدْ
أَمَرْتُهُ لَكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ الرَّجُلُ قَصَدَ
بَابَ الْوَزِيرِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ، فَجَلَسَ لَعَلَّ أَحَدًا
يَسْتَأْذِنُ لَهُ عَلَيْهِ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ، وَهَمَّ بِالِانْصِرَافِ،
ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ الْحَجَبَةِ: قُلْ لِلْوَزِيرِ: إِنِّي رَجُلٌ
رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ،
وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَقُصَّهُ عَلَى الْوَزِيرِ، فَقَالَ لَهُ الْحَاجِبُ:
وَأَنْتَ الرَّائِي ؟ إِنَّ الْوَزِيرَ قَدْ أَنْفَذَ فِي طَلَبِكَ رُسُلًا
مُتَعَدِّدَةً. ثُمَّ دَخَلَ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعِ مِنْ أَنْ أَدْخَلَنِي
عَلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ يَسْتَعْلِمُ عَنِ اسْمِهِ وَصِفَتِهِ
وَمَنْزِلِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنِّي رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَأْمُرُنِي
بِإِعْطَائِكَ أَرْبَعَمِائَةِ
دِينَارٍ، فَأَصْبَحْتُ لَا أَدْرِي مَنْ أَسْأَلُ عَنْكَ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ فِي
طَلَبِكَ إِلَى الْآنِ عِدَّةً مِنَ الرُّسُلِ، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فِي
قَصْدِكَ إِيَّايَ. ثُمَّ أَمَرَ بِإِحْضَارِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: هَذِهِ
أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَسِتُّمِائَةٍ هِبَةٌ مِنْ عِنْدِي. فَقَالَ الرَّجُلُ: لَا وَاللَّهِ
لَا أَزِيدُ عَلَى مَا أَمَرَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَإِنِّي أَرْجُو الْخَيْرَ وَالْبَرَكَةَ فِيهِ، ثُمَّ أَخَذَ مِنْهَا
أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: هَذَا هُوَ الصِّدْقُ
وَالْيَقِينُ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ، فَعَرَضَ عَلَى أَرْبَابِ الدُّيُونِ
أَمْوَالَهُمْ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَصْبِرُ عَلَيْكَ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَافْتَحْ
بِهَذَا الذَّهَبِ دُكَّانَكَ، وَدُمْ عَلَى كَسْبِكَ. فَأَبَى إِلَّا أَنْ
يُعْطِيَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الثُّلُثَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِمْ مِائَتَيْ
دِينَارٍ، وَفَتَحَ الدُّكَّانَ بِالْمِائَتَيْنِ الْأُخْرَى، فَمَا حَالَ
الْحَوْلُ حَتَّى كَسَبَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَلِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ صَالِحَةٌ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَيُقَالُ: فِي الَّتِي
قَبْلَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَحْرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْفَارِسِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، كَانَ ثِقَةً ثَبْتًا فَاضِلًا، سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ
الدِّمَشْقِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَآخِرُ مَنْ
حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ مَهْدِيٍّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى بْنِ عَمْرِو
بْنِ جَابِرِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ أُسَيْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ صُبْحِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بَكْرِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ ضَبَّةَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْحُسَيْنِ بْنِ هَارُونَ.
كَانَ أَسْلَافُهُ مُلُوكَ عُمَانَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ
جَابِرٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ
هَارُونُ هَذَا أَوَّلَ مَنِ انْتَقَلَ مِنْ أَهْلِهِ مِنْ عُمَانَ فَنَزَلَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ، وَكَانَ فَاضِلًا مُتَضَلِّعًا
مِنْ كُلِّ فَنٍّ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعَ الْعُلَمَاءِ فِي سَائِرِ
الْفُنُونِ، وَنَفَقَاتُهُ دَارَّةً عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ
عَالِيَةٌ، وَمَهَابَةٌ وَافِرَةٌ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ
الدَّارَقُطْنِيُّ ثَنَاءً كَثِيرًا، وَقَالَ: كَانَ مُبَرِّزًا فِي النَّحْوِ
وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ صُولٍ الصُّولِيُّ، وَكَانَ عَالِمًا
بِفُنُونِ الْآدَابِ وَالْأَخْبَارِ. وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
الَّتِي بَعْدَهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقَاصِّ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
تِلْمِيذُ ابْنِ سُرَيْجٍ، لَهُ كِتَابُ " التَّلْخِيصِ "، وَكِتَابُ " الْمِفْتَاحِ " وَهُوَ مُخْتَصَرٌ، شَرَحَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخَتَنُ وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ أَيْضًا، وَكَانَ أَبُوهُ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ الْأَخْبَارَ وَالْآثَارَ، وَأَمَّا هُوَ فَتَوَلَّى قَضَاءَ طَرَسُوسَ وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ أَيْضًا، فَحَصَلَ لَهُ خُشُوعٌ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَاتَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. وَقِيلَ: سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ وَالْمُطِيعُ لِلَّهِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى
الْبَصْرَةِ فَاسْتَنْقَذَاهَا مِنْ يَدِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ الْبَرِيدِيِّ،
وَهَرَبَ هُوَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَوْلَى مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى
الْبَصْرَةِ وَبَعَثَ يَتَهَدَّدُ الْقَرَامِطَةَ وَيَتَوَعَّدُهُمْ بِأَخْذِ
بِلَادِهِمْ، وَزَادَ فِي أَقَطَاعِ الْخَلِيفَةِ ضِيَاعًا تَعْمَلُ فِي السَّنَةِ
مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِتَلَقِّي أَخِيهِ
عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِالْأَهْوَازِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْ أَخِيهِ،
وَقَامَ مَاثِلًا أَيْضًا، وَيَأْمُرُهُ بِالْجُلُوسِ فَلَا يَفْعَلُ. ثُمَّ عَادَ
إِلَى بَغْدَادَ وَرَجَعَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهَا أَيْضًا وَقَدْ تَمَهَّدَتْ
أُمُورٌ جَيِّدَةٌ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَحْوَذَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ طَبَرِسْتَانَ
وَجُرْجَانَ وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ وُشْمَكِيرَ أَخِي مَرْدَاوِيجَ مَلِكِ
الدَّيْلَمِ، فَذَهَبَ وُشْمَكِيرُ إِلَى خُرَاسَانَ يَسْتَنْجِدُ بِصَاحِبِهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي، أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ
سَمِعَ جَدَّهُ وَعَبَّاسًا
الدُّورِيَّ وَمُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيَّ. وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا
حُجَّةً صَادِقًا، صَنَّفَ كَثِيرًا، وَجَمَعَ عُلُومًا جَمَّةً، وَلَمْ يَسْمَعِ
النَّاسُ مِنْهَا إِلَّا الْيَسِيرَ، وَذَلِكَ لِشَرَاسَةِ أَخْلَاقِهِ، وَآخِرُ
مَنْ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ فَارِسٍ الْغُورِيُّ.
وَنَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَزْوِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
صَنَّفَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادِي فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ
أَرْبَعَمِائَةِ كِتَابٍ وَنَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ كِتَابًا، وَلَا يُوجَدُ فِي
كَلَامِهِ حَشْوٌ، بَلْ هُوَ نَقِيُّ الْكَلَامِ، جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَةِ
وَالدِّرَايَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى مُصَنَّفَاتِهِ، عَلِمَ فَضْلَهُ
وَاطِّلَاعَهُ، وَوَقَفَ عَلَى فَوَائِدَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ كُتُبِهِ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُحَرَّمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً.
الصُّولِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ صُولٍ أَبُو بَكْرٍ الصُّولِيُّ
كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ بِفُنُونِ الْأَدَبِ، حَسَنَ الْمَعْرِفَةِ بِأَخْبَارِ
الْمُلُوكِ وَأَيَّامِ الْخُلَفَاءِ وَمَآثِرِ الْأَشْرَافِ وَطَبَقَاتِ
الشُّعَرَاءِ. رَوَى عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ وَالْمُبَرِّدِ
وَثَعْلَبٍ وَأَبِي الْعَيْنَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ وَاسِعَ الرِّوَايَةِ،
جَيِّدَ الْحِفْظِ، حَاذِقًا بِتَصْنِيفِ الْكُتُبِ. وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ
هَائِلَةٌ، وَنَادَمَ جَمَاعَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ، وَحَظِيَ عِنْدَهُمْ. وَكَانَ
جَدُّهُ صُولٌ وَأَهْلُهُ مُلُوكًا بِجُرْجَانَ، ثُمَّ كَانَ أَوْلَادُهُ مِنْ
أَكَابِرِ
الْكُتَّابِ. وَكَانَ الصُّولِيُّ
هَذَا جَيِّدَ الِاعْتِقَادِ، حَسَنَ الطَّرِيقَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَقَدْ
رَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَحْبَبْتُ مِنْ أَجْلِهِ مَنْ كَانَ يُشْبِهُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْمَعْشُوقِ
مَعْشُوقُ حَتَّى حَكَيْتُ بِجِسْمِي مَا بِمُقْلَتِهِ
كَأَنَّ سُقْمِي مِنْ عَيْنَيْهِ مَسْرُوقُ
خَرَجَ الصُّولِيُّ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْبَصْرَةِ لِحَاجَةٍ لَحِقَتْهُ،
فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ ابْنَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الزَّاهِدِ
الْمَكِّيِّ
وَكَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ النَّاسِكَاتِ الْمُقِيمَاتِ بِمَكَّةَ، وَإِنَّمَا
كَانَتْ تَقْتَاتُ مِنْ كَسْبِ أَبِيهَا، مِمَّا كَانَ يَكْتَسِبُهُ مِنْ عَمِلِ
الْخُوصِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِثَلَاثِينَ دِرْهَمًا يُرْسِلُهَا إِلَيْهَا،
فَاتَّفَقَ أَنْ أَرْسَلَهَا مَرَّةً مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَزَادَ عَلَيْهَا
ذَلِكَ الرَّجُلُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا - يُرِيدُ بِذَلِكَ بِرَّهَا وَزِيَادَةً
فِي نَفَقَتِهَا - فَلَمَّا اخْتَبَرَتْهَا قَالَتْ: هَلْ وَضَعْتَ عَلَى هَذِهِ
شَيْئًا ؟ اصْدُقْنِي بِحَقِّ الَّذِي حَجَجْتَ لَهُ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَتِ:
ارْجِعْ بِهَا، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهَا، وَلَوْلَا أَنَّكَ قَصَدْتَ الْخَيْرَ
لَدَعَوْتُ عَلَيْكَ ; فَإِنَّكَ قَدْ أَجَعْتَنِي عَامِي هَذَا، وَلَمْ يَبْقَ
لِي رِزْقٌ إِلَّا مِنَ الْمَزَابِلِ إِلَى قَابِلٍ. فَقُلْتُ: أَلَا تَأْخُذِي
مِنْهَا الثَّلَاثِينَ دِرْهَمًا. فَقَالَتْ: إِنَّهَا قَدِ اخْتَلَطَتْ
بِمَالِكَ، وَلَا أَدْرِي مَا هُوَ. قَالَ الرَّجُلُ: فَرَجَعْتُ بِهَا إِلَى
أَبِيهَا، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: شَقَقْتَ يَا هَذَا عَلَيَّ،
وَضَيَّقْتَ عَلَيْهَا، وَلَكِنِ اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَانْهَزَمَ
مِنْهُ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى نَصِيبِينَ فَتَمَلَّكَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بْنُ بُوَيْهِ الْمَوْصِلَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَعَسَفَ
أَهْلَهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَثُرَ الدُّعَاءُ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَزَمَ
عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ كُلِّهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَجَاءَهُ خَبَرٌ مِنْ أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَى مَنْ
قِبَلَهُ مِنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى مُصَالَحَةِ نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ يُحْمَلَ عَمًّا تَحْتَ يَدِهِ مِنْ بِلَادِ الْجَزِيرَةِ
وَالشَّامِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْ يُخْطَبَ
لَهُ وَلِأَخَوَيْهِ عِمَادِ الدَّوْلَةِ وَرُكْنِ الدَّوْلَةِ عَلَى مَنَابِرَ
بِلَادِهِ كُلِّهَا، فَفَعَلَ وَعَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَبَعَثَ
إِلَى أَخِيهِ بِجَيْشٍ هَائِلٍ، وَأَخَذَ لَهُ عَهْدَ الْخَلِيفَةِ بِوِلَايَةِ
خُرَاسَانَ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ، فَلَقِيَهُ جَمْعٌ كَثِيفٌ مِنَ الرُّومِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَانْهَزَمَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَتِ الرُّومُ مَرْعَشَ وَأَوْقَعُوا
بِأَهْلِ طَرَسُوسَ بَأْسًا شَدِيدًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ انْتَهَتْ زِيَادَةُ دِجْلَةَ إِلَى
إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثٍ، فَغَرِقَتِ الضِّيَاعُ وَالدُّورُ الَّتِي
عَلَيْهَا، وَأَشْرَفَ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ عَلَى الْغَرَقِ، وَهَمَّ النَّاسُ
بِالْهَرَبِ مِنْهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
حَمْدَوَيْهِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ الْحَكَمِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَيِّعُ
وَهُوَ وَالِدُ الْحَاكِمِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ أَذَّنَ
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَغَزَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ غَزْوَةً،
وَأَنْفَقَ عَلَى الْعُلَمَاءِ مِائَةَ أَلْفٍ، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ،
كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، أَدْرَكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمَ بْنَ
الْحَجَّاجِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً.
قُدَامَةُ الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ
هُوَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ قُدَامَةَ، أَبُو الْفَرَجِ الْكَاتِبُ، لَهُ
مُصَنَّفٌ فِي الْخَرَاجِ وَصِنَاعَةِ الْكِتَابَةِ، وَبِهِ يَقْتَدِي عُلَمَاءُ
هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ سَأَلَ ثَعْلَبًا عَنْ أَشْيَاءَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَرَ، أَبُو عَلِيٍّ
الْمُذَكِّرُ الْوَاعِظُ بِنَيْسَابُورَ، كَانَ كَثِيرَ التَّدْلِيسِ عَنِ
الْمَشَايِخِ الَّذِينَ لَمْ يَلْقَهُمْ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُطَهِّرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو النَّجَاءِ
الْفَقِيهُ الْفَرَضِيُّ الضَّرِيرُ الْمَالِكِيُّ، لَهُ كِتَابٌ فِي الْفِقْهِ
عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْفَرَائِضِ قَلِيلَةُ
النَّظِيرِ، وَكَانَ أَدِيبًا فَهِمًا فَاضِلًا صَادِقًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الشِّيعَةِ وَأَهْلِ
السُّنَّةِ، وَنُهِبَتِ الْكَرْخُ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ تَقَلَّدَ الْقَاضِي
أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيُّ قَضَاءَ
الْقُضَاةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ كَانَ قَدِ
اسْتَوْجَبَ بَعْضَ الْعُقُوبَاتِ، فَهَرَبَ مِنَ السُّلْطَانِ إِلَى نَاحِيَةِ
الْبَطَائِحِ، فَكَانَ يَقْتَاتُ مِمَّا يَصِيدُهُ مِنَ السَّمَكِ وَالطُّيُورِ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ مِنَ الصَّيَّادِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ،
فَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْبَرِيدِيِّ
عَلَى جِبَايَةِ بَعْضِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ جَيْشًا مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي جَعْفَرِ الصَّيْمَرِيِّ،
فَهُزِمَ الْوَزِيرُ لَكِنَّهُ دَهَمَهُ أَمْرٌ، اشْتَغَلَ بِهِ عَنْهُ، وَذَلِكَ
وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ. وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
بُوَيْهِ
أَكْبَرُ أَوْلَادِ بُوَيْهِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْهُمْ، وَكَانَ
عَاقِلًا حَازِمًا، حَمِيدَ السِّيرَةِ، رَئِيسًا فِي نَفْسِهِ، كَانَ أَوَّلُ
ظُهُورِهِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ
قَوِيَتْ عَلَيْهِ الْأَسْقَامُ وَتَوَاتَرَتْ لَدَيْهِ الْآلَامُ، فَأَحَسَّ مِنْ
نَفْسِهِ بِالْهَلَاكِ، وَلَمْ يُعَادِلْ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ
وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالرِّجَالِ مِنَ الدَّيَالِمِ وَالْأَتْرَاكِ، وَلَمْ
يُحَصِّلُوا لَهُ الْفِكَاكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى
أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَدْعِي وَلَدَهُ عَضُدَ الدَّوْلَةِ،
لِيَجْعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ فَرِحَ
بِهِ فَرَحًا شَدِيدًا، وَخَرَجَ بِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ جَيْشِهِ لِتَلَقِّيهِ،
فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ دَارَ الْمَمْلَكَةِ أَجْلَسَهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَقَامَ
بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَحَدِ الْأُمَرَاءِ ; لِيَرْفَعَ مِنْ شَأْنِهِ عِنْدَ
أُمَرَائِهِ وَوُزَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ، ثُمَّ عَقَدَ لَهُ الْبَيْعَةَ عَلَى
مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الْبُلْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَتَدْبِيرِ الْمُلْكِ
وَالرِّجَالِ، وَفَهِمَ مِنْ بَعْضِ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ،
فَشَرَعَ فِي الْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، وَقَتَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَسَجَنَ
آخَرِينَ، حَتَّى تَمَهَّدَتِ الْأُمُورُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاةُ عِمَادِ الدَّوْلَةِ بِشِيرَازَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ
مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ فِي زَمَانِهِ، وَمِمَّنْ حَازَ قَصَبَ السَّبْقِ دُونَ
أَقْرَانِهِ، وَكَانَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمِيرَ الْأُمَرَاءِ، وَبِذَلِكَ كَانَ
يُكَاتِبُهُ الْخُلَفَاءُ، وَلَكِنْ أَخُوهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ كَانَ يَنُوبُ
عَنْهُ بِبَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ وَالسَّوَادِ.
وَلَمَّا مَاتَ عِمَادُ الدَّوْلَةِ اشْتَغَلَ الْوَزِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ
الصَّيْمَرِيُّ عَنْ مُحَارَبَةِ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى شِيرَازَ وَيَضْبِطَ أُمُورَهَا، فَقَوِيَ
أَمْرُ عِمْرَانَ بَعْدَ ضَعْفِهِ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ
فِي مَوْضِعِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ النَّحْوِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ يُونُسَ
أَبُو جَعْفَرٍ الْمُرَادِيُّ
الْمِصْرِيُّ النَّحْوِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالنَّحَّاسِ، اللُّغَوِيِّ الْمُفَسِّرِ الْأَدِيبِ، لَهُ
مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
وَلَقِيَ أَصْحَابَ الْمُبَرِّدِ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْهَا يَوْمَ السَّبْتِ، وَكَانَ
سَبَبُ وَفَاتِهِ أَنَّهُ جَلَسَ عِنْدَ الْمِقْيَاسِ يُقَطِّعُ شَيْئًا مِنَ
الْعَرُوضِ، فَظَنَّهُ بَعْضُ الْعَامَّةِ يَسْحَرُ النِّيلَ ; لِئَلَّا يُوفِيَ،
فَرَفَسَهُ بِرِجْلِهِ فَسَقَطَ، فَغَرِقَ وَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ ذَهَبَ. رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ قَدْ أَخَذَ النَّحْوَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشِ،
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الزَّجَّاجِ
وَنَفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ ; مِنْهَا
" تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ " وَ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ "
وَ " شَرْحُ أَبْيَاتِ سِيبَوَيْهِ "، وَلَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ، وَ
" شَرْحُ الْمُعَلَّقَاتِ "، وَ " الدَّوَاوِينُ الْعَشَرَةُ
"، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنِ النَّسَائِيِّ، وَكَانَ
بَخِيلًا جِدًّا، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ
وَقَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَيَوْمَيْنِ،
ثُمَّ خُلِعَ وَسُمِلَتْ عَيْنَاهُ
كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهُوَ مُعْتَقَلٌ
فِي دَارِهِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سِتٌّ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَشَهْرَانِ.
عَلِيُّ بْنُ حَمْشَاذَ بْنِ سَخْتَوَيْهِ بْنِ نَصْرٍ، أَبُو الْحَسَنِ
الْمُعَدَّلُ
مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِنَيْسَابُورَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ، وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ وَصَنَّفَ مُسْنَدًا فِي أَرْبَعِمِائَةِ جُزْءٍ، وَلَهُ
غَيْرُ ذَلِكَ مَعَ شِدَّةِ الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ
وَالصِّيَانَةِ وَالْخَشْيَةِ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً.
وَلَهُ تَفْسِيرٌ فِي مِائَتَيْ جُزْءٍ وَنَيِّفٍ، دَخَلَ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ
مَرَضٍ فَتُوُفِّيَ فِيهِ فَجْأَةً، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ
عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ
الْبَغْدَادِيُّ
ارْتَحَلَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى عُرِفَ بِالْمِصْرِيِّ، ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسُ وَعْظٍ يَحْضُرُ فِيهِ
الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَكَانَ
يَتَكَلَّمُ وَهُوَ مُتَبَرْقِعٌ ; لِئَلَّا يَرَى النِّسَاءُ حُسْنَهُ
وَجَمَالَهُ، وَقَدْ حَضَرَ وَعْظَهُ أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ مُسْتَخْفِيًا،
فَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ قَامَ قَائِمًا وَشَهَرَ نَفْسَهُ، وَقَالَ لَهُ:
الْقَصَصُ بَعْدَكَ حَرَامٌ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا عَارِفًا، جَمَعَ حَدِيثَ اللَّيْثِ
وَابْنِ لَهِيعَةَ، وَلَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فِي الزُّهْدِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا وَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْمُبَارَكَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا رُدَّ الْحَجَرُ
الْأَسْوَدُ الْمَكِّيُّ إِلَى مَكَانِهِ، وَكَانَتِ الْقَرَامِطَةُ قَدْ
أَخَذُوهُ فِي سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ
مَلِكُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنُ
الْجَنَّابِيُّ، وَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ، أَعْظَمَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ جِدًّا،
وَقَدْ بَذَلَ لَهُمُ الْأَمِيرُ بَجْكَمُ التُّرْكِيُّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
; لِيَرُدُّوهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَقَالُوا: نَحْنُ
أَخَذْنَاهُ بِأَمْرٍ، وَلَا نَرُدُّهُ إِلَّا بِأَمْرِ مَنْ أَخَذْنَاهُ
بِأَمْرِهِ.
فَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْعَامِ حَمَلُوهُ إِلَى الْكُوفَةِ وَعَلَّقُوهُ عَلَى
الْأُسْطُوَانَةِ السَّابِعَةِ مِنْ جَامِعِهَا ; لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ
إِخْوَةُ أَبِي طَاهِرٍ كِتَابًا فِيهِ: إِنَّا أَخَذْنَا هَذَا الْحَجَرَ
بِأَمْرٍ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ بِأَمْرِ مَنْ أَمَرَنَا بِأَخْذِهِ ; لِيَتِمَّ
حَجُّ النَّاسِ وَمَنَاسِكُهُمْ. ثُمَّ أَرْسَلُوهُ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ شَيْءٍ
عَلَى قَعُودٍ، فَوَصَلَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ عِنْدَهُمْ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْقَرَامِطَةَ حِينَ أَخَذُوهُ حَمَلُوهُ
عَلَى عِدَّةِ جِمَالٍ،
فَعَطِبَتْ تَحْتَهُ، وَاعْتَرَى
أَسْنِمَتَهَا الْعَقْرُ، وَلَمَّا رَدُّوهُ حَمَلَهُ قَعُودٌ وَاحِدٌ لَمْ
يُصِبْهُ بِأْسٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِجَيْشٍ كَثِيفٍ نَحْوٍ مِنْ
ثَلَاثِينَ أَلْفًا إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَوَغَلَ فِيهَا، وَفَتَحَ حُصُونًا،
وَقَتَلَ خَلْقًا، وَأَسَرَ أُمَمًا، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا ثُمَّ رَجَعَ
فَأَخَذَتِ الرُّومُ عَلَيْهِ الدَّرْبَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ، فَقَتَلُوا
عَامَّةَ مَنْ مَعَهُ، وَأَسَرُوا بَقِيَّتَهُمْ، وَاسْتَرَدُّوا مَا كَانَ
أَخَذَهُ لَهُمْ، وَنَجَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،
فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ الْوَزِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ الصَّيْمَرِيُّ، فَاسْتَوْزَرَ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ مَكَانَهُ أَبَا مُحَمَّدٍ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيَّ
فِي جُمَادَى الْأُولَى، فَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ
الصَّيَّادِ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
جَيْشًا بَعْدَ جَيْشٍ، يَهْزِمُهُمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، ثُمَّ عَدَلَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى مُصَالَحَتِهِ، وَاسْتِعْمَالِهِ لَهُ عَلَى بَعْضِ
تِلْكَ النَّوَاحِي.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ بَابْشَاذَ أَبُو سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ، قَدِمَ
بَغْدَادَ وَكَانَ مِنْ
أَفَاضِلِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِمْ
بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، مُفْرِطَ الذَّكَاءِ، قَوِيَّ الْفَهْمِ، كَتَبَ
الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً.
مَاتَ بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الشُّونِيزِيَّةِ،
وَلَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْعُمُرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدٌ الْقَاهِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
ابْنُ الْمُعْتَضِدِ بِاللَّهِ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ
وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ بِطَّاشًا سَرِيعَ الِانْتِقَامِ، فَخَافَ مِنْهُ
وَزِيرُهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُقْلَةَ، فَاسْتَتَرَ وَشَرَعَ فِي الْعَمَلِ
عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَتْرَاكِ، فَخَلَعُوهُ وَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ، وَأُودِعَ
دَارَ الْخِلَافَةِ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ أُخْرِجَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ إِلَى دَارِ ابْنِ طَاهِرٍ، وَقَدْ نَالَتْهُ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ
شَدِيدَةٌ، وَسَأَلَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا
الْعَامِ وَلَهُ ثِنْتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ
الْمُعْتَضِدِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ
الْأَصْبَهَانِيُّ، مُحَدِّثُ عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا بِبَعْضِ كُتُبِهِ، وَكَانَ مُجَابَ
الدَّعْوَةِ، وَمَكَثَ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ نَيِّفًا
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَانَ يَقُولُ: اسْمِي مُحَمَّدٌ، وَاسْمُ أَبِي عَبْدُ اللَّهِ، وَاسْمُ أُمِّي
آمِنَةُ. يَفْرَحُ بِهَذِهِ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ وَاسْمِ الْأَبِ
وَالْأُمِّ.
أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ مُحَمَّدُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ
التُّرْكِيُّ الْفَيْلَسُوفُ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْمُوسِيقَى،
بِحَيْثُ كَانَ يَتَوَسَّلُ بِصِنَاعَتِهِ إِلَى التَّأْثِيرِ فِي الْحَاضِرِينَ
مِنْ مُسْتَمِعِيهِ، إِنْ شَاءَ حَرَّكَ مَا يُبْكِي أَوْ مَا يُضْحِكُ أَوْ مَا
يُنَوِّمُ.
وَكَانَ حَاذِقًا فِي الْفَلْسَفَةِ، وَمِنْ كُتُبِهِ تَفَقَّهَ ابْنُ سِينَا
وَكَانَ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ، وَيُخَصِّصُ
بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ، وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي
ذَلِكَ يُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ،
فَعَلَيْهِ إِنْ كَانَ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ لَعْنَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
مَاتَ بِدِمَشْقَ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ "
وَلَمْ أَرَ الْحَافِظَ ابْنَ عَسَاكِرَ ذَكَرَهُ فِي تَارِيخِهِ ; لِنَتَنِهِ
وَقَبَاحَتِهِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سَنَةُ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ لِيَأْخُذَهَا فِي مَرَاكِبَ
كَثِيرَةٍ، وَجَاءَ لِنَصْرِهِ أَبُو يَعْقُوبَ الْهَجَرِيُّ، فَمَانَعَهُ عَنْهَا
الْوَزِيرُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ وَصَدَّهُ عَنْهَا، وَأَسَرَ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَسَبَى كَثِيرًا مِنْ مَرَاكِبِهِ، فَسَاقَهَا مَعَهُ
فِي دِجْلَةَ، وَدَخَلَ بِهَا إِلَى بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَفِيهَا رُفِعَ إِلَى الْوَزِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيِّ رَجُلٌ مِنْ
أَتْبَاعِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْعَزَاقِرِ الَّذِي
كَانَ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، كَمَا قُتِلَ الْحَلَّاجُ وَأَنَّ هَذَا
الرَّجُلَ يَدَّعِي مَا كَانَ يَدَّعِيهِ ابْنُ أَبِي الْعَزَاقِرِ، وَقَدِ
اتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَهَلَةِ بِبَغْدَادَ، وَصَدَّقُوهُ فِي دَعْوَاهُ
الرُّبُوبِيَّةَ، وَأَنَّ أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّدِّيقِينَ انْتَقَلَتْ
إِلَيْهِمْ، وَوُجِدَ فِي مَنْزِلِهِ كُتُبٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ هَالِكٌ ادَّعَى أَنَّهُ شِيعِيٌّ لِيَحْظَى عِنْدَ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ يُحِبُّ الرَّافِضَةَ -
قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَلَمَّا اشْتُهِرَ ذَلِكَ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْوَزِيرُ
مِنْهُ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ
الشِّيعَةُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، غَيْرَ أَنَّهُ
احْتَاطَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ، فَكَانَ يُسَمِّيهَا أَمْوَالَ الزَّنَادِقَةِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِسَبَبِ
الْمَذْهَبِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَلَّالِ
بْنِ دَلْهَمٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ، وُلِدَ سَنَةَ سِتِّينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَدَرَسَ بِهَا فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِئَاسَةُ أَصْحَابِهِ، وَانْتَشَرَ أَصْحَابُهُ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُتَعَبِّدًا، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، صَبُورًا
عَلَى الْفَقْرِ، عَزُوفًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ
رَأْسًا فِي الِاعْتِزَالِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ حَيُّوَيْهِ وَابْنُ شَاهِينَ.
وَأَصَابَهُ الْفَالِجُ فِي آخِرِ عُمُرهِ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بَعْضُ
أَصْحَابِهِ، وَاشْتَوَرُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا إِلَى سَيْفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ ; لِيُسَاعِدَهُ بِشَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ فِي
مَرَضِهِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ:
اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ
رِزْقِي إِلَّا مِنْ حَيْثُ
عَوَّدْتَنِي. فَمَاتَ عَقِبَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ مَا أَرْسَلَ
بِهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَتُصُدِّقَ بِهَا
بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو تَمَّامٍ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الزَّيْنَبِيُّ، وَكَانَ صَاحِبَهُ، وَدُفِنَ فِي دَرْبِ أَبِي زَيْدٍ عَلَى
نَهْرِ الْوَاسِطِيِّينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ زَيْدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ، سَمِعَ
الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَكَانَ ثِقَةً زَاهِدًا، لَا يَأْكُلُ
إِلَّا مِنْ كَسْبِ يَدِهِ، وَلَا يَقْطَعُ صَلَاةَ اللَّيْلِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَحِبْتُهُ سِنِينَ كَثِيرَةً، فَمَا رَأَيْتُهُ فَعَلَ
إِلَّا مَا يُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا قَالَ إِلَّا مَا يُسْأَلُ
عَنْهُ، وَكَانَ يَقُومُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ مَنْصُورِ بْنِ قَرَاتَكِينَ
صَاحِبِ الْجُيُوشِ الْخُرَاسَانِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأَمِيرِ نُوحٍ
السَّامَانِيِّ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِمَرَضٍ حَصَلَ لَهُ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ
أَدْمَنَ شُرْبَ الْخَمْرِ أَيَّامًا مُتَتَابِعَةً، فَهَلَكَ بِسَبَبِ ذَلِكَ،
فَأُقِيمَ بَعْدَهُ فِي الْجُيُوشِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ مُحْتَاجٍ.
الزَّجَّاجِيُّ مُصَنِّفُ " الْجُمَلِ "، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ النَّحْوِيُّ الْبَغْدَادِيُّ الْأَصْلِ، ثُمَّ
الدِّمَشْقِيُّ
مُصَنِّفُ " الْجُمَلِ " فِي النَّحْوِ، وَهُوَ كِتَابٌ نَافِعٌ،
كَثِيرُ الْفَائِدَةِ، صَنَّفَهُ بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَطُوفُ بَعْدَ كُلِّ بَابٍ
مِنْهُ، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَ بِهِ.
أَخَذَ النَّحْوَ أَوَّلًا عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْيَزِيدِيِّ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ، وَابْنِ
الْأَنْبَارِيِّ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ سَبْعٍ، وَقِيلَ: سَنَةَ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعِينَ. تُوَفِّيَ فِي دِمَشْقَ وَقِيلَ:
بِطَبَرِيَّةَ. وَقَدْ شُرِحَتِ " الْجُمَلُ " بِشُرُوحٍ كَثِيرَةٍ،
مِنْ أَحْسَنِهَا وَأَجْمَعِهَا مَا وَضَعَهُ ابْنُ عُصْفُورٍ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَتِ الرُّومُ سَرُوجَ وَقَتَلُوا أَهْلَهَا وَخَرَّبُوا مَسَاجِدَهَا.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا قَصَدَ صَاحِبُ عُمَانَ الْبَصْرَةَ فَمَنَعَهُ
مِنْهَا الْمُهَلَّبِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ: وَفِيهَا نَقِمَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ عَلَى وَزِيرِهِ، فَضَرَبَهُ مِائَةً
وَخَمْسِينَ مِقْرَعَةً وَلَمْ يَعْزِلْهُ، بَلْ رَسَمَ عَلَيْهِ.
وَفِيهَا اخْتَصَمَ الْمِصْرِيُّونَ وَالْعِرَاقِيُّونَ بِمَكَّةَ، فَخُطِبَ
لِصَاحِبِ مِصْرَ، ثُمَّ غَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، فَخَطَبُوا لِرُكْنِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْمَنْصُورِ الْفَاطِمِيِّ وَهُوَ أَبُو طَاهِرٍ
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَبِي الْقَاسِمِ مُحَمَّدِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيِّ صَاحِبِ الْمَغْرِبِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ
وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَسِتَّةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَكَانَ عَاقِلًا شُجَاعًا فَاتِكًا، قَهَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ
الَّذِي كَانَ لَا يُطَاقُ شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَصَبْرًا، وَكَانَ
فَصِيحًا بَلِيغًا، يَرْتَجِلُ
الْخُطْبَةَ عَلَى الْبَدِيهَةِ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ ضَعْفُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، كَمَا أَوْرَدَهُ
ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ "، فَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ،
وَقَدْ عُهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ،
وَهُوَ بَانِي الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَةِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ
وَاسْمُهُ مَعَدٌّ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَلِكَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً،
وَكَانَ شُجَاعًا عَاقِلًا أَيْضًا، حَازِمَ الرَّأْيِ، أَطَاعَهُ مِنَ
الْبَرْبَرِ وَأَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَبَعَثَ مَوْلَاهُ
جَوْهَرًا الْقَائِدَ فَبَنَى لَهُ الْقَاهِرَةَ الْمُتَاخِمَةَ لِمِصْرَ،
وَاتَّخَذَ لَهُ فِيهَا دَارَ الْمُلْكِ، وَهُمَا الْقَصْرَانِ اللَّذَانِ
هُنَالِكَ، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ دِرْهَمٍ، أَبُو سَعِيدِ
بْنُ الْأَعْرَابِيِّ الْبَصَرِيُّ
سَكَنَ مَكَّةَ وَصَارَ شَيْخَ الْحَرَمِ، وَصَحِبَ الْجُنَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ
وَالنُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَأَسْنَدَ الْحَدِيثَ وَصَنَّفَ كُتُبًا
لِلصُّوفِيَّةِ.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو عَلِيٍّ
الصَّفَّارُ النَّحْوِيُّ
أَحَدُ الْمُحَدِّثِينَ، لَقِيَ الْمُبَرِّدَ وَاشْتَهَرَ بِصُحْبَتِهِ، وَكَانَ
مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَسَنَ
بْنَ عَرَفَةَ وَعَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَغَيْرَهُمَا، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ،
مِنْهُمْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ: صَامَ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ رَمَضَانًا، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَائِمِ بْنِ الْمَهْدِيِّ، الْمُلَقَّبِ بِالْمَنْصُورِ
الْعُبَيْدِيِّ
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ، صَاحِبُ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَهُوَ
وَالِدُ الْمُعِزِّ بَانِي الْقَاهِرَةِ وَهُوَ بَانِي الْمَنْصُورِيَّةِ
بِالْمَغْرِبِ.
كَانَ شُجَاعًا فَصِيحًا بَلِيغًا، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَرْوَرُّوذِيُّ:
خَرَجْتُ مَعَهُ لَمَّا كَسَرَ أَبَا يَزِيدَ الْخَارِجِيَّ، فَبَيْنَمَا أَنَا
أَسِيرُ مَعَهُ إِذْ سَقَطَ رُمْحُهُ، فَنَزَلْتُ فَنَاوَلْتُهُ إِيَّاهُ،
وَذَهَبْتُ أُفَاكِهُهُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا بَالْإِيَابِ
الْمُسَافِرُ
فَقَالَ: هَلَّا قُلْتَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا
يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا
هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [ الْأَعْرَافِ: 119 ] قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ:
أَنْتَ ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتَ
كَمَا عَلِمْتَ، وَأَنَا قُلْتُ بِمَا بَلَغَ إِلَيْهِ عِلْمِي.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا كَمَا جَرَى لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ
حِينَ أَمَرَ الْحَجَّاجَ
أَنْ يَبْنِيَ بَابًا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ اسْمَهُ، فَبَنَى لَهُ بَابًا، وَبَنَى لِنَفْسِهِ بَابًا آخَرَ، فَوَقَعَتْ صَاعِقَةٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَحْرَقَتْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَجَّاجُ مِنَ الْعِرَاقِ يُسَلِّيهِ عَمَّا أَهَمَّهُ مِنْ ذَلِكَ ; يَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا أَنَا وَأَنْتَ إِلَّا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ [ الْمَائِدَةِ: 27 ] قَالَ: فَسُرِّيَ عَنِ الْخَلِيفَةِ. كَانَتْ وَفَاةُ الْمَنْصُورِ هَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمَّا أَصَابَهُ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَمَاتَ بِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ صَاحِبُ حَلَبَ إِلَى بِلَادِ
الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ آخَرِينَ، وَغَنِمَ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَرَجَعَ سَالِمًا غَانِمًا.
وَفِيهَا اخْتَلَفَ الْحَجِيجُ بِمَكَّةَ، وَوَقَعَتْ حَرْبٌ بَيْنَ أَصْحَابِ
ابْنِ طُغْجٍ وَأَصْحَابِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَغَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ،
وَخَطَبُوا لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَجِّ اخْتَلَفُوا،
فَغَلَبَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ أَيْضًا، وَجَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ وَخُطُوبٌ
كَبِيرَةٌ بَيْنَ الْخُرَاسَانِيَّةِ والسَّامَانِيَّةِ، تَقَصَّى ذِكْرَهَا ابْنُ
الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ ". وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ، أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ
جَدُّ الْقَاضِي أَبِي الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ شَيْخُ الْخَطِيبِ، وُلِدَ
بِأَنْطَاكِيَّةَ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فَتَفَقَّهَ بِهَا عَلَى
مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَانَ
يَعْرِفُ الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَعَرِفُ النُّجُومَ،
وَيَقُولُ الشِّعْرَ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْأَهْوَازِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ
سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ فَهِمًا ذَكِيًّا،
حَفِظَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ قَصِيدَةً لِدِعْبِلٍ الشَّاعِرِ فِي
لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ سِتُّمِائَةِ بَيْتٍ، وَعَرَضَهَا عَلَى أَبِيهِ
صَبِيحَتَهَا، فَقَامَ إِلَيْهِ وَضَمَّهُ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ:
يَا بُنَيَّ، لَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا لِئَلَّا تُصِيبَكَ الْعَيْنُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ نَدِيمًا لِلْوَزِيرِ الْمُهَلَّبِيِّ،
وَوَفَدَ عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَأَكْرَمَهُ وَأَحْسَنَ
إِلَيْهِ، وَأَوْرَدَ لَهُ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ
قَوْلُهُ فِي الْخَمْرِ:
وَرَاحٍ مِنَ الشَّمْسِ مَخْلُوقَةٌ بَدَتْ لَكَ فِي قَدَحٍ مِنْ نَهَارِ هَوَاءٌ
وَلَكِنَّهُ جَامِدٌ
وَمَاءٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ جَارِ كَأَنَّ الْمُدِيرَ لَهُ بِالْيَمِينِ
إِذَا مَالَ لِلسَّقْيِ أَوْ بِالْيَسَارِ تَدَرَّعَ ثَوْبًا مِنَ الْيَاسَمِينِ
لَهُ فَرْدُ كُمٍّ مِنَ الْجُلَّنَارِ
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ،
أَبُو الْفَرَجِ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، يُعْرَفُ بِابْنِ
سُكَّرَةَ، سَكَنَ مِصْرَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَسَمِعَ مِنْهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ
مَسْرُورٍ، وَذَكَرَ أَنَّ فِيهِ لِينًا.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ
بْنِ الْمَأْمُونِ بْنِ الرَّشِيدِ هَارُونَ، أَبُو بَكْرٍ
وَلِيَ إِمْرَةَ مَكَّةَ فِي سِنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَقِدِمَ
مِصْرَ، فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيِّ
بِمُوَطَّأِ مَالِكٍ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا. تُوُفِّيَ بِمِصْرَ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَقْعَةٌ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَبَيْنَ
الدُّمُسْتُقِ، فَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ أَصْحَابِ الدُّمُسْتُقِ، وَأَسَرَ جَمَاعَةً
مِنْ رُؤَسَاءِ بِطَارِقَتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ
قُتِلَ قُسْطَنْطِينُ بْنُ الدُّمُسْتُقِ، وَسَبَى خَلْقًا كَثِيرًا وَأَسَرَ
آخَرِينَ، وَذَلِكَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ جَمَعَ
الدُّمُسْتُقُ خَلْقًا كَثِيرًا، فَالْتَقَوْا مَعَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ فِي
شَعْبَانَ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ عَظِيمَةٌ وَقِتَالٌ شَدِيدٌ، فَكَانَتِ
الدَّائِرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَخَذَلَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَأُسِرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّءُوسِ، وَكَانَ مِنْهُمْ صِهْرُ
الدُّمُسْتُقِ وَابْنُ بِنْتِهِ أَيْضًا.
وَفِيهَا حَصَلَ لِلنَّاسِ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ وَحُمَّيَاتٌ وَأَوْجَاعٌ فِي
الْحَلْقِ.
وَفِيهَا مَاتَ الْأَمِيرُ الْحَمِيدُ نُوحُ بْنُ نَصْرٍ السَّامَانِيُّ، صَاحِبُ
خُرَاسَانَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
عَبْدُ الْمَلِكِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ، أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ الْمِصْرِيُّ، صَحِبَ أَبَا
عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ
يُعَظِّمُ أَمْرَهُ، وَيَقُولُ: أَبُو عَلِيٍّ الْكَاتِبُ
مِنَ السَّالِكِينَ.
وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
قَوْلُهُ: رَوَائِحُ نَسِيمِ الْمَحَبَّةِ تَفُوحُ مِنَ الْمُحِبِّينَ وَإِنْ
كَتَمُوهَا، وَتَظْهَرُ عَلَيْهِمْ دَلَائِلُهَا وَإِنْ أَخْفَوْهَا، وَتَبْدُو
عَلَيْهِمْ وَإِنْ سَتَرُوهَا. وَأَنْشَدَ:
إِذَا مَا أَسَرَّتْ أَنْفُسُ النَّاسِ ذِكْرَهُ تَبَيَّنْتَهُ فِيهِمْ وَإِنْ
لَمْ يَتَكَلَّمُوا تَطِيبُ بِهِ أَنْفَاسُهُمْ فَيُذِيعُهَا
وَهَلْ سِرُّ مِسْكٍ أُودِعَ الرِّيحَ يُكْتَمُ
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ هَمَّامٍ، أَبُو
الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ الْكُوفِيُّ
قَدِمَ بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ جَمَاعَةٍ، وَرَوَى عَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَكَانَ ثِقَةً عَدْلًا، كَثِيرَ التِّلَاوَةِ فَقِيهًا، وَمَكَثَ يَشْهَدُ عَلَى
الْحُكَّامِ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، مَقْبُولًا عِنْدَهُمْ، وَأَذَّنَ فِي
مَسْجِدِ حَمْزَةَ الزَّيَّاتِ نَيِّفًا وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَذَلِكَ أَبَوْهُ
مِنْ قَبْلِهِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْكَرْخِيُّ الْأَدِيبُ
كَانَ عَالِمًا زَاهِدًا
وَرِعًا، يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّ
يَوْمٍ، وَيُدِيمُ الصَّوْمَ، سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عَبْدَانَ وَأَقْرَانِهِ.
أَبُو الْخَيْرِ التِّينَاتِيُّ
الْعَابِدُ الزَّاهِدُ، أَصِلُهُ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِقَرْيَةٍ،
يُقَالُ لَهَا: تِينَاتُ. مِنْ عَمَلِ أَنْطَاكِيَةَ وَيُعَرَفُ بِالْأَقْطَعِ ;
لِأَنَّهُ كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ، كَانَ قَدْ عَاهَدَ اللَّهَ عَهْدًا، ثُمَّ
نَكَثَهُ، فَاتَّفَقَ أَنْ مُسِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ اللُّصُوصِ فِي الصَّحْرَاءِ
وَهُوَ هُنَاكَ، فَأُخِذَ مَعَهُمْ فَقُطِعَتْ يَدُهُ مَعَهُمْ، وَكَانَتْ لَهُ
أَحْوَالٌ وَكَرَامَاتٌ، وَكَانَ يَنْسِجُ الْخُوصَ بِيَدِهِ الْوَاحِدَةِ،
وَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَشَاهَدَ مِنْهُ ذَلِكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ
الْعَهْدَ أَنْ لَا يُخْبِرَ بِهِ أَحَدًا مَا دَامَ حَيًّا، فَوَفَّى لَهُ
بِذَلِكَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِيهَا شَمِلَ النَّاسَ، بِبَغْدَادَ وَوَاسِطٍ
وَأَصْبَهَانَ وَالْأَهْوَازِ، دَاءٌ مُرَكَّبٌ مِنْ دَمٍ وَصَفْرَاءَ وَوَبَاءٍ،
مَاتَ بِسَبَبِ ذَلِكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ نَفْسٍ، وَجَاءَ فِيهَا جَرَادٌ عَظِيمٌ أَكَلَ
الْخُضْرَاوَاتِ وَالْأَشْجَارَ وَالثِّمَارَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ عَقَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ لِابْنِهِ أَبِي مَنْصُورٍ
بَخْتِيَارَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ بِإِمْرَةِ الْأُمَرَاءِ.
وَفِيهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِأَذْرَبِيجَانَ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ،
وَكَانَ يُحَرِّمُ اللَّحْمَ وَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، فَأَضَافَهُ
مَرَّةً رَجُلٌ، فَجَاءَهُ بِطَعَامٍ كَشْكِيَّةٍ بِشَحْمٍ فَأَكَلَهُ، فَقَالَ
لَهُ الرَّجُلُ بِحَضْرَةِ مَنْ مَعَهُ: إِنَّكَ تَدَّعِي أَنَّكَ تَعْلَمُ
الْغَيْبَ، وَهَذَا طَعَامٌ فِيهِ شَحْمٌ، وَأَنْتَ تُحَرِّمُهُ فَلِمَ لَا
عَلِمْتَهُ ؟! قَالَ: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ.
وَفِيهَا جَرَتْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَبَيْنَ
صَاحِبِ الْأَنْدَلُسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ، اسْتَقْصَاهَا
ابْنُ الْأَثِيرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، أَبُو عَمْرٍو
الدَّقَّاقُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، رَوَى عَنْ حَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ
وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا،
كَتَبَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكَثِيرَةَ بِخَطِّهِ، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ التِّبْنِ، وَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ خَمْسُونَ أَلْفًا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو جَعْفَرٍ الْقَاضِي
السَّمَنَانِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَكَنَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا سَخِيًّا حَسَنَ الْكَلَامِ،
عِرَاقِيَّ الْمَذْهَبِ، وَكَانَتْ دَارُهُ مَجْمَعًا لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ وَلِيَ
قَضَاءَالْمَوْصِلِ وَتُوُفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بُطَّةَ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ
سَكَنَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ عَادَ إِلَى أَصْبَهَانَ وَلَيْسَ هَذَا بِأَبِي عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ
الْعُكْبَرِيِّ، وَهَذَا بِضَمِّ
الْبَاءِ مِنْ بَطَّةَ، وَالْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ بِفَتْحِهَا. وَقَدْ كَانَ
جَدُّ هَذَا، وَهُوَ بُطَّةُ بْنُ إِسْحَاقَ أَبُو سَعِيدٍ، مِنَ الْمُحَدِّثِينَ
أَيْضًا. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ".
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ الْحَجَّاجِ أَبُو النَّضْرِ
الْفَقِيهُ الطُّوسِيُّ
كَانَ فَقِيهًا عَالِمًا ثِقَةً عَابِدًا، يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ
اللَّيْلَ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَاضِلِ مِنْ قُوتِهِ، وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْأَقَالِيمِ
النَّائِيَةِ وَالْبُلْدَانِ الْمُتَبَايِنَةِ، وَكَانَ قَدْ جَزَّأَ اللَّيْلَ
ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَثُلُثٌ لِلنَّوْمِ، وَثُلُثٌ لِلتَّصْنِيفِ، وَثُلُثٌ
لِلْقِرَاءَةِ.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: وَصَلْتَ
إِلَى مَا طَلَبْتَهُ ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ، نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَرَضْتُ مُصَنَّفَاتِي فِي الْحَدِيثِ
عَلَيْهِ، فَقَبِلَهَا.
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَدَّادِ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، رَوَى عَنِ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ: رَضِيتُ
بِهِ حُجَّةً بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ كَانَ ابْنُ الْحَدَّادِ فَقِيهًا فُرُوعِيًّا، وَمُحَدِّثًا وَنَحْوِيًّا،
وَفَصِيحًا فِي الْعِبَارَةِ،
دَقِيقَ النَّظَرِ فِي الْفُرُوعِ،
لَهُ كِتَابٌ فِي ذَلِكَ غَرِيبُ الشَّكْلِ، وَقَدْ وَلِيَ الْقَضَاءَ بِمِصْرَ
نِيَابَةً عَنْ أَبِي عُبَيْدِ بْنِ حَرْبُوَيْهِ، وَذَكَرْنَاهُ فِي "
طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
أَبُو يَعْقُوبَ الْأَذْرَعِيُّ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ
يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّهْدِيُّ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: مِنْ أَهْلِ أَذْرِعَاتٍ ; مَدِينَةٍ بِالْبَلْقَاءِ،
أَحَدُ الثِّقَاتِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، رَحَلَ وَحَدَّثَ عَنْ جَمَاعَةٍ،
وَعَنْهُ آخَرُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ مِنْ أَجِلَّةِ أَهْلِ دِمَشْقَ
وَعُبَّادِهَا وَعُلَمَائِهَا.
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْيَاءَ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِهِ وَخَرْقِ
الْعَادَةِ لَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ
يَقْبِضَ بَصَرِي فَعَمِيتُ، فَلَمَّا اسْتَضْرَرْتُ بِالطَّهَارَةِ سَأَلْتُ
اللَّهَ عَوْدَهُ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ.
تُوُفِّيَ بِدِمَشْقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى
التِّسْعِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَصَى الرُّوزْبَهَانُ عَلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَانْحَازَ إِلَى
الْأَهْوَازِ، وَلَحِقَ بِهِ عَامَّةُ مَنْ كَانَ مَعَ الْمُهَلَّبِيِّ الَّذِي
كَانَ يُحَارِبُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمْ يُصَدِّقْ ;
لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَرَفَعَ مِنْ قَدْرِهِ بَعْدَ الضَّعَةِ
وَالْخُمُولِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَيْهِ لِقِتَالِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْخَلِيفَةُ
الْمُطِيعُ لِلَّهِ خَوْفًا مِنْ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَإِنَّهُ
بَلَغَهُ أَنَّهُ قَدْ جَهَّزَ جَيْشًا مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْمُرَجَّى جَابِرٍ
إِلَى بَغْدَادَ لِيَأْخُذَهَا حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ قَدْ
خَرَجَ مِنْهَا، فَأَرْسَلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَاجِبَهُ سُبُكْتِكِينَ إِلَى
بَغْدَادَ لِيَحْفَظَهَا، وَقَصَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الرُّوزْبَهَانِ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، فَهَزَمَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، وَفَرَّقَ
أَصْحَابَهُ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا إِلَى بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
فَسَجَنَهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ لَيْلًا وَغَرَّقَهُ ; لِأَنَّ الدَّيْلَمَ
أَرَادُوا إِخْرَاجَهُ مِنَ السَّجْنِ قَهْرًا، وَانْطَوَى ذِكْرُ رُوزْبَهَانَ
وَإِخْوَتِهِ، وَكَانَ قَدِ اشْتَعَلَ اشْتِعَالَ النَّارِ، وَحَظِيَتِ
الْأَتْرَاكُ عِنْدَ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَانْحَطَّتِ الدَّيْلَمُ عِنْدَهُ ;
لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ خِيَانَتُهُمْ فِي أَمْرِ الرُّوزْبَهَانِ وَإِخْوَتِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ، فَقَتَلَ وَسَبَى،
وَرَجَعَ إِلَى أَذَنَةَ ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ فَحَمِيَتِ الرُّومُ،
فَجَمَعُوا وَأَقْبَلُوا إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَقَتَلُوا وَسَبَوْا وَحَرَقُوا
وَرَجَعُوا، وَرَكِبُوا فِي الْبَحْرِ إِلَى طَرَسُوسَ فَقَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا
أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةٍ،
وَسَبَوْا وَحَرَقُوا قُرًى كَثِيرَةً.
وَفِيهَا زُلْزِلَتْ هَمَذَانُ زِلْزَالًا شَدِيدًا، انْهَدَمَتِ الْبُيُوتُ،
وَانْشَقَّ قَصْرُ شِيرِينَ بِصَاعِقَةٍ، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ
لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ أَصْبَهَانَ وَأَهْلِ قُمَّ بِسَبَبِ
سَبِّ الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ قُمَّ فَثَارَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ أَصْبَهَانَ
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَنَهَبُوا أَمْوَالَ التُّجَّارِ،
فَغَضِبَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ لِأَهْلِ قُمَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ شِيعِيًّا،
فَصَادَرَ أَهْلَ أَصْبَهَانَ بِأَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
غُلَامُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ أَبُو
عُمَرَ
الزَّاهِدُ غُلَامُ ثَعْلَبٍ رَوَى عَنِ الْكُدَيْمِيِّ وَمُوسَى بْنِ سَهْلٍ
الْوَشَّاءِ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ
عَنْهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ.
وَكَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ، حَافِظًا مُطَبِّقًا، يُمْلِي مِنْ
حِفْظِهِ شَيْئًا كَثِيرًا، ضَابِطًا لِمَا يَحْفَظُهُ.
وَلِكَثْرَةِ إِغْرَابِهِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ وَرَمَاهُ بِالْكَذِبِ، وَقَدِ
اتَّفَقَ لَهُ مَعَ الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ - وَكَانَ يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ -
أَنَّهُ أَمْلَى مِنْ حِفْظِهِ ثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً بِشَوَاهِدِهَا
وَأَدِلَّتِهَا
مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَاسْتُشْهِدَ
عَلَى بَعْضِهَا بِبَيْتَيْنِ غَرِيبَيْنِ جِدَّا، فَعَرَضَهَا الْقَاضِي أَبُو
عُمَرَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ وَابْنِ مِقْسَمٍ، فَلَمْ
يَعْرِفُوا مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ هَذَا مَا وَضَعَهُ
أَبُو عُمَرَ مِنْ عِنْدِهِ. فَلَمَّا جَاءَ أَبُو عُمَرَ ذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي
مَا قَالَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْهُ، فَطَلَبَ أَبُو عُمَرَ مِنَ الْقَاضِي أَنْ
يُحْضِرَ لَهُ مِنْ كُتُبِهِ دَوَاوِينَ الْعَرَبِ. فَلَمْ يَزَلْ يَأْتِيهِ
بِشَاهِدٍ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ شَاهِدٍ، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الثَّلَاثِينَ
مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَإِنَّ ثَعْلَبًا
أَنْشَدَنَاهُمَا وَأَنْتَ حَاضِرٌ، فَكَتَبْتَهُمَا فِي دَفْتَرِكَ. فَطَلَبَ
الْقَاضِي دَفْتَرَهُ، فَإِذَا هُمَا فِيهِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ
دُرَيْدٍ كَفَّ لِسَانَهُ عَنْ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى
مَاتَ.
وَتُوُفِّيَ أَبُو عُمَرَ هَذَا يَوْمَ الْأَحَدِ، وَدُفِنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ فِي الصُّفَّةِ الْمُقَابِلَةِ
لِقَبْرِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ بِبَغْدَادَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رُسْتُمَ أَبُو بَكْرٍ
الْمَادَرَائِيُّ الْكَاتِبُ
كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْعِرَاقِ،
ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ هُوَ وَأَخُوهُ أَحْمَدُ مَعَ أَبِيهِمَا، وَكَانَ عَلَى
الْخَرَاجِ لِخُمَارَوَيْهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ طُولُونَ ثُمَّ صَارَ هَذَا
الرَّجُلُ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ وَأَكَابِرِهِمْ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَطَبَقَتِهِ.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: كَانَ بِبَابَيْ شَيْخٌ كَبِيرٌ مِنَ الْكُتَّابِ قَدْ بَطَلَ عَنْ
وَظِيفَتِهِ، فَرَأَيْتُ وَالِدِي فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا بُنَيَّ،
أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ ؟ أَنْتَ مَشْغُولٌ بِلَذَّاتِكَ، وَالنَّاسُ بِبَابِكَ
يَهْلَكُونَ مِنَ الْعُرْيِ وَالْجُوعِ، هَذَا فُلَانٌ قَدْ تَقَطَّعَ
سَرَاوِيلُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْدَالِهِ، فَلَا تُهْمِلْ أَمْرَهُ.
فَاسْتَيْقَظْتُ مَذْعُورًا، وَأَنَا نَاوٍ لَهُ الْإِحْسَانَ، فَنِمْتُ ثُمَّ
اسْتَيْقَظْتُ وَقَدْ أُنْسِيتُ الْمَنَامَ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ إِلَى دَارِ
الْمَلِكِ، إِذَا بِذَلِكَ الشَّيْخِ عَلَى دَابَّةٍ ضَعِيفَةٍ، فَلَمَّا رَآنِي
أَرَادَ أَنْ يَتَرَجَّلَ فَبَدَا لِي فَخِذُهُ، وَقَدْ لَبِسَ الْخُفَّ بِلَا
سَرَاوِيلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ ذَكَرْتُ الْمَنَامَ. فَاسْتَدْعَى بِهِ عِنْدَ
ذَلِكَ، وَأَطْلَقَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ وَثِيَابًا، وَرَتَّبَ لَهُ عَلَى
وَظِيفَتِهِ مِائَتَيْ دِينَارٍ كُلَّ شَهْرٍ، وَوَعَدَهُ بِخَيْرٍ فِي الْآجِلِ
أَيْضًا.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ طَبَاطَبَا بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ
الشَّرِيفُ الْحَسَنِيُّ الرَّسِّيُّ - قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَشْرَافِ - أَبُو
الْقَاسِمِ الْمِصْرِيُّ الشَّاعِرُ، كَانَ نَقِيبَ الطَّالِبِيِّينَ بِمِصْرَ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
قَالَتْ لِطَيْفِ خَيَالٍ زَارَنِي وَمَضَى بِاللَّهِ صِفْهُ وَلَا تَنْقُصْ وَلَا
تَزِدِ فَقَالَ أَبْصَرْتُهُ لَوْ مَاتَ مِنْ ظَمَأٍ
وَقُلْتُ قِفْ لَا تَرِدْ لِلْمَاءِ لَمْ يَرِدِ
قَالَتْ صَدَقْتَ وَفَاءُ الْحُبِّ
عَادَتُهُ
يَا بَرْدَ ذَاكَ الَّذِي قَالَتْ عَلَى كَبِدِي
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ فِي
الْمَذْهَبِ، بِسَبَبِ السَّبِّ، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا نَقَصَ الْبَحْرُ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا، وَيُقَالُ: بَاعًا. فَبَدَتْ
فِيهِ جِبَالٌ وَجَزَائِرُ لَمْ تَكُنْ تُرَى قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَانَتْ بِالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الرَّيِّ وَالْجَبَلِ وَقُمَّ
وَنَحْوِهَا زَلَازِلُ كَثِيرَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ، نَحْوَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا،
تَسْكُنُ ثُمَّ تَعُودُ، فَتَهَدَّمَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَبْنِيَةٌ كَثِيرَةٌ،
وَغَارَتْ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ، وَمَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا تَجَهَّزَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ لِقِتَالِ نَاصِرِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ الَّذِي بِالْمَوْصِلِ، فَرَاسَلَهُ نَاصِرُ
الدَّوْلَةِ، وَالْتَزَمَ لَهُ بِأَمْوَالٍ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ،
ثُمَّ إِنَّهُ مَنَعَ حَمْلَ مَا اشْتَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ، فَقَصَدَهُ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا فِي تِشْرِينَ مِنْهَا كَثُرَتْ فِي النَّاسِ أَوْجَاعٌ فِي الْحَلْقِ،
وَالْمَاشَرَا، وَكَثُرَ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، حَتَّى إِنَّ لِصًّا نَقَبَ دَارًا
لِيَدْخُلَهَا، فَمَاتَ وَهُوَ فِي النَّقْبِ، وَلَبِسَ
الْقَاضِي خِلْعَةَ الْقَضَاءِ ;
لِيَخْرُجَ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ، فَلَبِسَ إِحْدَى خُفَّيْهِ، فَمَاتَ قَبْلَ
أَنْ يَلْبَسَ الْأُخْرَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ أَبُو هُرَيْرَةَ الْعَدَوِيُّ
الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْمَشَايِخِ، كَتَبَ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْكَجِّيِّ
وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخِرِ مِنْهَا.
الْحَسَنُ بْنُ خَلَفِ بْنِ شَاذَانَ، أَبُو عَلِيٍّ الْوَاسِطِيُّ
رَوَى عَنْ إِسْحَاقَ الْأَزْرَقِ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى
عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ". تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. هَكَذَا رَأَيْتُ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ
" الْمُنْتَظَمِ " لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ
مَعْقِلِ بْنِ
سِنَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيِّ، مَوْلَاهُمْ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَرَأَى الذُّهْلِيَّ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَرَحَلَ بِهِ أَبُوهُ إِلَى أَصْبَهَانَ وَمَكَّةَ وَمِصْرَ وَالشَّامَ وَالْجَزِيرَةِ وَبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَسَمِعَ الْكَثِيرَ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خُرَاسَانَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقَدْ صَارَ مُحَدِّثًا كَبِيرًا، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الصَّمَمُ وَاسْتَحْكَمَ حَتَّى كَانَ لَا يَسْمَعُ نَهِيقَ الْحِمَارِ، وَكَانَ مُؤَذِّنًا فِي مَسْجِدِهِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَحَدَّثَ سِتًّا وَسَبْعِينَ سَنَةً، فَأَلْحَقَ الْأَحْفَادَ بِالْأَجْدَادِ، وَكَانَ ثِقَةً صَادِقًا ضَابِطًا لِمَا سَمِعَهُ وَيَسْمَعُهُ، ثُمَّ كُفَّ بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، وَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ بِأَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، وَسَبْعِ حِكَايَاتٍ، وَمَاتَ وَقَدْ بَقِيَ لَهُ سَنَةٌ مِنَ الْمِائَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِبَغْدَادَ فِي شَهْرِ نِيسَانَ وَفِي غَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ، فَمَاتَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَخَرِبَتْ
دَوْرٌ كَثِيرَةٌ، وَظَهَرَ فِي آخِرِ نِيسَانَ وَشَهْرِ أَيَّارَ جَرَادٌ كَثِيرٌ
أَتْلَفَ الْغَلَّاتِ الصَّيْفِيَّةَ وَالثِّمَارَ. وَدَخَلَتِ الرُّومُ آمِدَ
وَمَيَّافَارِقِينَ، فَقَتَلُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةِ إِنْسَانٍ، وَأَخَذُوا
مَدِينَةَ سُمَيْسَاطَ وَأَخْرَبُوهَا. فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَكِبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ
فَأَخَذَهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَهَرَبَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ إِلَى
نَصِيبِينَ ثُمَّ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ ثُمَّ لَحِقَهُ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ،
فَصَارَ إِلَى أَخِيهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، ثُمَّ رَاسَلَ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ فِي الْمُصَالَحَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى حَمْلِ كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَيْ
أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةِ أَلْفٍ، وَرَجَعَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ
بَعْدَ انْعِقَادِ الصُّلْحِ.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مَوْلَاهُ أَبَا الْحَسَنِ جَوْهَرًا
الْقَائِدَ فِي جُيُوشٍ، وَمَعَهُ زِيرِي بْنُ مَنَادٍ الصَّنْهَاجِيُّ،
فَفَتَحُوا بِلَادًا كَثِيرَةً مِنْ أَقْصَى الْمَغْرِبِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى
الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، فَأَمَرَ جَوْهَرُ بِأَنْ يُصْطَادَ لَهُ مِنْهُ سَمَكٌ،
فَأَرْسَلَ بِهِ فِي قِلَالِ الْمَاءِ إِلَى
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَحَظِيَ
جَوْهَرُ عِنْدَهُ، وَعَظُمَ شَأْنُهُ حَتَّى صَارَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَزِيرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ صَالِحِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْدَابَاذِيُّ
رَحَلَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَطَوَّفَ الْأَقَالِيمَ، سَمِعَ الْحَسَنَ بْنَ
سُفْيَانَ وَابْنَ خُزَيْمَةَ وَأَبَا يَعْلَى وَخَلْقًا، وَكَانَ حَافِظًا
مُتْقِنًا صَدُوقًا، صَنَّفَ الشُّرُوحَ وَالْأَبْوَابَ.
أَبُو سَعِيدِ بْنُ يُونُسَ، صَاحِبُ " تَارِيخِ مِصْرَ ": هُوَ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ
الْمِصْرِيُّ الْمُؤَرِّخُ، كَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا خَبِيرًا بِأَيَّامِ
النَّاسِ وَتَوَارِيخِهِمْ، لَهُ تَارِيخٌ مُفِيدٌ جِدًّا لِأَهْلِ مِصْرَ وَمَنْ
وَرَدَ إِلَيْهَا.
وَلَهُ وَلَدٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ. كَانَ مُنَجِّمًا، لَهُ
زِيجٌ مُفِيدٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ أَصْحَابُ هَذَا الْفَنِّ، كَمَا يَرْجِعُ
الْمُحَدِّثُونَ إِلَى أَقْوَالِ أَبِيهِ وَمَا يُؤَرِّخُهُ وَيَنْقُلُهُ
وَيَحْكِيهِ. وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوُفِّيَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى
الْآخِرَةِ بِالْقَاهِرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ
دَرَسْتَوَيْهِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ،
أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ
النَّحْوِيُّ
سَكَنَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ عَبَّاسًا الدُّورِيَّ وَابْنَ قُتَيْبَةَ
وَالْمُبَرِّدَ، وَسَمِعَ مِنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَكَرَ لَهُ الْقَاضِي
ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً مُفِيدَةً، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِاللُّغَةِ
وَالنَّحْوِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ
الْأُمَوِيُّ
قَاضِي بَغْدَادَ كَانَ حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، طَلَّابَةً لِلْحَدِيثِ، وَمَعَ
هَذَا نُسِبَ إِلَى أَخْذِ الرِّشْوَةِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْوِلَايَاتِ،
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَاشِمِيُّ، الْخَاطِبُ
الدِّمَشْقِيُّ
وَأَظُنُّهُ الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ حَارَةُ الْخَاطِبِ مِنْ نَوَاحِي بَابِ
الصَّغِيرِ، كَانَ خَطِيبَ دِمَشْقَ فِي أَيَّامِ الْإِخْشِيدِ وَكَانَ شَابًّا
حَسَنَ الْوَجْهِ، مَلِيحَ الشَّكْلِ، كَامِلَ الْخُلُقِ
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ وَخَلْقٌ
كَثِيرٌ لَا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً، هَكَذَا أَرَّخَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَدُفِنَ
بِبَابِ الصَّغِيرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، قُتِلَ فِيهَا
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ بِبَابِ الطَّاقِ، وَغَرِقَ فِي دِجْلَةَ خَلْقٌ
كَثِيرٌ مِنَ الْحُجَّاجِ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ نَحْوٌ مِنْ سِتِّمِائَةِ
نَفْسٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ طَرَسُوسَ وَالرُّهَا فَقَتَلُوا وَسَبَوْا،
وَغَنِمُوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا قَلَّتِ الْأَمْطَارُ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ، وَاسْتَسْقَى النَّاسُ
فَلَمْ يُسْقَوْا، وَظَهَرَ جَرَادٌ عَظِيمٌ فِي آذَارَ، فَأَكَلَ مَا نَبَتَ مِنَ
الْخُضْرَاوَاتِ، فَاشْتَدَّ الْأَمْرُ جِدًّا، فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا
لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وَفِيهَا عَادَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ مِنَ الْمَوْصِلِ وَزَوَّجَ
ابْنَتَهُ مِنَ ابْنِ أَخِيهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ،
وَسَيَّرَهَا مَعَهُ إِلَى الرَّيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ، أَبُو إِسْحَاقَ الْقِرْمِيسِينِيُّ
شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ بِالْجَبَلِ،
صَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
الْمَغْرِبِيَّ، وَمِنْ جَيِّدِ كَلَامِهِ قَوْلُهُ: إِذَا سَكَنَ الْخَوْفُ
الْقَلْبَ أَحْرَقَ مَوَاضِعَ الشَّهَوَاتِ مِنْهُ، وَطَرَدَ عَنْهُ الرَّغْبَةَ
فِي الدُّنْيَا.
أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ، أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
إِسْرَائِيلَ بْنِ يُونُسَ، أَبُو بَكْرٍ النَّجَّادُ الْفَقِيهُ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ
وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَدَ وَأَبَا دَاوُدَ
وَالْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ أَبِي الدُّنْيَا وَخَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ يَطْلُبُ
الْحَدِيثَ مَاشِيًا حَافِيًا، وَقَدْ جَمَعَ الْمُسْنَدَ، وَصَنَّفَ فِي
السُّنَنِ كِتَابًا كَبِيرًا، وَكَانَتْ لَهُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ حَلْقَتَانِ
; وَاحِدَةٌ لِلْفِقْهِ وَأُخْرَى لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَابْنُ شَاهِينَ
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ يَصُومُ
الدَّهْرَ، وَيُفْطِرُ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى رَغِيفٍ، وَيَعْزِلُ مِنْهُ لُقْمَةً،
فَإِذَا كَانَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَكَلَ تِلْكَ اللُّقَمَ، وَتَصَدَّقَ
بِرَغِيفِ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ بِشْرِ بْنِ
الْحَارِثِ الْحَافِي، رَحِمَهُ اللَّهُ.
جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرِ بْنِ الْقَاسِمِ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْخَوَّاصُ الْمَعْرُوفُ
بِالْخُلْدِيِّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ كَثِيرًا، وَحَجَّ سِتِّينَ حِجَّةً، وَكَانَ ثِقَةً
صَدُوقًا دَيِّنًا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَمْرٍو
الزَّجَّاجِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ
صَحِبَ أَبَا عُثْمَانَ وَالْجُنَيْدَ وَالنُّورِيَّ وَالْخَوَّاصَ وَغَيْرَهُمْ،
وَأَقَامَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِهَا، وَحَجَّ سِتِّينَ
حِجَّةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَتَغَوَّطْ وَلَمْ
يَبُلْ إِلَّا خَارِجَ الْحَرَمِ بِالْكُلِّيَّةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ، أَبُو بَكْرٍ الْأَدَمِيُّ
صَاحِبُ الْأَلْحَانِ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِتِلَاوَةِ
الْقُرْآنِ، وَرُبَّمَا سَمِعَ أَهْلُ كَلْوَاذَا صَوْتَهُ مِنْ بَغْدَادَ فِي
اللَّيْلِ.
وَحَجَّ مَرَّةً مَعَ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ، فَلَمَّا كَانُوا
بِالْمَدِينَةِ رَأَوْا شَيْخًا أَعْمَى يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ أَخْبَارًا
مَوْضُوعَةً، فَقَالَ الْبَغَوِيُّ: يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، فَقَالَ
لَهُ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِبَغْدَادَ يَعْرِفُكَ النَّاسُ،
وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ هَاهُنَا، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَأْمُرَ أَبَا بَكْرٍ
الْأَدَمِيَّ فَيَقْرَأَ لَنَا. فَاسْتَفْتَحَ، فَقَرَأَ، فَانْجَفَلَ النَّاسُ
إِلَيْهِ وَتَرَكُوا
الْأَعْمَى فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ
أَحَدٌ فَأَخَذَ الْأَعْمَى بِيَدِ قَائِدِهِ، وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِي، هَكَذَا
تَزُولُ النِّعَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمُدَّةٍ، فَقَالَ لَهُ:
مَا فَعَلَ بِكَ رَبُّكَ ؟ فَقَالَ: أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَاسَيْتُ
شَدَائِدَ. فَقُلْتُ لَهُ: فَتِلْكَ اللَّيَالِي وَالْمَوَاقِفُ وَالْقِرَاءَةُ ؟
فَقَالَ: مَا كَانَ شَيْءٌ أَضَرَّ عَلَيَّ مِنْهَا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ
لِلدُّنْيَا، فَقُلْتُ: فَإِلَى أَيِّ شَيْءٍ انْتَهِي أَمْرُكَ. فَقَالَ: قَالَ
لِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ
الثَّمَانِينَ.
أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ طَبَاطَبَا بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ الْمِصْرِيُّ، كَانَ
مِنْ سَادَاتِهَا وَكُرَمَائِهَا وَأَجْوَادِهَا، لَا تَزَالُ الْحَلْوَاءُ
تُعْقَدُ بِدَارِهِ، وَلَا يَزَالُ رَجُلٌ يَكْسِرُ اللَّوْزَ بِسَبَبِهَا كُلَّ
يَوْمٍ بِبَابِهِ، وَلِلنَّاسِ عَلَيْهِ رَوَاتِبُ الْحَلْوَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يُهْدَى إِلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ، وَمِنْهُمْ فِي الْجُمُعَةِ، وَفِي الشَّهْرِ.
وَكَانَ لِكَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ جَامَانِ وَرَغِيفٌ مِنَ الْحُوَّارَى، وَلَمَّا قَدِمَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ إِلَى الْقَاهِرَةِ تَلَقَّاهُ وَسَأَلَهُ: إِلَى مَنْ يَنْتَسِبُ مَوْلَانَا مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ؟ فَقَالَ: الْجَوَابُ إِلَى أَهْلِ الْبَلَدِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْقَصْرَ جَمَعَ الْأَشْرَافَ، وَسَلَّ نِصْفَ سَيْفِهِ، وَقَالَ: هَذَا نَسَبِي، ثُمَّ نَثَرَ عَلَيْهِمُ الذَّهَبَ، وَقَالَ: هَذَا حَسَبِي، فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الْقَائِلَ لِلْمُعِزِّ هَذَا الْكَلَامَ ابْنُ هَذَا أَوْ شَرِيفٌ آخَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ; فَإِنَّ وَفَاةَ هَذَا كَانَتْ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَالْمُعِزُّ إِنَّمَا قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِأَذْرَبِيجَانَ مِنْ أَوْلَادِ عِيسَى بْنِ الْمُكْتَفِي
بِاللَّهِ، فَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَجِيرِ بِاللَّهِ، وَدَعَا إِلَى الرِّضَا مِنْ
آلِ مُحَمَّدٍ، وَذَلِكَ لِفَسَادِ دَوْلَةِ الْمَرْزُبَانِ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا كَثِيرًا، ثُمَّ انْهَزَمَ أَصْحَابُ
الْمُسْتَجِيرِ، وَأُخِذَ أَسِيرًا فَمَاتَ، وَاضْمَحَلَّ أَمْرُهُ. وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَفِيهَا دَخَلَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ
مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَفَتَحَ حُصُونًا، وَأَحْرَقَ بِلَادًا
كَثِيرَةً، وَسَبَى وَغَنِمَ، وَكَرَّ رَاجِعًا، فَأَخَذَتْ عَلَيْهِ الرُّومُ
الدَّرْبَ فَمَنَعُوهُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَوَضَعُوا السَّيْفَ فِي أَصْحَابِهِ،
فَمَا نَجَا فِي ثَلَاثِمِائَةِ فَارِسٍ إِلَّا بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ.
وَفِيهَا كَانَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الرَّافِضَةِ
وَالسُّنَّةِ، قُتِلَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا فِي آخِرِهَا تُوُفِّيَ أَنُوجُورُ بْنُ الْإِخْشِيدِ صَاحِبُ مِصْرَ،
وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ أَخُوهُ عَلِيٌّ.
وَفِيهَا مَاتَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْبَرِيدِيُّ الَّذِي كَانَ صَاحِبَ الْأَهْوَازِ وَوَاسِطٍ.
وَفِيهَا رَجَعَ حَجِيجُ مِصْرَ مِنْ مَكَّةَ فَنَزَلُوا وَادِيًا، فَجَاءَهُمْ
سَيْلٌ فَأَخَذَهُمْ
كُلَّهُمْ، فَأَلْقَاهُمْ فِي
الْبَحْرِ عَنْ آخِرِهِمْ.
وَفِيهَا أَسْلَمَ مِنَ التُّرْكِ مِائَتَا أَلْفِ خَرْكَاهْ، فَسُمُّوا تُرْكَ
إِيمَانٍ، ثُمَّ خُفِّفَ اللَّفْظُ بِذَلِكَ، فَقِيلَ: تُرْكُمَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ الْكَاتِبُ
كَانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَثَرْوَةٌ عَظِيمَةٌ تُقَارِبُ أُبَّهَةَ الْوُزَرَاءِ،
فَاجْتَازَ يَوْمًا وَهُوَ رَاكِبٌ فِي مَوْكِبٍ لَهُ عَظِيمٍ، فَسَمِعَ رَجُلًا
يَقْرَأُ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [ الْحَدِيدِ: 16 ] فَصَاحَ: اللَّهُمَّ
بَلَى. وَكَرَّرَهَا دَفَعَاتٍ، ثُمَّ بَكَى، ثُمَّ نَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ،
نَزَعَ ثِيَابَهُ، وَدَخَلَ إِلَى دِجْلَةَ، فَاسْتَتَرَ بِالْمَاءِ، وَلَمْ
يَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى فَرَّقَ جَمِيعَ مَالِهِ فِي الْمَظَالِمِ الَّتِي كَانَتْ
عَلَيْهِ، وَرَدَّهَا إِلَى أَهْلِهَا، وَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي، وَلَمْ يَبْقَ
لَهُ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَاجْتَازَ بِهِ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ
بِثَوْبَيْنِ، فَلَبِسَهُمَا وَخَرَجَ، فَانْقَطَعَ إِلَى الْعِلْمِ
وَالْعِبَادَةِ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ بْنِ دَاوُدَ،
أَبُو عَلِيٍّ الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ
الْمُتْقِنِينَ الْمُكْثِرِينَ الْمُصَنِّفِينَ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ إِمَامًا مُهَذَّبًا.
وَكَانَ ابْنُ عُقْدَةَ لَا
يَتَوَاضَعُ لِأَحَدٍ كَتَوَاضُعِهِ لَهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
حَسَّانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ، أَبُو الْوَلِيدِ
الْقُرَشِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِخُرَاسَانَ
فِي زَمَانِهِ، وَأَزْهَدُهُمْ وَأَعْبَدُهُمْ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ ابْنِ
سُرَيْجٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ
التَّصَانِيفُ الْمُفِيدَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ فِي طَبَقَاتِ
الشَّافِعِيِّينَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ مَضَيْنَ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
حَمْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَبُو سُلَيْمَانَ
الْخَطَّابِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ، مِنْهَا: " الْمَعَالِمُ "
شَرَحَ فِيهَا سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ،
وَ " الْأَعْلَامُ " شَرَحَ
فِيهِ الْبُخَارِيَّ وَ " غَرِيبُ الْحَدِيثِ ". وَلَهُ فَهْمٌ مَلِيحٌ،
وَعِلْمٌ غَزِيرٌ، وَمَعْرِفَةٌ بِاللُّغَةِ وَالْمَعَانِي وَالْفِقْهِ.
وَمِنْ أَشْعَارِهِ:
مَا دُمْتَ حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ
الْمُدَارَاةِ مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى
عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ
هَكَذَا تَرْجَمَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مُنْتَظَمِهِ حَرْفًا
بِحَرْفٍ.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ
كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَوُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ،
وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ، وَكَانَ مِنَ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ، رَوَى
عَنِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، وَعَنْهُ أَبُو
الْحَسَنِ الْحَمَّامِيُّ. تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الْخَيْزُرَانِ.
أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ الْحَافِظُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو أَحْمَدَ الْعَسَّالُ الْأَصْبَهَانِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ وَأَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ وَحَدَّثَ
بِهِ.
قَالَ ابْنُ مَنْدَهْ: كَتَبْتُ عَنْ أَلْفِ شَيْخٍ لَمْ أَرَ فِيهِمْ أَتْقَنَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ مِنْهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا مَرِضَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بِانْحِصَارِ
الْبَوْلِ، فَقَلِقَ مِنْ ذَلِكَ، وَجَمَعَ بَيْنَ حَاجِبِهِ سُبُكْتِكِينَ
وَوَزِيرِهِ الْمُهَلَّبِيِّ، وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا وَوَصَّاهُمَا بِوَلَدِهِ
بَخْتِيَارَ خَيْرًا، ثُمَّ عُوفِيَ مِنْ ذَلِكَ، فَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ إِلَى
الْأَهْوَازِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ مِنْ هَوَاءِ بَغْدَادَ
وَمَائِهَا، فَأُشِيرَ عَلَيْهِ بِالْمُقَامِ بِهَا، وَأَنْ يَبْنِيَ بِهَا دَارًا
فِي أَعْلَاهَا حَيْثُ الْهَوَاءُ أَرَقُّ وَالْمَاءُ أَصْفَى، فَبَنَى لَهُ
دَارًا غَرِمَ عَلَيْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَاحْتَاجَ
لِذَلِكَ أَنْ يُصَادِرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَيُقَالُ: أَنْفَقَ عَلَى هَذِهِ
الدَّارِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَاتَ وَهُوَ يَبْنِي فِيهَا، وَقَدْ
خَرَّبَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ مَعَالِمِ بَغْدَادَ فِي بِنَائِهَا، وَكَانَ
مِمَّا خَرَّبَ فِيهَا الْمَعْشُوقُ مِنْ سُرَّ مَنْ رَأَى، وَقَلَعَ الْأَبْوَابَ
الْحَدِيدَ الَّتِي عَلَى مَدِينَةِ الْمَنْصُورِ وَالرُّصَافَةِ وَقَصْرِهَا،
وَحَوَّلَهَا إِلَى دَارِهِ هَذِهِ لَا تَمَّتْ فَرْحَتُهُ بِهَا.
وَفِيهَا مَاتَ الْقَاضِي أَبُو السَّائِبِ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ،
وَقُبِضَتْ أَمْلَاكُهُ، وَوَلِيَ بَعْدَهُ الْقَضَاءَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَضَمِنَ أَنْ يُؤَدِّيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ
إِلَى مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ مُعِزُّ
الدَّوْلَةِ، وَسَارَ وَمَعَهُ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ إِلَى مَنْزِلِهِ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضَمِنَ الْقَضَاءَ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْخَلِيفَةُ
الْمُطِيعُ لِلَّهِ
فِي الْحُضُورِ عِنْدَهُ وَلَا فِي
حُضُورِ الْمَوْكِبِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ ضَمِنَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
الشُّرْطَةَ وَضَمِنَ الْحِسْبَةَ أَيْضًا.
وَفِيهَا سَارَ قَفَلٌ مِنْ أَنْطَاكِيَةَ يُرِيدُونَ طَرَسُوسَ وَفِيهِمْ نَائِبُ
أَنْطَاكِيَةَ فَثَارَ عَلَيْهِمُ الْفِرِنْجُ، فَأَخَذُوهُمْ عَنْ بَكْرَةِ
أَبِيهِمْ، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ سِوَى النَّائِبِ جَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ
مِنْ بَدَنِهِ.
وَفِيهَا دَخَلَ نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ
وَسَبَى وَغَنِمَ، وَرَجَعَ سَالِمًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ نُوحٍ
صَاحِبُ خُرَاسَانَ سَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَمَاتَ، فَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ أَخُوهُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ النَّاصِرُ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ
صَاحِبُ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ خَمْسِينَ سَنَةً وَسِتَّةَ
أَشْهُرٍ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ يَوْمَ مَاتَ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً،
وَتَرَكَ أَحَدَ عَشَرَ وَلَدًا، وَكَانَ أَبْيَضَ حَسَنَ الْوَجْهِ، عَظِيمَ
الْجِسْمِ، طَوِيلَ الظَّهْرِ، قَصِيرَ السَّاقَيْنِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ
تَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَوْلَادِ الْأُمَوِيِّينَ الدَّاخِلِينَ
إِلَى الْمَغْرِبِ، وَذَلِكَ حِينَ بَلَغَهُ ضَعْفُ الْخُلَفَاءِ بِالْعِرَاقِ،
وَتَغَلُّبُ الْفَاطِمِيِّينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَتَلَقَّبَ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَلَمَّا تُوُفِّيَ
قَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
الْحَكَمُ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُسْتَنْصِرِ، وَمِنْ جُمْلَةِ أَوْلَادِ النَّاصِرِ
عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ شَافِعِيَّ الْمَذْهَبِ نَاسِكًا شَاعِرًا، وَلَا
يُعْرَفُ فِي الْخُلَفَاءِ أَطْوَلَ مُدَّةً مِنَ النَّاصِرِ الْأُمَوِيِّ -
فَإِنَّهُ مَكَثَ خَمْسِينَ سَنَةً - سِوَى الْمُسْتَنْصِرِ بْنِ الْحَاكِمِ
الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنَّهُ مَكَثَ سِتِّينَ سَنَةً، كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو سَهْلِ بْنُ زِيَادٍ الْقَطَّانُ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ، أَبُو سَهْلٍ الْقَطَّانُ
كَانَ ثِقَةً حَافِظًا كَثِيرَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ، حَسَنَ الِانْتِزَاعِ
لِلْمَعَانِي مِنْهُ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى تَكْفِيرِ
الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي
الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا
[ آلِ عِمْرَانَ: 156 ]
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَيَانٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْخُطَبِيُّ، سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي أُسَامَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ
أَحْمَدَ الْكُدَيْمِيَّ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ
مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا فَاضِلًا نَبِيلًا عَارِفًا بِأَيَّامِ
النَّاسِ وَالْخُلَفَاءِ، وَلَهُ تَارِيخٌ مُرَتَّبٌ عَلَى السِّنِينَ، وَكَانَ
أَدِيبًا لَبِيبًا عَاقِلًا صَدُوقًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي
مَرْيَمَ، أَبُو بَكْرٍ الْقُرَشِيُّ الْوَرَّاقُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ فُطَيْسٍ،
وَكَانَ حَسَنَ الْكِتَابَةِ مَشْهُورًا بِهَا، وَكَانَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ
لِابْنِ جَوْصَا تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَأَرَّخَ وَفَاتَهُ بِثَانِي
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَبُو بَكْرٍ
الْهَاشِمِيُّ الْعَبَّاسِيُّ
حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ،
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ سَنَةً أَيْضًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، أَحَدُ الْأَئِمَّةِ، لَهُ " الْمُحَرَّرُ "
فِي الْخِلَافِ، وَهُوَ أَوَّلُ مُصَنِّفٍ فِيهِ، وَلَهُ " الْإِفْصَاحُ
" فِي الْمَذْهَبِ، وَكِتَابٌ فِي الْجَدَلِ، وَكِتَابٌ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "
الطَّبَقَاتِ ".
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عِيسَى بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْمَنْصُورُ، أَبُو جَعْفَرٍ
الْهَاشِمِيُّ الْإِمَامُ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ بُرَيْهٍ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ،
رَوَى عَنِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ ابْنُ رِزْقَوَيْهِ،
وَكَانَ خَطِيبًا بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَقَدْ خَطَبَ فِيهِ
سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَبْلَهَا بِمِائَةِ سَنَةٍ خَطَبَ فِيهِ
الْوَاثِقُ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهُمَا فِي النَّسَبِ إِلَى
الْمَنْصُورِ سَوَاءٌ. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو السَّائِبِ
الْهَمَذَانِيُّ
الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا، تَقَدَّمَ. وَوَلِيَ
الْقَضَاءَ، وَكَانَ فِيهِ تَخْلِيطٌ فِي الْأُمُورِ، وَقَدْ رَآهُ بَعْضُهُمْ فِي
الْمَنَامِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي، وَأَمَرَ بِي
إِلَى الْجَنَّةِ عَلَى مَا كَانَ مِنِّي مِنَ التَّخْلِيطِ، وَقَالَ لِي: إِنِّي
آلَيْتُ أَنْ لَا أُعَذِّبَ أَبْنَاءَ الثَّمَانِينَ.
وَهَذَا الرَّجُلُ أَوَّلُ مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ مِنَ
الشَّافِعِيَّةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَنْبِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَاجِيَانَ
أَبُو بَكْرٍ الدِّهْقَانُ،
بَغْدَادِيٌّ، سَكَنَ بُخَارَى،
وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنِ بْنِ مُكْرَمٍ
وَغَيْرِهِمَا، وَتُوُفِّيَ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
أَبُو عَلِيٍّ الْخَازِنُ
تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، فَوُجِدَ فِي دَارِهِ مِنَ الدَّفَائِنِ
وَعِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْوَدَائِعِ مَا يُقَارِبُ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
دُخُولُ الرُّومِ إِلَى حَلَبَ
فِيهَا دَخَلَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الرُّومِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى حَلَبَ
فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَيْهَا
بَغْتَةً، فَنَهَضَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِمَنْ حَضَرَ
مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَاتَلَهُ فَلَمْ يَقْوَ بِهِ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَقَتَلَ
مِنْ أَصْحَابِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ
قَلِيلَ الصَّبْرِ، فَفَرَّ مُنْهَزِمًا فِي نَفَرٍ يَسِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَكَانَ
أَوَّلَ مَا اسْتَفْتَحَ بِهِ أَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَى دَارِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ
ظَاهِرَ الْبَلَدِ، فَأَخَذَ مِنْهَا أَمْوَالًا عَظِيمَةً وَحَوَاصِلَ، وَعُدَدًا
لِلْحَرْبِ لَا تُحْصَى كَثْرَةً، ثُمَّ تَدَنَّى فَحَاصَرَ السُّورَ، فَقَاتَلَ
أَهْلَ الْبَلَدِ دُونَهُ قِتَالًا عَظِيمًا، وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ
الرُّومِ، وَثَلَمَتِ الرُّومُ فِي السُّورِ ثُلْمَةً عَظِيمَةً، فَوَقَفَ فِيهَا
الرُّومُ، فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، فَأَزَاحُوهُمْ عَنْهَا، فَلَمَّا
جَنَّ اللَّيْلُ جَدَّ الْمُسْلِمُونَ فِي عِمَارَتِهَا، فَمَا أَصْبَحَ
الصَّبَاحُ إِلَّا وَهِيَ كَمَا كَانَتْ، وَحَفِظُوا السُّورَ حِفْظًا عَظِيمًا،
ثُمَّ بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ رَجَّالَةَ الشُّرَطِ قَدْ عَاثُوا فِي
الْبَلَدِ يَنْهَبُونَ الدُّورَ، فَرَجَعَ النَّاسُ إِلَى مَنَازِلِهِمْ يَمْنَعُونَهَا
مِنْهُمْ، وَغَلَبَتِ الرُّومُ عَلَى السُّورِ، فَعَلَوْهُ وَدَخَلُوا الْبَلَدَ
يَقْتُلُونَ مَنْ لَقُوهُ، فَقَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَانْتَهَبُوا الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ وَالنِّسَاءَ، وَخَلَّصُوا مَنْ كَانَ
بِأَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ
أُسَارَى الرُّومِ، وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، فَأَخَذُوا السُّيُوفَ
فَقَاتَلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وَكَانُوا أَضْرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَسَرُوا
نَحْوًا مِنْ بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَصَبِيَّةٍ، وَمِنَ
النِّسَاءِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَمِنَ الرِّجَالِ أَلْفَيْنِ، وَخَرَّبُوا
الْمَسَاجِدَ وَأَحْرَقُوهَا، وَصَبُّوا فِي جِبَابِ الزَّيْتِ الْمَاءَ حَتَّى
فَاضَ الزَّيْتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَهَلَكَ، وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يَقْدِرُونَ
عَلَى حَمْلِهِ أَحْرَقُوهُ، وَأَقَامُوا فِي الْبَلَدِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ
يَفْعَلُونَ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ الْعَظِيمَةَ، ثُمَّ عَزَمَ الدُّمُسْتُقُ عَلَى
الِانْصِرَافِ خَوْفًا مِنْ رُجُوعِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ
أُخْتِهِ: أَتَذْهَبُ وَتَتْرُكُ الْقَلْعَةَ وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا
قَدْ بَلَغْنَا فَوْقَ مَا كُنَّا نُؤَمِّلُهُ، وَإِنَّ بِهَا مُقَاتِلَةً
وَرِجَالًا غُزَاةً، فَقَالَ: لَا بُدَّ لَنَا مِنْهَا. فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ
إِلَيْهَا. فَصَمَدَ إِلَيْهَا لِيُحَاصِرَهَا فَرَمَوْهُ بِحَجَرٍ، فَقَتَلَهُ
فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ مِنْ بَيْنِ الْجَيْشِ كُلِّهِ، فَغَضِبَ
الدُّمُسْتُقُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ
مِنْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْنِ، فَضُرِبَتْ
أَعْنَاقُهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا، قَبَّحَهُ اللَّهُ
وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ دَخَلُوا عَيْنَ زَرْبَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، فَاسْتَأْمَنَهُمْ أَهْلُهَا فَأَمَّنَهُمُ الْمَلِكُ، وَأَمَرَ بِأَنْ
يَدْخُلُوا كُلُّهُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَمَنْ بَقِيَ فِي مَنْزِلِهِ قُتِلَ،
فَصَارَ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ فِي الْمَسْجِدِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ مِنْهُمْ قُتِلَ،
ثُمَّ قَالَ: لَا يَبْقَيْنَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْيَوْمَ إِلَّا ذَهَبَ حَيْثُ
شَاءَ، وَمَنْ تَأَخَّرَ قُتِلَ، فَازْدَحَمُوا فِي خُرُوجِهِمْ مِنَ
الْمَسْجِدِ، فَمَاتَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ، وَخَرَجُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ لَا يَدْرُونَ أَيْنَ يَذْهَبُونَ،
فَمَاتَ فِي الطُّرُقَاتِ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ هَدَمَ الْجَامِعَ،
وَكَسَرَ الْمِنْبَرَ، وَقَطَعَ مِنْ حَوْلِ الْبَلَدِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ
نَخْلَةٍ، وَهَدَمَ سُورَ الْبَلَدِ وَالْمَنَازِلَ الْمُشَارَ إِلَيْهَا مِنْهَا،
وَأَقَامَ بِهَا مُدَّةً، وَفَتَحَ حَوْلَهَا أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ حِصْنًا،
بَعْضُهَا بِالسَّيْفِ وَبَعْضُهَا بِالْأَمَانِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا،
وَأَسَرَتِ الرُّومُ أَبَا فِرَاسِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ نَائِبَ مَنْبِجَ
مِنْ جِهَةِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ شَاعِرًا مُطْبِقًا، لَهُ دِيوَانٌ
حَسَنٌ. وَكَانَ مُدَّةُ مُقَامِهِ بِعَيْنِ زَرْبَةَ أَحَدًا وَعِشْرِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى قَيْسَارِيَّةَ فَلَقِيَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ أَهْلِ
طَرَسُوسَ مَعَ نَائِبِهَا ابْنِ الزَّيَّاتِ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَأَدْرَكَهُ
صَوْمُ النَّصَارَى فَاشْتَغَلَ بِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ، ثُمَّ هَجَمَ عَلَى
حَلَبَ بَغْتَةً، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَتَبَتِ الْعَامَّةُ مِنَ الرَّوَافِضِ عَلَى أَبْوَابِ
الْمَسَاجِدِ بِبَغْدَادَ: لَعَنَ اللَّهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ
وَلَعَنَ مَنْ غَصَبَ فَاطِمَةَ فَدَكَ - يَعْنُونَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَمَنْ أَخْرَجَ الْعَبَّاسَ مِنَ الشُّورَى - يَعْنُونَ عُمَرَ، رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ نَفَى أَبَا ذَرٍّ - يَعْنُونَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَمَنْ مَنَعَ دَفْنَ الْحَسَنِ عِنْدَ جَدِّهِ - يَعْنُونَ مَرْوَانَ
بْنَ الْحَكَمِ -، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ لَمْ يُنْكِرْهُ
وَلَمْ يُغَيِّرْهُ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ مَحَوْا ذَلِكَ،
فَأَمَرَ بِأَنْ يُكْتَبَ: لَعَنَ اللَّهُ الظَّالِمِينَ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنَ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ مُعَاوِيَةَ فِي اللَّعْنِ،
فَكُتِبَ ذَلِكَ. قَبَّحَ اللَّهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ وَشِيعَتَهُ مِنَ
الرَّوَافِضِ، وَكَذَلِكَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ بِحَلَبَ فِيهِ
تَشَيُّعٌ وَمَيْلٌ إِلَى الرَّوَافِضِ، وَلَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَنْصُرُ
أَمْثَالَ هَؤُلَاءِ، وَيُدِيلُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاءَهُمْ ; لِمُتَابَعَتِهِمْ
أَهْوَاءَهُمْ، وَتَقْلِيدِهِمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ وَآبَاءَهُمْ،
وَتَرْكِ
مُتَابَعَتِهِمْ أَنْبِيَاءَهُمْ
وَعُلَمَاءَهُمْ، وَلِهَذَا لَمَّا مَلَكَتِ الْفَاطِمِيَّةُ بِلَادَ الشَّامِ ;
اسْتَحْوَذَ عَلَى سَوَاحِلِهَا كُلِّهَا حَتَّى بَيْتِ الْمَقْدِسِ الْفِرِنْجُ،
وَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى حَلَبَ وَحِمْصَ وَحَمَاةَ وَدِمَشْقَ
وَبَعْضِ أَعْمَالِهَا، وَجَمِيعُ السَّوَاحِلِ مَعَ الْفِرِنْجِ وَالنَّوَاقِيسُ
النَّصْرَانِيَّةُ وَالْقُسُوسُ الْإِنْجِيلِيَّةُ تَنْعَرُ فِي الشَّوَاهِقِ مِنَ
الْحُصُونِ وَالْقِلَاعِ، وَتَكْنُو فِي أَمَاكِنِ الْمَسَاجِدِ وَشَرِيفِ
الْبِقَاعِ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِسَبَبِ
الْمَذَاهِبِ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَفِيهَا أَعَادَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ بِنَاءَ عَيْنِ زَرْبَةَ وَبَعَثَ مَوْلَاهُ
نَجَا، فَدَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ، فَقَتَلَ مِنْهَا خَلْقًا كَثِيرًا وَسَبَى
جَمًّا غَفِيرًا، وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَبَعَثَ حَاجِبَهُ مَعَ جَيْشِ طَرَسُوسَ
فَدَخَلُوا بِلَادَ الرُّومِ فَغَنِمُوا وَسَبَوْا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا فَتَحَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ حِصْنَ طَبَرْمِينَ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ - وَكَانَ مِنْ أَحْصَنِ بِلَادِ الْفِرِنْجِ - افْتَتَحَهُ قَسْرًا
بَعْدَ مُحَاصَرَةٍ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفَ شَهْرٍ. وَقَصَدَتِ الْفِرِنْجُ
جَزِيرَةَ أَقْرِيطِشَ فَاسْتَنْجَدَ أَهْلُهَا بِالْمُعِزِّ، فَسَيَّرَ
إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَانْتَصَرُوا عَلَى الْفِرِنْجِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
هَارُونَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُهَلَّبِيُّ
الْوَزِيرُ لِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، مَكَثَ وَزِيرًا فِي وِزَارَتِهِ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ حِلْمٌ وَكَرَمٌ وَأَنَاةٌ.
حَكَى أَبُو إِسْحَاقَ الصَّابِئُ قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَهُ وَقَدْ جِيءَ
بِدَوَاةٍ قَدْ صُنِعَتْ لَهُ وَمِرْفَعٍ قَدْ حُلِّيَا بِحِلْيَةٍ كَثِيرَةٍ،
فَقَالَ لِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الشِّيرَازِيُّ -
سِرًّا بَيْنِي وَبَيْنَهُ -: مَا كَانَ أَحْوَجَنِي إِلَيْهَا لِأَبِيعَهَا
وَأَنْتَفِعَ بِهَا، فَقُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَفْعَلُ الْوَزِيرُ ؟ فَقَالَ:
يَدْخُلُ فِي حِرِ أُمِّهِ، فَسَمِعَهَا الْوَزِيرُ وَهُوَ مُصْغٍ إِلَيْنَا وَلَا
نَشْعُرُ، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ بِالدَّوَاةِ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ
الشِّيرَازِيِّ وَمِرْفَعِهَا وَعَشْرَةِ ثِيَابٍ وَخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ،
وَاصْطَنَعَ لَهُ غَيْرَهَا، فَاجْتَمَعْنَا يَوْمًا آخَرَ عِنْدَهُ، وَهُوَ
يُوَقِّعُ مِنْ تِلْكَ الدَّوَاةِ الْجَدِيدَةِ، فَنَظَرَ إِلَيْنَا، فَقَالَ:
هِيهِ، مَنْ مِنْكُمَا يُرِيدُهَا مَعَ الْإِعْفَاءِ مِنَ الدُّخُولِ ؟ قَالَ:
فَاسْتَحْيَيْنَا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ سَمِعَ كَلَامَنَا يَوْمَئِذٍ،
وَقُلْنَا: بَلْ يُمَتِّعُ اللَّهُ الْوَزِيرَ بِهَا، وَيُبْقِيهِ لِيَهَبَ
أَلْفًا مِثْلَهَا.
تُوُفِّيَ أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمُهَلَّبِيُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ دَعْلَجَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو مُحَمَّدٍ
السِّجِسْتَانِيُّ الْمُعَدِّلُ، سَمِعَ بِخُرَاسَانَ وَحُلْوَانَ وَبَغْدَادَ
وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَمَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ ذَوِي الْيَسَارِ
وَالْمَشْهُورِينَ بِالْبِرِّ وَالْإِفْضَالِ، وَلَهُ صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ،
وَأَوْقَافٌ دَارَّةٌ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ بِبَغْدَادَ وَمَكَّةَ
وَسِجِسْتَانَ.
وَكَانَتْ لَهُ دَارٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ، فَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ فِي
الدُّنْيَا مِثْلُهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ بَغْدَادَ وَلَا
فِي بَغْدَادَ مِثْلُ الْقَطِيعَةِ، وَلَا فِي الْقَطِيعَةِ مِثْلُ دَرْبِ أَبِي
خَلَفٍ، وَلَيْسَ فِي دَرْبِ أَبِي خَلَفٍ مَثَلُ دَارِي.
وَصَنَّفَ الدَّارَقُطْنِيُّ لَهُ مُسْنَدًا، وَكَانَ إِذَا شَكَّ فِي حَدِيثٍ
تَرَكَهُ، فَكَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ يَقُولُ: لَمْ أَرَ فِي مَشَايِخِنَا
أَثْبَتَ مِنْهُ.
وَقَدْ أَنْفَقَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَذَوِي الْحَاجَاتِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
كَثِيرَةً جِدًّا، اقْتَرَضَ مِنْهُ بَعْضُ التُّجَّارِ عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ
فَضَمِنَ بِهَا ضِيَاعًا، فَرَبَحَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ ثَلَاثِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ، فَعَزَلَ مِنْهَا عَشْرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، وَجَاءَهُ بِهَا،
فَأَضَافَهُ دَعْلَجُ ضِيَافَةً حَسَنَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ شَأْنِهَا قَالَ:
مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ لَهُ: هَذِهِ الدَّنَانِيرُ الَّتِي تَفَضَّلْتَ بِهَا قَدْ
حَضَرَتْ. فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ! إِنِّي لَمْ أُعْطِكَهَا
لِتَرُدَّهَا،
فَحَلِّ بِهَا الْأَهْلَ، فَقَالَ:
إِنِّي قَدْ رَبِحْتُ ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَهَذِهِ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ
دَعْلَجُ: اذْهَبْ بِهَا، بَارَكَ اللَّهُ لَكَ. فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ يَتَّسِعُ
مَالُكَ لِهَذَا ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَفَدْتَ هَذَا الْمَالَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي
كُنْتُ فِي حَدَاثَةِ سِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ، فَجَاءَنِي رِجُلٌ تَاجِرٌ مِنْ
أَهْلِ الْبَحْرِ، فَدَفَعَ إِلَيَّ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: اتَّجِرْ
فِي هَذِهِ، فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَمَا كَانَ مِنْ
خَسَارَةٍ فَعَلَيَّ دُونَكَ، وَعَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ إِنْ
وَجَدْتَ حَاجَةً أَوْ خَلَّةً فَسُدَّهَا مِنْ مَالِي هَذَا. ثُمَّ جَاءَنِي
فَقَالَ: إِنِّي سَأَرْكَبُ فِي الْبَحْرِ، فَإِنْ هَلَكْتُ، فَالْمَالُ فِي
يَدِكَ عَلَى مَا شَرَطْتُ عَلَيْكَ. فَهُوَ فِي يَدِي عَلَى مَا قَالَ. ثُمَّ
قَالَ لِي: لَا تُخْبِرْ بِهَذَا أَحَدًا مُدَّةَ حَيَاتِي. فَلَمْ أُخْبِرْ بِهِ
أَحَدًا حَتَّى مَاتَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعِ بْنِ مَرْزُوقٍ أَبُو الْحُسَيْنِ الْأُمَوِيُّ
مَوْلَاهُمْ، سَمِعَ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي أُسَامَةَ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْحِفْظِ،
وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَانَ يُخْطِئُ وَيُصِرُّ عَلَى الْخَطَأِ. تُوُفِّيَ
فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَبُو بَكْرٍ النَّقَّاشُ الْمُفَسِّرُ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ زِيَادِ بْنِ هَارُونَ
بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو بَكْرٍ
النَّقَّاشُ
الْمُفَسِّرُ الْمُقْرِئُ، مَوْلَى أَبِي دُجَانَةَ سِمَاكِ بْنِ خَرَشَةَ،
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَوْصِلِ وَكَانَ عَالِمًا بِالتَّفْسِيرِ وَالْقِرَاءَاتِ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى عَنْ خَلْقٍ مِنَ الْمَشَايِخِ،
وَحَدَّثَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُجَاهِدٍ وَالْخُلْدِيُّ وَابْنُ شَاهِينَ
وَابْنُ رِزْقَوَيْهِ وَخَلْقٌ، وَآخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ
شَاذَانَ، وَتَفَرَّدَ بِأَشْيَاءَ مُنْكَرَةٍ، وَقَدْ وَقَفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَخْطَائِهِ، فَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ
بِتَكْذِيبِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَهُ كِتَابُ التَّفْسِيرِ الَّذِي سَمَّاهُ
" شِفَاءَ الصُّدُورِ " فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ إِشْفَاءُ
الصُّدُورِ.
وَقَدْ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا فِي نَفْسِهِ، عَابِدًا نَاسِكًا، حَكَى مَنْ
حَضَرَهُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ يَدْعُو بِدُعَاءٍ، ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ
يَقُولُ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [ الصَّافَّاتِ: 61 ] يُرَدِّدُهَا
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ رُوحُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ
بِدَارِ الْقُطْنِ.
مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو بَكْرٍ الْحَرْبِيُّ
الزَّاهِدُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الضَّرِيرِ، كَانَ ثِقَةً عَابِدًا. وَمِنْ
قَوْلِهِ: دَافَعْتُ الشَّهَوَاتِ حَتَّى صَارَتْ شَهْوَتِي الْمُدَافَعَةُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ
بُوَيْهِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - أَنْ تُغْلَقَ الْأَسْوَاقُ وَأَنْ يَلْبَسَ
النَّاسُ الْمُسُوحَ مِنَ الشَّعْرِ، وَأَنْ تَخْرُجَ النِّسَاءُ حَاسِرَاتٍ عَنْ
وُجُوهِهِنَّ، نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ، يَلْطُمْنَ
وُجُوهَهُنَّ، يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فَفُعِلَ ذَلِكَ، وَلَمْ
يُمْكِنْ أَهْلَ السُّنَّةِ مَنْعُ ذَلِكَ ; لِكَثْرَةِ الشِّيعَةِ، وَكَوْنِ
السُّلْطَانِ مَعَهُمْ.
وَفِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا أَمَرَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
بِإِظْهَارِ الزِّينَةِ بِبَغْدَادَ وَأَنْ تُفْتَحَ الْأَسْوَاقُ بِاللَّيْلِ
كَمَا فِي الْأَعْيَادِ، وَأَنْ تُضْرَبَ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَأَنْ
تُشْعَلَ النِّيرَانُ بِأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ وَعِنْدَ الشُّرَطِ ; فَرَحًا
بَعِيدِ الْغَدِيرِ - غَدِيرِ خُمٍّ - فَكَانَ وَقْتًا عَجِيبًا وَيَوْمًا
مَشْهُودًا، وَبِدْعَةً ظَاهِرَةً مُنْكَرَةً.
وَفِيهَا أَغَارَتِ الْأَرْمَنُ عَلَى الرُّهَا فَقَتَلُوا وَأَسَرُوا، وَرَجَعُوا
مُوقَرِينَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - وَثَارَتِ الرُّومُ بِمَلِكِهِمْ فَقَتَلُوهُ،
وَوَلَّوْا غَيْرَهُ، وَمَاتَ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الْأَرْمَنِ، وَاسْمُهُ
النِّقْفُورُ، وَهُوَ الَّذِي أَخَذَ حَلَبَ وَلِتُكْتَبَ تَرْجَمَتُهُ فِي آخِرِ
الْجُزْءِ.
وَفِيهَا عُزِلَ ابْنُ أَبِي
الشَّوَارِبِ عَنِ الْقَضَاءِ، وَنُقِضَتْ سِجِلَّاتُهُ، وَأُبْطِلَتْ أَحْكَامُهُ
مُدَّةَ أَيَّامِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ أَبُو بِشْرٍ عُمَرُ بْنُ أَكْثَمَ بِلَا
رِزْقٍ، وَرُفِعَ عَنْهُ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ اسْتَسْقَى النَّاسُ لِتَأَخُّرِ الْمَطَرِ وَذَلِكَ فِي
كَانُونَ الثَّانِي.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " عَنْ ثَابِتِ بْنِ
سِنَانٍ الْمُؤَرِّخِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ
مِمَّنْ أَثِقُ بِهِمْ أَنَّ بَعْضَ بَطَارِقَةِ الْأَرْمَنِ أَنْفَذَ فِي سَنَةِ
ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ إِلَى نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَرْمَنِ مُلْتَصِقَيْنِ، سِنُّهُمَا خَمْسٌ
وَعِشْرُونَ سَنَةً، مُلْتَحِمَيْنِ وَمَعَهُمَا أَبُوهُمَا، وَلَهُمَا سُرَّتَانِ
وَبِطَنَّانِ وَمَعِدَتَانِ، وَجُوعُهُمَا يَخْتَلِفُ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا
يَمِيلُ إِلَى النِّسَاءِ، وَالْآخَرُ يَمِيلُ إِلَى الْغِلْمَانِ، وَكَانَ يَقَعُ
بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ وَتَشَاجُرٌ، وَرُبَّمَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا لَا يُكَلِّمُ
الْآخَرَ، فَيَمْكُثُ كَذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ يَصْطَلِحَانِ، فَوَهَبَهُمَا
نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِمَا، وَدَعَاهُمَا إِلَى
الْإِسْلَامِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمَا أَسْلَمَا. وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَهُمَا
إِلَى بَغْدَادَ لِيَرَاهُمَا النَّاسُ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ
إِنَّهُمَا رَجَعَا إِلَى بَلَدِهِمَا
مَعَ أَبِيهِمَا، فَاعْتَلَّ
أَحَدُهُمَا، وَمَاتَ وَأَنْتَنَ رِيحُهُ، وَبَقِيَ الْآخَرُ لَا يُمْكِنُهُ
التَّخَلُّصُ مِنْهُ، وَقَدْ كَانَ اتِّصَالُ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ
الْخَاصِرَتَيْنِ، وَقَدْ كَانَ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ أَرَادَ فَصْلَ أَحَدِهِمَا
عَنِ الْآخَرِ، وَجَمَعَ الْأَطِبَّاءَ لِذَلِكَ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَلَمَّا مَاتَ
أَحَدُهُمَا حَارَ أَبُوهُمَا فِي فَصْلِهِ عَنْ أَخِيهِ، فَاتَّفَقَ اعْتِلَالُ
الْآخَرِ مِنْ غَمِّهِ وَنَتْنِ رَائِحَةِ أَخِيهِ، فَمَاتَ غَمًّا، فَدُفِنَا
جَمِيعًا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عُمَرُ بْنُ أَكْثَمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرٍ، أَبُو بِشْرٍ
الْأَسَدِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَوَلِيَ الْقَضَاءَ فِي زَمَنِ الْمُطِيعِ نِيَابَةً عَنْ أَبِي السَّائِبِ
عُتْبَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَهُوَ أَوَّلُ
مَنْ وَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ سِوَى أَبِي السَّائِبِ،
وَكَانَ مَحْمُودَ السِّيرَةِ فِي الْقَضَاءِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ عَزَاءَ الْحُسَيْنِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ، فَاقْتَتَلَ الرَّوَافِضُ وَأَهْلُ
السُّنَّةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَانْتُهِبَتِ الْأَمْوَالُ.
وَفِيهَا عَصَى نَجَا غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
كَانَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي قَدْ صَادَرَ أَهْلَ حَرَّانِ وَأَخَذَ مِنْهُمْ
أَمْوَالًا كَثِيرَةً فَتَمَرَّدَ بِهَا، وَذَهَبَ إِلَى بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ
فَأَخَذَ طَائِفَةً مِنْهَا مِنْ يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْأَعْرَابِ يُقَالُ لَهُ:
أَبُو الْوَرْدِ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَسَارَ إِلَيْهِ سَيْفُ الدَّوْلَةِ
فَأَخَذَهُ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ فَقُتِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأُلْقِيَتْ جِيفَتُهُ
فِي الْأَقْذَارِ وَمَحَلِّ الْجِيَفِ وَالنَّتَنِ.
وَفِيهَا جَاءَ الدُّمُسْتُقُ إِلَى الْمِصِّيصَةِ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ
فَحَاصَرَهَا وَنَقَبَ سُورَهَا، فَدَافَعَهُ أَهْلُهَا، فَأَحْرَقَ رُسْتَاقَهَا،
وَقَتَلَ مِمَّنْ حَوْلَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ
إِنْسَانٍ، وَعَاثُوا فَسَادًا فِي
بِلَادِ أَذَنَةَ وَطَرَسُوسَ، وَكَرُّوا رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ
قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا قَصَدَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَجَزِيرَةَ ابْنِ عُمَرَ
فَأَخْذَهَا مِنْ يَدِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، ثُمَّ سَارَ فِي
طَلَبِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ، فَكَرَّ نَاصِرُ الدَّوْلَةِ فِي جَيْشٍ قَدْ
هَيَّأَهُ، فَاسْتَرْجَعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، فَعَادَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ فَأَخَذَ الْمَوْصِلَ وَأَقَامَ بِهَا، فَرَاسَلَهُ فِي
الصُّلْحِ صَاحِبُهَا، فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحِمْلُ فِي كُلِّ
سَنَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ وَلِيَّ عَهْدِ
أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَجَابَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَرَّ
رَاجِعًا إِلَى بَغْدَادَ بَعْدَ مَا جَرَتْ لَهُ خُطُوبٌ عَظِيمَةٌ طَوِيلَةٌ
قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " وَبَسَطَهَا.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ بِبِلَادِ الدَّيْلَمِ، وَهُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ مِنْ أَوْلَادِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَيُعْرَفُ
بِابْنِ الدَّاعِي، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ،
وَتَسَمَّى بِالْمَهْدِيِّ، وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ بَغْدَادَ وَعَظُمَ شَأْنُهُ
بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَهَرَبَ مِنْهُ ابْنُ النَّاصِرِ الْعَلَوِيُّ.
وَفِيهَا قَصَدَ مَلِكُ الرُّومِ، وَفِي صُحْبَتِهِ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ
الْأَرْمَنِ بِلَادَ طَرَسُوسَ فَحَاصَرُوهَا مُدَّةً، ثُمَّ غَلَتْ عَلَيْهِمُ
الْأَسْعَارُ، وَأَخَذَ فِيهِمُ الْوَبَاءُ، فَمَاتَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَكَّرُوا رَاجِعِينَ،
كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ]. وَكَانَ مِنْ عَزْمِهِمْ
يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَحْوِذُونَ عَلَى الْبِلَادِ كُلِّهَا، فَرَجَعُوا
خَاسِئِينَ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَقْعَةُ الْمَجَازِ بِبِلَادِ صِقِلِّيَّةَ وَذَلِكَ أَنَّهُ
أَقْبَلَ مِنَ الرُّومِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَمِنَ الْفِرِنْجِ مَا يُقَارِبُ
الْمِائَةَ أَلْفٍ، فَبَعَثَ أَهْلُ صِقِلِّيَّةَ إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ
يَسْتَنْجِدُونَهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِجُيُوشٍ كَثِيرَةٍ فِي الْأُسْطُولِ،
فَكَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ صَبَرَ
فِيهَا الْفَرِيقَانِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ، ثُمَّ قُتِلَ
أَمِيرُ الرُّومِ مَنْوِيلُ وَفَّرَتِ الرُّومُ وَانْهَزَمُوا هَزِيمَةً
قَبِيحَةً، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَسَقَطَ
الْفِرِنْجُ فِي وَادٍ مِنَ الْمَاءِ عَمِيقٍ فَغَرِقَ أَكْثَرُهُمْ، وَرَكِبَ
الْبَاقُونَ فِي الْمَرَاكِبِ، فَبَعَثَ الْأَمِيرُ أَحْمَدُ صَاحِبُ صِقِلِّيَّةَ
فِي آثَارِهِمْ مَرَاكِبَ أُخَرَ، فَقَتَلُوا أَكْثَرَ الْمُشْرِكِينَ فِي
الْبَحْرِ أَيْضًا، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ شَيْئًا
كَثِيرًا، مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ وَالْأَسْلِحَةِ،
فَكَانَ فِي جُمْلَةِ ذَلِكَ سَيْفٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: هَذَا سَيْفٌ هِنْدِيٌّ
زِنَتُهُ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ مِثْقَالًا، طَالَمَا قُوتِلَ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبُعِثَ فِي جُمْلَةِ تُحَفٍ
إِلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الْقَرَامِطَةُ مَدِينَةَ طَبَرِيَّةَ لِيَأْخُذُوهَا مِنْ يَدِ
الْإِخْشِيدِ صَاحِبِ مِصْرَ وَالشَّامِ، وَطَلَبُوا مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ أَنْ
يَمُدَّهُمْ بِحَدِيدٍ يَتَّخِذُونَ مِنْهُ سِلَاحًا، فَقَلَعَ لَهُمْ أَبْوَابَ
الرَّقَّةِ - وَكَانَتْ مِنْ حَدِيدٍ - حَتَّى أَخَذَ أَوَاقِيَّ الْبَاعَةِ،
وَأَرْسَلَ
بِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَيْهِمْ حَتَّى
قَالُوا: اكْتَفَيْنَا.
وَفِيهَا طَلَبَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ أَنْ
يَأْذَنَ لَهُ فِي دُخُولِ دَارِ الْخِلَافَةِ لِيَتَفَرَّجَ فِيهَا، فَأَذِنَ
لَهُ فَدَخَلَهَا، فَبَعَثَ خَادِمَهُ وَحَاجِبَهُ مَعَهُ، فَطَافُوا مَعَهُ
فِيهَا، وَهُوَ مُسْرِعٌ خَائِفٌ، ثُمَّ خَرَجَ وَقَدْ خَافَ مِنْ غَائِلَةِ
ذَلِكَ، وَخَشِيَ أَنْ يُقْتَلَ فِي بَعْضِ الدَّهَالِيزِ، فَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ
آلَافٍ لَمَّا خَرَجَ شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى سَلَامَتِهِ، وَازْدَادَ حُبًّا فِي
الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ مِنْ يَوْمِئِذٍ، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا رَأَى
مِنَ الْعَجَائِبِ بِهَا صَنَمٌ مِنْ نُحَاسٍ عَلَى صُورَةِ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ
جِدًّا، وَحَوْلَهَا أَصْنَامٌ صِغَارٌ فِي هَيْئَةِ الْخَدَمِ لَهَا، كَانَ قَدْ
أُتِيَ بِهِ فِي زَمَنِ الْمُقْتَدِرِ، فَأُقِيمَ هُنَاكَ لِيَتَفَرَّجَ عَلَيْهِ
الْجَوَارِي وَالنِّسَاءُ، فَهَمَّ الْمُعِزُّ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ،
ثُمَّ ارْتَأَى فَتَرَكَ ذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا خَرَجَ رَجُلٌ بِالْكُوفَةِ، فَادَّعَى أَنَّهُ
عَلَوِيٌّ، وَكَانَ يَتَبَرْقَعُ فَسُمِّي الْمُبَرْقَعَ، وَغَلُظَتْ قَضِيَّتُهُ
وَبَعُدَ صِيتُهُ، وَذَلِكَ فِي غَيْبَةِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَنْ بَغْدَادَ
وَاشْتِغَالِهِ بِأَمْرِ الْمَوْصِلِ وَنَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَلَمَّا تَوَطَّدَتِ الْأُمُورُ وَعَادَ إِلَى بَغْدَادَ اخْتَفَى الْمُبَرْقَعُ،
وَذَهَبَ فِي الْبِلَادِ، فَلَمْ يُفْتَحْ لَهُ أَمْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَكَّارُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَكَّارِ بْنِ بُنَانِ بْنِ بَكَّارِ بْنِ زِيَادِ
بْنِ دَرَسْتَوَيْهِ،
أَبُو عِيسَى الْمُقْرِئُ
رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَعَنْهُ أَبُو الْحَسَنِ
الْحَمَّامِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً، أَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ
سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا
وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الْخَيْزُرَانِ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي حَنِيفَةَ.
أَبُو إِسْحَاقَ الْهُجَيْمِيُّ
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ إِذَا
سُئِلَ أَنْ يُحَدِّثَ يُقْسِمُ أَنْ لَا يُحَدِّثَ حَتَّى يُجَاوِزَ الْمِائَةَ،
فَأَبِرَّ اللَّهُ قَسَمَهُ، وَجَاوَزَهَا فَأَسْمَعَ. تُوُفِّيَ عَنْ مِائَةِ
سَنَةٍ وَثَلَاثِ سِنِينَ. رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الشِّيعَةُ الْمَآتِمَ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ فِي السَّنَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ
وَعُلِّقَتِ الْمُسُوحُ، وَخَرَجَتِ النِّسَاءُ سَافِرَاتٍ نَاشِرَاتٍ، يَنُحْنَ
وَيَلْطُمْنَ وُجُوهَهُنَّ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْأَزِقَّةِ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ
لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا
أَمْرًا مَحْمُودًا لَكَانَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَخِيرَتُهَا أَوْلَى بِهِ ;
إِذْ لَوْ كَانَ خَيْرًا لَسَبَقُونَا إِلَيْهِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقْتَدُونَ
وَلَا يَبْتَدِعُونَ، وَتَسَلَّطَتْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى الرَّوَافِضِ،
فَكَبَسُوا مَسْجِدَ بَرَاثَا الَّذِي هُوَ عُشُّ الرَّوَافِضِ، وَقَتَلُوا بَعْضَ
مَنْ كَانَ فِيهِ مِنَ الْقَوَمَةِ.
وَفِيهَا فِي رَجَبٍ مِنْهَا جَاءَ مَلِكُ الرُّومِ بِجُيُوشٍ كَثِيفَةٍ إِلَى
الْمِصِّيصَةِ فَفَتَحَهَا قَسْرًا، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا خَلْقًا، وَاسْتَاقَ
بَقِيَّتَهُمْ مَعَهُ أُسَارَى، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ
إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَجَاءَ إِلَى طَرَسُوسَ فَسَأَلَ أَهْلُهَا مِنْهُ الْأَمَانَ، فَأَمَّنَهُمْ،
وَأَمَرَهُمْ بِالْجَلَاءِ عَنْهَا وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا، فَاتَّخَذَ
الْجَامِعَ إِسْطَبْلًا لِخُيُولِهِ، وَحَرَّقَ الْمِنْبَرَ، وَنَقَلَ
قَنَادِيلَهُ إِلَى كَنَائِسِ بَلَدِهِ، وَتَنَصَّرَ بَعْضُ أَهْلِهَا مَعَهُ،
لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ أَهْلُ طَرَسُوسَ وَالْمِصِّيصَةِ قَدْ أَصَابَهُمْ قَبْلَ هَذَا
الْبَلَاءِ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَوَبَاءٌ
شَدِيدٌ بِحَيْثُ كَانَ يَمُوتُ
مِنْهُمْ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثُمِائَةِ نَفَرٍ، ثُمَّ دَهَمَهُمْ هَذَا
الْأَمْرُ الشَّدِيدُ، فَانْتَقَلُوا مِنْ شَهَادَةٍ إِلَى شَهَادَةٍ أَعْظَمَ
مِنْهَا.
وَعَزَمَ مَلِكُ الرُّومِ عَلَى الْمُقَامِ بِطَرَسُوسَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى
بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ عَنَّ لَهُ، فَسَارَ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
وَفِي خِدْمَتِهِ الدُّمُسْتُقُ مَلِكُ الْأَرْمَنِ، لَعَنَهُمَا اللَّهُ.
وَفِيهَا جُعِلَ أَمْرُ تَسْفِيرِ الْحَجِيجِ إِلَى نَقِيبِ الطَّالِبِيِّينَ،
وَكُتِبَ لَهُ مَنْشُورٌ بِالنِّقَابَةِ وَالْحَجِيجِ، وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ
الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى الْمُوسَوِيُّ وَهُوَ وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُخْتُ مُعَزِّ الدَّوْلَةِ، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ فِي
طَيَّارَةٍ، وَجَاءَ إِلَيْهِ فَعَزَّاهُ، فَقَبَّلَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَشَكَرَ لَهُ سَعْيَهُ إِلَيْهِ، وَصَدَقَاتِهِ
عَلَيْهِ.
وَفِي ثَامِنِ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ عِيدَ غَدِيرِ خُمٍّ
عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.
وَفِيهَا تَغَلَّبَ عَلَى أَنْطَاكِيَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَشِيقٌ
النُّسَيْمِيُّ، بِمُسَاعَدَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ.
وَكَانَ يَضْمَنُ الطَّوَاحِينَ، فَأَعْطَاهُ أَمْوَالًا، وَأَطْمَعَهُ فِي أَخْذِ
أَنْطَاكِيَةَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ سَيْفَ الدَّوْلَةِ قَدِ اشْتَغَلَ
بِمَيَّافَارِقِينَ، وَعَجَزَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى حَلَبَ فَتَمَّ لَهُمَا مَا
رَامَاهُ مِنْ أَخْذِ أَنْطَاكِيَةَ ثُمَّ رَكِبَا مِنْهَا فِي جُيُوشٍ إِلَى
حَلَبَ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ نَائِبِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ حُرُوبٌ
عَظِيمَةٌ، ثُمَّ أَخَذَ الْبَلَدَ،
وَتَحَصَّنَ النَّائِبُ بِالْقَلْعَةِ،
وَجَاءَتِ النَّجْدَةُ مِنْ سَيْفِ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ مَعَ غُلَامٍ لَهُ
اسْمُهُ بِشَارَةُ، فَانْهَزَمَ رَشِيقٌ، فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ، فَابْتَدَرَهُ
بَعْضُ الْأَعْرَابِ، فَقَتَلَهُ وَأَخَذَ رَأْسَهُ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى حَلَبَ
وَاسْتَقَلَّ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ سَائِرًا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَأَقَامَ
رَجُلًا مِنَ الرُّومِ اسْمُهُ دَزْبَرُ، فَسَمَّاهُ الْأَمِيرَ، وَأَقَامَ آخَرَ
مِنَ الْعَلَوِيِّينَ لِيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً، وَسَمَّاهُ الْأُسْتَاذَ،
فَقَصَدَهُ نَائِبُ حَلَبَ وَهُوَ قَرْعُوَيْهِ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا شَدِيدًا،
فَهَزَمَهُ ابْنُ الْأَهْوَازِيِّ وَاسْتَقَرَّ بِأَنْطَاكِيَةَ، فَلَمَّا عَادَ
سَيْفُ الدَّوْلَةِ إِلَى حَلَبَ لَمْ يَبِتْ بِهَا إِلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً
حَتَّى سَارَ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ
انْهَزَمَ دَزْبَرُ وَابْنُ الْأَهْوَازِيِّ وَأُسِرَا، فَقَتَلَهُمَا سَيْفُ
الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا ثَارَ رَجُلٌ مِنَ الْقَرَامِطَةِ اسْمُهُ مَرْوَانُ، كَانَ يَحْفَظُ
الطُّرُقَاتِ لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحِمْصَ، فَمَلَكَهَا وَمَا حَوْلَهَا،
فَقَصَدَهُ جَيْشٌ مِنْ حَلَبَ مَعَ الْأَمِيرِ بَدْرٍ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُ،
فَرَمَاهُ بَدْرٌ بِسَهْمٍ مَسْمُومٍ فَأَصَابَهُ، وَاتَّفَقَ أَنْ أَسَرَ
أَصْحَابُ مَرْوَانَ بَدْرًا، فَقَتَلَهُ مَرْوَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَبْرًا، وَمَاتَ
مَرْوَانُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِيهَا عَصَى أَهْلُ سِجِسْتَانَ أَمِيرَهُمْ خَلَفَ بْنَ أَحْمَدَ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ حَجَّ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ طَاهِرَ
بْنَ الْحُسَيْنِ فَطَمِعَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ، وَاسْتَمَالَ أَهْلَ
الْبَلَدِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحَجِّ لَمْ يُسَلِّمْهُ الْبَلَدَ، وَعَصَى
عَلَيْهِ، فَذَهَبَ
إِلَى بُخَارَى إِلَى الْأَمِيرِ
مَنْصُورِ بْنِ نُوحٍ السَّامَانِيِّ فَاسْتَنْجَدَهُ، فَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشًا، فَاسْتَنْقَذَ
الْبَلَدَ مِنْ طَاهِرٍ، وَسَلَّمَهَا إِلَى الْأَمِيرِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ -
وَقَدْ كَانَ خَلَفٌ عَالِمًا مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ - فَذَهَبَ طَاهِرٌ،
فَجَمَعَ جُمُوعًا، ثُمَّ جَاءَ فَحَاصَرَ خَلَفًا، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَلَدَ،
فَرَجَعَ خَلَفٌ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ فَبَعَثَ مَعَهُ مَنِ
اسْتَرْجَعَ لَهُ الْبَلَدَ ثَانِيَةً، وَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا
اسْتَقَرَّ خَلَفٌ بِهَا وَتَمَكَّنَ مِنْهَا، مَنَعَ مَا كَانَ يَحْمِلُهُ مِنَ
الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ وَالْخِلَعِ إِلَى الْأَمِيرِ مَنْصُورٍ السَّامَانِيِّ
بِبُخَارَى، فَبَعَثَ إِلَيْهِ جَيْشًا، فَتَحَصَّنَ خَلْفٌ فِي حِصْنٍ يُقَالُ
لَهُ: حِصْنُ أَرْكَ. فَنَازَلَهُ الْجَيْشُ فِيهِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَقْدِرُوا
عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِمَنَاعَةِ هَذَا الْحِصْنِ وَصُعُوبَتِهِ وَعُمْقِ
خَنْدَقِهِ وَارْتِفَاعِهِ، وَسَيَأْتِي مَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قَصَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ التُّرْكِ بِلَادَ الْخَزَرِ، فَاسْتَنْجَدَ
الْخَزَرُ بِأَهْلِ خُوَارِزْمَ فَقَالُوا: لَوْ أَسْلَمْتُمْ لَنَصَرْنَاكُمْ.
فَأَسْلَمُوا إِلَّا مَلِكُهُمْ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمُ التُّرْكَ، فَأَجْلَوْهُمْ
عَنْهُمْ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمُتَنَبِّي الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ أَبُو الطَّيِّبِ الْجُعْفِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْمُتَنَبِّي، كَانَ أَبُوهُ يُعَرَفُ بِعِيدَانَ
السَّقَّاءِ،
وَكَانَ يَسْتَقِي الْمَاءَ لِأَهْلِ
الْكُوفَةِ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ.
وَعِيدَانُ هَذَا، قَالَ ابْنُ مَاكُولَا وَالْخَطِيبُ: هُوَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ
وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ. وَقِيلَ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَا
كَسْرِهَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
كَانَ مَوْلِدُ الْمُتَنَبِّي بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَنَشَأَ بِالشَّامِ بِالْبَادِيَةِ، وَطَلَبَ الْأَدَبَ، فَفَاقَ أَهْلَ
زَمَانِهِ فِيهِ، وَلَزِمَ جَنَابَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ
وَامْتَدَحَهُ وَحَظِيَ عِنْدَهُ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مِصْرَ، فَامْتَدَحَ
كَافُورًا الْإِخْشِيدِيَّ ثُمَّ هَجَاهُ، وَهَرَبَ مِنْهُ، وَوَرَدَ بَغْدَادَ
فَامْتَدَحَ بَعْضَ أَهْلِهَا، وَقُرِئَ عَلَيْهِ دِيوَانُهُ فِيهَا.
وَقَدِمَ الْكُوفَةَ فَامْتَدَحَ ابْنَ الْعَمِيدِ، فَوَصَلَهُ مِنْ جِهَتِهِ
ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى فَارِسَ فَامْتَدَحَ عَضُدَ
الدَّوْلَةِ بْنَ بُوَيْهِ، فَأَطْلَقَ لَهُ أَمْوَالًا جَزِيلَةً تُقَارِبُ
مِائَتَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: بَلْ حَصَلَ لَهُ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ دَسَّ إِلَيْهِ مَنْ يَسْأَلُهُ: أَيُّمَا أَحْسَنُ ;
عَطَايَا عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، أَوْ عَطَايَا سَيْفِ الدَّوْلَةِ
بْنِ حَمْدَانَ ؟ فَقَالَ: هَذِهِ أَجْزَلُ وَلَكِنَّ فِيهَا تَكَلُّفٌ، وَتِلْكَ
أَقَلُّ وَلَكِنْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ مُعْطِيهَا ; لِأَنَّهَا عَنْ طَبِيعَةٍ
وَهَذِهِ عَنْ تَكَلُّفٍ. فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ،
وَدَسَّ إِلَيْهِ طَائِفَةً مِنَ الْأَعْرَابِ، فَوَقَفُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى بَغْدَادَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ كَانَ هَجَا
مُقَدِّمَهُمُ ابْنَ فَاتَكٍ الْأَسَدِيَّ - وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ
الطَّرِيقَ - فَلِهَذَا أَوْعَزَ إِلَيْهِمْ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ
يَتَعَرَّضُوا لَهُ فَيَقْتُلُوهُ، وَيَأْخُذُوا مَا مَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ،
فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ وَهُمْ سِتُّونَ رَاكِبًا فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ
رَمَضَانَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ
لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ. وَيُقَالُ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ.
وَقَدْ نَزَلَ عِنْدَ عَيْنٍ تَحْتَ شَجَرَةِ إِنْجَاصٍ، وَقَدْ وُضِعَتْ
سُفْرَتُهُ لِيَتَغَدَّى وَمَعَهُ وَلَدُهُ مُحَسَّدٌ وَخَمْسَةَ عَشَرَ غُلَامًا
لَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: هَلُمُّوا يَا وُجُوهَ الْعَرَبِ. فَلَمَّا لَمْ
يُكَلِّمُوهُ أَحَسَّ بِالشَّرِّ، فَنَهَضَ إِلَى سِلَاحِهِ وَخَيْلِهِ،
فَتَوَاقَفُوا سَاعَةً، فَقُتِلَ ابْنُهُ مُحَسَّدٌ وَبَعْضُ غِلْمَانِهِ،
وَأَرَادَ هُوَ أَنْ يَنْهَزِمَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ،
وَأَنْتَ الْقَائِلُ:
فَالْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي وَالْحَرْبُ وَالضَّرْبُ
وَالْقِرْطَاسُ وَالْقَلَمُ
فَقَالَ: وَيْحَكَ ! قَتَلْتَنِي. ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا، فَطَعَنَ زَعِيمَ
الْقَوْمِ بِرُمْحٍ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَشَجَرُوهُ
بِالرِّمَاحِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ، وَذَلِكَ بِالْقُرْبِ مِنَ النُّعْمَانِيَّةِ، وَهُوَ آيِبٌ إِلَى
بَغْدَادَ وَدُفِنَ هُنَالِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعُونَ
سَنَةً.
وَذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فِي الْمَنْزِلَةِ الَّتِي
كَانَتْ قَبْلَ مَنْزِلَتِهِ هَذِهِ ; سَأَلَهُ بَعْضُ الْأَعْرَابِ أَنْ
يُعْطِيَهُمْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَيَخْفِرُونَهُ، فَمَنَعَهُ الشُّحُّ وَالْكِبْرُ
وَدَعْوَى الشَّجَاعَةِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ الْمُتَنَبِّي جُعْفِيَّ النَّسَبِ، صُلْبُهُ مِنْهُمْ، وَقَدِ
ادَّعَى حِينَ كَانَ مَعَ بَنِي كَلْبٍ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ قَرِيبًا مِنْ
حِمْصَ أَنَّهُ عَلَوِيٌّ ثُمَّ حَسَنِيُّ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ،
فَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ جَهَلَتِهِمْ وَسَفِلَتِهِمُ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
أُنْزِلَ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: وَالنَّجْمِ السَّيَّارِ، وَالْفَلَكِ
الدَّوَّارِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِنَّ الْكَافِرَ لَفِي أَخْطَارٍ، امْضِ
عَلَى سُنَّتِكِ وَاقْفُ أَثَرَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَإِنَّ
اللَّهَ قَامِعٌ بِكَ مَنْ أَلْحَدَ فِي دِينِهِ، وَضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ. وَهَذَا
مِنْ خِذْلَانِهِ، وَكَثْرَةِ هَذَيَانِهِ فِي قُرْآنِهِ، وَلَوْ لَزِمَ قَافِيَةَ
مَدْحِهِ، وَالْهِجَاءِ لَكَانَ أَشْعَرَ الشُّعَرَاءِ وَأَفْصَحَ الْفُصَحَاءِ،
وَلَكِنْ أَرَادَ بِجَهْلِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ أَنْ يَقُولَ مَا يُشْبِهُ
كَلَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ
الْأَشْيَاءِ، لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ
وَأَحْوَالِهِ، تَعَالَى اللَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ.
وَلَمَّا اشْتَهَرَ خَبَرُهُ بِأَرْضِ السَّمَاوَةِ، وَأَنَّهُ قَدِ الْتَفَّ
عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ، خَرَجَ إِلَيْهِ نَائِبُ حِمْصَ
مِنْ جِهَةِ بَنِي الْإِخْشِيدِ وَهُوَ الْأَمِيرُ لُؤْلُؤٌ - بَيَّضَ اللَّهُ
وَجْهَهُ - فَقَاتَلَهُ وَشَرَّدَ شَمْلَهُ، وَأَسَرَهُ وَسَجَنَهُ دَهْرًا
طَوِيلًا، فَمَرِضَ فِي السِّجْنِ، وَأَشْرَفَ عَلَى التَّلَفِ، فَاسْتَحْضَرَهُ
وَاسْتَتَابَهُ، وَكَتَبَ عَلَيْهِ كِتَابًا اعْتَرَفَ فِيهِ بِبُطْلَانِ
مَا ادَّعَاهُ، وَأَنَّهُ قَدْ تَابَ
مِنْ ذَلِكَ، وَرَجَعَ إِلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ، فَكَانَ
بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا ذُكِّرَ بِهَذَا يَجْحَدُهُ إِنْ أَمْكَنَهُ جَحْدُهُ
وَإِلَّا اعْتَذَرَ مِنْهُ وَاسْتَحْيَا، وَقَدِ اشْتُهِرَ بِلَفْظَةٍ تَدُلُّ
عَلَى كَذِبِهِ فِيمَا كَانَ ادَّعَاهُ مِنَ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَهِيَ
لَفْظَةُ " الْمُتَنَبِّي " الدَّالَّةُ عَلَى الْكَذِبِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ يَهْجُوهُ:
أَيُّ فَضْلٍ لِشَاعِرٍ يَطْلُبُ الْفَضْ لَ مِنَ النَّاسِ بُكْرَةً وَعَشِيَّا
عَاشَ حِينًا يَبِيعُ فِي الْكُوفَةِ الْمَا ءَ وَحِينًا يَبِيعُ مَاءَ
الْمُحَيَّا
وَلِلْمُتَنَبِّي دِيوَانٌ مَشْهُورٌ فِي الشِّعْرِ، فِيهِ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ
وَمَعَانٍ لَيْسَتْ بِمَسْبُوقَةٍ، بَلْ مُبْتَكَرَةٌ سَابِقَةٌ، وَهُوَ فِي
الشُّعَرَاءِ الْمُحْدَثِينَ كَامْرِئِ الْقَيْسِ فِي الشُّعَرَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ - وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّ يَدِهِ - فِيمَا ذَكَرَ مَنْ لَهُ
خِبْرَةٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، مَعَ تَقَدُّمِ أَمْرِهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ "
قِطَعًا رَائِقَةً اسْتَحْسَنَهَا مِنْ دِيوَانِهِ، وَكَذَلِكَ الْحَافِظُ
الْكَبِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ شَيْخُ إِقْلِيمِهِ وَحَافِظُ
زَمَانِهِ.
فَمِمَّا اسْتَمْلَحَهُ أُسْتَاذُ الْوُعَّاظِ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ
الْجَوْزِيِّ قَوْلُ الْمُتَنَبِّي:
عَزِيزُ أَسًى مَنْ دَاؤُهُ الْحَدَقُ النُّجْلُ عَيَاءٌ بِهِ مَاتَ الْمُحِبُّونَ
مِنْ قَبْلُ
فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْظُرْ إِلَيَّ فَمَنْظَرِي نَذِيرٌ إِلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّ
الْهَوَى سَهْلُ
جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي فِي
مَفَاصِلِي فَأَصْبَحَ لِي عَنْ كُلِّ شُغْلٍ بِهَا شُغْلُ
وَمِنْ جَسَدِي لَمْ يَتْرُكِ السُّقْمُ شَعْرَةً فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا وَفِيهِ
لَهُ فِعْلُ
كَأَنَّ رَقِيبًا مِنْكَ سَدَّ مَسَامِعِي عَنِ الْعَذْلِ حَتَّى لَيْسَ
يَدْخُلُهَا الْعَذْلُ
كَأَنَّ سُهَادَ اللَّيْلِ يَعْشَقُ مُقْلَتِي فَبَيْنَهُمَا فِي كُلِّ هَجْرٍ
لَنَا وَصْلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
كَشَفَتْ ثَلَاثَ ذَوَائِبٍ مِنْ شَعْرِهَا فِي لَيْلَةٍ فَأَرَتْ لَيَالِيَ
أَرْبَعَا
وَاسْتَقْبَلَتْ قَمَرَ السَّمَاءِ بِوَجْهِهَا فَأَرَتْنِيَ الْقَمَرَيْنِ فِي
وَقْتٍ مَعَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا نَالَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي وَلَا سَمِعَتْ بِسِحْرِيَ
بَابِلُ
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ
فَاضِلُ
مَنْ لِي بِفَهْمِ أُهِيلِ عَصْرٍ يَدَّعِي أَنْ يَحْسُبَ الْهِنْدِيَّ مِنْهُمْ
بَاقِلُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ
صَدَاقَتِهِ بُدُّ
وَقَوْلُهُ:
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ
وَقَوْلُهُ:
وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا طَوِيلًا تَقَلَّبَتْ عَلَى عَيْنِهِ حَتَّى يَرَى
صِدْقَهَا كِذْبَا
وَلَهُ أَيْضًا:
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ فِي طَلْعَةِ الشَّمْسِ مَا
يُغْنِيكَ عَنْ زُحَلِ
وَلَهُ فِي مَدْحِ بَعْضِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَمْنَحُ مِنْهُمُ
الْعَطَاءُ:
تَمْضِي الْمَوَاكِبُ وَالْأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ مِنْهَا إِلَى الْمَلِكِ
الْمَيْمُونِ طَائِرُهُ
قَدْ حِرْنَ فِي بِشْرٍ فِي تَاجِهِ قَمَرُ فِي دِرْعِهِ أَسَدٌ تَدْمَى
أَظَافِرُهُ
حُلْوٍ خَلَائِقُهُ شُوسٍ حَقَائِقُهُ يُحْصَى الْحَصَى قَبْلَ أَنْ تُحْصَى
مَآثِرُهُ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ:
يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أُؤَمِّلُهُ وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسَرُهُ وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ
جَابِرُهُ
وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ شَيْخِنَا الْعَلَّامَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ
تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ
كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْمُتَنَبِّي
هَذِهِ الْمُبَالَغَةَ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا يَصْلُحُ هَذَا لِجَنَابِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْبَرَنِي الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ
- أَنَّهُ سَمِعَ الشَّيْخَ يَقُولُ: رُبَّمَا قُلْتُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي
السُّجُودِ.
وَمِمَّا أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ مِنْ شِعْرِ
الْمُتَنَبِّي فِي تَرْجَمَتِهِ قَوْلُهُ:
وَبِعَيْنِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْكَ رَأَيْتَنِي فَهَجَرْتَنِي وَنَزَلْتَ بِي مِنْ
حَالِقِ
لَسْتَ الْمَلُومَ أَنَا الْمَلُومُ لِأَنَّنِي أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي بِغَيْرِ
الْخَالِقِ
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لَيْسَا فِي
دِيوَانِهِ، وَقَدْ عَزَاهُمَا الْحَافِظُ الْكِنْدِيُّ إِلَيْهِ بِسَنَدٍ
صَحِيحٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومٍ فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ
كَطَعْمِ الْمَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَمَا أَنَا بِالْبَاغِي عَلَى الْحُبِّ رِشْوَةً قَبِيحٌ هَوًى يُرْجَى عَلَيْهِ
ثَوَابُ
إِذَا نِلْتُ مِنْكَ الْوُدَّ فَالْمَالُ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ
التُّرَابِ تُرَابُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وُلِدَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَأَنَّهُ قُتِلَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنَ خَلِّكَانَ: وَقَدْ فَارَقَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ بْنَ حَمْدَانَ سَنَةَ
سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ ; لَمَّا كَانَ مِنَ ابْنِ خَالَوَيْهِ مَا كَانَ مِنْ
ضَرْبِهِ إِيَّاهُ بِمِفْتَاحٍ فِي وَجْهِهِ فَأَدْمَاهُ، فَصَارَ إِلَى مِصْرَ،
فَامْتَدَحَ كَافُورًا الْإِخْشِيدِيَّ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَرْبَعَ سِنِينَ،
وَكَانَ الْمُتَنَبِّي يَرْكَبُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ، فَتَوَهَّمَ
مِنْهُ كَافُورٌ فَجْأَةً، فَخَافَ مِنْهُ الْمُتَنَبِّي فَهَرَبَ، فَأَرْسَلَ فِي
إِثْرِهِ فَأَعْجَزَهُ، فَقِيلَ لِكَافُورٍ: مَا قِيمَةُ هَذَا حَتَّى تَتَوَهَّمَ
مِنْهُ ؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا بَعْدَ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفَلَا يَرُومُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا
بِدِيَارِ مِصْرَ ؟
ثُمَّ صَارَ الْمُتَنَبِّي إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَامْتَدَحَهُ فَأَعْطَاهُ
مَالًا كَثِيرًا، ثُمَّ رَجَعَ مِنْ عِنْدِهِ، فَعَرَضَ لَهُ فَاتَكُ بْنُ أَبِي
الْجَهْلِ الْأَسَدِيُّ، فَقَتَلَهُ وَابْنَهُ مُحَسَّدًا وَغُلَامَهُ
مُفْلِحًا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لَسِتٍّ
بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ، وَقِيلَ: لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ رَمَضَانَ.
وَقِيلَ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثَمَانٍ - وَقِيلَ: لِخَمْسٍ - بَقِينَ مِنْهُ.
وَذَلِكَ بِسَوَادِ بَغْدَادَ.
وَقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ، وَقَدْ شَرَحَ دِيوَانَهُ الْعُلَمَاءُ بِالشِّعْرِ
وَاللُّغَةِ نَحْوًا مِنْ سِتِّينَ شَرْحًا وَجِيزًا وَبَسِيطًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ أَيْضًا:
أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ بْنُ حِبَّانَ، صَاحِبُ الصَّحِيحِ.
مُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حِبَّانَ بْنِ مُعَاذِ بْنِ مَعْبَدٍ
أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيُّ
صَاحِبُ " الْأَنْوَاعِ وَالتَّقَاسِيمِ "، وَأَحَدُ الْحُفَّاظِ
الْكِبَارِ الْمُصَنِّفِينَ الْمُجْتَهِدِينَ، رَحَلَ إِلَى الْبُلْدَانِ وَسَمِعَ
الْكَثِيرَ مِنَ الْمَشَايِخِ، ثُمَّ وَلِيَ قَضَاءَ بَلَدِهِ، وَمَاتَ بِهَا فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ حَاوَلَ بَعْضُهُمُ الْكَلَامَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ
مُعْتَقَدِهِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ،
وَهِيَ نَزْعَةٌ فَلْسَفِيَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهَا عَنْهُ. وَقَدْ
ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
مِقْسَمٍ، أَبُو بَكْرِ بْنُ مِقْسَمٍ
الْعَطَّارُ الْمُقْرِئُ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ
الْمَشَايِخِ، وَرَوَى عَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِالْقِرَاءَاتِ،
وَلَهُ كِتَابٌ فِي النَّحْوِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكُوفِيِّينَ، سَمَّاهُ كِتَابَ
" الْأَنْوَارِ ".
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَهُ، وَلَهُ تَصَانِيفُ أُخْرَى،
وَلَكِنْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِسَبَبِ تَفَرُّدِهِ بِقِرَاءَاتٍ لَا تَجُوزُ
عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُخَالِفُ
الرَّسْمَ وَيَسُوغُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، تَصِحُّ الْقِرَاءَةُ
بِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [
يُوسُفُ: 80 ] أَيْ يَتَنَاجَوْنَ، قَالَ: لَوْ قُرِئَ نَجِيبًا مِنَ النَّجَابَةِ
لَكَانَ قَوِيًّا. وَقَدِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ، وَكُتِبَ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ
قَدْ رَجَعَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا كَانَ
يَذْهَبُ إِلَيْهِ حَتَّى مَاتَ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدُوَيْهِ بْنِ مُوسَى،
أَبُو بَكْرٍ الشَّافِعِيُّ
وُلِدَ بِجَبُّلَ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَسَكَنَ
بَغْدَادَ وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا كَثِيرَ الرِّوَايَةِ، سَمِعَ مِنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِفَضَائِلِ
الصَّحَابَةِ حِينَ مَنَعَتِ الدَّيْلَمُ مِنْ ذَلِكَ جَهْرَةً فِي الْجَامِعِ
بِمَدِينَةِ الْمَنْصُورِ مُخَالَفَةً لَهُمْ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْجِدِهِ بِبَابِ
الشَّامِ. وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِبَغْدَادَ بِدْعَتَهُمُ
الشَّنْعَاءَ وَفِتْنَتَهُمُ الصَّلْعَاءَ. وَفِيهَا أَخَذَتِ الْقَرَامِطَةُ
الْهَجَرِيُّونَ عُمَانَ.
وَفِيهَا قَصَدَتِ الرُّومُ آمِدَ فَحَاصَرُوهَا، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا،
وَلَكِنْ قَتَلُوا مِنْ أَهْلِهَا ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَسَرُوا مِنْهُمْ
أَرْبَعَمِائَةٍ، ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَصِيبِينَ وَفِيهَا سَيْفُ الدَّوْلَةِ،
فَهَمَّ بِالْهَرَبِ مَعَ الْعَرَبِ، ثُمَّ تَأَخَّرَ مَجِيءُ الرُّومِ، فَثَبَتَ
مَكَانَهُ، وَقَدْ كَادُوا يُزِيلُونَ أَرْكَانَهُ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنْ جَيْشِ خُرَاسَانَ فِي بِضْعَةَ عَشَرَ أَلْفًا،
يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ غَزْوَ الرُّومِ، فَأَكْرَمَهُمْ رُكْنُ
الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ، وَأَمِنُوا إِلَيْهِمْ، فَنَهَضُوا إِلَيْهِمْ،
لِيَأْخُذُوا الدَّيْلَمَ عَلَى غِرَّةٍ، فَقَاتَلَهُمْ رُكْنُ الدَّوْلَةِ،
فَظَفِرَ بِهِمْ - لِأَنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ - وَهَرَبَ أَكْثَرُهُمْ.
وَفِيهَا خَرَجَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى وَاسِطٍ لِقِتَالِ
عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ حِينَ تَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِهِ، وَاشْتَهَرَ فِي
تِلْكَ النَّوَاحِي صِيتُ ذِكْرِهِ، فَقَوِيَ الْمَرَضُ بِمُعِزِّ الدَّوْلَةِ،
فَاسْتَنَابَ عَلَى الْحَرْبِ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
السَّنَةِ الْآتِيَةِ
كَمًّا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِيهَا قَوِيَ أَمْرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّاعِي بِبِلَادِ
الدَّيْلَمِ، وَأَظْهَرَ النُّسُكَ وَالْعِبَادَةَ، وَلَبِسَ الصُّوفَ، وَكَتَبَ
إِلَى الْآفَاقِ - حَتَّى إِلَى بَغْدَادَ - يَدْعُو إِلَى الْجِهَادِ.
وَفِيهَا تَمَّ الْفِدَاءُ بَيْنَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ الرُّومِ،
فَاسْتَنْقَذَ مِنْهُمْ أُسَارَى كَثِيرَةً، مِنْهُمُ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو فِرَاسِ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ حِصْنٍ الْقَاضِيَ،
وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ نُودِيَ بِرَفْعِ الْمَوَارِيثِ الْحَشْرِيَّةِ، وَأَنْ
تُرَدَّ إِلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ.
وَفِيهَا ابْتَدَأَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ فِي بِنَاءِ مَارَسْتَانٍ،
وَأَرْصَدَ لَهُ أَوْقَافًا جَزِيلَةً.
وَفِيهَا قَطَعَتْ بَنُو سُلَيْمٍ السَّابِلَةَ عَلَى الْحَجِيجِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ
وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ أَلْفَ بَعِيرٍ
بِأَحْمَالِهَا، وَكَانَ عَلَيْهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ مَا لَا
يُقَوَّمُ كَثْرَةً، وَكَانَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْخَوَاتِيمِيِّ،
قَاضِي طَرَسُوسَ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ عَيْنًا،
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّحَوُّلَ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ
بَعْدَ الْحَجِّ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَحِينَ أُخِذَتِ
الْجِمَالُ تَرَكُوهُمْ عَلَى بَرْدِ الدِّيَارِ لَا شَيْءَ لَهُمْ، فَقَلَّ
مِنْهُمْ مَنْ سَلِمَ، وَمَا أَكْثَرَ مَنْ عَطِبَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ نَقِيبُ
الطَّالِبِيِّينَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ دُوَادَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْعَلَوِيُّ الْحَسَنِيُّ
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: كَانَ شَيْخَ آلِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ،
وَسَيِّدَ الْعَلَوِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ صَلَاةً
وَصَدَقَةً وَمَحَبَّةً لِلصَّحَابَةِ، وَصَحِبْتُهُ مُدَّةً، فَمَا سَمِعْتُهُ
ذَكَرَ عُثْمَانَ إِلَّا قَالَ: الشَّهِيدُ، وَبَكَى، وَمَا سَمِعْتُهُ ذَكَرَ
عَائِشَةَ إِلَّا قَالَ: الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، حَبِيبَةُ حَبِيبِ
اللَّهِ، وَبَكَى.
وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ آبَاؤُهُ
بِخُرَاسَانَ وَفِي سَائِرِ بُلْدَانِهِمْ سَادَاتٍ نُجَبَاءَ، حَيْثُ كَانُوا
مِنْ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ،
لَهُمْ دَانَتْ رِقَابُ بَنِي مَعَدٍّ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ
حَسَّانِ بْنِ الْوَضَّاحِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْبَارِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْوَضَّاحِيِّ، كَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ الْمَحَامِلِيِّ وَابْنِ مَخْلَدٍ وَأَبِي رَوْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ
الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ، وَكَانَ أَشْعَرَ مَنْ
فِي وَقْتِهِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ:
سَقَى اللَّهُ بَابَ الْكَرْخِ رَبْعًا
وَمَنْزِلًا وَمَنْ حَلَّهُ صَوْبَ السَّحَابِ الْمُجَلْجِلِ فَلَوْ أَنَّ بَاكِي
دِمْنَةِ الدَّارِ بِاللِّوَى
وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ رَأَى عَرَصَاتِ الْكَرْخِ أَوْ حَلَّ
أَرْضَهَا
لَأَمْسَكَ عَنْ ذِكْرِ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَعَّابِيِّ: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلْمِ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ سَيَّارٍ، أَبُو بَكْرِ بْنُ الْجَعَّابِيِّ
قَاضِي الْمَوْصِلِ وُلِدَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
وَمِائَتَيْنِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَتَخَرَّجَ بِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ
عُقْدَةَ، وَأَخَذَ عَنْهُ عِلْمَ الْحَدِيثِ وَشَيْئًا مِنَ التَّشَيُّعِ
أَيْضًا، وَكَانَ حَافِظًا مُكْثِرًا مُطَبِّقًا، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، وَيُذَاكِرُ
بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَيَحْفَظُ مِنَ الْمَرَاسِيلِ وَالْمَقَاطِيعِ
وَالْحِكَايَاتِ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَيَحْفَظُ أَسْمَاءَ الرِّجَالِ
وَجَرْحَهُمْ وَتَعْدِيلَهُمْ وَأَوْقَاتَ وَفَيَاتِهِمْ وَمَذَاهِبَهُمْ، حَتَّى
تَقَدَّمَ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ، وَفَاقَ سَائِرَ أَقْرَانِهِ.
وَكَانَ يَجْلِسُ لِلْإِمْلَاءِ فَيَزْدَحِمُ النَّاسُ عِنْدَ مَنْزِلِهِ،
وَإِنَّمَا كَانَ يُمْلِي مِنْ حَفِظَهُ
إِسْنَادَ الْحَدِيثِ وَمَتْنَهُ
مُحَرَّرًا جَيِّدًا صَحِيحًا. وَقَدْ نُسِبَ إِلَى التَّشَيُّعِ كَأُسْتَاذِهِ
ابْنِ عُقْدَةَ، وَكَانَ يَسْكُنُ بَابَ الْبَصْرَةِ عِنْدَهُمْ.
وَقَدْ سُئِلَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ، فَقَالَ: خَلَّطَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَرْقَانِيُّ: كَانَ صَاحِبَ غَرَائِبَ، وَمَذْهَبُهُ
مَعْرُوفٌ فِي التَّشَيُّعِ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ قِلَّةُ دِينٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا احْتُضِرَ أَوْصَى أَنْ تُحْرَقَ كُتُبُهُ فَحُرِقَتْ، وَحُرِقَ مَعَهَا
كُتُبٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ كَانَتْ عِنْدَهُ. فَبِئْسَ مَا عَمِلَ. وَحِينَ
أَخْرَجَ جِنَازَتَهُ كَانَتْ سُكَيْنَةُ نَائِحَةُ الرَّافِضَةِ تَنَوحُ عَلَيْهِ
فِي جِنَازَتِهِ.
تَرْجَمَةُ النِّقْفُورِ مِلْكِ الْأَرْمَنِ، وَاسْمُهُ الدُّمُسْتُقُ
الَّذِي تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ - وَقِيلَ: سِتٍّ - وَخَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ. لَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
كَانَ هَذَا الْمَلْعُونُ مِنْ
أَغْلَظِ الْمُلُوكِ قَلْبًا، وَأَشَدِّهِمْ كُفْرًا، وَأَقْوَاهُمْ بَأْسًا،
وَأَحَدِّهِمْ شَوْكَةً، وَأَكْثَرِهِمْ قِتَالًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِهِ، اسْتَحْوَذَ
فِي أَيَّامِهِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - عَلَى كَثِيرٍ مِنَ السَّوَاحِلِ، أَوْ
أَكْثَرِهَا، وَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ قَسْرًا، وَاسْتَمَرَّتْ
فِي يَدِهِ قَهْرًا، وَأُضِيفَتْ إِلَى مَمْلَكَةِ الرُّومِ قَدَرًا، وَذَلِكَ
لِتَقْصِيرِ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ فِيهِمْ
وَكَثْرَةِ الْعِصْيَانِ.
وَقَدْ وَرَدَ حَلَبَ فِي مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ بَغْتَةً فِي سَنَةِ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ، وَجَالَ فِيهَا جَوْلَةً، فَفَرَّ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صَاحِبُهَا
سَيْفُ الدَّوْلَةِ، فَفَتَحَهَا اللَّعِينُ عَنْوَةً، وَقَتَلَ مِنْ أَهْلِهَا
مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَخَرَّبَ دَارَ
سَيْفِ الدَّوْلَةِ الَّتِي كَانَتْ ظَاهِرَ حَلَبَ وَأَخَذَ أَمْوَالَهَا
وَحَوَاصِلَهَا وَعُدَدَهَا، وَبَدَّدَ شَمْلَهَا، وَفَرَّقَ عَدَدَهَا،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْمَلْعُونِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ. وَبَالَغَ فِي الِاجْتِهَادِ فِي قِتَالِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ،
وَجَدَّ فِي التَّشْمِيرِ، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
وَقَدْ كَانَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - لَا يَدْخُلُ فِي بَلْدَةٍ إِلَّا قَتَلَ
الْمُقَاتِلَةَ وَبَقِيَّةَ الرِّجَالِ، وَسَبَى النِّسَاءَ وَالْأَطْفَالَ،
وَجَعَلَ جَامِعَهَا إِصْطَبْلًا لِخُيُولِهِ، وَكَسَرَ مِنْبَرَهَا، وَأَسْكَتَ
مُؤَذِّنِيهَا بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَطُبُولِهِ. وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مِنْ
دَأْبِهِ وَدَيْدَنِهِ حَتَّى سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ
زَوْجَتَهُ، فَقَتَلَتْهُ
بِجَوَارِيهَا فِي وَسَطِ مَسْكَنِهِ، وَأَرَاحَ اللَّهُ مِنْهُ الْإِسْلَامَ
وَأَهْلَهُ، وَأَزَاحَ عَنْهُمْ قَتَامَ ذَلِكَ الْغَمَامِ، وَمَزَّقَ شَمْلَهُ،
فَلِلَّهِ النِّعْمَةُ وَالْإِفْضَالُ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَاتَّفَقَ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ مَوْتُ صَاحِبِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ
فَتَكَامَلَتِ الْمَسَرَّاتُ، وَحَصَلَتِ الْأُمْنِيَّةُ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ وَتَذْهَبُ السَّيِّئَاتُ،
وَبِرَحْمَتِهِ تُغْفَرُ الزَّلَّاتُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا اللَّعِينَ - أَعْنِي النِّقْفُورَ الْمُلَقَّبَ
بِالدُّمُسْتُقِ مَلِكَ الْأَرْمَنِ - كَانَ قَدْ أَرْسَلَ قَصِيدَةً إِلَى
الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ نَظَمَهَا لَهُ بَعْضُ كُتَّابِهِ - مِمَّنْ
كَانَ قَدْ خَذَلَهُ اللَّهُ وَأَذَلَّهُ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ،
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً، وَصَرَفَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَأَصْلِهِ -
يَفْتَخِرُ فِيهَا لِهَذَا اللَّعِينِ، وَيَتَعَرَّضُ لِسَبِّ الْإِسْلَامِ
وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَتَوَعَّدُ فِيهَا أَهْلَ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ بِأَنَّهُ
سَيَمْلِكُهَا كُلَّهَا حَتَّى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، عَمَّا قَرِيبٍ مِنَ
الْأَعْوَامِ، وَهُوَ أَقَلُّ وَأَذَلُّ وَأَخَسُّ وَأَضَلُّ مِنَ الْأَنْعَامِ،
وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ لِدِينِ الْمَسِيحِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ابْنِ
الْبَتُولِ. وَرُبَّمَا يُعَرِّضُ فِيهَا بِجَنَابِ الرَّسُولِ، عَلَيْهِ مِنْ
رَبِّهِ التَّحِيَّةُ وَالْإِكْرَامُ وَدَوَامُ الصَّلَاةِ مَدَى الْأَيَّامِ،
وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ أَنَّهُ رَدَّ
عَلَيْهِ جَوَابَهُ، رُبَّمَا أَنَّهَا لَمْ تَشْتَهِرْ، أَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْا
أَنَّهُ
أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا خِطَابَهُ
; لِأَنَّهُ كَالْمُعَانِدِ الْجَاحِدِ، وَنَفَسُ نَاظِمِهَا يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ شَيْطَانٌ مَارِدٌ. وَقَدِ انْتَخَى لِلْجَوَابِ عَنْهَا فِيمَا بَعْدَ
ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، فَأَفَادَ وَأَجَادَ،
وَأَجَابَ عَنْ كُلِّ فَصْلٍ بَاطِلٍ بِالصَّوَابِ وَالسَّدَادِ، فَبَلَّ اللَّهُ
بِالرَّحْمَةِ ثَرَاهُ، وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُنْقَلَبَهُ وَمَثْوَاهُ.
وَهَا أَنَا أَذْكُرُ الْقَصِيدَةَ الْأَرْمَنِيَّةَ الْمَخْذُولَةَ
الْمَلْعُونَةَ، وَأُتْبِعُهَا بِالْفَرِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمَنْصُورَةِ
الْمَيْمُونَةِ.
قَالَ الْمُرْتَدُّ الْكَافِرُ الْأَرْمَنِيُّ عَلَى لِسَانِ مَلِكِهِ،
لَعَنَهُمَا اللَّهُ وَأَهْلَ مِلَّتِهِمْ أَجْمَعِينَ أَكْتَعِينَ أَبْتَعِينَ
أَبْصَعِينَ، آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَمِنْ خَطِّ ابْنِ عَسَاكِرَ
كَتَبْتُهَا، وَقَدْ نَقَلُوهَا مِنْ كِتَابِ " صِلَةِ الصِّلَةِ "
لِلْفَرْغَانِيِّ:
مِنَ الْمَلِكِ الطُّهْرِ الْمَسِيحِيِّ مَالِكٍ إِلَى خَلَفِ الْأَمْلَاكِ مِنْ
آلِ هَاشِمِ إِلَى الْمَلِكِ الْفَضْلِ الْمُطِيعِ أَخِي الْعُلَا
وَمَنْ يُرْتَجَى لِلْمُعْضِلَاتِ الْعَظَائِمِ أَمَا سَمِعَتْ أُذْنَاكَ مَا
أَنَا صَانِعٌ
بَلَى فَدَهَاكَ الْوَهْنُ عَنْ فِعْلِ حَازِمِ
فَإِنْ تَكُ عَمَّا قَدْ تَقَلَّدْتَ
نَائِمًا
فَإِنِّيَ عَمَّا هَمَّنِي غَيْرُ نَائِمِ ثُغُورُكُمُ لَمْ يَبْقَ فِيهَا
لِوَهْنِكُمْ
وَضَعْفِكُمُ إِلَّا رُسُومُ الْمَعَالِمِ فَتَحْنَا الثُّغُورَ الْأَرْمَنِيَّةَ
كُلَّهَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ كَاللُّيُوثِ الضَّرَاغِمِ وَنَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ
تَعْلُكُ لُجْمَهَا
وَيَبْلُغُ مِنْهَا قَضْمُهَا لِلشَّكَائِمِ إِلَى كُلِّ ثَغْرٍ بِالْجَزِيرَةِ
آهِلٍ
إِلَى جُنْدِ قِنَّسْرِينِكُمْ فَالْعَوَاصِمِ مَلَطْيَهْ مَعَ سْمَيْسَاطَ مِنْ
بَعْدِ كَرْكَرٍ
وَفِي الْبَحْرِ أَضْعَافُ الْفُتُوحِ التَّوَاخِمِ وَبِالْحَدَثِ الْحَمْرَاءِ
جَالَتْ عَسَاكِرِي
وَكَيْسُومَ بَعْدَ الْجَعْفَرِيِّ الْمَعَالِمِ وَكَمْ قَدْ ذَلَلْنَا مِنْ
أَعِزَّةِ أَهْلِهَا
فَصَارُوا لَنَا مِنْ بَيْنِ عَبْدٍ وَخَادِمِ وَسَدِّ سَرُوجٍ إِذْ خَرَبْنَا
بِجَمْعِنَا
لِمِئْذَنَةٍ تَعْلُو عَلَى كُلِّ قَائِمِ وَأَهْلُ الرُّهَا لَاذُوا بِنَا
وَتَحَزَّمُوا
بِمِنْدِيلِ مَوْلًى جَلَّ عَنْ وَصْفِ آدَمِ وَصَبَّحَ رَأْسَ الْعَيْنِ مِنَّا
بَطَارِقٌ
بِبَيْضٍ غَذَوْنَاهَا بِضَرْبِ الْجَمَاجِمِ وَدَارَا وَمَيَّافَارِقِينَ
وَأَرْزَنَا
صَبَحْنَاهُمُ بِالْخَيْلِ مِثْلِ الضَّرَاغِمِ وَأَقْرِيطِشٌ جَرَتْ إِلَيْهَا
مَرَاكِبِي
عَلَى ظَهْرِ بِحَرٍ مُزْبِدٍ مُتَلَاطِمِ
فَحُزْتُهُمُ أَسْرَى وَسِيقَتْ
نِسَاؤُهُمْ
ذَوَاتُ الشُّعُورِ الْمُسْبِلَاتِ الْفَوَاحِمِ هُنَاكَ فَتَحْنَا عَيْنَ
زَرْبَةَ عَنْوَةً
نَعَمْ وَأَبَدْنَا كُلَّ طَاغٍ وَظَالِمِ إِلَى حَلَبٍ حَتَّى اسْتَبَحْنَا
حَرِيمَهَا
وَهَدَّمَ مِنْهَا سُورَهَا كُلُّ هَادِمِ أَخَذْنَا النِّسَا ثُمَّ الْبَنَاتِ
نَسُوقُهُمْ
وَصِبْيَانَهُمْ مِثْلَ الْمَمَالِيكِ خَادِمِ وَقَدْ فَرَّ عَنْهَا سَيْفُ دَوْلَةِ
دِينِكُمْ
وَنَاصِرُهَا مِنَّا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ وَمِلْنَا عَلَى طَرَسُوسَ مَيْلَةَ
هَائِلٍ
أَذَقْنَا لِمَنْ فِيهَا لِحَزِّ الْحَلَاقِمِ فَكَمْ ذَاتِ عِزٍّ حُرَّةٍ
عَلَوِيَّةٍ
مُنَعَّمَةِ الْأَطْرَافِ رَيَّا الْمَعَاصِمِ سَبَيْنَا فَسُقْنَا خَاضِعَاتٍ
حَوَاسِرًا
بِغَيْرِ مُهُورٍ لَا وَلَا حُكْمِ حَاكِمِ وَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ قَدْ تَرَكْنَا
مُجَدَّلًا
يَصُبُّ دَمًا بَيْنَ اللَّهَا وَاللَّهَازِمِ وَكَمْ وَقْعَةٍ فِي الدَّرْبِ
أَفْنَتْ كُمَاتَكُمْ
وَسُقْنَاهُمُ قَسْرًا كَسَوْقِ الْبَهَائِمِ وَمِلْنَا عَلَى أَرْتَاحِكُمْ
وَحَرِيمُهَا
مُدَوَّخَةٌ تَحْتَ الْعَجَاجِ السَّوَاهِمِ فَأَهْوَتْ أَعَالِيهَا وَبُدِّلَ
رَسْمُهَا
مِنَ الْأُنْسِ وَحْشًا بَعْدَ بِيضٍ نَوَاعِمِ إِذَا صَاحَ فِيهَا الْبُومُ
جَاوَبَهُ الصَّدَى
وَأَتْبَعَهُ فِي الرَّبْعِ نَوْحُ الْحَمَائِمِ وَأَنْطَاكُ لَمْ تَبْعُدْ
عَلَيَّ وَإِنَّنِي
سَأَفْتَحُهَا يَوْمًا بِهَتْكِ الْمَحَارِمِ وَمَسْكَنُ آبَائِي دِمَشْقُ
فَإِنَّنِي
سَأُرْجِعُ فِيهَا مُلْكَنَا تَحْتَ خَاتَمِي
وَمِصْرُ سَأَفْتَحْهَا بِسَيْفِيَ
عَنْوَةً
وَآخُذُ أَمْوَالًا بِهَا لِبَهَائِمِي وَأَجْزِيَ كَافُورًا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ
بِمُشْطٍ وَمِقْرَاضٍ وَمَصِّ مَحَاجِمِ أَلَا شَمِّرُوا يَا أَهْلَ حَرَّانَ
شَمِّرُوا
أَتَتْكُمْ جُيُوشُ الرُّومِ مَثْلَ الْغَمَائِمِ فَإِنْ تَهْرُبُوا تَنْجُوا
كِرَامًا وَتَسْلَمُوا
مِنَ الْمَلِكِ الضَّارِي بِقَتْلِ الْمُسَالِمِ هُنَاكَ نَصِيبِينٌ وَمَوْصِلُهَا
إِلَى
جَزِيرَةِ آبَائِي وَمُلْكِ الْأَقَادِمِ سَأَفْتَحُ سَامَرَّا وَكُوثَى
وَعُكْبَرَا
وَتَكْرِيتَهَا مَعْ مَارِدِينَ الْعَوَاصِمِ وَأَقْتُلُ أَهْلِيهَا الرِّجَالَ
بِأَسْرِهِمْ
وَأَغْنَمُ أَمْوَالًا بِهَا لِكَتَايِمِ أَلَا شَمِّرُوا يَا أَهْلَ بَغْدَادَ
وَيْلَكُمْ
فَكُلُّكُمُ مُسْتَضْعَفٌ غَيْرُ رَائِمِ رَضِيتُمْ بِحُكْمِ الدَّيْلَمِيِّ
خَلِيفَةً
فَصِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْعَبِيدِ الدَّيَالِمِ وَيَا قَاطِنِي الرَّمْلَاتِ
وَيْلَكُمُ ارْجِعُوا
إِلَى أَرْضِ صَنْعَاءَ وَأَرْضِ التَّهَائِمِ وَعُودُوا إِلَى أَرْضِ الْحِجَازِ
أَذِلَّةً
وَخَلُّوا بِلَادَ الرُّومِ أَهْلِ الْمَكَارِمِ سَأُلْقِي جُيُوشِي نَحْوَ
بَغْدَادَ سَائِرًا
إِلَى بَابِ طَاقٍ حَيْثُ دَارُ الْقَمَاقِمِ وَأَحْرِقُ أَعْلَاهَا وَأَهْدِمُ
سُورَهَا
وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا عَلَى رَغْمِ رَاغِمِ وَأُحْرِزُ أَمْوَالًا بِهَا
وَأَسِرَّةً
وَأَقْتُلُ مَنْ فِيهَا بِسَيْفِ النَّقَائِمِ وَأَسْرِي بِجَيْشِي نَحْوَ
الَاهْوَازِ مُسْرِعًا
لِإِحْرَازِ دِيبَاجٍ وَخَزِّ السَّوَاسِمِ
وَأُشْعِلُهَا نَهْبًا وَأُخَرِبْ
قُصُورَهَا
وَأَسْبِي ذَرَارِيهَا كَفِعْلِ الْأَقَادِمِ وَمِنْهَا إِلَى شِيرَازَ وَالرَّيِّ
فَاعْلَمُوا
خُرَاسَانُ قَصْدِي وَالْجُيُوشُ لِخَادِمِ إِلَى شَاسِ بَلْخٍ بَعْدَهَا
وَخَوَاتِهَا
وَفَرْغَانَةٍ مَعْ مَرْوِهَا وَالْمَخَازِمِ فَسَابُورُ أُخْرِبُهَا وَأَهْدِمُ
حِصْنَهَا
وَأُورِدُهَا يَوْمًا كَيَوْمِ الْمَسَارِمِ إِلَى السُّوسِ أَقْصَاهَا أُدَمِّرُ
مُلْكَهَا
إِلَى أَصْبَهَانَ الْأَرْضِ شَرْقَ الْأَعَاجِمِ وَكَرْمَانُ لَا أَنْسَى
سِجِسْتَانَ كُلَّهَا
وَكَابُلَهَا الثَّانِي وَمُلْكَ الْأَعَاجِمِ مِنَ الْمَشْرِقِ الْأَقْصَى إِلَى
الْمَغْرِبِ انْثَنَى
إِلَى قَيْرَوَانِ الْأَرْضِ عُرْبِ الْكَتَائِمِ أَسِيرُ بِجُنْدِي نَحْوَ
بَصْرَتِهَا الَّتِي
لَهَا بَحُرُ عَاجٍ رَائِعٍ مُتَلَازِمِ إِلَى وَاسِطٍ وَسْطَ الْعِرَاقِ
وَكُوفَةٍ
بِمَا كَانَ يَوْمًا جَدُّنَا ذُو الْعَزَائِمِ وَأُسْرِعُ مِنْهَا نَحْوَ مَكَّةَ
سَائِرًا
أَجُرُّ جُيُوشًا كَاللَّيَالِي السَّوَاجِمِ فَأَمْلِكُهَا دَهْرًا عَزِيزًا
مُسَلَّمًا
أُقِيمُ بِهَا لِلْحَقِّ كُرْسِيَّ عَالِمِ وَأَحْوِيَ نَجْدًا كُلَّهَا
وَتِهَامَهَا
وَسَرْوَاتِهَا مِنْ مَذْحِجٍ وَقَحَاطِمِ وَأَغْزُو يَمَانًا كُلَّهَا
وَزَبِيدَهَا
وَصَنْعَاءَهَا مَعْ صَعْدَةٍ وَالتَّهَائِمِ إِلَى حَضْرَمَوْتٍ سَهْلِهَا
وَجِبَالِهَا
إِلَى هَجَرٍ أَحْسَائِهَا وَالتَّهَائِمِ
. فَأَتْرُكُهَا أَيْضًا يَبَابًا
بَلَاقِعًا
خَلَاءً مِنَ الْأَهْلِينَ أَرْضَ نَعَائِمِ وَأَحْوِيَ أَمْوَالَ الْيَمَانِينَ
كُلَّهَا
وَمَا جَمَعَ الْقِرْمَاطُ يَوْمَ مَحَارِمِ أَعُودُ إِلَى الْقُدْسِ الَّتِي
شَرُفَتْ لَنَا
بِعِزٍّ مَكِينٍ ثَابِتِ الْأَصْلِ قَائِمِ وَأَعْلُو سَرِيرِي لِلسُّجُودِ
فَيَشْتَفِي
مُلُوكُ بَنِيَ حَوَّا بِحَمْلِ الدَّرَاهِمِ هُنَالِكَ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ
كُلِّ مُسْلِمٍ
لِكُلِّ نَقِيِّ الدِّينِ أَغْلَفَ نَاعِمِ نُصِرْنَا عَلَيْكُمْ حِينَ جَارَ
وُلَاتُكُمْ
وَأَعْلَنْتُمُ بِالْمُنْكَرَاتِ الْعَظَائِمِ قُضَاتُكُمُ بَاعُوا الْقَضَاءَ
بِدِينِهِمْ
كَبَيْعِ ابْنِ يَعْقُوبَ بِبَخْسِ الدَّرَاهِمِ عُدُولُكُمُ بِالزُّورِ يَشْهَدُ
كُلُّهُمْ
وَبِالْبُرِّ وَالْبِرْطِيلِ مَعْ كُلِّ قَائِمِ سَأَفْتَحُ أَرْضَ اللَّهِ
شَرْقًا وَمَغْرِبًا
وَأَنْشُرُ دِينَ الصَّلْبِ نَشْرَ الْعَمَائِمِ فَعِيسَى عَلَا فَوْقَ
السَّمَاوَاتِ عَرْشُهُ
فَفَازَ الَّذِي وَالَاهُ يَوْمَ الْخَصَائِمِ وَصَاحِبُكُمْ فِي التُّرْبِ
أَوْدَى بِهِ الثَّرَى
فَصَارَ رُفَاتًا بَيْنَ تِلْكَ الرَّمَائِمِ تَنَاوَلْتُمُ أَصْحَابَهُ بَعْدَ
مَوْتِهِ
بِسَبٍّ وَقَذْفٍ وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِ
هَذَا آخِرُهَا، لَعَنَ اللَّهُ نَاظِمَهَا وَأَسْكَنَهُ النَّارَ يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ [ غَافِرٍ: 52 ] يَوْمَ يَدْعُو نَاظِمُهَا ثُبُورًا، وَيَصْلَى
سَعِيرًا، وَيُبَاشِرُ ذُلًّا طَوِيلًا وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى
يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ
الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا.
وَهَذَا جَوَابُهَا لِأَبِي مُحَمَّدِ
بْنِ حَزْمٍ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيِّ الْأَنْدَلُسِيِّ، قَالَهَا ارْتِجَالًا
حِينَ بَلَغَتْهُ هَذِهِ الْمَلْعُونَةُ ; غَضَبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، كَمَا
شَاهَدَهُ مَنْ رَآهُ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَغَفَرَ لَهُ
زَلَلَهُ وَخَطَايَاهُ:
مِنَ الْمُحْتَمِي بِاللَّهِ رَبِّ الْعَوَالِمِ وَدِينِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ آلِ
هَاشِمِ
مُحَمَّدٍ الْهَادِي إِلَى اللَّهِ بِالتُّقَى وَبِالرُّشْدِ وَالْإِسْلَامِ
أَفْضَلِ قَائِمِ
عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ مُرَدَّدًا إِلَى أَنْ يُوَافِي الْبَعْثَ كُلُّ
الْعَوَالِمِ
إِلَى قَائِلٍ بِالْإِفْكِ جَهْلًا وَضِلَّةً عَنِ النِّقْفُورِ الْمُفْتَرِي فِي
الْأَعَاجِمِ
دَعَوْتَ إِمَامًا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ آلِهِ بِكَفَّيْهِ إِلَّا كَالرُّسُومِ
الطَّوَاسِمِ
دَهَتْهُ الدَّوَاهِي فِي خِلَافَتِهِ كَمَا دَهَتْ قَبْلَهُ الْأَمْلَاكَ دُهْمُ
الدَّوَاهِمِ
وَلَا عَجَبٌ مِنْ نَكْبَةٍ أَوْ مُلِمَّةٍ تُصِيبُ الْكَرِيمَ الْحُرَّ وَابْنَ
الْأَكَارِمِ
وَلَوْ أَنَّهُ فِي حَالِ مَاضِي جُدُودِهِ لَجُرِّعْتُمُ مِنْهُ سُمُومَ
الْأَرَاقِمِ
عَسَى عَطْفَةٌ لِلَّهِ فِي أَهْلِ دِينِهِ تُجَدِّدُ مِنْهُمْ دَارِسَاتِ
الْمَعَالِمِ
فَخَرْتُمْ بِمَا لَوْ كَانَ فَهْمٌ يُرِيكُمُ حَقَائِقَ حُكْمِ اللَّهِ أَحْكَمِ
حَاكِمِ
إِذَنْ لَعَرَتْكُمْ خَجْلَةٌ عِنْدَ ذِكْرِهِ وَأُخْرِسَ مِنْكُمْ كُلُّ فَاهٍ
مُخَاصِمِ
سَلَبْنَاكُمُ كَرًّا فَفُزْتُمْ
بِغِرَّةٍ مِنَ الْكَرِّ أَفْعَالَ الضِّعَافِ الْعَزَائِمِ
فَطِرْتُمْ سُرُورًا عِنْدَ ذَاكَ وَنَخْوَةً كَفِعْلِ الْمَهِينِ النَّاقِصِ
الْمُتَعَاظِمِ
وَمَا ذَاكَ إِلَّا فِي تَضَاعِيفِ غَفْلَةٍ عَرَتْنَا وَصَرْفُ الدَّهْرِ جَمُّ
الْمَلَاحِمِ
وَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْأُمُورَ تَخَاذُلًا وَدَالَتْ لِأَهْلِ الْجَهْلِ
دَوْلَةُ ظَالِمِ
وَقَدْ شَغَلَتْ فِينَا الْخَلَائِفَ فِتْنَةٌ لِعُبْدَانِهِمْ مِنْ تُرْكِهِمْ
وَالدَّيَالِمِ
بِكُفْرِ أَيَادِيهِمْ وَجَحْدِ حُقُوقِهِمْ بِمَنْ رَفَعُوهُ مِنْ حَضِيضِ
الْبَهَائِمِ
وَثَبْتُمْ عَلَى أَطْرَافِنَا عِنْدَ ذَاكُمُ وُثُوبَ لُصُوصٍ عِنْدَ غَفْلَةِ
نَائِمِ
أَلَمْ نَنْتَزِعْ مِنْكُمْ بِأَيْدٍ وَقُوَّةٍ جَمِيعَ بِلَادِ الشَّامِ ضَرْبَةَ
لَازِمِ
وَمِصْرَ وَأَرْضَ الْقَيْرَوَانِ بِأَسْرِهَا وَأَنْدَلُسًا قَسْرًا بِضَرْبِ
الْجَمَاجِمِ
أَلَمْ تَنْتَصِفُ مِنْكُمْ عَلَى ضَعْفِ حَالِهَا صِقِلِّيَّةٌ فِي بَحْرِهَا
الْمُتَلَاطِمِ
. أَحَلَّتْ بِقُسْطَنْطِينَةٍ كُلُّ نَكْبَةٍ وَسَامَتْكُمُ سُوءَ الْعَذَابِ
الْمُلَازِمِ
مَشَاهِدُ تَقْدِيسَاتِكُمْ وَبُيُوتُهَا لَنَا وَبِأَيْدِينَا عَلَى رَغْمِ
رَاغِمِ
أَمَا بَيْتُ لَحْمٍ وَالْقُمَامَةُ بَعْدَهَا بِأَيْدِي رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ
الْأَعَاظِمِ
وَكُرْسِيُّكُمْ فِي أَرْضِ إِسْكَنْدَرِيَّةٍ وَكُرْسِيُّكُمْ فِي الْقُدْسِ فِي
أُورَشَالِمِ
ضَمَمْنَاهُمُ قَسْرًا بِرَغْمِ
أُنُوفِكُمْ كَمَا ضَمَّتِ السَّاقَيْنِ سُودُ الْأَدَاهِمِ
وَكُرْسِيُّ أَنْطَاكِيَّةٍ كَانَ بُرْهَةً وَدَهْرًا بِأَيْدِينَا بَذُلِّ
الْمَلَاغِمِ
فَلَيْسَ سِوَى كُرْسِيِّ رُومَةَ فِيكُمُ وَكُرْسِيِّ قُسْطَنْطِينَةٍ فِي
الْمَقَادِمِ
وَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِ الْجَمِيعِ بِأَسْرِهِ إِلَيْنَا بِعِزٍّ قَاهِرٍ
مُتَعَاظِمِ
أَلَيْسَ يَزِيدٌ حَلَّ وَسْطَ دِيَارِكُمْ عَلَى بَابِ قُسْطَنْطِينَةٍ
بِالصَّوَارِمِ
وَمَسْلَمَةٌ قَدْ دَاسَهَا بَعْدَ ذَاكُمُ بِجَيْشٍ لُهَامٍ كَاللُّيُوثِ
الضَّرَاغِمِ
وَأَخْدَمَكُمْ بِالذُّلِّ مَسْجِدَنَا الَّذِي بُنِي فِيكُمُ فِي عَصْرِهِ
الْمُتَقَادِمِ
إِلَى جَنْبِ قَصْرِ الْمُلْكِ مِنْ دَارِ مُلْكِكُمْ أَلَا هَذِهِ حَقًّا
صَرِيمَةُ صَارِمِ
وَأَدَّى لِهَارُونَ الرَّشْيدِ مَلِيكُكُمْ إِتَاوَةَ مَغْلُوبٍ وَجِزْيَةَ
غَارِمِ
سَلَبْنَاكُمُ مَسْرَى شُهُورًا بِقُوَّةٍ حَبَانَا بِهَا الرَّحْمَنُ أَرْحَمُ
رَاحِمِ
إِلَى بَيْتِ يَعْقُوبٍ وَأَرْيَافِ دُومَةٍ إِلَى لُجَّةِ الْبَحْرِ الْبَعِيدِ
الْمَحَارِمِ
فَهَلْ سِرْتُمُ فِي أَرْضِنَا قَطُّ جُمْعَةً أَبَى اللَّهُ ذَاكُمْ يَا بَقَايَا
الْهَزَائِمِ
فَمَا لَكُمُ إِلَّا الْأَمَانِيُّ وَحْدَهَا بَضَائِعَ نَوْكَى تِلْكَ أَحْلَامُ
نَائِمِ
رُوَيْدًا يَعُدْ نَحْوَ الْخِلَافَةِ نُورُهَا وَيُسْفِرُ مُغْبَرُّ الْوُجُوهِ
السَّوَاهِمِ
وَحِينَئِذٍ تَدْرُونَ كَيْفَ
فِرَارُكُمْ إِذَا صَدَمَتْكُمْ خَيْلُ جَيْشٍ مُصَادِمِ
عَلَى سَالِفِ الْعَادَاتِ مِنَّا وَمِنْكُمُ لَيَالِيَ أَنْتُمْ فِي عِدَادِ
الْغَنَائِمِ
سُبِيتُمْ سَبَايَا يَحْصَرُ الْعَدُّ دُونَهَا وَسَبْيُكُمْ فِينَا كَقَطْرِ
الْغَمَائِمِ
فَلَوْ رَامَ خَلْقٌ عَدَّهَا رَامَ مُعْجِزًا وَأَنَّى بِتَعْدَادٍ لِرِيشِ
الْحَمَائِمِ
بِأَبْنَاءِ حَمْدَانَ وَكَافُورَ صُلْتُمُ أَرَاذِلَ أَنْجَاسٍ قِصَارِ
الْمَعَاصِمِ
دَعِيُّ وَحَجَّامٌ سَطَوْتُمْ عَلَيْهِمَا وَمَا قَدْرُ مَصَّاصٍ دِمَاءَ
الْمَحَاجِمِ
فَهَلَّا عَلَى دِمْيَانَةٍ قَبْلَ ذَاكَ أَوْ عَلَى مَحَلٍ أَرْبَا رُمَاةُ
الضَّرَاغِمِ
لَيَالِيَ قَادُوكُمْ كَمَا اقْتَادَ جَازِرٌ حَلَائِبَ أَتْيَاسٍ لَحَزِّ
الْحَلَاقِمِ
وَسَاقُوا عَلَى رِسْلٍ بَنَاتِ مُلُوكِكُمْ سَبَايَا كَمَا سِيقَتْ ظِبَاءُ
الصَّرَائِمِ
وَلَكِنْ سَلُوا عَنَّا هِرَقْلًا وَمَنْ خَلَا لَكُمْ مِنْ مُلُوكٍ مُكْرَمِينَ
قُمَاقِمِ
يُخَبِّرْكُمُ عَنَّا الْمُتَوَّجُ مِنْكُمُ وَقَيْصَرُكُمْ عَنْ سَبْيِنَا
لِلْكَرَائِمِ
وَعَمَّا فَتَحْنَا مِنْ مَنِيعِ بِلَادِكُمْ وَعَمَّا أَقَمْنَا فِيكُمُ مِنْ
مَآتِمِ
وَدَعْ كُلَّ نَذْلٍ مُفْتَرٍ لَا تَعُدَّهُ إِمَامًا وَلَا مِنْ مُحْكَمَاتِ
الدَّعَائِمِ
فَهَيْهَاتَ سَامَرَّا وَتَكْرِيتُ مِنْكُمُ إِلَى جَبَلٍ تِلْكُمْ أَمَانِيُّ
هَائِمِ
مَتَى يَتَمَنَّاهَا الضَّعِيفُ وَدُونَهَا تَطَايُرُ هَامَاتٍ وَحَزُّ
الْغَلَاصِمِ
وَمِنْ دُونِ بَغْدَادٍ سُيُوفٌ
حَدِيدَةٌ مَسِيرَةَ شَهْرٍ لِلْفَنِيقِ الْقَوَاصِمِ
مَحَلَّةُ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْخَيْرِ وَالتُّقَى وَمَنْزِلَةٌ مُحْتَلُّهَا
كُلُّ عَالِمِ
دَعُوا الرَّمْلَةَ الصَّهْبَاءَ عَنْكُمْ فَدُونَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
الصِّيدِ كُلُّ مُقَاوِمِ
وَدُونَ دِمَشْقٍ جَمْعُ جَيْشٍ كَأَنَّهُ سَحَائِبُ طَيْرٍ تَنْتَحِي
بِالْقَوَادِمِ
وَضَرْبٌ يُلَقِّي الْكُفْرَ كُلَّ مَذَلَّةٍ كَمَا ضَرَبَ السَّكِّيُّ بِيضَ
الدَّرَاهِمِ
وَمِنْ دُونِ أَكْنَافِ الْحِجَازِ جَحَافِلٌ كَقَطْرِ الْغُيُوثِ الْهَامِلَاتِ
السَّوَاجِمِ
بِهَا مِنْ بَنِي عَدْنَانَ كُلُّ سَمَيْدَعٍ وَمِنْ حَيِّ قَحْطَانٍ كِرَامُ
الْعَمَائِمِ
وَأَمْوَالُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَدِمَاؤُكُمْ بِهَا يُشْتَفَى حَرُّ النُّفُوسِ
الْحَوَائِمِ
وَلَوْ قَدْ لَقِيتُمْ مِنْ قُضَاعَةَ كُبَّةً لَقِيتُمْ ضِرَامًا فِي يَبِيسِ
الْهَشَائِمِ
. إِذَا صَبَّحُوكُمْ ذَكَّرُوكُمْ بِمَا خَلَا لَهُمْ مَعَكُمْ مِنْ مَأْزِقٍ
مُتَلَاحِمِ
زَمَانَ يَقُودُونَ الصَّوَافِنَ نَحْوَكُمْ فَجِئْتُمْ ضَمَانًا أَنَّكُمْ فِي
الْمَغَانِمِ
سَيَأْتِيكُمُ مِنْهُمْ قَرِيبًا عَصَائِبٌ تُنَسِّيكُمُ تَذْكَارَ أَخْذِ
الْعَوَاصِمِ
وَأَرْضُكُمُ حَقًّا سَيَقْتَسِمُونَهَا كَمَا فَعَلُوا دَهْرًا بِعَدْلِ
الْمُقَاسِمِ
وَلَوْ طَرَقَتْكُمُ مِنْ خُرَاسَانَ عُصْبَةٌ وَشِيرَازَ وَالرَّيِّ الْقِلَاعِ
الْقَوَائِمِ
لَمَا كَانَ مِنْكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مَا عَهِدْنَا لَكُمْ ذُلٌّ وَعَضُّ
الْأَبَاهِمِ
فَقَدْ طَالَ مَا زَارُوكُمُ فِي
دِيَارِكُمْ مَسِيرَةَ عبَامٍ بِالْخُيُولِ الصَّلَادِمِ
وَأَمَّا سِجِسْتَانُ وَكَرْمَانُ وَالْأُلَى بِكَابُلَ حَلُّوا فِي بِلَادِ
الْبَرَاهِمِ
وَفِي فَارِسٍ وَالسُّوسِ جَمْعٌ عَرَمْرَمٌ وَفِي أَصْبَهَانَ كُلُّ أَرْوَعَ
عَازِمِ
فَلَوْ قَدْ أَتَاكُمْ جَمْعُهُمْ لَغَدَوْتُمُ فَرَائِسَ لِلْآسَادِ مِثْلَ
الْبَهَائِمِ
وَبِالْبَصْرَةِ الزَّهْرَاءِ وَالْكُوفَةِ الَّتِي سَمَتْ وَبِأَدْنَى وَاسِطٍ
كَالْكَظَائِمِ
جُمُوعٌ تُسَامِي الرَّمْلَ جَمٌّ عَدِيدُهَا فَمَا أَحَدٌ يَنْوِي لِقَاهُمْ
بِسَالِمِ
وَمِنْ دُونِ بَيْتِ اللَّهِ فِي مَكَّةَ الَّتِي حَبَاهَا بِمَجْدٍ لِلثُّرَيَّا
مُزَاحِمِ
مَحَلُّ جَمِيعِ الْأَرْضِ مِنْهَا تَيَقُّنًا مَحَلَّةُ سُفْلِ الْخُفِّ مِنْ
فَصِّ خَاتَمِ
دِفَاعٌ مِنَ الرَّحْمَنِ عَنْهَا بِحَقِّهَا فَمَا هُوَ عَنْهَا كَرَّ طَرْفٍ
بِرَائِمِ
بِهَا دَفَعَ الْأُحْبُوشَ عَنْهَا وَقَبْلَهُمْ بِحَصْبَاءِ طَيْرٍ فِي ذُرَا
الْجَوِّ حَائِمِ
وَجَمْعٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ مَاضٍ عَرَمْرَمٍ حَمَى سُرَّةَ الْبَطْحَاءِ ذَاتِ
الْمَحَارِمِ
وَمِنْ دُونِ قَبْرِ الْمُصْطَفَى وَسْطَ طِيبَةٍ جُمُوعٌ كَمُسْوَدٍّ مِنَ
اللَّيْلِ فَاحِمِ
يَقُودُهُمْ جَيْشُ الْمَلَائِكَةِ الْعُلَا كِفَاحًا وَدَفْعًا عَنْ مُصَلٍّ
وَصَائِمِ
فَلَوْ قَدْ لَقِينَاكُمْ لَعُدْتُمْ رَمَائِمًا بِمَنْ فِي أَعَالِي نَجْدِنَا
وَالتَّهَائِمِ
وَبِالْيَمَنِ الْمَمْنُوعِ فِتْيَانُ غَارَةٍ. إِذَا مَا لَقُوكُمْ كُنْتُمْ
كَالْمَطَاعِمِ
وَفِي حِلَّتَيْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ عُصْبَةٌ مَغَاوِرُ أَنْجَادٍ طِوَالُ
الْبَرَاجِمِ
سَتُفْنِيكُمْ وَالْقِرْمِطِيِّينَ دَوْلَةٌ تَعُودُ لِمَيْمُونِ النَّقِيبَةِ
حَازِمِ
خَلِيفَةُ حَقٍّ يَنْصُرُ الدِّينَ
حُكْمُهُ وَلَا يَتَّقِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمِ
إِلَى وَلَدِ الْعَبَّاسِ تُنْمَى جُدُودُهُ بِفَخْرٍ عَمِيمٍ أَوْ لِزُهْرِ
الْعَبَاشِمِ
مُلُوكٌ جَرَى بِالنَّصْرِ طَائِرُ سَعْدِهِمْ فَأَهْلًا بِمَاضٍ مِنْهُمُ
وَبِقَادِمِ
مَحَلَّتُهُمْ فِي مَسْجِدِ الْقُدْسِ أَوْ لَدَى مَنَازِلِ بَغْدَادَ مَحَلُّ
الْمَكَارِمِ
وَإِنْ كَانَ مِنْ عُلْيَا عَدِيٍّ وَتَيْمِهَا وَمِنْ أَسَدٍ أَهْلِ الصَّلَاحِ
الْحَضَارِمِ
فَأَهْلًا وَسَهْلًا ثُمَّ نُعْمَى وَمَرْحَبًا بِهِمْ مِنْ خِيَارٍ سَالِفِينَ
أَقَادِمِ
هُمُ نَصَرُوا الْإِسْلَامَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا وَهُمْ فَتَحُوا الْبُلْدَانَ
فَتْحَ الْمُرَاغِمِ
رُوَيْدًا فَوَعْدُ اللَّهِ بِالصِّدْقِ وَارِدٌ بِتَجْرِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ
طَعْمَ الْعَلَاقِمِ
سَنَفْتَحُ قُسْطَنْطِينَةَ وَذَوَاتِهَا وَنَجْعَلُكُمْ قُوتَ النُّسُورِ
الْقَشَاعِمِ
وَنَمْلِكُ أَقْصَى أَرْضِكُمْ وَبِلَادِكُمْ وَنُلْزِمُكُمْ ذُلَّ الْجِزَى
وَالْمَغَارِمِ
وَنَفْتَحُ أَرْضَ الصِّينِ وَالْهِنْدِ عَنْوَةً بِجَيْشٍ لِأَرْضِ التُّرْكِ
وَالْخَزْرِ حَاطِمِ
مَوَاعِيدُ لِلرَّحْمَنِ فِينَا صَحِيحَةٌ وَلَيْسَتْ كَأَمْثَالِ الْعُقُولِ
السَّقَائِمِ
إِلَى أَنْ يُرَى الْإِسْلَامُ قَدْ عَمَّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْبِلَادِ
بِالْجُيُوشِ الصَّوَارِمِ
أَتَقْرِنُ يَا مَخْذُولُ دِينَ مُثَلِّثٍ بَعِيدًا عَنِ الْمَعْقُولِ بَادِي
الْمَآثِمِ
تَدِينُ لِمَخْلُوقٍ يَدِينُ عِبَادَهُ فَيَا لَكَ سُحْقًا لَيْسَ يَخْفَى
لِكَاتِمِ
أَنَاجِيلُكُمْ مَصْنُوعَةٌ بِتَكَاذُبٍ كَلَامِ الْأُلَى فِيهَا أَتَوْا بِالْعَظَائِمِ
وُعُودُ صَلِيبٍ مَا تَزَالُونَ
سُجَّدًا لَهُ يَا عُقُولَ الْهَامِلَاتِ السَّوَائِمِ
تَدِينُونَ تَضْلَالًا بِصَلْبِ إِلَهِكُمْ بِأَيْدِي يَهُودٍ أَرْذَلِينَ
أَلَائِمِ
إِلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ تَوْحِيدِ رَبِّنَا. فَمَا دِينُ ذِي دِينٍ لَنَا
بِمُقَاوِمِ
وَصِدْقِ رِسَالَاتِ الَّذِي جَاءَ بِالْهُدَى مُحَمَّدٍ الْآتِي بِدَفْعِ
الْمَظَالِمِ
وَأَذْعَنَتِ الْأَمْلَاكُ طَوْعًا لِدِينِهِ بِبُرْهَانِ صِدْقٍ ظَاهِرٍ فِي
الْمَوَاسِمِ
كَمَا دَانَ فِي صَنْعَاءَ مَالِكُ دَوْلَةٍ وَأَهْلُ عُمَانٍ حَيْثُ رَهْطِ الْجَهَاضِمِ
وَسَائِرُ أَمْلَاكِ الْيَمَانِينَ أَسْلَمُوا وَمِنْ بَلَدِ الْبَحْرَيْنِ قَوْمُ
اللَّهَازِمِ
أَجَابُوا لِدِينِ اللَّهِ دُونَ مَخَافَةٍ وَلَا رَغْبَةٍ تَحْظَى بِهَا كَفُّ
عَادِمِ
فَحَلُّوا عُرَى التِّيجَانِ طَوْعًا وَرَغْبَةً بِحَقٍّ يَقِينٍ بِالْبَرَاهِينِ
نَاجِمِ
وَحَابَاهُ بِالنَّصْرِ الْمَكِينِ إِلَهُهُ وَصَيَّرَ مَنْ عَادَاهُ تَحْتَ
الْمَنَاسِمِ
فَقِيرٌ وَحِيدٌ لَمْ تُعِنْهُ عَشِيرَةٌ وَلَا دَفَعُوا عَنْهُ شَتِيمَةَ شَاتِمِ
وَلَا عِنْدَهُ مَالٌ عَتِيدٌ لِنَاصِرٍ وَلَا دَفْعِ مَرْهُوبٍ وَلَا لِمُسَالِمِ
وَلَا وَعَدَ الْأَنْصَارَ مَالًا يَخُصُّهُمْ بَلَى كَانَ مَعْصُومًا لِأَقْدَرِ
عَاصِمِ
فَلَمْ تَمْتَهِنْهُ قَطُّ قُوَّةُ آسِرٍ وَلَا مُكِّنَتْ مِنْ جِسْمِهِ يَدُ
لَاطِمِ
كَمَا يَفْتَرِي إِفْكًا وَزُورًا وَضِلَّةً عَلَى وَجْهِ عِيسَى مِنْكُمُ كُلُّ آثِمِ
عَلَى أَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمُ هُوَ رَبُّكُمْ فَيَا لَضَلَالٍ فِي الْحَمَاقَةِ
عَائِمِ
أَبَى اللَّهُ أَنْ يُدْعَى لَهُ ابْنٌ وَصَاحِبٌ سَتَلْقَى دُعَاةُ الْكُفْرِ
حَالَةَ نَادِمِ
وَلَكِنَّهُ عَبْدٌ نَبِيٌّ مُكَرَّمٌ
مِنَ النَّاسِ مَخْلُوقٌ وَلَا قَوْلَ زَاعِمِ
أَيُلْطَمُ وَجْهُ الرَّبِّ تَبًّا لِنَوْكِكُمْ لَقَدْ فُقْتُمْ فِي ظُلْمِكُمْ
كُلَّ ظَالِمِ
وَكَمْ آيَةٍ أَبْدَى النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ وَكَمْ عِلْمٍ أَبْدَاهُ لِلشِّرْكِ
حَاطِمِ
تَسَاوَى جَمِيعُ النَّاسِ فِي نَصْرِ حَقِّهِ فَلِلْكُلِّ فِي إِعْظَامِهِ حَالُ
خَادِمِ
فَعُرْبٌ وَأُحْبُوشٌ وَفُرْسٌ وَبَرْبَرٌ وَكُرْدِيُّهُمْ قَدْ فَازَ قِدْحُ
الْمَرَاحِمِ
وَقِبْطٌ وَأَنْبَاطٌ وَخَزْرٌ وَدَيْلَمٌ وَرُومٌ رَمَوْكُمْ دُونَهُ
بِالْقَوَاصِمِ
أَبَوْا كُفْرَ أَسْلَافٍ لَهُمْ فَتَحَنَّفُوا فَآبُوا بِحَظٍّ فِي السَّعَادَةِ
جَاثِمِ
بِهِ دَخَلُوا فِي مِلَّةِ الْحَقِّ كُلُّهُمْ وَدَانُوا لِأَحْكَامِ الْإِلَهِ
اللَّوَازِمِ
بِهِ صَحَّ تَفْسِيرُ الْمَنَامِ الَّذِي أَتَى بِهِ دَانِيَالُ قَبْلَهُ خَتْمِ
خَاتِمِ
وَسِنْدٌ وَهِنْدٌ أَسْلَمُوا وَتَدَيَّنُوا بِدِينِ الْهُدَى فِي رَفْضِ دِينِ
الْأَعَاجِمِ
وَشَقَّ لَنَا بَدْرَ السَّمَوَاتِ آيَةً وَأَشْبَعَ مِنْ صَاعٍ لَهُ كُلَّ
طَاعِمِ
وَسَالَتْ عُيُونُ الْمَاءِ فِي وَسْطِ كَفِّهِ فَأَرْوَى بِهِ جَيْشًا كَثِيرَ
الْهَمَاهِمِ
وَجَاءَ بِمَا تَقْضِي الْعُقُولُ بِصِدْقِهِ وَلَا كَدَعَاوٍ غَيْرِ ذَاتِ
قَوَائِمِ
عَلَيْهِ سَلَامُ اللَّهِ مَا ذَرَّ شَارِقٌ تَعَاقَبَهُ ظَلْمَاءُ أَسْحَمَ
قَاتِمِ
بَرَاهِينُهُ كَالشَّمْسِ لَا مِثْلُ قَوْلِكُمْ وَتَخْلِيطِكُمْ فِي جَوْهَرٍ
وَأَقَانِمِ
لَنَا كُلُّ عِلْمٍ مِنْ قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَأَنْتُمْ حَمِيرٌ دَامِيَاتُ
الْمَحَازِمِ
أَتَيْتُمْ بِشِعْرٍ بَارِدٍ مُتَخَاذِلٍ ضَعِيفِ مَعَانِي النَّظْمِ جَمِّ
الْبَلَاغِمِ
فَدُونَكَهَا كَالْعِقْدِ فِيهِ زُمُرُّدٌ وَدُرٌّ وَيَاقُوتٌ بِإِحْكَامِ حَاكِمِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْخَلِيفَةُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَالسُّلْطَانُ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ.
وَعَمِلَتِ الرَّوَافِضُ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ عَزَاءَ الْحُسَيْنِ، عَلَى مَا
ابْتَدَعُوهُ مِنَ النَّوْحِ.
وَلَمَّا كَانَ ثَالِثَ عَشَرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
تُوَفِّيَ:
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
الَّذِي أَظْهَرَ الرَّفْضَ، وَيُقَالُ لَهُ: مُعِزُّ الدَّوْلَةِ، بِعِلَّةِ
الذَّرَبِ، فَصَارَ لَا يَثْبُتُ فِي مَعِدَتِهِ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمَّا
أَحَسَّ بِالْمَوْتِ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، وَأَنَابَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَرَدَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَظَالِمِ، وَتَصَدَّقَ بِكَثِيرٍ مِنْ
أَمْوَالِهِ، وَأَعْتَقَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ مَمَالِيكِهِ، وَعَهِدَ إِلَى
ابْنِهِ بَخْتِيَارَ عِزِّ الدَّوْلَةِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ بِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، فَكَلَّمَهُ فِي السُّنَّةِ،
وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا زَوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِهَذَا قَطُّ. وَرَجَعَ إِلَى السُّنَّةِ
وَمُتَابَعَتِهَا، وَلَمَّا حَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، خَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ
إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ لَهُ: أَمَا
تُصَلِّي هَاهُنَا ؟ قَالَ: لَا.
قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّ دَارَكَ مَغْصُوبَةٌ. فَاسْتَحْسَنَ مِنْهُ
ذَلِكَ.
وَكَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ حَلِيمًا كَرِيمًا عَاقِلًا، وَكَانَتْ إِحْدَى
يَدَيْهِ مَقْطُوعَةً، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ السُّعَاةَ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُلُوكِ ; لِيَبْعَثَ بِأَخْبَارِهِ إِلَى أَخِيهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ إِلَى
شِيرَازَ سَرِيعًا، وَحَظِيَ عِنْدَهُ أَهْلُ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَتَعَلَّمَ
أَهْلُ بَغْدَادَ ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَجْرِي فِي الْيَوْمِ
الْوَاحِدِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ فَرْسَخًا، وَكَانَ فِي الْبَلَدِ سَاعِيَانِ
مَاهِرَانِ، وَهُمَا فَضْلٌ وَمَرْعُوشٌ، يَتَعَصَّبُ لِهَذَا عَوَامُّ أَهْلِ السُّنَّةِ،
وَلِهَذَا عَوَامُّ أَهْلِ الشِّيعَةِ، وَجَرَتْ لَهُمَا مَنَاصِفُ وَمَوَاقِفُ.
وَلَمَّا مَاتَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ دُفِنَ بِبَابِ التِّبْنِ فِي مَقَابِرِ
قُرَيْشٍ، وَجَلَسَ ابْنُهُ لِلْعَزَاءِ، وَأَصَابَ النَّاسَ مَطَرٌ ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ تِبَاعًا، فَبَعَثَ عِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى رُءُوسِ الدَّوْلَةِ فِي
هَذِهِ الْأَيَّامِ بِمَالٍ جَزِيلٍ ; لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الدَّوْلَةُ عَلَى
مُخَالَفَتِهِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ مُبَايَعَتِهِ، وَهَذَا مِنْ عَقْلِهِ
وَدَهَائِهِ.
وَكَانَ عُمُرُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ
وِلَايَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا وَيَوْمَيْنِ،
وَكَانَ قَدْ نَادَى فِي أَيَّامِهِ بِرَدِّ الْمَوَارِيثِ إِلَى ذَوِي
الْأَرْحَامِ قَبْلَ بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَدْ سَمِعَ بَعْضُ النَّاسِ لَيْلَةَ تُوُفِّيَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ هَاتِفًا
يَقُولُ:
لَمَّا بَلَغْتَ أَبَا الْحُسَيْ نِ مُرَادَ نَفْسِكَ فِي الطَّلَبْ
وَأَمِنْتَ مِنْ حَدَثِ اللَّيَا
لِي وَاحْتَجَبْتَ عَنِ النُّوَبْ مُدَّتْ إِلَيْكَ يَدُ الرَّدَى
وَأُخِذْتَ مِنْ بَيْتِ الذَّهَبْ
وَلَمَّا مَاتَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ عِزُّ
الدَّوْلَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ
النِّسَاءِ، فَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ، وَطَمِعَ
الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ بِلَادِ خُرَاسَانَ فِي
مُلْكِ بَنِي بُوَيْهِ، وَأَرْسَلَ الْجُيُوشَ الْكَثِيفَةَ صُحْبَةَ الْمَلِكِ
وُشْمَكِيرَ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ أَرْسَلَ
إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَابْنِ أَخِيهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ
يَسْتَنْجِدُهُمَا، فَأَرْسَلَا إِلَيْهِ بِجُنُودٍ كَثِيرَةٍ، فَرَكِبَ فِيهَا
رُكْنُ الدَّوْلَةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ وُشْمَكِيرُ يَتَهَدَّدُهُ
وَيَتَوَعَّدُهُ، وَيَقُولُ: لَئِنْ قَدَرْتُ عَلَيْكَ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ
وَلَأَفْعَلَنَّ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رُكْنُ الدَّوْلَةِ: لَكِنِّي إِنْ قَدَرْتُ
عَلَيْكَ لَأُحْسِنَنَّ إِلَيْكَ وَلَأَصْفَحَنَّ عَنْكَ. فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ
لِهَذَا، فَدَفَعَ اللَّهُ عَنْهُ شَرَّهُ ; وَذَلِكَ أَنَّوُشْمَكِيرَ رَكِبَ
فَرَسًا صَعْبَةً فَتَصَيَّدَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَ عَلَيْهِ خِنْزِيرٌ، فَنَفَرَتِ
الْفَرَسُ، فَأَلْقَتْهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنَيْهِ،
فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ.
وَبَعَثَ ابْنُ وُشْمَكِيرَ يَطْلُبُ الْأَمَانَ مِنْ رُكْنِ الدَّوْلَةِ،
فَأَمَّنَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْمَالِ وَالرِّجَالِ، وَوَفَى بِمَا قَالَ،
وَصَرَفَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْدَ السَّامَانِيَّةِ، وَذَلِكَ بِصِدْقِ النِّيَّةِ
وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيُّ
الْأَصْبِهَانِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْأَغَانِي " وَكِتَابِ " أَيَّامِ الْعَرَبِ
" ذَكَرَ فِيهِ أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِمْ
وَوَقَائِعِهِمْ، وَكَانَ شَاعِرًا أَدِيبًا كَاتِبًا، عَالِمًا بِالْأَخْبَارِ
وَأَيَّامِ النَّاسِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَتَشَيَّعُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمِثْلُهُ لَا يُوثَقُ بِهِ ; فَإِنَّهُ يُصَرِّحُ فِي
كُتُبِهِ بِمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْفِسْقَ، وَيُهَوِّنُ شُرْبَ الْخَمْرِ،
وَرُبَّمَا حَكَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ كِتَابَ "
الْأَغَانِي " رَأَى كُلَّ قَبِيحٍ وَمُنْكَرٍ. وَقَدْ رَوَى الْحَدِيثَ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مُطَيَّنٍ وَخَلْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَالَ ابْنُ خِلِّكَانَ
وَقِيلَ: فِي الَّتِي بَعْدَهَا، وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا الْبُحْتُرِيُّ الشَّاعِرُ.
وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مُصَنَّفَاتٍ عَدِيدَةً ; مِنْهَا " الْأَغَانِي "
" وَالدِّيَارَاتُ "، وَ " أَيَّامُ الْعَرَبِ "، وَغَيْرُ
ذَلِكَ.
سَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ، صَاحِبُ حَلَبَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي الْهَيْجَاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ حَمْدُونَ التَّغْلِبِيُّ
الرَّبَعِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِسَيْفِ
الدَّوْلَةِ، أَحَدُ الْأُمَرَاءِ
الشُّجْعَانِ، وَالْمُلُوكِ الْكَثِيرِي الْإِحْسَانِ، عَلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ
تَشَيُّعٍ، وَقَدْ مَلَكَ دِمَشْقَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَاتَّفَقَ لَهُ
أَشْيَاءُ غَرِيبَةٌ ; مِنْهَا أَنَّ خَطِيبَهُ كَانَ مُصَنِّفَ " الْخُطَبِ
النَّبَاتِيَّةِ " أَحَدَ الْفُصَحَاءِ الْبُلَغَاءِ، وَشَاعِرَهُ
الْمُتَنَبِّي، وَمُطْرِبَهُ أَبُو نَصْرٍ الْفَارَابِيُّ. وَكَانَ كَرِيمًا جَوَّادًا
مُعْطِيًا لِلْجَزِيلِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ فِي أَخِيهِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ الْمَوْصِلِ:
رَضِيتُ لَكَ الْعَلْيَا وَقَدْ كُنْتَ أَهْلَهَا وَقُلْتُ لَهُمْ بَيْنِي
وَبَيْنَ أَخِي فَرْقُ وَمَا كَانَ لِي عَنْهَا نُكُولٌ وَإِنَّمَا
تَجَاوَزْتُ عَنْ حَقِّي فَتَمَّ لَكَ الْحَقُّ أَمَا كُنْتَ تَرْضَى أَنْ أَكُونَ
مُصَلِّيًا
إِذَا كُنْتُ أَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ السَّبْقُ
وَلَهُ أَيْضًا:
قَدْ جَرَى فِي دَمْعِهِ دَمُهُ فَإِلَى كَمْ أَنْتَ تَظْلِمُهُ
رُدَّ عَنْهُ الطَّرْفَ مِنْكَ فَقَدْ جَرَحَتْهُ مِنْكَ أَسْهُمُهُ
كَيْفَ يَسْتَطِيعُ التَّجَلُّدَ مَنْ خَطَرَاتُ الْوَهْمِ تُؤْلِمُهُ
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ الْفَالِجُ، وَقِيلَ: عُسْرُ الْبَوْلِ. وَتُوفِّيَ
بِحَلَبَ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى مَيَّافَارِقِينَ فَدُفِنَ بِهَا وَعُمُرُهُ
ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَقَامَ بِمُلْكِ حَلَبَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
سَعْدُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفٌ، ثُمَّ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مَوْلَى
أَبِيهِ قَرْعُوَيْهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ حَلَبَ إِلَى أُمِّهِ
بِمَيَّافَارِقِينَ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهَا كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خِلِّكَانَ شَيْئًا
كَثِيرًا مِمَّا قَالَهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ وَقِيلَ فِيهِ، قَالَ: وَلَمْ
يَجْتَمِعْ بِبَابِ أَحَدٍ مِنَ الْمُلُوكِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ مَا اجْتَمَعَ
بِبَابِهِ مِنَ الشُّعَرَاءِ. وَقَدْ أَجَازَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْكِبَارِ
مِنْهُمْ ; كَالْمُتَنَبِّي وَالْخَالِدِيَّيْنِ، وَالسَّرِيِّ الرَّفَّاءِ،
وَالنَّامِي، وَالْبَبْغَاءِ، وَالْوَأْوَاءِ، وَغَيْرِهِمْ. وَذَكَرَ ابْنُ
خِلِّكَانَ أَنَّهُ وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ - وَقِيلَ: إِحْدَى - وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَأَنَّهُ مَلَكَ حَلَبَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ قَبْلَ
ذَلِكَ يَمْلِكُ وَاسِطًا وَنَوَاحِيهَا، ثُمَّ تَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ
حَتَّى مَلَكَ حَلَبَ - انْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ
الْكِلَابِيِّ صَاحِبِ الْإِخْشِيدِ - وَمَلَكَ دِمَشْقَ فِي وَقْتٍ. وَقَدْ قَالَ
يَوْمًا لِنُدَمَائِهِ: أَيُّكُمْ يُجِيزُ قَوْلِي، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا
مِنْكُمْ يُجِيزُهُ:
لَكَ جَسْمِي تُعِلُّهُ فَدَمِي لَمْ تُحِلُّهُ
فَقَالَ أَبُو فِرَاسٍ أَخُوهُ بَدِيهَةً:
قَالَ إِنْ كُنْتُ مَالِكًا فَلِيَ الْأَمْرُ كُلُّهُ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
كَافُورُ الْإِخْشِيدِيُّ
مَوْلَى مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ الْإِخْشِيدِ وَقَدْ قَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ مَوْلَاهُ
لِصِغَرِ أَوْلَادِهِ، فَمَلَكَ كَافُورٌ مِصْرَ وَدِمَشْقَ، وَنَاوَأَ سَيْفَ
الدَّوْلَةِ وَغَيْرَهُ.
وَقَدْ كُتِبَ عَلَى قَبْرِهِ:
انْظُرْ إِلَى غِيَرِ الْأَيَّامِ مَا صَنَعَتْ أَفْنَتْ أُنَاسًا بِهَا كَانُوا
وَمَا فَنِيَتْ
دُنْيَاهُمُ ضَحِكَتْ أَيَّامَ دَوْلَتِهِمْ حَتَّى إِذَا فَنِيَتْ نَاحَتْ لَهُمْ
وَبَكَتْ
أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِيُّ، صَاحِبُ " الْأَمَالِي " إِسْمَاعِيلُ بْنُ
الْقَاسِمِ بْنِ عَيْذُونَ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سُلَيْمَانَ، أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِيُّ
اللُّغَوِيُّ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ ; لِأَنَّ سُلَيْمَانَ هَذَا كَانَ مَوْلًى
لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَالْقَالِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى قَالِيقِلَا وَيُقَالُ:
إِنَّهَا أَرْزَنُ الرُّومِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ مَوْلِدُهُ بِمَنَازِجِرْدَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ مِنْ دِيَارِ بَكْرٍ
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ عَلَى أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَخَذَ
النَّحْوَ وَاللُّغَةَ عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ
وَنِفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ، وَصَنَّفَ " الْأَمَالِيَ " وَهُوَ
مَشْهُورٌ، وَكِتَابَ " الْبَارِعِ " عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فِي
خَمْسَةِ آلَافِ وَرَقَةٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي اللُّغَةِ.
وَدَخَلَ بَغْدَادَ وَسَمِعَ بِهَا، ثُمَّ ارْتَحَلَ إِلَى قُرْطُبَةَ فَدَخَلَهَا
فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَاسْتَوْطَنَهَا،
وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً فِيهَا، إِلَى أَنْ تُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. قَالَهُ ابْنُ خِلِّكَانَ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ إِلْيَاسَ
صَاحِبُ بِلَادِ كَرْمَانَ وَمُعَامَلَاتِهَا، فَأَخَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ
رُكْنِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ كَرْمَانَ مِنْ أَوْلَادِ مُحَمَّدِ بْنِ إِلْيَاسَ،
وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ; الْيَسَعُ، وَإِلْيَاسُ، وَسُلَيْمَانُ.
وَالْمَلِكُ الْكَبِيرُ وُشْمَكِيرُ، كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْمُلُوكِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْفِيرَزَانِ صَاحِبُ بِلَادِ جُرْجَانَ
وَمُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
وَسَيْفُ الدَّوْلَةِ بْنُ حَمْدَانَ
صَاحِبُ حَلَبَ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا هَلَكَ النِّقْفُورُ مَلِكُ الرُّومِ، يَعْنِي
الدُّمُسْتُقْ، صَاحِبُ بِلَادِ الْأَرْمَنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَرْجَمَتَهُ وَمَا
وَرَدَ عَنْهُ مِنَ الشِّعْرِ، وَأَوْرَدْنَا جَوَابَهَا لِلْإِمَامِ
الْعَلَّامَةِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْفَقِيهِ الظَّاهِرِيِّ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ بِهَا كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ فِي قَوْلِ ابْنِ خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا شَاعَ الْخَبَرُ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ أَنَّ رَجُلًا
ظَهَرَ، يُقَالُ لَهُ: مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَتَلَقَّبَ
بِالْمَهْدِيِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمَوْعُودُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ
فِي الْمَهْدِيِّ، وَأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ وَيَنْهَى عَنِ الشَّرِّ،
وَدَعَا إِلَيْهِ نَاسٌ بِبَغْدَادَ ; فَإِنْ دَعَوْا سُنِّيًّا قَالُوا: هُوَ
مِنْ سُلَالَةِ الْعَبَّاسِ. وَإِنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ شِيعِيًّا قَالُوا لَهُ:
عَلَوِيٌّ. وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ إِذْ ذَاكَ مُقِيمًا بِمِصْرَ عِنْدَ كَافُورٍ
الْإِخْشِيدِيِّ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَكَانَ يُكْرِمُهُ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
الْمُسْتَحْسِنِينَ لَهُ سُبُكْتِكِينُ الْحَاجِبُ، وَكَانَ شِيعِيًّا، فَظَنَّهُ
عَلَوِيًّا، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُقْدِمَ إِلَى بَغْدَادَ لِيَأْخُذَ لَهُ
الْبِلَادَ، فَتَرَحَّلَ مِنْ مِصْرَ، فَلَقِيَهُ سُبُكْتِكِينُ إِلَى قَرِيبِ
الْأَنْبَارِ فَلَمَّا رَآهُ عَرَفَهُ، وَإِذَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُسْتَكْفِي بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيُّ، فَلَمَّا تَحَقَّقَ أَنَّهُ عَبَّاسِيٌّ
وَلَيْسَ بِعَلَوِيٍّ، انْثَنَى رَأْيُهُ عَنْهُ، فَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ،
وَتَمَزَّقَ أَصْحَابُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَحُمِلَ إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فَأَمَّنَهُ، وَتَسَلَّمَهُ الْمُطِيعُ لِلَّهِ فَجَدَعَ
أَنْفَهُ، وَاخْتَفَى أَمْرُهُ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَبَرٌ بِالْكُلِّيَّةِ
بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا وَرَدَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الرُّومِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - إِلَى بِلَادِ
أَنْطَاكِيَةَ فَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْ حَوَاضِرِهَا، وَسَبَوُا اثْنَيْ عَشَرَ
أَلْفًا مِنْ أَهْلِهَا، وَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ
أَحَدٌ.
وَعَمِلَتِ الرَّوَافِضُ فِي
عَشُورَاءَ الْمَأْتَمَ، وَفِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ الْهَنَاءَ وَالسُّرُورَ.
وَفِيهَا عَرَضَ لِلنَّاسِ فِي تِشْرِينَ دَاءُ الْمَاشَرَا، فَمَاتَ بِهِ خَلْقٌ
كَثِيرٌ فَجْأَةً، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا مَاتَ أَكْثَرُ جِمَالِ الْحَجِيجِ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعَطَشِ،
وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَمَاتَ أَكْثَرُ مَنْ
وَصَلَ مِنْهُمْ عَامَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ أَبُو الْمَعَالِي شَرِيفُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ هُوَ
وَخَالُهُ وَابْنُ عَمِّ أَبِيهِ أَبُو فِرَاسِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ
الشَّاعِرُ، عِنْدَ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: صَدَرُ. فَقُتِلَ أَبُو فِرَاسٍ فِي الْمَعْرَكَةِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُلْكَ عَقِيمٌ.
وَفِيهَا أَظْهَرَتِ الشِّيعَةُ الْحُزْنَ الشَّدِيدَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنَ
الْمُحَرَّمِ وَعَمِلُوا عِيدَ غَدِيرِ خُمٍّ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَأَظْهَرُوا الْفَرَحَ وَالسُّرُورَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا أَيْضًا:
إِبْرَاهِيمُ الْمُتَّقِي لِلَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُقْتَدِرُ
وَكَانَ قَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ، ثُمَّ أُلْجِئَ إِلَى أَنَّهُ خُلِعَ عَنْهَا
فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَزِمَ
بَيْتَهُ،
فَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَدُفِنَ بِدَارِهِ عَنْ سِتِّينَ سَنَةً.
عُمَرُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّرِيِّ، أَبُو جَعْفَرٍ
الْبَصَرِيُّ الْحَافِظُ
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ يَنْتَخِبُ عَلَى الْمَشَايِخِ،
حَدَّثَ عَنْ أَبِي خَلِيفَةَ الْفَضْلِ بْنِ الْحُبَابِ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ
انْتَقَدَ عَلَيْهِ مِائَةَ مَوْضِعٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: فَنَظَرْتُ
فِيهَا، فَإِذَا الصَّوَابُ مَعَ عُمَرَ بْنِ جَعْفَرٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُخَلَّدٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْجَوْهَرِيُّ
الْمُحْتَسِبُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمُحْرِمِ، كَانَ أَحَدَ أَصْحَابِ ابْنِ
جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَقَدْ رَوَى عَنِ الْكُدَيْمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ
اتَّفَقَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ جَلَسَ
يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، فَجَاءَتْ أُمُّهَا، فَأَخَذَتِ الدَّوَاةَ، فَرَمَتْ بِهَا
وَقَالَتْ: هَذِهِ أَضَرُّ عَلَى ابْنَتِي مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ ضَرَّةٍ. وَقَدْ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ
يَضْعُفُ فِي الْحَدِيثِ.
كَافُورُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْإِخْشِيدِيُّ
كَانَ مَوْلَى السُّلْطَانِ مُحَمَّدِ بْنِ طُغْجٍ الْإِخْشِيدِيِّ، اشْتَرَاهُ
مِنْ بَعْضِ أَهْلِ مِصْرَ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَقَرَّبَهُ
وَأَدْنَاهُ، وَاخْتَصَّهُ مِنْ بَيْنِ الْمَوَالِي وَاصْطَفَاهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ
أَتَابِكًا حِينَ مَلَّكَ وَلَدَاهُ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ بِالْأُمُورِ بَعْدَ
مَوْتِهِمَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَاسْتَقَرَّتِ الْمَمْلَكَةُ
بِاسْمِهِ، يُدْعَى لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَالشَّامِيَّةِ وَبِلَادِ الْحِجَازِ جَمِيعًا، وَكَانَ شَهْمًا ذَكِيًّا
فَاتِكًا جَيِّدَ السِّيرَةِ، مَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، وَوَفَدَ إِلَيْهِ
الْمُتَنَبِّي، حِينَ ذَهَبَ مُغَاضِبًا عَلَى سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَآوَى إِلَى كَافُورٍ وَحَصَلَ لَهُ مِنْهُ رِفْدٌ، ثُمَّ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ
فَأَبْعَدَهُ كَافُورٌ، فَهَجَاهُ وَرَحَلَ عَنْهُ، وَصَارَ إِلَى عَضُدِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَكَانَ هُنَاكَ حَتْفُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَأَمَّا كَافُورٌ فَإِنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ بِتُرْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ
بِهِ، وَقَامَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْإِخْشِيدِ
وَمِنْهُ أَخَذَ الْفَاطِمِيُّونَ الْأَدْعِيَاءُ بِلَادَ مِصْرَ كَمَا سَيَأْتِي.
وَكَانَتْ مَمْلَكَةُ كَافُورٍ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشُورَاءَ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهِمْ، وَفِي يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ
عَمِلُوا الْفَرَحَ الْمُبْتَدَعَ.
وَحَصَلَ بِالْعِرَاقِ غَلَاءٌ عَظِيمٌ، كَانَ يُعْدَمُ الْخُبْزُ بِالْكُلِّيَّةِ،
وَعَاثَتِ الرُّومُ فِي الْبِلَادِ فَسَادًا، وَحَرَقُوا حِمْصَ وَأَفْسَدُوا
فِيهَا فَسَادًا عَرِيضًا، وَسَبَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحَوًا مِنْ مِائَةِ
أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
دُخُولُ جَوْهَرٍ الْقَائِدِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
وَدَخَلَ أَبُو الْحَسَنِ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ الرُّومِيُّ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ،
مِنْ جِهَةِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ عَلَى مَنَابِرِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَسَائِرِ أَعْمَالِهَا، وَأَمَرَ جَوْهَرٌ الْمُؤَذِّنِينَ
بِالْجَامِعِ الْعَتِيقِ وَبِجَامِعِ ابْنِ طُولُونَ أَنْ يُؤَذِّنُوا بِحَيَّ
عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَأَنْ يَجْهَرَ الْأَئِمَّةُ بِالْبَسْمَلَةِ، وَذَلِكَ
أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ كَافُورٌ
الْإِخْشِيدِيُّ لَمْ يَبْقَ بِمِصْرَ
مَنْ تَجْتَمِعُ الْقُلُوبُ عَلَيْهِ، وَأَصَابَهُمْ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
أَضْعَفَهُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمُعِزَّ وَهُوَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ
بَعَثَ جَوْهَرًا الْقَائِدَ الرُّومِيَّ مَوْلَى أَبِيهِ الْمَنْصُورِ فِي جَيْشٍ
كَثِيفٍ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَصْحَابَ
كَافُورٍ هَرَبُوا مِنْهَا قَبْلَ وُصُولِ جَوْهَرٍ إِلَيْهَا، فَدَخَلَهَا
فَأَخَذَهَا بِلَا ضَرْبَةٍ وَلَا طَعْنَةٍ وَلَا مُمَانَعَةٍ، فَفَعَلَ مَا
ذَكَرْنَا مِنَ الْأُمُورِ، وَاسْتَقَرَّتْ أَيْدِيهِمْ عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ
بَعْدَ كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ شَرَعَ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ فِي بِنَاءِ الْقَاهِرَةِ
الْمُعِزِّيَّةِ، وَبِنَاءِ الْقَصْرَيْنِ عِنْدَهَا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَهَيَّأَ الْإِقَامَاتِ لِمَوْلَاهُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ.
وَأَرْسَلَ جَوْهَرٌ جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ إِلَى الشَّامِ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَكَانَ بِدِمَشْقَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ
بْنُ أَبِي يَعْلَى الْهَاشِمِيُّ، وَكَانَ مُطَاعًا فِيهِمْ، فَحَاجَفَ عَنِ
الْعَبَّاسِيِّينَ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ آلَ الْحَالُ إِلَى أَنْ خُطِبَ
لِلْمُعِزِّ بِدِمَشْقَ، وَحُمِلَ الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَأُسِرَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ
الْأُمَرَاءِ فَحُمِلُوا إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَحَمَلَهُمْ جَوْهَرٌ
إِلَى الْمُعِزِّ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَى
دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ، كَمَا سَيَأْتِي، وَأُذِّنَ فِيهَا: حَيَّ عَلَى
خَيْرِ الْعَمَلِ، أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً، وَكُتِبَتْ لَعْنَةُ
الشَّيْخَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَلَعْنُ مَنْ لَعَنَهُمَا - عَلَى أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ بِهَا
وَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ حَتَّى أَزَالَتْ ذَلِكَ دَوْلَةُ الْأَتْرَاكِ،
عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ إِلَى حِمْصَ فَوَجَدُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا قَدْ
جَلَوْا عَنْهَا وَانْتَقَلُوا مِنْهَا، فَحَرَّقُوهَا وَأَسَرُوا مِمَّنْ بَقِيَ
فِيهَا وَمِنْ حَوْلِهَا نَحْوًا مِنْ مِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ نَقَلَ عِزُّ الدَّوْلَةِ وَالِدَهُ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ
بْنَ بُوَيْهِ مِنْ دَارِهِ إِلَى تُرْبَتِهِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " كَافُورٌ الْإِخْشِيدِيُّ ; قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْتُ مِدَحَ الْمُتَنَبِّي لِكَافُورٍ تَحْمِلُ
الذَّمَّ وَالْمَدْحَ، وَكَأَنَّهُ تَلَعَّبَ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهُمُ
الشَّنْعَاءَ، فَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَتَعَطَّلَتِ الْمَعَايِشُ، وَدَارَتِ
النِّسَاءُ سَافِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ يَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
وَيَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ، وَالْمُسُوحُ مُعَلَّقَةٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالتِّبْنُ
مَذْرُورٌ فِيهَا.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الرُّومُ الْمَلَاعِينُ أَنْطَاكِيَةَ فَنَفَوْا مِنْ أَهْلِهَا
الشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ، وَسَبَوْا مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ نَحَوًا
مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا ; وَذَلِكَ كُلُّهُ بِتَدْبِيرِ مَلِكِ الْأَرْمَنِ نُقْفُورَ،
لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ قَدْ قَهَرَ وَطَغَا وَتَمَرَّدَ، وَقَدْ
تَزَوَّجَ مَعَ ذَلِكَ بِامْرَأَةِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، وَلَهَا
مِنْهُ ابْنَانِ، فَأَرَادَ أَنْ يَخْصِيَهُمَا وَيَجْعَلَهُمَا فِي الْكَنِيسَةِ
; لِئَلَّا يَصْلُحَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُلْكِ، فَلَمَّا فَهِمَتْ ذَلِكَ
أُمُّهُمَا عَمِلَتْ عَلَيْهِ، وَسَلَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمَرَاءَ، فَقَتَلُوهُ
وَهُوَ نَائِمٌ، وَمَلَّكُوا عَلَيْهِمْ أَكْبَرَ وَلَدَيْهَا.
وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ صُرِفَ عَنِ الْقَضَاءِ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ
سَيَّارٍ، وَأُعِيدَ إِلَيْهِ أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ نَقَصَتْ دِجْلَةُ حَتَّى
غَارَتِ الْآبَارُ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ النَّقِيبُ.
قَالَ: وَانْقَضَّ كَوْكَبٌ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَأَضَاءَتْ مِنْهُ الدُّنْيَا
حَتَّى بَقِيَ لَهُ شُعَاعٌ كَالشَّمْسِ، ثُمَّ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَالرَّعْدِ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ خُطِبَ
لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِدِمَشْقَ عَنْ أَمْرِ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ الَّذِي
سَيَّرَهُ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ فَقَاتَلَهُ أَبُو
مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طُغْجٍ بِالرَّمْلَةِ، فَغَلَبَهُ
ابْنُ فَلَاحٍ، وَأَسَرَهُ وَسَيَّرَهُ إِلَى جَوْهَرٍ، فَأَرْسَلَهُ جَوْهَرٌ
إِلَى الْمُعِزِّ وَهُوَ بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ الْفَاطِمِيِّينَ
عَلَى دِمَشْقَ أَيْضًا بَعْدَ حُرُوبٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا، تَطَاوَلَ أَمْرُهَا
إِلَى آخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَتِ الْمُنَافَرَةُ بَيْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَبِي تَغْلِبَ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ
مُعِزُّ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ بِبَغْدَادَ، عَزَمَ أَبُو تَغْلِبَ وَمَنْ
وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلَى الدُّخُولِ إِلَى بَغْدَادَ وَأَخْذِ
مَمْلَكَةِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ: إِنَّ
مُعِزَّ الدَّوْلَةِ قَدْ تَرَكَ
لِابْنِهِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً، لَا تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مَا دَامَتْ فِي
يَدِهِ، وَلَكِنِ اصْبِرُوا حَتَّى يُنْفِقَهَا فَإِنَّهُ مُبَذِّرٌ، فَإِذَا
أَفْلَسَ فَثُورُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّكُمْ تَغْلِبُونَهُ لَا مَحَالَةَ. فَحَقَدَ
عَلَيْهِ وَلَدُهُ أَبُو تَغْلِبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزَلْ بِأَبِيهِ
حَتَّى سَجَنَهُ بِالْقَلْعَةِ، فَاخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ بَيْنَهُمْ، وَصَارُوا
أَحْزَابًا، وَضَعُفُوا عَنْ حِفْظِ مَا بِأَيْدِيهِمْ حَتَّى بَعَثَ أَبُو
تَغْلِبَ إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ فَضَمِنَ مِنْهُ بِلَادَ الْمَوْصِلِ بِأَلْفِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ يَحْمِلُهَا إِلَيْهِ، وَاتَّفَقَ مَوْتُ أَبِيهِ
نَاصِرِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَاسْتَقَرَّ أَبُو تَغْلِبَ
بِالْمَوْصِلِ وَمَلَكَهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُخْتَلِفُونَ
مُتَحَارِبُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى طَرَابُلُسَ فَأَحْرَقَ
كَثِيرًا مِنْهَا، وَمَلَكَ قَلْعَةَ عِرْقَةَ وَنَهَبَهَا وَسَبَى أَهْلَهَا
وَكَانَ فِي قَلْعَتِهَا صَاحِبُ طَرَابُلُسَ كَانَ لَجَأَ إِلَيْهَا حِينَ
أَخْرَجَهُ أَهْلُ طَرَابُلُسَ مِنْهَا لِشِدَّةِ ظُلْمِهِ، فَأَسَرَتْهُ
الرُّومُ، وَاسْتَحْوَذُوا عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَكَانَتْ
كَثِيرَةً جِدًّا، ثُمَّ مَالُوا عَلَى السَّوَاحِلِ، فَمَلَكُوا ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ مِنْبَرًا سِوَى الْقُرَى، وَتَنَصَّرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ عَلَى أَيْدِيهِمْ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجَاءُوا إِلَى حِمْصَ فَحَرَقُوا وَنَهَبُوا. وَمَكَثَ مَلِكُ الرُّومِ
شَهْرَيْنِ يَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنَ الْبِلَادِ، وَيَأْسِرُ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ
مِنَ الْعِبَادِ، وَصَارَتْ لَهُ مَهَابَةٌ عَظِيمَةٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ، ثُمَّ
عَادَ إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ مِنَ السَّبْيِ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ
صَبِيٍّ وَصَبْيَةٍ، وَكَانَ سَبَبَ عَوْدِهِ إِلَى بِلَادِهِ كَثْرَةُ
الْأَمْرَاضِ فِي جَيْشِهِ وَاشْتِيَاقُهُمْ إِلَى أَوْلَادِهِمْ
وَأَهْلِيهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ.
وَبَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى الْجَزِيرَةِ فَنَهَبُوا وَسَبَوْا، وَكَانَ
قَرْعُوَيْهِ غُلَامُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى حَلَبَ
وَأَخْرَجَ مِنْهَا ابْنَ أُسْتَاذِهِ أَبَا الْمَعَالِي شَرِيفَ بْنَ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ، فَسَارَ إِلَى حُرَّانَ وَهِيَ تَحْتَ حُكْمِهِ، فَأَبَوْا أَنْ
يُدْخِلُوهُ إِلَيْهِمْ، فَذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ بِمَيَّافَارِقِينَ، وَهِيَ
ابْنَةُ سَعِيدِ بْنِ حَمْدَانَ، فَمَكَثَ عِنْدَهَا حِينًا، ثُمَّ سَارَ إِلَى
حُمَاةَ فَمَلَكَهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَلَبَ بَعْدَ سَنَتَيْنِ كَمَا
سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ.
وَلَمَّا عَاثَتِ الرُّومُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالشَّامِ صَانَعَهُمْ
قَرْعُوَيْهِ عَنْ حَلَبَ وَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِأَمْوَالٍ وَتُحَفٍ، ثُمَّ
عَادُوا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ فَمَلَكُوهَا وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهَا،
وَسَبَوْا عَامَّةَ أَهْلِهَا، وَرَكِبُوا إِلَى حَلَبَ وَأَبُو الْمَعَالِي
شَرِيفٌ مُحَاصِرٌ غُلَامَهُمْ قَرْعُوَيْهِ بِهَا، فَخَافَهُمْ أَبُو
الْمَعَالِي، فَهَرَبَ عَنْهَا، وَحَاصَرَهَا الرُّومُ، فَأَخَذُوا الْبَلَدَ،
وَامْتَنَعَتِ الْقَلْعَةُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا مَعَ قَرْعُوَيْهِ عَلَى
هُدْنَةٍ مُؤَبَّدَةٍ وَمَالٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ، وَسَلَّمُوا
إِلَيْهِ الْبَلَدَ، وَرَجَعُوا عَنْهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ عَلَى الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَهُوَ
بِإِفْرِيقِيَّةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو خَزْرٍ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ
الْمُعِزُّ بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ، فَهَرَبَ مِنْهُ فَأَرْسَلَ فِي طَلَبِهِ
يُوسُفَ بْنَ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِي، فَشَرَّدَهُ، وَطَرَدَهُ، ثُمَّ عَادَ
فَاسْتَأْمَنَ، فَقَبِلَ مِنْهُ الْمُعِزُّ ذَلِكَ وَصَفَحَ عَنْهُ، وَجَاءَ
الرَّسُولُ مِنْ جَوْهَرٍ الْقَائِدِ إِلَى الْمُعِزِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
يُبَشِّرُهُ بِفَتْحِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ وَإِقَامَةِ
الدَّعْوَةِ لَهُ بِهَا، وَطَلَبَهُ إِلَيْهَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْمُعِزُّ
الْفَاطِمِيُّ فَرَحًا شَدِيدًا، وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، فَكَانَ مِمَّنِ
امْتَدَحَهُ شَاعِرُهُ مُحَمَّدُ بْنُ هَانِئٍ فِي قَصِيدَةٍ أَوَّلُهَا:
يَقُولُ بَنُو الْعَبَّاسِ هَلْ فُتِحَتْ مِصْرُ فَقُلْ لِبَنِي الْعَبَّاسِ قَدْ
قُضِيَ الْأَمْرُ
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ النِّقْفُورُ
الَّذِي كَانَ دُمُسْتُقًا، ثُمَّ صَارَ مَلِكَ الرُّومِ، وَأَرَادَ قَتْلَ
ابْنَيِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ، فَغَارَتْ أُمُّهُمَا لَهُمَا،
فَقَتَلَتْهُ غِيلَةً. قَالَ: وَقَدْ كَانَ هَذَا اللَّعِينُ مِنْ أَبْنَاءِ
الْمُسْلِمِينَ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ طَرَسُوسَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ
يُعْرَفُ بِابْنِ الْفَقَّاسِ، فَتَنَصَّرَ وَلَدُهُ هَذَا وَحَظِيَ عِنْدَ
النَّصَارَى حَتَّى صَارَ مِنْ أَمْرِهِ مَا صَارَ، وَكَانَ مِنْ أُشِدِّ النَّاسِ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَخَذَ بِلَادًا كَثِيرَةً عَنْوَةً، مِنْ ذَلِكَ
طَرَسُوسُ وَأَذَنَةُ، وَعَيْنُ زَرْبَةَ، وَالْمِصِّيصَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْبِلَادِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَسَبَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ مَا لَا يَعْلَمُ
عَدَدَهُمْ إِلَّا الَّذِي خَلَقَهُمْ. وَهَذَا اللَّعِينُ هُوَ الَّذِي بَعَثَ
تِلْكَ الْقَصِيدَةَ إِلَى الْمُطِيعِ لِلَّهِ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا فِي آخِرِ
الْجُزْءِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
ثُمَّ انْتُدِبَ لَهَا فِيمَا بَعْدُ ذَلِكَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ أَبُو
مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ، فَأَجَابَ عَنْهَا جَوَابًا شَافِيًا
كَافِيًا، فَجَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا.
وَفِيهَا رَامَ عِزُّ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ بَغْدَادَ مُحَاصَرَةَ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ،
فَصَالَحَهُ وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ.
وَفِيهَا اصْطَلَحَ قَرْعُوَيْهِ وَأَبُو الْمَعَالِي شَرِيفٌ، فَخَطَبَ لَهُ
قَرْعُوَيْهِ بِحَلَبَ، وَخَطَبَا جَمِيعًا فِي مُعَامَلَتَيْهَا لِلْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ بِحَلَبَ وَحِمْصَ، وَخُطِبَ بِمَكَّةَ لِلْمُطِيعِ لِلَّهِ
وَلِلْقَرَامِطَةِ أَيْضًا، وَبِالْمَدِينَةِ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَخَطَبَ
أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ بِظَاهِرِهَا لِلْمُطِيعِ لِلَّهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَلِيٍّ الصَّوَّافُ
رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ وَطَبَقَتِهِ، وَعَنْهُ خَلْقٌ ;
مِنْهُمُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ مِثْلَهُ فِي
تَحَرُّزِهِ وَدِينِهِ. وَقَدْ بَلَغَ تِسْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَارِبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَارِبٍ، أَبُو الْعَلَاءِ
الْقَاضِي الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، مِنْ ذُرِّيَّةِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ،
وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا فَاضِلًا، رَوَى عَنْ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ
وَغَيْرِهِ.
أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْقَطَّانِ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ،
تَفَقَّهَ بِابْنِ سُرَيْجٍ، ثُمَّ بِالشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَتَفَرَّدَ بِرِيَاسَةِ الْمَذْهَبِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَصَنَّفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، وَكَانَتِ الرِّحْلَةُ إِلَيْهِ بِبَغْدَادَ، وَدَرَّسَ بِهَا، وَكَتَبَ شَيْئًا كَثِيرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ مُحَرَّمٍ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ بِدْعَتَهُمُ الْمُحَرَّمَةَ
عَلَى عَادَتِهِمُ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرِهَا.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا أَخَذَتِ الْقَرَامِطَةُ دِمَشْقَ وَقَتَلُوا
نَائِبَهَا جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَكَانَ
رَئِيسَ الْقَرَامِطَةِ وَأَمِيرَهُمُ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَهْرَامٍ،
وَقَدْ أَمَدَّهُ عِزُّ الدَّوْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ بِسِلَاحٍ وَعُدَدٍ كَثِيرَةٍ،
ثُمَّ سَارُوا إِلَى الرَّمْلَةِ فَأَخَذُوهَا، وَتَحَصَّنَ مَنْ كَانَ فِيهَا
مِنَ الْمَغَارِبَةِ بِيَافَا، فَتَرَكُوا عَلَيْهَا مَنْ يَحْصُرُهَا، ثُمَّ
سَارُوا نَحْوَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْرَابِ
وَالْإِخْشِيدِيَّةِ وَالْكَافُورِيَّةِ، فَوَصَلُوا عَيْنَ شَمْسٍ فَاقْتَتَلُوا
هُمْ وَجُنُودُ جَوْهَرٍ قِتَالًا شَدِيدًا، وَالظَّفَرُ لِلْقَرَامِطَةِ،
وَحَصَرُوا الْمَغَارِبَةَ حَصْرًا عَظِيمًا.
ثُمَّ حَمَلَتِ الْمَغَارِبَةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ عَلَى مَيْمَنَةِ
الْقَرَامِطَةِ فَهَزَمَتْهَا، وَرَجَعَتِ الْقَرَامِطَةُ إِلَى الشَّامِ
فَجَدُّوا فِي حِصَارِ يَافَا فَأَرْسَلَ جَوْهَرٌ إِلَى أَصْحَابِهِ خَمْسَةَ
عَشَرَ مَرْكَبًا، مِيرَةً لِأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَتْهَا مَرَاكِبُ الْقَرَامِطَةِ،
سِوَى مَرْكَبَيْنِ أَخَذَتْهَا الْفِرِنْجُ. وَجَرَتْ خُطُوبٌ كَثِيرَةٌ.
وَمِنْ شَعْرِ الْحُسَيْنِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ بَهْرَامٍ أَمِيرِ الْقَرَامِطَةِ:
زَعَمَتْ رِجَالُ الْغَرْبِ أَنِّي هِبْتُهَا فَدَمِي إِذَنْ مَا بَيْنَهُمْ
مَطْلُولُ يَا مِصْرُ إِنْ لَمْ أَسْقِ أَرْضَكِ مِنْ دَمٍ
يَرْوِي ثَرَاكِ فَلَا سَقَانِي النِّيلُ
وَفِيهَا تَزَوَّجَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ ابْنَةَ بَخْتِيَارَ عِزِّ
الدَّوْلَةِ، وَعُمُرُهَا ثَلَاثُ سِنِينَ، عَلَى صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَوَقَعَ الْعَقْدُ فِي صَفَرٍ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ الصَّاحِبَ
أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عَبَّادٍ، فَأَصْلَحَ أُمُورَهُ كُلَّهَا وَسَاسَ
دَوْلَتَهُ جَيِّدًا.
وَفِيهَا أُذِّنَ بِدِمَشْقَ وَسَائِرِ الشَّامِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ.
قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ نَائِبِ
دِمَشْقَ: أَوَّلُ مَنْ تَأَمَّرَ بِهَا عَنِ الْفَاطِمِيِّينَ وَهُوَ الَّذِي
أَمَرَ بِذَلِكَ نِيَابَةً عَنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ الْقَاهِرَةِ
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْأَلْهَانِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شِرَامٍ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ
مِنْ صَفَرٍ سَنَةَ سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ أَعْلَنَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي
الْجَامِعِ بِدِمَشْقَ وَسَائِرِ مَآذِنِ الْبَلَدِ، وَمَآذِنِ الْمَسَاجِدِ
بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، بَعْدَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، أَمَرَهُمْ
بِذَلِكَ جَعْفَرُ بْنُ فَلَاحٍ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَلَا
وَجَدُوا مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى طَاعَتِهِ بُدًّا.
وَفِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، الثَّامِنِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا أُمِرَ
الْمُؤَذِّنُونَ أَنْ يُثَنُّوا الْأَذَانَ
وَالتَّكْبِيرَ فِي الْإِقَامَةِ
مَثْنَى مَثْنَى، وَأَنْ يَقُولُوا فِي الْإِقَامَةِ: حَيَّ عَلَى خَيْرِ
الْعَمَلِ. فَاسْتَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَصَبَرُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الرَّفَّاءُ الشَّاعِرُ، السَّرِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّرِيِّ، أَبُو
الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ الرَّفَّاءُ الشَّاعِرُ الْمَوْصِلِيُّ
أَرَّخَ وَفَاتَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - أَعْنِي سَنَةَ
سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ - وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِبَغْدَادَ، ذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
كَمَا سَيَأْتِي.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ
يَزِيدَ، أَبُو بَكْرٍ الْبُنْدَارُ
أَصْلُهُ أَنْبَارِيٌّ، سَمِعَ مِنْ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلِيلِ الْبُرْجُلَانِيِّ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ الرِّيَاحِيِّ، وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الصَّائِغِ، وَأَبِي إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيِّ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهُوَ آخِرُ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ. قَالُوا: وَكَانَتْ
أُصُولُهُ جِيَادًا بِخَطِّ أَبِيهِ، وَسَمَاعُهُ صَحِيحًا، وَقَدِ انْتَقَى
عَلَيْهِ عُمَرُ الْبَصْرِيُّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فَجْأَةً يَوْمَ عَاشُورَاءَ
وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو بَكْرٍ الْآجِرِيُّ
سَمِعَ جَعْفَرًا الْفِرْيَابِيَّ، وَأَبَا شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيَّ، وَأَبَا
مُسْلِمٍ الْكَجِّيَّ وَخَلْقًا، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا دَيِّنًا، وَلَهُ
تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا " الْأَرْبَعُونَ الْآجِرِيَّةُ
"، وَقَدْ حَدَّثَ بِبَغْدَادَ قَبْلَ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ بَعْدَ إِقَامَتِهِ
بِهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُظَفَّرٍ، أَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْآفَاقِ الْمُتَنَائِيَةِ، وَسَمِعَ مِنْهُ
الْحُفَّاظُ الْكِبَارُ، وَكَانَ فَقِيرًا مُتَقَلِّلًا، يَضْرِبُ اللَّبَنَ
لِقُبُورِ الْفُقَرَاءِ، وَيَتَقَوَّتُ بِرَغِيفٍ بِجَزَرَةٍ أَوْ بَصَلَةٍ،
وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، أَبُو بَكْرٍ الصُّوفِيُّ
وَيُعْرَفُ بِالدُّقِّيِّ، أَصْلُهُ مِنَ الدِّينَوَرِ وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ،
ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى دِمَشْقَ وَقَدْ قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْخَرَائِطِيِّ، وَصَحِبَ ابْنَ
الْجَلَاءِ وَالدَّقَّاقَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
جَاوَزَ الْمِائَةَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرُّخَانِ بْنِ
رُوزْبَهْ، أَبُو الطِّيبِ الدُّورِيُّ
دَخَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِيهِ بِأَحَادِيثَ مُنْكَرَةٍ، وَرَوَى
عَنِ الْجُنَيْدِ وَابْنِ مَسْرُوقٍ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ فِيهِ
ظُرْفٌ وَلَبَاقَةٌ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَّهِمُونَهُ بِوَضْعِ
الْحَدِيثِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الطَّبَرَانِيُّ، سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الطَّبَرَانِيُّ اللَّخْمِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، صَاحِبُ الْمَعَاجِمِ الثَّلَاثَةِ ; " الْكَبِيرِ
" وَ " الْأَوْسَطِ "، وَ " الصَّغِيرِ "، وَكِتَابِ
" السُّنَّةِ "، وَكِتَابِ " مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ "،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ.
عَمَّرَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَصْبَهَانَ،
وَدُفِنَ عَلَى بَابِهَا عِنْدَ قَبْرِ حُمَمَةَ الدَّوْسِيِّ الصَّحَابِيِّ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ ".
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَسَمِعَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ. قَالَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي يَوْمِ السَّبْتَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَتْحِ - وَيُقَالُ: ابْنُ أَبِي الْفَتْحِ -
بْنُ خَاقَانَ، أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ النِّجَادِ، إِمَامُ جَامِعِ دِمَشْقَ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ عَابِدًا صَالِحًا. وَذَكَرَ أَنَّ جَمَاعَةً جَاءُوا لِزِيَارَتِهِ، فَسَمِعُوهُ يَتَأَوَّهُ مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِهِ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِمْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ آهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ الْأَعِلَّاءُ. قَالَ: فَزَادَ فِي أَعْيُنِهِمْ وَعَظَّمُوهُ. قُلْتُ: هَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ مُسَلَّمًا بِلَا دَلِيلٍ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ عَنِ الْمَعْصُومِ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ، عَلَى الصَّحِيحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِبَغْدَادَ الْبِدْعَةَ
الَّتِي تَقَرَّرَتْ مِنَ النَّوْحِ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَقَبَّحَهُمْ. وَفِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا أَغَارَتِ الرُّومُ
عَلَى الْجَزِيرَةِ وَدِيَارِ بَكْرٍ، فَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ
الرَّهَا وَسَارُوا فِي الْبِلَادِ كَذَلِكَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ
وَيَغْنَمُونَ، إِلَى أَنْ وَصَلُوا نَصِيبِينَ وَفَعَلُوا كَذَلِكَ بِبِلَادِ
بَكْرٍ، وَلَمْ يُغْنِ عَنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّوَاحِي أَبُو تَغْلِبَ بْنُ
حَمْدَانَ مُتَوَلِّيهَا شَيْئًا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ دِفَاعٌ وَلَا لَهُ
قُوَّةٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَهَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إِلَى بَغْدَادَ
يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَصْرِخُونَ، فَرَثَى لَهُمْ أَهْلُ بَغْدَادَ وَأَرَادُوا
إِدْخَالَهُمْ عَلَى الْخَلِيفَةِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ فَلَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ،
وَكَانَ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ مَشْغُولًا بِالصَّيْدِ، فَذَهَبَتِ
الرُّسُلُ وَرَاءَهُ، فَبَعَثَ الْحَاجِبَ سُبُكْتِكِينَ يَسْتَنْفِرُ النَّاسَ،
فَتَجَهَّزَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ أَنْ
يُعِدَّ الْمِيرَةَ وَالْإِقَامَاتِ، فَأَظْهَرَ السُّرُورَ بِذَلِكَ وَالْفَرَحَ
وَالِابْتِهَاجَ، وَلَمَّا تَجَهَّزَتِ الْعَامَّةُ لِلْغَزَاةِ، وَقَعَتْ
بَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةٌ ; بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، فَأَحْرَقَتِ
السُّنَّةُ دُورَ الرَّوَافِضِ بِالْكَرْخِ، وَقَالُوا: الشَّرُّ كُلُّهُ
مِنْكُمْ. وَصَارَتِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ يَأْخُذُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ،
وَتَنَاقَضَ النَّقِيبُ أَبُو أَحْمَدَ
الْمُوسَوِيُّ وَالْوَزِيرُ أَبُو
الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ، وَأَرْسَلَ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ إِلَى
الْخَلِيفَةِ يَطْلُبُ مِنْهُ أَمْوَالًا يَسْتَعِينُ بِهَا فِي هَذِهِ
الْغَزَوَاتِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْخَرَاجُ يُجْبَى إِلَيَّ
لَدَفَعْتُ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ أَنْتَ
تَصْرِفُ مِنْهُ مَا لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ ضَرُورَةٌ، وَأَمَّا أَنَا فَلَيْسَ
عِنْدِي شَيْءٌ أَبْعَثُ بِهِ إِلَيْكَ، فَتَرَدَّدَتِ الْبُرُدُ بَيْنَهُمَا،
وَأَغْلَظَ بَخْتِيَارُ لِلْخَلِيفَةِ فِي ذَلِكَ وَتَهَدَّدَهُ، فَاحْتَاجَ
الْخَلِيفَةُ أَنْ يُحَصِّلَ لَهُ شَيْئًا، فَبَاعَ بَعْضَ ثِيَابِ بَدَنِهِ
وَشَيْئًا مِنْ أَثَاثِهِ، وَنَقَضَ بَعْضَ سُقُوفِ دَارِهِ، وَحَصَّلَ
أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَصَرَفَهَا بَخْتِيَارُ فِي مَصَالِحِ
نَفْسِهِ، وَأَبْطَلَ تِلْكَ الْغَزَاةَ، فَتَغَمَّمَ النَّاسُ لِلْخَلِيفَةِ،
وَسَاءَهُمْ مَا فَعَلَ ابْنُ بُوَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ مَالَ الْخَلِيفَةِ
وَتَرَكِهِ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَا جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنِ
الْمُسْلِمِينَ، وَلَا عَنْ إِمَامِهِمْ.
وَفِيهَا تَسَلَّمَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ قَلْعَةَ مَارِدِينَ فَنَقَلَ
حَوَاصِلَهَا وَمَا فِيهَا إِلَى الْمَوْصِلِ.
وَفِيهَا اصْطَلَحَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ صَاحِبُ
خُرَاسَانَ هُوَ وَرُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ وَابْنُهُ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ، عَلَى أَنْ يَحْمِلَا إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ أَلْفِ
دِينَارٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَ بِابْنَةِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ،
فَحَمَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَدَايَا وَالتُّحَفِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا خَرَجَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ بِأَهْلِهِ وَحَاشِيَتِهِ
وَجُنُودِهِ مِنْ مَدِينَةِ
الْمَنْصُورَةِ مِنْ بِلَادِ
الْمَغْرِبِ قَاصِدًا الْبِلَادَ الْمِصْرِيَّةَ، بَعْدَمَا مَهَّدَ لَهُ
مَوْلَاهُ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ أَمْرَهَا، وَأَطَّدَهَا لَهُ وَبَنَى لَهُ بِهَا
الْقَصْرَيْنِ، وَاسْتَخْلَفَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ عَلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ
وَنَوَاحِيهَا وَصِقِلِّيَةَ وَأَعْمَالِهَا نُوَّابًا مِنْ حِزْبِهِ
وَأَنْصَارِهِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ شَاعِرَهُ
مُحَمَّدَ بْنَ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيَّ، فَتُوُفِّيَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ،
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَكَانَ قُدُومُ الْمُعِزِّ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي
رَمَضَانَ مِنَ السَّنَةِ الْآتِيَةِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ النَّقِيبُ
عَلَى الطَّالِبِيِّينَ كُلِّهِمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ، أَبُو الْقَاسِمِ الْقِرْمِطِيُّ
الْهَجَرِيُّ
وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ، وَلَمْ
يَبْقَ مِنْ سُلَالَةِ أَبِي سَعِيدٍ سِوَاهُ.
عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ خَفِيفٍ، أَبُو عَمْرٍو
الْمُقْرِئُ الْمَعْرُوفُ بِالدَّرَّاجِ، حَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
دَاوُدَ، وَعَنْهُ ابْنُ رَزْقَوَيْهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ
وَالْفِقْهِ وَالدِّرَايَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالسِّتْرِ، جَمِيلَ الْمَذْهَبِ،
وَكَانَ يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خَلَفٍ،
أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالزَّاهِي. وَمِنْ
شِعْرِهِ:
قُمْ نُهَنِّئُ عَاشِقَيْنِ أَصْبَحَا مُصْطَحِبَيْنَ جَمْعًا بَعْدَ فِرَاقٍ
فُجِعَا مِنْهُ وَبَيْنِ ثُمَّ عَادَا فِي سُرُورٍ
مِنْ صُدُودٍ آمِنَيْنَ فَهُمَا رُوحٌ وَلَكِنْ
رُكِّبَتْ فِي بَدَنَيْنِ
مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ شَدَّادٍ، أَبُو
بَكْرٍ الْمُخَرِّمِيُّ
سَمِعَ أَبَا خَلِيفَةَ وَجَعْفَرًا الْفِرْيَابِيَّ وَ ابْنَ جَرِيرٍ
وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ رَزْقَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ،
وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ وَغَيْرُهُمَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ بِدْعَتَهُمْ فِي عَاشُورَاءَ مِنَ النِّيَاحَةِ
وَتَعْلِيقِ الْمُسُوحِ وَغَلْقِ الْأَسْوَاقِ.
وَفِيهَا اجْتَمَعَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ الْحَنَفِيُّ وَأَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى الرُّمَّانِيُّ وَابْنُ الدَّقَّاقِ الْحَنْبَلِيُّ
بِعِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ،
وَحَرَّضُوهُ عَلَى غَزْوِ الرُّومِ، فَبَعَثَ جَيْشًا لِقِتَالِهِمْ،
فَأَظْفَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ، وَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَبَعَثُوا
بِرُءُوسِهِمْ إِلَى بَغْدَادَ فَسَكَنَتْ أَنْفُسُ النَّاسِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا سَارَتِ الرُّومُ مَعَ الدُّمُسْتُقِ - لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى حِصَارِ
آمِدَ وَعَلَيْهَا هَزَارِمَرْدُ غُلَامُ أَبِي الْهَيْجَاءِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَكَتَبَ إِلَى أَبِي تَغْلِبَ يَسْتَصْرِخُهُ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَخَاهُ أَبَا
الْقَاسِمِ هِبَةَ اللَّهِ بْنَ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَاجْتَمَعَا
لِقِتَالِهِ، فَلَقِيَاهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ
لَا مَجَالَ لِلْخَيْلِ فِيهِ، فَاقْتَتَلُوا مَعَ الرُّومِ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَعَزَمَتِ الرُّومُ عَلَى الْفِرَارِ، فَلَمْ تَقْدِرْ، فَاسْتَحَرَّ فِيهِمُ
الْقَتْلُ، وَأُخِذَ الدُّمُسْتُقُ أَسِيرًا، فَأُودِعَ فِي السِّجْنِ، فَلَمْ
يَزَلْ فِيهِ حَتَّى مَرِضَ، وَمَاتَ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ، وَقَدْ جَمَعَ
لَهُ أَبُو تَغْلِبَ الْأَطِبَّاءَ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ.
وَفِيهَا احْتَرَقَ الْكَرْخُ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَعُونَةِ ضَرَبَ رَجُلًا مِنَ
الْعَامَّةِ فَمَاتَ، فَثَارَ بِهِ الْعَامَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَتْرَاكِ،
فَهَرَبَ مِنْهُمْ فَدَخَلَ دَارًا، فَأَخْرَجُوهُ مَسْحُوبًا، وَقَتَلُوهُ
وَحَرَقُوهُ، فَرَكِبَ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ - وَكَانَ
شَدِيدَ التَّعَصُّبِ لِلسُّنَّةِ - وَبَعَثَ حَاجِبَهُ إِلَى أَهْلِ الْكَرْخِ،
فَأَلْقَى فِي دُورِهِمُ النَّارَ، فَاحْتَرَقَتْ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ
الدُّورِ وَالْأَمْوَالِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُمِائَةِ دُكَّانٍ وَثَلَاثَةٌ
وَثَلَاثُونَ مَسْجِدًا، وَسَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
عَزَلَ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ هَذَا
عَنِ الْوِزَارَةِ، وَوَلَّاهَا مُحَمَّدَ بْنَ بَقِيَّةَ، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ
مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ وَضِيعًا عِنْدَ
النَّاسِ لَا حُرْمَةَ لَهُ، كَانَ أَبُوهُ فَلَّاحًا بِقَرْيَةِ أَوَانَا وَكَانَ
هُوَ مِمَّنْ يَخْدِمُ عِزَّ الدَّوْلَةِ، يُقَدِّمُ لَهُ الطَّعَامَ، وَيَحْمِلُ
مِنْدِيلَ الزَّفَرِ عَلَى كَتِفِهِ إِلَى أَنْ وَلِيَ الْوِزَارَةَ، وَمَعَ هَذَا
كَانَ أَشَدَّ ظُلْمًا لِلرَّعِيَّةِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَكَثُرَ فِي
زَمَانِهِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَفَسَدَتِ الْأُمُورُ بِبَغْدَادَ،
وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ حَاجِبِهِ سُبُكْتِكِينَ
ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى دَخَنٍ.
وَفِيهَا كَانَ دُخُولُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَصَحِبَتْهُ تَوَابِيتُ آبَائِهِ فَوَصَلَ إِلَى
الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا، وَقَدْ تَلَقَّاهُ أَعْيَانُ مِصْرَ
إِلَيْهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ هُنَالِكَ خُطْبَةً بَلِيغَةً ارْتِجَالًا، ذَكَرَ
فِيهَا فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ، وَقَدْ كَذَبَ فَقَالَ فِيهَا: إِنَّ اللَّهَ
أَغَاثَ الرَّعَايَا بِهِمْ وَبِدَوْلَتِهِمْ، وَحَكَى ذَلِكَ عَنْهُ قَاضِي
بِلَادِ مِصْرَ، وَكَانَ جَالِسًا
إِلَى جَنْبِهِ، فَسَأَلَهُ: هَلْ رَأَيْتَ خَلِيفَةً أَفْضَلَ مِنِّي ؟ فَقَالَ
لَهُ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْخَلَائِفِ سِوَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ
لَهُ: أَحَجَجْتَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَزُرْتَ قَبْرَ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَقَبْرَ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ ؟ قَالَ: فَتَحَيَّرْتُ مَاذَا أَقُولُ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا ابْنُهُ
قَائِمٌ مَعَ كِبَارِ الْأُمَرَاءِ، فَقُلْتُ: شَغَلَنِي عَنْهُمَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا شَغَلَنِي أَمِيرُ
الْمُؤْمِنِينَ عَنِ السَّلَامِ عَلَى وَلِيِّ الْعَهْدِ، وَنَهَضْتُ إِلَيْهِ
فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَرَجَعْتُ، فَانْفَسَحَ الْمَجْلِسُ إِلَى غَيْرِي.
ثُمَّ سَارَ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ إِلَى مِصْرَ، فَدَخَلَهَا فِي الْخَامِسِ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَنَزَلَ الْقَصْرَيْنِ، فَقِيلَ: إِنَّهُ
أَوَّلُ مَا دَخَلَ إِلَى مَحَلِّ مُلْكِهِ خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ حُكُومَةٍ انْتَهَتْ إِلَيْهِ أَنَّ امْرَأَةَ كَافُورٍ
الْإِخْشِيدِيِّ تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ، فَذَكَرَتْ أَنَّهَا كَانَتْ أَوْدَعَتْ
رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ الصُّوَّاغِ قَبَاءً مِنْ لُؤْلُؤٍ مَنْسُوجٍ
بِالذَّهَبِ، وَأَنَّهُ جَحَدَ ذَلِكَ، فَاسْتَحْضَرَهُ وَقَرَّرَهُ، فَجَحَدَ
الْيَهُودِيُّ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُعِزُّ، بِأَنْ
تُحْفَرَ دَارُهُ، وَيُسْتَخْرَجُ مَا فِيهَا، فَوَجَدُوا الْقَبَاءَ بِعَيْنِهِ
قَدْ جَعَلَهُ فِي جَرَّةٍ وَدَفَنَهَا فِيهَا، فَسَلَّمَهُ الْمُعِزُّ إِلَيْهَا،
فَقَدَّمَتْهُ إِلَيْهِ وَعَرَضَتْهُ عَلَيْهِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهَا
وَرَدَّهُ عَلَيْهَا، فَاسْتَحْسَنَ مِنْهُ ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ مِنْ مُؤْمِنٍ
وَكَافِرٍ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
السَّرِيُّ الرَّفَّاءُ الشَّاعِرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ السَّرِيِّ، أَبُو
الْحَسَنِ الْكِنْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ
الشَّاعِرُ، لَهُ مَدَائِحُ فِي سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ وَغَيْرِهِ
مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ، وَقَدْ قَدِمَ بَغْدَادَ فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ
بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقِيلَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ - وَقِيلَ خَمْسٍ -
وَسِتِّينَ، وَقِيلَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ، قَالَ: وَكَانَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدٍ ابْنَيْ هَاشِمٍ الْخَالِدِيَّيْنِ
الْمَوْصِلِيَّيْنِ مُعَادَاةٌ، وَادَّعَى عَلَيْهِمَا سَرِقَةَ شِعْرِهِ، وَكَانَ
مُعْتَنِيًا بِنَسْخِ دِيوَانِ كُشَاجِمَ الشَّاعِرِ، وَرُبَّمَا زَادَ فِيهِ مِنْ
شِعْرِ الْخَالِدِيَّيْنِ لِيَكْثُرَ حَجْمُهُ وَيَزُنَّهُمَا بِالْكَذِبِ.
وَكَانَ قَدِ امْتَدَحَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ فَأَجْرَى لَهُ رِزْقًا فَلَمْ يَزَلْ
بِهِ الْخَالِدِيَّانِ حَتَّى قَطَعَا رَسْمَهُ مِنْ عِنْدِهِ، فَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَامْتَدَحَ الْوَزِيرَ الْمُهَلَّبِيَّ، فَرَحَلَا وَرَاءَهُ فَلَمْ يَزَالَا فِي
ثَلْبِهِ عِنْدَهُ حَتَّى هَجَرَهُ وَقَلَاهُ، فَرَكِبَهُ الدَّيْنُ وَمَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلِلسَّرِيِّ الرَّفَّاءِ هَذَا دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ
جَيِّدٌ، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
يَلْقَى النَّدَى بِرَقِيقِ وَجْهٍ مُسْفِرٍ فَإِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ عَادَ
صَفِيقَا
رَحْبُ الْمَنَازِلِ مَا أَقَامَ
فَإِنْ سَرَى
فِي جَحْفَلٍ تَرَكَ الْفَضَاءَ مَضِيقًا
وَقَوْلُهُ:
أَلْبَسْتَنِي نِعَمًا رَأَيْتُ بِهَا الدُّجَى صُبْحًا وَكُنْتُ أَرَى الصَّبَاحَ
بَهِيمَا
فَغَدَوْتُ يَحْسُدُنِي الصَّدِيقُ وَقَبْلَهَا قَدْ كَانَ يَلْقَانِي الْعَدُوُّ
رَحِيمَا
وَقَوْلُهُ:
بِنَفْسِي مَنْ أَجُودُ لَهُ بِنَفْسِي وَيَبْخَلُ بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ
وَحَتْفِي كَامِنٌ فِي مُقْلَتَيْهِ كُمُونَ الْمَوْتِ فِي حَدِّ الْحُسَامِ
مُحَمَّدُ بْنُ هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيُّ الشَّاعِرُ
كَانَ قَدِ اسْتَصْحَبَهُ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي حِينَ تَوَجَّهَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَلَمَّا
كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ وَجَدَ مُحَمَّدَ بْنَ هَانِئٍ مَقْتُولًا مُجَدَّلًا
عَلَى حَافَّةِ الْبَحْرِ، وَذَلِكَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ شَاعِرًا
مُطَبِّقًا قَوِيَّ النَّظْمِ، إِلَّا أَنَّهُ كَفَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْعُلَمَاءِ فِي مُبَالَغَاتِهِ فِي مَدَائِحِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
يَمْدَحُ الْمُعِزَّ قَبَّحَهُمَا اللَّهُ
مَا شِئْتَ لَا مَا شَاءَتِ الْأَقْدَارُ فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ
وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ، وَكُفْرٌ كَثِيرٌ.
وَقَالَ أَيْضًا، قَبَّحَهُ اللَّهُ
وَأَخْزَاهُ، وَفَضَّ فَاهُ:
وَلَطَالَمَا زَاحَمْتُ تَحْ تَ رِكَابِهِ جِبْرِيلَا
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِي
دِيوَانِهِ -:
حَلَّ بِرَقَّادَةَ الْمَسِيحُ حَلَّ بِهَا آدَمٌ وَنُوحُ
حَلَّ بِهَا اللَّهُ ذُو الْمَعَالِي فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ رِيحُ
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَقَدْ شَرَعَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ فِي
الِاعْتِذَارِ عَنْهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: هَذَا الشِّعْرُ إِنْ صَحَّ
عَنْهُ، فَلَيْسَ عَنْهُ اعْتِذَارٌ، لَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَا فِي
هَذِهِ الدَّارِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَخْتَوَيْهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَكِّي
أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْمُبَرَّزِينَ، أَنْفَقَ عَلَى الْحَدِيثِ وَأَهْلِهُ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَسَمِعَ النَّاسُ بِتَخْرِيجِهِ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسُ
الْإِمْلَاءِ بِنَيْسَابُورَ، وَرَحَلَ وَسَمِعَ مِنَ الْمَشَايِخِ شَرْقًا
وَغَرْبًا، وَمِنْ مَشَايِخِهِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَكَانَ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ، مِنْهُمْ أَبُو
الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ وَأَضْرَابُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَنْ سَبْعٍ وَسِتِّينَ سَنَةً.
سَعِيدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ أَبُو عَمْرٍو
الْبَرْذَعِيُّ
أَحَدُ الْحُفَّاظِ، رَوَى عَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ كَوْثَرِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو بَحْرٍ
الْبَرْبَهَارِيُّ
رَوَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَتِمْتَامٍ وَالْبَاغَنْدِيِّ
وَالْكُدَيْمِيِّ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُ رَزْقَوَيْهِ وَأَبُو
نُعَيْمٍ، وَانْتَخَبَ عَلَيْهِ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَقَالَ: اقْتَصِرُوا عَلَى
مَا خَرَّجْتُهُ لَهُ، فَقَدِ اخْتَلَطَ صَحِيحُ سَمَاعِهِ بِفَاسِدِهِ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ حُفَّاظِ زَمَانِهِ بِسَبَبِ تَخْلِيطِهِ
وَغَفْلَتِهِ، وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِالْكَذِبِ أَيْضًا.
الْقَاضِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَلِيٍّ
الْمَرْوَرُّوذِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْمَذْهَبِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ التَّعْلِيقَةُ
الْمَشْهُورَةُ، تَفَقَّهَ بِأَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ الْمَرْوَزِيَّ وَأَخَذَ
عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْبَغَوِيُّ صَاحِبُ " التَّهْذِيبِ " وَ
" التَّفْسِيرِ " وَ " شَرَحِ السُّنَّةِ " وَ "
الْمَصَابِيحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي الطَّبَقَاتِ بِمَا
فِيهِ كِفَايَةٌ. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ
وَالْغَزَّالِيُّ: قَالَ الْقَاضِي. فَهُوَ هَذَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عُمِلَتِ الْبِدْعَةُ الشَّنْعَاءُ عَلَى عَادَةِ الرَّوَافِضِ، وَوَقَعَتْ
فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِبَغْدَادَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالرَّافِضَةِ، وَكِلَا
الْفَرِيقَيْنِ قَلِيلُ عَقَلٍ، بَعِيدٌ عَنِ السَّدَادِ، وَذَلِكَ أَنَّ
جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَرْكَبُوا امْرَأَةً وَسَمَّوْهَا عَائِشَةَ،
وَتَسَمَّى بَعْضُهُمْ بِطَلْحَةَ، وَبَعْضُهُمْ بِالزُّبَيْرِ وَقَالُوا:
نُقَاتِلُ أَصْحَابَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَعَاثَتِ الْعَيَّارُونَ فِي الْبَلَدِ بِالْفَسَادِ وَنَهْبِ
الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الرِّجَالِ، ثُمَّ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقُتِلُوا
وَصُلِبُوا، فَسَكَنَتِ النُّفُوسُ.
وَفِيهَا أَخَذَ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ
الْمَوْصِلَ وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بِالْبَصْرَةِ بَيْنَ الدَّيَالِمِ وَالْأَتْرَاكِ،
فَقَوِيَتِ الدَّيْلَمُ عَلَى التُّرْكِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُلْكَ فِيهِمْ،
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَحَبَسُوا رُءُوسَهُمْ، وَنَهَبُوا
كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَكَتَبَ عِزُّ الدَّوْلَةِ إِلَى أَهْلِهِ: إِنِّي
سَأَكْتُبُ إِلَيْكُمْ أَنِّي قَدْ مُتُّ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ
فَأَظْهِرُوا النَّوْحَ، وَاجْلِسُوا لِلْعَزَاءِ، فَإِذَا جَاءَ سُبُكْتِكِينُ
لِلتَّعْزِيَةِ فَاقْبِضُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ رُكْنُ الْأَتْرَاكِ
وَرَأْسُهُمْ. فَلَمَّا جَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى بَغْدَادَ بِذَلِكَ أَظْهَرُوا
النَّوْحَ وَالصُّرَاخَ، فَفَهِمَ سُبُكْتِكِينُ أَنَّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ فَلَمْ
يَقَرَبْهُمْ،
وَتَحَقَّقَ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ عِزِّ الدَّوْلَةِ، وَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ فِي الْأَتْرَاكِ،
فَحَاصَرُوا دَارَ عِزِّ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَادَ يَوْمَيْنِ، ثُمَّ أَنْزَلَ
أَهْلَهُ مِنْهَا، وَنَهَبَ مَا فِيهَا وَأَحْدَرَهُمْ مِنْ دِجْلَةَ إِلَى وَاسِطٍ
مَنْفِيِّينَ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى بَعْثِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ، فَعَفَا
عَنْهُ وَأَقَرَّهُ بِدَارِهِ وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ سُبُكْتِكِينَ وَالْأَتْرَاكِ
بِبَغْدَادَ، وَنَهَبَتِ الْأَتْرَاكُ دُورَ الدَّيْلَمِ، وَخَلَعَ سُبُكْتِكِينُ
عَلَى رُؤَسَاءِ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعَهُ عَلَى الدَّيْلَمِ،
وَقَوِيَتِ السُّنَّةُ عَلَى الشِّيعَةِ، وَأَحْرَقُوا الْكَرْخَ حَرِيقًا
ثَانِيًا، وَظَهَرَتِ السُّنَّةُ عَلَى أَيْدِي الْأَتْرَاكِ، وَخُلِعَ
الْمُطِيعُ، وَوُلِّيَ وَلَدُهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
خِلَافَةُ الطَّائِعِ وَخَلْعُ أَبِيهِ الْمُطِيعِ لِلَّهِ
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ - وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ ": كَانَ
ذَلِكَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ - خُلِعَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَذَلِكَ لِفَالِجٍ أَصَابَهُ، فَثَقُلَ
لِسَانُهُ، فَسَأَلَهُ سُبُكْتِكِينُ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ، وَيُوَلِّيَ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدَهُ الطَّائِعَ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ فَعُقِدَتِ الْبَيْعَةُ
لِلطَّائِعِ بِدَارِ الْخِلَافَةِ عَلَى يَدَيِ الْحَاجِبِ سُبُكْتِكِينَ،
وَخُلِعَ أَبُوهُ الْمُطِيعُ بَعْدَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَانَتْ لَهُ فِي
الْخِلَافَةِ، وَلَكِنْ تَعَوَّضَ بِوِلَايَةِ وَلَدِهِ.
وَاسْمُ الطَّائِعِ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْمُطِيعِ لِلَّهِ أَبِي
الْقَاسِمِ الْفَضْلِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ
بِاللَّهِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ
أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ
الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَلَمْ يَلِ
الْخِلَافَةَ مَنِ اسْمُهُ عَبْدُ الْكَرِيمِ سِوَاهُ، وَلَا مَنْ أَبَوْهُ حَيٌّ
سِوَاهُ وَسِوَى أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَلِ
الْخِلَافَةَ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ أَسَنَّ مِنْهُ حَالَ الْوِلَايَةِ، كَانَ
عُمُرُهُ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أُمُّهُ أَمَّ وَلَدٍ
اسْمُهَا عُتْبُ، وَكَانَتْ تَعِيشُ أَيْضًا يَوْمَ بُويِعَ بِالْخِلَافَةِ،
وَلَمَّا بُويِعَ الطَّائِعُ رَكِبَ وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ سُبُكْتِكِينُ
وَالْجَيْشُ، ثُمَّ خَلَعَ مِنَ الْغَدِ عَلَى سُبُكْتِكِينَ خِلَعَ الْمُلُوكِ،
وَلَقَّبَهُ نَصْرَ الدَّوْلَةِ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءَ الْإِمَارَةِ. وَلَمَّا
حَضَرَ الْأَضْحَى رَكِبَ الطَّائِعُ وَعَلَيْهِ السَّوَادُ، فَخَطَبَ النَّاسَ
بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَةً خَفِيفَةً حَسَنَةً.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " أَنَّ الْمُطِيعَ
لِلَّهِ كَانَ يُسَمَّى بَعْدَ خَلْعِهِ بِالشَّيْخِ الْفَاضِلِ.
ذِكْرُ الْحَرْبِ بَيْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ
الْقِرْمِطِيِّ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ،
وَابْتَنَى فِيهَا الْقَاهِرَةَ وَالْقَصْرَيْنِ،
وَتَأَطَّدَ مُلْكُهُ، سَارَ إِلَيْهِ
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْقِرْمِطِيُّ مِنَ الْأَحْسَاءِ فِي جَمْعٍ كَثِيفٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ، وَالْتَفَّ مَعَهُ أَمِيرُ الْعَرَبِ بِبِلَادِ الشَّامِ وَهُوَ
حَسَّانُ بْنُ الْجَرَّاحِ الطَّائِيُّ، فِي عَرَبِ الشَّامِ بِكَمَالِهِمْ،
فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمُ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ
لِكَثْرَتِهِمْ، وَكَتَبَ إِلَى الْقِرْمِطِيُّ يَسْتَمِيلُهُ، وَيَقُولُ لَهُ:
إِنَّ دَعْوَةَ آبَائِكَ إِنَّمَا كَانَتْ إِلَى آبَائِي قَدِيمًا، فَدَعْوَتُنَا
وَاحِدَةٌ. وَيَذْكُرُ فِيهِ فَضْلَهُ وَفَضْلَ آبَائِهِ، فَرَدَّ الْجَوَابَ:
وَصَلَ كِتَابُكَ الَّذِي كَثُرَ تَفْضِيلُهُ، وَقَلَّ تَحْصِيلُهُ، وَنَحْنُ سَائِرُونَ
إِلَيْكَ عَلَى إِثْرِهِ، وَالسَّلَامُ.
فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى دِيَارِ مِصْرَ عَاثُوا فِيهَا قَتْلًا وَنَهْبًا
وَإِفْسَادًا، وَحَارَ الْمُعِزُّ مَاذَا يَصْنَعُ ; لِكَثْرَةِ مَنْ مَعَ
الْقِرْمِطِيِّ، وَضَعُفَ جَيْشُهُ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ، فَعَدَلَ إِلَى
الْمَكِيدَةِ وَالْخَدِيعَةِ، فَرَاسَلَ حَسَّانَ بْنَ الْجَرَّاحِ أَمِيرَ
الْعَرَبِ، وَوَعَدَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ إِنْ هُوَ خَذَّلَ بَيْنَ
النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ بِمَا الْتَزَمْتَ،
وَتَعَالَ بِمَنْ مَعَكَ، فَإِذَا الْتَقَيْنَا انْهَزَمْتُ بِمَنْ مَعِي،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْمُعِزُّ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فِي أَكْيَاسٍ،
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهَا زَغَلٌ، ضَرَبَ النُّحَاسَ وَلَبَّسَهُ الذَّهَبَ،
وَجَعْلَهُ فِي أَسْفَلِ الْأَكْيَاسِ، وَوَضَعَ فِي رُءُوسِ الْأَكْيَاسِ الدَّنَانِيرَ
الْخَالِصَةَ، وَلَمَّا بَعَثَهَا إِلَيْهِ رَكِبَ فِي إِثْرِهَا بِجَيْشِهِ،
فَالْتَقَى النَّاسُ، وَلَمَّا تَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ وَنَشِبَتِ الْحَرْبُ
بَيْنَهُمْ، انْهَزَمَ حَسَّانُ بْنُ الْجَرَّاحِ بِالْعَرَبِ، فَضَعُفَ جَانِبُ
الْقِرْمِطِيِّ، وَقَوِيَ عَلَيْهِ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ فَكَسَرَهُ،
وَانْهَزَمَتِ الْقَرَامِطَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَرَجَعُوا إِلَى أَذْرِعَاتَ فِي
أَذَلِّ حَالٍ وَأَفَلِّهِ، وَبَعَثَ الْمُعِزُّ فِي آثَارِهِمُ الْقَائِدَ أَبَا
مَحْمُودٍ إِبْرَاهِيمَ بْنَ جَعْفَرٍ فِي عَشَرَةِ آلَافِ فَارِسٍ ; لِيَحْسِمَ
مَادَّةَ الْقَرَامِطَةِ.
مُلْكُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ
دِمَشْقَ، وَانْتِزَاعُهُ إِيَّاهَا مِنْ يَدِ الْقَرَامِطَةِ
لَمَّا انْهَزَمَ الْقِرْمِطِيُّ وَأَصْحَابُهُ، بَعَثَ الْمُعِزُّ سَرِيَّةً،
عَلَيْهِمْ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ أَمِيرًا عَلَى دِمَشْقَ
فَتَسَلَّمَهَا مِنَ الْقَرَامِطَةِ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ، وَاعْتَقَلَ
مُتَوَلِّيَهَا أَبَا الْمُنَجَّا الْقِرْمِطِيَّ وَابْنَهُ، وَاعْتَقَلَ رَجُلًا
يُقَالُ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَهْلِ نَابُلُسَ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي
الْفَاطِمِيِّينَ، وَيَقُولُ: لَوْ كَانَ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لَرَمَيْتُ
الرُّومَ بِسَهْمٍ وَرَمَيْتُ الْمَغَارِبَةَ - يَعْنِي الْفَاطِمِيِّينَ -
بِتِسْعَةٍ. فَسُلِخَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُعِزِّ، وَحُشِيَ جِلْدُهُ تِبْنًا،
وَصُلِبَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَلَمَّا تَفَرَّغَ أَبُو مَحْمُودٍ الْقَائِدُ مِنْ قِتَالِ الْقَرَامِطَةِ
أَقْبَلَ نَحْوَ دِمَشْقَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ، فَتَلَقَّاهُ
إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَأَكْرَمَهُ وَأَنْزَلَهُ ظَاهِرَ دِمَشْقَ فَأَفْسَدَ
أَصْحَابُهُ فِي الْغُوطَةِ وَالْمَرْجِ وَنَهَبُوا الْفَلَّاحِينَ، وَقَطَعُوا
الطُّرُقَاتِ عَلَى النَّاسِ، وَتَحَوَّلَ أَهْلُ الْغُوطَةِ إِلَى الْبَلَدِ مِنْ
كَثْرَةِ النَّهْبِ، وَجِيءَ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْقَتْلَى فَأُلْقُوا فِي
الْجَامِعِ، فَكَثُرَ الضَّجِيجُ، وَغُلِّقَتِ الْأَسْوَاقُ، وَاجْتَمَعَتِ
الْعَامَّةُ لِلْقِتَالِ، وَالْتَقَوْا مَعَ الْمَغَارِبَةِ، فَقُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ جَمَاعَةٌ، وَانْهَزَمَتِ الْعَامَّةُ غَيْرَ مَرَّةٍ،
وَأَحْرَقَتِ الْمَغَارِبَةُ
نَاحِيَةَ بَابِ الْفَرَادِيسِ،
فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالدُّورِ وَلَبِثَتِ الْحَرْبُ
بَيْنَهُمْ إِلَى سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ، وَأُحْرِقَ الْبَلَدُ مَرَّةً
أُخْرَى بَعْدَ عَزْلِ ظَالِمِ بْنِ مَوْهُوبٍ وَتَوْلِيَةِ جَيْشِ بْنِ
صَمْصَامَةَ ابْنِ أُخْتِ أَبِي مَحْمُودٍ، قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَقُطِّعَتِ
الْقَنَوَاتُ وَسَائِرُ الْمِيَاهِ عَنِ الْبَلَدِ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ
الْفُقَرَاءِ فِي الطُّرُقَاتِ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَمْ يَزَلِ الْحَالُ
كَذَلِكَ حَتَّى وَلِيَ عَلَيْهِمُ الطَّوَاشِيُّ رَيَّانُ الْخَادِمُ، مِنْ
جِهَةِ الْمُعِزِّ، فَسَكَنَتِ الْأُمُورُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَمَّا قَوِيَتِ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَادَ تَحَيَّرَ عِزُّ الدَّوْلَةِ
بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ فِي أَمْرِهِ، وَمَا يَصْنَعُ، وَهُوَ
بِالْأَهْوَازِ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَمِّهِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ يَسْتَنْجِدُهُ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ بِعَسْكَرٍ مَعَ وَزِيرِهِ أَبِي الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ، وَأَرْسَلَ
إِلَى ابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، فَتَبَاطَأَ
عَلَيْهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَأَرْسَلَ
إِلَى أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، فَأَظْهَرَ نَصْرَهُ وَإِنَّمَا يُرِيدُ فِي
الْبَاطِنِ أَخْذَ بَغْدَادَ وَخَرَجَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْ بَغْدَادَ فِي جَحْفَلٍ
كَثِيرٍ، وَمَعَهُمُ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ وَأَبُوهُ الْمُطِيعُ، فَلَمَّا
انْتَهَوْا إِلَى وَاسِطٍ تُوُفِّيَ الْمُطِيعُ لِلَّهِ وَبَعْدَ أَيَّامٍ
تُوُفِّيَ سُبُكْتِكِينُ أَيْضًا، فَحُمِلَا إِلَى بَغْدَادَ فَالْتَفَّتِ
التُّرْكُ عَلَى أَمِيرٍ يُقَالُ لَهُ: أَفْتُكِينُ، فَاجْتَمَعَ شَمْلُهُمْ،
وَالْتَقَوْا مَعَ بَخْتِيَارَ فَضَعُفَ أَمْرُهُ جِدًّا، وَقَوِيَ عَلَيْهِ ابْنُ
عَمِّهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مُلْكَ الْعِرَاقِ، وَتَمَزَّقَ
شَمْلُهُ، وَتَفَرَّقَ أَمْرُهُ.
وَفِيهَا خُطِبَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بِالْحَرَمَيْنِ مَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ.
وَفِيهَا خَرَجَ جَمْعٌ مِنْ بَنِي
هِلَالٍ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ عَلَى الْحُجَّاجِ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَعَطَّلُوا عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمُ الْحَجَّ فِي هَذَا
الْعَامِ.
وَفِيهَا انْتَهَى تَارِيخُ ثَابِتِ بْنِ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ
وَأَوَّلُهُ مِنْ أَوَّلِ دَوْلَةِ الْمُقْتَدِرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ شَدِيدَةٌ بِوَاسِطٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ
الْمُوسَوِيُّ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِأَحَدٍ حَجٌّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ سِوَى مَنْ
كَانَ مَعَهُ عَلَى دَرْبِ الْعِرَاقِ، وَقَدْ أَخَذَ بِالنَّاسِ عَلَى طَرِيقِ
الْمَدِينَةِ فَتَمَّ حَجُّهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْعَبَّاسُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْفَضْلِ الشِّيرَازِيُّ
الْوَزِيرُ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ، وَكَانَ مِنَ الْمُتَعَصِّبِينَ لِلسُّنَّةِ، عَكْسَ مَخْدُومِهِ،
فَعَزَلَهُ، وَوَلَّى مُحَمَّدَ بْنَ بَقِيَّةَ الْبَابَا كَمَا تَقَدَّمَ،
وَحَبَسَ هَذَا، فَقُتِلَ فِي مَحْبِسِهِ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا، عَنْ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ فِيهِ ظُلْمٌ وَحَيْفٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ
الْحَنْبَلِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ
الْخَلَّالِ، أَحَدُ مَشَاهِيرِ
الْحَنَابِلَةِ الْأَعْيَانِ، وَمِمَّنْ صَنَّفَ وَجَمَعَ وَنَاظَرَ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ عُمُرُهُ
يَوْمَ تُوُفِّيَ فَوْقَ الثَّمَانِينَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَهُ " الْمُقْنِعُ " فِي مِائَةِ جُزْءٍ،
وَ " الشَّافِي " فِي ثَمَانِينَ جُزْءًا، وَ " زَادُ الْمُسَافِرِ
"، وَ " الْخِلَافُ مَعَ الشَّافِعِيِّ " وَكِتَابُ "
الْقَوْلَيْنِ " وَ " مُخْتَصَرُ السُّنَّةِ " وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي
التَّفْسِيرِ وَالْأُصُولِ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْفَتْحِ الْبُسْتِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ دِيوَانٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، لَهُ فِي الْمُطَابَقَةِ
وَالْمُجَانَسَةِ يَدٌ طُولَى، وَمُبْتَكَرَاتٌ أُولَى، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " مِنْ ذَلِكَ قِطْعَةً كَبِيرَةً
مُرَتَّبَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا قَنِعْتُ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقُوتِ بَقِيتُ فِي النَّاسِ حُرًّا غَيْرَ
مَمْقُوتِ يَا قُوتَ يَوْمِي إِذَا مَا دَرَّ خَلْفُكَ لِي
فَلَسْتُ آسَى عَلَى دُرٍّ وَيَاقُوتِ
وَلَهُ:
يَا أَيُّهَا السَّائِلُ عَنْ
مَذْهَبِي لِيُقْتَدَى فِيهِ بِمِنْهَاجِي
مِنْهَاجِيَ الْعَدْلُ وَقَمْعُ الْهَوَى فَهَلْ لِمِنْهَاجِيَ مِنْ هَاجِي
وَلَهُ:
أَفِدْ طَبْعَكَ الْمَكْدُودَ بِالْجِدِّ رَاحَةً تَجُمَّ وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ
مِنَ الْمَزْحِ
وَلَكِنْ إِذَا أَعْطَيْتَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ بِمِقْدَارِ مَا تُعْطِي الطَّعَامَ
مِنَ الْمِلْحِ
وَلَهُ:
إِذَا خَدَمْتَ الْمُلُوكَ فَالْبَسْ مِنَ التَّوَقِّي أَعَزَّ مَلْبَسْ
وَادْخُلْ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ أَعْمَى وَاخْرُجْ إِذَا مَا خَرَجْتَ أَخْرَسْ
وَلَهُ:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى عَدُوَّكَ رَاغِمًا وَتَقْتُلَهُ هَمًّا وَتَحْرِقَهُ
غَمَّا
فَسَامِ الْعُلَا وَازْدَدْ مِنَ الْفَضْلِ إِنَّهُ مَنِ ازْدَادَ فَضْلًا زَادَ
حَاسِدُهُ غَمَّا
وَلَهُ:
إِنَّ أَسْيَافَنَا الْعِضَابَ الدَّوَامِي صَيَّرَتْ مُلْكَنَا طَوِيلَ
الدَّوَامِ
لَمْ نَزَلْ نَحْنُ فِي سَدَادِ ثُغُورٍ وَاصْطِلَامِ الْأَعْدَاءِ مِنْ وَسْطِ
لَامِ
وَاقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ مِنْ وَقْتِ
حَامٍ وَاقْتِسَامِ الْأَمْوَالِ مَنْ وَقْتِ سَامِ
وَلَهُ:
يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَشْقَى بِخِدْمَتِهِ أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا
فِيهِ خُسْرَانُ
أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا
بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ
أَبُو فِرَاسِ بْنُ حَمْدَانَ الشَّاعِرُ
لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، اسْتَنَابَهُ أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ عَلَى حَرَّانَ
وَمَنْبِجَ، فَقَاتَلَ مَرَّةً الرُّومَ فَأُسِرَ، ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُ سَيْفُ
الدَّوْلَةِ، وَاتَّفَقَ مَوْتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَلَهُ شِعْرٌ رَائِقٌ وَمَعَانٍ حَسَنَةٌ. وَقَدْ رَثَاهُ
أَخُوهُ سَيْفُ الدَّوْلَةِ:
الْمَرْءُ نَصْبُ مَصَائِبٍ لَا تَنْقَضِي حَتَّى يُوَارَى جِسْمُهُ فِي رَمْسِهِ
فَمُؤَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي غَيْرِهِ وَمُعَجَّلٌ يَلْقَى الرَّدَى فِي
نَفْسِهِ
وَاتَّفَقَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ
سَيْفِ الدَّوْلَةِ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ: قُلْ فِي مَعْنَاهُمَا،
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ:
مَنْ يَتَمَنَّ الْعُمُرَ فَلْيَتَّخِذْ صَبْرًا عَلَى فَقْدِ أَحِبَّائِهِ
وَمَنْ يُعَمَّرْ يَلْقَ فِي نَفْسِهِ مَا يَتَمَنَّاهُ لِأَعْدَائِهِ
كَذَا ذَكَرَ ابْنُ السَّاعِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مِنْ شِعْرِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ فِي أَخِيهِ أَبِي فِرَاسٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ
فِي " الْمُنْتَظَمِ " مِنْ شِعْرِ أَبِي فِرَاسٍ نَفْسِهِ، وَأَنَّ
الْأَعْرَابِيَّ أَجَازَهُمَا بِالْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بَعْدَهُمَا.
وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ أَبِي فِرَاسٍ أَشْيَاءَ حَسَنَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
فِي قَصِيدَةٍ:
سَيَفْقِدُنِي قَوْمِي إِذَا جَدَّ جَدُّهُمْ وَفِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ
يُفْتَقَدُ الْبَدْرُ
وَلَوْ سَدَّ غَيْرِي مَا سَدَدْتُ اكْتَفَوْا بِهِ وَمَا كَانَ يَغْلُو التِّبْرُ
لَوْ نَفَقَ الصُّفْرُ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قَصِيدَةٍ:
إِلَى اللَّهِ أَشْكُو أَنَّنَا فِي مَنَازِلٍ تَحَكَّمُ فِي آسَادِهِنَّ كِلَابُ
فَلَيْتَكَ تَحْلُو وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ
غِضَابُ
وَلَيْتَ الْذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ
خَرَابُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جَاءَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ إِلَى
وَاسِطٍ وَمَعَهُ وَزِيرُ أَبِيهِ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْعَمِيدِ، فَهَرَبَ
مِنْهُ أَفْتِكِينُ فِي جَمَاعَةِ الْأَتْرَاكِ إِلَى بَغْدَادَ فَسَارَ
وَرَاءَهُمْ، فَنَزَلَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ، وَأَمَرَ بَخْتِيَارَ أَنْ
يَنْزِلَ عَلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَحَصَرَ التُّرْكَ حَصْرًا شَدِيدًا،
وَأَمَرَ أُمَرَاءَ الْأَعْرَابِ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى الْأَطْرَافِ، وَيَقْطَعُوا
الْمِيرَةَ الْوَاصِلَةَ إِلَى بَغْدَادَ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ
جِدًّا، وَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنَ الْمَعَاشِ مِنْ كَثْرَةِ الْعَيَّارِينَ
وَالنَّهْبِ، وَكَبَسَ أَفْتِكِينُ الْبُيُوتَ لِطَلَبِ الطَّعَامِ، وَاشْتَدَّ
الْحَالُ جِدًّا، ثُمَّ الْتَقَتِ الْأَتْرَاكُ وَعَضُدُ الدَّوْلَةِ،
فَكَسَرَهُمْ وَهَرَبُوا إِلَى تِكْرِيتَ وَاسْتَحْوَذَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى
بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَتِ التُّرْكُ قَدْ أَخْرَجُوا
مَعَهُمُ الْخَلِيفَةَ، فَرَدَّهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ
مُكَرَّمًا، وَنَزَلَ هُوَ بِدَارِ الْمُلْكِ، فَضَعُفَ أَمْرُ بَخْتِيَارَ جِدًّا،
وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ شَيْءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، فَأَغْلَقَ بَابَهُ وَطَرَدَ
الْحَجَبَةَ وَالْكَتَبَةَ عَنْ بَابِهِ، وَاسْتَعْفَى عَنِ الْإِمَارَةِ وَكَانَ
ذَلِكَ بِمَشُورَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَاسْتَعْطَفَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي
الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي الْبَاطِنِ أَنْ لَا يَقْبَلَ، فَلَمْ
يَقْبَلْ.
وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ بَيْنَهُمَا، فَصَمَّمَ بَخْتِيَارُ عَلَى الِامْتِنَاعِ
ظَاهِرًا، فَأَلْزَمَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِذَلِكَ، وَأَظْهَرَ لِلنَّاسِ
أَنَّهُ إِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا عَجْزًا مِنْهُ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ
الْمُلْكِ
فَأَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى
بَخْتِيَارَ وَعَلَى أَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ الْخَلِيفَةُ
الطَّائِعُ لِلَّهِ وَسُرَّ بِهِ، وَأَظْهَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ تَعْظِيمِ
الْخِلَافَةِ مَا كَانَ دَارِسًا، وَجَدَّدَ دَارَ الْخِلَافَةِ حَتَّى صَارَ
كُلُّ مَحَلٍّ مِنْهَا آنِسًا، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِالْأَمْوَالِ
الْكَثِيرَةِ وَالْأَمْتِعَةِ الْحَسَنَةِ، وَقَتَلَ جَمَاعَةَ الْمُفْسِدِينَ
مِنْ مَرَدَةِ التُّرْكِ وَشُطَّارِ الْعَيَّارِينَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَظُمَ الْبَلَاءُ
بِالْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَأَحْرَقُوا سُوقَ بَابِ الشَّعِيرِ، وَأَخَذُوا
أَمْوَالًا كَثِيرَةً، وَرَكِبُوا الْخُيُولَ، وَتَلَقَّبُوا بِالْقُوَّادِ،
وَأَخَذُوا الْخَفَرَ مِنَ الْأَسْوَاقِ وَالدُّرُوبِ، وَعَظُمَتِ الْمِحْنَةُ
بِهِمْ جِدًّا، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ كَثِيرًا، حَتَّى إِنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ
أَسْوَدَ كَانَ مُسْتَضْعَفًا نَجَمَ فِيهِمْ وَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى اشْتَرَى
جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَلَمَّا حَصَلَتْ عِنْدَهُ حَاوَلَهَا عَنْ
نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهَا: مَاذَا تَكْرَهِينَ مِنِّي ؟
قَالَتْ: أَكْرَهُكَ كُلَّكَ، فَقَالَ: فَمَا تُحِبِّينَ ؟ فَقَالَتْ: تَبِيعُنِي،
فَقَالَ: أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَحَمَلَهَا إِلَى الْقَاضِي، فَأَعْتَقَهَا،
وَأَعْطَاهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَأَطْلَقَهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْ حِلْمِهِ
وَكَرَمِهِ مَعَ فِسْقِهِ وَتَمَرُّدِهِ.
قَالَ: وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِي الْمُحَرَّمِ بِأَنَّهُ خُطِبَ لِلْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الْمَوْسِمِ، وَلَمْ يُخْطَبْ
لِلطَّائِعِ.
قَالَ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا حَتَّى بِيعَ
الْكُرُّ الدَّقِيقُ الْحُوَّارَى بِمِائَةٍ وَنَيِّفٍ وَسَبْعِينَ دِينَارًا.
قَالَ: وَفِيهَا اضْمَحَلَّ أَمْرُ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَتَفَرَّقَ جُنْدُهُ
عَنْهُ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى بَغْدَادَ وَحْدَهَا، فَبَعَثَ إِلَى أَبِيهِ
يَشْكُو لَهُ ذَلِكَ، فَأَرْسَلَ يَلُومُهُ عَلَى الْغَدْرِ بِابْنِ عَمِّهِ عِزِّ
الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى فَارِسَ
بَعْدَمَا أَخْرَجَ ابْنَ عَمِّهِ بَخْتِيَارَ مِنَ السِّجْنِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ،
وَأَعَادَهُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا
لَهُ بِالْعِرَاقِ يَخْطُبُ لَهُ بِهَا، وَجَعَلَ مَعَهُ أَخَاهُ أَبَا إِسْحَاقَ
أَمِيرَ الْجُيُوشِ لِضَعْفِ بَخْتِيَارَ عَنْ تَدْبِيرِ الْأُمُورِ، وَاسْتَمَرَّ
ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِ فَارِسَ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَنْ أَمْرِ أَبِيهِ لَهُ
بِذَلِكَ، وَغَضَبِهِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ غَدْرِهِ بِابْنِ عَمِّهِ، وَتَكْرَارِ
مُكَاتَبَاتِهِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ.
وَلَمَّا سَارَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ تَرَكَ بَعْدَهُ وَزِيرَ أَبِيهِ أَبَا
الْفَتْحِ بْنَ الْعَمِيدِ لِيَلْحَقَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَتَشَاغَلَ بِالْقَصْفِ
مَعَ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وَحْشَةً
بَيْنَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ ابْنِ الْعَمِيدِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ
هَلَاكِ ابْنِ الْعَمِيدِ، وَلَمَّا اسْتَقَرَّ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ
بِبَغْدَادَ وَمَلَكَ الْعِرَاقَ لَمْ يَفِ لِابْنِ عَمِّهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
بِشَيْءٍ مِمَّا كَانَ عَاهَدَهُ عَلَيْهِ، وَلَا مَا كَانَ الْتَزَمَ لَهُ بِهِ
بَيْنَ يَدَيْهِ، بَلْ تَمَادَى فِي ضَلَالِهِ الْقَدِيمِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى
سَنَنِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ.
قَالَ: وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تَزَوَّجَ
الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ شَاهْ نَازَ بِنْتَ عِزِّ الدَّوْلَةِ عَلَى
صَدَاقٍ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ عُزِلَ
الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ أُمِّ شَيْبَانَ،
وَقَلَّدَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ.
وَأَقَامَ الْحَجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَصْحَابُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ،
وَخُطِبَ لَهُ بِالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ دُونَ الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ،
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ أَخْذِ دِمَشْقَ مِنْ أَيْدِي الْفَاطِمِيِّينَ
ذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " كَامِلِهِ " أَنَّ أَفْتِكِينَ غُلَامَ
مُعِزِّ الدَّوْلَةِ الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنْ طَاعَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ،
وَالْتَفَّ عَلَيْهِ عَسَاكِرُ وَجُيُوشٌ مِنَ الدَّيْلَمِ وَالتُّرْكِ
وَالْأَعْرَابِ، نَزَلَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى دِمَشْقَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ
أَيْدِي الْفَاطِمِيِّينَ، وَكَانَ عَلَيْهَا رَيَّانُ الْخَادِمُ مِنْ جِهَةِ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، فَلَمَّا نَزَلَ بِظَاهِرِهَا خَرَجَ إِلَيْهِ
كُبَرَاؤُهَا وَشُيُوخُهَا، فَذَكَرُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ
وَمُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ بِسَبَبِ مُلْكِ الْفَاطِمِيِّينَ عَلَيْهِمْ،
وَسَأَلُوهُ أَنْ يُصَمِّمَ عَلَى أَخْذِ الْبَلَدِ لِيَسْتَنْقِذَهَا مِنْهُمْ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمَ عَلَى أَخْذِهَا، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَخَذَهَا،
وَأَخْرَجَ رَيَّانَ الْخَادِمَ مِنْهَا، وَاسْتَقَلَّ بِأَمْرِهَا، وَكَسَرَ
أَهْلَ الشَّرِّ بِهَا، وَرَفَعَ أَهْلَ الْخَيْرِ، وَوَضَعَ الْعَدْلَ فِيهِمْ،
وَقَمَعَ أَهْلَ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ
كَانُوا قَدْ عَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَأَخَذُوا عَامَّةَ الْمَرْجِ
وَالْغُوطَةِ، وَنَهَبُوا أَهْلَهَا.
وَلَمَّا اسْتَقَامَتِ الْأُمُورُ
عَلَى يَدَيْهِ، وَصَلُحَ أَمْرُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِ، كَتَبَ إِلَيْهِ
الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ مِنْ مِصْرَ يَشْكُرُ سَعْيَهُ وَيَطْلُبُهُ إِلَيْهِ ;
لِيَخْلَعَ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَهُ نَائِبًا مِنْ جِهَتِهِ، فَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى ذَلِكَ
وَخَافَ غَائِلَتَهُ، وَقَطَعَ خُطْبَتَهُ مِنَ الشَّامِ وَخَطَبَ لِلطَّائِعِ
الْعَبَّاسِيِّ، ثُمَّ قَصَدَ صَيْدَا وَبِهَا خَلْقٌ مِنَ الْمَغَارِبَةِ
عَلَيْهِمُ ابْنُ الشَّيْخِ، وَفِيهِمْ ظَالِمُ بْنُ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيُّ -
الَّذِي كَانَ نَائِبًا عَلَى دِمَشْقَ لِلْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ كَمَا
تَقَدَّمَ، فَأَسَاءَ بِهِمُ السِّيرَةَ - فَحَاصَرَهُمْ، وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى
أَخَذَ الْبَلَدَ مِنْهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ
مِنْ سَرَاتِهِمْ، ثُمَّ قَصَدَ طَبَرِيَّةَ فَفَعَلَ بِأَهْلِهَا مِثْلَ ذَلِكَ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ عَزَمَ الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَيْهِ
وَقِتَالِهِ.
فَبَيْنَمَا هُوَ يَجْمَعُ لَهُ وَيُرَتِّبُ الْجُيُوشَ إِذْ تُوفِّيَ الْمُعِزُّ
بِمِصْرَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي، وَقَامَ بَعْدَهُ
وَلَدُهُ الْعَزِيزُ، فَاطْمَأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ أَفْتِكِينُ بِالشَّامِ،
وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ، فَتَشَاوَرَ الْمِصْرِيُّونَ فِي
أَمْرِهِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ بَعَثُوا جَوْهَرًا الْقَائِدَ
إِلَيْهِ، وَذَلِكَ عَنْ رَأْيِ الْوَزِيرِ يَعْقُوبَ بْنِ كِلِّسٍ، فَلَمَّا
تَجَهَّزَ جَوْهَرٌ الْقَائِدُ لِقَصْدِ الشَّامِ حَلَّفَ أَفْتِكِينُ أَهْلَ
دِمَشْقَ عَلَى مُنَاصَرَتِهِ وَمُنَاصَحَتِهِ، فَحَلَفُوا لَهُ بِذَلِكَ.
وَجَاءَ جَوْهَرٌ فَحَصَرَ دِمَشْقَ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَصْرًا شَدِيدًا، وَرَأَى
مِنْ شَجَاعَةِ أَفْتِكِينَ مَا بَهَرَهُ، وَحِينَ طَالَ الْحَالُ أَشَارَ مَنْ
أَشَارَ مِنَ الدَّمَاشِقَةِ عَلَى أَفْتِكِينَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الْحَسَنِ
بْنِ أَحْمَدَ الْقِرْمِطِيِّ وَهُوَ بِالْأَحْسَاءِ ; لِيَجِيءَ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا كَتَبَ إِلَيْهِ أَقْبَلَ لِنَصْرِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ جَوْهَرٌ
بِقُدُومِهِ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَبْقَى بَيْنَ عَدُوَّيْنِ مِنْ دَاخِلِ
الْبَلَدِ وَمِنْ خَارِجِهَا، فَارْتَحَلَ قَاصِدًا الرَّمْلَةَ فَتَبِعَهُ
أَفْتِكِينُ وَالْقِرْمِطِيُّ فِي نَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفًا، فَتَوَاقَعُوا
عِنْدَ نَهْرِ الطَّوَاحِينِ عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنَ الرَّمَلَةِ
وَحَصَرُوا جَوْهَرًا بِالرَّمْلَةِ، فَضَاقَ حَالُهُ جِدًّا مِنْ قِلَّةِ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى أَشْرَفَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عَلَى الْهَلَاكِ، فَسَأَلَ
أَنْ يَجْتَمِعَ هُوَ وَأَفْتِكِينُ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ، فَأَجَابَهُ إِلَى
ذَلِكَ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَرَفَّقُ
لَهُ أَنْ يُطْلِقَهُ، لِيَرْجِعَ
بِمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى أُسْتَاذِهِ شَاكِرًا لَهُ مُثْنِيًا
عَلَيْهِ الْخَيْرَ، وَلَا يَسْمَعُ مِنَ الْقِرْمِطِيِّ رَأْيَهُ فِيهِ - وَكَانَ
جَوْهَرٌ دَاهِيَةً - فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَنَدَّمَهُ الْقِرْمِطِيُّ،
وَقَالَ: الرَّأْيُ أَنَّا كُنَّا نَحْصُرُهُمْ حَتَّى يَمُوتُوا عَنْ آخِرِهِمْ،
فَإِنَّهُ الْآنَ سَيَذْهَبُ إِلَى سَيِّدِهِ فَيُخْبِرُهُ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ
إِلَيْنَا، وَلَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَإِنَّهُ
لَمَّا أَطْلَقَهُ أَفْتِكِينُ مِنَ الْحَصْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَأْبٌ إِلَّا
أَنَّهُ حَثَّ الْعَزِيزَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَفْتِكِينَ بِنَفْسِهِ
وَجُيُوشِهِ، فَأَقْبَلَ فِي جَحَافِلَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ وَكَثْرَةٍ مِنَ
الرِّجَالِ وَالْعُدَدِ وَالْأَثْقَالِ وَالْأَمْوَالِ، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ
جَوْهَرٌ الْقَائِدُ، وَجَمَعَ أَفْتِكِينُ وَالْقِرْمِطِيُّ الْجُيُوشَ
وَالْأَعْرَابَ وَسَارُوا إِلَى الرَّمْلَةِ فَاقْتَتَلُوا فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ
سَبْعٍ وَسِتِّينَ.
وَلَمَّا تَوَاجَهُوا رَأَى الْعَزِيزُ مِنْ شَجَاعَةِ أَفْتِكِينَ مَا بَهَرَهُ
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَعْرِضُ عَلَيْهِ إِنْ أَطَاعَهُ وَرَجَعَ إِلَيْهِ أَنْ
يَجْعَلَهُ مُقَدَّمَ عَسَاكِرِهِ وَأَنْ يُحْسِنَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِحْسَانِ،
فَتَرَجَّلَ أَفْتِكِينُ عَنْ فَرَسِهِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ
نَحْوَ الْعَزِيزِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا قَبْلَ هَذَا
الْحَالِ لَأَمْكَنَنِي وَسَارَعْتُ وَأَطَعْتُ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا، ثُمَّ
رَكِبَ فَرَسَهُ وَحَمَلَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، فَفَرَّقَ شَمْلَهَا، وَبَدَّدَ
خَيْلَهَا وَرَجِلَهَا، فَبَرَزَ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَزِيزُ مِنَ الْقَلْبِ،
وَأَمَرَ الْمَيْمَنَةَ، فَحَمَلَتْ حَمْلَةً صَادِقَةً، فَانْهَزَمَ
الْقِرْمِطِيُّ وَتَبِعَهُ بَقِيَّةُ الشَّامِيِّينَ، وَرَكِبَتِ الْمَغَارِبَةُ
أَقَفِيَتَهُمْ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ مَنْ شَاءُوا، وَتَحَوَّلَ الْعَزِيزُ
فَنَزَلَ خِيَامَ الشَّامِيِّينَ بِمَنْ مَعَهُ، وَأَرْسَلَ السَّرَايَا
وَرَاءَهُمْ، وَجَعَلَ الْعَزِيزُ لَا يُؤْتَى بِأَسِيرٍ إِلَّا خَلَعَ عَلَى مَنْ
جَاءَ بِهِ، وَجَعَلَ لِمَنْ جَاءَهُ بِأَفْتِكِينَ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ.
فَاتَّفَقَ أَنَّ أَفْتِكِينَ عَطِشَ وَهُوَ مُنْهَزِمٌ عَطَشًا شَدِيدًا،
فَاجْتَازَ بِمُفَرِّجِ بْنِ دَغْفَلٍ، وَكَانَ صَاحِبَهُ، فَاسْتَسْقَاهُ
فَسَقَاهُ مَاءً وَأَنْزَلَهُ عِنْدَهُ فِي
بُيُوتِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى
الْعَزِيزِ يُخْبِرُهُ بِأَنَّ الَّذِي يَطْلُبُ عِنْدَهُ، فَلْيَحْمِلْ إِلَيْهِ
الذَّهَبَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَجَاءَ مَنْ
تَسَلَّمَهُ مِنْهُ، فَلَمَّا أُحِيطَ بِأَفْتِكِينَ لَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ
مَقْتُولٌ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ حَضَرَ عِنْدَ الْعَزِيزِ أَكْرَمَهُ غَايَةَ
الْإِكْرَامِ وَاحْتَرَمَهُ غَايَةَ الِاحْتِرَامِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ حَوَاصِلَهُ
وَأَمْوَالَهُ لَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا، وَجَعَلَهُ مِنْ أَخَصِّ
أَصْحَابِهِ وَأُمَرَائِهِ، وَأَنْزَلَهُ إِلَى جَانِبِ مَنْزِلِهِ، وَرَجَعَ بِهِ
إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، وَأَقْطَعَهُ هُنَالِكَ
إَقْطَاعَاتٍ جَزِيلَةً، وَأَرْسَلَ إِلَى الْقِرْمِطِيِّ يَعْرِضُ عَلَيْهِ أَنْ
يَقْدَمَ عَلَيْهِ وَيُكْرِمَهُ كَمَا أَكْرَمَ أَفْتِكِينَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ
وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
وَجَعَلَهَا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَكُفُّ بِهَا شَرَّهُ، وَلَمْ يَزَلْ
أَفْتِكِينُ مُكَرَّمًا عِنْدَ الْعَزِيرِ، حَتَّى وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْوَزِيرِ يَعْقُوبَ بْنِ كِلِّسٍ، فَعَمِلَ عَلَيْهِ حَتَّى سَقَاهُ سُمًّا
فَمَاتَ، وَحِينَ عَلِمَ الْخَلِيفَةُ بِذَلِكَ غَضِبَ عَلَى الْوَزِيرِ،
وَحَبَسَهُ بِضْعًا وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَخَذَ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْوَزِيرِ، فَأَخْرَجَهُ مِنَ
السِّجْنِ وَأَعَادَهُ إِلَى الْوِزَارَةِ، وَذَهَبَ أَفْتِكِينُ فِي حَالِ
سَبِيلِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
كَامِلِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
سُبُكْتِكِينُ الْحَاجِبُ التُّرْكِيُّ، مَوْلَى الْمُعِزِّ الدَّيْلَمِيِّ
وَحَاجِبُهُ
وَقَدْ تَرَقَّى فِي الْمَرَاتِبِ حَتَّى آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ قَلَّدَهُ
الطَّائِعُ الْإِمَارَةَ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ اللِّوَاءَ، وَلَقَّبَهُ
بِنُورِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ دَوْلَتِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ
شَهْرَيْنِ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَدُفِنَ بِبَغْدَادَ، وَدَارُهُ هِيَ
دَارُ الْمُلْكِ بِبَغْدَادَ، وَهِيَ دَارٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَقَدِ اتَّفَقَ
لَهُ
أَنَّهُ سَقَطَ يَوْمًا عَنْ فَرَسِهِ
فَانْكَسَرَ ضِلْعُهُ، فَدَاوَاهُ الطَّبِيبُ حَتَّى اسْتَقَامَ ظَهْرُهُ وَقَدَرَ
عَلَى الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ الرُّكُوعَ، فَأَعْطَاهُ
شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ يَقُولُ لِلطَّبِيبِ: إِذَا ذَكَرْتُ
مَرَضِي وَمُدَاوَاتَكَ لِي لَا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِكَ، وَلَكِنْ إِذَا
تَذَكَّرْتُ وَضْعَكَ قَدَمَيْكَ عَلَى ظَهْرِي اشْتَدَّ غَيْظِي مِنْكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ،
وَقَدْ تَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ
أَلْفِ دِينَارٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَصُنْدُوقَانِ مِنْ
جَوْهَرٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ صُنْدُوقًا مِنَ الْبَلُّورِ، وَخَمْسَةٌ
وَأَرْبَعُونَ صُنْدُوقًا مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ، وَمِائَةٌ وَثَلَاثُونَ مَرْكَبًا
مِنْ ذَهَبٍ، مِنْهَا خَمْسُونَ وَزْنُ كُلِّ وَاحِدٍ أَلْفُ دِينَارٍ،
وَسِتُّمِائَةِ مَرْكَبٍ فِضَّةً، وَأَرْبَعَةُ آلَافِ ثَوْبٍ دِيبَاجًا،
وَعَشَرَةُ آلَافِ دَبِيقِيٍّ وَعِتَّابِيٍّ، وَثَلَاثُمِائَةِ عِدْلٍ مَعْكُومَةٍ
مِنَ الْفُرُشِ، وَثَلَاثَةُ آلَافِ فَرَسٍ وَبَغْلٍ، وَأَلْفُ جَمَلٍ،
وَثَلَاثُمِائَةِ غُلَامٍ وَأَرْبَعُونَ خَادِمًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَا أَوْدَعَ
عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ صَاحِبِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قَسَّمَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ مَمَالِكَهُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ
عِنْدَمَا كَبِرَتْ سِنُّهُ، فَجَعَلَ لِوَلَدِهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِلَادَ
فَارِسَ وَكَرْمَانَ وَأَرَّجَانَ، وَلِوَلَدِهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ الرَّيَّ
وَأَصْبَهَانَ، وَلِفَخْرِ الدَّوْلَةِ هَمْدَانَ وَالدِّينَوَرَ، وَجَعَلَ
وَلَدَهُ أَبَا الْعَبَّاسِ فِي كَنَفِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَأَوْصَاهُ بِهِ.
وَفِيهَا جَلَسَ قَاضِي الْقُضَاةِ بِبَغْدَادَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ
فِي دَارِ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَفِي مَجْلِسِهِ عَنْ أَمْرِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ
لِفَصْلِ الْحُكُومَاتِ، وَحَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَفِيهَا حَجَّ بِالنَّاسِ أَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ جِهَةِ الْعَزِيزِ بْنِ
الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ بَعْدَمَا حُوصِرَ أَهْلُ مَكَّةَ وَلَقُوا شِدَّةً
عَظِيمَةً، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ عِنْدَهُمْ جِدًّا.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ أَنَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ذَهَبَ يُوسُفُ بُلُكِّينُ
- نَائِبُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ - إِلَى
سَبْتَةَ فَأَشْرَفَ عَلَيْهَا مِنْ جَبَلٍ مُطِلٍّ عَلَيْهَا، فَجَعَلَ
يَتَأَمَّلُ مِنْ أَيْنَ يُحَاصِرُهَا ؟ نِصْفَ يَوْمٍ، فَخَافَهُ أَهْلُهَا
خَوْفًا شَدِيدًا، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهَا إِلَى مَدِينَةٍ هُنَالِكَ يُقَالُ
لَهَا: بَصْرَةُ، فِي الْمَغْرِبِ، فَأَمَرَ بِهَدْمِهَا
وَنَهْبِهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى
مَدِينَةِ بَرْغَوَاطَةَ، وَبِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: عِيسَى ابْنُ أُمِّ
الْأَنْصَارِ، وَهُوَ مَلِكُهَا، وَقَدِ اشْتَدَّتِ الْمِحْنَةُ بِهِ لِسِحْرِهِ
وَشَعْبَذَتِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَطَاعُوهُ، وَوَضَعَ لَهُمْ
شَرِيعَةً يَقْتَدُونَ بِهِ فِيهَا، فَقَاتَلَهُمْ بُلُكِّينُ، فَهَزَمَهُمْ،
وَقَتَلَ هَذَا الْفَاجِرَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، وَنَهَبَ
أَمْوَالَهُمْ، وَسَبَى ذَرَارِيَّهُمْ، فَلَمْ يُرَ سَبْيٌ أَحْسَنُ أَشْكَالًا
مِنْهُمْ، فِيمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلْمٍ أَبُو بَكْرٍ الْخُتُّلِيُّ
لَهُ مُسْنَدٌ كَبِيرٌ، رَوَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
وَأَبِي مُحَمَّدٍ الْكَجِّيِّ وَخَلْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ،
وَكَانَ ثِقَةً، قَارَبَ التِّسْعِينَ.
ثَابِتُ بْنُ سِنَانِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ الصَّابِئُ
الْمُؤَرِّخُ، فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي " الْكَامِلِ ".
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو عَلِيٍّ الْمَاسَرْجَسِيُّ
الْحَافِظُ، رَحَلَ وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ مُسْنَدًا فِي أَلْفٍ
وَثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ بِطُرُقِهِ وَعِلَلِهِ، وَلَهُ
" الْمَغَازِي " وَ "
الْقَبَائِلُ "، وَخَرَّجَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي بَيْتِهِ وَسَلَفِهِ تِسْعَةَ عَشَرَ مُحَدِّثًا.
تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَدِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ
الْكَبِيرُ الْمُفِيدُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْجَوَّالُ النَّقَّالُ
الرَّحَّالُ، لَهُ كِتَابُ " الْكَامِلِ " فِي الْجَرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُلْحَقُ فِي شَكْلِهِ.
قَالَ حَمْزَةُ عَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: فِيهِ كِفَايَةٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ.
وُلِدَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهِيَ
السَّنَةُ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَتُوُفِّيَ ابْنُ
عَدِيٍّ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْمُعِزُّ الْفَاطِمِيُّ
بَانِي الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَّةِ، مَعَدُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو تَمِيمٍ
الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ،
صَاحِبُ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَهَا مِنَ
الْفَاطِمِيِّينَ، وَكَانَ مُلْكُهُمْ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَمَا وَالَاهَا
مِنْ بِلَادِ الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا كَانَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَوْهَرًا الْقَائِدَ، فَأَخَذَ لَهُ
الْبِلَادَ الْمِصْرِيَّةَ مِنْ كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ بَعْدَ حُرُوبٍ
تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُ جَوْهَرٍ الْقَائِدِ عَلَيْهَا، فَبَنَى
بِهَا الْقَاهِرَةَ الْمُعِزِّيَّةَ، وَنَزَلَ الْمَلِكُ الْمَكَانَ الْمُسَمَّى
بِالْقَصْرَيْنِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ لِلْمُعِزِّ فِي سِنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدِمَ الْمُعِزُّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي جَحَافِلَ
عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمَغَارِبَةِ وَالْأَكَابِرُ
وَالْقُوَّادُ، وَحِينَ نَزَلَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةَ تَلَقَّاهُ وُجُوهُ النَّاسِ
إِلَيْهَا، فَخَطَبَهُمْ بِهَا خُطْبَةً بَلِيغَةً افْتَخَرَ فِيهَا بِنَسَبِهِ
وَمُلْكِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ يَعْدِلُ وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ،
وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ رَحِمَ الْأُمَّةَ بِهِمْ، وَاسْتَنْقَذَهُمْ مِنْ أَيْدِي
الظَّلَمَةِ إِلَى عَدْلِهِمْ وَإِنْصَافِهِمْ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَدَّعِي
ظَاهِرَ الرَّفْضِ وَيُبْطِنُ - كَمَا قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ -
الْكُفْرَ الْمَحْضَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ طَاعَتِهِ وَمَنْ نَصَرَهُ وَوَالَاهُ،
وَاتَّبَعَهُ فِي مَذْهَبِهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ وَإِيَّاهُ.
وَقَدْ أُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ الزَّاهِدُ الْعَابِدُ التَّقِيُّ أَبُو بَكْرٍ
النَّابُلُسِيُّ فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمُعِزُّ: بَلَغَنِي
أَنَّكَ قُلْتَ: لَوْ أَنَّ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لَرَمَيْتُ الرُّومَ
بِسَهْمٍ، وَرَمَيْتُ الْمُعِزِّيِّينَ بِتِسْعَةٍ، فَقَالَ: مَا قُلْتُ هَذَا،
فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ،
وَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ ؟ قَالَ:
قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَكُمْ بِتِسْعَةٍ، ثُمَّ يَرْمِيَكُمْ
بِالْعَاشِرِ، قَالَ: وَلِمَ ؟ قَالَ: لِأَنَّكُمْ غَيَّرْتُمْ دِينَ الْأُمَّةِ،
وَقَتَلْتُمُ الصَّالِحِينَ، وَادَّعَيْتُمْ نُورَ الْإِلَهِيَّةِ، فَأَمَرَ
بَإِشْهَارِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، ثُمَّ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي ضَرْبًا شَدِيدًا مُبَرِّحًا، ثُمَّ أَمَرَ بِسَلْخِهِ فِي الْيَوْمِ
الثَّالِثِ، فَجِيءَ بِيَهُودِيٍّ فَجَعَلَ يَسْلُخُهُ، وَهُوَ يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ، قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَأَخَذَتْنِي رِقَّةٌ عَلَيْهِ، فَلَمَّا
بَلَغْتُ تِلْقَاءَ قَلْبِهِ طَعَنْتُهُ بِالسِّكِّينِ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى، فَقِيلَ لَهُ: الشَّهِيدُ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ بَنُو الشَّهِيدِ مِنْ
أَهْلِ نَابُلُسَ إِلَى الْيَوْمِ.
وَقَدْ كَانَ الْمُعِزُّ ذَا شَهَامَةٍ وَقُوَّةٍ وَشِدَّةِ عَزْمٍ، وَلَهُ
سِيَاسَةٌ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ يَعْدِلُ وَيَنْصُرُ الْحَقَّ، وَلَكِنَّهُ مَعَ
ذَلِكَ مُنَجِّمًا يَعْتَمِدُ مَا يُرْصَدُ مِنْ حَرَكَاتِ النُّجُومِ، قَالَ لَهُ
مُنَجِّمُهُ: إِنَّ عَلَيْكَ قُطْعًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَتَوَارَ عَنْ وَجْهِ
الْأَرْضِ حَتَّى تَنْقَضِيَ هَذِهِ الْمُدَّةُ. فَعَمِلَ لَهُ سِرْدَابًا،
وَأَحْضَرَ الْأُمَرَاءَ، وَأَوْصَاهُمْ بِوَلَدِهِ نِزَارٍ، وَلَقَّبَهُ
بِالْعَزِيزِ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِمْ،
فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَدَخَلَ ذَلِكَ السِّرْدَابَ، فَتَوَارَى فِيهِ
سَنَةً، فَكَانَتِ الْمَغَارِبَةُ إِذَا رَأَى الْفَارِسُ مِنْهُمْ سَحَابًا
سَارِيًا تَرَجَّلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ ظَانِّينَ
أَنَّ الْمُعِزَّ فِي ذَلِكَ الْغَمَامِفَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [
الزُّخْرُفِ: 54 ] ثُمَّ بَرَزَ إِلَى النَّاسِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ، وَجَلَسَ
فِي مَقَامِ الْمُلْكِ، وَحَكَمَ عَلَى عَادَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ تَطُلْ
مُدَّتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ عَاجَلَهُ الْقَضَاءُ الْمَحْتُومُ، وَالْحِينُ
الْمَقْسُومُ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ
أَيَّامِهِ فِي الْمُلْكِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةَ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ، مِنْهَا بِمِصْرَ سَنَتَانِ وَتِسْعَةُ أَشْهُرٍ، وَجُمْلَةُ عُمُرِهِ كُلِّهِ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّهُ وُلِدَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي حَادِي عَشَرَ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ خَمْسٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ بُوَيْهِ، وَقَدْ جَاوَزَ
السَّبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أَيَّامُ وِلَايَتِهِ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَقَبْلَ مَوْتِهِ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ قَسَّمَ مُلْكَهُ بَيْنَ
أَوْلَادِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ عُمِلَتْ ضِيَافَةٌ فِي دَارِ ابْنِ
الْعَمِيدِ بِأَصْبَهَانَ حَافِلَةٌ، حَضَرَهَا رُكْنُ الدَّوْلَةِ وَبَنُوهُ
وَأَعْيَانُ دَوْلَتِهِ، فَعَهِدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِلَى ابْنِهِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ، وَخَلَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَلَى إِخْوَتِهِ وَسَائِرِ
الْأُمَرَاءِ الْأَقْبِيَةَ وَالْأَكْسِيَةَ عَلَى عَادَةِ الدَّيْلَمِ،
وَحَيَّوْهُ بِالرَّيْحَانِ عَلَى عَادَتِهِمْ أَيْضًا، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا، ثُمَّ تُوُفِّيَ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ كَانَ سَائِسًا حَلِيمًا وَقُورًا، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ،
مُحِبًّا لِلْعُلَمَاءِ، فِيهِ إِيثَارٌ وَكَرَمٌ كَثِيرٌ، وَحُسْنُ عِشْرَةٍ
وَرِيَاسَةٍ عَلَى أَقَارِبِهِ وَدَوْلَتِهِ وَرَعِيَّتِهِ.
وَحِينَ تَمَكَّنَ ابْنُهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَصَدَ الْعِرَاقَ لِيَأْخُذَهَا
مِنِ ابْنِ عَمِّهِ عِزِّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارَ لِسُوءِ سِيرَتِهِ وَرَدَاءَةِ
سَرِيرَتِهِ، فَالْتَقَوْا فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِأَرْضِ الْأَهْوَازِ،
فَهَزَمَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، وَأَخَذَ أَثْقَالَهُ وَأَمْوَالَهُ، وَبَعَثَ
إِلَى الْبَصْرَةِ فَأَخَذَهَا، وَأَصْلَحَ بَيْنَ أَهْلِهَا حَيَّيْ رَبِيعَةَ
وَمُضَرَ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا خُلْفٌ مُتَقَادِمٌ مِنْ نَحْوِ مِائَةٍ
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ مُضَرُ تَمِيلُ إِلَيْهِ، وَرَبِيعَةُ عَلَيْهِ،
ثُمَّ اتَّفَقَ
الْحَيَّانِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ
الْفَرِيقَانِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَةُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فَعَزَلَ عِزَّ
الدَّوْلَةِ، وَقَبَضَ عَلَى وَزِيرِهِ ابْنِ بَقِيَّةَ ; لِأَنَّهُ اسْتَحْوَذَ
عَلَى الْأُمُورِ دُونَهُ، وَجَبَى الْأَمْوَالَ إِلَى خَزَائِنِهِ، فَاسْتَظْهَرَ
عِزُّ الدَّوْلَةِ بِمَا وَجَدَهُ مِنَ الْحَوَاصِلِ لِابْنِ بَقِيَّةَ، وَلَمْ
يُبْقِ لَهُ مِنْهَا بَقِيَّةً.
وَكَذَلِكَ أَمَرَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِالْقَبْضِ عَلَى وَزِيرِ أَبِيهِ أَبِي
الْفَتْحِ بْنِ الْعَمِيدِ لِمَوْجِدَةٍ تَقَدَّمَتْ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ
سَلَفَ ذِكْرُهَا، وَلَمْ يَبْقَ لِبَنِي الْعَمِيدِ أَيْضًا فِي الْأَرْضِ
بَقِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَكَابِرُ تَتَّقِي مِنْهُمُ التَّقِيَّةَ، وَقَدْ
كَانَ ابْنُ الْعَمِيدِ مِنَ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ بِأَوْفَرَ مَكَانٍ،
فَخَانَتْهُ الْمَقَادِيرُ وَعَاجَلَهُ غَضَبُ السُّلْطَانِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ
مِنْ غَضَبِ الرَّحْمَنِ.
وَفِي مُنْتَصَفِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ مَنْصُورُ
بْنُ نُوحٍ السَّامَانِيُّ - صَاحِبُ بِلَادِ خُرَاسَانَ - بِبُخَارَى، وَكَانَتْ
وِلَايَتُهُ خَمْسَ عَشْرةَ سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَلَدُهُ أَبُو
الْقَاسِمِ نُوحٌ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً،
وَلُقِّبَ بِالْمَنْصُورِ.
وَفِيهَا تُوَفِّيَ الْحَكَمُ،
وَلَقَبُهُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ بْنُ النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ
وَعُلَمَائِهِمْ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْخِلَافِ وَالتَّوَارِيخِ، مُحِبًّا
لِلْعُلَمَاءِ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ وَكَانَتْ وَفَاتُهُ وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ
ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ، مُدَّةُ خِلَافَتِهِ مِنْهَا
خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ هِشَامٌ وَلَهُ عَشْرُ سِنِينَ، وَلُقِّبَ بِالْمُؤَيَّدِ بِاللَّهِ، وَقَدِ
اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِهِ، وَاضْطَرَبَتِ الرَّعَايَا عَلَيْهِ، وَحُبِسَ
مُدَّةً، ثُمَّ أُخْرِجَ وَأُعِيدَ إِلَى الْخِلَافَةِ، وَقَامَ بِأَعْبَاءِ
أَمْرِهِ حَاجِبُهُ الْمَنْصُورُ أَبُو عَامِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ
الْمُعَافِرِيُّ، وَابْنَاهُ الْمُظَفَّرُ وَالنَّاصِرُ، فَسَاسَ الرَّعَايَا
جَيِّدًا، وَعَدَلَ فِيهِمْ، وَغَزَا الْأَعْدَاءَ، وَاسْتَقَرَّ لَهُمُ الْحَالُ
كَذَلِكَ نَحْوًا مِنْ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقَدْ سَاقَ ابْنُ الْأَثِيرِ
هَاهُنَا قِطْعَةً مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَأَطَالَ شَرْحَهَا.
وَفِيهَا رَجَعَ مُلْكُ حَلَبَ إِلَى أَبِي الْمَعَالِي شَرِيفِ بْنِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُوهُ وَقَامَ هُوَ
مِنْ بَعْدِهِ تَغَلَّبَ مَوْلَاهُمْ قَرْعُوَيْهِ عَلَيْهِمْ، وَأَخْرَجَهُ
مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، فَسَارَ إِلَى أُمِّهِ بِمَيَّافَارِقِينَ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ،
ثُمَّ جَاءَ فَنَزَلَ حُمَاةَ،
وَكَانَتِ الرُّومُ قَدْ خَرَّبَتْ حِمْصَ فَسَعَى فِي عِمَارَتِهَا
وَتَرْمِيمِهَا وَسَكَنَهَا، ثُمَّ إِنَّ قَرْعُوَيْهِ اسْتَنَابَ فِي حَلَبَ مَوْلًى
لَهُ يُقَالُ لَهُ: بَكْجُورُ، فَتَغَلَّبَ عَلَيْهِ وَسَجَنَ مَوْلَاهُ
قَرْعُوَيْهِ بِقَلْعَتِهَا نَحْوًا مِنْ سِتِّ سِنِينَ، فَكَتَبَ أَهْلُ حَلَبَ
إِلَى أَبِي الْمَعَالِي وَهُوَ بِحِمْصَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْهِمْ،
فَسَارَ فَحَاصَرَ حَلَبَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَافْتَتَحَهَا وَامْتَنَعَتِ
الْقَلْعَةُ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَصَّنَ بِهَا بَكْجُورُ ثُمَّ اصْطَلَحَ مَعَ
أَبِي الْمَعَالِي عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَسْتَنِيبَهُ
بِحِمْصَ، فَفَعَلَ، فَنَابَ لَهُ بَكْجُورُ بِحِمْصَ، ثُمَّ انْتَقَلَ فِي وَقْتٍ
إِلَى نِيَابَةِ دِمَشْقَ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ هَذِهِ الْمَزْرَعَةُ ظَاهِرَ
دِمَشْقَ مِنْ غَرْبِهَا، الَّتِي تُعْرَفُ بِالْقَصْرِ الْبَكْجُورِيِّ.
ابْتِدَاءُ مُلْكِ سُبُكْتِكِينَ، وَالِدِ مَحْمُودٍ صَاحِبِ غَزْنَةَ
وَقَدْ كَانَ سُبُكْتِكِينَ مَوْلًى لِلْأَمِيرِ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ
أَلِبْتِكِينَ صَاحِبِ جَيْشِ غَزْنَةَ وَأَعْمَالِهَا لِلسَّامَانِيَّةِ،
وَلَيْسَ هَذَا بِحَاجِبِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ ذَاكَ، تُوُفِّيَ قَبْلَ هَذِهِ
السَّنَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا هَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ مَوْلَاهُ لَمْ
يَتْرُكْ أَحَدًا يَصْلُحُ لِلْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ لَا مِنْ وَلَدِهِ وَلَا مِنْ
قَوْمِهِ، فَاصْطَلَحَ الْجَيْشُ عَلَى مُبَايَعَةِ سُبُكْتِكِينَ هَذَا ;
لِخَيْرِهِ فِيهِمْ، وَحُسْنِ سِيرَتِهِ، وَكَمَالِ عَقْلِهِ، وَشَجَاعَتِهِ، وَدِيَانَتِهِ،
فَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ بِيَدِهِ، وَاسْتَمَرَّ مِنْ بَعْدِهِ فِي وَلَدِهِ
السَّعِيدِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ غَزَا سُبُكْتِكِينُ هَذَا
بِلَادَ الْهِنْدِ، فَفَتَحَ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنْ حُصُونِهِمْ، وَغَنِمَ شَيْئًا كَثِيرًا وَكَسَرَ مِنْ
أَصْنَامِهِمْ وَنُذُورِهِمْ أَمْرًا هَائِلًا وَبَاشَرَ مَنْ مَعَهُ مِنَ
الْجُيُوشِ حُرُوبًا تُشَيِّبُ الْوَلَدَانَ، وَقَدْ قَصَدَهُ جِيبَالُ مَلِكُ
الْهِنْدِ بِنَفْسِهِ وَجُنُودِهِ الَّتِي تَعُمُّ السُّهُولَ وَالْجِبَالَ،
فَكَسَرَهُ مَرَّتَيْنِ، وَرَدَّهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ فِي أَسْوَإِ حَالٍ
وَأَرْدَإِ بَالٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كَامِلِهِ أَنَّ سُبُكْتِكِينَ لَمَّا الْتَقَى
مَعَ جِيبَالَ مَلِكِ الْهِنْدِ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ كَانَ بِالْقُرْبِ
مِنْهُمْ عَيْنٌ فِي عَقَبَةِ غُورَكَ، مِنْ عَادَتِهِمْ أَنَّهُ إِذَا وُضِعَتْ
فِيهَا نَجَاسَةٌ أَوْ قَذَرٌ، اكْفَهَرَّتِ السَّمَاءُ وَأَرْعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ
وَأَمْطَرَتْ، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى تُطَهَّرَ تِلْكَ الْعَيْنُ مِنْ
ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهَا، وَأَنَّ سُبُكْتِكِينَ أَمَرَ
بِإِلْقَاءِ نَجَاسَةٍ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ - وَكَانَتْ قَرِيبَةً
مِنْ نَحْرِ الْعَدُوِّ - فَلَمْ يَزَالُوا فِي رُعُودٍ وَبَرْوَقٍ وَأَمْطَارٍ
وَصَوَاعِقَ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ ذَلِكَ الْحَالُ إِلَى الْهَرَبِ وَالرُّجُوعِ
إِلَى بِلَادِهِمْ خَائِبِينَ هَارِبِينَ، وَأَرْسَلَ مَلِكُ الْهِنْدِ يَطْلُبُ
مِنْ سُبُكْتِكِينَ الصُّلْحَ، فَأَجَابَهُ بَعْدَ امْتِنَاعٍ مِنْ وَلَدِهِ
مَحْمُودٍ، عَلَى مَالٍ جَزِيلٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَبِلَادٍ كَثِيرَةٍ
يُسَلِّمُهَا إِلَيْهِ، وَخَمْسِينَ فِيلًا وَرَهَائِنَ مِنْ رُءُوسِ قَوْمِهِ
يَتْرُكُهَا عِنْدَهُ حَتَّى يَقُومَ بِمَا الْتَزَمَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ الْحَسَنِ الْجَنَّابِيُّ
صَاحِبُ هَجَرَ
وَمُقَدَّمُ الْقَرَامِطَةِ، وَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سِتَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ
بِالسَّادَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى تَدْبِيرِ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَمْ
يَخْتَلِفُوا، فَمَشَى حَالُهُمْ.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ:
الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْقِرْمِطِيُّ
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: وَاسْمُ أَبِي سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ بَهْرَامٍ،
وَيُقَالُ: الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ كُوذْكَارَ.
يُقَالُ: أَصْلُهُ مِنَ الْفُرْسِ. قَالَ: وَيُعْرَفُ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا
بِالْأَعْصَمِ. قَالَ: وَوُلِدَ بِالْأَحْسَاءِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ
وَمِائَتَيْنِ، وَقَدْ تَغَلَّبَ عَلَى الشَّامِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَحْسَاءِ بَعْدَ سَنَةٍ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى دِمَشْقَ فِي سَنَةِ سِتِّينَ، وَكَسَرَ جَيْشَ جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ
أَوَّلِ مَنْ نَابَ بِالشَّامِ عَنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَقَتَلَهُ، ثُمَّ
تَوَجَّهَ إِلَى مِصْرَ، فَحَاصَرَهَا فِي مُسْتَهَلِّ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ
سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَاسْتَمَرَّ مُحَاصِرُهَا شُهُورًا، وَقَدْ كَانَ اسْتَخْلَفَ
عَلَى دِمَشْقَ ظَالِمَ بْنَ مَوْهُوبٍ الْعُقَيْلِيَّ،
ثُمَّ عَادَ إِلَى الْأَحْسَاءِ ثُمَّ
رَجَعَ إِلَى الرَّمْلَةِ فَتُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ
التِّسْعِينَ، وَهُوَ يُظْهِرُ طَاعَةَ عَبْدِ الْكَرِيمِ الطَّائِعِ لِلَّهِ بْنِ
الْمُطِيعِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَشْعَارًا حَسَنَةً رَائِقَةً فَائِقَةً،
مِنْ ذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ فَلَاحٍ قَبْلَ الْحَرْبِ
بَيْنَهُمَا:
الْكُتْبُ مُعْذِرَةٌ وَالرُّسْلُ مُخْبِرَةٌ وَالْحُقُّ مُتَّبَعٌ وَالْخَيْرُ
مَوْجُودُ وَالْحَرْبُ سَاكِنَةٌ وَالْخَيْلُ صَافِنَةٌ
وَالسِّلْمُ مُبْتَذَلٌ وَالظِّلُّ مَمْدُودُ فَإِنْ أَنَبْتُمْ فَمَقْبُولٌ
إِنَابَتُكُمْ
وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهَذَا الْكُورُ مَشْدُودُ عَلَى ظُهُورِ الْمَطَايَا أَوْ
تَرِدْنَ بِنَا
دِمَشْقَ وَالْبَابُ مَهْدُومٌ وَمَرْدُودُ إِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي
وَلَا أَرَبِي
طَبْلٌ يَرِنُّ وَلَا نَايٌ وَلَا عُودُ وَلَا اعْتِكَافٌ عَلَى خَمْرٍ
وَمِجْمَرَةٍ
وَذَاتِ دَلٍّ لَهَا دَلٌّ وَتَفْنِيدُ وَلَا أَبِيتُ بَطِينَ الْبَطْنِ مِنْ
شِبَعٍ
وَلِي رَفِيقٌ خَمِيصُ الْبَطْنِ مَجْهُودُ وَلَا تَسَامَتْ بِيَ الدُّنْيَا إِلَى
طَمَعٍ
يَوْمًا وَلَا غَرَّنِي فِيهَا الْمَوَاعِيدُ
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
يَا سَاكِنَ الْبَلَدِ الْمُنِيفِ
تَعُزُّزًا بِقِلَاعِهِ وَحُصُونِهِ وَكُهُوفِهِ
لَا عِزَّ إِلَّا لِلْعَزِيزِ بِنَفْسِهِ وَبِخَيْلِهِ وَبِرَجْلِهِ وَسُيُوفِهِ
وَبِقُبَّةٍ بَيْضَاءَ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَى شَرَفِ الْخِيَامِ بِجَارِهِ
وَحَلِيفِهِ
قَوْمٌ إِذَا اشْتَدَّ الْوَغَى أَرْدَى الْعِدَا وَشَفَى النُّفُوسَ بِضَرْبِهِ
وَوُقُوفِهِ
لَمْ يَرْضَ بِالشَّرَفِ التَّلِيدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى أَشَادَ تَلِيدُهُ
بِطَرِيفِهِ
وَفِيهَا تَمَلَّكَ قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ بِلَادَ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ
وَتِلْكَ النَّوَاحِي.
وَفِيهَا دَخَلَ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ بِشَاهْ نَازَ بِنْتِ عِزِّ الدَّوْلَةِ
بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ عُرْسًا حَافِلًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّتْ جَمِيلَةُ بِنْتُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ
حَمْدَانَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، كَانَ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِحَجِّهَا، وَذَلِكَ
أَنَّهَا عَمِلَتْ أَرْبَعَمِائَةِ مَحْمَلٍ، فَلَا يُدْرَى فِي أَيِّهَا هِيَ،
وَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الْكَعْبَةِ، نَثَرَتْ عَلَيْهَا عَشْرَةَ آلَافِ
دِينَارٍ، وَكَسَتِ الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ كُلَّهُمْ، وَأَنْفَقَتْ
أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي ذَهَابِهَا وَإِيَابِهَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مِنَ الْعِرَاقِ الشَّرِيفُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ
بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُلْوِيُّ،
وَكَذَلِكَ حَجَّ بِالنَّاسِ إِلَى سَنَةِ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ بِالْحَرَمَيْنِ لِلْفَاطِمِيِّينَ أَصْحَابِ مِصْرَ دُونَ
الْعَبَّاسِيِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ سَالِمٍ، أَبُو
عَمْرٍو السُّلَمِيُّ
صَحِبَ الْجُنَيْدَ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً.
وَمِنْ جِيِّدِ كَلَامِهِ: مَنْ لَمْ تُهَذِّبْكَ رُؤْيَتُهُ، فَلَيْسَ
بِمُهَذَّبٍ.
وَقَدِ احْتَاجَ شَيْخُهُ أَبُو عُثْمَانَ مَرَّةً إِلَى شَيْءٍ، فَسَأَلَ
أَصْحَابَهُ فِيهِ، فَجَاءَهُ ابْنُ نُجَيْدٍ بِكِيسٍ فِيهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ،
فَقَبَضَهُ مِنْهُ، وَجَعَلَ يَشْكُرُهُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ نُجَيْدٍ:
يَا سَيِّدِي إِنَّ الْمَالَ الَّذِي دَفَعْتُهُ إِلَيْكَ كَانَ مِنْ مَالِ
أُمِّي، وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَأُحِبُّ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيْهَا، فَأَعْطَاهُ
تِلْكَ الدَّرَاهِمَ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ جَاءَهُ بِهَا، وَقَالَ: أُحِبُّ
أَنْ تَصْرِفَهَا فِي أَمْرِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ أَحَدٌ،
فَكَانَ أَبُو عُثْمَانَ يَقُولُ: أَنَا أَخْشَى مِنْ هِمَّةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ
نُجَيْدٍ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ بُوَيْهِ، أَبُو
عَلِيٍّ رُكْنُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ
عَرَضَ لَهُ قُولَنْجٌ، فَمَاتَ لَيْلَةَ السَّبْتِ الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ
مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وَكَانَتْ مُدَّةُ إِمَارَتِهِ أَرْبَعًا
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَشَهْرًا وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، وَمُدَّةُ عُمُرِهِ ثَمَانٌ
وَسَبْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ حَلِيمًا كَرِيمًا.
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَفْلَحَ بْنِ رَافِعِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَفْلَحَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ
بْنِ رَافِعٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْأَنْصَارِيُّ الزُّرَقِيُّ
كَانَ نَقِيبَ الْأَنْصَارِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً، يَعْرِفُ أَيَّامَ
الْأَنْصَارِ وَمَنَاقِبَهُمْ وَأُمُورَهُمْ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى
الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو الْحَسَنِ
السَّرَّاجُ
سَمِعَ يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ الْقَاضِي وَغَيْرَهُ، وَكَانَ شَدِيدَ
الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ، صَلَّى حَتَّى أُقْعِدَ، وَبَكَى حَتَّى عَمِيَ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْقَاضِي مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ،
أَبُو الْحَكَمِ الْبَلُّوطِيُّ
الظَّاهِرِيُّ مَذْهَبًا، قَاضِي قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ، وَكَانَ إِمَامًا
فَقِيهًا عَالِمًا فَصِيحًا خَطِيبًا شَاعِرًا دَيِّنًا كَثِيرَ الْفَضْلِ، وَلَهُ
مُصَنَّفَاتٌ وَاخْتِيَارَاتٌ، مِنْهَا أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي أُدْخِلَهَا
آدَمُ وَأُخْرِجَ مِنْهَا كَانَتْ فِي الْأَرْضِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ
مُفْرَدٌ، لَهُ وَقْعٌ فِي النُّفُوسِ، وَلَهُ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ.
دَخَلَ يَوْمًا عَلَى النَّاصِرِ لِدِينِ اللَّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الْأُمَوِيِّ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَدِينَةِ الزَّهْرَاءِ
وَقُصُورِهَا، وَقَدْ بُنِيَ لَهُ فِيهَا قَصْرٌ عَظِيمٌ مُنِيفٌ وَزُخُرِفَ
بِأَنْوَاعِ الدِّهَانَاتِ وَالسُّتُورِ، وَجَلَسَ عِنْدَهُ رُءُوسُ دَوْلَتِهِ
وَأُمَرَاؤُهُ، وَجَاءَ الْقَاضِي فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ
الْحَاضِرُونَ يُثْنُونَ عَلَى هَذَا الْبِنَاءِ، وَالْقَاضِي سَاكِتٌ لَا
يَتَكَلَّمُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ، وَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا أَبَا
الْحَكَمِ ؟ فَبَكَى الْقَاضِي، وَانْحَدَرَتْ دُمُوعُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَقَالَ:
مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ الشَّيْطَانَ - أَخْزَاهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْلُغُ
مِنْكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلَا أَنَّكَ تُمَكِّنُهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا
التَّمْكِينَ، مَعَ مَا آتَاكَ اللَّهُ، وَفَضَّلَكَ بِهِ، حَتَّى أَنْزَلَكَ
مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ
أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ
لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
[ الزُّخْرُفِ: 33 - 35 ] قَالَ: فَوَجَمَ الْمَلِكُ عِنْدَ ذَلِكَ وَبَكَى،
وَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِي الْمُسْلِمِينَ مِثْلَكَ.
وَقَدْ قَحَطَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ الْقَاضِيَ مُنْذِرَ
بْنَ سَعِيدٍ الْبَلُّوطِيَّ أَنْ يَسْتَسْقِيَ بِالنَّاسِ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ
الرِّسَالَةُ بِذَلِكَ لِيَخْرُجَ مِنَ الْغَدِ، قَالَ لِلرَّسُولِ: كَيْفَ
تَرَكْتَ الْمَلِكَ وَمَا حَالُهُ ؟ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ أَخْشَعَ مَا يَكُونُ
وَأَكْثَرَهُ دُعَاءً، فَقَالَ الْقَاضِي: رُحِمْتُمْ وَسُقِيتُمْ وَاللَّهِ،
إِذَا خَشَعَ جَبَّارُ الْأَرْضِ، رَحِمَ جَبَّارُ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ
لِغُلَامِهِ: اخْرُجْ بِالْمِمْطَرِ مَعَكَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ، وَجَاءَ
الْقَاضِي صَعِدَ الْمِنْبَرَ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَيَسْتَمِعُونَ
لِمَا يَقُولُ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ كَانَ أَوَّلَ مَا خَاطَبَهُمْ بِهِ
أَنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةِ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْأَنْعَامِ: 54 ] ثُمَّ أَعَادَهَا،
فَأَخَذَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَالنَّحِيبِ وَالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ،
فَلَمْ يَزَالُوا كَذَلِكَ حَتَّى سُقُوا، وَرَجَعُوا يَخُوضُونَ الْمَاءَ. وَقَدْ
صَنَّفَ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُصَنَّفًا فِي مَنَاقِبِهِ
رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْمَرْزُبَانِ الْبَغْدَادِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ بِأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ،
وَأَخَذَ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ كَانَ وَرِعًا زَاهِدًا لَيْسَ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ، وَلَهُ وَجْهٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَكَانَ لَهُ دَرْسٌ بِبَغْدَادَ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَخَرَجَ مِنْهَا
عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَاتَّبَعَهُ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ لِيُقَاتِلَهُ، وَأَخَذَ مَعَهُ الْخَلِيفَةَ الطَّائِعَ لِلَّهِ
فَاسْتَعْفَاهُ الْخَلِيفَةُ مِنَ الْخُرُوجِ فَأَعْفَاهُ، وَسَارَ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ وَرَاءَهُ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا، ثُمَّ قُتِلَ سَرِيعًا،
وَتَصَرَّمَتْ دَوْلَتُهُ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بِبَغْدَادَ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الْخِلَعَ السَّنِيَّةَ وَالْأَسْوِرَةَ فِي
يَدَيْهِ وَالطَّوْقَ فِي عُنُقِهِ، وَأَعْطَاهُ لِوَاءَيْنِ ; أَحَدُهُمَا
فِضَّةٌ وَالْآخَرُ ذَهَبٌ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الثَّانِي يَصْنَعُهُ إِلَّا
لِأَوْلِيَاءِ الْعَهْدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِتُحَفٍ سَنِيَّةٍ،
وَبَعَثَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْخَلِيفَةِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً مِنَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاسْتَقَرَّتْ يَدُهُ عَلَى بَغْدَادَ وَمَا وَالَاهَا
مِنَ الْبِلَادِ.
وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ مِرَارًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَانْبَثَقَتْ بُثُوقٌ كَثِيرَةٌ، غَرِقَ
بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ وَجَمٌّ غَفِيرٌ.
وَقِيلَ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ: إِنَّ أَهْلَ بَغْدَادَ قَدْ قَلُّوا كَثِيرًا
بِسَبَبِ الطَّاعُونِ وَمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ بِسَبَبِ الرَّفْضِ
وَالسُّنَّةِ، وَأَصَابَهُمْ حَرِيقٌ وَغَرَقٌ، فَقَالَ: إِنَّمَا يُهَيِّجُ
الشَّرَّ بَيْنَ النَّاسِ فِي
السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ هَؤُلَاءِ الْقُصَّاصُ وَالْوُعَّاظُ، ثُمَّ رَسَمَ
أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُصُّ وَلَا يَعِظُ فِي سَائِرِ بَغْدَادَ وَلَا يَسْأَلُ
سَائِلٌ بَاسِمِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا يَقْرَأُ السَّائِلُ
الْقُرْآنَ، فَمَنْ أَعْطَاهُ أَخَذَ مِنْهُ.
فَعُمِلَ بِذَلِكَ فِي الْبَلَدِ ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ
سَمْعُونَ الْوَاعِظَ - وَكَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ - قَدِ اسْتَمَرَّ يَعِظُ
النَّاسَ عَلَى عَادَتِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ جَاءَ بِهِ، فَأُخِذَ مِنْ
مَجْلِسِهِ، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَبِّلِ التُّرَابَ،
وَتَوَاضَعْ فِي الْخِطَابِ وَالْجَوَابِ. فَلَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمَلِكِ وَجَدَ
السُّلْطَانَ قَدْ جَلَسَ فِي حُجْرَةٍ وَحْدَهُ، لِئَلَّا يَنْدُرَ مِنِ ابْنِ
سَمْعُونَ فِي حَقِّهِ كَلَامٌ بِحَضْرَةِ النَّاسِ يُؤْثَرُ عَنْهُ، وَدَخَلَ
الْحَاجِبُ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِيَسْتَأْذِنَ لَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ قَدْ
دَخَلَ وَرَاءَهُ، فَإِذَا الْمَلِكُ جَالِسٌ وَحْدَهُ، فَتَنَحَّى ابْنُ
سَمْعُونَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ دَارِ عِزِّ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ
الْقِرَاءَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ هُودٍ:
102 ] ثُمَّ اسْتَدَارَ نَحْوَ الْمَلِكِ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [ يُونُسَ: 14 ] ثُمَّ أَخَذَ فِي مُخَاطَبَةِ
الْمَلِكِ وَوَعْظِهِ، فَبَكَى عَضُدُ الدَّوْلَةِ بُكَاءً كَثِيرًا، وَجَزَاهُ
خَيْرًا.
فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ لِلْحَاجِبِ: اذْهَبْ فَخُذْ ثَلَاثَةَ
آلَافِ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةَ أَثْوَابٍ، وَادْفَعْهَا إِلَيْهِ ; لِنَفْسِهِ أَوْ
لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا جِئْنِي بِرَأْسِهِ، قَالَ الْحَاجِبُ:
فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: هَذِهِ أَثْوَابٌ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْكَ الْمَلِكُ
لِتَلْبِسَهَا، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا ; هَذِهِ ثِيَابِي مِنْ عَهْدِ
أَبِي مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، كُلَّمَا خَرَجْتُ إِلَى النَّاسِ لَبِسْتُهَا،
فَإِذَا رَجَعْتُ طَوَيْتُهَا. قُلْتُ: وَهَذِهِ نَفَقَةٌ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ
لِي فِيهَا ;
لِي دَارٌ آكُلُ مِنْ أُجْرَتِهَا،
تَرَكَهَا لِي أَبِي فَأَنَا فِي غُنْيَةٍ عَنْهَا. فَقُلْتُ: فَرِّقْهَا فِي
فُقَرَاءِ أَهْلِكَ، فَقَالَ: أَهْلُهُ أَحَقُّ مِنْ أَهْلِي وَأَفْقَرُ إِلَيْهَا
مِنْهُمْ. فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَلِكِ لِأُشَاوِرَهُ وَأُخْبِرَهُ بِمَا قَالَ،
فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَلَّمَهُ مِنَّا،
وَسَلَّمَنَا مِنْهُ.
ثُمَّ إِنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ أَخَذَ ابْنَ بَقِيَّةَ الْوَزِيرَ لِعِزِّ
الدَّوْلَةِ، فَأَمَرَ بِهِ، فَوُضِعَ بَيْنَ قَوَائِمِ الْفِيَلَةِ،
فَتَخَبَّطَتْهُ بِأَرْجُلِهَا حَتَّى هَلَكَ، ثُمَّ صُلِبَ عَلَى رَأْسِ
الْجِسْرِ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا، فَرَثَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ
الْأَنْبَارِيِّ بِأَبْيَاتٍ يَقُولُ فِيهَا:
عُلُوٌّ فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْمَمَاتِ بِحَقٍّ أَنْتَ إِحْدَى الْمُعْجِزَاتِ
كَأَنَّ النَّاسَ حَوْلَكَ حِينَ قَامُوا
وُفُودُ نَدَاكَ أَيَّامَ الصِّلَاتِ كَأَنَّكَ وَاقِفٌ فِيهَمْ خَطِيبًا
وَكُلُّهُمْ وَقُوفٌ لِلصَّلَاةِ مَدَدْتَ يَدَيْكَ نَحْوَهُمُ احْتِفَاءً
كَمَدِّهِمَا إِلَيْهِمْ بِالْهِبَاتِ
وَهِيَ قَصِيدَةٌ طَوِيلَةٌ، أَوْرَدَ كَثِيرًا مِنْهَا ابْنُ الْأَثِيرِ فِي
كَامِلِهِ.
صِفَةُ مَقْتَلِ عِزِّ الدِّينِ بَخْتِيَارَ بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَأَخْذِ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ الْمَوْصِلَ وَأَعْمَالَهَا
لَمَّا دَخَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَغْدَادَ وَتَسَلَّمَهَا مِنْ عِزِّ
الدَّوْلَةِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا ذَلِيلًا طَرِيدًا
فِي فَلٍّ مِنَ النَّاسِ، وَمِنْ
عَزْمِ عِزِّ الدَّوْلَةِ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى الشَّامِ فَيَأْخُذَهَا، وَقَدْ
حَلَّفَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِأَبِي تَغْلِبَ صَاحِبِ
الْمَوْصِلِ وَذَلِكَ لِمَوَدَّةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَمُكَاتَبَةٍ
وَمُرَاسَلَاتٍ مِنْهُمَا، فَحَلَفَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَحِينَ خَرَجَ مِنْ
بَغْدَادَ كَانَ مَعَهُ حَمْدَانُ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ،
فَحَسَّنَ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ أَخْذَ بِلَادِ الْمَوْصِلِ ; لِأَنَّهَا أَطْيَبُ
وَأَكْثَرُ مَالًا، وَأَقْرَبُ إِلَيْهِ الْآنَ، وَكَانَ عِزُّ الدَّوْلَةِ
ضَعِيفَ الْعَقْلِ، قَلِيلَ الدِّينِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَبَا تَغْلِبَ،
أَرْسَلَ إِلَى عِزِّ الدَّوْلَةِ يَقُولُ لَهُ: لَئِنْ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِأَخِي
حَمْدَانَ بْنِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ أَعَنْتُكَ بِجَيْشِي وَبِنَفْسِي حَتَّى
أَرُدَّكَ إِلَى مُلْكِ بَغْدَادَ وَأُقَاتِلُ مَعَكَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ. فَأَمْسَكَ
حَمْدَانَ، وَأَرْسَلَهُ إِلَى عَمِّهِ أَبِي تَغْلِبَ، فَسَجَنَهُ فِي بَعْضِ
الْقِلَاعِ.
وَبَلَغَ ذَلِكَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ، وَأَنَّهُمَا قَدِ اجْتَمَعَا عَلَى
حَرْبِهِ، فَرَكِبَ إِلَيْهِمَا بِجَيْشِهِ، وَأَرَادَ إِخْرَاجَ الْخَلِيفَةِ
الطَّائِعِ مَعَهُ، فَاسْتَعْفَاهُ فَأَعْفَاهُ، وَاسْتَمَرَّ هُوَ ذَاهِبًا
إِلَيْهِمَا فَالْتَقَى مَعَهُمَا، فَكَسَرَهُمَا وَهَزَمَهُمَا، وَأَخَذَ عِزَّ
الدَّوْلَةِ أَسِيرًا، فَلَمَّا جِيءَ بِهِ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، بَلْ أَرْسَلَ
إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فِي الْحَالِ، ثُمَّ سَارَ مِنْ فَوْرِهِ، فَأَخَذَ
الْمَوْصِلَ وَمُعَامَلَتَهَا، وَكَانَ قَدْ حَمَلَ مَعَهُ مِيرَةً كَثِيرَةً،
وَتَشَرَّدَ أَبُو تَغْلِبَ فِي الْبِلَادِ، وَبَعَثَ وَرَاءَهُ السَّرَايَا مِنْ
كُلِّ جِهَةٍ، وَأَقَامَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ بِالْمَوْصِلِ وَضَيَّقَ عَلَى أَبِي
تَغْلِبَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى أَكْثَرِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ
بِصَرَامَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ وَهِمَّتِهِ وَعَزِيمَتِهِ، وَأَقَامَ بِالْمَوْصِلِ
إِلَى أَوَاخِرِ سَنَةِ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ، وَفَتَحَ مَيَّافَارِقِينَ وَآمِدَ
وَغَيْرَهُمَا مِنْ بِلَادِ بَكْرٍ وَرَبِيعَةَ، وَتَسَلَّمَ بِلَادَ مُضَرَ مِنْ
أَيْدِي نُوَّابِ أَبِي تَغْلِبَ، وَأَخَذَ مِنْهُمُ الرَّحْبَةَ، وَرَدَّ
بَقِيَّتَهَا عَلَى صَاحِبِ
حَلَبَ سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَتَسَلَّطَ سَعْدُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ
عَمِّهِ أَبِي تَغْلِبَ يَتَسَلَّمُهَا بَلَدًا بَلَدًا، وَحِينَ رَجَعَ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ مِنَ الْمَوْصِلِ اسْتَنَابَ عَلَيْهَا أَبَا الْوَفَاءِ، وَعَادَ
إِلَى بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ وَرُءُوسُ النَّاسِ
إِلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَمِمَّا وَقَعَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْوَقْعَةُ الَّتِي
كَانَتْ بَيْنَ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ وَبَيْنَ أَفْتِكِينَ
غُلَامِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ دِمَشْقَ فَهَزَمَهُ، وَأَسَرَهُ، وَأَخَذَهُ
مَعَهُ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا كَمَا تَقَدَّمَ،
وَتَسَلَّمُ الْعَزِيزُ دِمَشْقَ وَأَعْمَالَهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ بَسْطُ هَذِهِ الْكَائِنَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ
الْمُعْتَزِلِيِّ بِقَضَاءِ قُضَاةِ الرَّيِّ وَمَا تَحْتَ حُكْمِ مُؤَيِّدِ
الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ مِنَ الْبِلَادِ، وَلَهُ
مُصَنَّفَاتٌ حَسَنَةٌ، مِنْهَا دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ، وَعُمُدُ الْأَدِلَّةِ،
وَغَيْرُهُمَا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِيهَا نَائِبُ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ الْأَمِيرُ بَادِيسُ
بْنُ زِيرِي أَخُو يُوسُفَ بْنِ بُلُكِّينَ.
وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ اللُّصُوصُ، وَسَأَلُوا مِنْهُ أَنْ
يُضَمِّنَهُمُ الْمَوْسِمَ هَذَا الْعَامَ، بِمَا شَاءَ مِنَ الْأَمْوَالِ،
فَأَظْهَرَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ إِلَى مَا سَأَلُوا، وَقَالَ لَهُمْ: اجْتَمَعُوا
كُلُّكُمْ حَتَّى أُضَمِّنَكُمْ كُلَّكُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ بِضْعٌ
وَثَلَاثُونَ حَرَامِيًّا، فَقَالَ: هَلْ بَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدٌ ؟ فَحَلَفُوا
لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِقَطْعِ
أَيْدِيهِمْ
كُلِّهِمْ، وَنِعْمَ مَا فَعَلَ.
وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِلْفَاطِمِيِّينَ بِمَكَّةَ
وَالْمَدِينَةِ دُونَ الْعَبَّاسِيِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْمَلِكُ عِزُّ الدَّوْلَةِ بَخْتِيَارُ بْنُ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ أَبِي
الْحُسَيْنِ أَحْمَدَ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
مَلَكَ بَعْدَ أَبِيهِ وَعُمُرُهُ فَوْقَ الْعِشْرِينَ سَنَةً بِقَلِيلٍ، وَكَانَ
حَسَنَ الْجِسْمِ، شَدِيدَ الْبَطْشِ، قَوِيَّ الْقَلْبِ جِدًّا، يُقَالُ: إِنَّهُ
كَانَ يَأْخُذُ بِقَوَائِمِ الثَّوْرِ الشَّدِيدِ، فَيُلْقِيهِ إِلَى الْأَرْضِ
مِنْ غَيْرِ أَعْوَانٍ، وَيَتَقَصَّدُ الْأُسُودَ فِي مُتَصَيِّدَاتِهِ،
وَلَكِنَّهُ كَانَ كَثِيرَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى
اللَّذَّاتِ.
وَلَمَّا كَسَرَهُ ابْنُ عَمِّهِ بِبِلَادِ الْأَهْوَازِ، كَانَ فِيمَا أُخِذَ
مِنْ أَمْوَالِهِ غُلَامٌ لَهُ كَانَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَبَعَثَ
يَتَرَقَّقُ لِابْنِ عَمِّهِ فِيهِ حَتَّى يَرُدَّهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
بِتُحَفٍ كَثِيرَةٍ وَأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ وَجَارِيَتَيْنِ عَوَّادَتَيْنِ، لَا
قِيمَةَ لَهُمَا، وَبَعَثَ نَقِيبَ الْأَشْرَافِ فِي ذَلِكَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ
الْغُلَامَ الْمَذْكُورَ، فَكَثُرَ تَعْنِيفُ النَّاسِ لِعِزِّ الدَّوْلَةِ، وَسَقَطَ
مِنْ أَعْيُنِ الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ذَهَابُ هَذَا الْغُلَامِ
أَشُدُّ عَلَيَّ مِمَّا جَرَى مِنْ أَخْذِ بَغْدَادَ بَلْ وَأَرْضِ الْعِرَاقِ.
ثُمَّ آلَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ أَسَرَهُ ابْنُ عَمِّهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ،
كَمَا ذَكَرْنَا وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ
سَرِيعًا، فَكَانَتْ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ
دَوْلَتِهِ مِنْهَا إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَشُهُورٌ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
قُرَيْعَةَ
وَلِيُّ الْقَضَاءِ بِالسِّنْدِيَّةِ، وَكَانَ فَصِيحًا يَأْتِي بِالْكَلَامِ
الْمَسْجُوعِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، وَكَانَ جَمِيلَ
الْمُعَاشَرَةِ، ظَرِيفَ الْمُحَاضَرَةِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ:
لِي حِيلَةٌ فِي مَنْ يَنِمُّ وَلَيْسَ فِي الُكَذَّابِ حِيلَهْ مَنْ كَانَ
يَخْلُقُ مَا يَقُو
لُ فَحِيلَتِي فِيهِ قَلِيلَهْ
وَكَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذَا تَمَاشَيَا: إِذَا تَقَدَّمْتُ
فَحَاجِبٌ، وَإِنْ تَأَخَّرْتُ فَوَاجِبٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ
لِعَشَرٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي شَعْبَانَ مِنْهَا أَمَرَ الطَّائِعُ لِلَّهِ أَنْ يُدْعَى لِعَضُدِ
الدَّوْلَةِ بَعْدَ الْخَلِيفَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ بِبَغْدَادَ، وَأَنْ تُضْرَبَ
الدَّبَادِبُ عَلَى بَابِهِ وَقْتَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَ
الْعَشَاءِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنْ بَنِي
بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ سَأَلَ مِنَ الْمُطِيعِ لِلَّهِ أَنْ
يَضْرِبَ الدَّبَادِبَ عَلَى بَابِهِ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي
ذَلِكَ.
وَقَدِ افْتَتَحَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - وَهُوَ مُقِيمٌ
بِالْمَوْصِلِ - أَكْثَرَ بِلَادِ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ حَمْدَانَ، كَآمِدَ
وَمَيَّافَارِقِينَ وَالرَّحْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُدُنِ الْكِبَارِ
وَالصِّغَارِ، وَحِينَ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى بَغْدَادَ اسْتَنَابَ عَلَى
الْمَوْصِلِ أَبَا الْوَفَاءِ الْحَاجِبَ، وَرَجَعَ إِلَى بَغْدَادَ فَدَخَلَهَا
فِي سَلْخِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ
وَالْأَعْيَانُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
ذِكْرُ مُلْكِ قَسَّامٍ التَّرَّابِ لِدِمَشْقَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، لَمَّا اتَّقَعَ أَفْتِكِينُ مَعَ الْعَزِيزِ بِأَرْضِ
الرَّمْلَةِ وَانْهَزَمَ أَفْتِكِينُ وَالْحَسَنُ الْقِرْمِطِيُّ مَعَهُ، وَأُسِرَ
أَفْتِكِينُ فَذَهَبَ مَعَ
الْعَزِيزِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ
نَهَضَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهُ: قَسَّامٌ التَّرَّابُ، كَانَ
أَفْتِكِينُ يُقَرِّبُهُ وَيُدْنِيهِ وَيَأْتَمِنُهُ عَلَى أَسْرَارِهِ،
فَاسْتَحْوَذَ عَلَى دِمَشْقَ وَطَاوَعَهُ أَهْلُهَا، وَقَصَدَتْهُ عَسَاكِرُ
الْعَزِيزِ مِنْ مِصْرَ، فَحَاصَرُوهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ،
وَجَاءَ أَبُو تَغْلِبَ بْنُ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، فَحَاصَرَهُ،
فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَدْخُلَ دِمَشْقَ فَانْصَرَفَ عَنْهُ خَائِبًا إِلَى طَبَرِيَّةَ
فَوَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي عُقَيْلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ حُرُوبٌ
طَوِيلَةٌ، آلَ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ قَتُلِ أَبُو تَغْلِبَ، وَكَانَتْ مَعَهُ
أُخْتُهُ جَمِيلَةُ، وَامْرَأَتُهُ وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ،
فَرُدَّتَا إِلَى سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبَ، فَأَخَذَ
أُخْتَهُ، وَبَعَثَ بِجَمِيلَةَ إِلَى بَغْدَادَ فَحُبِسَتْ فِي دَارٍ وَأُخِذَ
مِنْهَا أَمْوَالٌ جَزِيلَةٌ.
وَأَمَّا قَسَّامٌ - وَهُوَ الْحَارِثِيُّ، وَأَصْلُهُ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
كَعْبٍ مِنَ الْيَمَنِ - فَأَقَامَ بِالشَّامِ يَسُدُّ خَلَلَهَا، وَيَقُومُ
بِمَصَالِحِهَا مُدَّةَ سِنِينَ عَدِيدَةٍ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ بِالْجَامِعِ،
وَيَجْتَمِعُ النَّاسُ عِنْدَهُ فَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، وَيَقُومُ
فَيَمْتَثِلُونَ مَا يَرْسُمُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: أَصْلُهُ مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا وَكَانَ تَرَّابًا.
قُلْتُ: وَالْعَامَّةُ يَقُولُونَ: اسْمُهُ قُسَيْمٌ الزَّبَّالُ، وَإِنَّمَا هُوَ
قَسَّامٌ، وَلَمْ يَكُنْ زَبَّالًا بَلْ تَرَّابًا مِنْ قَرْيَةِ تَلْفِيتَا
بِالْقُرْبِ مِنْ قَرْيَةِ مَنِينَ، وَكَانَ بُدُوَّ أَمْرِهِ أَنَّهُ انْتَمَى
إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَحْدَاثِ دِمَشْقَ يُقَالُ لَهُ: أَحْمَدُ بْنُ الْجَسْطَارِ،
فَكَانَ مِنْ حِزْبِهِ، ثُمَّ
اسْتُحْوِذَ عَلَى الْأُمُورِ،
وَغُلِبَ عَلَى الْوُلَاةِ وَالْأُمَرَاءِ، وَصَارَتْ إِلَيْهِ أَزْمَةُ الْأَحْكَامِ،
إِلَى أَنْ قَدِمَ بُلُكِّينُ التُّرْكِيُّ مِنْ مِصْرَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ
السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
فَأَخَذَهَا مِنْهُ وَدَخَلَهَا، وَاخْتَفَى قَسَّامٌ التَّرَّابُ مُدَّةً، ثُمَّ
ظَهَرَ، فَأَخَذَهُ أَسِيرًا وَأَرْسَلَهُ مُقَيَّدًا إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، فَأُطْلِقَ وَأُحْسِنَ إِلَيْهِ وَأَقَامَ بِهَا أَيْضًا
مُكَرَّمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ شَبِيبِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ
مِنْ قَطِيعَةِ الدَّقِيقِ بِبَغْدَادَ، رَاوِي " مُسْنَدِ أَحْمَدَ "
عَنِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
مُصَنَّفَاتِ أَحْمَدَ، وَحَدَّثَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَشَايِخِ أَيْضًا،
وَكَانَ ثِقَةً كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَابْنُ شَاهِينَ وَالْبَرْقَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْحَاكِمُ، وَلَمْ
يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنَ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلَا الْتَفَتُوا إِلَى مَا شَغَبَ
بِهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْكَلَامِ فِيهِ، بِسَبَبِ غَرَقِ بَعْضِ كُتُبِهِ حِينَ
غَرِقَتِ الْقَطِيعَةُ بِالْمَاءِ الْأَسْوَدِ، فَاسْتَحْدَثَ بَعْضَهَا مِنْ
نُسَخٍ أُخَرَ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُعَارَضَةٌ
عَلَى كُتُبِهِ الَّتِي غَرِقَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ
تَغَيَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، فَكَانَ لَا يَدْرِي مَا قُرِئَ عَلَيْهِ. وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
تَمِيمُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ
وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ دَوْلَةِ أَبِيهِ
وَأَخِيهِ الْعَزِيزِ، وَفِيهِ كَرَمٌ،
وَلَهُ فَضِيلَةٌ، وَقَدِ اتَّفَقَتْ لَهُ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ
أَرْسَلَ إِلَى بَغْدَادَ فَاشْتُرِيَتْ لَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ بِمَبْلَغٍ
جَزِيلٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْ عِنْدَهُ أَضَافَ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ أَمَرَهَا
فَغَنَّتْ - وَكَانَتْ تُحِبُّ شَخْصًا بِبَغْدَادَ -:
وَبَدَا لَهُ مِنْ بَعْدِ مَا انْدَمَلَ الْهَوَى بَرْقٌ تَأَلَّقَ مُوهِنًا
لَمَعَانُهُ يَبْدُو كَحَاشِيَةِ الرِّدَاءِ وَدُونَهُ
صَعْبُ الذَّرَى مُتَمَنِّعٌ أَرْكَانُهُ فَبَدَا لِيَنْظُرَ كَيْفَ لَاحَ فَلَمْ
يُطِقْ
نَظَرًا إِلَيْهِ وَصَدَّهُ أَشْجَانُهُ فَالنَّارُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ
ضُلُوعُهُ
وَالْمَاءُ مَا سَمَحَتْ بِهِ أَجْفَانُهُ
ثُمَّ غَنَّتْهُ بِأَبْيَاتٍ أُخَرَ، فَاشْتَدَّ طَرَبُ تَمِيمٍ هَذَا، وَقَالَ
لَهَا: لَا بُدَّ أَنْ تَسْأَلِينِي حَاجَةً، فَقَالَتْ: عَافِيَتَكَ. فَقَالَ:
وَمَعَ هَذَا، وَأَلَحَّ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: تَرُدُّنِي إِلَى بَغْدَادَ حَتَّى
أُغَنِّيَ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، فَوَجَمَ، ثُمَّ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنَ
الْوَفَاءِ، فَأَرْسَلَهَا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ فَأَحَجَّهَا، ثُمَّ سَارَ
بِهَا إِلَى بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِ الْعِرَاقِ، فَلَمَّا أَمْسَوْا فِي
اللَّيْلَةِ الَّتِي يَدْخُلُونَ مِنْ صَبِيحَتِهَا بَغْدَادَ ذَهَبَتْ فِي
اللَّيْلِ، فَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ ذَهَبَتْ، فَلَمَّا رَاحَ الْخَبَرُ إِلَى
مَوْلَاهَا تَأَلَّمَ أَلَمًا شَدِيدًا، وَنَدِمَ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ
النَّدَمُ.
الْعَقِيقِيُّ
صَاحِبُ الْحَمَّامِ وَالدَّارِ الْمَنْسُوبَتَيْنِ إِلَيْهِ بِمَحَلَّةِ بَابِ
الْبَرِيدِ بِدِمَشْقَ، وَاسْمُهُ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعَقِيقِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْأَصْغَرِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، الشَّرِيفُ أَبُو
الْقَاسِمِ الْحُسَيْنِيُّ الْعَقِيقِيُّ.
قَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: كَانَ مِنْ وُجُوهِ الْأَشْرَافِ بِدِمَشْقَ، وَإِلَيْهِ
تَنْسُبُ الدَّارُ وَالْحَمَّامُ بِمَحَلَّةِ الْبَرِيدِ، وَقَدِ امْتَدَحَهُ
الْوَأْوَاءُ الدِّمَشْقِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ
لِأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَأَنَّهُ
دُفِنَ مِنَ الْغَدِ، وَأُغْلِقَ الْبَلَدُ بِسَبَبِ جِنَازَتِهِ، وَحَضَرَهَا
بَكْجُورُ وَأَصْحَابُهُ - يَعْنِي نَائِبَ دِمَشْقَ - وَدُفِنَ خَارِجَ بَابِ
الصَّغِيرِ.
قُلْتُ: وَقَدِ اشْتَرَى الْمَلِكُ الظَّاهِرُ رُكْنُ الدِّينِ بِيبَرْسُ دَارَهُ،
وَبَنَاهَا مَدْرَسَةً وَدَارَ حَدِيثٍ وَتُرْبَةً، وَبِهَا قَبْرُهُ، وَذَلِكَ
فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ النَّحْوِيُّ: الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمَرْزُبَانِ، أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ النَّحْوِيُّ الْقَاضِي
سَكَنَ بَغْدَادَ وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِهَا نِيَابَةً، وَلَهُ شَرْحُ كِتَابِ
سِيبَوَيْهِ وَطَبَقَاتُ النُّحَاةِ.
وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ
مَجُوسِيًّا، وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ هَذَا عَالِمًا بِاللُّغَةِ
وَالْقِرَاءَاتِ وَالنَّحْوِ وَالْعَرُوضِ وَالْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ.
وَكَانَ زَاهِدًا لَا يَأْكُلُ إِلَّا
مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، كَانَ يَنْسَخُ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ وَرَقَاتٍ بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ، تَكُونُ مِنْهَا نَفَقَتُهُ وَقُوتُهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِنَحْوِ الْبَصْرِيِّينَ، وَيَنْتَحِلُ مَذْهَبَ
أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْفِقْهِ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ
وَاللُّغَةَ عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ وَالنَّحْوَ عَلَى ابْنِ السَّرَّاجِ
وَالْمَبْرَمَانِ، وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ إِلَى الِاعْتِزَالِ، وَأَنْكَرَهُ
آخَرُونَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْخَيْزُرَانِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الزِّنْجَانِيُّ،
وَيُعْرَفُ بَالْآبَنْدُونِيِّ
رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ، وَرَافَقَ ابْنَ عَدِيٍّ فِي
بَعْضِ ذَلِكَ، ثُمَّ سَكَنَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي يَعْلَى، وَالْحَسَنِ
بْنِ سُفْيَانَ، وَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَكَانَ ثِقَةً ثَبَتًا لَهُ مُصَنَّفَاتٌ، زَاهِدًا، رَوَى عَنْهُ
الْبَرْقَانِيُّ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، وَذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ أَكْلِهِ
الْخُبْزُ الْمَأْدُومُ بِمَرَقِ الْبَاقِلَّاءِ، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ
تَقَلُّلِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، وَتُوَفِّي عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ وَرْقَاءَ، الْأَمِيرُ أَبُو أَحْمَدَ
الشَّيْبَانِيُّ مِنْ أَهْلِ
الْبُيُوتَاتِ وَالْحِشْمَةِ، بَلَغَ
التِّسْعِينَ، رَوَى عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ فِي صِفَةِ
النِّسَاءِ:
هِيَ الضِّلَعُ الُعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُهَا أَلَا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ
انْكِسَارُهَا
أَيَجْمَعْنَ ضَعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى أَلَيْسَ عَجِيبًا ضَعْفُهَا
وَاقْتِدَارُهَا
قُلْتُ: وَهَذَا الشَّاعِرُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ أَعْوَجَ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي
الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسْرَتَهُ، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ
بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ. "
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ الْجُلُودِيُّ
رَاوِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سُفْيَانَ الْفَقِيهِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، وَكَانَ مِنَ الزُّهَّادِ،
يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ مِنَ النَّسْخِ، وَبَلَغَ ثَمَانِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا تُوُفِّيَ الْأَمِيرُ عِمْرَانُ بْنُ شَاهِينَ صَاحِبُ
بِلَادِ الْبَطِيحَةِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، تَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَعَجَزَ
عَنْهُ الْأُمَرَاءُ وَالْمُلُوكُ وَالْخُلَفَاءُ، وَبُعِثَتْ إِلَيْهِ الْجُنُودُ
وَالسَّرَايَا وَالْجُيُوشُ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَفُلُّهَا وَيَكْسِرُهَا،
وَكُلُّ مَا لَهُ فِي تَمَكُّنٍ وَقُوَّةٍ، وَمَكَثَ كَذَلِكَ هَذِهِ الْمُدَّةَ
كُلَّهَا، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ حَتْفَ أَنْفِهِ - فَلَا
نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبَنَاءِ - وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
الْحَسَنُ، فَرَامَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ أَنْ يَنْتَزِعَ الْمُلْكَ مِنْ يَدِهِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ سَرِيَّةً فِيهَا خَلْقٌ مِنَ الْجُنُودِ، فَكَسَرَهُمُ
الْحَسَنُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ شَاهِينَ وَرَدَّهُمْ خَائِبِينَ، وَكَادَ أَنْ
يُتْلِفَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ،
فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ يُرْسِلُهُ إِلَيْهِ كُلَّ سَنَةٍ، وَأَخَذُوهَا مِنْ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَهَذَا مِنَ الْعَجَائِبِ الْغَرِيبَةٍ.
وَفِي صَفَرٍ قُبِضَ عَلَى الشَّرِيفِ أَبِي أَحْمَدَ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى
الْمُوسَوِيِّ نَقِيبِ الطَّالِبِيِّينَ، وَاتُّهِمَ بِأَنَّهُ يُفْشِي
الْأَسْرَارَ، وَأَنَّ عِزَّ الدَّوْلَةِ أَوْدَعَ عِنْدَهُ عِقْدًا ثَمِينًا،
وَأُتِيَ بِكِتَابٍ أَنَّهُ خَطَّهُ فِي إِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ، فَأَنْكَرَ
أَنَّهُ خَطُّهُ، وَكَانَ مُزَوَّرًا عَلَيْهِ،
وَاعْتَرَفَ بِالْعِقْدِ، فَأُخِذَ
مِنْهُ، وَعُزِلَ عَنِ النِّقَابَةِ، وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فِيهَا، وَكَانَ
مَظْلُومًا فِي ذَلِكَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا عَزَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَاضِيَ الْقُضَاةِ
أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ مَعْرُوفٍ، وَوَلَّى غَيْرَهُ.
وَفِي شَعْبَانَ وَرَدَ الْبَرِيدُ مِنْ مِصْرَ إِلَى عَضُدِ الدَّوْلَةِ
بِمُرَاسَلَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَرَدَّ الْجَوَابَ بِمَا مَضْمُونُهُ صِدْقُ
النِّيَّةِ وَحُسْنُ الطَّوِيَّةِ، ثُمَّ سَأَلَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنَ
الطَّائِعِ أَنْ يُجَدِّدَ عَلَيْهِ الْخِلَعَ وَالْجَوَاهِرَ، وَأَنْ يَزِيدَ فِي
أَلْقَابِهِ تَاجَ الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَخَلَعَ
عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَلَابِسِ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَقْبِيلِ
الْأَرْضِ مِنْ كَثْرَتِهَا، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ مَا وَرَاءَ دَارِهِ مِنَ
الْأُمُورِ وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا،
وَحَضَرَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ وَالْأُمَرَاءُ وَأَعْيَانُ النَّاسِ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَأَرْسَلَ فِي رَمَضَانَ إِلَى الذُّعَّارِ مِنَ الْأَعْرَابِ مِنْ بَنِي
شَيْبَانَ وَغَيْرِهِمْ، فَعَقَرَهُمْ وَكَسَرَهُمْ وَقَهَرَهَمْ، وَكَانَ
أَمِيرُهُمْ ضَبَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ مُتَحَصِّنًا بِعَيْنِ التَّمْرِ
نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَأُخِذَتْ دِيَارُهُمْ، وَأُخِذَتْ أَمْوَالُهُمْ،
وَحَالَتْ أَحْوَالُهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ تَزَوَّجَ
الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ بِنْتَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الْكُبْرَى، وَعُقِدَ
الْعَقْدُ بِحَضْرَةِ الْأَعْيَانِ وَالرُّؤَسَاءِ، وَكَانَ عَقْدًا هَائِلًا
حَافِلًا، عَلَى صَدَاقٍ مَبْلَغُهُ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ، وَيُقَالُ: مِائَتَا
أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ وَكِيلَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَارِسِيُّ النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ
" الْإِيضَاحِ وَالتَّكْمِلَةِ
"، وَكَانَ الَّذِي خَطَبَ خُطْبَةَ الْعَقْدِ الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ
الْمُحَسِّنُ بْنُ عَلِيٍّ التَّنُوخِيُّ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ أَبِي تَغْلِبَ بْنِ نَاصِرِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ
بِالشَّامِ، قَرِيبًا مِنْ نَوَى وَأَعْمَالِهَا، وَكَانَتْ مَعَهُ أُخْتُهُ
جَمِيلَةُ وَزَوْجَتُهُ بِنْتُ عَمِّهِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ، فَرُدَّتَا إِلَى
ابْنِ عَمِّهِ سَعْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ حَلَبَ.
قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: وَفِيهَا جَدَّدَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ عِمَارَةَ بَغْدَادَ
وَمَحَاسِنَهَا، وَجَدَّدَ الْمَسَاجِدَ وَالْمَشَاهِدَ، وَأَجْرَى عَلَى
الْفُقَهَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْزَاقَ وَالْجِرَايَاتِ، مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْأَطِبَّاءِ وَالْحُسَّابِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَطْلَقَ
الصِّلَاتِ لِأَرْبَابِ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ، وَأَلْزَمَ أَصْحَابَ
الْأَمْلَاكِ بِبَغْدَادَ بِعِمَارَةِ بُيُوتِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَمَهَّدَ
الطُّرُقَاتِ، وَأَطْلَقَ الْمُكُوسَ، وَأَصْلَحَ طَرِيقَ الْحُجَّاجِ مِنْ
بَغْدَادَ إِلَى مَكَّةَ وَأَرْسَلَ الصَّدَقَاتِ لِلْمُجَاوِرِينَ
بِالْحَرَمَيْنِ، قَالَ: فَأَذِنَ لِوَزِيرِهِ نَصْرِ بْنِ هَارُونَ - وَكَانَ
نَصْرَانِيًّا - بِعِمَارَةِ الْبِيَعِ وَالدِّيَرَةِ، وَإِطْلَاقِ الْأَمْوَالِ
لِفُقَرَائِهِمْ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ حَسْنَوَيْهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الْكُرْدِيُّ، وَكَانَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى نَوَاحِي بِلَادِ الدِّينَوَرِ وَهَمَذَانَ وَنَهَاوَنْدَ
مُدَّةَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ
بِالْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، فَلَمَّا تُوُفِّيَ اخْتَلَفَ أَوْلَادُهُ مِنْ
بَعْدِهِ، وَتَمَزَّقَ شَمْلُهُمْ، وَتَمَكَّنَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ مِنْ أَكْثَرِ
بِلَادِهِ، وَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُ فِي الْأَرْضِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ رَكِبَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي جُيُوشٍ كَثِيفَةٍ إِلَى
بِلَادِ أَخِيهِ فَخْرِ
الدَّوْلَةِ، وَذَلِكَ لِمَا كَانَ
بَلَغَهُ مِنْ مُمَالَآتِ عِزِّ الدَّوْلَةِ وَاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا
تَفَرَّغَ مِنْ أَعْدَائِهِ، رَكِبَ، فَتَسَلَّمَ بِلَادَ أَخِيهِ فَخْرِ
الدَّوْلَةِ ; هَمَذَانَ وَالرَّيَّ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَسَلَّمَ
ذَلِكَ إِلَى أَخِيهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بُوَيْهِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ ;
لِيَكُونَ نَائِبَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى بِلَادِ حَسْنَوَيْهِ
الْكُرْدِيِّ، فَتَسَلَّمَ بِلَادَهُ وَأَخَذَ حَوَاصِلَهُ وَذَخَائِرَهُ،
وَكَانَتْ جَلِيلَةً كَثِيرَةً جِدًّا، وَحَبَسَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ، وَأَمَّرَ
بَعْضَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْأَكْرَادِ الْهَكَّارِيَّةِ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ
بَعْضَ بِلَادِهِمْ، وَعَظُمَ شَأْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَارْتَفَعَ صِيتُهُ
وَذِكْرُهُ إِلَّا أَنَّهُ أَصَابَهُ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ دَاءُ الصَّرْعِ،
وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ لَهُ مِثْلُهُ فِي الْمَوْصِلِ فَكَانَ يَكْتُمُهُ، وَلَكِنَّهُ
غَلَبَ بِهِ كَثْرَةُ النِّسْيَانِ، فَلَا يَذْكُرُ الشَّيْءَ إِلَّا بَعْدَ
جَهْدٍ جَهِيدٍ، وَالدُّنْيَا لَا تَسُرُّ بِقَدْرِ مَا تَضُرُّ:
دَارٌ إِذَا مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا أَبْكَتْ غَدًا بُعْدًا لَهَا مَنْ
دَارِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرُّوذَبَارِيُّ
ابْنُ أُخْتِ أَبِي عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ
يَتَكَلَّمُ عَلَى مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدِ انْتَقَلَ مِنْ بَغْدَادَ
فَأَقَامَ بِصُورَ، فَتُوفِّيَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ فَارِسِ بْنِ
زَكَرِيَّا، أَبُو الْحُسَيْنِ اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْمُجْمَلِ " فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ
شِعْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَوْمَيْنِ:
يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا عِلْمًا وَبِي وَبِإِعْلَانِي
وَإِسْرَارِي أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا
فَهَبْ ذُنُوبِي لِتَوْحِيدِي وَإِقْرَارِي
ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيُعْرَفُ بِالْجُعَلِ، سَكَنَ بَغْدَادَ
وَانْتَحَلَ مَذْهَبَ الْعِرَاقِيِّينَ، فَصَنَّفَ لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَكَانَ
اشْتِغَالُهُ فِي الْفُرُوعِ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيِّ وَعِنْدَهُ
دُفِنَ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ.
ثَابِتُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ الصَّابِئُ
الْمُتَطَبِّبُ، الْحَاذِقُ فِي فَنِّهِ. تُوُفِّيَ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
حَسْنَوَيْهِ بْنُ الْحُسَيْنِ
الْكُرْدِيُّ
أَمِيرُ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ مَاسِيٍّ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْبَزَّازُ
أَسْنَدَ الْكَثِيرَ، وَبَلَغَ خَمْسًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً
ثَبْتًا، تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ
قَاضِي بَغْدَادَ وَيُعْرَفُ بِابْنِ أُمِّ شَيْبَانَ، وَكَانَ عَالِمًا فَاضِلًا،
لَهُ تَصَانِيفُ، وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ قَدِيمًا، وَكَانَ جَيِّدَ
السِّيرَةِ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ
وَقَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ مِنْ جِهَةِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ إِلَى
أَخِيهِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَتَلَقَّاهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى ظَاهِرِ
الْبَلَدِ، وَأَكْرَمَهُ، وَأَمَرَ الدَّوْلَةَ بِاحْتِرَامِهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ
وَزَادَهُ فِي أَقْطَاعِهِ، وَرَدَّ مَعَهُ هَدَايَا كَثِيرَةً جِدًّا.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْهَا رَجَعَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ
فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ، وَضُرِبَتْ لَهُ الْقِبَابُ، وَزُيِّنَتِ
الْأَسْوَاقُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ دَخَلَ الْخَلِيفَةُ بِزَوْجَتِهِ بِنْتِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ وَحُمِلَ مَعَهَا مِنَ الْجِهَازِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. وَفِي هَذَا
الشَّهْرِ أَيْضًا وَصَلَتْ هَدَايَا مِنْ صَاحِبِ الْيَمَنِ إِلَى عَضُدِ
الدَّوْلَةِ وَفِيهَا أَشْيَاءُ حَسَنَةٌ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِصَاحِبِ مِصْرَ، وَهُوَ الْعَزِيزُ بْنُ الْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ الرَّازِيُّ أَحَدُ
أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ،
وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ
الْمُفِيدَةِ كِتَابُ " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ "، وَهُوَ تِلْمِيذُ أَبِي
الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَكَانَ عَابِدًا زَاهِدًا وَرِعًا، انْتَهَتْ إِلَيْهِ
رِيَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ، وَرَحَلِ إِلَيْهِ الطَّلَبَةُ مِنَ
الْآفَاقِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ وَأَبِي
الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ أَرَادَهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ
عَلَى أَنْ يُوَلِّيَهُ الْقَضَاءَ، فَلَمْ يَقْبَلْ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذَا الْعَامِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيُّ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا، أَبُو
بَكْرٍ الْوَرَّاقُ
وَيُلَقَّبُ بِغُنْدَرٍ أَيْضًا، كَانَ جَوَّالًا رَحَّالًا، سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ بِبِلَادِ فَارِسَ وَخُرَاسَانَ، وَسَمِعَ الْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ
صَاعِدٍ وَابْنَ دُرَيْدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَعَنْهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ
الْأَصْفَهَانِيُّ وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ خَالَوَيْهِ: الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالَوَيْهِ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ النَّحْوِيُّ اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ، أَصْلُهُ مِنْ هَمَذَانَ ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ
فَأَدْرَكَ بِهَا مَشَايِخَ هَذَا الشَّأْنِ، كَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيِّ
وَابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ، وَاشْتَغَلَ
عَلَى أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، ثُمَّ صَارَ إِلَى حَلَبَ فَعَظُمَتْ مَكَانَتُهُ
عِنْدَ آلِ حَمْدَانَ، وَكَانَ سَيْفُ الدَّوْلَةِ يُكْرِمُهُ وَهُوَ أَحَدُ
جُلَسَائِهِ، وَلَهُ مَعَ الْمُتَنَبِّي مُنَاظَرَاتٌ.
وَقَدْ سَرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً مِنْهَا " كِتَابُ لَيْسَ " ; لِأَنَّهُ كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولَ فِيهِ: لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَذَا وَكَذَا، وَ " كِتَابُ الْآلِ " تَكَلَّمَ فِيهِ عَلَى أَقْسَامِهِ وَتَرْجَمَ الْأَئِمَّةَ الِاثْنَىْ عَشَرَ، وَإِعْرَابَ ثَلَاثِينَ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَشَرَحَ الدُّرَيْدِيَّةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، وَكَانَ فَرْدًا فِي زَمَانِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا وَقَعَ حَرِيقٌ عَظِيمٌ بِالْكَرْخِ مِنْ
بَغْدَادَ.
وَفِيهَا سُرِقَ شَيْءٌ نَفِيسٌ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ ; لِشِدَّةِ هَيْبَةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا اجْتَهَدُوا
كُلَّ الِاجْتِهَادِ، فَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ أَخَذَهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ صَاحِبَ
مِصْرَ بَعَثَ مَنْ فَعَلَ هَذَا، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو بَكْرٍ
الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْجُرْجَانِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الرَّحَّالُ الْجَوَّالُ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَحَدَّثَ
وَخَرَّجَ وَصَنَّفَ، فَأَفَادَ وَأَجَادَ، وَأَحْسَنَ الِانْتِقَادَ
وَالِاعْتِقَادَ، صَنَّفَ كِتَابًا عَلَى " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "
فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ وَعُلُومٌ غَزِيرَةٌ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُنْتُ عَزَمْتُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى الرِّحْلَةِ
إِلَيْهِ، فَلَمْ أُرْزَقْ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ السَّبْتَ عَاشِرَ رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهُوَ
ابْنُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ السَّبِيعِيُّ
سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ وَقَاسِمًا الْمُطَرِّزَ وَغَيْرَهُمَا، وَعَنْهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَرْقَانِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا مُكْثِرًا، وَكَانَ
عَسِرَ الرِّوَايَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْهَيْثَمِ بْنِ طَهْمَانَ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الشَّاهِدُ، الْمَعْرُوفُ بِالْبَادِي
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ثِقَةً، عُمِّرَ سَبْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً، مِنْهَا
خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مُقْعَدًا أَعْمَى، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو بَكْرٍ
الضَّبِّيُّ الْقَاضِي
وَلِيَ الْحُكْمَ بِعِدَّةِ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهًا صَيِّنًا
دَيِّنًا.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ اللَّيْثِ، أَبُو الْحَسَنِ
التَّمِيمِيُّ
الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ، لَهُ كَلَامٌ وَمُصَنَّفٌ فِي الْخِلَافِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَرَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ وَضَعَ حَدِيثًا، وَرَدَّ
ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَقَالَ: مَا زَالَ هَذَا دَأْبَ
الْخَطِيبِ فِي أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ:
وَشَيْخُ الْخَطِيبِ الَّذِي حُكِيَ
عَنْهُ هَذَا هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَسَدٍ الْعُكْبَرِيُّ
لَا يُعْتَمَدُ عَلَى قَوْلِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا، وَلَيْسَ مِنْ
أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَقُولُ بِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ.
قُلْتُ: وَهَذَا غَرِيبٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ بِوُجُوبِ تَخْلِيدِ
أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ، فَكَيْفَ لَا يَقُولُ هَذَا بِتَخْلِيدِ الْكُفَّارِ !
قَالَ: وَعَنْهُ حُكِيَ الْكَلَامُ فِي ابْنِ بَطَّةَ أَيْضًا.
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو الْحَسَنِ الْحُصَرِيُّ الصُّوفِيُّ الْوَاعِظُ
شَيْخُ الْمُتَصَوِّفَةِ بِبَغْدَادَ، أَصْلُهُ مِنَ الْبَصْرَةِ صَحِبَ
الشِّبْلِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ بِالْجَامِعِ، ثُمَّ لَمَّا
كَبُرَتْ سِنُّهُ بُنِيَ لَهُ الرِّبَاطُ الْمُقَابِلُ لِجَامِعِ الْمَنْصُورِ،
ثُمَّ عُرِفَ بِصَاحِبِهِ الزَّوْزَنِيِّ، وَكَانَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنَ
الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَلَهُ كَلَامٌ جَيِّدٌ فِي التَّصَوُّفِ عَلَى
طَرِيقَتِهِمْ.
وَمِمَّا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلَيَّ مِنِّي ؟
وَأَيُّ شَيْءٍ لِي فِيَّ حَتَّى أَخَافَ وَأَرْجُوَ، إِنْ رَحِمَ رَحِمَ مَا
لَهُ، وَإِنَّ عَذَّبَ عَذَّبَ مَا لَهُ.
تُوُفِّيَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ
بِمَقْبَرَةِ حَرْبٍ مِنْ بَغْدَادَ.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَحْدَبُ
الْمُزَوِّرُ
كَانَ قَوِيَّ الْخَطِّ، لَهُ مَلَكَةٌ عَلَى التَّزْوِيرِ، لَا يَشَاءُ يَكْتُبُ
عَلَى كِتَابَةِ أَحَدٍ إِلَّا فَعَلَ، فَلَا يَشُكُّ ذَلِكَ الْمُزَوَّرُ
عَلَيْهِ أَنَّهُ خَطُّهُ، وَبَلَا النَّاسَ بِبَلَاءٍ عَظِيمٍ، وَخَتَمَ
السُّلْطَانُ عَلَى يَدِهِ مِرَارًا فَلَمْ يَفِدْ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ الشَّافِعِيُّ
شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَإِمَامُ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي الْفِقْهِ
وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَحَدَّثَ بِهَا، فَسَمِعَ مِنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: عَادَلْتُ الشَّيْخَ أَبَا زَيْدٍ فِي طَرِيقِ
الْحَجِّ فَمَا أَعْلَمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَتَبَتْ عَلَيْهِ خَطِيئَةً.
وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتَهُ بِكَمَالِهَا فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ
". قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نُعَيْمٍ: تُوُفِّيَ بِمَرْوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ خَفِيفٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ
أَحَدُ مَشَاهِيرِ
الصُّوفِيَّةِ، صَحِبَ الْجَرِيرِيَّ
وَابْنَ عَطَاءِ وَغَيْرَهُمَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى بِ " تَلْبِيسِ
إِبْلِيسَ " عَنْهُ حِكَايَاتٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ
مَذْهَبَ الْإِبَاحِيَّةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ جَرَى الْمَاءُ الَّذِي سَاقَهُ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِهِ وَبُسْتَانِهِ.
وَفِي صَفَرٍ فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي أَنْشَأَهُ عَضُدُ الدَّوْلَةِ فِي
الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَقَدْ رَتَّبَ فِيهِ الْأَطِبَّاءَ
وَالْخَدَمَ، وَنُقِلَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْعَقَاقِيرِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ.
وَقَالَ: وَفِيهَا تُوُفِّيَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ، فَكَتَمَ أَصْحَابُهُ وَفَاتَهُ،
حَتَّى أَحْضَرُوا وَلَدَهُ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ فَوَلَّوْهُ الْأَمْرَ،
وَرَاسَلُوا الْخَلِيفَةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ.
ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
أَبُو شُجَاعِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنِ بْنِ بُوَيْهِ
الدَّيْلَمِيُّ، صَاحِبُ الْعِرَاقِ، وَمَلِكُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ تَسَمَّى "
شَاهِنْشَاهْ "، وَمَعْنَاهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَالَ أَوْضَعُ اسْمٍ - وَفِي رِوَايَةٍ: أَخْنَعُ اسْمٍ - عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ
تَسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ ضُرِبَتْ لَهُ الدَّبَادِبُ بِبَغْدَادَ، وَأَوَّلُ مَنْ
خُطِبَ لَهُ بِهَا مَعَ الْخَلِيفَةِ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ امْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ بِمَدَائِحَ
هَائِلَةٍ كَالْمُتَنَبِّي وَغَيْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السَّلَامِيِّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ:
إِلَيْكَ طَوَى عَرْضَ الْبَسِيطَةِ جَاعِلٌ قُصَارَى الْمَطَايَا أَنْ يَلُوحَ
لَهَا الْقَصْرُ فَكُنْتُ وَعَزْمِي فِي الظَّلَامِ وَصَارِمِي
ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ كَمَا اجْتَمَعَ النَّسْرُ وَبَشَّرْتُ آمَالِي بِمَلْكٍ هُوَ
الْوَرَى
وَدَارٍ هِيَ الدُّنْيَا وَيَوْمٍ هُوَ الدَّهْرُ
ثُمَّ قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا هُوَ السِّحْرُ الْحَلَالُ.
وَقَالَ الْمُتَنَبِّي أَيْضًا:
هِيَ الْغَرَضُ الْأَقْصَى وَرُؤْيَتُكَ الْمُنَى وَمَنْزِلُكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ
الْخَلَائِقُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَيْسَ فِي الطِّلَاوَةِ كَقَوْلِ السَّلَامِيِّ، وَلَا
اسْتَوْفَى الْمَعْنَى كُلَّهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الدَّهْرَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ الْأَرَّجَانِيُّ الْقَاضِي فِي قَصِيدَةٍ لَهُ
بَيْتًا، فَلَمْ يَلْحَقِ السَّلَامِيَّ
أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُهُ:
لَقِيتُهُ فَرَأَيْتُ النَّاسَ فِي رَجُلٍ وَالدَّهْرَ فِي سَاعَةٍ وَالْأَرْضَ
فِي دَارِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَفْتِكِينُ مَوْلَى أَخِيهِ صَاحِبِ
دِمَشْقَ يَسْتَمِدُّهُ بِجَيْشٍ يُقَاتِلُ بِهِ الْفَاطِمِيِّينَ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عَضُدُ الدَّوْلَةِ: غَرَّكَ عِزُّكَ، فَصَارَ قُصَارُ ذَلِكَ ذُلَّكَ،
فَاخْشَ فَاحِشَ فِعْلِكَ، فِعَلَّكَ بِهَذَا تُهْدَا. قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ:
وَلَقَدْ أَبْدَعَ فِيهَا كُلَّ الْإِبْدَاعِ.
وَقَدْ جَرَى لَهُ مِنَ التَّعْظِيمِ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَا لَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ
مِمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَا هِمَّةٍ وَصَرَامَةٍ
وَعَزْمٍ، اجْتَهَدَ فِي عِمَارَةِ بَغْدَادَ وَالطُّرُقَاتِ، وَأَجْرَى
النَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى الْمُجَاوِرِينَ بِالْحَرَمَيْنِ وَأَهْلِ
الْبُيُوتَاتِ، وَحَفَرَ الْأَنْهَارَ، وَبَنَى الْمَارَسْتَانَ الْعَضُدِيَّ،
وَأَدَارَ السُّورَ عَلَى مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي مُدَّةِ مُلْكِهِ عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَتْ
خَمْسَ سِنِينَ.
وَقَدْ كَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، حَسَنَ السِّيَاسَةِ، شَدِيدَ الْهَيْبَةِ،
بَعِيدَ الْهِمَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَتَجَاوَزُ فِي سِيَاسَتِهِ الْأُمُورَ
الشَّرْعِيَّةَ، كَانَ يُحِبُّ جَارِيَةً، فَأَلْهَتْهُ عَنْ تَدْبِيرِ
الْمَمْلَكَةِ، فَأَمَرَ بِتَغْرِيقِهَا، وَبَلَغَهُ أَنَّ غُلَامًا لَهُ أَخَذَ
لِرَجُلٍ بِطِّيخَةً، فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُ نِصْفَيْنِ، وَهَذِهِ
مُبَالَغَةٌ.
وَكَانَ سَبَبَ مَوْتِهِ دَاءُ الصَّرْعِ، وَحِينَ أَخَذَتْهُ عِلَّةُ مَوْتِهِ
لَمْ يَكُنْ لَهُ كَلَامٌ سِوَى تِلَاوَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى مَا أَغْنَى عَنِّي
مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [ الْحَاقَّةِ: 28، 29 ].
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أَنَّهُ
كَانَ يُحِبُّ الْعِلْمَ وَالْفَضِيلَةَ، وَكَانَ يُقْرَأُ عِنْدَهُ "
كِتَابُ إِقْلِيدِسَ " وَكِتَابُ النَّحْوِ لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ،
وَهُوَ " الْإِيضَاحُ وَالتَّكْمِلَةُ " الَّذِي صَنَّفَهُ لَهُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ لَهُ شِعْرًا، فَمِنْهُ قَوْلُهُ، وَقَدْ خَرَجَ مَرَّةً
إِلَى بُسْتَانٍ لَهُ فَقَالَ: أَوَدُّ لَوْ جَاءَ الْمَطَرُ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ
فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
لَيْسَ شُرْبُ الْكَأْسِ إِلَّا فِي الْمَطَرْ وَغِنَاءٌ مِنْ جِوَارٍ فِي
السَّحَرْ
غَانِيَاتٍ سَالِبَاتٍ لِلنُّهَى نَاغِمَاتٍ فِي تَضَاعِيفِ الْوَتَرْ
رَاقِصَاتٍ زَاهِرَاتٍ نُجَّلٍ رَافِلَاتٍ فِي أَفَانِينِ الْحِبَرْ
مُطْرِبَاتٍ مُحْسِنَاتٍ مُجَّنٍ رَافِضَاتِ الْهَمِّ إِبَّانَ الْفِكَرْ
مُبْرِزَاتِ الْكَأْسِ مِنْ مَخْزَنِهَا مُسَقَّيَاتِ الْخَمْرِ مَنْ فَاقَ
الْبَشَرْ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ وَابْنُ رُكْنِهَا مَالِكُ الْأَمْلَاكِ غَلَّابُ الْقَدَرْ
سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بُغْيَتَهُ فِي مُلُوكِ الْأَرْضِ مَا دَارَ الْقَمَرْ
وَأَرَاهُ الْخَيْرَ فِي أَوْلَادِهِ لِيُسَاسَ الْمُلْكُ فِيهِمْ بِالْغُرَرْ
قَالَ: فَيُقَالُ: إِنَّهُ مُنْذُ قَالَ: غَلَّابُ الْقَدَرْ، لَمْ يُفْلِحْ
بَعْدَهَا. وَذَكَرَ غَيْرُهُ:
أَنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ آخِرُ مَا
أُنْشِدَتْ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ عَقِبَ ذَلِكَ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ أَوْ
ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحُمِلَ إِلَى مَشْهَدِ عَلِيٍّ، فَدُفِنَ فِيهِ.
وَقَدْ كُتِبَ عَلَى قَبْرِهِ فِي التُّرْبَةِ الَّتِي بُنِيَتْ لَهُ عِنْدَ
مَشْهَدِ عَلِيٍّ: هَذَا قَبْرُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ وَتَاجِ الْمَمْلَكَةِ أَبِي
شُجَاعِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ، أَحَبَّ مُجَاوَرَةَ هَذَا الْإِمَامِ
الْمُتَّقِي لِطَمَعِهِ فِي الْخَلَاصِ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ
نَفْسِهَا [ النَّحْلِ: 111 ] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَعِتْرَتِهِ الطَّاهِرَةِ.
وَقَدْ تَمَثَّلَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ، وَهِيَ لِلْقَاسِمِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ:
قَتَلْتُ صَنَادِيدَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَدَعْ عَدُوًّا وَلَمْ أُمْهِلْ عَلَى
ظَنِّهِ خَلْقَا
وَأَخْلَيْتُ دُورَ الْمُلْكِ مِنْ كُلِّ نَازِلٍ فَشَرَّدْتُهُمْ غَرْبًا
وَشَرَّدْتُهُمْ شَرْقَا
فَلَمَّا بَلَغْتُ النَّجْمَ عِزًّا وَرِفْعَةً وَصَارَتْ رِقَابُ الْخَلْقِ
أَجْمَعُ لِي رِقَّا
رَمَانِي الرَّدَى سَهْمًا فَأَخْمَدَ جَمْرَتِي فَهَا أَنَا ذَا فِي حُفْرَتِي
عَاطِلًا مُلْقَى
فَأَذْهَبْتُ دُنْيَايَ وَدِينِي سَفَاهَةً فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنِّي
بِمَصْرَعِهِ أَشْقَى
ثُمَّ جَعَلَ يُكَرِّرُ هَذِهِ الْآيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ
عَنِّي سُلْطَانِيَهْ إِلَى أَنْ مَاتَ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَأُجْلِسَ ابْنُهُ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ
السَّوَادِ، وَجَاءَهُ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ مُعَزِّيًا، وَنَاحَ النِّسَاءُ
عَلَيْهِ فِي الْأَسْوَاقِ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَلَمَّا انْقَضَى الْعَزَاءُ
رَكِبَ صَمْصَامَةُ إِلَى دَارِ
الْخِلَافَةِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سَبْعَ خِلَعٍ، وَطُوِّقَ
وَسُوِّرَ، وَأَلْبَسَهُ التَّاجَ، وَلَقَّبَهُ شَمْسَ الدَّوْلَةِ، وَوَلَّاهُ
مَا كَانَ يَتَوَلَّاهُ أَبُوهُ مِنْ قَبْلِهِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ وَهْبٍ،
أَبُو بَكْرٍ الْحَرِيرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ
سَمِعَ ابْنَ جَرِيرٍ وَالْبَغَوِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرَهُمْ،
وَعَنْهُ ابْنُ رَزْقَوَيْهِ وَابْنُ شَاذَانَ وَالْبَرْقَانِيُّ، وَقَالَ: كَانَ
جَلِيلًا، أَحَدَ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ.
قَالَ الْخَطِيبُ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ: سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِزَوْجِ الْحُرَّةِ
أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ إِلَى مَطْبَخِ ابْنَةِ بَدْرٍ مَوْلَى الْمُعْتَضِدِ،
الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ
الْمُقْتَدِرُ، وَبَقِيَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ سَالِمَةً مِنَ الْكُتَّابِ
وَالْمُصَادَرَاتِ، كَثِيرَةَ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ هَذَا وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ
حَدَثُ السِّنِّ يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْ حَوَائِحِ الطَّعَامِ عَلَى رَأْسِهِ،
فَيَدْخُلُ بِهِ إِلَى مَطْبَخِهَا مَعَ جُمْلَةِ الْخَدَمِ، وَكَانَ شَابًّا
رَشِيقًا حَرِكَا، فَنَفَقَ عَلَى الْقَهْرَمَانَةِ فَقَدَّمَتْهُ حَتَّى
جَعَلَتْهُ كَاتِبًا عَلَى الْمَطْبَخِ، ثُمَّ تَرَقَّتْ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ
صَارَ وَكِيْلًا يَنْظُرُ فِي الضَّيَاعِ وَالْعَقَارِ، ثُمَّ آلَ بِهِ الْحَالُ
حَتَّى صَارَتِ السِّتُّ تُحَدِّثُهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ، فَعَلِقَتْ بِهِ
وَأَحَبَّتْهُ، وَسَأَلَتْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا، فَاسْتَصْغَرَ نَفْسَهُ،
وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ، فَشَجَّعَتْهُ هِيَ وَأَعْطَتْهُ مَالًا جَزِيلًا
لِيُظْهِرَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِشْمَةِ وَالسَّعَادَةِ مَا يُنَاسِبُهَا ;
لِيَتَأَهَّلَ لِذَلِكَ، ثُمَّ شَرَعَتْ تُهَادِي الْقُضَاةَ وَالْأَكَابِرَ،
ثُمَّ عَزَمَتْ عَلَى
تَزْوِيجِهِ، وَرَضِيَتْ بِهِ عِنْدَ حُضُورِ الْقُضَاةِ، وَاعْتَرَضَ أَوْلِيَاؤُهَا عَلَيْهَا، فَغَلَبَتْهُمْ بِالْمُكَارَمَاتِ وَالْهَدَايَا، وَدَخَلَ عَلَيْهَا فَمَكَثَتْ مَعَهُ دَهْرًا طَوِيلًا، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ قَبْلَهُ، فَوَرِثَ مِنْهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَطَالَ عُمُرُهُ بَعْدَهَا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ حَتَّى بَلَغَ الْكَرُّ مِنَ الطَّعَامِ
إِلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَثَمَانِمِائَةٍ، وَمَاتَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنَ
الضَّعْفِ فِي الطُّرُقَاتِ جُوعًا، ثُمَّ تَسَاهَلَ الْحَالُ فِي ذِي الْحِجَّةِ
مِنْهَا. وَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ، وَأَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ عَبَّادٍ الْوَزِيرَ بَعَثَ إِلَى
أَخِيهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، فَوَلَّاهُ الْمُلْكَ مَكَانَ أَخِيهِ، فَاسْتَوْزَرَ
ابْنَ عَبَّادٍ أَيْضًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَحْسَنَ
إِلَيْهِ، وَلَمَّا بَلَغَ الْقَرَامِطَةَ مَوْتُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ قَصَدُوا
الْبَصْرَةَ لِيَأْخُذُوهَا مَعَ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ ذَلِكَ،
وَلَكِنْ صُولِحُوا عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ، فَأَخَذُوهُ وَانْصَرَفُوا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بُوَيْهِ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ
كَانَ مَلِكًا عَلَى بَعْضِ مَا كَانَ أَبُوهُ يَمْلِكُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ،
وَكَانَ الصَّاحِبُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبَّادٍ وَزِيرَهُ، وَقَدْ تَزَوَّجَ
مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ هَذَا بِزُبَيْدَةَ بِنْتِ عَمِّهِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ،
فَغَرِمَ عَلَى عُرْسِهِ سَبْعَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَذَا سَرَفٌ عَظِيمٌ.
بُلُكِّينُ بْنُ زِيرِي بْنِ مُنَادٍ الْحِمْيَرِيُّ الصِّنْهَاجِيُّ
وَيُسَمَّى أَيْضًا يُوسُفَ،
وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ أُمَرَاءِ
الْمُعِزِّ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَهُ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ حِينَ سَارَ إِلَى
الْقَاهِرَةِ وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، لَهُ أَرْبَعُمِائَةِ حَظِيَّةٍ، وَقَدْ
بُشِّرَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِسَبْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا، وَهُوَ جَدُّ بَادِيسَ
الْمَغْرِبِيِّ.
سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ، أَبُو عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيُّ
أَصْلُهُ مِنْ بِلَادِ الْقَيْرَوَانِ وَدَخَلَ الشَّامَ وَصَحِبَ أَبَا الْخَيْرِ
الْأَقْطَعَ، وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ مُدَّةَ سِنِينَ، وَكَانَ لَا يَظْهَرُ فِي
الْمَوَاسِمِ، وَكَانَتْ لَهُ كَرَامَاتٌ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو
سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ لَهُ أَحْوَالٌ صَالِحَةٌ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
الْمُخْتَارِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ الْوَاسِطِيُّ
يُعْرَفُ بِابْنِ السَّقَّا، سَمِعَ عَبْدَانَ وَأَبَا يَعْلَى الْمَوْصِلِيَّ
وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَغَوِيَّ، وَكَانَ فَهِمًا حَافِظًا، دَخَلَ
بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا مَجَالِسَ كَثِيرَةً مِنْ حِفْظِهِ، وَكَانَ يَحْضُرُهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْحُفَّاظِ، فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ
شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ حَدَّثَ مَرَّةً عَنْ أَبِي يَعْلَى بِحَدِيثٍ
أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدُوهُ فِي أَصْلِهِ بِخَطِّ الصِّبَا، كَمَا
حَدَّثَ بِهِ سَوَاءً، فَبَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ الْمُلَقَّبِ بِشَمْسِ
الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ عَمِّهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ، فَأَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ لِفَخْرِ الدَّوْلَةِ خِلَعًا سَنِيَّةً وَتُحَفًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا عُمِلَ عُرْسٌ فِي دَرْبِ
رَبَاحٍ، فَسَقَطَتِ الدَّارُ عَلَى مَنْ فِيهَا، فَهَلَكَ أَكْثَرُ النِّسَاءِ
بِهَا، وَنُبِشَ مِنْ تَحْتِ الرَّدْمِ، فَكَانَتِ الْمُصِيبَةُ عَامَّةً.
وَفِيهَا كَانَتْ وَفَاةٌ:
الْحَافِظِ أَبِي الْفَتْحِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ الْمَوْصِلِيُّ
الْمُصَنَّفُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي
يَعْلَى وَطَبَقَتِهِ، وَضَعَّفَهُ كَثِيرٌ مِنْ حُفَّاظِ زَمَانِهِ، وَاتَّهَمَهُ
بَعْضُهُمْ بِوَضْعِ حَدِيثٍ رَوَاهُ لِابْنِ بُوَيْهِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ
بَغْدَادَ فَسَاقَهُ بِإِسْنَادٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ
يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ صُورَةِ
ذَلِكَ الْأَمِيرِ. فَأَجَازَهُ وَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً وَالْعَجَبُ -
إِنْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا - كَيْفَ رَاجَ هَذَا عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ
أَدْنَى فَهْمٍ وَعَقْلٍ، وَقَدْ أَرَّخَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَفَاتَهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْخَطِيبُ أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
بْنِ نُبَاتَةَ الْحَذَّاءُ - بَطْنٌ مِنْ قُضَاعَةَ، وَقِيلَ: مِنْ إِيَادٍ -
الْفَارِقِيُّ
خَطِيبُ حَلَبَ أَيَّامَ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بْنِ حَمْدَانَ، وَلِهَذَا أَكْثَرُ
دِيوَانِهِ الْخُطَبُ الْجِهَادِيَّةُ، وَلَمْ يُسْبَقْ إِلَى مَثَلِ دِيوَانِهِ
هَذَا، وَلَا يُلْحَقُ فِيهِ - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ - لِأَنَّهُ كَانَ
فَصِيحًا بَلِيغًا ذَكِيًّا دَيِّنًا وَرِعًا. رَوَى الشَّيْخُ تَاجُ الدِّينِ
الْكِنْدِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ جُمُعَةٍ بِخُطْبَةِ الْمَنَامِ، ثُمَّ
رَأَى لَيْلَةَ السَّبْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْهِ
قَالَ لَهُ: مَرْحَبًا بِخَطِيبِ الْخُطَبَاءِ. ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَى الْقُبُورِ،
فَقَالَ لِابْنِ نُبَاتَةَ: كَيْفَ تَقُولُ ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: كَأَنَّهُمْ لَمْ
يَكُونُوا لِلْعُيُونِ قُرَّةً، وَلَمْ يُعَدُّوا فِي الْأَحْيَاءِ مَرَّةً،
فَتَمَّمَ الْكَلَامَ ابْنُ نُبَاتَةَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَ
تَكُونُونَ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ - وَأَشَارَ إِلَى الصَّحَابَةِ - وَيَكُونُ
الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ أَحْسَنْتَ، ادْنُهِ ادْنُهْ، فَقَبَّلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ، وَتَفَلَ فِي فِيهِ،
وَقَالَ: وَفَّقَكَ اللَّهُ، فَاسْتَيْقَظَ، وَبِهِ مِنَ السُّرُورِ أَمْرٌ
كَبِيرٌ، وَعَلَى وَجْهِهِ نُورٌ وَبَهَاءٌ، وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا
ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا، لَمْ يَسْتَطْعِمْ فِيهَا بِطَعَامٍ،
وَيُوجَدُ مِنْ فِيهِ مِثْلُ رَائِحَةِ
الْمِسْكِ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ الْفَارِقِيُّ: وُلِدَ ابْنُ نُبَاتَةَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ
وَهِيَ هَذِهِ السَّنَةُ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا. حَكَاهُ ابْنُ
خَلِّكَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَسَوَّرَهُ وَطَوَّقَهُ،
وَأُرْكِبَ عَلَى فَرَسٍ بِسَرْجٍ ذَهَبٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ جَنِيبٌ مِثْلُهُ.
وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ سَادَةِ الْقَرَامِطَةِ -
وَهُمَا إِسْحَاقُ وَجَعْفَرٌ - دَخَلَا الْكُوفَةَ فِي جَحْفَلٍ عَظِيمٍ،
فَانْزَعَجَتِ النُّفُوسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِصَرَامَتِهِمْ
وَشَهَامَتِهِمْ، وَلِأَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ مَعَ شَجَاعَتِهِ قَدْ كَانَ
يُصَانِعُهُمْ، وَأَقْطَعَهُمْ أَرَاضِيَ مِنْ وَاسِطٍ وَكَذَلِكَ عِزُّ
الدَّوْلَةِ مِنْ قَبْلِهِ أَيْضًا، فَجُهِّزَ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنْ بَغْدَادَ
فَطَرَدُوهُمْ عَنْ تِلْكَ النَّوَاحِي الَّتِي قَدْ أَكْثَرُوا فِيهَا
الْفَسَادَ، وَبَطَلَ مَا كَانَ فِي النُّفُوسِ مِنْهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا عَزَمَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ عَلَى أَنْ يَضَعَ مَكْسًا عَلَى الثِّيَابِ
الْإِبْرَيْسَمِيَّاتِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَهَمُّوا
بِتَبْطِيلِ الْجُمُعَةِ، وَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ بَيْنَهُمْ، فَأُعْفُوا
مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِمَوْتِ ابْنِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ،
فَجَلَسَ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ لِلْعَزَاءِ، وَجَاءَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ
الطَّائِعُ فِي ثِيَابِ السَّوَادِ وَالْقُرَّاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ بَيْنَ
يَدَيْهِ فَقَامَ
إِلَيْهِ صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ
وَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَخَاطَبَا فِي الْعَزَاءِ بِأَلْفَاظٍ
حَسَنَةٍ، وَانْصَرَفَ الْخَلِيفَةُ رَاجِعًا إِلَى دَارِهِ، وَكَانَ وَقْتًا
مَشْهُودًا.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ:
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَحَدُ مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ
اخْتِيَارَاتٌ كَثِيرَةٌ غَرِيبَةٌ، وَقَدْ تَرْجَمْنَاهُ فِي " الطَّبَقَاتِ
" بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَبُو أَحْمَدَ
النَّيْسَابُورِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِحُسَيْنَكْ
كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ عِنْدَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَتِلْمِيذًا لَهُ، وَكَانَ
يُقَدِّمُهُ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَيَقْرَأُ لَهُ مَا لَا يَقْرَأُهُ لِغَيْرِهِ،
وَإِذَا تَخَلَّفَ ابْنُ خُزَيْمَةَ عَنْ مَجَالِسِ السُّلْطَانِ بَعَثَ
حُسَيْنَكْ مَكَانَهُ. وَلَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ خُزَيْمَةَ كَانَ عُمُرُ حُسَيْنَكْ
ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ عَمَّرَ بَعْدَهُ دَهْرًا طَوِيلًا، وَكَانَ
مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ عِبَادَةً وَقِرَاءَةً، لَا يَتْرُكُ قِيَامَ اللَّيْلِ
فِي حَضَرٍ وَلَا سِفَرٍ، وَلَا صَيْفٍ وَلَا شِتَاءٍ، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ
وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ، وَكَانَ يَحْكِي وُضُوءَ ابْنِ خُزَيْمَةَ وَصَلَاتَهُ،
وَلَمْ يُرَ فِي الْأَغْنِيَاءِ أَحْسَنُ صَلَاةً مِنْهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْحَافِظُ أَبُو أَحْمَدَ
النَّيْسَابُورِيُّ.
أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، أَبُو الْقَاسِمِ
الدَّارَكِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، نَزَلَ نَيْسَابُورَ ثُمَّ
سَكَنَ بَغْدَادَ إِلَى أَنْ مَاتَ بِهَا، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ: مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْهُ، وَحَكَى الْخَطِيبُ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الْفَتْوَى، فَيُجِيبُ بَعْدَ تَفَكُّرٍ طَوِيلٍ،
فَرُبَّمَا كَانَتْ فَتْوَاهُ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ، فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ: وَيَلَكُمُ ! رَوَى فَلَانٌ
عَنْ فُلَانٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا
وَكَذَا، فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمُخَالَفَتُهُمَا أَسْهَلُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ فِي الْمَذْهَبِ وُجُوهٌ جَيِّدَةٌ
دَالَّةٌ عَلَى مَتَانَةِ عِلْمِهِ، وَكَانَ يُتَّهَمُ بِالِاعْتِزَالِ، وَكَانَ
قَدْ أَخَذَ الْفِقْهَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ،
وَالْحَدِيثَ عَنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارَكِيِّ،
وَهُوَ أَحَدُ مَشَايِخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُ
عَامَّةُ شُيُوخِ بَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ - وَقِيلَ: فِي ذِي الْقَعْدَةِ - مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى السَّبْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ، أَبُو سَهْلٍ
النَّيْسَابُورِيُّ
وَيُعْرَفُ بِالْحَسْنَوِيِّ، كَانَ فَقِيهًا شَافِعِيًّا أَدِيبًا مُحَدِّثًا،
مُشْتَغِلًا بِنَفْسِهِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو بَكْرٍ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ سَمِعَ مِنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ وَالْبَاغَنْدِيِّ
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ،
وَلَهُ تَصَانِيفُ فِي شَرْحِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَأَبَاهُ، وَأَشَارَ بِأَبِي
بَكْرٍ الرَّازِيِّ الْحَنَفِيِّ، فَلَمْ يَقْبَلِ الْآخَرُ أَيْضًا، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا كَثُرَتِ الْحُمِّيَّاتُ فِي
بَغْدَادَ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَلِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
- وَهُوَ الْعِشْرُونَ مِنْ تَمُّوزَ - وَقَعَ مَطَرٌ كَثِيرٌ بِبَرْقٍ وَرَعْدٍ،
وَفِي رَجَبٍ غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ، وَوَرَدَ الْخَبَرُ فِيهِ
بِأَنَّهُ وَقَعَ بِالْمَوْصِلِ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ سَقَطَ مِنْهَا عُمْرَانٌ
كَثِيرٌ، وَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ صَمْصَامِ الدَّوْلَةِ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ، فَاقْتَتَلَا، فَغَلَبَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ، وَأَسَرَهُ وَدَخَلَ
بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ وَهَنَّأَهُ بِالسَّلَامَةِ، ثُمَّ
اسْتَدْعَى شَرَفُ الدَّوْلَةِ بِفَرَّاشٍ لِيُكَحِّلَ صَمْصَامَ الدَّوْلَةِ
فَاتَّفَقَ مَوْتُهُ، فَكُحِّلَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ مَا
وَقَعَ.
وَفِي ذِي الْحِجَّةِ قَبِلَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مَعْرُوفٍ
شَهَادَةَ الْحَافِظِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ
عُقْبَةَ، فَذُكِرَ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ نَدِمَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: كَانَ
يُقْبَلُ قَوْلِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحْدِي، فَصَارَ لَا يُقْبَلُ قَوْلِي عَلَى نَقْلِي إِلَّا مَعَ غَيْرِي، فَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ
سَنَةُ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا عُقِدَ مَجْلِسٌ بِحَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ، فِيهِ الْقُضَاةُ وَأَعْيَانُ
الدَّوْلَةِ، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ بَيْنَ الطَّائِعِ لِلَّهِ وَبَيْنَ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
ثُمَّ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا رَكِبَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ مِنْ دَارِهِ فِي
طَيَّارٍ إِلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَزُيِّنَتِ الْبَلَدُ، وَضُرِبَتِ الطُّبُولُ
وَالدَّبَادِبُ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ وَطَوَّقَهُ وَسَوَّرَهُ،
وَأَعْطَاهُ لِوَاءَيْنِ، وَعَقَدَ لَهُ عَلَى مَا وَرَاءَ دَارِهِ،
وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَدِمَ مَعَ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
مَعْرُوفٍ، فَلَمَّا رَآهُ الْخَلِيفَةُ قَالَ:
مَرْحَبًا بِالْأَحِبَّةِ الْقَادِمِينَا أَوْحَشُونَا وَطَالَمَا آنَسُونَا
فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَلَمَّا قُضِيَتِ الْبَيْعَةُ،
دَخَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ إِلَى عِنْدِ أُخْتِهِ امْرَأَةِ الْخَلِيفَةِ،
فَمَكَثَ عِنْدَهَا إِلَى الْعَصْرِ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ، ثُمَّ خَرَجَ
وَسَارَ إِلَى دَارِهِ لِلتَّهْنِئَةِ، وَجَاءَ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ يُهَنِّئُونَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اشْتَدَّ الْغَلَاءُ جِدًّا، ثُمَّ لَحِقَهُ فَنَاءٌ
كَثِيرٌ.==
ج28. البداية
والنهاية
تأليف: عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (774 هـ).
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ أُمُّ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ تُرْكِيَّةً أُمَّ وَلَدٍ، فَجَاءَهُ الْخَلِيفَةُ فَعَزَّاهُ
فِيهَا.
وَفِيهَا وُلِدَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ ابْنَانِ تَوْأَمَانِ، فَهُنِّئَ بِهِمَا،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الطَّبَرِيِّ، كَانَ حَافِظًا لِلْحَدِيثِ، مُجْتَهِدًا فِي
الْعِبَادَةِ، مُتْقِنًا، بَصِيرًا بِالْأَثَرِ، مُتَفَنِّنًا، فَقِيهًا،
حَنَفِيًّا، دَرَسَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي
الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ، وَوَلِيَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ بِخُرَاسَانَ، ثُمَّ دَخَلَ
بَغْدَادَ وَقَدْ عَلَتْ سِنُّهُ، فَحَدَّثَ النَّاسَ، وَكَتَبَ النَّاسُ عَنْهُ
بِانْتِخَابِ الدَّارَقُطْنِيِّ.
إِسْحَاقُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
عَنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ وَهُوَ
إِذْ ذَاكَ أَمِيرٌ، وَدُفِنَ فِي تُرْبَةِ جَدَّتِهِ شَغَبَ أُمِّ الْمُقْتَدِرِ،
وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ الْأُمَرَاءُ وَالْحُجَّابُ وَالْأَعْيَانُ مِنْ جِهَةِ
الْخَلِيفَةِ، وَمِنْ جِهَةِ شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَأَرْسَلَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ
مَنْ عَزَّى الْخَلِيفَةَ فِيهِ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِنْ عَدَمِ الْحُضُورِ
لِوَجَعٍ حَصَلَ لَهُ.
جَعْفَرُ بْنُ الْمُكْتَفِي بِاللَّهِ
وَكَانَ فَاضِلًا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ الْحَسَنُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَبُو عَلِيٍّ
النَّحْوِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفَاتِ ; مِنْهَا " الْإِيضَاحُ
وَالتَّكْمِلَةُ " وُلِدَ بِبَلَدِهِ، ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ وَخَدَمَ
الْمُلُوكَ، وَحَظِيَ عِنْدَ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، بِحَيْثُ إِنَّ عَضُدَ
الدَّوْلَةِ كَانَ يَقُولُ: أَنَا غُلَامُ أَبِي عَلِيٍّ فِي النَّحْوِ. وَحَصَّلَ
لَهُ الْأَمْوَالَ، وَقَدِ اتَّهَمَهُ قَوْمٌ بِالِاعْتِزَالِ، وَفَضَّلَهُ قَوْمٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى الْمُبَرِّدِ وَمِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ: أَبُو الْفَتْحِ
عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
عَنْ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سُتَيْتَةُ بِنْتُ الْقَاضِي أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
الْمَحَامِلِيِّ
وَتُكَنَّى أَمَةَ الْوَاحِدِ، قَرَأَتِ الْقُرْآنَ، وَحَفِظَتِ الْفِقْهَ
وَالْفَرَائِضَ وَالْحِسَابَ وَالدَّوْرَ وَالنَّحْوَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ
مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ فِي وَقْتِهَا بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَتْ
تُفْتِي بِهِ مَعَ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَكَانَتْ
فَاضِلَةً فِي نَفْسِهَا، كَثِيرَةَ الصَّدَقَةِ مُسَارِعَةً إِلَى فِعْلِ
الْخَيْرَاتِ، وَقَدْ سَمِعَتِ الْحَدِيثَ وَحَدَّثَتْ أَيْضًا، وَكَانَتْ
وَفَاتُهَا فِي رَمَضَانَ عَنْ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهَا اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، كَثُرَ الْغَلَاءُ وَالْفَنَاءُ بِبَغْدَادَ، وَفِي
شَعْبَانَ كَثُرَتِ الرِّيَاحُ وَالْعَوَاصِفُ، بِحَيْثُ هَدَمَتْ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنَ الْأَبْنِيَةِ، وَغَرَّقَتْ سُفُنًا كَثِيرَةً، وَاحْتَمَلَتْ
بَعْضَ الزَّوَارِقِ فَأَلْقَتْهُ بِالْأَرْضِ مِنْ نَاحِيَةِ جُوخَى، وَهَذَا
أَمَرٌ هَائِلٌ وَخَطْبٌ شَامِلٌ. وَفِي هَذَا الْوَقْتِ لَحِقَ أَهْلَ
الْبَصْرَةِ حَرٌّ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ سَقَطَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي
الطُّرُقَاتِ، وَمَاتُوا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ
الْحَافِظُ، وُلِدَ أَعْمَى، وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ،
فَيَحْفَظُ مَا يُمْلِيهِ كُلَّهُ، وَكَانَ ظَرِيفًا، حَسَنَ الزِّيِّ، وَقَدْ
سَبَقَ الشَّاطِبِيَّ إِلَى قَصِيدَةٍ عَمِلَهَا فِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ،
وَذَلِكَ فِي حَيَاةِ النَّقَّاشِ الْمُفَسِّرِ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ وَتُعْجِبُ
شُيُوخَ زَمَانِهِ.
الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَكَانَ مُقَدَّمًا فِي الْفِقْهِ
وَالْحَدِيثِ سَمِعَ ابْنَ خُزَيْمَةَ
وَالْبَغَوِيَّ وَابْنَ صَاعِدٍ وَغَيْرَهُمْ، وَهَذَا سُمِّيَ النَّحْوِيَّ
الْمُتَقَدِّمَ.
زِيَادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادِ بْنِ الْهَيْثَمِ، أَبُو الْعَبَّاسِ
الْخَرْخَانِيُّ
بِخَاءَيْنِ مُعْجَمَتَيْنِ نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى قُومِسَ وَلَهُمُ
الْجُرْجَانِيُّ بِجِيمَيْنِ، وَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلَهُمُ الُخَرْجَانِيُّ بِخَاءٍ
ثُمَّ جِيمٍ، وَقَدْ حَرَّرَ هَذَا الْمَوْضِعَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ "، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ
الدَّيْلَمِيِّ، وَكَانَ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى قَصْرِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ عَنْ
إِشَارَةِ الْأَطِبَّاءِ لِصِحَّةِ الْهَوَاءِ ; وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا كَانَ
يَجِدُهُ مِنَ الدَّاءِ، فَلَمَّا كَانَ فِي جُمَادَى الْأُولَى تَزَايَدَ بِهِ،
وَمَاتَ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَقَدْ عَهِدَ إِلَى ابْنِهِ أَبِي نَصْرٍ، وَجَاءَ
الْخَلِيفَةُ فِي طَيَّارٍ لِتَعْزِيَةِ أَبِي نَصْرٍ فِي وَالِدِهِ شَرَفِ
الدَّوْلَةِ، فَتَلَقَّاهُ أَبُو نَصْرٍ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَكَذَلِكَ بَقِيَّةُ
الْعَسْكَرِ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الطِّيَارِ، وَهُمْ يُقَبِّلُونَ الْأَرْضَ إِلَى
نَاحِيَتِهِ، وَجَاءَ الرَّئِيسُ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ مِنْ عِنْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَى أَبِي نَصْرٍ، فَبَلَّغَهُ تَعْزِيَةَ
الْخَلِيفَةِ لَهُ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ ثَانِيَةً، وَعَادَ الرَّسُولُ أَيْضًا
إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَبَلَّغَهُ شُكْرَ أَبِي نَصْرٍ، ثُمَّ عَادَ مِنْ جِهَةِ
الْخَلِيفَةِ لِتَوْدِيعِ أَبِي نَصْرٍ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ ثَالِثًا، وَرَجَعَ
الْخَلِيفَةُ فِي طَيَّارِهِ إِلَى دَارِهِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ عَاشِرُ هَذَا الشَّهْرِ، رَكِبَ الْأَمِيرُ
أَبُو نَصْرٍ إِلَى حَضْرَةِ الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ لِلَّهِ وَمَعَهُ
الْأَشْرَافُ وَالْأَعْيَانُ وَالْقُضَاةُ وَالْأُمَرَاءُ، وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ
فِي الرِّوَاقِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ شَرَفِ الدَّوْلَةِ
بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، خَلَعَ
عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سَبْعَ خِلَعٍ، أَعْلَاهُنَّ السَّوَادُ وَعِمَامَةٌ
سَوْدَاءُ، وَفِي عُنُقِهِ طَوْقٌ، وَفِي يَدِهِ سِوَارَانِ، وَمَشَى الْحُجَّابُ
بَيْنَ يَدَيْهِ بِالسُّيُوفِ وَالْمَنَاطِقِ، فَلَمَّا حَصَلَ بَيْنَ يَدَيِ
الْخَلِيفَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِالْجُلُوسِ، فَقَبَّلَ
الْأَرْضَ ثَانِيَةً، وَوُضِعَ لَهُ كُرْسِيٌّ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ
الرَّئِيسُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَهْدَهُ، وَقَدَّمَ
إِلَى الطَّائِعِ لِوَاءَهُ، فَعَقَدَهُ بِيَدِهِ، وَلَقَّبَهُ بَهَاءَ
الدَّوْلَةِ وَضِيَاءَ الْمِلَّةِ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ،
وَالْعَسْكَرُ مَعَهُ حَتَّى عَادَ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ، وَأَقَرَّ
الْوَزِيرَ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ صَالِحَانَ عَلَى الْوِزَارَةِ، وَخَلَعَ
عَلَيْهِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بُنِيَ جَامِعُ الْقَطِيعَةِ - قَطِيعَةُ أُمِّ جَعْفَرٍ -
بِالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَكَانَ أَصْلُ بِنَائِهِ مَسْجِدًا
أَنَّ امْرَأَةً رَأَتْ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يُصَلِّي، وَوَضَعَ يَدَهُ فِي جِدَارٍ هُنَاكَ،
فَلَمَّا أَصْبَحَتْ، تَذَكَّرَتْ ذَلِكَ الْمَنَامَ، فَوَجَدُوا أَثَرَ الْكَفِّ
فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَبُنِيَ مَسْجِدًا، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ تِلْكَ
الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، ثُمَّ إِنَّ الشَّرِيفَ أَبَا أَحْمَدَ
الْمُوسَوِيَّ جَدَّدَ هَذَا الْمَسْجِدَ، فَوَسَّعَهُ وَجَعَلَهُ جَامِعًا،
وَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ الطَّائِعَ لِلَّهِ فِي عَقْدِ جُمُعَةٍ فِيهِ،
فَأَذِنَ لَهُ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ فِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
شَرَفُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ
بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
تَمَلَّكَ بَغْدَادَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْخَيْرَ وَيَبْغَضُ
الشَّرَّ، وَأَمَرَ بِتَرْكِ الْمُصَادَرَاتِ، وَكَانَ
مَرَضُهُ بِالِاسْتِسْقَاءِ،
فَتَزَايَدَ بِهِ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي مِنْ
جُمَادَى الْآخِرَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ سَنَتَيْنِ وَثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَحُمِلَ
تَابُوتُهُ إِلَى تُرْبَةِ أَبِيهِ بِمَشْهَدِ عَلَيٍّ، وَكُلُّهُمْ فِيهِ
تَشَيُّعٌ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو بَكْرٍ
النَّجَّارُ
وَيُلَقَّبُ غُنْدَرًا أَيْضًا، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ
وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ فَهِمًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ حِفْظًا حَسَنًا، وَمِنْ
ثِقَاتِ النَّاسِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ بُدَيْلٍ
أَبُو الْفَضْلِ الْخُزَاعِيُّ الْجُرْجَانِيُّ
قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا. قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ
بِالْقِرَاءَاتِ، وَصَنَّفَ أَسَانِيدَهَا، ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ يَخْلِطُ،
وَلَمْ يَكُنْ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَرْوِيهِ، وَأَنَّهُ وَضَعَ كِتَابًا فِي
الْحُرُوفِ، وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَتَبَ الدَّارَقُطْنِيُّ
وَجَمَاعَةٌ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ مَوْضُوعٌ لَا أَصْلَ لَهُ، فَافْتَضَحَ،
وَخَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْجَبَلِ فَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ هُنَاكَ،
وَحَبِطَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَكَانَ يُسَمِّي نَفْسَهُ أَوَّلًا كُمَيْلًا، ثُمَّ
غَيَّرَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ بْنِ
مُوسَى بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ
إِيَاسٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَزَّارُ
الْحَافِظُ، وُلِدَ فِي مُحَرَّمٍ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَرَحَلَ إِلَى بِلَادٍ
شَتَّى، وَرَوَى عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ وَالْبَغَوِيِّ وَخَلْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ - مِنْهُمُ الدَّارَقُطْنِيُّ - شَيْئًا كَثِيرًا،
وَكَانَ يُعَظِّمُهُ وَيُجِلُّهُ وَلَا يَسْتَنِدُ بِحَضْرَتِهِ، وَكَانَ ابْنُ الْمُظَفَّرِ
ثِقَةً ثَبْتًا، وَكَانَ قَدِيمًا يَنْتَقِي عَلَى الْمَشَايِخِ، ثُمَّ كَانَتْ
وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَدُفِنَ يَوْمَ السَّبْتَ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى أَوِ الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ اسْتَهَلَّتْ سَنَةُ ثَمَانِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ
فِيهَا قُلِّدَ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الْمُوسَوِيُّ
نِقَابَةَ الْأَشْرَافِ الطَّالِبِيِّينَ، وَالنَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ،
وَإِمْرَةَ الْحَاجِّ، وَكُتِبَ عَهْدُهُ بِذَلِكَ، وَاسْتُخْلِفَ وَلَدَاهُ
الْمُرْتَضَى أَبُو الْقَاسِمِ، وَالرَّضِيُّ أَبُو الْحَسَنِ عَلَى النِّقَابَةِ،
وَخُلِعَ عَلَيْهِمَا مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ.
وَفِيهَا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَصَارَ النَّاسُ
أَحْزَابًا، فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ أَمِيرٌ مُقَدَّمٌ، وَاقْتَتَلَ النَّاسُ،
وَأُخِذَتِ الْأَمْوَالُ، وَاتَّصَلَتِ الْكَبَسَاتُ، وَأُحْرِقَتِ الدُّورُ
الْكِبَارُ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ بِالنَّهَارِ فِي نَهْرِ الدَّجَاجِ، فَاحْتَرَقَ
بِسَبَبِهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ لِلنَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
يَعْقُوبُ بْنُ يُوسُفَ، أَبُو الْفَرَجِ بْنُ كِلِّسٍ
وَزِيرُ صَاحِبِ مِصْرَ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيِّ، وَكَانَ
شَهْمًا فَهِمًا، ذَا هِمَّةٍ عَالِيَةٍ، وَتَدْبِيرٍ جَيِّدٍ، وَكَلِمَةٍ
نَافِذَةٍ عِنْدَ مَخْدُومِهِ، وَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ أُمُورَهُ فِي سَائِرِ
مَمْلَكَتِهِ، وَلَمَّا مَرِضَ عَادَهُ الْعَزِيزُ، وَوَصَّاهُ الْوَزِيرُ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِمَمْلَكَتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ دَفَنَهُ فِي قَصْرِهِ، وَتَوَلَّى
دَفْنَهُ بِيَدِهِ، وَحَزِنَ عَلَيْهِ كَثِيرًا، وَأَغْلَقَ الدِّيوَانَ أَيَّامًا
مِنْ شِدَّةِ حُزْنِهِ عَلَيْهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ الْقَبْضُ عَلَى الْخَلِيفَةِ الطَّائِعِ لِلَّهِ وَخِلَافَةُ
الْقَادِرِ بِاللَّهِ أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ الْأَمِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ
الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ عَلَى
عَادَتِهِ فِي الرِّوَاقِ، وَقَعَدَ الْمَلِكُ بِهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى
السَّرِيرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ مَنِ اجْتَذَبَ الْخَلِيفَةَ بِحَمَائِلِ سَيْفِهِ
عَنِ السَّرِيرِ، وَلَفُّوهُ فِي كِسَاءٍ، وَحَمَلُوهُ إِلَى الْخِزَانَةِ بِدَارِ
الْمَمْلَكَةِ، وَتَشَاغَلَ النَّاسُ بِالنَّهْبِ، وَلَمْ يَدْرِ أَكْثَرُ
النَّاسِ مَا الْخَطْبُ وَلَا مَا الْخَبَرُ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ
يَظُنُّ أَنَّ الْمَلِكَ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ هُوَ الَّذِي مُسِكَ، فَنُهِبَتِ
الْخَزَائِنُ وَالْحَوَاصِلُ وَشَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ أَثَاثِ دَارِ الْخِلَافَةِ،
حَتَّى أُخِذَتْ ثِيَابُ الْأَعْيَانِ وَالْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ، وَجَرَتْ
كَائِنَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَرَجَعَ بِهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى دَارِهِ،
وَكَتَبَ عَلَى الطَّائِعِ كِتَابًا بِالْخَلْعِ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ الْأَشْرَافُ
وَالْقُضَاةُ أَنَّهُ قَدْ خَلَعَ نَفْسَهُ عَنِ الْخِلَافَةِ وَسَلَّمَهَا إِلَى
الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَنُودِيَ بِذَلِكَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَتَشَغَّبَتِ
الدَّيْلَمُ وَالْأَتْرَاكُ، وَطَالَبُوا بِرَسْمِ الْبَيْعَةِ، وَرَاسَلُوا
بَهَاءَ الدَّوْلَةِ فِي ذَلِكَ، وَتَطَاوَلَ الْأَمَرُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ،
فَلَمْ يُمَكَّنُوا
مِنَ الدُّعَاءِ لَهُ عَلَى
الْمِنْبَرِ بِصَرِيحِ اسْمِهِ، بَلْ قِيلَ: اللَّهُمَّ أَصْلِحْ عَبْدَكَ
وَخَلِيفَتَكَ الْقَادِرَ بِاللَّهِ. وَلَمْ يُسَمَّ، ثُمَّ أَرْضَى وُجُوهَهُمْ
وَأَكَابِرَهُمْ، وَأُخِذَتِ الْبَيْعَةُ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَاتَّفَقَتِ
الْكَلِمَةُ، وَأَمَرَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِتَحْوِيلِ جَمِيعِ مَا فِي دَارِ
الْخِلَافَةِ مِنَ الْأَوَانِي وَالْفُرُشِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى
دَارِهِ، وَأُبِيحَتْ لِلْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، فَقَلَعُوا أَبْوَابَهَا
وَشَبَابِيكَهَا وَشَعَّثُوا أَبْنِيَتَهَا، ثُمَّ مُنِعُوا بَعْدَ ذَلِكَ. هَذَا
كُلُّهُ وَالْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ قَدْ هَرَبَ إِلَى أَرْضِ الْبَطِيحَةِ مِنَ
الطَّائِعِ حِينَ كَانَ يَطْلُبُهُ، وَلَمَّا رَكِبَ إِلَى بَغْدَادَ مَنَعَتْهُ
الدَّيْلَمُ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا حَتَّى يُعْطِيَهُمْ رَسْمَ الْبَيْعَةِ،
وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ خُطُوبٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ رَضُوا عَنْهُ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، وَكَانَتْ مُدَّةُ هَرَبِهِ بِأَرْضِ الْبَطِيحَةِ
قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَجَلَسَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ مَقْدِمِهِ
جُلُوسًا عَامًّا لِلتَّهْنِئَةِ وَسَمَاعِ الْمَدَائِحِ وَالْقَصَائِدِ فِيهِ،
وَذَلِكَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَفِي الْعَشْرِ
الْأَوَاخِرِ مِنْ شَوَّالٍ اجْتَمَعَ النَّاسُ لِبَيْعَةِ بَهَاءِ الدِّينِ
وَتَفْوِيضِ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِ مَا وَرَاءَ بَابِهِ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَقَدْ كَانَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ مِنْ خِيَارِ الْخُلَفَاءِ
وَسَادَاتِ الْعُلَمَاءِ فِي أَهْلِ زَمَانِهِ وَأَقْرَانِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ
الصَّدَقَةِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَصَنَّفَ عَقِيدَةً فِيهَا فَضَائِلُ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَكَانَتْ تُقْرَأُ فِي حِلَقِ أَصْحَابِ
الْحَدِيثِ كُلَّ جُمُعَةٍ فِي جَامِعِ الْمَهْدِيِّ، وَتَجْتَمِعُ النَّاسُ
لِسَمَاعِهَا مُدَّةَ خِلَافَتِهِ، وَكَانَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ
يَتَرَنَّمُ بِهَا، وَهِيَ لِسَابِقٍ الْبَرْبَرِيِّ:
سَبَقَ الْقَضَاءُ بِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنُ وَاللَّهُ يَا هَذَا لِرِزْقِكَ
ضَامِنُ
تُعْنَى بِمَا تُكْفَى وَتَتْرُكُ مَا
بِهِ
تَغْنَى كَأَنَّكَ لِلْحَوَادِثِ آمِنُ أَوَ مَا تَرَى الدُّنْيَا وَمَصْرَعَ
أَهْلِهَا
فَاعْمَلْ لِيَوْمِ فِرَاقِهَا يَا خَائِنُ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لَا أَبًا لَكَ
فِي الَّذِي
أَصْبَحْتَ تَجْمَعُهُ لِغَيْرِكَ خَازِنُ يَا عَامِرَ الدُّنْيَا أَتَعْمُرُ
مَنْزِلًا
لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعَ الْمَنِيَّةِ سَاكِنُ الْمَوْتُ شَيْءٌ أَنْتَ تَعْلَمُ
أَنَّهُ
حُقٌّ وَأَنْتَ بِذِكْرِهِ مُتَهَاوِنُ إِنَّ الْمَنِيَّةَ لَا تُؤَامِرُ مَنْ
أَتَتْ
فِي نَفْسِهِ يَوْمًا وَلَا تَسْتَأْذِنُ
وَفِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ -
وَهُوَ يَوْمُ غَدِيرِ خُمٍّ - جَرَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ،
وَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَاسْتَظْهَرَ أَهْلُ بَابِ
الْبَصْرَةِ، وَخَرَّقُوا أَعْلَامَ السُّلْطَانِ، فَقُتِلَ جَمَاعَةٌ اتُّهِمُوا
بِفِعْلِ ذَلِكَ، وَصُلِبُوا عَلَى الْقَنْطَرَةِ لِيَرْتَدِعَ أَمْثَالُهُمْ.
وَفِيهَا ظَهَرَ أَبُو الْفُتُوحِ الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعُلْوِيُّ أَمِيرُ
مَكَّةَ وَادَّعَى أَنَّهُ خَلِيفَةٌ، وَسَمَّى نَفْسَهُ الرَّاشِدَ بِاللَّهِ،
فَمَالَأَهُ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَصَلَ لَهُ أَمْوَالٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْصَى لَهُ
بِهَا، فَانْتَظَمَ أَمْرُهُ بِسَبَبِهَا، وَتَقَلَّدَ سَيْفًا وَزَعَمَ أَنَّهُ
ذُو الْفَقَارِ، وَأَخَذَ فِي يَدِهِ قَضِيبًا زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَصَدَ بِلَادَ الرَّمْلَةِ
لِيَسْتَعِينَ بِعَرَبِ الشَّامِ فَتَلَقَّوْهُ بِالرَّحْبِ وَقَبَّلُوا لَهُ
الْأَرْضَ، وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَظْهَرَ الْأَمَرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَاكِمَ صَاحِبَ مِصْرَ - وَكَانَ قَدْ قَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ
الْعَزِيزِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ - كَتَبَ إِلَى عَرَبِ الشَّامِ مُلَطَّفَاتٍ،
وَوَعَدَهُمْ مِنَ الذَّهَبِ بِأُلُوفٍ وَمِئَاتٍ، وَكَذَلِكَ إِلَى عَرَبِ
الْحِجَازِ، وَاسْتَنَابَ عَلَى مَكَّةَ أَمِيرًا، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِجَارِيَةٍ
وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَانْتَظَمَ أَمْرُ الْحَاكِمِ، وَتَمَزَّقَ أَمْرُ
الرَّاشِدِ، وَتَسَحَّبَ إِلَى بِلَادِهِ كَمَا بَدَأَ مِنْهَا، وَعَادَ
إِلَيْهَا، وَكَانَ عَوْدُهُ إِلَيْهَا كَمَا رَحَلَ عَنْهَا، وَاضْمَحَلَّ
حَالُهُ، وَانْتَقَضَتْ حِبَالُهُ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ رِجَالُهُ، وَاللَّهُ
يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو بَكْرٍ الْمَقْرِئُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْهَا عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَاتَّفَقَ لَهُ أَنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمِ وَفَاتِهِ أَبُو الْحَسَنِ
الْعَامِرِيُّ الْفَيْلَسُوفُ، فَرَأَى بَعْضُ الصَّالِحِينَ أَحْمَدَ بْنَ
الْحُسَيْنِ هَذَا فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أُسْتَاذُ، أَيُّ شَيْءٍ
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ فَقَالَ: أَقَامَ أَبَا الْحَسَنِ الْعَامِرِيَّ إِلَى
جَانِبِي، وَقَالَ: هَذَا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْرُوفٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ قَاضِي
الْقُضَاةِ
بِ بَغْدَادَ رَوَى عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ
وَعَنْهُ الْخَّلَالُ وَالْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَكَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ
الثِّقَاتِ الْأَلِبَّاءِ الْعُقَلَاءِ الْفُطَنَاءِ، حَسَنَ الشَّكْلِ، جَمِيلَ
الْمَلْبَسِ عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ تُوُفِّيَ عَنْ
خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ،
فَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ، فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، ثُمَّ دُفِنَ فِي دَارِهِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
جَوْهَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَائِدُ
بَانِي الْقَاهِرَةِ الْمُعِزِّيَةِ، أَصْلُهُ رُومِيٌّ، وَيُعْرَفُ بِالْكَاتِبِ،
أَرْسَلَهُ مَوْلَاهُ الْمُعِزُّ بْنُ الْمَنْصُورِ بْنِ الْقَائِمِ بْنِ
الْمَهْدِيِّ الْمُدَّعِي أَنَّهُ فَاطِمِيٌّ مِنْ إِفْرِيقِيَةَ لِأَخْذِ مِصْرَ
عِنْدَ اضْطِرَابِ جَيْشِهَا بَعْدَ مَوْتِ كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ فَأَقَامُوا
عَلَيْهِمْ أَحْمَدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْإِخْشِيدِ، فَلَمْ يَجْتَمِعُوا
عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْمُعِزِّ يَسْتَنْجِدُ بِهِ، فَأَرْسَلَ
مَوْلَاهُ جَوْهَرًا هَذَا فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَوَصَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ فِي شَعْبَانَ مِنْهَا فِي مِائَةِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَمَعَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ أَلْفٌ وَمِائَتَا صُنْدُوقٍ
لِيُنْفِقَهُ فِي ذَلِكَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ وَأَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْهُ
الْأَمَانَ فَأَمَّنَهُمْ، فَلَمْ يَرْضَ الْجَيْشُ بِذَلِكَ، وَبَرَزُوا
لِقِتَالِهِ فَكَسَرَهُمْ، وَجَدَّدَ الْأَمَانَ لِأَهْلِهَا، وَدَخَلَهَا يَوْمَ الثُّلَاثَاءَ
لِثَمَانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَعْبَانَ، فَشَقَّ مِصْرَ، وَنَزَلَ فِي مَكَانِ
الْقَاهِرَةِ الْيَوْمَ، وَأَسَّسَ مِنْ لَيْلَتِهِ الْقَصْرَيْنِ، وَخَطَبَ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْآتِيَةِ، فَقَطَعَ خُطْبَةَ بَنِي الْعَبَّاسِ وَعَوَّضَ
بِمَوْلَاهُ، وَذَكَرَ الْأَئِمَّةَ الْاثْنَيْ عَشَرَ، وَأُذِّنَ بِحَيَّ عَلَى
خَيْرِ الْعَمَلِ، وَكَانَ يُظْهِرُ الْإِحْسَانَ إِلَى النَّاسِ، وَيَجْلِسُ
كُلَّ يَوْمِ سَبْتٍ مَعَ الْوَزِيرِ جَعْفَرِ بْنِ الْفُرَاتِ وَالْقَاضِي،
وَاجْتَهَدَ فِي تَكْمِيلِ الْقَاهِرَةِ وَفَرَغَ مِنْ
جَامِعِهَا سَرِيعًا، وَخَطَبَ بِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: جَامِعُ الْأَزْهَرِ، ثُمَّ أَرْسَلَ جَعْفَرَ بْنَ فَلَاحٍ إِلَى الشَّامِ فَأَخَذَهَا لِلْمُعِزِّ، وَقَدِمَ مَوْلَاهُ الْمُعِزُّ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ كَمَا تَقَدَّمَ، فَنَزَلَ بِالْقَصْرَيْنِ، وَلَمْ تَزَلْ مَنْزِلَتُهُ عَالِيَةً عِنْدَهُ، ثُمَّ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ فِي مَنْصِبِهِ وَعَظَمَتِهِ ابْنُهُ الْحُسَيْنُ الَّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ: قَائِدُ الْقُوَّادِ، وَهُوَ أَكْبَرُ أُمَرَاءِ الْحَاكِمِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ، ثُمَّ كَانَ قَتْلُهُ عَلَى يَدَيْهِ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَقُتِلَ مَعَهُ صِهْرُهُ زَوْجُ أُخْتِهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ النُّعْمَانِ، وَأَظُنُّ هَذَا الْقَاضِيَ هُوَ مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْبَلَاغِ الْأَكْبَرِ وَالنَّامُوسِ الْأَعْظَمِ " الَّذِي فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ مَا لَمْ يَصِلْ إِبْلِيسُ إِلَى مِثْلِهِ، وَقَدْ رَدَّ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا رَسَمَ الْوَزِيرُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْكَوْكَبِيُّ - وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ، وَكَانَ قَدِ
اسْتَحْوَذَ عَلَى السُّلْطَانِ - لِأَهْلِ الْكَرْخِ وَبَابِ الطَّاقِ مِنَ
الرَّافِضَةِ بِأَنْ لَا يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ الَّتِي
كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهَا فِي عَاشُورَاءَ ; مِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ
وَتَغْلِيقِ الْأَسْوَاقِ وَالنِّيَاحَةِ عَلَى الْحُسَيْنِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ
طَمَّاعًا ; رَسَمَ بِأَنْ لَا يُقْبَلَ أَحَدٌ مِنَ الشُّهُودِ مِمَّنِ
اسْتَحْدَثَ عَدَالَتَهُ بَعْدَ ابْنِ مَعْرُوفٍ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ قَدْ
بَذَلَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً فِي ذَلِكَ، فَاحْتَاجُوا إِلَى أَنْ جَمَعُوا لَهُ
شَيْئًا، فَوَقَعَ لَهُمْ بِالِاسْتِمْرَارِ.
وَلَمَّا كَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ سَعَتِ الدَّيْلَمُ وَالتُّرْكُ عَلَى
ابْنِ الْمُعَلِّمِ هَذَا، وَخَرَجُوا بِخِيَامِهِمْ إِلَى بَابِ الشَّمَّاسِيَّةِ،
وَرَاسَلُوا بَهَاءَ الدَّوْلَةِ لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ، لِسُوءِ مُعَامَلَتِهِ
إِيَّاهُمْ، فَدَافَعَ عَنْهُ مُدَافَعَةً عَظِيمَةً فِي مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ،
وَلَمْ يَزَالُوا يُرَاسِلُونَهُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى خَنَقَ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ
الْمُعَلِّمِ فِي حَبْلٍ، وَمَاتَ وَدُفِنَ بِالْمُخَرِّمِ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ سَلَّمَ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ
الَّذِي خُلِعَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ خَلِيفَةِ الْوَقْتِ أَبِي
الْعَبَّاسِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ فَأَمَرَ بِوَضْعِهِ فِي حُجْرَةٍ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ،
وَأَمَرَ أَنْ تُجْرَى عَلَيْهِ
الْأَرْزَاقُ وَالتُّحَفُ وَالْأَلْطَافُ، مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الْخَلِيفَةُ
الْقَادِرُ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَلْبَسٍ وَطِيبٍ، وَوَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ
وَيَخْدِمُهُ، وَكَانَ يَتَعَنَّتُ وَيَتَعَتَّبُ عَلَى الْقَادِرِ فِي
تَقَلُّلِهِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ، فَرَتَّبَ مَنْ يَخْدِمُهُ يُحْضِرُ
لَهُ مَا يَشْتَهِيهِ مِنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى
تُوُفِّيَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ.
وَفِي شَوَّالٍ مِنْهَا وُلِدَ لِلْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَهُوَ
أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَادِرِ بِاللَّهِ، وَقَدْ وَلَّاهُ الْعَهْدَ
مِنْ بَعْدِهِ، وَسَمَّاهُ الْغَالِبَ بِاللَّهِ، فَلَمْ يَتِمَّ لَهُ الْأَمْرُ.
وَفِي هَذَا الْوَقْتِ غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ حَتَّى بِيعَ رَطْلُ
الْخُبْزِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالْحَوْزَةُ بِدِرْهَمٍ. وَفِي ذِي
الْقَعْدَةِ قَدِمَ صَاحِبٌ الْأُصَيْفِرُ الْأَعْرَابِيُّ، وَالْتَزَمَ
بِحِرَاسَةِ الْحُجَّاجِ فِي ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ، وَبِشَرْطِ أَنْ يُخْطَبَ
لِلْقَادِرِ مِنَ الْيَمَامَةِ وَالْبَحْرَيْنِ إِلَى الْكُوفَةِ فَأُجِيبَ إِلَى
ذَلِكَ، وَأُطْلِقَتْ لَهُ الْخِلَعُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَلْوِيَةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى بْنِ
مُعَاذٍ، أَبُو عُمَرَ الْخَزَّازُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ حَيُّوَيْهِ، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَالْبَاغَنْدِيَّ وَابْنَ
صَاعِدٍ وَخَلْقًا
كَثِيرًا، وَانْتَقَى عَلَيْهِ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَمِعَ مِنْهُ الْأَعْيَانُ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا
مُتَيَقِّظًا، ذَا مُرُوءَةٍ، وَكَتَبَ مِنَ الْكُتُبِ الْكِبَارِ كَثِيرًا
بِيَدِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا، وَقَدْ قَارَبَ
التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ وَالنَّحْوِ وَالنَّوَادِرِ،
وَلَهُ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفُ مُفِيدَةٌ، مِنْهَا " التَّصْحِيفُ "
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ يَوَدُّ الِاجْتِمَاعَ بِهِ،
فَسَافَرَ إِلَى عَسْكَرِ مُكْرَمٍ حَتَّى اجْتَمَعَ بِهِ، فَأَكْرَمَهُ وَرَاسَلَهُ
بِالْأَشْعَارِ، تُوُفِّيَ فِيهَا وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً. كَذَا أَرَّخَهُ
الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِيمَنْ تُوُفِّيَ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ، كَمَا سَيَأْتِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ بِعِمَارَةِ مَسْجِدِ الْحَرْبِيَّةِ
وَكِسْوَتِهِ، وَأَنْ يُجْرَى مَجْرَى الْجَوَامِعِ فِي الْخُطَبِ وَغَيْرِهَا،
وَذَلِكَ بَعْدَ أَنِ اسْتَفْتَى الْعُلَمَاءَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ، فَلَمَّا
أَفْتَوْهُ بِهِ فَعَلَهُ، وَأَمَرَ بِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَدْرَكْتُ الْجُمُعَةَ تُقَامُ بِبَغْدَادَ
فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ الرَّصَافَةِ، وَمَسْجِدِ دَارِ
الْخِلَافَةِ، وَمَسْجِدِ بَرَاثَا، وَمَسْجِدِ قَطِيعَةَ أُمِّ جَعْفَرٍ،
وَمَسْجِدِ الْحَرْبِيَّةِ، قَالَ: وَلَمْ يَزَلِ الْأَمَرُ عَلَى هَذَا إِلَى
سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَتَعَطَّلَتْ فِي مَسْجِدِ
بَرَاثَا.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى فُرِغَ مِنَ الْجِسْرِ الَّذِي بَنَاهُ بَهَاءُ
الدَّوْلَةِ فِي مَشْرَعَةِ الْقَطَّانِينَ، وَاجْتَازَ عَلَيْهِ هُوَ بِنَفْسِهِ،
وَقَدْ زُيِّنَ الْمَكَانُ وَاحْتُفِلَ بِهِ. وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ شَغَبَتِ
الدَّيَالِمُ وَالْأَتْرَاكُ لِتَأَخُّرِ الْعَطَاءِ عَنْهُمْ، وَغَلَاءِ
الْأَسْعَارِ وَرَاسَلُوا بَهَاءَ الدَّوْلَةِ، فَأُزِيحَتْ أَعْذَارُهُمْ
وَعِلَلُهُمْ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّانِي مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
تَزَوَّجَ الْخَلِيفَةُ سُكَيْنَةَ بِنْتَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، عَلَى صَدَاقٍ
مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَكَانَ وَكِيلَ أَبِيهَا الشَّرِيفُ
أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ، وَقَدْ
تُوُفِّيَتْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ دُخُولِ الْخَلِيفَةِ بِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ابْتَاعَ الْوَزِيرُ أَبُو نَصْرٍ سَابُورُ بْنُ
أَزْدَشِيرَ دَارًا بِالْكَرْخِ، وَجَدَّدَ عِمَارَتَهَا وَبَيْضَهَا، وَنَقَلَ
إِلَيْهَا كُتُبًا كَثِيرَةً، وَوَقَّفَهَا عَلَى الْفُقَهَاءِ، وَسَمَّاهَا دَارَ
الْعِلْمِ، وَأَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ أَوَّلُ مَدْرَسَةٍ وُقِّفَتْ عَلَى
الْفُقَهَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ فِي أَوَاخِرِ
هَذِهِ السَّنَةِ جِدًّا، وَضَاقَ الْحَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَاذَّانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ
مِهْرَانَ، أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ
سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ
أَبِي دَاوُدَ، وَعَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَرْقَانِيُّ وَالْأَزْهَرِيُّ
وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً ثَبْتًا صَحِيحَ السَّمَاعِ، كَثِيرَ الْحَدِيثِ،
مُتَحَرِّيًا وَرِعًا، تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَظُمَ الْخَطْبُ بِأَمْرِ الْعَيَّارِينَ، وَعَاثُوا بِبَغْدَادَ
فَسَادًا، وَأَخَذُوا الْعُمْلَاتِ الثِّقَالَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَحَرَّقُوا
أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، وَأَخَذُوا مِنَ الْأَسْوَاقِ الْجِبَايَاتِ،
وَتَطَلَّبَهُمُ الشُّرَطُ، فَلَمْ يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَا فَكَّرُوا
فِيهِمْ، بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ،
وَقَتْلِ الرِّجَالِ، وَإِرْعَابِ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فِي سَائِرِ
الْمَحَالِّ. فَلَمَّا تَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِمْ تَطَلَّبَهُمُ السُّلْطَانُ
بَهَاءُ الدَّوْلَةِ، وَأَلَحَّ فِي طَلَبِهِمْ، فَهَرَبُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ،
وَاسْتَرَاحَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِمْ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ عُزِلَ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى
الْمُوسَوِيُّ وَوَلَدَاهُ اللَّذَانِ كَانَا وَلِيَّيْ عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ
عَنْ نِقَابَةِ الطَّالِبِيِّينَ.
وَرَجَعَ رَكْبُ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ
بَعْدَمَا فَاتَهُمْ وَقْتُ الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُصَيْفِرَ الْأَعْرَابِيَّ
الَّذِي كَانَ قَدْ تَكَفَّلَ بِحِرَاسَتِهِمُ اعْتَرَضَ لَهُمْ فِي الطَّرِيقِ،
وَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الدَّنَانِيرَ الَّتِي كَانَتْ أُطْلِقَتْ لَهُ مِنْ دَارِ
الْخِلَافَةِ كَانَتْ دَرَاهِمَ مَطْلِيَّةً، وَأَنَّهُ يُرِيدُ بَدَلَهَا مِنَ
الْحَجِيجِ، وَإِلَّا لَا يَتْرُكُهُمْ يُجَاوِزُوا هَذَا
الْمَوْضِعَ، فَمَانَعُوهُ
وَرَاجَعُوهُ، فَحَبَسَهُمْ عَنِ الْمَسِيرِ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ، وَلَمْ
يَبْقَ مِنْهُ مَا يَلْحَقُوا الْحَجَّ فِيهِ، فَرَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ،
وَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَحُجَّ مِنَ الرَّكْبِ
الشَّامِيِّ وَلَا أَهْلِ الْيَمَنِ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا حَجَّ أَهْلُ مِصْرَ
وَالْمَغْرِبِ خَاصَّةً.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ قُلِّدَ الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيُّ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي تَمَّامٍ الزَّيْنَبِيُّ نِقَابَةَ
الْعَبَّاسِيِّينَ، وَقُرِئَ عَهْدُهُ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ بِحَضْرَةِ
الْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ زَهْرُونَ بْنِ
حَبُّونَ
الْحَرَّانِيُّ، الْكَاتِبُ الصَّابِئُ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ
لِلْخَلِيفَةِ وَلِعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَكَانَ عَلَى دِينِ
الصَّابِئَةِ إِلَى مَمَاتِهِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَقْرَأُ
الْقُرْآنَ مِنْ حِفْظِهِ، وَكَانَ يَحْفَظُهُ حِفْظًا حَسَنًا، وَيَسْتَعْمِلُ
مِنْهُ فِي رَسَائِلِهِ، وَكَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ يُسْلِمَ، فَلَمْ
يَفْعَلْ، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ. وَقَدْ رَثَاهُ الشَّرِيفُ
الرَّضِيُّ وَقَالَ: إِنَّمَا رَثَيْتُ فَضَائِلَهُ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
نَافِعِ بْنِ مُكْرَمٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ الْبُشْتِيُّ
الزَّاهِدُ، وَرِثَ مِنْ آبَائِهِ أَمْوَالًا كَثِيرَةً، فَأَنْفَقَهَا كُلَّهَا
فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ وَالْقُرُبَاتِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ، يُقَالُ:
إِنَّهُ مَكَثَ سَبْعِينَ سَنَةً لَا يَسْتَنِدُ إِلَى حَائِطٍ وَلَا إِلَى
شَيْءٍ، وَلَا يَتَّكِئُ عَلَى وِسَادَةٍ، وَحَجَّ مِنْ نَيْسَابُورَ مَاشِيًا
حَافِيًا، وَدَخَلَ الشَّامَ وَأَقَامَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ شُهُورًا، ثُمَّ
دَخَلَ مِصْرَ وَبِلَادَ الْمَغْرِبِ، وَحَجَّ مِنْ هُنَاكَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى
بَلَدِهِ بُشْتَ، وَكَانَتْ لَهُ بَقِيَّةُ أَمْوَالٍ وَأَمْلَاكٍ، فَتَصَدَّقَ
بِهَا، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَتَأَلَّمُ وَيَتَوَجَّعُ، فَقِيلَ
لَهُ: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ: أَرَى بَيْنَ يَدَيَّ أُمُورًا هَائِلَةً، وَلَا
أَدْرِي كَيْفَ أَنْجُو مِنْهَا.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَلَيْلَةَ مَوْتِهِ رَأَتِ امْرَأَةٌ أُمَّهَا بَعْدَ
وَفَاتِهَا وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ حِسَانٌ وَزِينَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أُمَّهْ، مَا
هَذَا ؟ فَقَالَتْ: نَحْنُ فِي عِيدٍ مِنْ قُدُومِ عُبَيْدِ اللَّهِ الزَّاهِدِ
عَلَيْنَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو الْحَسَنِ
النَّحْوِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِالرُّمَّانِيِّ، رَوَى عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَكَانَتْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي
النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ، وَلَهُ تَفْسِيرٌ كَبِيرٌ،
وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَعْرُوفٍ فَقَبِلَهُ، وَرَوَى عَنْهُ التَّنُوخِيُّ
وَالْجَوْهَرِيُّ. تُوُفِّيَ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي
الشُّونِيزِيَّةِ عِنْدَ قَبْرِ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالرُّمَّانِيُّ نِسْبَةً إِلَى بَيْعِ الرُّمَّانِ،
أَوْ إِلَى قَصْرِ الرُّمَّانِ بِوَاسِطٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ
أَبُو الْحَسَنِ الْكَاتِبُ، الْمُحَدِّثُ الثِّقَةُ الْمَأْمُونُ قَالَ
الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ ثِقَةً، كَتَبَ الْكَثِيرَ، وَجَمَعَ مَا لَمْ
يَجْمَعْهُ أَحَدٌ فِي وَقْتِهِ، بَلَغَنِي أَنَّهُ كَتَبَ مِائَةَ تَفْسِيرٍ
وَمِائَةَ تَارِيخٍ، وَخَلَّفَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ صُنْدُوقًا مَمْلُوءَةً
كُتُبًا، أَكْثَرُهَا بِخَطِّهِ سِوَى مَا سُرِقَ مِنْهُ، وَكَانَ خَطُّهُ فِي
غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَمَعَ هَذَا كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ تُعَارِضُ مَعَهُ مَا يَكْتُبُهُ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو عُبَيْدِ
اللَّهِ
الْكَاتِبُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَرْزُبَانِ، رَوَى عَنِ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ
دُرَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ صَاحِبَ
أَخْبَارٍ وَآدَابٍ، وَصَنَّفَ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي فُنُونٍ مُسْتَحْسَنَةٍ، وَكَانَ مَشَايِخُهُ وَغَيْرُهُمْ يَحْضُرُونَ عِنْدَهُ، وَيَبِيتُونَ فِي دَارِهِ فِي فُرُشٍ وَأَطْعِمَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ عَضُدُ الدَّوْلَةِ إِذَا مَرَّ بِدَارِهِ لَا يَجْتَازُ حَتَّى يُرْسِلَ إِلَيْهِ لِيَخْرُجَ فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ، يَقُولُ: هُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الدُّنْيَا، وَقَالَ الْعَتِيقِيُّ: كَانَ ثِقَةً، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَا كَانَ ثِقَةً، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لَمْ يَكُنْ مِنَ الْكَذَّابِينَ، وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ تَشَيُّعٌ وَاعْتِزَالٌ، وَيَخْلِطُ السَّمَاعَ بِالْإِجَازَةِ، وَبَلَغَ ثَمَانِيَةَ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا اسْتَوْزَرَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ
أَبَا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الضَّبِّيَّ الْمُلَقَّبَ
بِالْكَافِي، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ الصَّاحِبِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ،
وَكَانَ مِنْ مَشَاهِيرِ الْوُزَرَاءِ.
وَفِيهَا قَبَضَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ
وَصَادَرَهُ بِأَمْوَالٍ جَزِيلَةٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا بِيعَ لَهُ فِي
الْمُصَادَرَةِ أَلْفُ طَيْلَسَانٍ وَأَلْفُ ثَوْبٍ مَغْرِبِيٍّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا
الْمِصْرِيُّونَ، وَالْخُطْبَةُ فِي الْحَرَمَيْنِ لَهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ
عَبَّادِ بْنِ أَحْمَدَ
ابْنِ إِدْرِيسَ الطَّالَقَانِيُّ،
أَبُو الْقَاسِمِ
الْوَزِيرُ الشَّهِيرُ الْمُلَقَّبُ بِكَافِي الْكُفَاةِ، وَزَرَ لِمُؤَيِّدِ
الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِ
وَالْفَضِيلَةِ وَالْبَرَاعَةِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْعُلَمَاءِ
عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ، كَانَ يَبْعَثُ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى بَغْدَادَ
بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ ; لِتُفَرَّقَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ الْيَدُ
الطُّولَى فِي الْأَدَبِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ، وَاقْتَنَى
كُتُبًا كَثِيرَةً كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ بَعِيرٍ، وَلَمْ يَكُنْ
فِي وُزَرَاءَ بَنِي بُوَيْهِ الدَّيَالِمَةِ مِثْلُهُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ فِي
مَجْمُوعِ فَضَائِلِهِ، وَقَدْ كَانَتْ دَوْلَةُ بَنِي بُوَيْهِ مِائَةً
وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ وِزَارَتُهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً
وَأَشْهُرًا، وَفَتَحَ خَمْسِينَ قَلْعَةً لِمَخْدُومِهِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ،
وَابْنِهِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ، لِصَرَامَتِهِ وَشَهَامَتِهِ وَحُسْنِ تَدْبِيرِهِ
وَجَوْدَةِ آرَائِهِ، وَكَانَ يُحِبُّ الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةَ، وَيُبْغِضُ
الْفَلْسَفَةَ وَمَا يُشْبِهُهَا مِنَ الْآرَاءِ الْبِدْعِيَّةِ، وَقَدْ مَرِضَ
مَرَّةً بِالْإِسْهَالِ، فَكَانَ كُلَّمَا قَامَ عَنِ الْمِطْهَرَةِ وَضَعَ
عِنْدَهَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ لِئَلَّا يَتَبَرَّمَ بِهِ الْفَرَّاشُونَ،
فَكَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ لَوْ طَالَتْ عِلَّتُهُ، وَلَمَّا عُوفِيَ أَنْهَبَ دَارَهُ
الْفُقَرَاءَ، وَكَانَ قِيمَةُ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الْمَشَايِخِ الْجِيَادِ عَوَالِي
الْإِسْنَادِ، وَعُقِدَ لَهُ فِي وَقْتٍ مَجْلِسٌ لِلْإِمْلَاءِ، فَاحْتَفَلَ
النَّاسُ بِحُضُورِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ لَبِسَ زِيَّ الْفُقَهَاءِ، وَأَشْهَدَ
عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ مِمَّا يُعَانِيهِ مِنْ أُمُورِ
السُّلْطَانِ، وَذَكَرَ
لِلنَّاسِ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ
يَأْكُلُ مِنْ حِينِ نَشَأَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا مِنْ أَمْوَالِ أَبِيهِ
وَجَدِّهِ، وَلَكِنْ يُخَالِطُ السُّلْطَانَ، وَهُوَ تَائِبٌ مِمَّا مَارَسَهُ
مِنْ شُئُونِهِ، وَاتَّخَذَ بَيْتًا فِي دَارِهِ سَمَّاهُ بَيْتَ التَّوْبَةِ،
وَوَضَعَ الْعُلَمَاءُ خُطُوطَهُمْ بِصِحَّةِ تَوْبَتِهِ، وَحِينَ حَدَّثَ
اسْتَمْلَى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ لِكَثْرَةِ مَجْلِسِهِ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ
يَكْتُبُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنَ الطَّلَبَةِ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ
الْهَمَذَانِيُّ، وَمَنْ شَابَهَهُ مِنْ رُءُوسِ الْفُضَلَاءِ وَسَادَاتِ
الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِ قَاضِي قَزْوِينَ بِهَدِيَّةٍ ; كُتُبٍ كَثِيرَةٍ،
وَكَتَبَ مَعَهَا:
الْعُمَيْرِيُّ عَبْدُ كَافِي الْكُفَاةِ وَإِنِ اعْتَلَّ فِي وُجُوهِ الْقُضَاةِ
خَدَمَ الْمَجْلِسَ الرَّفِيعَ بَكُتْبٍ
مُفْعَمَاتٍ مِنْ حُسْنِهَا مُتْرَعَاتِ
فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ أَخَذَ مِنْهَا كِتَابًا وَاحِدًا، وَرَدَّ
بَاقِيَهَا، وَكَتَبَ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ:
قَدْ قَبِلْنَا مِنَ الْجَمِيعِ كِتَابًا وَرَدَدْنَا لِوَقْتِهَا الْبَاقِيَاتِ
لَسْتُ أَسْتَغْنِمُ الْكَثِيرَ وَطَبْعِي قَوْلُ خُذْ لَيْسَ مَذْهَبِي قَوْلَ
هَاتِ
وَجَلَسَ الْوَزِيُرُ ابْنُ عَبَّادٍ مَرَّةً فِي مَجْلِسِ شَرَابٍ، فَنَاوَلَهُ
السَّاقِي كَأْسًا، فَلَمَّا أَرَادَ شُرْبَهَا، قَالَ لَهُ بَعْضُ خُدَّامِهِ:
يَا سَيِّدِي، إِنَّ هَذَا الَّذِي فِي يَدِكَ مَسْمُومٌ،
قَالَ: وَمَا الشَّاهِدُ عَلَى صِحَّةِ
قَوْلِكَ ؟ قَالَ: تُجَرِّبُهُ، قَالَ: فِيمَنْ ؟ قَالَ: فِي السَّاقِي، قَالَ:
وَيْحَكَ، لَا أَسْتَحِلُّ ذَلِكَ، قَالَ: فَفِي دَجَاجَةٍ، قَالَ: إِنَّ
التَّمْثِيلَ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَبِّ مَا فِي ذَلِكَ
الْقَدَحِ، وَقَالَ لِلسَّاقِي: لَا تَدْخُلْ دَارِي بَعْدَ هَذَا، وَلَمْ
يَقْطَعْ عَنْهُ مَعْلُومَهُ.
وَقَدْ عَمِلَ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ ذِي الْكِفَايَتَيْنِ
حَتَّى عَزَلَهُ عَنْ وِزَارَةِ مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ، وَبَاشَرَهَا عِوَضَهُ،
وَاسْتَمَرَّ مُدَّةً، فَبَيْنَمَا هُوَ لَيْلَةً فِي بَعْضِ أَيَّامِهِ قَدِ
اجْتَمَعَ عِنْدَهُ أَصْحَابُهُ وَنُدَمَاؤُهُ وَهُوَ فِي أَتَمِّ سُرُورٍ، قَدْ
هُيِّئَ لَهُ مَجْلِسٌ حَافِلٌ بِأَنْوَاعِ اللَّذَّاتِ، مِنَ الْمَآكِلِ
وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالتُّحَفِ، وَقَدْ نَظَّمَ أَبْيَاتًا،
وَالْمُغَنُّونَ يُلَحِّنُونَهَا لَهُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الطَّرَبِ وَالسُّرُورِ
وَالْفَرَحِ، وَهِيَ هَذِهِ:
دَعَوْتُ الْهَنَا وَدَعَوْتُ الْعُلَا فَلَمَّا أَجَابَا دَعَوْتُ الْقَدَحْ
وَقُلْتُ لِأَيَّامِ شَرْخِ الشَّبَابِ إِلَيَّ فَهَذَا أَوَانُ الْفَرَحْ
إِذَا بَلَغَ الْمَرْءُ آمَالَهُ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَهَا مُنْتَزَحْ
ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: بَاكِرُونِي غَدًا إِلَى الصَّبُوحِ، وَنَهَضَ إِلَى
بَيْتِ مَنَامِهِ، فَمَا أَصْبَحَ حَتَّى قَبَضَ عَلَيْهِ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ،
وَأَخَذَ جَمِيعَ مَا فِي دَارِهِ مِنَ الْحَوَاصِلِ وَالْأَمْوَالِ، وَجَعَلَهُ
مُثْلَةً فِي الْعِبَادِ، وَأَعَادَ إِلَى وِزَارَتِهِ الصَّاحِبَ بْنَ عَبَّادٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، أَنَّ الصَّاحِبَ بْنَ عَبَّادٍ حِينَ
حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَاءَهُ
الْمَلِكُ فَخْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ
مُؤَيَّدِ الدَّوْلَةِ يَعُودُهُ لِيُوصِيَهُ فِي أُمُورِهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي
مُوصِيكَ أَنْ تَسْتَمِرَّ فِي الْأُمُورِ عَلَى مَا تَرَكْتُهَا عَلَيْهِ، وَلَا
تَغَيِّرْهَا، فَإِنَّكَ إِنِ اسْتَمْرَرْتَ بِهَا نُسِبَتْ إِلَيْكَ مِنْ أَوَّلِ
الْأَمْرِ إِلَى آخِرِهِ، وَإِنْ غَيَّرْتَهَا وَسَلَكْتَ غَيْرَهَا نُسِبَتْ هِيَ
وَالْخَيْرُ الْمُتَقَدِّمُ إِلَيَّ لَا إِلَيْكَ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ
نِسْبَةُ الْخَيْرِ إِلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتُ أَنَا الْمُشِيرُ بِهَا عَلَيْكَ.
فَأَعْجَبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا أَوْصَاهُ بِهِ مِنَ
الْخَيْرِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي عَشِيَّةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، لِسِتٍّ
بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ مِنْهَا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ مِنَ الْوُزَرَاءِ
بِالصَّاحِبِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ بَعْدَهُ فِيهِمْ وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ
لِكَثْرَةِ صُحْبَتِهِ الْوَزِيرَ أَبَا الْفَضْلِ بْنَ الْعَمِيدِ، فَكَانَ
يُقَالُ لَهُ: صَاحِبُ ابْنِ الْعَمِيدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَيْهِ أَيَّامَ
وِزَارَتِهِ، وَقَالَ الصَّابِئُ فِي كِتَابِهِ " التَّاجِيِّ ":
إِنَّمَا سَمَّاهُ الصَّاحِبَ مُؤَيِّدُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ ; لِأَنَّهُ
كَانَ صَاحِبُهُ مِنَ الصِّغَرِ، فَكَانَ يُسَمِّيهِ الصَّاحِبَ، فَلَمَّا مَلَكَ
وَاسْتَوْزَرَهُ سَمَّاهُ الصَّاحِبَ، فَاشْتُهِرَ بِهِ، وَتَسَمَّى بِهِ
الْوُزَرَاءُ بَعْدَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ قِطْعَةً صَالِحَةً مِنْ
مَكَارِمِهِ وَفَضَائِلِهِ وَثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَعَدَّدَ لَهُ
مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً، مِنْهَا كِتَابُهُ " الْمُحِيطُ " فِي
اللُّغَةِ فِي سَبْعِ مُجَلَّدَاتٍ، يَحْتَوِي عَلَى أَكْثَرِ اللُّغَةِ،
وَأَوْرَدَ مِنْ شِعْرِهِ أَشْيَاءَ، مِنْهَا قَوْلُهُ وَهُوَ صَنِيعٌ لَطِيفٌ
رَقَّ الزُّجَاجُ وَرَقَّتِ الْخَمْرُ وَتَشَابَهَا فَتَشَاكَلَ الْأَمْرُ
فَكَأَنَّمَا خَمْرٌ وَلَا قَدَحٌ وَكَأَنَّمَا قَدَحٌ وَلَا خَمْرُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ تُوُفِّيَ
بِالرَّيِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ نَحْوُ سِتِّينَ سَنَةً، وَنُقِلَ إِلَى
أَصْبَهَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَسَنُ بْنُ حَامِدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ حَامِدٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْأَدِيبُ، كَانَ شَاعِرًا مُتَمَوِّلًا، كَثِيرَ الْمَكَارِمِ، رَوَى عَنْ
عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَوْصِلِيِّ، وَعَنْهُ الصُّورِيُّ،
وَكَانَ صَدُوقًا، وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْمُتَنَبِّيَ فِي دَارِهِ حِينَ
قَدِمَ بَغْدَادَ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِ النَّفَقَاتِ حَتَّى
قَالَ لَهُ الْمُتَنَبِّي: لَوْ كُنْتُ مَادِحًا تَاجِرًا لَمَدَحْتُكَ، وَقَدْ
كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ هَذَا شَاعِرًا مَاهِرًا، فَمِنْ جِيِّدِ شِعْرِهِ
قَوْلُهُ:
شَرَيْتُ الْمَعَالِيَ غَيْرَ مُنْتَظِرٍ بِهَا كَسَادًا وَلَا سُوقًا يَقُامُ
لَهَا أُخْرَى
وَمَا أَنَا مِنْ أَهْلِ الْمَكَاسِبِ كُلَّمَا تَوَفَّرَتِ الْأَثْمَانُ كُنْتُ
لَهَا أَشْرَى
ابْنُ شَاهِينَ الْوَاعِظُ، عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ بْنِ أَزْدَاذَ، أَبُو حَفْصِ بْنُ شَاهِينَ
الْوَاعِظُ الْمَشْهُورُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَحَدَّثَ عَنِ الْبَاغَنْدِيِّ
وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَخَلْقٍ،
وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا يَسْكُنُ الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مِنْ بَغْدَادَ
وَكَانَتْ لَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْعَدِيدَةُ الْمُفِيدَةُ، ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ
صَنَّفَ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ مُصَنَّفًا ; مِنْ ذَلِكَ " التَّفْسِيرُ
" فِي أَلْفِ جُزْءٍ، وَ " الْمُسْنَدُ " فِي أَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةِ جُزْءٍ، وَ " التَّارِيخُ " فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ
جُزْءًا، وَ " الزُّهْدُ " فِي مِائَةِ جُزْءٍ. تُوُفِّيَ وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، وَقَدْ قَارَبَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَافِظُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَهْدِيِّ
بْنِ مَسْعُودِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ دِينَارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو
الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، أُسْتَاذُ هَذِهِ الصَّنَاعَةِ فِي زَمَانِهِ وَقَبْلَهَا
بِمُدَّةٍ وَبَعْدَهَا إِلَى زَمَانِنَا هَذَا، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَجَمَعَ
وَصَنَّفَ، وَأَلَّفَ وَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَأَحْسَنَ النَّظَرَ وَالتَّعْلِيلَ،
وَالِانْتِقَاءَ وَالِاعْتِقَادَ، وَكَانَ فَرِيدَ عَصْرِهِ، وَنَسِيجَ وَحْدِهِ،
وَإِمَامَ أَهْلِ دَهْرِهِ فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَصَنَاعَةِ التَّعْلِيلِ،
وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَحُسْنِ التَّصْنِيفِ وَالتَّأْلِيفِ، وَاتِّسَاعِ
الرِّوَايَةِ، وَالِاطِّلَاعِ التَّامِّ فِي الدِّرَايَةِ، لَهُ كِتَابُ "
السُّنَنِ الْكَبِيرِ " الْمَشْهُورِ، مِنْ أَحْسَنِ الْمُصَنَّفَاتِ فِي
بَابِهِ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُلْحَقُ فِي شَكْلِهِ، إِلَّا مَنِ
اسْتَمَدَّ مِنْ بَحْرِهِ، وَعَمِلَ كَعَمَلِهِ، وَلَهُ كِتَابُ " الْعِلَلِ
" بَيَّنَ فِيهِ الصَّوَابَ مِنَ
الزَّلَلِ، وَالْمُتَّصِلَ مِنَ
الْمُرْسَلِ وَالْمُنْقَطِعِ وَالْمُعْضَلِ، وَكِتَابُ " الْأَفْرَادِ "
الَّذِي لَا يَفْهَمُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْظِمَهُ، إِلَّا مَنْ هُوَ مِنَ
الْحُفَّاظِ الْأَفْرَادِ، وَالْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ، وَالْجَهَابِدَةِ
الْجِيَادِ، وَلَهُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الَّتِي هِيَ كَالْعُقُودِ
فِي الْأَجْيَادِ.
وَقَدْ كَانَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ صِغَرِهِ مَوْصُوفًا بِالْحِفْظِ الْبَاهِرِ
; جَلَسَ مَرَّةً فِي مَجْلِسِ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارِ، وَهُوَ يُمْلِي عَلَى
النَّاسِ الْأَحَادِيثَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ يَنْسَخُ فِي جُزْءِ حَدِيثٍ،
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ: إِنْ سَمَاعَكَ
لَا يَصِحُّ وَأَنْتَ تَنْسَخُ، فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: فَهْمِي خِلَافُ
فَهْمِكَ، أَتَحْفَظُ كَمْ أَمْلَى حَدِيثًا ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: إِنَّهُ
أَمْلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا إِلَى الْآنِ، فَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ
مِنْهَا عَنْ فُلَانٍ عَنْ فُلَانٍ، ثُمَّ سَاقَهَا كُلَّهَا بِأَسَانِيدِهَا
وَأَلْفَاظِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ.
وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ: لَمْ يَرَ
الدَّارَقُطْنِيُّ مِثْلَ نَفْسِهِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدِ اجْتَمَعَ
لَهُ مَعَ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ الْعِلْمُ بِالْقِرَاءَاتِ وَالنَّحْوِ
وَالْفِقْهِ وَالشِّعْرِ، مَعَ الْأَمَانَةِ وَالْعَدَالَةِ وَصِحَّةِ
الْعَقِيدَةِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ السَّابِعِ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ تِسْعٌ وَسَبْعُونَ
سَنَةً
وَيَوْمَانِ، وَدُفِنَ مِنَ الْغَدِ
بِمَقْبَرَةِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقَدْ رَحَلَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
فَأَكْرَمَهُ الْوَزِيرُ أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ حِنْزَابَةَ وَزِيرُ
كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ وَسَاعَدَهُ هُوَ وَالْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ عَلَى
إِكْمَالِ " مُسْنَدِهِ " وَحَصَلَ لِلدَّارَقُطْنِيِّ مِنْهُ مَالٌ
جَزِيلٌ، قَالَ: وَالدَّارَقُطْنِيُّ: نِسْبَةٌ إِلَى دَارِ الْقُطْنِ، وَهِيَ
مَحَلَّةٌ كَبِيرَةٌ بِبَغْدَادَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ: لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى
الْأَحَادِيثِ مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ فِي زَمَانِهِ، وَمُوسَى بْنِ
هَارُونَ فِي زَمَانِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيِّ فِي زَمَانِهِ.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَلْ رَأَى مِثْلَ نَفْسِهِ ؟ قَالَ: أَمَّا فِي
فَنٍّ وَاحِدٍ فَرُبَّمَا رَأَيْتُ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنِّي، وَأَمَّا فِيمَا
اجْتَمَعَ فِيَّ مِنَ الْفُنُونِ فَلَا.
وَقَدْ رَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنِ الْأَمِيرِ أَبِي نَصْرِ بْنِ
هِبَةِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَاكُولَا، قَالَ: رَأَيْتُ فِي
الْمَنَامِ كَأَنِّي أَسْأَلُ عَنْ حَالِ أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَمَا
آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَقِيلَ لِي: ذَاكَ يُدْعَى فِي الْجَنَّةِ
الْإِمَامُ،
رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.
عَبَّادُ بْنُ عَبَّاسِ بْنِ عَبَّادٍ أَبُو الْحَسَنِ الطَّالَقَانِيُّ
وَالِدُ الْوَزِيرِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبَّادٍ، سَمِعَ أَبَا خَلِيفَةَ الْفَضْلَ
بْنَ الْحُبَابِ وَغَيْرَهُ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْأَصْفَهَانِيِّينَ
وَالرَّازِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَحَدَّثَ عَنْهُ ابْنُهُ الْوَزِيرُ أَبُو
الْقَاسِمِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَلِعَبَّادٍ هَذَا كِتَابٌ فِي
أَحْكَامِ الْقُرْآنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ مَوْتُهُ وَمَوْتُ ابْنِهِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
عُقَيْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدَ، أَبُو الْحَسَنِ الْأَحْنَفُ
الْعُكْبَرِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ دِيوَانٌ مُفْرَدٌ، وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ
مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ "
قَوْلُهُ:
أَقْضَى عَلَيَّ مِنَ الْأَجَلْ عَذْلُ الْعَذُولِ إِذَا عَذَلَ
وَأَشَدُّ مِنْ عَذْلِ الْعَذُو لِ صُدُودُ إِلْفٍ قَدْ وَصَلْ
وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا وَذَا طَلَبُ النَّوَالِ مِنَ السَّفَلْ
وَمِنْ شَعْرِهِ الْجَيِّدِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَنْ أَرَادَ الْمُلْكَ وَالرَّا حَةَ مِنْ هَمٍّ طَوِيلٍ
فَلْيُكَنْ فَرَدًا مِنَ النَّا سِ
وَيَرْضَى بِالْقَلِيلِ
وَيَرَى أَنَّ قَلِيلًا نَافِعًا غَيْرُ قَلِيلِ
وَيَرَى بِالْحَزْمِ أَنَّ الْ حَزْمَ فِي تَرْكِ الْفُضُولِ
وَيُدَاوِي مَرَضَ الْوَحْ دَةِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ
لَا يُمَارِي أَحَدًا مَا عَاشَ فِي قَالَ وَقِيلِ
يَلْزَمُ الصَّمْتَ فَإِنَّ الصَّ مْتَ تَهْذِيبُ الْعُقُولِ
يَذْرُ الْكِبْرَ لِأَهْلِي هِ وَيَرْضَى بِالْخُمُولِ
أَيُّ عَيْشٍ لِامْرِئٍ يُصْ بِحُ فِي حَالٍ ذَلِيلِ
بَيْنَ قَصْدٍ مِنْ عَدُوٍّ وَمُدَارَاةِ جَهُولِ
وَاعْتِلَالٍ مِنْ صَدِيقٍ وَتَجَنٍّ مِنْ مَلُولِ
وَاحْتِرَاسٍ مِنْ ظُنُونِ السُّو ءِ مَعْ عَذْلِ الْعَذُولِ
وَمُمَاشَاةِ بَغِيضٍ وَمُقَاسَاةِ ثَقِيلِ
أُفِّ مِنْ مَعْرِفَةٍ النَّا سِ عَلَى كُلِّ سَبِيلِ
وَتَمَامُ الْأَمْرِ لَا يَعْ رِفُ سَمْحًا مِنْ بَخِيلِ
فَإِذَا أَكْمَلَ هَذَا كَا نَ فِي مُلْكٍ جَلِيلِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
سُكَّرَةَ، أَبُو الْحَسَنِ الْهَاشِمِيُّ
مِنْ وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ الْمَهْدِيِّ بِاللَّهِ، كَانَ شَاعِرًا أَدِيبًا
خَلِيعًا ظَرِيفًا، وَكَانَ يَنُوبُ فِي نِقَابَةِ الْهَاشِمِيِّينَ، فَتَرَافَعَ
إِلَيْهِ رَجُلٌ اسْمُهُ عَلَيٌّ وَامْرَأَةٌ اسْمُهَا عَائِشَةُ يَتَحَاكَمَانِ
فِي جَمَلٍ، فَقَالَ: هَذِهِ قَضِيَّةٌ لَا أَحْكُمُ فِيهَا بِشَيْءٍ ; لِئَلَّا
يَعُودَ الْحَالُ خُدْعَةً.
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ وَلَطِيفِ قَوْلِهِ:
فِي وَجْهِ إَنْسَانَةٍ كَلِفْتُ بِهَا أَرْبَعَةٌ مَا اجْتَمَعْنَ فِي أَحَدِ
الْوَجْهُ بَدْرٌ وَالصُّدْغُ غَالِيَةٌ وَالرِّيقُ خَمْرٌ وَالثَّغْرُ مِنْ
بَرَدِ
وَمِنْ مُجُونِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ، وَقَدْ دَخَلَ حَمَّامًا، فَسُرِقَ نَعْلُهُ،
فَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ حَافِيًا، فَقَالَ:
إِلَيْكَ أَذُمُّ حَمَّامَ ابْنِ مُوسَى وَإِنْ فَاقَ الْمُنَى طِيبًا وَحَرَّا
تَكَاثَرَتِ اللُّصُوصُ عَلَيْهِ حَتَّى لَيَحْفَى مَنْ يُطِيفُ بِهِ وَيَعْرَى
وَلَمْ أَفْقِدْ بِهِ ثَوْبًا وَلَكِنْ دَخَلْتُ مُحَمَّدًا وَخَرَجْتُ بِشْرًا
يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ،
أَبُو الْفَتْحِ الْقَوَّاسُ
سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَابْنَ أَبِي دَاوُدَ وَابْنَ صَاعِدٍ وَغَيْرَهُمْ،
وَعَنْهُ الْخَلَّالُ وَالْعُشَارِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَكَانَ
ثِقَةً نَبِيلًا، يُعَدُّ مِنَ الْأَبْدَالِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كُنَّا
نَتَبَرَّكُ بِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
يُوسُفُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيُّ، أَبُو مُحَمَّدٍ النَّحْوِيُّ بْنُ
النَّحْوِيِّ
وَهُوَ الَّذِي تَمَّمَ شَرْحَ أَبِيهِ لِكِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَكَانَ يَرْجِعُ
إِلَى عِلْمٍ وَدِينٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا عَنْ
خَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ
وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَشَفَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ عَنْ قَبْرٍ
عَتِيقٍ، فَإِذَا هُمْ بِمَيِّتٍ طَرِيٍّ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ وَسَيْفُهُ،
فَظَنُّوهُ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَأَخْرَجُوهُ وَكَفَّنُوهُ وَدَفَنُوهُ،
وَاتَّخَذُوا عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَوُقِفَتْ عَلَيْهِ أَوْقَافٌ
كَثِيرَةٌ، وَجُعِلَ عِنْدَهُ خُدَّامٌ وَقُوَّامٌ وَفُرُشٌ وَتَنْوِيرٌ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْحَاكِمُ الْعُبَيْدِيُّ بِلَادَ مِصْرَ بَعْدَ أَنْ هَلَكَ
أَبُوهُ الْعَزِيزُ بْنُ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ، وَكَانَ عُمُرُهُ إِذْ ذَاكَ
إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَقَامَ بِتَدْبِيرِ الْمَمْلَكَةِ مَعَهُ
أَرْجُوَانُ الْخَادِمُ، وَأَمِينُ الدَّوْلَةِ الْحَسَنُ بْنُ عَمَّارٍ شَيْخُ
كُتَامَةَ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْحَاكِمُ قَتَلَهُمَا وَأَقَامَ غَيْرَهُمَا،
ثُمَّ قَتَلَ خَلْقًا، حَتَّى اسْتَقَامَ لَهُ الْأَمْرُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ،
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ الْأَمِيرُ الَّذِي مِنْ جِهَةِ
الْمِصْرِيِّينَ، وَالْخُطْبَةُ لَهُمْ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَخْتَوَيْهِ، أَبُو
حَامِدِ بْنُ أَبِي
إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي
النَّيْسَابُورِيُّ
سَمِعَ الْأَصَمَّ وَطَبَقَتَهُ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِبَادَةِ مِنْ صِغَرِهِ
إِلَى كِبَرِهِ، وَصَامَ فِي عُمُرِهِ سَرْدًا تِسْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً،
وَقَالَ الْحَاكِمُ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ تَكْتُبْ عَلَيْهِ
خَطِيئَةً، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ
وَسِتِّينَ سَنَةً.
أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ، صَاحِبُ " قُوتِ الْقُلُوبِ "، مُحَمَّدُ
بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ، أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ، الْوَاعِظُ
الْمُذَكِّرُ، الزَّاهِدُ الْمُتَعَبِّدُ، الرَّجُلُ الصَّالِحُ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَرَوَى عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ.
قَالَ الْعَتِيقِيُّ: كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، مُجْتَهِدًا فِي الْعِبَادَةِ.
وَصَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " قُوتَ الْقُلُوبِ " وَذَكَرَ فِيهِ
أَحَادِيثَ لَا أَصْلَ لَهَا، وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ فِي الْجَامِعِ
بِبَغْدَادَ.
وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْجَبَلِ، وَأَنَّهُ نَشَأَ
بِمَكَّةَ وَأَنَّهُ دَخَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ
سَالِمٍ، فَانْتَمَى إِلَى مَقَالَتِهِ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ
النَّاسُ، وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسُ الْوَعْظِ بِهَا، فَغَلِطَ فِي كَلَامٍ،
وَحُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ أَضَرُّ مِنَ
الْخَالِقِ، فَبَدَّعَهُ النَّاسُ وَهَجَرُوهُ، وَامْتَنَعَ مِنَ
الْكَلَامِ عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ
كَانَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا مِمَّنْ يُبِيحُ السَّمَاعَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ
الصَّمَدِ بْنُ عَلِيٍّ، فَعَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَنْشَدَ أَبُو طَالِبٍ:
فَيَا لَيْلُ كَمْ فِيكَ مِنْ مُتْعَةٍ وَيَا صُبْحُ لَيْتَكَ لَمْ تَقْرَبِ
فَخَرَجَ عَبْدُ الصَّمَدِ مُغْضَبًا.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بِشْرَانَ: دَخَلْتُ عَلَى شَيْخِنَا أَبِي طَالِبٍ
الْمَكِّيِّ وَهُوَ يَمُوتُ، فَقُلْتُ: أَوْصِنِي، فَقَالَ: إِذَا خُتِمَ لِي
بِخَيْرٍ فَانْثُرْ عَلَى جِنَازَتِي لَوْزًا وَسُكَّرًا، فَقُلْتُ: كَيْفَ أَعْلَمُ
ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: اجْلِسْ عِنْدِي، وَيَدُكَ فِي يَدِي، فَإِنْ قَبَضْتُ عَلَى
يَدِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ خُتِمَ لِي بِخَيْرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ
وَيَدِي فِي يَدِهِ، فَلَمَّا حَانَ فِرَاقُهُ، قَبَضَ عَلَى يَدِيَ قَبْضًا
شَدِيدًا، فَلَمَّا رُفِعَ عَلَى جِنَازَتِهِ، نَثَرْتُ اللَّوْزَ وَالسُّكَّرَ
عَلَى نَعْشِهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَبْرُهُ ظَاهِرٌ بِالْقُرْبِ مِنْ جَامِعِ
الرُّصَافَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَزِيزُ صَاحِبُ مِصْرَ
نِزَارُ بْنُ الْمُعِزِّ مَعَدٍّ أَبِي تَمِيمٍ، وَيُكَنَّى نِزَارٌ هَذَا بِأَبِي
مَنْصُورٍ، وَيُلَقَّبُ بِالْعَزِيزِ، تُوُفِّيَ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، مِنْهَا وِلَايَتُهُ بَعْدَ أَبِيهِ إِحْدَى وَعِشْرُونَ سَنَةً
وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ الْحَاكِمُ، وَالْحَاكِمُ هُوَ الَّذِي
تُنْسَبُ إِلَيْهِ الْفِرْقَةُ
الضَّالَّةُ الْمُضِلَّةُ الزَّنَادِقَةُ الْحَاكِمِيَّةُ، وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ
أَهْلُ وَادِي التِّيمَ مِنَ الدَّرْزِيَّةِ أَتْبَاعِ هِسْتِكِينَ غُلَامِ
الْحَاكِمِ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ،
فَأَجَابُوهُ - لَعَنَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ - أَمَّا الْعَزِيزُ هَذَا
فَإِنَّهُ كَانَ قَدِ اسْتَوْزَرَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، يُقَالُ لَهُ: عِيسَى
بْنُ نِسْطُورِسَ، وَآخَرَ يَهُودِيًّا اسْمُهُ مِيشَا، فَعَزَّ بِسَبَبِهِمَا
أَهْلُ هَاتَيْنِ الْمِلَّتَيْنِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
حَتَّى كَتَبَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ قِصَّةً فِي حَاجَةٍ لَهَا، تَقُولُ فِيهَا:
بِالَّذِي أَعَزَّ النَّصَارَى بِعِيسَى بْنِ نِسْطُورِسَ، وَالْيَهُودَ بِمِيشَا،
وَأَذَلَّ الْمُسْلِمِينَ بِكَ إِلَّا مَا كَشَفَتْ ظُلَامَتِي، فَعِنْدَ ذَلِكَ
أَمَرَ بِالْقَبْضِ عَلَى هَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، وَأَخَذَ مِنَ النَّصْرَانِيِّ
ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَتْ بِنْتُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةَ
الطَّائِعِ لِلَّهِ فَحُمِلَتْ تَرِكَتُهَا إِلَى ابْنِ أَخِيهَا بِهَاءِ
الدَّوْلَةِ، وَكَانَ فِيهَا جَوْهَرٌ كَثِيرٌ وَتُحَفٌ وَلَطَائِفُ وَغَيْرُ
ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا تُوُفِّيَ فَخْرُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ رُكْنِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ وَرُتِّبَ وَلَدُهُ رُسْتُمُ فِي الْمُلْكِ بَعْدَهُ،
وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقَامَ خَوَاصُّ أَبِيهِ بِتَدْبِيرِ الْمَمَالِكِ
وَالرَّعَايَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ، أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ اللُّغَوِيُّ
الْعَلَّامَةُ فِي فَنِّهِ وَتَصَانِيفِهِ الْمُفِيدُ فِي اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا،
يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَمَّا قَدِمَ
الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ هُوَ وَفَخْرُ الدَّوْلَةِ الْبَلْدَةَ الَّتِي كَانَ
فِيهَا أَبُو أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ - وَقَدْ كَبُرَ وَأَسَنَّ - بَعَثَ إِلَيْهِ
الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ بِرُقْعَةٍ فِيهَا هَذِهِ الْأَبْيَاتِ:
وَلَمَّا أَبَيْتُمْ أَنْ تَزُورُوا وَقُلْتُمُ ضَعُفْنَا فَمَا نَقْوَى عَلَى
الْوَخَدَانِ أَتَيْنَاكُمُ مِنْ بَعْدِ أَرْضٍ نَزُورُكُمُ
فَكَمْ مِنْ مَنْزِلٍ بِكْرٍ لَنَا وَعَوَانِ نُنَاشِدْكُمُ هَلْ مِنْ قِرًى
لِنَزِيلِكُمْ
بَطُولِ جِوَارٍ لَا بِمِلْءِ جِفَانِ
فَكَتَبَ الْعَسْكَرِيُّ الْجَوَابَ
فِي ظَهْرِهَا:
أَرُومُ نَهُوضًا ثُمَّ يَثْنِي عَزِيمَتِي تَعَوُّذُ أَعْضَائِي مِنَ
الرَّجَفَانِي
فَضَمَّنْتُ بَيْتَ ابْنِ الشَّرِيدِ كَأَنَّمَا تَعَمَّدَ تَشْبِيهِي بِهِ
وَعَنَانِي
أَهُمُّ بِأَمْرِ الْحَزْمِ لَوْ أَسْتَطِيعُهُ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَ الْعَيْرِ
وَالنَّزَوَانِ
ثُمَّ تَحَامَلَ وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ، وَصَارَ إِلَى الصَّاحِبِ، فَوَجَدَهُ
مَشْغُولًا فِي خَيْمَتِهِ بِأُبَّهَةِ الْوِزَارَةِ، فَصَعِدَ أَكَمَةً، ثُمَّ
نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
مَا لِي أَرَى الْقُبَّةَ الْفَيْحَاءَ مُقْفَلَةً دُونِي وَقَدْ طَالَ مَا
اسْتَفْتَحْتُ مُقْفَلَهَا
كَأَنَّهَا جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مُعْرِضَةً وَلَيْسَ لِي عَمَلٌ زَاكٍ فَأَدْخُلُهَا
فَلَمَّا سَمِعَ الصَّاحِبُ صَوْتَهُ نَادَاهُ: ادْخُلْهَا يَا أَبَا أَحْمَدَ،
فَلَكَ السَّابِقَةُ الْأُولَى، فَلَمَّا صَارَ إِلَيْهِ وَقَدِمْ عَلَيْهِ
أَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ.
تُوُفِّيَ الْعَسْكَرِيُّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَقَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ،
وَتُوَفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادِ بْنِ
مِهْرَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الشَّاهِدُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الثَّلَّاجِ
لِأَنَّ جَدَّهُ أَهْدَى لِبَعْضِ الْخُلَفَاءِ ثَلْجًا، فَوَقَعَ مِنْهُ
مَوْقِعًا، فَعُرِفَ عِنْدَ الْخَلِيفَةِ بِالثَّلَّاجِ، وَقَدْ سَمِعَ أَبُو
الْقَاسِمِ هَذَا مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَابْنِ أَبِي دَاوُدَ،
وَحَدَّثَ عَنِ التَّنُوخِيِّ وَالْأَزْهَرِيِّ وَالْعَتِيقِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ
الْحُفَّاظِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدِ اتَّهَمَهُ الْمُحَدِّثُونَ،
مِنْهُمُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَنَسَبُوهُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ يُرَكِّبُ الْإِسْنَادَ،
وَيَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى الرِّجَالِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ فَجْأَةً.
ابْنُ زُولَاقٍ، الْحَسَنُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ خَلَفِ بْنِ رَاشِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ
زُولَاقٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ الْحَافِظُ
صَنَّفَ كِتَابًا فِي قُضَاةِ مِصْرَ، ذَيَّلَ بِهِ عَلَى كِتَابِ أَبِي عُمَرَ
مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ الْكِنْدِيِّ فِي ذَلِكَ، انْتَهَى
الْكِنْدِيُّ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَذَيَّلَ ابْنُ
زُولَاقٍ مِنَ الْقَاضِي بَكَّارٍ إِلَى سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، مُبَلِّغًا بِهِ أَيَّامَ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ قَاضِي
الْعُبَيْدِيِّينَ، وَأَظُنُّهُ مُصَنِّفَ كِتَابِ " الْبَلَاغِ "
الَّذِي انْتَصَبَ فِيهِ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ، أَوْ
هُوَ مُصَنِّفُهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ النُّعْمَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَتْ وَفَاةُ ابْنِ زُولَاقٍ فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ابْنُ بَطَّةَ، عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ، أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْعُكْبَرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بَطَّةَ، أَحَدُ عُلَمَاءِ الْحَنَابِلَةِ، وَلَهُ الْكُتُبُ
وَالتَّصَانِيفُ الْكَثِيرَةُ الْحَافِلَةُ فِي فُنُونٍ مِنَ الْعِلْمِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ
وَخَلْقٍ فِي أَقَالِيمَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَعَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ ;
مِنْهُمْ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ وَالْأَزَجِيُّ وَالْبَرْمَكِيُّ،
وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
وَكَانَ مِمَّنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ
رَأَى بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِ اخْتَلَفَتْ عَلَيَّ الْمَذَاهِبُ،
فَقَالَ: عَلَيْكَ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَطَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ
إِلَيْهِ لِيُبَشِّرَهُ بِالْمَنَامِ فَحِينَ رَآهُ ابْنُ بَطَّةَ تَبَسَّمَ
إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُخَاطِبَهُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
وَقَدْ تَصَدَّى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ لِلْكَلَامِ فِي ابْنِ بَطَّةَ
وَالطَّعْنِ فِيهِ ; بِسَبَبِ ادِّعَائِهِ سَمَاعَ " السُّنَنِ "
لِرَجَاءَ بْنِ مُرَجَّى وَ " مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ "، وَأَسْنَدَ
بَعْضَ الْجَرْحِ فِيهِ إِلَى شَيْخِهِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَلِيٍّ
الْأَسَدِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ بُرْهَانَ اللُّغَوِيِّ، فَانْتُدِبَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ لِلرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ، وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ أَيْضًا، بِسَبَبِ
بَعْضِ مَشَايِخِهِ، وَالِانْتِصَارِ لِابْنِ بَطَّةَ، فَحَكَى عَنْ أَبِي
الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ أَنَّ ابْنَ بُرْهَانَ كَانَ يَرَى مَذْهَبَ مُرْجِئَةِ
الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ، وَقَالُوا:
لِأَنَّ دَوَامَ ذَلِكَ مِمَّنْ لَا يَتَشَفَّى لَا مَعْنَى لَهُ هُنَا، مَعَ
أَنَّهُ قَدْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، ثُمَّ شَرَعَ
ابْنُ عَقِيلٍ
يَرُدُّ عَلَى ابْنِ بُرْهَانَ. قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَكَيْفَ يُقْبَلُ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ مِنْ مِثْلِ
هَذَا ؟ !
ثُمَّ رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ بَطَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ
" الْمُعْجَمَ " مِنَ الْبَغَوِيِّ، قَالَ: وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ
عَلَى النَّافِي، قَالَ الْخَطِيبُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
بُرْهَانَ، قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ: رَوَى ابْنُ بَطَّةَ
عَنِ الْبَغَوِيِّ، عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبُ
الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَهَذَا بَاطِلٌ
مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَالْحَمْلُ فِيهِ عَلَى ابْنِ بَطَّةَ. قَالَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ: وَجَوَابُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وُجِدَ
بِخَطِّ ابْنِ بُرْهَانَ أَنَّ مَا حَكَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ مِنَ الْقَدْحِ فِي
ابْنِ بَطَّةَ بَاطِلٌ، وَهُوَ شَيْخِي أَخَذْتُ عَنْهُ الْعِلْمَ فِي
الْبِدَايَةِ، الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ بُرْهَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَدْحُ فِيهِ
بِمَا خَالَفَ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، فَكَيْفَ قَبِلْتَ الْقَوْلَ فِي رَجُلٍ قَدْ
حَكَيْتَ عَنْ مَشَايِخِ الْعُلَمَاءِ، أَنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ مُجَابُ الدَّعْوَةِ،
نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْهَوَى.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُدْرَكٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَرْذَعِيُّ
رَوَى عَنْ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ، فَتَرَكَ
الدُّنْيَا، وَأَقْبَلَ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَثْرَةِ
الصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ.
فَخْرُ الدَّوْلَةِ عَلِيُّ بْنُ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
مَلِكُ بِلَادِ الرَّيِّ وَنَوَاحِيهَا، وَحِينَ مَاتَ أَخُوهُ مُؤَيِّدُ
الدَّوْلَةِ، كَتَبَ الصَّاحِبُ بْنُ عَبَّادٍ بِالْإِسْرَاعِ إِلَيْهِ،
فَوَلَّاهُ الْمَلِكُ بَعْدَ أَخِيهِ،
وَاسْتَوْزَرَ ابْنَ عَبَّادٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي أَيَّامِ أَخِيهِ
مُؤَيِّدِ الدَّوْلَةِ. تُوُفِّيَ عَنْ سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْهَا
مُدَّةَ مُلْكِهِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَشَرَةُ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَتَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا ; مِنْ ذَلِكَ مِنَ
الذَّهَبِ مَا يُقَارِبُ ثَلَاثَةَ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ
نَحْوًا مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفَ قِطْعَةٍ، يُقَارِبُ قِيمَتُهَا ثَلَاثَ
آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ زِنَتُهُ أَلْفُ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْفِضَّةِ زِنَتُهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ،
وَمِنَ الثِّيَابِ ثَلَاثَةُ آلَافِ حِمْلٍ، وَخِزَانَةُ السِّلَاحِ أَلْفَا
حِمْلٍ، وَمِنَ الْفُرُشِ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ حِمْلٍ، وَمِنَ الْأَمْتِعَةِ
مَا يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ، وَمَعَ هَذَا لَيْلَةَ تُوُفِّيَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
وَصُولٌ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ كَفَنٌ إِلَّا ثَوْبُ
رَجُلٍ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ فِي الْمَسْجِدِ، وَاشْتَغَلُوا عَنْهُ بِالْمُلْكِ
حَتَّى تَمَّ لِوَلَدِهِ رُسْتُمَ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَنْتَنَ الْمَلِكُ، وَلَمْ
يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَرَبَطُوهُ فِي حِبَالٍ وَجَرُّوهُ
عَلَى دَرَجِ الْقَلْعَةِ، فَتَقَطَّعَ، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا
بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
ابْنُ سَمْعُونَ الْوَاعِظُ، مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ سَمْعُونَ الْوَاعِظُ
أَحَدُ الصُّلَحَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: النَّاطِقُ
بِالْحِكْمَةِ، رَوَى عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَطَبَقَتِهِ، وَكَانَ
لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الْوَعْظِ وَالتَّدْقِيقِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَكَانَتْ
لَهُ كَرَامَاتٌ وَمُكَاشَفَاتٌ، كَانَ يَوْمًا يَعِظُ النَّاسَ عَلَى
الْمِنْبَرِ، وَتَحْتَهُ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ الْقَوَّاسِ، وَكَانَ مِنَ
الصَّالِحِينَ الْمَشْهُورِينَ، فَنَعَسَ ابْنُ الْقَوَّاسِ، فَأَمْسَكَ ابْنُ
سَمْعُونَ عَنِ الْوَعْظِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ، فَحِينَ اسْتَيْقَظَ
قَالَ ابْنُ سَمْعُونَ: رَأَيْتَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِكَ هَذَا ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: فَلِهَذَا أَمْسَكْتُ عَنِ الْوَعْظِ حَتَّى لَا أُزْعِجَكَ عَمَّا
كُنْتَ فِيهِ.
وَكَانَ لِرَجُلٍ ابْنَةٌ مَرِيضَةٌ مُدْنِفَةٌ، فَرَأَى أَبُوهَا رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اذْهَبْ
إِلَى ابْنِ سَمْعُونَ لِيَأْتِيَ مَنْزِلَكَ فَيَدْعُوَ لِابْنَتِكَ وَهِيَ
تَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَهَبَ إِلَى ابْنِ
سَمْعُونَ لِيَأْتِيَ، فَلَمَّا رَآهُ، نَهَضَ وَلَبِسَ ثِيَابَهُ وَخَرَجَ
مَعَهُ، فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يَذْهَبُ إِلَى مَجْلِسِ وَعْظِهِ، فَقَالَ:
أَقُولُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَلَمَّا مَرَّ بِدَارِ الرَّجُلِ دَخَلَ
إِلَيْهَا الشَّيْخُ، فَأَحْضَرَ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ، فَدَعَا لَهَا وَانْصَرَفَ،
فَبَرِأَتْ مِنْ سَاعَتِهَا.
وَبَعَثَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الطَّائِعُ لِلَّهِ مَنْ أَحْضَرَهُ وَهُوَ
مُغْضَبٌ، فَخِيفَ عَلَى ابْنِ سَمْعُونَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ
أَخَذَ فِي الْوَعْظِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَا أَوْرَدَهُ مِنْ كَلَامِ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ فَبَكَى الْخَلِيفَةُ حَتَّى سُمِعَ شَهِيقُهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَهُوَ مُكْرَمٌ، فَقِيلَ لِلْخَلِيفَةِ: رَأَيْنَاكَ طَلَبْتَهُ
وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ يَتَنَقَّصُ عَلِيًّا، فَأَرَدْتُ
أَنْ أُعَاقِبَهُ، فَلَمَّا حَضَرَ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ عَلَيٍّ، فَعَلِمْتُ
أَنَّهُ مُوَفَّقٌ، قَدْ كُوشِفَ بِمَا كَانَ فِي خَاطِرِي عَلَيْهِ.
وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَإِلَى جَانِبِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ
يَقُولُ: أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي الْأَحْبَارُ ؟ أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي
الرُّهْبَانُ ؟ أَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ ؟ فَبَيْنَا هُمَا
كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ ابْنُ سَمْعُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَفِي أُمَّتِكَ مِثْلُ هَذَا ؟ فَسَكَتَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَامُ.
كَانَ مَوْلِدُ ابْنِ سَمْعُونَ فِي سَنَةِ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ
الْخَمِيسِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
وَدُفِنَ بِدَارِهِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ أُخْرِجَ بَعْدَ سِنِينَ
إِلَى مَقْبَرَةِ أَحْمَدَ، وَأَكْفَانُهُ لَمْ تَبْلَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
آخِرُ مُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ نُوحُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ نُوحِ بْنِ نَصْرِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو الْقَاسِمِ السَّامَانِيُّ
مَلِكُ خُرَاسَانَ وَغَزْنَةَ وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَلِيَ الْمُلْكَ وَلَهُ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَاسْتَمَرَّ فِي الْمُلْكِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً
وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ قَبَضَ عَلَيْهِ خَوَاصُّهُ، وَأَجْلَسُوا أَخَاهُ
عَبْدَ الْمَلِكِ مَكَانَهُ، فَقَصَدَهُمْ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ،
فَانْتَزَعَ الْمُلْكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ فِي الْمُلْكِ
مِائَةُ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ وَشُهُورًا، فَبَادَ مُلْكُهُمْ فِي هَذَا الْعَامِ،
وَلِلَّهِ النَّقْضُ وَالْإِبْرَامُ.
أَبُو الطِّيبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سُلَيْمَانَ الصُّعْلُوكِيُّ الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
إِمَامُ أَهْلِ نَيْسَابُورَ وَشَيْخُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، كَانَ يَحْضُرُ فِي
مَجْلِسِهِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ مَحْبَرَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ
فِي " الْإِرْشَادِ ": إِنَّهُ مَاتَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ سَقَطَ فِي
بَغْدَادَ بَرَدٌ شَدِيدٌ، بِحَيْثُ جَمَّدَ الْمَاءَ فِي الْحَمَّامَاتِ وَبَوْلِ
الدَّوَابِّ فِي الطُّرُقَاتِ.
وَفِيهَا جَاءَتْ رُسُلُ أَبِي طَالِبٍ رُسْتُمَ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ
فَبَايَعَهُ الْخَلِيفَةُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى مُعَامَلَتِهِ بِبِلَادِ الرَّيِّ
وَلَقَّبَهُ مَجْدَ الدَّوْلَةِ وَكَهْفَ الْأُمَّةِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ
بِالْخِلَعِ وَالْوِلَايَةِ، وَكَذَلِكَ لِبَدْرِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ، وَلَقَّبَهُ
نَاصِرَ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ.
وَفِيهَا هَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ - الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
الْوَثَّابِ، الْمُنْتَسِبُ إِلَى جَدِّهِ الطَّائِعِ - مِنَ السِّجْنِ بِدَارِ
الْخِلَافَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَآوَاهُ صَاحِبُهَا مُهَذَّبُ الدَّوْلَةِ
ثُمَّ أَرْسَلَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فَجِيءَ بِهِ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ فَاعْتَقَلَهُ،
ثُمَّ هَرَبَ مِنَ الِاعْتِقَالِ أَيْضًا، فَذَهَبَ إِلَى بِلَادِ كِيلَانَ،
فَادَّعَى أَنَّهُ الطَّائِعُ لِلَّهِ فَصَدَّقُوهُ
وَبَايَعُوهُ، وَأَدُّوا إِلَيْهِ
الْعُشْرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ، ثُمَّ اتَّفَقَ مَجِيءُ بَعْضِهِمْ
إِلَى بَغْدَادَ فَسَأَلُوا عَنِ الْأَمْرِ، فَإِذَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ وَلَا
حَقِيقَةٌ، فَرَجَعُوا عَنْهُ، وَاضْمَحَلَّ أَمْرُهُ، وَفَسَدَ حَالُهُ،
فَانْهَزَمَ عَنْهُمْ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمِيرُ الْمِصْرِيِّينَ، وَالْخُطْبَةُ
بِالْحَرَمَيْنِ لِلْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو سُلَيْمَانَ حَمْدُ - وَيُقَالُ: أَحْمَدُ - بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْخَطَّابِ الْخَطَّابِيُّ الْبُسْتِيُّ
أَحَدُ الْمَشَاهِيرِ الْأَعْيَانِ، وَالْفُقَهَاءِ الْمُحَدِّثِينَ
الْمُكْثِرِينَ، لَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ " مَعَالِمُ السُّنَنِ " وَ
" شَرْحُ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ
النَّافِعَةِ الْمُفِيدَةِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
مَا دُمْتَ حَيًّا فَدَارِ النَّاسَ كُلَّهُمُ فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ
الْمُدَارَاةِ مَنْ يَدْرِ دَارَى وَمَنْ لَمْ يَدْرِ سَوْفَ يُرَى
عَمَّا قَلِيلٍ نَدِيمًا لِلنَّدَامَاتِ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَدِينَةِ بُسْتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
بُكَيْرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الصَّيْرَفِيُّ الْحَافِظُ
الْمُطَبِّقُ
سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارَ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَالنَّجَّادَ
وَالْخُلْدِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ الشَّافِعِيَّ، وَعَنْهُ ابْنُ شَاهِينَ
وَالْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ
عَلَيْهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ أَجْزَاءٌ كِبَارٌ، فَجَعَلَ إِذَا سَاقَ إِسْنَادًا
أَوْرَدَ مَتْنَهُ مِنْ حِفْظِهِ، وَإِذَا سَرَدَ مَتْنًا سَاقَ إِسْنَادَهُ، قَالَ:
وَفَعَلْتُ هَذَا مَعَهُ مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يُورِدُ الْحَدِيثَ إِسْنَادًا
وَمَتْنًا كَمَا فِي كِتَابِهِ. قَالَ: وَكَانَ ثِقَةً، فَحَسَدُوهُ وَتَكَلَّمُوا
فِيهِ. وَحَكَى الْخَطِيبُ أَنَّ ابْنَ أَبِي الْفَوَارِسِ اتَّهَمَهُ بِأَنَّهُ
يَزِيدُ فِي سَمَاعِ الشُّيُوخِ وَيُلْحِقُ رِجَالًا فِي الْأَسَانِيدِ، وَيَصِلُ
الْمَقَاطِيعَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا عَنْ إِحْدَى
وَسِتِّينَ سَنَةً.
صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ بِلَادِ فَارِسَ خَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو نَصْرِ بْنُ
بَخْتِيَارَ، فَهَرَبَ مِنْهُ، وَلَجَأَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَكْرَادِ،
فَلَمَّا وَغَلُوا بِهِ فِي بِلَادِهِمْ نَهَبُوا خَزَائِنَهُ وَحَوَاصِلَهُ،
وَلَحِقَهُ أَصْحَابُ ابْنِ بَخْتِيَارَ، فَقَتَلُوهُ وَحَمَلُوا رَأْسَهُ فِي
طَسْتٍ، فَلَمَّا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ بَخْتِيَارَ قَالَ: هَذِهِ سُنَّةٌ
سَنَّهَا أَبُوكَ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَمُدَّةُ مُلْكِهِ
مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ وَأَشْهَرٌ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يُوسُفَ الْجَكَّارُ أَبُو الْقَاسِمِ
كَاتِبُ الْإِنْشَاءِ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ
ثُمَّ وَزَرَ لِابْنِهِ بَهَاءِ
الدَّوْلَةِ خَمْسَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ. تُوُفِّيَ فِي
شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْفَرَجِ
الْمَعْرُوفُ بِغُلَامِ الشَّنَبُوذِيِّ، كَانَ عَالِمًا بِالْقِرَاءَاتِ
وَتَفْسِيرِهَا، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ خَمْسِينَ أَلْفَ بَيْتٍ مِنَ
الشِّعْرِ، شَوَاهِدَ لِلْقُرْآنِ. وَمَعَ هَذَا تَكَلَّمُوا فِي رِوَايَتِهِ عَنْ
أَبِي الْحَسَنِ بْنِ شَنَبُوذَ، وَأَسَاءَ الدَّارَقُطْنِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ.
تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَانَ مَوْلِدُهُ سَنَةَ
ثَلَاثِمِائَةٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ، قَصَدَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ خُرَاسَانَ
فَاسْتَلَبَ مُلْكَهَا مِنْ أَيْدِي السَّامَانِيَّةِ، وَوَاقَعَهُمْ مَرَّاتٍ
مُتَعَدِّدَةً فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَمَا قَبْلَهَا، حَتَّى أَزَالَ اسْمَهُمْ
وَرَسْمَهُمْ عَنِ الْبِلَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَانْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ عَلَى
يَدَيْهِ ثُمَّ صَمَدَ لِقِتَالِهِمْ إِيلَكُ مَلِكُ التُّرْكِ بِمَا وَرَاءَ
النَّهْرِ - وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْخَانِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ:
فَائِقٌ - وَجَرَتْ لَهُ مَعَهُمْ حُرُوبٌ وَخُطُوبٌ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى بَهَاءُ الدَّوْلَةِ عَلَى بِلَادِ فَارِسٍ وَخُوزِسْتَانَ.
وَفِيهَا أَرَادَتِ الشِّيعَةُ أَنْ تَعْمَلَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَهُ مِنَ
الزِّينَةِ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي
الْحِجَّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ، فَقَاتَلَهُمْ جَهَلَةٌ آخَرُونَ مِنَ
الْمُنْتَسِبِينَ لِلسُّنَّةِ، فَادَّعَوْا أَنَّ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ
حُصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي الْغَارِ، فَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ مِنْ
هَؤُلَاءِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَائِلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ
مِنْ أَوَّلِ سِنِي الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُمَا أَقَامَا فِيهِ ثَلَاثًا، وَحِينَ
خَرَجَا مِنْهُ قَصَدَا الْمَدِينَةَ فَدَخَلَاهَا بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ
أَوْ نَحْوِهَا، وَكَانَ دُخُولُهُمَا الْمَدِينَةَ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَهَذَا أَمَرٌ مَعْلُومٌ مُقَرَّرٌ، وَلَمَّا كَانَتِ
الشِّيعَةُ يَصْنَعُونَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا يُظْهِرُونَ فِيهِ
الْحُزْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَابَلَتْهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ
جَهَلَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَادَّعَوْا أَنَّ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ
مِنَ الْمُحَرَّمِ، قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَعَمِلُوا لَهُ مَأْتَمًا
كَمَا تَعْمَلُ الشِّيعَةُ لِلْحُسَيْنِ، وَزَارُوا قَبْرَهُ كَمَا يُزَارُ قَبْرُ
الْحُسَيْنِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ مُقَابَلَةِ الْبِدْعَةِ بِبِدْعَةٍ مِثْلِهَا،
وَلَا يَرْفَعُ الْبِدْعَةَ إِلَّا السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيقُ.
وَفِيهَا وَقَعَ بَرْدٌ شَدِيدٌ مَعَ غَيْمٍ مُطْبِقٍ وَرِيحٍ قَوِيَّةٍ جِدًّا،
بِحَيْثُ أَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ النَّخِيلِ بِبَغْدَادَ، فَلَمْ
يَتَرَاجَعْ حَمْلُهَا إِلَى عَادَتِهَا إِلَّا بَعْدَ سِنِينَ.
وَحَجَّ بِرَكْبِ الْعِرَاقِ الشَّرِيفَانِ الرَّضِيُّ وَالْمُرْتَضِي،
فَاعْتَقَلَهُمَا أَمِيرُ الْأَعْرَابِ ابْنُ الْجَرَّاحِ، فَافْتَدَيَا مِنْهُ
بِتِسْعَةِ آلَافِ دِينَارٍ مِنْ أَمْوَالِهِمَا فَأَطْلَقَهُمَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى السَّرَخْسِيُّ الْمُقْرِئُ
الْفَقِيهُ الْمُحَدِّثُ
شَيْخُ عَصْرِهِ بِخُرَاسَانَ، قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ وَتَفَقَّهَ بِأَبِي
إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ إِمَامِ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَخَذَ عِلْمَ اللُّغَةِ
وَالْأَدَبِ وَالنَّحْوِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ
الْأَنْبَارِيِّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ سِتٍّ وَتِسْعِينَ سَنَةً.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُخَلَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَرْوَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
حَبَابَةَ
رَوَى عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ الْبَغَوِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ وَطَبَقَتِهِمَا،
وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا مُسْنِدًا، وُلِدَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو
حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وَدُفِنَ فِي مُقَابِلِ
جَامِعِ الْمَنْصُورِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَهَرَ بِأَرْضِ سِجِسْتَانَ مَعْدِنٌ مِنْ ذَهَبٍ كَانُوا
يَحْفِرُونَ فِيهِ مِثْلَ الْآبَارِ، وَيُخْرِجُونَ مِنْهُ ذَهَبًا أَحْمَرَ.
وَفِيهَا قُتِلَ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ بَخْتِيَارَ صَاحِبُ بِلَادِ
فَارِسٍ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا بَهَاءُ الدَّوْلَةِ.
وَفِيهَا قَلَّدَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ الْقَضَاءَ بِوَاسِطٍ وَأَعْمَالِهَا
لِأَبِي خَازِمٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيِّ، وَقُرِئَ عَهْدُهُ
بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَكَتَبَ لَهُ الْقَادِرُ وَصِيَّةً حَسَنَةً طَوِيلَةً،
أَوْرَدَهَا بِحُرُوفِهَا الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
مُنْتَظَمِهِ "، وَفِيهَا مَوَاعِظُ وَأَوَامِرُ وَنَوَاهٍ حَسَنَةٌ
جَيِّدَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى، أَبُو بَكْرٍ الْهَاشِمِيُّ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، الْقَاضِي بِالْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا، وَخَطَبَ بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَوَى عَنْهُ
الْجَمُّ الْغَفِيرُ بِانْتِخَابِ
أَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ الْحَافِظِ الْكَبِيرِ، وَكَانَ عَفِيفًا
نَزِهًا ثِقَةً دَيِّنًا. تُوَفِّيَ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ يَحْيَى، أَبُو الْقَاسِمِ الدَّقَّاقُ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ جَنِيقَا. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى بْنُ
الْفَرَّاءِ - وَهَذَا جَدُّهُ -: وَالصَّوَابُ جَلِيقَا بِاللَّامِ، لَا
بِالنُّونِ. وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ سَمَاعًا صَحِيحًا، وَرَوَى عَنْهُ
الْأَزْهَرِيُّ وَالْعَتِيقِيُّ، قَالَ ابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ: وَكَانَ ثِقَةً
مَأْمُونًا حَسَنَ الْخُلُقِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ فِي مَعْنَاهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ الْفَرَّاءِ
وَالِدُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَكَانَ صَالِحًا فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ، أَسْنَدَ الْحَدِيثَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ أَبُو خَازِمٍ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْبَغْدَادِيُّ
نَزِيلُ مِصْرَ، حَدَّثَ بِهَا، فَسَمِعَ مِنْهُ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ
بْنُ سَعِيدٍ الْمِصْرِيُّ.
عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو حَفْصٍ، الْمَعْرُوفُ
بِالْكَتَّانِيِّ الْمُقْرِئُ
وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثِمِائَةٍ. رَوَى عَنِ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ مُجَاهِدٍ وَابْنِ
صَاعِدٍ، وَعَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
هَارُونَ، أَبُو الْحُسَيْنِ الدَّقَّاقُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَخِي مِيمِي، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَغَيْرَهُ، وَعَنْهُ
جَمَاعَةٌ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى كِبَرِ سِنِّهِ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ
تُوُفِّيَ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا دَيِّنًا فَاضِلًا،
حَسَنَ الْأَخْلَاقِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ يَحْيَى
بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ، الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ
الْكُوفِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَسَمِعَ مِنْ أَبِي الْعَبَّاسِ
بْنِ عُقْدَةَ وَغَيْرِهِ، وَسَكَنَ بَغْدَادَ وَكَانَتْ لَهُ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ
وَضَيَاعٌ، وَدَخْلٌ عَظِيمٌ، وَحِشْمَةٌ وَافِرَةٌ، وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَكَانَ
مُقَدَّمًا عَلَى الطَّالِبِيِّينَ فِي وَقْتِهِ، وَقَدْ صَادَرَهُ عَضُدُ
الدَّوْلَةِ فِي وَقْتٍ، وَاسْتَحْوَذَ عَلَى جُمْهُورِ أَمْوَالِهِ وَسَجَنَهُ،
ثُمَّ أَطْلَقَهُ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ صَادَرَهُ
بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَكْثَرَ، ثُمَّ سَجَنَهُ، ثُمَّ
أَطْلَقَهُ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى بَغْدَادَ وَيُقَالُ: إِنَّ غِلَالَهُ كَانَتْ
تُسَاوِي فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَلَهُ وَجَاهَةٌ كَبِيرَةٌ
جِدًّا وَرِيَاسَةٌ بَاذِخَةٌ.
الْأُسْتَاذُ أَبُو الْفُتُوحِ بَرْجَوَانُ
النَّاظِرُ فِي الْأُمُورِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي الدَّوْلَةِ
الْحَاكِمِيَّةِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ حَارَةُ بَرْجَوَانَ بِالْقَاهِرَةِ
الْمُعِزِّيَّةِ، كَانَ أَوَّلًا مِنْ غِلْمَانِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ،
ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْحَاكِمِ نَافِذَ الْأَمْرِ مُطَاعًا كَبِيرًا فِي
الدَّوْلَةِ، ثُمَّ أَمَرَ بِقَتْلِهِ فِي الْقَصْرِ، فَضَرَبَهُ الْأَمِيرُ
رَيْدَانُ - الَّذِي تُنْسَبُ إِلَيْهِ الرَّيْدَانِيَّةُ خَارِجَ بَابِ
الْفُتُوحِ - بِسِكِّينٍ فِي بَطْنِهِ فَقَتَلَهُ، وَقَدْ تَرَكَ شَيْئًا كَثِيرًا
مِنَ الْأَثَاثِ وَالثِّيَابِ، مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ
سَرَاوِيلَ دَبِيقِيٍّ بِأَلْفِ
تِكَّةٍ مِنْ حَرِيرٍ، قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي كِتَابِهِ. وَوَلَّى
الْحَاكِمُ بَعْدَهُ فِي مَنْصِبِهِ الْأَمِيرَ حُسَيْنَ بْنَ الْقَائِدِ
جَوْهَرٍ.
الْجَرِيرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طَرَارَا
اسْمُهُ الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى بْنِ حُمَيْدِ بْنِ حَمَّادِ
بْنِ دَاوُدَ، أَبُو الْفَرَجِ النَّهْرَوَانِيُّ الْقَاضِي ; لِأَنَّهُ نَابَ فِي
الْحُكْمِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ طَرَارَا الْجَرِيرِيُّ ; لِاشْتِغَالِهِ عَلَى
ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، وَسُلُوكُهُ وَرَاءَهُ فِي مَذْهَبِهِ، سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنَ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ وَخَلْقٍ، وَرَوَى عَنْهُ
جَمَاعَةٌ، وَكَانَ ثِقَةً عَالِمًا فَاضِلًا، كَثِيرَ الْآدَابِ وَالتَّفَنُّنِ
فِي أَصْنَافِ الْعُلُومِ، وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ، مِنْهَا
كِتَابُهُ الْمُسَمَّى بِ " الْجَلِيسِ وَالْأَنِيسِ " فِيهِ فَوَائِدُ
جَمَّةٌ كَثِيرَةٌ.
وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَافِيُّ أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ،
يَقُولُ: إِذَا حَضَرَ الْمُعَافَى فَقَدْ حَضَرَتِ الْعُلُومُ كُلُّهَا، وَلَوْ
أَوْصَى رَجُلٌ بِثُلُثِ مَالِهِ لِأَعْلَمِ النَّاسِ لَوَجَبَ
أَنْ يُصْرَفَ إِلَيْهِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ فِي دَارِ بَعْضِ
الرُّؤَسَاءِ، وَفِيهِمُ الْمُعَافَى فَقَالُوا: هَلُمَّ نَتَذَاكَرْ فِي فَنٍّ
مِنَ الْعُلُومِ، فَقَالَ الْمُعَافَى لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ - وَكَانَتْ عِنْدَهُ
كُتُبٌ كَثِيرَةٌ فِي خِزَانَةٍ عَظِيمَةٍ -: مُرْ غُلَامَكَ أَنْ يَأْتِيَ
بِكِتَابٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ أَيِّ كِتَابٍ، فَنَتَذَاكَرَ فِيهِ، فَتَعَجَّبَ
الْحَاضِرُونَ مِنْ هَذَا التَّمَكُّنِ وَالتَّبَحُّرِ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: أَنْشَدَنَا الشَّيْخُ أَبُو الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيُّ قَالَ: أَنْشَدَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا لِنَفْسِهِ:
أَلَا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِدًا أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الْأَدَبْ
أَسَأْتَ عَلَى اللَّهِ فِي فِعْلِهِ
لِأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ فَجَازَاكَ عَنِّي بِأَنْ زَادَنِي
وَسَدَّ عَلَيْكَ وُجُوهَ الطَّلَبْ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ابْنُ فَارِسٍ
صَاحِبُ " الْمُجْمَلِ "، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ، كَمَا سَيَأْتِي.
أَمَةُ السَّلَامِ بِنْتُ الْقَاضِي
أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ كَامِلِ بْنِ خَلَفِ بْنِ شَجَرَةَ أُمُّ
الْفَتْحِ
سَمِعَتْ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَصَلَانِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهَا
الْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ وَأَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ وَغَيْرُهُمْ،
وَأَثْنَى عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ فِي دِينِهَا وَفَضْلِهَا وَسِيَادَتِهَا،
وَكَانَ مَوْلِدُهَا فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ، وَتُوُفِّيَتْ
فِي رَجَبٍ أَيْضًا مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا بَايَعَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ لِوَلَدِهِ أَبِي الْفَضْلِ
بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ، وَخُطِبَ لَهُ، وَلُقِّبَ بِالْغَالِبِ
بِاللَّهِ، وَكَانَ عُمُرُهُ حِينَئِذٍ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَشُهُورًا، وَلَمْ
يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبَ هَذِهِ الْعَجَلَةِ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ الْوَاثِقِيُّ، ذَهَبَ إِلَى بَعْضِ الْأَطْرَافِ
مِنْ بِلَادِ التُّرْكِ، وَادَّعَى أَنَّ الْقَادِرَ بِاللَّهِ جَعَلَهُ وَلِيَّ
عَهْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ، فَخَطَبُوا لَهُ هُنَالِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ الْقَادِرَ
أَمْرُهُ بَعَثَ يَتَطَلَّبُهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ فِي الْآفَاقِ وَتَمَزَّقَ
شَمْلُهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ فَسَجَنَهُ فِي قَلْعَةٍ إِلَى أَنْ
مَاتَ، فَلِهَذَا بَادَرَ الْقَادِرُ إِلَى هَذِهِ الْبَيْعَةِ.
وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وُلِدَ
الْأَمِيرُ أَبُو جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْقَادِرِ بِاللَّهِ، وَهَذَا
هُوَ الَّذِي صَارَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ، وَهُوَ الْقَائِمُ بِأَمَرِ اللَّهِ
وَفِيهَا قُتِلَ الْأَمِيرُ حُسَامُ الدَّوْلَةِ الْمُقَلَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ
الْعُقَيْلِيُّ غِيلَةً بِبِلَادِ الْأَنْبَارِ، وَكَانَ قَدْ عَظُمَ شَأْنُهُ
بِتِلْكَ الْبِلَادِ، وَرَامَ الْمَمْلَكَةَ، فَجَاءَهُ الْقَدَرُ الْمَحْتُومُ،
فَقَتَلَهُ بَعْضُ غِلْمَانِهِ الْأَتْرَاكِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ
وَلَدُهُ قِرْوَاشٌ، وَحَجَّ بِالنَّاسِ الْمِصْرِيُّونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
جَعْفَرُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، أَبُو الْفَضْلِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ
حِنْزَابَةَ الْوَزِيرُ
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ، وَنَزَلَ الدِّيَارَ
الْمِصْرِيَّةَ، وَوَزَرَ بِهَا لِأَمِيرِهَا كَافُورٍ الْإِخْشِيدِيِّ وَكَانَ
أَبُوهُ وَزِيرًا لِلْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ
هَارُونَ الْحَضْرَمِيِّ وَطَبَقَتِهِ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَكَانَ قَدْ
سَمِعَ مَجْلِسًا مِنَ الْبَغَوِيِّ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، فَكَانَ يَقُولُ:
مَنْ جَاءَنِي بِهِ أَغْنَيْتُهُ. وَكَانَ لَهُ مَجْلِسٌ لِإِمْلَاءِ الْحَدِيثِ
بِدِيَارِ مِصْرَ، وَبِسَبَبِهِ رَحَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِلَى هُنَاكَ، فَنَزَلَ
عِنْدَهُ وَخَرَّجَ لَهُ مُسْنَدًا، وَحَصَلَ لَهُ مِنْهُ مَالٌ جَزِيلٌ.
وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَكَابِرِ. وَمِنْ
مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
مَنْ أَخْمَلَ النَّفْسَ أَحْيَاهَا وَرَوَّحَهَا وَلَمْ يَبِتْ طَاوِيًا مِنْهَا
عَلَى ضَجَرِ إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا اشْتَدَّتْ عَوَاصِفُهَا
فَلَيْسَ تَرْمِي سِوَى الْعَالِي مِنَ الشَّجَرِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي صَفَرٍ - وَقِيلَ: فِي رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ - مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ بِالْقَرَافَةِ، وَقِيلَ: بِدَارِهِ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ قَدِ
اشْتَرَى دَارًا بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَجَعَلَهَا تُرْبَةً لَهُ،
فَلَمَّا نُقِلَ إِلَيْهَا تَلَقَّتْهُ الْأَشْرَافُ لِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ،
فَحَمَلُوهُ وَحَجُّوا بِهِ، وَأَوْقَفُوهُ بِعَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَعَادُوهُ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَدَفَنُوهُ بِتُرْبَتِهِ.
ابْنُ الْحَجَّاجِ الشَّاعِرُ، الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَجَّاجِ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ
الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ الْمُقْذِعُ فِي
نَظْمِهِ بِأَلْفَاظِ يَسْتَنْكِفُ اللِّسَانُ عَنِ التَّلَفُّظِ بِهَا،
وَالْأُذُنَانِ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ
الْعُمَّالِ، وَوَلِيَ هُوَ حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ عِزِّ الدَّوْلَةِ
بْنِ مُعِزِّ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ، فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهَا نُوَّابًا
سِتَّةً، وَتَشَاغَلَ هُوَ بِالشِّعْرِ السَّخِيفِ وَالرَّأْيِ الضَّعِيفِ، إِلَّا
أَنَّ شِعْرَهُ جَيِّدٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، وَفِيهِ قُوَّةٌ جَيِّدَةٌ تَدُلُّ
عَلَى تَمَكُّنٍ وَاقْتِدَارٍ عَلَى سَبْكِ الْمَعَانِي الْقَبِيحَةِ، الَّتِي
هِيَ فِي غَايَةِ الْفَضِيحَةِ، فِي الْأَلْفَاظِ الْفَصِيحَةِ، وَلَهُ غَيْرُ
ذَلِكَ مِنَ الْأَشْعَارِ الْمُسْتَجَادَةِ. وَقَدِ امْتَدَحَ مَرَّةً صَاحِبَ
مِصْرَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ.
وَقَوْلُ الْقَاضِي ابْنِ خَلِّكَانَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ عُزِلَ عَنْ حِسْبَةِ
بَغْدَادَ بِأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ. قَوْلٌ ضَعِيفٌ لَا يُسَامَحُ
بِمِثْلِهِ الْقَاضِي، فَإِنَّ أَبَا سَعِيدٍ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَكَيْفَ يُعْزَلُ بِهِ ابْنُ الْحَجَّاجِ ؟!
وَهُوَ لَا يُمْكِنُ عَادَةً أَنْ يَلِيَ الْحِسْبَةَ بَعْدَ أَبِي سَعِيدٍ
الْإِصْطَخْرِيِّ، وَلِكِبَرِ قَدْرِ ابْنِ خَلِّكَانَ فِي هَذِهِ الصَّنَاعَةِ
نَاقَشْنَاهُ، فَإِنَّهُ أَرَّخَ وَفَاةَ هَذَا الشَّاعِرِ بِهَذِهِ السَّنَةِ،
وَوَفَاةَ الْإِصْطَخْرِيِّ بِمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ جَمَعَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ
أَشْعَارَهُ الْجَيِّدَةَ عَلَى حِدَةٍ فِي دِيوَانٍ مُفْرَدٍ، وَرَثَاهُ حِينَ
تُوُفِّيَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ.
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ، أَبُو الْحَسَنِ الْخَوْزِيُّ
الْقَاضِي بِالْمُخَرَّمِ وَحَرِيمِ
دَارِ الْخِلَافَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِهَاتِ، وَكَانَ ظَاهِرِيًّا عَلَى
مَذْهَبِ دَاوُدَ، وَكَانَ لَطِيفًا ظَرِيفًا، تَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَكِيلَانِ،
فَبَكَى أَحَدُهُمَا فِي أَثْنَاءِ الْخُصُومَةِ، فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: أَرِنِي
وِكَالَتَكَ، فَنَاوَلَهُ فَقَرَأَهَا ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْكَ
أَنْ تَبْكِيَ عَنْهُ. فَاسْتَضْحَكَ النَّاسَ، وَنَهَضَ الْوَكِيلُ خَجِلًا.
عِيسَى بْنُ الْوَزِيرِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ دَاوُدَ بْنِ الْجَرَّاحِ، أَبُو
الْقَاسِمِ الْبَغْدَادِيُّ
وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ كِبَارِ الْوُزَرَاءِ، وَكَتَبَ هُوَ لِلطَّائِعِ أَيْضًا،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ صَحِيحَ السَّمَاعِ، كَثِيرَ الْعُلُومِ،
وَكَانَ عَارِفًا بِالْمَنْطِقِ وَعِلْمِ الْأَوَائِلِ، فَرَمَوْهُ بِشَيْءٍ مِنْ
مَذْهَبِ الْفَلَاسِفَةِ، وَمِنْ جَيِّدِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
رُبَّ مَيِّتٍ قَدْ صَارَ بِالْعِلْمِ حَيًّا وَمُبَقًّى قَدْ مَاتَ جَهْلًا
وَغَيًّا
فَاقْتَنُوا الْعِلْمَ كَيْ تَنَالُوا خُلُودًا لَا تَعُدُّوا الْحَيَاةَ فِي
الْجَهْلِ شَيًّا
كَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ فِي دَارِهِ بِبَغْدَادَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهَا غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ
بِلَادَ الْهِنْدِ، فَصَمَدَ مَلِكُهَا لَهُ جِيبَالُ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ،
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَفَتَحَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ،
وَانْهَزَمَتِ الْهُنُودُ، وَأُسِرَ مَلِكُهُمْ جِيبَالُ، وَأُخِذَ مِنْ عُنُقِهِ
قِلَادَةٌ قِيمَتُهَا ثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْهُمْ أَمْوَالًا عَظِيمَةً، وَفَتَحُوا بِلَادًا كَثِيرَةً، ثُمَّ أَطْلَقَ
مَحْمُودٌ مَلِكَ الْهِنْدِ ; احْتِقَارًا لَهُ وَاسْتِهَانَةً بِهِ، لِيَرَاهُ
أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ فِي لِبَاسِ الْمَذَلَّةِ، فَحِينَ وَصَلَ جِيبَالُ -
لَعَنَهُ اللَّهُ - إِلَى بِلَادِهِ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي النَّارِ الَّتِي
يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاحْتَرَقَ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا ثَارَتِ الْعَوَامُّ عَلَى النَّصَارَى
بِبَغْدَادَ، فَنَهَبُوا كَنِيسَتَهُمُ الَّتِي بِقَطِيعَةِ الرَّقِيقِ
وَأَحْرَقُوهَا، فَسَقَطَتْ عَلَى خَلْقٍ فَمَاتُوا، وَفِيهِمْ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ; رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ. وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا قَوِيَ
أَمْرُ الْعَيَّارِينَ، وَكَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ وَالنَّهْبُ بِبَغْدَادَ،
وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ ثَالِثِ ذِي الْقَعْدَةِ
انْقَضَّ كَوْكَبٌ أَضَاءَ
كَضَوْءِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ
التَّمَامِ، وَمَضَى الشُّعَاعُ وَبَقِيَ جِرْمُهُ يَتَمَوَّجُ نَحْوَ ذِرَاعَيْنِ
فِي ذِرَاعٍ بِرَأْيِ الْعَيْنِ، ثُمَّ تَوَارَى بَعْدَ سَاعَةٍ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ قَدِمَ الْحُجَّاجُ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى بَغْدَادَ
لِيَسِيرُوا إِلَى الْحِجَازِ، فَبَلَغَهُمْ عَيْثُ الْأَعْرَابِ بِالْفَسَادِ،
وَأَنَّهُ لَا قَاهِرَ لَهُمْ وَلَا نَاظِرَ يَنْظُرُ فِي أُمُورِهِمْ، فَرَجَعُوا
إِلَى بِلَادِهِمْ، وَلَمْ يَحُجَّ مِنْ بِلَادِ الْمَشْرِقِ أَحَدٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَفِي يَوْمِ عَرَفَةَ وُلِدَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ ابْنَانِ تَوْأَمَانِ،
فَمَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ، وَبَقِيَ الْآخَرُ حَتَّى قَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ أَبِيهِ، وَلُقِّبَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ وَحَجَّ
الْمِصْرِيُّونَ فِيهَا بِالنَّاسِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ الْمَوْصِلِيُّ النَّحْوِيُّ
اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْفَائِقَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ،
وَكَانَ أَبُوهُ جِنِّيٌّ عَبْدًا رُومِيًّا مَمْلُوكًا لِسُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدِ
بْنِ أَحْمَدَ الْأَزْدِيِّ الْمَوْصِّلِيِّ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي ذَلِكَ
قَوْلُهُ:
فَإِنْ أُصْبِحْ بِلَا نَسَبٍ فَعِلْمِي فِي الْوَرَى نَسَبِي عَلَى أَنِّي
أَؤُولُ إِلَى
قُرُومٍ سَاَدَةٍ نُجُبِ قَيَاصِرَةٍ إِذَا نَطَقُوا
أَرَمَّ الدَّهْرُ ذُو الْخُطُبِ
أُولَاكَ دَعَا النَّبِيُّ لَهُمْ
كَفَى شَرَفًا دُعَاءُ نَبِي
وَقَدْ أَقَامَ بِبَغْدَادَ، وَدَرَسَ بِهَا الْعِلْمَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مَنْ صَفَرٍ مِنْهَا، قَالَ
الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ أَعْوَرَ وَلَهُ فِي
ذَلِكَ:
صُدُودُكَ عَنِّي وَلَا ذَنْبَ لِي يَدُلُّ عَلَى نِيَّةٍ فَاسِدَهْ
فَقَدْ وَحَيَاتِكَ مِمَّا بَكَيْتُ خَشِيتُ عَلَى عَيْنِيَ الْوَاحِدَهْ
وَلَوْلَا مَخَافَةُ أَنْ لَا أَرَاكَ لَمَا كَانَ فِي تَرْكِهَا فَائِدَهْ
وَيُقَالُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِغَيْرِهِ.
وَلَهُ فِي مَمْلُوكٍ حَسَنِ الصُّورَةِ أَعْوَرَ:
لَهُ عَيْنٌ أَصَابَتْ كُلَّ عَيْنٍ وَعَيْنٌ قَدْ أَصَابَتْهَا الْعُيُونُ
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجُرْجَانِيُّ، الْقَاضِي
بِالرَّيِّ، الشَّاعِرُ الْمَاهِرُ
سَمِعَ الْحَدِيثَ وَتَرَقَّى فِي الْعُلُومِ حَتَّى أَقَرَّ لَهُ النَّاسُ
بِالتَّفَرُّدِ، وَلَهُ أَشْعَارٌ حِسَانٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ
الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ
النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلَّمَا بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي
سُلَّمَا
إِذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْتُ قَدْ أَرَى وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ
تَحْتَمِلُ الظَّمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ
الْعِلْمِ مُهْجَتِي لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْتُ لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً إِذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ
كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي
النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى
تَجَهَّمَا
وَمِنْ مُسْتَجَادِ شِعْرِهِ أَيْضًا:
مَا تَطَعَّمْتُ لَذَّةَ الْعَيْشِ حَتَّى صِرْتُ لِلْبَيْتِ وَالْكِتَابِ
جَلِيسًا
لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزَّ عِنْدِي مِنَ الْعِلْ مِ فَمَا أَبْتَغِي سِوَاهُ أَنِيسَا
إِنَّمَا الذُّلُّ فِي مُخَالَطَةِ النَّا سِ فَدَعْهُمْ وَعِشْ عَزِيزًا رَئِيسًا
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي
زَمَنِ الْعُسْرِ
فَسَلْ نَفْسَكَ الْإِنْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا عَلَيْكَ وَإِنْظَارًا إِلَى
زَمَنِ الْيُسْرِ
فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ فَكُلُّ مُنَوَّعٍ بَعْدَهَا
وَاسِعُ الْعُذْرِ
تُوُفِّيَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَحُمِلَ تَابُوتُهُ إِلَى
جُرْجَانَ فَدُفِنَ بِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ:
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الطَّائِعِ لِلَّهِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَفِيهَا مُنِعَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ الشِّيعَةِ مِنَ النَّوْحِ عَلَى الْحُسَيْنِ
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَمُنِعَ جَهَلَةُ السُّنَّةِ بِبَابِ الْبَصْرَةِ
وَبَابِ الشَّعِيرِ مِنَ النِّيَاحَةِ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بَعْدَ
ذَلِكَ بِثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، فَامْتَنَعَ الْفَرِيقَانِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِي أَوَاخِرِ الْمُحَرَّمِ خَلَعَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ وَزِيرَهُ أَبَا غَالِبٍ
مُحَمَّدَ بْنَ خَلَفٍ عَنِ الْوِزَارَةِ، وَصَادَرَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ
قَاسَانِيَّةٍ.
وَفِي أَوَائِلِ صَفَرٍ مِنْهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا،
وَعُدِمَتِ الْحِنْطَةُ حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ دِينَارًا.
وَفِيهَا بَرَزَ عَمِيدُ الْجُيُوشِ إِلَى سُورَا، وَاسْتَدْعَى سَيِّدَ
الدَّوْلَةِ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مَزْيَدٍ، وَقَرَّرَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ
سَنَةٍ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَالْتَزَمَ ذَلِكَ وَقَرَّرَهُ عَلَى
بِلَادِهِ.
وَفِيهَا هَرَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ
الضَّبِّيُّ وَزِيرُ مَجْدِ الدَّوْلَةِ بْنِ فَخْرِ الدَّوْلَةِ مِنَ الرَّيِّ
إِلَى بَدْرِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ فَأَكْرَمَهُ، وَوَلِيَ بَعْدَ ذَلِكَ وِزَارَةَ
مَجْدِ الدَّوْلَةِ أَبُو عَلِيٍّ الْخَطِيرُ.
وَفِيهَا اسْتَنَابَ الْحَاكِمُ عَلَى دِمَشْقَ وَجُيُوشِ الشَّامِ أَبَا
مُحَمَّدٍ الْأَسْوَدَ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُ عَزَّرَ رَجُلًا مَغْرِبِيًّا
عَلَى حُبِّهِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَطَافَ بِهِ فِي
الْبَلَدِ، فَخَافَ مِنْ مَعَرَّةِ ذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَعَزَلَهُ مَكْرًا
وَخَدِيعَةً. وَانْقَطَعَ الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْعِرَاقِ بِسَبَبِ
الْأَعْرَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو إِسْحَاقَ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ، مُقَدَّمُ الْمُعَدِّلِينَ بِبَغْدَادَ، وَشَيْخُ
الْقِرَاءَاتِ، وَقَدْ سَمِعَ الْكَثِيرَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَخَرَّجَ لَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ خَمْسَمِائَةِ جُزْءِ حَدِيثٍ، وَكَانَ كَرِيمًا مُفَضَّلًا
عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الطَّائِعُ لِلَّهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ الْمُطِيعِ
تَقَدَّمَ كَيْفَ خَلَعَهُ بِهَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرِ بْنُ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ، وَأَنَّهُ أُودِعَ فِي غُرْفَةٍ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَأُجْرِيَ
عَلَيْهِ أَرْزَاقٌ كَثِيرَةٌ وَأَلْطَافٌ غَزِيرَةٌ، إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ
لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَدْ
بَاشَرَ الْخِلَافَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةَ
أَيَّامٍ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ خَمْسًا،
وَشَهِدَ جِنَازَتَهُ الْأَكَابِرُ وَالْأَعْيَانُ، وَدُفِنَ بِالرُّصَافَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
زَكَرِيَّا، أَبُو طَاهِرٍ الْمُخَلِّصُ
شَيْخٌ كَبِيرٌ كَثِيرُ الرِّوَايَةِ، سَمِعَ الْبَغَوِيَّ وَابْنَ صَاعِدٍ
وَخَلْقًا، وَعَنْهُ الْبَرْقَانِيُّ وَالْأَزْهَرِيُّ وَالْخَلَّالُ
وَالتَّنُوخِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً مِنَ الصَّالِحِينَ، تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو الْحَسَنِ السَّلَامِيُّ
الشَّاعِرُ الْمُجِيدُ، لَهُ شِعْرٌ مَشْهُورٌ، وَمَدَائِحُ فِي عَضُدِ
الدَّوْلَةِ وَغَيْرِهِ.
مَيْمُونَةُ بِنْتُ شَاقُولَةَ
الْوَاعِظَةُ الَّتِي هِيَ لِلْقُرْآنِ حَافِظَةٌ، ذَكَرَتْ يَوْمًا فِي وَعْظِهَا
أَنَّ ثَوْبَهَا الَّذِي عَلَيْهَا - وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ - لَهُ فِي صُحْبَتِهَا
تَلْبَسُهُ مُنْذُ سَبْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَمَا تَغَيَّرَ، وَأَنَّهُ كَانَ
مِنْ غَزْلِ أُمِّهَا، قَالَتْ: وَالثَّوْبُ إِذَا لَمْ يُعْصَ اللَّهُ فِيهِ، لَا
يَتَخَرَّقُ سَرِيعًا. وَقَالَ ابْنُهَا عَبْدُ الصَّمَدِ: كَانَ فِي دَارِنَا
حَائِطٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَقُلْتُ لَهَا: أَلَا نَدْعُوَ الْبَنَّاءَ
لِيُصْلِحَ هَذَا الْجِدَارَ ؟ فَأَخَذَتْ رُقْعَةً، فَكَتَبَتْ
فِيهَا شَيْئًا، ثُمَّ أَمَرَتْنِي أَنْ أَضَعَهَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْجِدَارِ، فَوَضَعْتُهَا، فَمَكَثَ عَلَى ذَلِكَ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا تُوُفِّيَتْ أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَعْلِمَ مَا كَتَبَتْ فِي الرُّقْعَةِ فَحِينَ أَخَذْتُهَا مِنَ الْجِدَارِ سَقَطَ، وَإِذَا فِي الرُّقْعَةِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا [ فَاطِرٍ: 41 ] بِسْمِ اللَّهِ يَا مُمْسِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَمْسِكْهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
وَفِيهَا وَلَّى بَهَاءُ الدَّوْلَةِ الشَّرِيفَ أَبَا أَحْمَدَ الْحُسَيْنَ بْنَ
أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى الْمُوسَوِيَّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ وَالْحَجَّ وَالْمَظَالِمَ
وَنِقَابَةَ الطَّالِبِيِّيِنَ، وَلُقِّبَ بِالطَّاهِرِ الْأَوْحَدِ ذِي
الْمَنَاقِبِ، وَكَانَ التَّقْلِيدُ لَهُ بِشِيرَازَ، فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ
إِلَى بَغْدَادَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ فِي قَضَاءِ
الْقُضَاةِ، فَتَوَقَّفَ حَالُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا مَلَكَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ وَاصِلٍ بِلَادَ الْبَطِيحَةِ، وَأَخْرَجَ
مِنْهَا مُهَذِّبَ الدَّوْلَةِ فَقَصَدَهُ زَعِيمُ الْجُيُوشِ لِيَأْخُذَهَا
مِنْهُ، فَهَزَمَهُ ابْنُ وَاصِلٍ وَنَهَبَ أَمْوَالَهُ وَحَوَاصِلَهُ، وَكَانَ
فِي جُمْلَةِ مَا أَصَابَ فِي خَيْمَةِ الْخِزَانَةِ ثَلَاثُونَ أَلْفَ دِينَارٍ
وَخَمْسُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَفِيهَا خَرَجَ الرَّكْبُ الْعِرَاقِيُّ فِي جَحْفَلٍ كَبِيرٍ وَتَجَمُّلٍ
كَثِيرٍ، فَاعْتَرَضَهُمُ الْأُصَيْفِرُ أَمِيرُ الْأَعْرَابِ لِيَنْهَبَهُمْ،
فَبَعَثُوا إِلَيْهِ بِشَابَّيْنِ قَارِئَيْنِ مُجِيدَيْنِ كَانَا مَعَهُمْ -
يُقَالُ لَهُمَا: أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الرَّفَّاءِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ
بْنُ الدَّجَاجِيِّ، وَكَانَا مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ قِرَاءَةً - لِيُكَلِّمَاهُ
فِي شَيْءٍ يَأْخُذُهُ مِنَ الْحَجِيجِ، وَيُطْلِقُ سَرَاحَهُمْ ;
لِيُدْرِكُوا الْحَجَّ، فَلَمَّا
جَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ قَرَآ جَمِيعًا عَشْرًا بِأَصْوَاتٍ هَائِلَةٍ
مَطْبُوعَةٍ، فَأَدْهَشَهُ ذَلِكَ وَأَعْجَبَهُ جِدًّا، وَقَالَ لَهُمَا: كَيْفَ
عَيْشُكُمَا بِبَغْدَادَ ؟ فَقَالَا: بِخَيْرٍ، لَا يَزَالُ النَّاسُ
يُكْرِمُونَنَا وَيَبْعَثُونَ إِلَيْنَا بِالذَّهَبِ وَالدَّرَاهِمِ وَالتُّحَفِ،
فَقَالَ: هَلْ أَطْلَقَ لَكُمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ ؟
فَقَالَا: لَا، وَلَا أَلْفَ دِينَارٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ؟!، قَالَ: فَإِنِّي
أُطْلِقُ لَكُمَا أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ. فَأَطْلَقَ بِسَبَبِهِمَا الْحَجِيجَ،
فَلَمْ يَعْرِضْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، وَذَهَبَ النَّاسُ، وَهُمْ سَالِمُونَ
شَاكِرُونَ لِذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ الْمُقْرِئَيْنِ. وَلَمَّا وَقَفَ النَّاسُ
بِعَرَفَاتٍ قَرَأَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ قِرَاءَةً عَظِيمَةً عَلَى جَبَلِ
الرَّحْمَةِ، فَضَجَّ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الرُّكُوبِ لِقِرَاءَتِهِمَا،
وَقَالُوا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا
مَعَكُمْ بِهَذَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ
يُصَابَا جَمِيعًا، بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَخْرُجُوا بِأَحَدِهِمَا، فَإِذَا
أُصِيبَ سَلِمَ الْآخَرُ. وَكَانَتِ الْحُجَّةُ وَالْخُطْبَةُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ أَيْضًا لِلْمِصْرِيِّينَ كَمَا هِيَ لَهُمْ مِنْ سِنِينَ
مُتَقَدِّمَةٍ.
وَقَدْ كَانَ أَمِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ عَزَمَ عَلَى الْعَوْدِ سَرِيعًا إِلَى
بَغْدَادَ عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّتِي جَاءُوا مِنْهَا، وَأَنْ لَا يَسِيرَ إِلَى
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ; خَوْفًا مِنَ الْأَعْرَابِ، وَكَثْرَةِ
الْخِفَارَاتِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ، فَوَقَفَ هَذَانِ الْقَارِئَانِ
عَلَى جَادَّةِ الطَّرِيقِ الَّتِي مِنْهَا يُعْدَلُ إِلَى الْمَدِينَةِ
النَّبَوِيَّةِ، وَقَرَآ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ
الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ [ التَّوْبَةِ: 120 ] الْآيَاتِ. فَضَجَّ النَّاسُ
بِالْبُكَاءِ، وَأَمَالَتِ النُّوقُ أَعْنَاقَهَا نَحْوَهُمَا، فَمَالَ
النَّاسُ وَالْأَمِيرُ بِأَجْمَعِهِمْ
مَيْلَةً وَاحِدَةً إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَزَارُوا وَعَادُوا
سَالِمِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَلَمَّا رَجَعَ هَذَانِ الْقَارِئَانِ رَتَّبَهُمَا وَلِيُّ الْأَمْرِ مَعَ أَبِي
بَكْرِ بْنِ الْبُهْلُولِ - وَكَانَ مُقْرِئًا مُجِيدًا أَيْضًا - لِيُصَلُّوا
بِالنَّاسِ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ، فَكَثُرَ الْجَمْعُ وَرَاءَهُمْ
لِحُسْنِ تِلَاوَتِهِمْ، وَكَانُوا يَتَنَاوَبُونَ فِي الْإِمَامَةِ.
وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ الْبُهْلُولِ يَوْمًا فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ قَوْلَهُ
تَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ
اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [ الْحَدِيدِ: 16 ] فَنَهَضَ إِلَيْهِ رَجُلٌ
صُوفِيٌّ، وَهُوَ يَتَمَايَلُ، فَقَالَ: كَيْفَ قُلْتَ ؟ فَأَعَادَ الْآيَةَ،
فَقَالَ الصُّوفِيُّ: بَلَى وَاللَّهِ، وَسَقَطَ مَيِّتًا رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ
ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِأَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْخَشَّابِ شَيْخِ
ابْنِ الرَّفَّا، وَكَانَ تِلْمِيذًا لِأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَدَمِيِّ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهُ، وَكَانَ جَيِّدَ الْقِرَاءَةِ حَسَنَ الصَّوْتِ أَيْضًا، قَرَأَ ابْنُ
الْخَشَّابِ لَيْلَةً فِي جَامِعِ الرُّصَافَةِ فِي الْإِحْيَاءِ هَذِهِ الْآيَةَ:
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
فَتَوَاجَدَ رَجُلٌ صُوفِيٌّ، وَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ قَدْ آنَ. وَجَلَسَ
وَبَكَى بُكَاءً طَوِيلًا، ثُمَّ سَكَتَ سَكْتَةً، فَحَرَّكُوهُ فَإِذَا هُوَ
مَيِّتٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، أَبُو عَلِيٍّ الْإِسْكَافِيُّ،
وَيُلَقَّبُ بِالْمُوَفَّقِ
كَانَ مُقَدَّمًا عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَوَلَّاهُ بَغْدَادَ فَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً مِنَ الْيَهُودِ ثُمَّ هَرَبَ إِلَى الْبَطِيحَةِ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَتَيْنِ، ثُمَّ قَدِمَ بَغْدَادَ فَوَلَّاهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ الْوِزَارَةَ، وَكَانَ شَهْمًا مَنْصُورًا فِي الْحُرُوبِ، ثُمَّ عَاقَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَتَلَهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا عَادَ مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَلَمْ يُمَانِعْهُ ابْنُ
وَاصِلٍ، وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ خَمْسُونَ
أَلْفَ دِينَارٍ. وَفِيهَا كَانَ غَلَاءٌ عَظِيمٌ وَفَنَاءٌ بِبِلَادٍ
بِإِفْرِيقِيَّةَ، بِحَيْثُ تَعَطَّلَتِ الْمَخَابِزُ وَالْحَمَّامَاتُ، وَذَهَبَ
خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَنَاءِ، وَهَلَكَ آخَرُونَ مِنْ شِدَّةِ الْغَلَاءِ،
فَلِلَّهِ الْأَمَرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ الْمَسْئُولُ الْمَأْمُولُ
أَنْ يُحْسِنَ الْعَاقِبَةَ.
وَفِيهَا أَصَابَ الْحَجِيجَ فِي الطَّرِيقِ عَطَشٌ شَدِيدٌ بِحَيْثُ هَلَكَ
كَثِيرٌ مِنْهُمْ، وَكَانَتِ الْخِطْبَةُ لِلْمِصْرِيِّينَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو نَصْرٍ
الْبُخَارِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْمَلَاحِمِيِّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ
بِهَا عَنْ مَحْمُودِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَى عَنِ
الْهَيْثَمِ بْنِ كُلَيْبٍ وَغَيْرِهِ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ،
وَكَانَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ بِبُخَارَى فِي شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، أَبُو الْحَسَنِ
الْعَلَوِيُّ
وُلِدَ بِهَمَذَانَ، وَنَشَأَ بِبَغْدَادَ، وَكَتَبَ الْحَدِيثَ عَنْ جَعْفَرٍ
الْخُلْدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَسَمِعَ بِنَيْسَابُورَ مِنَ الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ،
وَدَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، ثُمَّ
دَخَلَ الشَّامَ فَصَحِبَ الصُّوفِيَّةَ، حَتَّى صَارَ مِنْ كِبَارِهِمْ، وَحَجَّ
مَرَّاتٍ عَلَى الْوَحْدَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ.
ابْنُ فَارِسٍ: أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ فَارِسِ بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الرَّازِيُّ اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ " الْمُجْمَلِ " فِي اللُّغَةِ، وَكَانَ مُقِيمًا بِهَمَذَانَ،
وَلَهُ رَسَائِلُ حِسَانٌ، أَخَذَ عَنْهُ الْبَدِيعُ صَاحِبُ الْمَقَامَاتِ،
وَمِنْ رَائِقِ شِعْرِهِ قَوْلُهُ
مَرَّتْ بِنَا هَيْفَاءُ مَجْدُولَةٌ تُرْكِيَّةٌ تَنْمِي لِتُرْكِيِّ تَرْنُو
بِطَرْفٍ فَاتِرٍ فَاتِنٍ
أَضْعَفَ مِنْ حُجَّةِ نَحْوِيِّ
وَلَهُ أَيْضًا:
إِذَا كُنْتَ فِي حَاجَةِ مُرْسِلًا وَأَنْتَ بِهَا كَلِفٌ مُغْرَمُ
فَأَرْسِلْ حَكِيمًا وَلَا تُوصِهِ وَذَاكَ الْحَكِيمُ هُوَ الدِّرْهَمُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقِيلَ:
سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ مُسْتَهَلِّ شَعْبَانَ طَلَعَ
نَجْمٌ يُشْبِهُ الزُّهَرَةَ فِي كِبَرِهِ وَضَوْئِهِ عَنْ يُسْرَةِ الْقِبْلَةِ
يَتَمَوَّجُ، وَلَهُ شُعَاعٌ عَلَى الْأَرْضِ كَشُعَاعِ الْقَمَرِ، وَثَبَتَ إِلَى
النِّصْفِ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ غَابَ.
وَفِيهَا وَلِيَ مُحَمَّدُ بْنُ الْأَكْفَانِيِّ قَضَاءَ جَمِيعِ بَغْدَادَ
وَفِيهَا جَلَسَ الْقَادِرُ لِلْأَمِيرِ قِرْوَاشِ بْنِ أَبِي حَسَّانَ
وَأَفْرَدَهُ فِي إِمَارَةِ الْكُوفَةِ، وَلَقَّبَهُ مُعْتَمِدَ الدَّوْلَةِ.
وَفِيهَا قُلِّدَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ، وَلُقِّبَ
بِالرَّضِيِّ ذِي الْحَسَبَيْنِ، وَلُقِّبَ أَخُوهُ الْمُرْتَضَى ذَا
الْمَجْدَيْنِ.
وَفِيهَا غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ
الْهِنْدِ، فَافْتَتَحَ مُدُنًا كِبَارًا مِنْهَا، وَأَخَذَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَأَسَرَ بَعْضَ مُلُوكِهِمْ، وَهُوَ مَلِكُ كَوَاشَى حِينَ هَرَبَ مِنْهُ لَمَّا
افْتَتَحَهَا، وَكَسَّرَ أَصْنَامَهَا، فَأَلْبَسَهُ مِنْطَقَةً، وَشَدَّهَا عَلَى
وَسَطِهِ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ، وَقَطَعَ خِنْصَرَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ ;
إِهَانَةً لَهُ وَإِظْهَارًا لِعَظَمَةِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَفِيهَا كَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ لِلْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ،
وَتَجَدَّدُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ أَنَّهُ
إِذَا ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْحَاكِمَ
يَقُومُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلُوا بِدِيَارِ مِصْرَ مَعَ زِيَادَةِ
السُّجُودِ، وَكَانُوا يَسْجُدُونَ عِنْدَ ذِكْرِهِ ; يَسْجُدُ مَنْ هُوَ فِي
الصَّلَاةِ، وَمَنْ هُوَ فِي الْأَسْوَاقِ أَيْضًا يَسْجُدُونَ لِسُجُودِهِمْ،
لَعَنَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو سَعْدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ
أَبُو سَعْدٍ الْجُرْجَانِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَرَدَ بَغْدَادَ وَالدَّارَقُطْنِيُّ حَيٌّ،
وَحَدَّثَ عَنْ أَبِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَالْأَصَمِّ وَابْنِ
عَدِيٍّ، وَحَدَّثَ عَنْهُ الْخَلَّالُ وَالتَّنُوخِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً فَاضِلًا،
فَقِيهًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، عَارِفًا بِالْعَرَبِيَّةِ، سَخِيًّا
جَوَّادًا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَهُ وَرَعٌ، وَالرِّيَاسَةُ إِلَى الْيَوْمِ
فِي بَلَدِهِ إِلَى وَلَدِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: سَمِعْتُ الشَّيْخَ أَبَا الطِّيبِ
الطَّبَرِيَّ يَقُولُ: وَرَدَ أَبُو سَعْدٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ بَغْدَادَ فَعَقَدَ
لَهُ الْفُقَهَاءُ مَجْلِسَيْنِ ; تَوَلَّى أَحَدَهُمَا أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَتَوَلَّى الثَّانِيَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَافِيُّ،
فَبَعَثَ الْبَافِيُّ إِلَى الْقَاضِي الْمُعَافَى بْنِ زَكَرِيَّا الْجَرِيرِيِّ
يَسْتَدْعِيهِ إِلَى حُضُورِ الْمَجْلِسِ ; لِيَتَجَمَّلَ بِحُضُورِهِ، وَكَانَتِ
الرِّسَالَةُ مَعَ وَلَدِهِ أَبِي الْفَضْلِ، وَكَتَبَ عَلَى يَدِهِ هَذَيْنَ
الْبَيْتَيْنِ:
إِذَا أَكْرَمَ الْقَاضِي الْجَلِيلُ
وَلِيَّهُ وَصَاحَبَهُ أَلْفَاهُ لِلشُّكْرِ مَوْضِعَا وَلِي حَاجَةٌ يَأْتِي
بُنَيَّ بِذَكْرِهَا
وَيَسْأَلُهُ فِيهَا التَّطَوُّلَ أَجْمَعَا
فَأَجَابَهُ الْجَرِيرِيُّ مَعَ وَلَدِ الشَّيْخِ:
دَعَا الشُّيْخُ مِطْوَاعًا سَمِيعًا لِأَمْرِهِ يُوَاتِيهِ بَاعًا حَيْثُ
يَرْسُمُ أَصْبُعَا
وَهَا أَنَا غَادٍ فِي غَدٍ نَحْوَ دَارِهِ أُبَادِرُ مَا قَدْ حَدَّهُ لِي
مُسْرِعَا
وَكَانَتْ وَفَاةُ أَبِي سَعْدٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فَجْأَةً بِجُرْجَانَ فِي
رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ، فِي صَلَاةِ
الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا قَرَأَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [
الْفَاتِحَةِ: 5 ] فَاضَتْ نَفْسُهُ فَمَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ بَحِيرٍ، أَبُو عَمْرٍو الْمُزَكِّي
الْحَافِظُ النَّيْسَابُورِيُّ، وَيُعْرَفُ بِالْبَحِيرِيِّ، رَحَلَ إِلَى
الْآفَاقِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَكَانَ حَافِظًا جَيِّدَ الْمُذَاكَرَةِ،
ثِقَةً، ثَبْتًا، حَدَّثَ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَتُوَفِّيَ
فِي شَعْبَانِ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ الْحَافِظُ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مَنْدَهْ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَصْفَهَانِيُّ
الْحَافِظُ
مِنْ بَيْتِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ، رَحَلَ
إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ " التَّارِيخَ " وَ " الشُّيُوخَ ". قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ: مَا رَأَيْتُ أَحْفَظَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ. تُوُفِّيَ بِأَصْفَهَانَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا بِرَحْمَتِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَ خُرُوجُ أَبِي رَكْوَةَ عَلَى الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ صَاحِبِ
مِصْرَ.
وَمُلَخَّصُ أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ سُلَالَةِ هِشَامِ بْنِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ الْأُمَوِيِّ، وَاسْمُهُ الْوَلِيدُ، وَإِنَّمَا
لُقِّبَ بِأَبِي رَكْوَةَ ; لِرَكْوَةٍ كَانَ يَسْتَصْحِبُهَا فِي أَسْفَارِهِ
عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ، وَقَدْ كَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ بِالْيَمَنِ، ثُمَّ دَخَلَ
الشَّامَ وَهُوَ فِي غُبُونِ هَذَا كُلِّهِ يُبَايِعُ مَنِ انْقَادَ لَهُ، مِمَّنْ
يَرَى عِنْدَهُ هِمَّةً وَنَهْضَةً لِلْقَائِمِ مِنْ وَلَدِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْأُمَوِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقَامَ بِبَعْضِ بِلَادِ مِصْرَ فِي
حَلَّةٍ مِنْ حِلَالِ الْعَرَبِ، يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ، وَيُظْهِرُ النُّسُكَ
وَالتَّقَشُّفَ وَالْعِبَادَةَ وَالْوَرَعَ، وَيُخْبِرُ بِشَيْءٍ مِنَ
الْمُغَيَّبَاتِ، حَتَّى خَضَعُوا لَهُ وَعَظَّمُوهُ جِدًّا، ثُمَّ دَعَا إِلَى
نَفْسِهِ، وَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّهُ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ
الْأُمَوِيِّينَ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ وَخَضَعُوا، وَخَاطَبُوهُ بِأَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ، وَلُقِّبَ بِالثَّائِرِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْمُنْتَصِرِ مِنْ
أَعْدَاءِ اللَّهِ.
وَدَخَلَ بَرْقَةَ فِي جَحْفَلٍ، فَجَمَعَ لَهُ أَهْلُهَا نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ
أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَخَذَ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ اتُّهِمَ بِشَيْءِ مِنَ
الْوَدَائِعِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ أَيْضًا، وَنَقَشُوا
الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ بِأَلْقَابِهِ، وَخَطَبَ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ،
وَلَعَنَ الْحَاكِمَ فِي خُطْبَتِهِ - وَنِعِمَّا فَعَلَ - فَالْتَفَّ عَلَى أَبِي
رَكْوَةَ مِنَ الْجُنُودِ نَحْوٌ مَنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا،
فَلَمَّا بَلَغَ الْحَاكِمَ أَمْرُهُ
وَمَا آلَ إِلَيْهِ حَالُهُ، بَعَثَ بِخَمْسِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَخَمْسَةِ
آلَافِ ثَوْبٍ مِنَ الْحَرِيرِ إِلَى مُقَدَّمِ جُيُوشِ أَبِي رَكْوَةَ - وَهُوَ
الْفَضْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ وَيَثْنِيهِ عَنْ أَبِي
رَكْوَةَ، فَحِينَ وَصَلَتْهُ الْأَمْوَالُ مِنَ الْحَاكِمِ، رَجَعَ عَنْ أَبِي
رَكْوَةَ، وَقَالَ: إِنَّا لَا طَاقَةَ لَنَا بِالْحَاكِمِ، وَمَا دُمْتَ بَيْنَ
أَظْهُرِنَا فَنَحْنُ مَطْلُوبُونَ بِسَبَبِكَ، فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ بَلَدًا
تَكُونُ فِيهَا. فَسَأَلَ أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ فَارِسَيْنِ يُوصِّلَانِهِ إِلَى
النَّوْبَةِ فَإِنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَلِكِهَا مَوَدَّةً وَصُحْبَةً،
فَأَرْسَلَهُ، ثُمَّ بَعَثَ وَرَاءَهُ مَنْ رَدَّهُ إِلَى الْحَاكِمِ بِمِصْرَ،
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ أَرْكَبَهُ جَمَلًا وَأَشْهُرَهُ، ثُمَّ قَتَلَهُ فِي
الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ أَكْرَمَ الْحَاكِمُ الْفَضْلَ، وَأَقْطَعَهُ إِقْطَاعَاتٍ
كَثِيرَةً. وَاتَّفَقَ مَرَضُ الْفَضْلِ، فَعَادَهُ الْحَاكِمُ مَرَّتَيْنِ،
فَلَمَّا عُوفِيَ قَتَلَهُ، وَأَلْحَقَهُ بِصَاحِبِهِ أَيْضًا، وَكَافَأَهُ
مُكَافَأَةَ التِّمْسَاحِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا عُزِلَ قِرْوَاشٌ عَمَّا كَانَ بِيَدِهِ وَوَلِيَهُ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مَزْيَدٍ، وَلُقِّبَ بِسَنَدِ الدَّوْلَةِ.
وَفِيهَا هَزَمَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ أَتْلَكَ
مَلِكَ التُّرْكِ عَنْ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَقَتَلَ مِنَ الْأَتْرَاكِ خَلْقًا
كَثِيرًا.
وَفِيهَا قُتِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ وَاصِلٍ صَاحِبُ الْبَصْرَةِ وَحُمِلَ
رَأْسُهُ إِلَى بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، فَطِيفَ بِهِ بِخُرَاسَانَ وَفَارِسٍ.
وَفِيهَا ثَارَتْ عَلَى الْحَجِيجِ وَهُمْ بِالطَّرِيقِ رِيحٌ سَوْدَاءُ
مُظْلِمَةٌ جِدًّا، وَاعْتَرَضَهُمُ
ابْنُ الْجَرَّاحِ أَمِيرُ الْأَعْرَابِ
فَاعْتَاقَهُمْ عَنِ الذَّهَابِ، فَفَاتَهُمُ الْحَجُّ فَرَجَعُوا إِلَى بَغْدَادَ
فَدَخَلُوهَا فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ
لِلْمِصْرِيِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الدِّينَوَرِيُّ
الْوَاعِظُ الزَّاهِدُ، قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَدَرَسَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ عَلَى
أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدَ
بْنِ سَلْمَانَ النَّجَّادِ، وَرَوَى عَنْهُ الْأَزَجِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ،
وَكَانَ ثِقَةً صَالِحًا، يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ،
وَاسْتِعْمَالِ الصِّدْقِ الْمَحْضِ، وَالتَّعَفُّفِ وَالتَّقَشُّفِ، وَالْأَمْرِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَحُسْنِ وَعْظِهِ وَنَفْعِهِ فِي
الْقُلُوبِ.
جَاءَهُ يَوْمًا رَجُلٌ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَقَالَ: أَنَا غَنِيٌّ عَنْهَا.
قَالَ: خُذْهَا فَفَرِّقْهَا عَلَى أَصْحَابِكَ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ: ضَعْهَا عَلَى
الْأَرْضِ، فَوَضَعَهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْجَمَاعَةِ: لِيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْكُمْ حَاجَتَهُ مِنْهَا، فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ بِقَدْرِ حَاجَاتِهِمْ حَتَّى
أَنْفَذُوهَا، وَجَاءَ وَلَدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَشَكَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُمْ،
فَقَالَ: اذْهَبْ إِلَى الْبَقَّالِ، فَخُذْ عَلَيَّ رُبُعَ رِطْلِ تَمْرٍ.
وَرَآهُ رَجُلٌ، وَقَدِ اشْتَرَى دَجَاجَةً وَحَلْوَاءَ، فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ،
فَاتَّبَعَهُ فَانْتَهَى
إِلَى دَارٍ فِيهَا أَرَامِلُ
وَأَيْتَامٌ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ.
وَقَدْ كَانَ يَدُقُّ السُّعْدَ لِلْعَطَّارِينَ بِالْأُجْرَةِ وَيَقْتَاتُ
مِنْهُ. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ جَعَلَ يَقُولُ: سَيِّدِي، لِهَذِهِ
السَّاعَةِ خَبَّأْتُكَ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ لِسَبْعٍ
بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ
الْمَنْصُورِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ وَاصِلٍ
صَاحِبُ سِيرَافَ وَالْبَصْرَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ، كَانَ أَوَّلًا
يَخْدِمُ بِالْكَرْخِ، وَكَانَ مُتَصَوَّرًا لَهُ أَنَّهُ سَيَمْلِكُ، فَكَانَ
أَصْحَابُهُ يَهْزَءُونَ بِهِ وَيَمْجُنُونَ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ:
إِذَا مَلَكْتَ فَاسْتَخْدِمْنِي، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اخْلَعْ عَلَيَّ، وَيَقُولُ
الْآخَرُ: عَاقِبْنِي. فَقُدِّرَ لَهُ أَنْ تَتَقَلَّبَ بِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى
أَنْ مَلَكَ سِيرَافَ ثُمَّ الْبَصْرَةَ وَأَخَذَ بِلَادَ الْبَطِيحَةِ مِنْ
مُهَذِّبِ الدَّوْلَةِ وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا طَرِيدًا، بِحَيْثُ إِنَّهُ احْتَاجَ
فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ إِلَى أَنْ رَكِبَ بَقَرَةً، وَاسْتَحْوَذَ ابْنُ
وَاصِلٍ عَلَى مَا هُنَاكَ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَوَاصِلِ، وَقَصَدَ
الْأَهْوَازَ، وَهَزَمَ بِهَاءَ الدَّوْلَةِ، ثُمَّ ظَفِرَ بِهِ بَهَاءُ
الدَّوْلَةِ، فَقَتَلَهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَطِيفَ بِرَأْسِهِ
فِي الْبِلَادِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا يَمِينُ الدَّوْلَةِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ
الْهِنْدِ، فَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَأَخَذَ أَمْوَالًا جَزِيلَةً
وَجَوَاهِرَ نَفِيسَةً، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا وَجَدَ بَيْتٌ طُولُهُ
ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا مَمْلُوءًا فِضَّةً،
وَلَمَّا رَجَعَ إِلَى غَزْنَةَ بَسَطَ هَذِهِ الْحَوَاصِلَ كُلَّهَا فِي صَحْنِ
دَارِهِ، وَأَذِنَ لِرُسُلِ الْمَلِكِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، فَرَأَوْا مَا
بَهَرَهُمْ وَهَالَهُمْ.
وَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ، وَقَعَ
بِبَغْدَادَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ، بِحَيْثُ بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ذِرَاعًا
وَنِصْفًا، وَمَكَثَ أُسْبُوعًا لَمْ يَذُبْ، وَبَلَغَ سُقُوطُهُ إِلَى تِكْرِيتَ
وَالْكُوفَةِ وَعَبَّادَانَ وَالنَّهْرَوَانَاتِ. وَفِي هَذَا الشَّهْرِ كَثُرَتِ
الْعَمَلَاتُ خَفِيَّةً وَجَهْرَةً، حَتَّى مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ، ثُمَّ
ظَفِرَ أَصْحَابُ الشُّرْطَةِ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ
وَكَحَلُوهُمْ وَشَهَرُوهُمْ، فَخَمَدَتِ الْفِتْنَةُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
قِصَّةُ مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَحْرِيقِهِ عَنْ فُتْيَا الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، مِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ "
وَفِي عَاشِرِ رَجَبٍ جَرَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالسُّنَّةِ،
سَبَبُهَا أَنَّ بَعْضَ الْهَاشِمِيِّينَ قَصَدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدَ
بْنَ النُّعْمَانِ، الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ - وَكَانَ فَقِيهَ
الشِّيعَةِ - فِي مَسْجِدِهِ بِدَرْبِ رِيَاحٍ، فَعَرَضَ لَهُ بِالسَّبِّ، فَثَارَ
أَصْحَابُهُ لَهُ، وَاسْتَنْفَرَ أَصْحَابَ الْكَرْخِ، وَصَارُوا إِلَى دَارِ
الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْأَكْفَانِيِّ وَالشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَجَرَتْ فِتْنَةٌ طَوِيلَةٌ، وَأَحْضَرَتِ الشِّيعَةُ
مُصْحَفًا ذَكَرُوا أَنَّهُ مُصْحَفُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ
يُخَالِفُ الْمَصَاحِفَ كُلَّهَا، فَجُمِعَ الْأَشْرَافُ وَالْقُضَاةُ
وَالْفُقَهَاءُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِلَّيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ رَجَبٍ،
وَعُرِضَ الْمُصْحَفُ عَلَيْهِمْ، فَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَالْفُقَهَاءُ بِتَحْرِيقِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ
مِنْهُمْ، فَغَضِبَ الشِّيعَةُ مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَجَعَلُوا
يَدْعُونَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
وَيَسُبُّونَهُ، وَقَصَدَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَحْدَاثِهِمْ دَارَ الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ لِيُؤْذُوهُ، فَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلَى دَارِ الْقُطْنِ، وَصَاحُوا: يَا
حَاكِمُ يَا مَنْصُورُ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ، فَغَضِبَ وَبَعَثَ
أَعْوَانَهُ لِنُصْرَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَحُرِّقَتْ
دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنْ دُورِ
الشِّيعَةِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ شَدِيدَةٌ، وَبَعَثَ عَمِيدَ الْجُيُوشِ إِلَى
بَغْدَادَ لِيَنْفِيَ عَنْهَا ابْنَ الْمُعَلِّمِ فَأُخْرِجَ مِنْهَا، ثُمَّ
شُفِعَ فِيهِ، وَمُنِعَتِ الْقُصَّاصُ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْفِتَنِ وَالسُّؤَالِ
بَاسِمِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَعَادَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ إِلَى دَارِهِ
عَلَى عَادَتِهِ.
وَفِي شَعْبَانَ زُلْزِلَتِ الدِّينَوَرُ زِلْزَالًا شَدِيدًا، سَقَطَتْ مِنْهَا
دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَهَلَكَ تَحْتَ الْهَدْمِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا غَيْرَ مَنْ
سَاخَتْ بِهِ الْأَرْضُ، وَهَلَكَ لِلنَّاسِ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَثَاثِ
وَالْأَمْتِعَةِ.
وَهَبَّتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ بِدَقُوقَاءَ وَتِكْرِيتَ وَشِيرَازَ، فَقَلَعَتْ
كَثِيرًا مِنَ الْمَنَازِلِ وَالنَّخِيلِ وَالزَّيْتُونِ، وَقَتَلَتْ خَلْقًا
كَثِيرًا.
وَسَقَطَ بَعْضُ شِيرَازَ وَوَقَعَتْ رَجْفَةٌ بِشِيرَازَ، غَرِقَ بِسَبَبِهَا
مَرَاكِبُ كَثِيرَةٌ فِي الْبَحْرِ، وَوَقَعَ بِوَاسِطٍ بَرَدٌ زِنَةُ
الْوَاحِدَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَسِتَّةُ دَرَاهِمَ.
وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ - وَذَلِكَ فِي أَيَّارَ - مَطَرٌ عَظِيمٌ
سَالَتْ مِنْهُ الْمَزَارِيبُ.
ذِكْرُ تَخْرِيبِ قُمَامَةَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ
وَفِيهَا أَمَرَ الْحَاكِمُ الْعُبَيْدِيُّ بِتَخْرِيبِ كَنِيسَةِ الْقُمَامَةِ
مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَبَاحَ لِلْعَامَّةِ مَا كَانَ فِيهَا مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبَ ذَلِكَ مَا
أُنْهِيَ مِنَ الْبُهْتَانِ الَّذِي يَتَعَاطَاهُ النَّصَارَى فِي يَوْمِ
الْفُصْحِ مِنَ النَّارِ الَّتِي يَحْتَالُونَ لَهَا، بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ
الْأَغْمَارُ مِنْ جَهَلَتِهِمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنَّمَا
هِيَ مَصْنُوعَةٌ بِدُهْنِ الْبَلَسَانِ فِي خُيُوطِ الْإِبْرَيْسَمِ الرِّفَاعِ
الْمَدْهُونَةِ بِالْكِبْرِيتِ وَغَيْرِهِ، بِالصَّنْعَةِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي
تَرُوجُ عَلَى الطَّغَامِ مِنْهُمْ وَالْعَوَامِّ، وَهُمْ إِلَى الْآنِ
يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بِعَيْنِهِ. وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِهَدْمِ
عِدَّةِ كَنَائِسَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبِلَادِ مِصْرَ، وَنُودِيَ فِي النَّصَارَى
بِمِصْرَ: مَنْ أَحَبَّ الدُّخُولَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ دَخَلَ، وَمَنْ لَا
يَدْخُلْ فَلْيَرْجِعْ إِلَى بِلَادِ الرُّومِ آمِنًا، وَمَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ
عَلَى دِينِهِ فَلْيَلْتَزِمْ بِمَا شُرِطَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشُّرُوطِ الَّتِي
زَادَ فِيهَا عَلَى الْعُمَرِيَّةِ، مِنْ تَعْلِيقِ الصُّلْبَانِ عَلَى
صُدُورِهِمْ مِنْ خَشَبٍ زِنَةُ الصَّلِيبِ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ،
وَعَلَى الْيَهُودِ تَعْلِيقُ رَأْسِ الْعِجْلِ زِنَتُهُ سِتَّةُ أَرْطَالٍ، وَفِي
الْحَمَّامِ يَكُونُ فِي عُنُقِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ قِرْبَةٌ زِنَةُ خَمْسَةِ
أَرْطَالٍ، وَأَجْرَاسٌ، وَأَنْ لَا يَرْكَبُوا خَيْلًا. ثُمَّ بَعْدَ هَذَا
كُلِّهِ أَمَرَ بِإِعَادَةِ بِنَاءِ الْكَنَائِسِ الَّتِي هَدَمَهَا، وَأَذِنَ
لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فِي الِارْتِدَادِ إِلَى دِينِهِ، وَقَالَ: نُنَزِّهُ مَسَاجِدَنَا
أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ لَا نِيَّةَ لَهُ. قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَافِيُّ
الْبُخَارِيُّ الْخُوَارِزْمِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ فِي وَقْتِهِ،
تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَدَرَّسَ مَكَانَهُ، وَلَهُ
مَعْرِفَةٌ جَيِّدَةٌ بِالْأَدَبِ وَالْفَصَاحَةِ وَالشِّعْرِ.
جَاءَ مَرَّةً لِيَزُورَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
قَدْ حَضَرْنَا وَلَيْسَ يَقْضِي التَّلَاقِي نَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ هَذَا
الْفِرَاقِ إِنْ تَغِبْ لَمْ أَغِبْ وَإِنْ لَمْ تَغِبْ غِبْ
تُ كَأَنَّ افْتِرَاقَنَا بِاتِّفَاقِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
تَرْجَمَتَهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ ".
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْقَاسِمِ
الْمُقْرِئُ الْمَعْرُوفُ بِالصَّيْدَلَانِيِّ
وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنِ ابْنِ صَاعِدٍ مِنَ الثِّقَاتِ، وَرَوَى عَنْهُ
الْأَزْهَرِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً مَأْمُونًا صَالِحًا. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ
التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الْبَبَّغَاءُ، عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْفَرَجِ
الْمَخْزُومِيُّ
الشَّاعِرُ الْمُلَقَّبُ بِالْبَبَّغَاءِ، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَكَانَ أَدِيبًا فَاضِلًا مُتَرَسِّلًا شَاعِرًا مُجِيدًا، فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ:
يَا مَنْ تَشَابَهَ مِنْهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ فَمَا تُسَافِرُ إِلَّا نَحْوَهُ
الْحَدَقُ
تَوْرِيدُ دَمْعِي مَنْ خَدَّيْكَ مُخْتَلَسٌ وَسُقْمُ جِسْمِي مِنْ جَفْنَيْكَ
مُسْتَرَقُ
لَمْ يَبْقَ لِي رَمَقٌ أَشْكُو هَوَاكَ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَشَكَّى مَنْ بِهِ
رَمَقُ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ
أَحَدُ الْعُلَمَاءِ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ، الْمُنَاظِرِينَ لِأَبِي بَكْرٍ
الرَّازِيِّ، وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَقَدْ فُلِجَ فِي
آخِرِ عُمُرِهِ، وَحِينَ مَاتَ دُفِنَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ.
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَبُو الْفَضْلِ
الْهَمَذَانِيُّ
الْحَافِظُ الْمَعْرُوفُ بِبَدِيعِ الزَّمَانِ، صَاحِبُ الرَّسَائِلِ
الرَّائِقَةِ، وَالْمَقَامَاتِ الْفَائِقَةِ، وَعَلَى مِنْوَالِهِ نَسَجَ
الْحَرِيرِيُّ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ، وَشَكَرَ تَقَدُّمَهُ، وَاعْتَرَفَ
بِفَضْلِهِ، وَكَانَ قَدْ أَخَذَ اللُّغَةَ عَنِ ابْنِ فَارِسٍ، ثُمَّ بَرَزَ،
وَكَانَ أَحَدَ الْفُضَلَاءِ الْفُصَحَاءِ، وَيُذْكَرُ أَنَّهُ سُمَّ،
وَأَخَذَتْهُ سَكْتَةٌ، فَدُفِنَ سَرِيعًا، ثُمَّ عَاشَ فِي قَبْرِهِ، وَسَمِعُوا صُرَاخَهُ، فَنَبَشُوا عَنْهُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، وَهُوَ آخِذٌ عَلَى لِحْيَتِهِ مِنْ هَوْلِ الْقَبْرِ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَفَا عَنْهُ وَسَامَحَهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
فِيهَا قُتِلَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ ثُمَالٍ نَائِبُ الرَّحْبَةِ مِنْ طَرَفِ
الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ، قَتَلَهُ عِيسَى بْنُ خَلَّاطٍ الْعُقَيْلِيُّ،
وَمَلَكَهَا، فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ صَاحِبُ حَلَبَ
وَمَلَكَهَا.
وَفِيهَا صُرِفَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ عَنْ قَضَاءِ الْبَصْرَةِ
وَوَلِيَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، فَذَهَبَ النَّاسُ
يُهَنُّونَ هَذَا وَيُعَزُّونَ هَذَا، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الْعُصْفُرِيُّ:
عِنْدِي حَدِيثٌ طَرِيفٌ بِمِثْلِهِ يَتَغَنَّى مِنْ قَاضِيَيْنِ يُعَزَّى
هَذَا وَهَذَا يُهَنَّا فَذَا يَقُولُ أَكْرَهُونَا
وَذَا يَقُولُ اسْتَرَحْنَا وَيَكْذِبَانِ وَنَهْذِي
فَمَنْ يُصَدَّقُ مِنَّا
وَفِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَصَفَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَأَلْقَتْ
رَمْلًا أَحْمَرَ فِي طُرُقَاتِ بَغْدَادَ.
وَفِيهَا هَبَّتْ عَلَى الْحُجَّاجِ رِيحٌ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، وَاعْتَرَضَهُمُ
الْأَعْرَابُ، فَصَدُّوهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، وَاعْتَاقُوهُمْ حَتَّى فَاتَهُمُ
الْحَجُّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فَرَجَعُوا
وَأَخَذَتْ بَنُو هِلَالٍ طَائِفَةً
مِنْ حُجَّاجِ الْبَصْرَةِ نَحْوًا مِنْ سِتِّمِائَةِ وَاحِدٍ، وَأَخَذُوا
مِنْهُمْ نَحْوًا مِنْ أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ. وَالْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ
لِلْمِصْرِيِّينَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو أَحْمَدَ
الطَّبَرَانِيُّ
سَمِعَ بِبَغْدَادَ وَمَكَّةَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَكَانَ مُكْثِرًا،
سَمِعَ مِنْهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدٍ، ثُمَّ أَقَامَ
بِالشَّامِ بِالْقُرْبِ مِنْ جَبَلٍ عِنْدَ بَانْيَاسَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى
إِلَى أَنْ مَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو مُسْلِمٍ
كَاتِبُ الْوَزِيرِ ابْنُ حِنْزَابَةَ، رَوَى عَنِ الْبَغَوِيِّ وَابْنِ صَاعِدٍ
وَابْنِ دُرَيْدٍ وَابْنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ عَرَفَةَ وَابْنِ مُجَاهِدٍ
وَغَيْرِهِمْ. وَكَانَ آخِرَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ الْبَغَوِيِّ، وَكَانَ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْفَهْمِ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ الْبَغَوِيِّ ; لِأَنَّ أُصُولَهُ
كَانَ غَالِبُهَا مَفْسُودًا. وَذَكَرَ الصُّورِيُّ أَنَّهُ خَلَطَ فِي آخِرِ
عُمُرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ
الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ الْمِصْرِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الزِّيجِ الْحَاكِمِيِّ " فِي أَرْبَعِ مُجَلَّدَاتٍ،
كَانَ أَبُوهُ مِنْ أَكَابِرِ الْمُحَدِّثِينَ مِنَ الْحُفَّاظِ، وَقَدْ أَرَّخَ
لِمِصْرَ تَارِيخًا نَافِعًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَأَمَّا هَذَا
فَاشْتَغَلَ بِعِلْمِ النُّجُومِ، فَنَالَ مِنْ شَأْنِهِ مَنَالًا جَيِّدًا،
وَكَانَ شَدِيدَ الِاعْتِنَاءِ بِعِلْمِ الرَّصْدِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا
مُغَفَّلًا، سَيِّئَ الْحَالِ، رَثَّ الثِّيَابِ، طَوِيلًا يَتَعَمَّمُ عَلَى
طُرْطُورٍ طَوِيلٍ وَيَتَطَيْلَسُ فَوْقَهُ، وَيَرْكَبُ حِمَارًا، فَمَنْ رَآهُ
ضَحِكَ مِنْهُ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْحَاكِمِ فَيُكْرِمُهُ، وَيَذْكُرُ مِنْ
تَغَفُّلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِنَائِهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَكَانَ
شَاهِدًا مُعَدَّلًا، وَلَهُ شِعْرٌ جَيِّدٌ، فَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
خَلِّكَانَ:
أُحَمِّلُ نَشْرَ الرِّيحِ عِنْدَ هُبُوبِهِ رِسَالَةَ مُشْتَاقٍ لِوَجْهِ
حَبِيبِهِ بِنَفْسِيَ مَنْ تَحْيَا النُّفُوسُ بِقُرْبِهِ
وَمَنْ طَابَتِ الدُّنْيَا بِهِ وَبِطِيبِهِ وَجَدَّدَ وَجْدِي طَائِفٌ مِنْهُ فِي
الْكَرَى
سَرَى مَوْهِنًا فِي خُفْيَةٍ مِنْ رَقِيبِهِ لَعَمْرِي لَقَدْ عَطَّلْتُ كَأْسِي
بَعْدَهُ
وَغَيَّبْتُهَا عَنِّي لَطُولِ مَغِيبِهِ
تَمَنِّي أُمُّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ
مَوْلَاةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، كَانَتْ مِنَ الْعَابِدَاتِ
الصَّالِحَاتِ، وَمِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، تُوُفِّيَتْ لَيْلَةَ
الْخَمِيسِ الثَّانِيَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُهَا الْقَادِرُ، وَحُمِلَتْ بَعْدَ الْعِشَاءِ إِلَى
الرُّصَافَةِ.
سَنَةُ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ
الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا نَقَصَتْ دِجْلَةُ نَقْصًا كَثِيرًا، حَتَّى
ظَهَرَتْ جَزَائِرُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ، وَامْتَنَعَ سَيْرُ السُّفُنِ فِي
أَمَاكِنِهَا مِنْ أَوَانَا وَالرَّاشِدِيَّةِ فَأُمِرَ بِكَرْيِ تِلْكَ
الْأَمَاكِنِ وَلَمْ تُكْرَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَمُلَ السُّورُ عَلَى الْمَشْهَدِ بِالْحَائِرِ، وَكَانَ الَّذِي
بَنَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلَانَ عَلَى نَذْرٍ
نَذَرَهُ حِينَ زَارَهُ.
وَفِي رَمَضَانَ أَرْجَفَ النَّاسُ بِالْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ فَجَلَسَ
لِلنَّاسِ يَوْمَ جُمُعَةٍ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ الْبُرْدَةُ، وَبِيَدِهِ
الْقَضِيبُ، وَجَاءَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فَقَبَّلَ
الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَرَأَ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ
لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [ الْأَحْزَابِ:
60، 61 ] فَتَبَاكَى النَّاسُ، وَدَعَوْا، وَانْصَرَفُوا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ
الْخَبَرُ بِأَنَّ الْحَاكِمَ أَنْفَذَ إِلَى دَارِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الصَّادِقِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَخَذَ مِنْهَا مُصْحَفًا وَآلَاتٍ كَانَتْ بِهَا،
وَهَذِهِ الدَّارُ لَمْ تُفْتَحْ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهَا إِلَى هَذِهِ
الْمُدَّةِ، وَكَانَ مَعَ الْمُصْحَفِ قَعْبٌ خَشَبٌ مُطَوَّقٌ بِحَدِيدٍ
وَدَرَقَةٌ خَيْزُرَانٌ وَحَرْبَةٌ وَسَرِيرٌ، حَمَلَ ذَلِكَ كُلَّهَ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْعَلَوِيِّينَ إِلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ، فَأَطْلَقَ لَهُمْ
أَنْعَامًا كَثِيرَةً وَنَفَقَاتٍ زَائِدَةً، وَرَّدَ السَّرِيرَ، وَأَخَذَ
الْبَاقِيَ، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهِ، فَرَدُّوا وَهُمْ ذَامُّونَ لَهُ
دَاعُونَ عَلَيْهِ.
وَبَنَى الْحَاكِمُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ دَارَ الْعِلْمِ، وَأَجْلَسَ فِيهَا
الْفُقَهَاءَ، ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ هَدَمَهَا، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا
مِمَّنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ
وَالدِّيَانَةِ. وَعَمَّرَ الْجَامِعَ الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ بِالدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَهُوَ جَامِعُ الْحَاكِمِ، وَتَأَنَّقَ فِي بِنَائِهِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ. وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا أُعِيدَ الْمُؤَيَّدُ هِشَامُ بْنُ
الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأُمَوِيُّ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ خَلْعِهِ
وَحَبْسِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً.
وَكَانَتِ الْخُطْبَةُ بِالْحَرَمَيْنِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِلْحَاكِمِ
الْعُبَيْدِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ وَالشَّامِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ
جَعْفَرٍ، أَبُو أَحْمَدَ الْمُوسَوِيُّ النَّقِيبُ
وَالِدُ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى، وَلِيَ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ مَرَّاتٍ
بِبَغْدَادَ نَحْوًا مِنْ خَمْسِ مَرَّاتٍ، يُعْزَلُ وَيُعَادُ ثُمَّ أَضَرَّ فِي
آخِرِ عُمُرِهِ، وَتُوُفِّيَ عَنْ
سَبْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَصَلَّى
عَلَيْهِ ابْنُهُ الْمُرْتَضَى، وَدُفِنَ فِي مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ.
وَقَدْ رَثَاهُ ابْنُهُ الْمُرْتَضَى هَذَا بِقَصِيدَةٍ حَسَنَةٍ قَوِيَّةِ
الْمَنْزَعِ وَالْمَطْلَعِ مِنْهَا قَوْلُهُ:
سَلَامُ اللَّهِ تَنْقُلُهُ اللَّيَالِي وَيَهْدِيهِ الْغُدُوُّ إِلَى الرَّوَاحِ
عَلَى جَدَثٍ تَشَبَّثَ مِنْ لُؤَيٍّ
بِيَنْبُوعِ الْعِبَادَةِ وَالصَّلَاحِ فَتًى لَمْ يَرْوِ إِلَّا مِنْ حَلَالٍ
وَلَمْ يَكُ زَادُهُ غَيْرَ الْمُبَاحِ وَلَا دَنِسَتْ لَهُ إِزْرٌ بِوِزْرٍ
وَلَا عَلِقَتْ لَهُ رَاحٌ بِرَاحِ خَفِيفُ الظَّهْرِ مِنْ ثِقْلِ الْخَطَايَا
وَعُرْيَانُ الْجَوَانِحِ مِنْ جَنَاحِ مَشُوقٌ فِي الْأُمُورِ إِلَى عُلَاهَا
وَمَدْلُولٌ عَلَى بَابِ النَّجَاحِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَهُمْ قُلُوبٌ
بِذِكْرِ اللَّهِ عَامِرَةُ النَّوَاحِ بِأَجْسَامٍ مِنَ التَّقْوَى مِرَاضٍ
لِمُبْصِرِهَا وَأَدْيَانٍ صِحَاحِ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ وَتَجَاوَزَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
الْحَجَّاجُ بْنُ هُرْمُزَ، أَبُو جَعْفَرٍ
نَائِبُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ عَلَى الْعِرَاقِ، وَكَانَ يَنْتَدِبُهُ لِقِتَالِ
الْأَعْرَابِ وَالْأَكْرَادِ، وَكَانَ مِنَ الْمُقَدَّمِينَ عَلَى عَهْدِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ، وَكَانَتْ لَهُ خِبْرَةٌ تَامَّةٌ بِالْحَرْبِ، وَحُرْمَةٌ
شَدِيدَةٌ، وَشُجَاعَةٌ وَافِرَةٌ، وَهِمَّةٌ عَالِيَةٌ، وَآرَاءٌ سَدِيدَةٌ.
وَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَ تِسْعِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ كَثُرَتْ بِهَا الْفِتَنُ وَالشُّرُورُ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِالْأَهْوَازِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَخَمْسِ سِنِينَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُمِّيُّ
الْمِصْرِيُّ التَّاجِرُ
كَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ جِدًّا، اشْتَمَلَتْ تَرِكَتُهُ عَلَى أَزْيَدِ مِنْ
أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ عِنْدَ
قَبْرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الرَّفَّاءِ الْمُقْرِئُ
الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ، كَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ
وَأَحْلَاهُمْ أَدَاءً، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي
سَنَةِ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ
هُنَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ الرَّابِعِ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا خُطِبَ
بِالْمَوْصِلِ لِلْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ عَنْ أَمْرِ صَاحِبِهَا قِرْوَاشِ بْنِ
مُقَلَّدٍ أَبِي مَنِيعٍ، وَقَهْرِ رَعِيَّتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ سَرَدَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ صِفَةَ الْخُطْبَةِ يَوْمَئِذٍ بِحُرُوفِهَا، وَفِي آخِرِ
الْخُطْبَةِ صَلَّوْا عَلَى آبَائِهِ مِنَ الْخُلَفَاءِ ; الْمَهْدِيِّ، ثُمَّ
ابْنِهِ الْقَائِمِ، ثُمَّ ابْنِهِ الْمَنْصُورِ، ثُمَّ ابْنِهِ الْمُعِزِّ، ثُمَّ
ابْنِهِ الْعَزِيزِ، ثُمَّ ابْنِهِ الْحَاكِمِ صَاحِبِ الْوَقْتِ، وَبَالَغُوا فِي
الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا لِلْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ
بِبَقِيَّةِ أَعْمَالِهِ مَنَ الْأَنْبَارِ وَالْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ
سَبَبَ ذَلِكَ أَنَّ الْحَاكِمَ تَرَدَّدَتْ مُكَاتَبَاتُهُ وَرُسُلُهُ
وَهَدَايَاهُ إِلَى قِرْوَاشٍ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ، وَلِيُقْبِلَ بِوَجْهِهِ
عَلَيْهِ، حَتَّى فَعَلَ مَا فَعَلَ مِمَّا ذَكَّرْنَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْخَبَرُ
الْقَادِرَ بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيَّ كَتَبَ يُعَاتِبُ قِرْوَاشَ بْنَ مُقَلَّدٍ
عَلَى مَا صَنَعَ، وَنَفَذَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ إِلَى عَمِيدِ الْجُيُوشِ بِمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ لِمُحَارَبَةِ قِرْوَاشٍ، فَلَمَّا بَلَغَ قِرْوَاشًا رَجَعَ عَنْ
رَأْيِهِ، وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَأَمَرَ بِقَطْعِ الْخُطْبَةِ
الْحَاكِمِيَّةِ مِنْ بِلَادِهِ، وَأَعَادَهَا إِلَى الْقَادِرِ الْعَبَّاسِيِّ
عَلَى عَادَتِهِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ زَادَتْ دِجْلَةُ
زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَاسْتَمَرَّتِ الزِّيَادَةُ إِلَى رَمَضَانَ، وَبَلَغَتْ
أَحَدًا وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا وَثُلُثًا،
وَدَخَلَ الْمَاءُ إِلَى أَكْثَرِ
دُورِ بَغْدَادَ.
وَفِيهَا رَجَعَ الْوَزِيرُ أَبُو غَالِبِ بْنُ خَلَفٍ إِلَى بَغْدَادَ وَلُقِّبَ
فَخْرَ الْمُلْكِ بَعْدَ عَمِيدِ الْجُيُوشِ.
وَفِيهَا عَصَى أَبُو الْفَتْحِ الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيُّ، وَدَعَا
إِلَى نَفْسِهِ، وَتَلَقَّبَ بِالرَّاشِدِ بِاللَّهِ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَيْضًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَشْرَافِ:
أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ،
أَبُو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ، مُصَنِّفُ كِتَابِ " الْأَطْرَافِ عَلَى
الصَّحِيحَيْنِ "، رَحَلَ إِلَى بِلَادٍ شَتَّى كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ
وَالْكُوفَةِ وَوَاسِطٍ وَالْأَهْوَازِ وَأَصْبَهَانَ وَخُرَاسَانَ، وَكَانَ مِنَ
الْحُفَّاظِ الصَّادِقِينَ الْأُمَنَاءِ الضَّابِطِينَ، وَلَمْ يَرْوِ إِلَّا
الْيَسِيرَ، رَوَى عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرِيُّ وَأَبُو ذَرٍ
الْهَرَوِيُّ وَحَمْزَةُ السَّهْمِيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
بِبَغْدَادَ فِي رَجَبٍ، وَأَوْصَى إِلَى أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ،
فَصَلَّى عَلَيْهِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ جَامِعِ الْمَنْصُورِ قَرِيبًا مِنَ
السِّكَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ، وَأَثْنَى
عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عَمِيدُ الْجُيُوشِ، الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ أُسْتَاذُ هُرْمُزَ، أَبُو
عَلِيٍّ، الْمُلَقَّبُ
بِعَمِيدِ الْجُيُوشِ، وَزِيرُ بِهَاءِ
الدَّوْلَةِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ
حُجَّابِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَوَلَّاهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ النَّظَرَ فِي
وِزَارَتِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ، وَالشُّرُورُ عَامَّةٌ كَثِيرَةٌ،
فَمَهَّدَ الْبِلَادَ وَأَخَافَ الْعَيَّارِينَ وَاسْتَقَامَتْ بِهِ الْأُمُورُ،
وَأَمَرَ بَعْضَ غِلْمَانِهِ أَنْ يَحْمِلَ صِينِيَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ
مَكْشُوفَةٌ، مِنْ أَوَّلِ بَغْدَادَ إِلَى آخِرِهَا فِي أَزِقَّتِهَا، فَإِنِ اعْتَرَضَهُ
أَحَدٌ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْهِ، وَلْيَعْرِفَ ذَلِكَ الْمَكَانَ، فَذَهَبَ
الْغُلَامُ، فَلَمْ يَعْتَرِضْهُ أَحَدٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَمَنَعَ الرَّوَافِضَ مِمَّا كَانُوا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنَ النِّيَاحَةِ فِي
عَاشُورَاءَ، وَإِقَامَةِ الْعِيدِ الْمُبْتَدَعِ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنَ عَشَرَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: غَدِيرُ خُمٍّ. وَكَانَ عَادِلًا
مُنْصِفًا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَمْدُونَ، أَبُو مُحَمَّدٍ
الْوَاسِطِيُّ
رَحَلَ إِلَى الْبِلَادِ، وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ ثُمَّ
رَحَلَ إِلَى الشَّامِ وَمِصْرَ، وَكَتَبَ النَّاسُ بِانْتِخَابِهِ، وَصَنَّفَ
أَطْرَافًا عَلَى " الصَّحِيحَيْنِ " وَكَانَتْ لَهُ مَعْرِفَةٌ
تَامَّةٌ، وَحِفْظٌ جَيِّدٌ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ وَاشْتَغَلَ
بِالتِّجَارَةِ، وَتَرَكَ النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ حَتَّى تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَامَحَهُ. وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ.
أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ، صَاحِبُ " الْغَرِيبَيْنِ "، أَحْمَدُ
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الْعَبْدِيُّ
اللُّغَوِيُّ الْبَارِعُ، كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ النَّاسِ فِي الْأَدَبِ
وَاللُّغَةِ،
وَكِتَابُهُ " الْغَرِيبَيْنِ
" فِي مَعْرِفَةِ غَرِيبِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، يَدُلُّ عَلَى
اطِّلَاعِهِ وَتَبَحُّرِهِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَكَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي
مَنْصُورٍ الْأَزْهَرِيِّ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْبِذْلَةَ،
وَيَتَنَاوَلُ فِي الْخَلْوَةِ، وَيُعَاشِرُ أَهْلَ الْأَدَبِ فِي مَجَالِسِ
اللَّذَّةِ وَالطَّرَبِ. سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوِ الَّتِي قَبْلَهَا وَفَاةُ
أَبِي الْفَتْحِ الْبُسْتِيِّ الشَّاعِرِ وَهُوَ:
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ
الْكَاتِبُ صَاحِبُ الطَّرِيقَةِ الْأَنِيقَةِ فِي التَّجْنِيسِ الْأَنِيسِ،
الْبَدِيعِ التَّأْسِيسِ، وَالْحَذَاقَةِ وَالنَّظْمِ وَالنَّثْرِ، وَقَدْ
أَسْلَفْنَا ذِكْرَهُ.
وَمِمَّا أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قَوْلُهُ: مَنْ أَصْلَحَ فَاسِدَهُ
أَرْغَمَ حَاسِدَهُ. مَنْ أَطَاعَ غَضَبَهُ أَضَاعَ أَدَبَهُ. مِنْ سَعَادَةِ
جَدِّكَ وُقُوفُكَ عِنْدَ حَدِّكَ. الْمَنِيَّةُ تَضْحَكُ مِنَ الْأُمْنِيَةِ.
الرَّشْوَةُ رِشَاءُ الْحَاجَاتِ. حَدُّ الْعَفَافِ الرِّضَا بِالْكَفَافِ.
وَمِنْ شَعْرِهِ:
إِنْ هَزَّ أَقْلَامَهُ يَوْمًا لِيُعْمِلَهَا أَنْسَاكَ كُلَّ كَمِيٍّ هَزَّ
عَامِلَهُ وَإِنْ أَقَرَّ عَلَى رِقٍّ أَنَاَمِلَهُ
أَقَرَّ بَالرِّقِّ كُتَّابُ الْأَنَامِ لَهُ
وَلَهُ:
إِذَا تَحَدَّثْتَ فِي قَوْمٍ لِتُؤْنِسَهُمْ بِمَا تُحَدِّثُ مِنْ مَاضٍ وَمِنْ
آتِ
فَلَا تَعُدْ لِحَدِيثٍ إِنَّ طَبْعَهُمُ مُوَكَّلٌ بَمُعَادَاةِ الْمُعَادَاتِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ أَذِنَ فَخْرُ الْمُلْكِ لِلرَّوَافِضِ أَنْ يَعْمَلُوا
الْبِدْعَةَ الشَّنْعَاءَ، وَالْفَضِيحَةَ الصَّلْعَاءَ، مِنَ الِانْتِحَابِ
وَالنَّوْحِ وَالْبُكَاءِ، وَتَعْلِيقِ الْمُسُوحِ، وَتَغْلِيقِ الْأَسْوَاقِ مِنَ
الصَّبَاحِ إِلَى الْمَسَاءِ، وَدَوَرَانِ النِّسَاءِ حَاسِرَاتٍ عَنْ
وُجُوهِهِنَّ وَرُءُوسِهِنَّ، يَلْطِمْنَ خُدُودَهُنَّ، كَفِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
الْجَهْلَاءِ، فَلَا جَزَاهُ اللَّهُ عَنِ السُّنَّةِ خَيْرًا، وَسَوَّدَ اللَّهُ
وَجْهَهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ، رَبُّ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاءِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ أَمَرَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ بِعِمَارَةِ مَسْجِدِ
الْكَفِّ بِقَطِيعَةِ الدَّقِيقِ، وَأَنْ يُعَادَ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ،
فَفُعِلَ ذَلِكَ وَزُخْرِفَ زَخْرَفَةً عَظِيمَةً جِدًّا.
ذِكْرُ الطَّعْنِ فِي نَسَبِ الْفَاطِمِيِّينَ، مِنْ أَئِمَّةِ بَغْدَادَ
وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْهَا كَتَبَ هَؤُلَاءِ بِبَغْدَادَ مَحَاضِرَ
تَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ وَالْقَدْحَ فِي نَسَبِ الْخُلَفَاءِ الْمِصْرِيِّينَ
الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ وَلَيْسُوا كَذَلِكَ،
وَنِسْبَتُهُمْ إِلَى دَيْصَانَ بْنِ سَعِيدٍ الْخُرَّمِيِّ، وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ
وَالْفُقَهَاءِ وَالْأَشْرَافِ
وَالْأَمَاثِلِ وَالْمُعَدِّلِينَ وَالصَّالِحِينَ، شَهِدُوا جَمِيعًا أَنَّ
النَّاجِمَ بِمِصْرَ - وَهُوَ مَنْصُورُ بْنُ نِزَارٍ الْمُلَقَّبُ بِالْحَاكِمِ،
حَكَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْبَوَارِ، وَالْخِزْيِ وَالدَّمَارِ، وَالنَّكَالِ
وَالِاسْتِئْصَالِ، ابْنِ مَعَدِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
سَعِيدٍ، لَا أَسْعَدَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ إِلَى بِلَادِ
الْمَغْرِبِ تَسَمَّى بِعُبَيْدِ اللَّهِ، وَتَلَقَّبُ بِالْمَهْدِيِّ - وَمَنْ
تَقَدَّمَ مِنْ سَلَفِهِ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَرْجَاسِ - عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَلَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ - أَدْعِيَاءُ خَوَارِجُ
لَا نَسَبَ لَهُمْ فِي وَلَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالَبٍ وَلَا يَتَعَلَّقُونَ
بِسَبَبٍ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ بَاطِلِهِمْ، وَأَنَّ الَّذِي ادَّعَوْهُ مِنَ
الِانْتِسَابِ إِلَيْهِ بَاطِلٌ وَزُورٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَحَدًا
مِنْ أَهْلِ بُيُوتَاتِ الطَّالِبِيِّينَ تَوَقَّفَ عَنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ فِي
هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ أَدْعِيَاءُ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِنْكَارُ
لِبَاطِلِهِمْ شَائِعًا فِي الْحَرَمَيْنِ، وَفِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ
بِالْمَغْرِبِ مُنْتَشِرًا انْتِشَارًا يَمْنَعُ أَنْ يُدَلِّسَ عَلَى أَحَدٍ
كَذِبُهُمْ، أَوْ يَذْهَبَ وَهْمٌ إِلَى تَصْدِيقِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْهُ، وَأَنَّ
هَذَا النَّاجِمَ بِمِصْرَ هُوَ وَسَلَفُهُ كَفَّارٌ فُسَّاقٌ فُجَّارٌ،
مُلْحِدُونَ زَنَادِقَةٌ مُعَطِّلُونَ، وَلِلْإِسْلَامِ جَاحِدُونَ، وَلِمَذْهَبِ
الثَّنَوِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ مُعْتَقِدُونَ، قَدْ عَطَّلُوا الْحُدُودَ،
وَأَبَاحُوا الْفُرُوجَ، وَأَحَلُّوا الْخُمُورَ، وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ،
وَسَبُّوا الْأَنْبِيَاءَ، وَلَعَنُوا السَّلَفَ، وَادَّعَوُا الرُّبُوبِيَّةَ،
وَكَتَبَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَقَدْ كَتَبَ خَطَّهُ فِي الْمَحْضَرِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَمِنَ الْعَلَوِيِّينَ:
الْمُرْتَضَى وَالرَّضِيُّ وَابْنُ الْأَزْرَقِ الْمُوسَوِيُّ، وَأَبُو طَاهِرِ
بْنُ أَبِي الطَّيِّبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنُ أَبِي
يَعْلَى. وَمِنَ الْقُضَاةِ: أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ الْأَكْفَانِيِّ، وَأَبُو
الْقَاسِمِ الْخَزَرِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ السُّورِيِّ. وَمِنَ
الْفُقَهَاءِ: أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ
الْكَشْفُلِيِّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ
الْقُدُورِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَيْضَاوِيُّ، وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ حَمَكَانَ. وَمِنَ الشُّهُودِ: أَبُو
الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ، فِي خَلْقٍ كَثِيرٍ، وَقُرِئَ بِالْبَصْرَةِ وَكَتَبَ
فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ. هَذِهِ عِبَارَةُ أَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ أَدْعِيَاءُ، كَمَا ذَكَرَ
هَؤُلَاءِ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ، وَالْأَئِمَّةُ الْفُضَلَاءُ، وَأَنَّهُمْ لَا
نَسَبَ لَهُمْ إِلَى عَلِيٍّ وَلَا إِلَى فَاطِمَةَ كَمَا يَزْعُمُونَ، قَوْلُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ أَرَادَ الدُّخُولَ
إِلَى الْعِرَاقِ، وَذَلِكَ عَنْ كُتُبِ عَوَامِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيْهِ
بِالْبَيْعَةِ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: لَا تَذْهَبُ إِلَيْهِمْ،
فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ، وَإِنَّ جَدَّكَ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَأَنْتَ
بُضْعَةٌ مِنْهُ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَا تَنَالُهَا لَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ.
فَهَذَا الْكَلَامُ الْحَسَنُ الصَّحِيحُ الْمُتَوَجِّهُ الْمَعْقُولُ مِنْ هَذَا
الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَلِي الْخِلَافَةَ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْبَيْتِ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْمَهْدِيَّ، الَّذِي
يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَقْتَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنَ
السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ مُفَصَّلًا فِي
أَحَادِيثِ الْمَلَاحِمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ مَلَكُوا دِيَارَ
مِصْرَ مُدَّةً طَوِيلَةً، فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً قَوِيَّةً ظَاهِرَةً
أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ
سَادَةُ الْقُضَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْكُبَرَاءِ، وَقَدْ صَنَّفَ
الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ
الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفَاطِمِيِّينَ وَسَمَّاهُ " كَشْفَ الْأَسْرَارِ
وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ " نَثَرَ فِيهِ فَضَائِحَهُمْ وَقَبَائِحَهُمْ،
وَوَضَّحَ أَمْرَهُمْ لِكُلِّ أَحَدٍ يَفْهَمُ شَيْئًا مِنْ مَطَاوِي
أَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ فِي عِبَارَتِهِ: هَؤُلَاءِ
قَوْمٌ
يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ وَيُبْطِنُونَ
الْكُفْرَ الْمَحْضَ.
وَفِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ أَخْرَجَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ
صَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُقِيمِينَ
بِالْمَشَاهِدِ وَالْمَقَابِرِ، وَزَارَ بِنَفْسِهِ الْمَسَاجِدَ وَالْمَشَاهِدَ،
وَأَخْرَجَ خَلْقًا مِنَ الْمَسْجُونِينَ بِالْحُبُوسِ، وَأَظْهَرَ نُسُكًا كَثِيرًا،
وَعَمَّرَ دَارًا عَظِيمَةً عِنْدَ سُوقِ الدَّقِيقِ هَائِلَةً.
وَفِي شَوَّالٍ عَصَفَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَصَفَتْ كَثِيرًا مِنَ
النَّخْلِ، أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ.
وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ صَاحِبِ
غَزْنَةَ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى، بِأَنَّهُ رَكِبَ بِجَيْشِهِ إِلَى دَارِ
الْعَدُوِّ، فَاجْتَازَ بِهِمْ فِي مَفَازَةٍ، فَأَعْوَزَهُمْ فِيهَا الْمَاءُ
حَتَّى كَادُوا أَنْ يَهْلِكُوا عَطَشًا، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُمْ سَحَابَةً،
فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى شَرِبُوا وَرَوُوا، ثُمَّ تَوَاقَفُوا هُمْ
وَعَدُوُّهُمْ، وَمَعَ الْأَعْدَاءِ نَحْوٌ مِنْ سِتِّمِائَةِ فِيلٍ،
فَهَزَمُوهُمْ، وَغَنِمُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ.
وَعَمِلَتِ الشِّيعَةُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ - وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنَ عَشَرَ
مِنْ ذِي الْحِجَّةِ - الْبِدْعَةَ الَّتِي ابْتَدَعُوهَا لَا لِابْتِغَاءِ وَجْهِ
اللَّهِ، وَزُيِّنَتِ الْحَوَانِيتُ، وَتَمَكَّنُوا بِسَبَبِ الْوَزِيرِ وَكَثِيرٍ
مِنَ الْأَتْرَاكِ تَمَكُّنًا كَثِيرًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
أَبِي سَهْلِ بْنِ نُوبَخْتَ، أَبُو مُحَمَّدٍ النُوبَخْتِيُّ الْكَاتِبُ
وُلِدَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنْ
الْمَحَامِلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ
الْبَرْقَانِيُّ، وَقَالَ: كَانَ شِيعِيًّا مُعْتَزِلِيًّا، إِلَّا أَنَّهُ
تَبَيَّنَ لِي أَنَّهُ كَانَ صَدُوقًا. وَالْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ: كَانَ
رَافِضِيًّا رَدِيءَ الْمَذْهَبِ. وَقَالَ الْعَتِيقِيُّ: كَانَ ثِقَةً فِي
الْحَدِيثِ وَيَذْهَبُ إِلَى الِاعْتِزَالِ.
عُثْمَانُ بْنُ عِيسَى، أَبُو عَمْرٍو الْبَاقِلَّانِيُّ
أَحَدُ الزُّهَّادِ الْكِبَارِ الْمَشْهُورِينَ، كَانَتْ لَهُ نَخَلَاتٌ يَأْكُلُ
مِنْهُنَّ، وَيَعْمَلُ بِيَدِهِ فِي الْبَوَارِيِّ، وَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ،
وَكَانَ فِي غَايَةِ الزَّهَادَةِ وَالْعِبَادَةِ الْكَثِيرَةِ، وَكَانَ لَا
يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِهِ إِلَّا مِنَ الْجُمُعَةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، يُصَلِّي
فِي الْجَامِعِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مَسْجِدِهِ، وَكَانَ مَسْجِدُهُ لَا يَحْصُلُ
لَهُ شَيْءٌ يُشْعِلُهُ فِيهِ، فَطَلَبَ مِنْهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَقْبَلَ
مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ زَيْتًا يُشْعِلُهُ فِي قَنَادِيلِهِ، فَأَبَى الشَّيْخُ
ذَلِكَ.
وَلَمَّا مَاتَ رَأَى بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْأَمْوَاتِ مِنْ جِيرَانِ قَبْرِهِ،
فَسَأَلَهُ عَنْ جِوَارِهِ، فَقَالَ: وَأَيْنَ هُوَ ؟! لَمَّا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ
سَمِعْنَا قَائِلًا يَقُولُ: الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى. أَوْ كَمَا قَالَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتَّةٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ
نَاجِيَةَ، أَبُو الْحَسَنِ النَّحْوِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّجَّارِ التَّمِيمِيُّ الْكُوفِيُّ، قَدِمَ بَغْدَادَ
وَرَوَى عَنِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَالصُّولِيِّ وَنِفْطَوَيْهِ وَغَيْرِهِمْ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ
سَنَةً.
أَبُو الطِّيِّبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ
قَالَ أَبُو يَعْلَى الْخَلِيلِيُّ: تُوُفِّيَ فِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
سَنَةِ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي سَادِسَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ قُلِّدَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ أَبُو الْحَسَنِ
الْمُوسَوِيُّ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ فِي سَائِرِ الْمَمَالِيكِ، وَقُرِئَ
تَقْلِيدُهُ فِي دَارِ الْوَزِيرِ فَخْرِ الْمُلْكِ، بِمَحْضَرِ الْقُضَاةِ
وَالْأَعْيَانِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ السَّوَادُ، وَهُوَ أَوَّلُ طَالِبِيٍّ خُلِعَ
عَلَيْهِ السَّوَادُ.
وَفِيهَا جِيءَ بِأَمِيرِ بَنِي خَفَاجَةَ أَبِي فُلَيْتَةَ، قَبَّحَهُ اللَّهُ،
وَجَمَاعَةٍ مِنْ رُءُوسِ قَوْمِهِ أُسَارَى، وَكَانُوا قَدِ اعْتَرَضُوا
الْحَجِيجَ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَهُمْ رَاجِعُونَ، وَغَوَّرُوا
الْمَنَاهِلَ الَّتِي يَرِدُهَا الْحُجَّاجُ، وَوَضَعُوا فِيهَا الْحَنْظَلَ،
بِحَيْثُ إِنَّهُ مَاتَ مِنَ الْعَطَشِ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا،
وَأَخَذُوا بَقِيَّتَهُمْ، فَجَعَلُوهُمْ رُعَاةً لِمَوَاشِيهِمْ فِي أَسْوَإِ حَالٍ،
وَأَخَذُوا جَمِيعَ مَا كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْأَحْمَالِ وَالْجِمَالِ، فَحِينَ
أَحْضَرَهُمُ الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ سَجَنَهُمْ وَمَنَعَهُمُ الْمَاءَ،
ثُمَّ صَلَبَهُمْ تِلْقَاءَ دِجْلَةَ يَرَوْنَ صَفَاءَ الْمَاءِ، وَلَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى مَاتُوا كَذَلِكَ جَزَاءً وِفَاقًا،
وَلَقَدْ أَحْسَنَ فَخْرُ الْمُلْكِ فِي هَذَا الصَّنِيعِ وَاقْتَدَى بِحَدِيثِ
أَنَسٍ فِي الرِّعَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". ثُمَّ بَعَثَ
إِلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ اعْتُقِلُوا فِي بِلَادِ بَنِي خَفَاجَةَ مِنَ
الْحُجَّاجِ فَجِيءَ بِهِمْ، وَقَدْ تَزَوَّجَتْ نِسَاؤُهُمْ، وَقُسِمَتْ
أَمْوَالُهُمْ، فَرُدُّوا إِلَى
أَهَالِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ انْقَضَّ كَوْكَبٌ مِنَ الْمَشْرِقِ
إِلَى الْمَغْرِبِ، غَلَبَ ضَوْءُهُ عَلَى ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَتَقَطَّعَ قِطَعًا،
وَبَقِيَ سَاعَةً طَوِيلَةً.
قَالَ: وَفِي شَوَّالٍ تُوُفِّيَتْ زَوْجَةُ بَعْضِ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى، فَخَرَجَتِ
النَّوَائِحُ وَالصُّلُبُ مَعَهَا جَهْرَةً، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ
الْهَاشِمِيِّينَ، فَضَرَبَهُ بَعْضُ غِلْمَانِ ذَلِكَ الرَّئِيسِ النَّصْرَانِيِّ
بِدَبُّوسٍ فِي رَأْسِهِ فَشَجَّهُ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمْ، فَانْهَزَمُوا
وَلَجَئُوا إِلَى كَنِيسَةٍ لَهُمْ هُنَاكَ، فَدَخَلَتِ الْعَامَّةُ إِلَيْهَا
فَنَهَبُوا مَا فِيهَا وَمَا قَرُبَ مِنْهَا مِنْ دُورِ النَّصَارَى،
وَتَتَبَّعُوا النَّصَارَى فِي الْبَلَدِ، وَقَصَدُوا دَارَ الْمُنَاصِحِ وَابْنِ
أَبِي إِسْرَائِيلَ، فَقَاتَلَهُمْ غِلْمَانُهُمْ، وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ
بِبَغْدَادَ، وَرَفَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمَصَاحِفَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَعُطِّلَتِ
الْجُمُعَةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَاسْتَعَانُوا بِالْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ
بِإِحْضَارِابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَامْتَنَعَ، فَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْخُرُوجِ
مِنْ بَغْدَادَ وَقَوِيَتِ الْفِتْنَةُ جِدًّا، وَنُهِبَتْ دُورٌ كَثِيرَةٌ مِنَ
النَّصَارَى، ثُمَّ أُحْضِرَ ابْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، فَبَذَلَ أَمْوَالًا
جَزِيلَةً، فَعُفِيَ عَنْهُ، وَسَكَنَتِ الْفِتْنَةُ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَرَدَ إِلَيْهِ رَسُولٌ مِنَ
الْحَاكِمِ صَاحِبِ مِصْرَ، يَدْعُوهُ إِلَى طَاعَتِهِ، فَبَصَقَ فِيهِ وَأَمَرَ
بِتَحْرِيقِهِ، وَأَسْمَعَ رَسُولَهُ غَلِيظَ مَا يُقَالُ.
وَفِيهَا قُلِّدَ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَرْوَانَ الْكُرْدِيُّ إِمْرَةَ آمِدَ
وَمَيَّافَارِقِينَ وَدِيَارِ بَكْرٍ، وَخُلِعَ
عَلَيْهِ بِطَوْقٍ وَسِوَارٍ،
وَلُقِّبَ نَصِيرَ الدَّوْلَةِ.
وَلَمْ يَتَمَكَّنْ رَكْبُ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ
الذَّهَابِ إِلَى الْحَجِّ لِفَسَادِ الطَّرِيقِ، وَغَيْبَةِ فَخْرِ الْمُلْكِ فِي
إِصْلَاحِ الْأَرَاضِي.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ عَادَتْ مَمْلَكَةُ الْأُمَوِيِّينَ بِالْأَنْدَلُسِ،
فَتَوَلَّى فِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ الْأُمَوِيُّ، وَلُقِّبَ بِالْمُسْتَعِينِ بِاللَّهِ،
وَبَايَعَهُ النَّاسُ بِقُرْطُبَةَ.
وَفِيهَا مَاتَ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ أَبُو نَصْرٍ فَيْرُوزُ بْنِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ، صَاحِبُ بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ،
وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ.
وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ التُّرْكِ الْأَعْظَمُ إِيلَكُ خَانَ، فَوَلِيَ أَمْرَهُمْ
مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ طُغَانُ خَانَ.
وَفِيهَا هَلَكَ شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ ; أُدْخِلَ بَيْتًا
بَارِدًا فِي الشِّتَاءِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ اللِّبَاسِ حَتَّى مَاتَ
كَذَلِكَ، وَوَلِيَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مِنُوجِهْرُ، وَلُقِّبَ
فَلَكَ الْمَعَالِي، وَخُطِبَ لِمَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، وَقَدْ كَانَ
شَمْسُ الْمَعَالِي قَابُوسُ عَالِمًا فَاضِلًا أَدِيبًا شَاعِرًا، فَمِنْ
شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
قُلْ لِلَّذِي بِصُرُوفِ الدَّهْرِ عَيَّرَنَا هَلْ عَانَدَ الدَّهْرُ إِلَّا مَنْ
لَهُ خَطَرُ أَمَا تَرَى الْبَحْرَ يَطْفُو فَوْقَهُ جِيَفٌ
وَيَسْتَقِرُّ بِأَقْصَى قَعْرِهِ الدُّرَرُ فَإِنْ تَكُنْ نَشِبَتْ أَيْدِي
الْخُطُوبِ بِنَا
وَمَسَّنَا مِنْ تَوَالِي صَرْفِهَا ضَرَرُ فَفِي السَّمَاءِ نُجُومٌ غَيْرُ ذِي
عَدَدِ
وَلَيْسَ يَكْسِفُ إِلَّا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَمِنْ شَعْرِهِ الْمُسْتَجَادِ
قَوْلُهُ
خَطِرَاتُ ذِكْرِكَ تَسْتَثِيرُ مَوَدَّتِي فَأُحِسُّ مِنْهَا فِي الْفُؤَادِ
دَبِيبًا
لَا عُضْوَ لِي إِلَّا وَفِيهِ صَبَابَةٌ فَكَأَنَّ أَعْضَائِي خُلِقْنَ قُلُوبًا
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَتِّيُّ
كَانَ يَكْتُبُ لِلْقَادِرِ وَهُوَ بِالْبَطِيحَةِ، ثُمَّ كَتَبَ لَهُ عَلَى
دِيوَانِ الْخَبَرِ وَالْبَرِيدِ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ حِفْظًا حَسَنًا،
مَلِيحَ الصَّوْتِ وَالتِّلَاوَةَ، حَسَنَ الْمُجَالَسَةِ، ظَرِيفَ النَّادِرَةِ
وَالْمَجَانَةِ ; خَرَجَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ هُوَ وَالشَّرِيفَانِ الرَّضِيُّ
وَالْمُرْتَضَى وَجَمَاعَةٌ مِنْ رُءُوسِ الْأَكَابِرِ لِتَلَقِّي بَعْضَ
الْمُلُوكِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ اللُّصُوصِ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَهُمْ
بِالْحَذَّافَاتِ، وَيَقُولُونَ: يَا أَزْوَاجَ الْقِحَابِ. فَقَالَ الْبَتِّيُّ:
مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ عَلَيْنَا إِلَّا بِعَيْنٍ. فَقَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ
عَلِمْتَ هَذَا ؟ فَقَالَ: وَإِلَّا مِنْ أَيْنَ عَلِمُوا أَنَّنَا أَزْوَاجُ
قِحَابٍ.
الْحَسَنُ بْنُ حَامِدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مَرْوَانَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْوَرَّاقُ الْحَنْبَلِيُّ
كَانَ مُدَرِّسَ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَفَقِيهَهُمْ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ
الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ، مِنْهَا كِتَابُ " الْجَامِعِ " فِي
اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي أَرْبَعِمِائَةِ جُزْءٍ، وَلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ
وَالْفِقْهِ،
وَعَلَيْهِ اشْتَغَلَ الْقَاضِي أَبُو
يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَكَانَ مُعَظَّمًا فِي النُّفُوسِ، مُقَدَّمًا عِنْدَ
السُّلْطَانِ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ كَسْبِ يَدِهِ مِنَ النَّسْجِ، وَرَوَى
الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ
وَغَيْرِهِمَا، وَخَرَجَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَلَمَّا عَطِشَ
النَّاسُ فِي الطَّرِيقِ اسْتَنَدَ هُوَ إِلَى حَجَرٍ هُنَاكَ فِي الْحَرِّ
الشَّدِيدِ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ بِقَلِيلٍ مِنْ مَاءٍ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ حَامِدٍ:
مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا ؟ فَقَالَ: مَا هَذَا وَقْتُهُ، اشْرَبْ. فَقَالَ: بَلَى،
هَذَا وَقْتُهُ عِنْدَ لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمْ يَشْرَبْ وَمَاتَ مِنْ
فَوْرِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَلِيمٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْحَلِيمِيُّ
صَاحِبُ " الْمِنْهَاجِ " فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ، كَانَ أَحَدَ
مَشَايِخِ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ بِجُرْجَانَ، وَحُمِلَ إِلَى بُخَارَى،
وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ حَتَّى انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ
الْمُحَدِّثِينَ فِي عَصْرِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِبُخَارَى. قَالَ ابْنُ
خَلِّكَانَ: انْتَهَتْ إِلَيْهِ الرِّيَاسَةُ فِيمَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَلَهُ
وُجُوهٌ حَسَنَةٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَيْرُوزُ، أَبُو نَصْرٍ الْمُلَقَّبُ بَهَاءَ الدَّوْلَةِ بْنُ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ الدَّيْلَمِيُّ
صَاحِبُ بَغْدَادَ وَالْعِرَاقِ، وَهُوَ الَّذِي قَبَضَ عَلَى الطَّائِعِ وَوَلَّى
الْقَادِرَ، وَكَانَ يُحِبُّ الْمُصَادَرَاتِ، فَجَمَعَ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا
لَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ قَبْلَهُ مِنْ بَنِي بُوَيْهِ، وَكَانَ بَخِيلًا جِدًّا،
تُوُفِّيَ بِأَرَّجَانَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ
وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَكَانَتْ
مُدَّةُ مُلْكِهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَكَانَ
مَرَضُهُ بِالصَّرْعِ، وَدُفِنَ بِمُشْهِدِ عَلَيٍّ إِلَى جَانِبِ أَبِيهِ.
قَابُوسُ بْنُ وُشْمَكِيرَ
كَانَ أَهْلُ دَوْلَتِهِ قَدْ تَغَيَّرُوا عَلَيْهِ، فَبَايَعُوا وَلَدَهُ
مِنُوجِهْرَ، وَقَتَلُوا أَبَاهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَوَادِثِ، وَكَانَ قَدْ
نَظَرَ فِي النُّجُومِ فَرَأَى أَنَّ وَلَدَهُ يَقْتُلُهُ، وَكَانَ يَتَوَهَّمُ
أَنَّهُ وَلَدَهُ دَارَا ; لِمَا يَرَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ لَهُ، وَلَا يَخْطِرُ
بِبَالِهِ مِنُوجِهْرُ ; لِمَا يَرَى مِنْ طَاعَتِهِ لَهُ، فَكَانَ هَلَاكُهُ
عَلَى يَدَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ شِعْرِهِ الْحَسَنِ الْجَيِّدِ،
فِي الْحَوَادِثِ.
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ
رَأْسُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيِّ، وَمِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ كَلَامًا وَتَصْنِيفًا فِي
الْكَلَامِ، يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ لَا يَنَامُ كُلَّ لَيْلَةٍ حَتَّى يَكْتُبَ
عِشْرِينَ وَرَقَةً، فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ عُمُرِهِ. فَانْتَشَرَتْ عَنْهُ
تَصَانِيفُ كَثِيرَةٌ، مِنْ جَيِّدِهَا كِتَابُ " التَّبْصِرَةِ "، وَ
" دَقَائِقُ الْحَقَائِقِ " وَ " التَّمْهِيدُ " فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ، وَ " شَرْحُ الْإِبَانَةِ "، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ
الْمَجَامِيعِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَمِنْ أَحْسَنِ تَصَانِيفِهِ كِتَابُهُ
فِي الرَّدِّ عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ، الَّذِي سَمَّاهُ " كَشْفَ الْأَسْرَارِ
وَهَتْكَ الْأَسْتَارِ "، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَذْهَبِهِ فِي الْفُرُوعِ
; فَقِيلَ: شَافِعِيٌّ. وَقِيلَ: مَالِكِيٌّ. حَكَى ذَلِكَ عَنْهُ
أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ وَقَدْ
قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ عَلَى الْفَتَاوَى: كَتَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ
الطَّيِّبِ الْحَنْبَلِيُّ. وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا. وَقَدْ كَانَ فِي غَايَةِ
الذَّكَاءِ وَالْفِطْنَةِ، ذَكَرَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ
أَنَّ عَضُدَ الدَّوْلَةِ بَعْثَهُ فِي رِسَالَةٍ إِلَى مَلِكِ الرُّومِ، فَلَمَّا
انْتَهَى إِلَيْهِ إِذَا هُوَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ بَابٍ قَصِيرٍ، فَفَهِمَ
أَنَّ مُرَادَهُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْحَنِيَ كَهَيْئَةِ الرَّاكِعِ لِلْمَلِكِ،
فَدَخَلَ الْبَابَ بِظَهْرِهِ وَجَعَلَ يَمْشِي الْقَهْقَرَى إِلَى نَحْوِ
الْمَلِكِ، ثُمَّ انْفَتَلَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَعَرِفَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ مِنَ
الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، فَعَظَّمَهُ.
وَيُذْكَرُ أَنَّ الْمَلِكَ أَحْضَرَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ آلَةَ الطَّرَبِ
الْمُسَمَّاةِ بِالْأُرْغُلِ، لِيَسْتَفِزَّ عَقْلَهُ بِهَا، فَلَمَّا سَمِعَهَا
الْبَاقِلَّانِيُّ خَافَ أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ حَرَكَةٌ نَاقِصَةٌ بِحَضْرَةِ
الْمَلِكِ، فَجَعَلَ لَا يَأْلُو جَهْدًا أَنْ جَرَحَ رِجْلَهُ حَتَّى خَرَجَ
مِنْهَا الدَّمُ الْكَثِيرُ، فَاشْتَغَلَ بِالْأَلَمِ عَنِ الطَّرَبِ، وَلَمْ
يَظْهَرْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ النَّقْصِ وَالْخِفَّةِ، فَعَجِبَ الْمَلِكُ مِنْ
كَمَالِ عَقْلِهِ، ثُمَّ اسْتَكْشَفَ الْمَلِكُ عَنْ أَمْرِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ
جَرَحَ نَفْسَهُ بِمَا أَشْغَلَهُ عَنِ الطَّرَبِ، فَتَحَقَّقَ وُفُورَ عِلْمِهِ
وَعُلُوَّ فَهْمِهِ.
وَقَدْ سَأَلَهُ بَعْضُ الْأَسَاقِفَةِ بِحَضْرَةِ مَلِكِهِمْ، فَقَالَ: مَا
فَعَلَتْ زَوْجَةُ نَبِيِّكُمْ ؟ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا فِيمَا رُمِيَتْ بِهِ
مِنَ الْإِفْكِ ؟ فَقَالَ مُجِيبًا لَهُ عَلَى الْبَدِيهَةِ: هُمَا امْرَأَتَانِ
ذُكِرَتَا بِسُوءٍ ; مَرْيَمُ وَعَائِشَةُ، فَبَرَّأَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،
وَكَانَتْ عَائِشَةُ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَمْ تَأْتِ بِوَلَدٍ، وَأَتَتْ مَرْيَمُ
بِوَلَدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ. يَعْنِي أَنَّ عَائِشَةَ أَوْلَى
بِالْبَرَاءَةِ مِنْ مَرْيَمَ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَإِنْ تَطَرَّقَ فِي
الذِّهْنِ الْفَاسِدِ احْتِمَالٌ إِلَى هَذِهِ فَهُوَ إِلَى تِلْكَ أَسْرَعُ، وَهُمَا
بِحَمْدِ اللَّهِ مُبَرَّأَتَانِ مِنَ السَّمَاءِ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَقَدْ سَمِعَ الْبَاقِلَّانِيُّ
الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ
مَاسِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَقَدْ قَبَّلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ يَوْمًا بَيْنَ
عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: هَذَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَاطِلَهُمْ.
وَدَعَا لَهُ. وَكَانَتْ وَفَاةُ الْبَاقِلَّانِيِّ يَوْمَ السَّبْتَ لِسَبْعٍ
بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى مَقْبَرَةِ
بَابِ حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيُّ
شَيْخُ الْحَنَفِيَّةِ وَفَقِيهُهُمْ، وَقَدْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الرَّازِيِّ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْحَنَفِيَّةِ
بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا عِنْدَ الْمُلُوكِ، وَمِنْ تَلَامِذَتِهِ
الرَّضِيُّ وَالصَّيْمَرِيُّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ
الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ،
وَيَقُولُ: دِينُنَا دِينُ الْعَجَائِزِ، لَسْنَا مِنَ الْكَلَامِ فِي شَيْءٍ.
وَكَانَ فَصِيحًا حَسَنَ التَّدْرِيسِ. دُعِيَ إِلَى وِلَايَةِ الْقَضَاءِ غَيْرَ
مَرَّةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنَ
عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَدُفِنَ
بِدَارِهِ مِنْ دَرْبِ عَبْدَةَ.
الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفٍ الْمَعَافِرَيُّ
الْقَابِسِيُّ
مُصَنِّفُ " التَّلْخِيصِ "، أَصْلُهُ قَرَوِيٌّ، وَإِنَّمَا غَلَبَ
عَلَيْهِ الْقَابِسَيُّ ; لِأَنَّ عَمَّهُ كَانَ يَتَعَمَّمُ قَابِسِيَّةً،
فَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ حَافِظًا بَارِعًا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ،
رَجُلًا صَالِحًا
جَلِيلَ الْقَدْرِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ
فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَكَفَ النَّاسُ عَلَى قَبْرِهِ
لَيَالِيَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لَهُ، وَجَاءَ الشُّعَرَاءُ مِنْ
كُلِّ أَوْبٍ يَرْثُونَ وَيَتَرَحَّمُونَ.
وَلَمَّا أُجْلِسَ لِلْمُنَاظَرَةِ أَنْشَدَ لِغَيْرِهِ:
لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا نُسِبَ الْمُعَلَّى إِلَى كَرَمٍ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إِذَا اقْشَعَرَّتْ
وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الْهَشِيمُ
ثُمَّ بَكَى وَأَبْكَى، وَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا الْهَشِيمُ، أَنَا الْهَشِيمُ.
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَافِظُ بْنُ الْفَرْضِيِّ، أَبُو الْوَلِيدِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ يُوسُفَ بْنِ نَصْرٍ الْأَزْدِيُّ الْفَرْضِيُّ
قَاضِي بَلَنْسِيَةَ سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَجَمَعَ وَحَصَّلَ وَصَنَّفَ "
التَّارِيخَ "، وَفِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ وَمُشْتَبَهِ
النِّسْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَّامَةَ زَمَانِهِ، قُتِلَ شَهِيدًا
عَلَى يَدِ الْبَرْبَرِ، فَسُمِعَ، وَهُوَ جَرِيحٌ طَرِيحٌ، يَقْرَأُ عَلَى
نَفْسِهِ الْحَدِيثَ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: مَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يُدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ
الْمِسْكِ. وَقَدْ كَانَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى الشَّهَادَةَ عِنْدَ أَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ، وَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ
وَاقِفُ عَلَى وَجَلٍ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ
يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهْوَ رَاجٍ
وَخَائِفُ
وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ
مُخَالِفُ
فَيَا سَيِّدِي لَا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ
وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَ مَا. يَصُدُّ ذَوُوا الْقُرْبَى
وَيَجْفُو الْمُؤَالِفُ
لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي أَرَجِّي لِإِسْرَافِي فَإِنِّي
تَالِفُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ غُرَّةِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا جَلَسَ الْخَلِيفَةُ
الْقَادِرُ بِاللَّهِ فِي أُبَّهَةِ الْخِلَافَةِ، وَأُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ
يَدَيْهِ فَخْرُ الْمُلْكِ، وَالْحَجَبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَخَلَعَ عَلَيْهِ
سَبْعَ خِلَعٍ عَلَى الْعَادَةِ، وَعِمَامَةً سَوْدَاءَ، وَسَيْفًا، وَتَاجًا
مُرَصَّعًا، وَسِوَارَيْنِ، وَطَوْقًا، وَلِوَاءَيْنِ خَلَعَهُمَا الْخَلِيفَةُ
بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ سَيْفًا، وَقَالَ لِلْخَادِمِ: قَلِّدْهُ بِهِ، فَهُوَ
شَرَفٌ لَهُ وَلِعَقِبِهِ، يَفْتَحُ بِهِ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا. وَكَانَ
ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا بِمَحْضَرٍ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ
وَالْوُزَرَاءِ، وَالْأَمَاثِلِ وَالْأَعْيَانِ وَالْكُبَرَاءِ بِدَارِ
الْخِلَافَةِ.
وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ، فَفَتَحَ
وَقَتَلَ وَسَبَى وَغَنِمَ وَسَلِمَ، وَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ
بِاللَّهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ مَا بِيَدِهِ مِنْ مَمْلَكَةِ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا
مِنَ الْبِلَادِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا عَاثَتْ بَنُو خَفَاجَةَ بِبِلَادِ الْكُوفَةِ فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ نَائِبُهَا
أَبُو الْحَسَنِ بْنُ مَزْيَدٍ فَوَاقَعَهُمْ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا وَأَسَرَ
مُحَمَّدَ بْنَ ثُمَالٍ وَجَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِهِمْ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ،
فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا حَارَّةً، فَأَهْلَكَتْ مِنْهُمْ
خَمْسَمِائَةِ إِنْسَانٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَقْسَاسِيُّ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ الْبَغْدَادِيِّ
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ زَاهِدًا عَابِدًا، كَثِيرَ الْمُجَاهَدَةِ، لَا
يَنَامُ إِلَّا عَنْ غَلَبَةٍ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ، وَلَا يَغْسِلُ
ثِيَابَهُ إِلَّا بِالْمَاءِ وَحْدَهُ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِئُ
الضَّرِيرُ الْمُجَاهِدِيُّ
قَرَأَ عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ الْقُرْآنَ وَهُوَ صَغِيرٌ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ
بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ، تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ جَاوَزَ الْمِائَةَ سَنَةٍ، وَدُفِنَ فِي مَقَابِرِ الْفَرَادِيسِ.
عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ
أَحَدُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، صَنَّفَ لِلْقَادِرِ بِاللَّهِ " الرَّدَّ
عَلَى الْبَاطِنِيَّةِ "، فَأَجْرَى عَلَيْهِ جِرَايَةً سَنِيَّةً، وَكَانَ
يَسْكُنُ دَرْبَ رَبَاحٍ، تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَنَعَ الْحَاكِمُ صَاحِبُ مِصْرَ النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ
الْمَنَازِلِ، أَوْ أَنْ يَطَّلِعْنَ مِنَ الْأَسْطُحَةِ أَوِ الطَّاقَاتِ،
وَمَنَعَ الْخَفَّافِينَ مِنْ عَمَلِ الْأَخْفَافِ لَهُنَّ، وَمَنَعَهُنَّ مِنْ
الْخُرُوجِ إِلَى الْحَمَّامَاتِ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنَ النِّسَاءِ عَلَى
مُخَالَفَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَهَدَمَ بَعْضَ الْحَمَّامَاتِ عَلَيْهِنَّ، وَجَهَّزَ
عَجَائِزَ كَثِيرَةً يَطُفْنَ فِي الْبُيُوتِ ; يَسْتَعْلِمْنَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ
مَنْ مِنْهُنَّ تَعْشَقُ أَوْ تُعْشَقُ، بِأَسْمَائِهِنَّ وَأَسْمَاءِ مَنْ
يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُنَّ كَذَلِكَ أَطْفَاهَا، وَأَكْثَرَ
مِنَ الدَّوَرَانِ فِي اللَّيْلِ فِي الْبَلَدِ فِي طَلَبِ ذَلِكَ، وَغَرَّقَ
خَلْقًا مِمَّنْ يَطَّلِعُ عَلَى فِسْقِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ،
فَضَاقَ النِّطَاقُ عَلَى النِّسَاءِ وَالْفُسَّاقِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ
أَنْ يَصِلَ إِلَى أَحَدٍ إِلَّا نَادِرًا، حَتَّى إِنَّ امْرَأَةً نَادَتْ
قَاضِيَ الْقُضَاةِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ - وَهُوَ مَالِكُ بْنُ سَعِيدٍ
الْفَارِقِيُّ - وَحَلَفَتْ بِحَقِّ الْحَاكِمِ لَمَا وَقَفَ لَهَا وَاسْتَمَعَ
كَلَامَهَا، فَوَقَفَ لَهَا، فَبَكَتْ بُكَاءً شَدِيدًا، وَقَالَتْ: إِنَّ لِي
أَخًا لَيْسَ لِي غَيْرُهُ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ لَمَا
وَصَّلْتَنِي إِلَيْهِ ; لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ، فَرَقَّ لَهَا
الْقَاضِي رِقَّةً شَدِيدَةً، وَأَمَرَ رَجُلَيْنِ مَعَهُ أَنْ يَكُونَا مَعَهَا
حَتَّى يُبَلِّغَاهَا إِلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي تُرِيدُهُ، فَأَغْلَقَتْ
بَابَهَا، وَأَعْطَتِ الْمِفْتَاحَ جَارَتَهَا، وَذَهَبَتْ حَتَّى وَصَلَتْ مَعَ
الرَّجُلَيْنِ إِلَى مَنْزِلٍ، فَطَرَقَتْ وَدَخَلَتْ، وَقَالَتْ لَهُمَا:
اذْهَبَا رَاشِدَيْنِ. فَإِذَا هُوَ مَنْزِلُ رَجُلٍ تَهْوَاهُ وَيَهْوَاهَا،
فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا احْتَالَتْ بِهِ
مِنَ الْحِيلَةِ عَلَى الْقَاضِي، فَأَعْجَبَهُ
ذَلِكَ، وَجَاءَ زَوْجُهَا مِنْ آخِرِ النَّهَارِ، فَوَجَدَ بَابَهُ مُغْلَقًا،
فَسَأَلَ عَنْ أَمْرِهَا، فَذُكِرَ لَهُ مَا صَنَعَتْ، فَاسْتَغَاثَ عَلَى
الْقَاضِي وَذَهَبَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا أُرِيدُ امْرَأَتِي إِلَّا
مِنْكَ، فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا أَخٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَتْ إِلَى
عَشِيقِهَا. فَخَافَ الْقَاضِي مِنْ مَعَرَّةِ هَذَا الْأَمْرِ، فَرَكِبَ إِلَى
الْحَاكِمِ وَبَكَى لَدَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا
اتَّفَقَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَأَرْسَلَ الْحَاكِمُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ
اللَّذَيْنِ سَارَا بِهَا مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي مَنْ يُحْضِرُ الرَّجُلَ
وَالْمَرْأَةَ جَمِيعًا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُمَا
مُتَعَانِقَيْنِ سُكَارَى، فَسَأَلَهُمَا الْحَاكِمُ عَنْ أَمْرِهِمَا، فَأَخَذَا
يَعْتَذِرَانِ بِمَا لَا يُجْدِي شَيْئًا، فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمَرْأَةِ فِي
بَارِيَّةٍ، وَضَرَبَ الرَّجُلَ بِالسِّيَاطِ ضَرْبًا مُبَرِّحًا. وَازْدَادَ
احْتِيَاطُ الْحَاكِمِ عَلَى النِّسَاءِ حَتَّى مَاتَ. ذَكَرَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا وَلِيَ أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
الشَّوَارِبِ قَضَاءَ الْحَضْرَةِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ
الْأَكْفَانِيِّ.
وَفِيهَا عَمَّرَ فَخْرُ الْمُلْكِ مَسْجِدَ الشَّرْقِيَّةِ، وَنَصَبَ عَلَيْهِ
شَبَابِيكَ مِنْ حَدِيدٍ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَكْرُ بْنُ شَاذَانَ بْنِ بَكْرٍ، أَبُو الْقَاسِمِ الْمُقْرِئُ الْوَاعِظُ
سَمِعَ أَبَا بَكْرٍ الشَّافِعِيَّ،
وَجَعْفَرًا الْخُلْدِيَّ، وَعَنْهُ
الْأَزْهَرِيُّ وَالْخَلَّالُ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا صَالِحًا عَابِدًا
زَاهِدًا، لَهُ قِيَامُ لَيْلٍ، وَكَرِيمُ أَخْلَاقٍ. مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
بَدْرُ بْنُ حَسْنَوَيْهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو النَّجْمِ الْكُرْدِيُّ، كَانَ
مِنْ خِيَارِ الْمُلُوكِ بِنَاحِيَةِ الدِّينَوَرِ وَهَمَذَانَ، لَهُ سِيَاسَةٌ
وَصَدَقَةٌ كَثِيرَةٌ، كَنَّاهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَبَا النَّجْمِ،
وَلَقَّبَهُ نَاصِرَ الدَّوْلَةِ، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَأَنْفَذَهُ إِلَيْهِ،
وَكَانَتْ أَعْمَالُهُ فِي غَايَةِ الْأَمْنِ، بِحَيْثُ إِذَا أَعْيَا جَمَلُ
أَحَدٍ مِنَ الْمُسَافِرِينَ فَتَرَكَهُ بِمَا عَلَيْهِ فِي الْبَرِّيَّةِ، رُدَّ
إِلَيْهِ - وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ - بِمَا كَانَ عَلَيْهِ لَا يُنْقَصُ مِنْهُ
شَيْءٌ.
وَلَمَّا عَاثَتْ أُمَرَاؤُهُ فِي الْبِلَادِ فَسَادًا عَمِلَ لَهُمْ ضِيَافَةً
حَسَنَةً، فَقَدَّمَهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَأْتِهِمْ بِخُبْزٍ، فَجَلَسُوا
يَنْتَظِرُونَ الْخُبْزَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ سَأَلُوا عَنْهُ، فَقَالَ: إِذَا
كُنْتُمْ تُهْلِكُونَ الْحَرْثَ، فَمِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ بِخُبْزٍ ؟ ! ثُمَّ
قَالَ: لَا أَسْمَعُ بِأَحَدٍ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا أَرَقْتَ دَمَهُ.
وَاجْتَازَ مَرَّةً فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِرَجُلٍ قَدْ حَمَلَ حُزْمَةَ حَطَبٍ
وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي كَانَ مَعِي رَغِيفَانِ
أُرِيدُ أَنْ أَتَقَوَّتَ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا مِنِّي بَعْضُ الْجُنْدِ. فَقَالَ
لَهُ: أَتَعْرِفُهُ إِذَا رَأَيْتَهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَوَقَفَ بِهِ فِي مَضِيقٍ
حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ الْجُنْدُ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ
الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الرَّغِيفَيْنِ، قَالَ: هَذَا هُوَ. فَأَمَرَ بِهِ أَنْ
يَنْزِلَ عَنْ فَرَسِهِ، وَأَنْ يَحْمِلَ هَذِهِ الْحُزْمَةَ مِنَ الْحَطَّابِ
حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْ ذَلِكَ
بِمَالٍ جَزِيلٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ، حَتَّى تَأَدَّبَ بِهِ الْجَيْشُ
كُلُّهُمْ.
وَكَانَ يَصْرِفُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ
عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْأَرَامِلِ وَالْأَيْتَامِ،
وَفِي كُلِّ شَهْرٍ عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي تَكْفِينِ الْمَوْتَى،
وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ دِينَارٍ إِلَى عِشْرِينَ نَفْسًا يَحُجُّونَ
عَنْ وَالِدَيْهِ وَعَنْ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ; لِأَنَّهُ كَانَ السَّبَبَ فِي
تَمْلِيكِهِ، وَثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إِلَى الْحَدَّادِينَ
وَالْحَذَّائِينَ لِلْمُنْقَطِعِينَ بَيْنَ هَمَذَانَ وَبَغْدَادَ، يُصْلِحُونَ
لَهُمُ الْأَحْذِيَةَ وَنِعَالَ دَوَابِّهِمْ، وَيَصْرِفُ فِي كُلِّ سَنَةٍ
مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ إِلَى الْحَرَمَيْنِ صَدَقَةً عَلَى الْمُجَاوِرِينَ،
وَعِمَارَةِ الْمَصَانِعِ، وَإِصْلَاحِ الْمِيَاهِ فِي طَرِيقِ الْحِجَازِ،
وَإِطْلَاقًا لِأَهْلِ الْمَنَازِلِ، وَحَفْرِ الْآبَارِ وَإِصْلَاحِهَا، وَمَا
اجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِمَاءٍ جَارٍ إِلَّا بَنَي عِنْدَهُ قَرْيَةً، وَعُمِّرَ
فِي أَيَّامِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ وَالْخَانَاتِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى أَلْفَيْ
مَسْجِدٍ وَخَانٍ، هَذَا كُلُّهُ خَارِجًا عَمَّا يَصْرِفُ مِنْ دِيوَانِهِ مِنَ
الْجِرَايَاتِ، وَالنَّفَقَاتِ وَالصَّدَقَاتِ، وَالْبِرِّ وَالصِّلَاتِ، عَلَى
أَصْنَافِ النَّاسِ، مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْمُؤَذِّنِينَ،
وَالْأَشْرَافِ، وَالشُّهُودِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَالْأَيْتَامِ،
وَالضُّعَفَاءِ. وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ، وَكَانَ لَهُ مِنَ
الدَّوَابِّ الْمُرْتَبِطَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الْجَشْرِ مَا يُنَيِّفُ
عَنْ عِشْرِينَ أَلْفًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَمُدَّةُ
إِمَارَتِهِ اثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ عَلَيٍّ،
وَتَرَكَ مِنَ الْأَمْوَالِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفَ بَدْرَةٍ، وَنَيِّفًا
وَأَرْبَعِينَ بَدْرَةً، الْبَدْرَةُ عَشَرَةُ آلَافٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَمَكَانَ، أَبُو عَلِيٍّ الْهَمَذَانِيُّ
أَحَدُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ
بِبَغْدَادَ، عُنِيَ أَوَّلًا بِالْحَدِيثِ، فَسَمِعَ شَيْئًا كَثِيرًا، حَتَّى
قِيلَ: إِنَّهُ كَتَبَ بِالْبَصْرَةِ عَنْ نَحْوٍ مِنْ خَمْسِمِائَةِ شَيْخٍ.
ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالْفِقْهِ عَلَى أَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيِّ، وَرَوَى
عَنْهُ الْأَزْهَرِيُّ، وَقَالَ: كَانَ ضَعِيفًا، لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي الْحَدِيثِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو
مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْأَكْفَانِيِّ، قَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ وُلِدَ سَنَةَ
سِتَّ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَرَوَى عَنِ الْقَاضِي الْمَحَامِلِيِّ
وَمُحَمَّدِ بْنِ مُخَلَّدٍ وَابْنِ عُقْدَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَعَنْهُ
الْبَرْقَانِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى طَلَبِ
الْعِلْمِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ. وَكَانَ عَفِيفًا نَزِهَا، صَيِّنَ الْعِرْضِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَلِيَ الْحُكْمَ مِنْهَا أَرْبَعِينَ سَنَةً نِيَابَةً وَاسْتِقْلَالًا، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
إِدْرِيسَ، أَبُو سَعْدٍ الْحَافِظُ الْإِسْتَرَابَاذِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْإِدْرِيسِيِّ، رَحَلَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ، وَعُنِيَ بِهِ،
وَسَمِعَ الْأَصَمَّ وَغَيْرَهُ، وَسَكَنَ سَمَرْقَنْدَ وَصَنَّفَ لَهَا
تَارِيخًا، وَعَرَضَهُ عَلَى الدَّارَقُطْنِيِّ فَاسْتَحْسَنَهُ، وَحَدَّثَ بِبَغْدَادَ،
فَسَمِعَ مِنْهُ الْأَزْهَرِيُّ وَالتَّنُوخِيُّ، وَكَانَ ثِقَةً حَافِظًا،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو نَصْرٍ، عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
نَبَاتَةَ السَّعْدِيُّ
الشَّاعِرُ الْمَشْهُورُ، امْتَدَحَ
سَيْفَ الدَّوْلَةِ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ،
وَشِعْرُهُ الْمَشْهُورُ بِالْجَوْدَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَهُوَ الْقَائِلُ
الْبَيْتَ الْمَطْرُوقَ الْمَشْهُورَ:
وَمَنْ لَمْ يَمُتْ بِالسَّيْفِ مَاتَ بِغَيْرِهِ تَعَدَّدَتِ الْأَسْبَابُ وَالدَّاءُ
وَاحِدُ
وَمِنْ شِعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
وَإِذَا عَجَزْتَ عَنِ الْعَدُوِّ فَدَارِهِ وَامْزَحْ لَهُ إِنَّ الْمِزَاحَ
وِفَاقُ
فَالْمَاءُ بِالنَّارِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهَا تُعْطِي النِّضَاجَ وَطَبْعُهَا
الْإِحْرَاقُ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو بَكْرٍ الدَّيْنُورِيُّ
الْفَقِيهُ السُّفْيَانِيُّ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ كَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِبَغْدَادَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَكَانَ إِلَيْهِ
النَّظَرُ فِي الْجَامِعِ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ خَلْفَ الْجَامِعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الْحَاكِمُ النَّيْسَابُورِيُّ
صَاحِبُ " الْمُسْتَدْرَكِ " مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ حَمْدَوَيْهِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ
الْحَكَمِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ الضَّبِّيُّ الْحَافِظُ، وَيُعْرَفُ
بِابْنِ الْبَيِّعِ، مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالْحِفْظِ لِلْحَدِيثِ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَأَوَّلُ سَمَاعِهِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَطَوَّفَ فِي الْآفَاقِ، وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ، فَمِنْ
ذَلِكَ " الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ " وَ " عُلُومُ الْحَدِيثِ
" وَ " الْإِكْلِيلُ " وَ " تَارِيخُ نَيْسَابُورَ "،
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ مَشَايِخُهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ
وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِفْظِ، وَالْأَمَانَةِ،
وَالدِّيَانَةِ، وَالصِّيَانَةِ، وَالضَّبْطِ، وَالثِّقَةِ، وَالتَّحَرُّزِ،
وَالْوَرَعِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَكِنْ قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ
ابْنُ الْبَيِّعِ يَمِيلُ إِلَى التَّشَيُّعِ، فَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأُرْمَوِيُّ: قَالَ: جَمَعَ الْحَاكِمُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ أَحَادِيثَ زَعَمَ أَنَّهَا صِحَاحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ
وَمُسْلِمٍ، يُلْزِمُهُمَا إِخْرَاجَهَا فِي " صَحِيحَيْهِمَا "،
فَمِنْهَا حَدِيثُ الطَّيْرِ، وَ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ
"، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى
قَوْلِهِ، وَلَا صَوَّبُوهُ فِي فِعْلِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ: قَالَ الْحَاكِمُ: حَدِيثُ
الطَّيْرِ لَمْ يُخَرَّجْ فِي " الصَّحِيحِ "، وَهُوَ صَحِيحٌ. قَالَ
ابْنُ طَاهِرٍ: بَلْ مَوْضُوعٌ، لَا يُرْوَى إِلَّا عَنْ سِقَاطِ أَهْلِ
الْكُوفَةِ مِنَ الْمَجَاهِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لَا
يَعْرِفُ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مُعَانِدٌ كَذَّابٌ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: دَخَلْتُ عَلَى الْحَاكِمِ وَهُوَ
مُخْتَفٍ مِنَ الْكَرَّامِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمْ،
فَقُلْتُ لَهُ: لَوْ خَرَجْتَ فَأَمْلَيْتَ حَدِيثًا فِي
فَضَائِلِ مُعَاوِيَةَ لَاسْتَرَحْتَ
مِمَّا أَنْتَ فِيهِ. فَقَالَ: لَا يَجِيءُ مِنْ قَلْبِي، لَا يَجِيءُ مِنْ
قَلْبِي. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ
سَنَةً.
يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ كَجٍّ، أَبُو الْقَاسِمِ الْقَاضِي
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَهُ وُجُوهٌ غَرِيبَةٌ يَحْكِيهَا فِي
الْمَذْهَبِ، وَكَانَتْ لَهُ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِالدِّينَوَرِ
لِبَدْرِ بْنِ حَسْنَوَيْهِ، فَلَمَّا تَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ بَعْدَ مَوْتِ
بَدْرٍ وَثَبَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَيَّارِينَ فَقَتَلُوهُ لَيْلَةَ
سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ، فَسَكَّنَ
الْفِتْنَةَ الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ، عَلَى أَنْ تَعْمَلَ الرَّوَافِضُ
بِدْعَتَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ وَالنَّوْحِ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِوُقُوعِ وَبَاءٍ شَدِيدٍ فِي
الْبَصْرَةِ أَعْجَزَ الْحَفَّارِينَ وَالنَّاسَ عَنْ دَفْنِ مَوْتَاهُمْ،
وَأَنَّهُ أَظَلَّتِ الْبَلَدَ سَحَابَةٌ فِي حَزِيرَانَ، فَأَمْطَرَتْهُمْ
مَطَرًا شَدِيدًا كَثِيرًا.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ صَفَرٍ قُلِّدَ الْمُرْتَضَى أَبُو الْقَاسِمِ
نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ وَالْمَظَالِمَ وَالْحَجَّ، وَجَمِيعَ مَا كَانَ
يَتَوَلَّاهُ أَخُوهُ الرَّضِيُّ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ بِمَحْضَرٍ مِنَ
الْوَزِيرِ فَخْرِ الْمُلْكِ وَالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ يَوْمًا
مَشْهُودًا.
وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ عَنِ الْحَجِيجِ بِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْهُمْ بِسَبَبِ
الْعَطَشِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا، وَسَلِمَ مِنْهُمْ سِتَّةُ آلَافٍ،
وَأَنَّهُمْ شَرِبُوا أَبْوَالَ الْجِمَالِ مِنَ الْعَطَشِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ،
فَسَلَكَ بِهِ الْأَدِلَّاءُ عَلَى بِلَادٍ غَرِيبَةٍ، فَانْتَهَوْا إِلَى أَرْضٍ
قَدْ غَمَرَهَا الْمَاءُ مِنَ الْبَحْرِ، فَخَاضَ بِنَفْسِهِ الْمَاءَ أَيَّامًا،
حَتَّى خَلَصُوا بَعْدَ مَا غَرِقَ
كَثِيرٌ مِنْ جَيْشِهِ، وَعَادَ إِلَى خُرَاسَانَ بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ.
وَلَمْ يَذْهَبِ الرَّكْبُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْعِرَاقِ ; لِفَسَادِ
الْبِلَادِ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَحْمَدَ
الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، إِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَمَوْلِدُهُ
فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَدِمَ بَغْدَادَ وَهُوَ
صَغِيرٌ، سَنَةَ ثَلَاثٍ - أَوْ أَرْبَعٍ - وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَدَرَسَ
الْفِقْهَ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، ثُمَّ عَلَى أَبِي
الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ، وَلَمْ يَزَلْ يَتَرَقَّى بِهِ الْحَالُ حَتَّى صَارَتْ
إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الشَّافِعِيَّةِ، وَعَظُمَ جَاهُهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ
وَالْعَوَامِّ، وَكَانَ ثِقَةً إِمَامًا فَقِيهًا جَلِيلًا نَبِيلًا، شَرَحَ
الْمُزَنِيَّ فِي تَعْلِيقَةٍ حَافِلَةٍ نَحْوٍ مِنْ خَمْسِينَ مُجَلَّدًا، وَلَهُ
تَعْلِيقَةٌ أُخْرَى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَرَوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَرَأَيْتُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَحَضَرْتُ
تَدْرِيسَهُ بِمَسْجِدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، فِي صَدْرِ قَطِيعَةِ
الرَّبِيعِ، وَحَدَّثَنَا عَنْهُ الْأَزَجِيُّ وَالْخَلَّالُ، وَسَمِعْتُ مَنْ
يَذْكُرُ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ تَدْرِيسَهُ سَبْعُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، وَكَانَ
النَّاسُ يَقُولُونَ: لَوْ رَآهُ الشَّافِعِيُّ لِفَرَحِ بِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ: مَا رَأَيْتُ فِي الشَّافِعِيِّينَ
أُفُقَهُ مِنْ أَبِي حَامِدٍ،
رَحِمَهُ اللَّهُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ
تَرْجَمَتَهُ مُسْتَقْصَاةً فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ "،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي الْوَفِيَّاتِ أَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ: هُوَ
أَفْقَهُ وَأَنْظَرُ مِنَ الشَّافِعِيِّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ:
وَلَيْسَ هَذَا مُسَلَّمًا إِلَى الْقُدُورِيِّ ; فَإِنَّ أَبَا حَامِدٍ
وَأَمْثَالَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّافِعِيِّ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ فِي قَبَائِلِ نَوْفَلٍ وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ
مَنْزِلِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ " التَّعْلِيقَةُ
الْكُبْرَى "، وَلَهُ كِتَابُ " الْبُسْتَانِ " وَهُوَ صَغِيرٌ،
فِيهِ غَرَائِبُ. قَالَ: وَقَدِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي
بَعْضِ الْمُنَاظَرَاتِ، فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ:
جَفَاءٌ جَرَى جَهْرًا لَدَى النَّاسِ وَانْبَسَطْ وَعُذْرٌ أَتَى سِرًّا
فَأَكَّدَ مَا فَرَطْ
وَمَنْ ظَنَّ أَنْ يَمْحُو جَلِيَّ جَفَائِهِ خَفِيُّ اعْتِذَارٍ فَهْوَ فِي
أَعْظَمِ الْغَلَطْ
كَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ السَّبْتَ لِإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً بَقِيتْ مِنْ
شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِدَارِهِ بَعْدَمَا صُلِّيَ عَلَيْهِ
بِالصَّحْرَاءِ، وَكَانَ الْجَمْعُ كَثِيرًا وَالْبُكَاءُ غَزِيرًا، ثُمَّ نُقِلَ
إِلَى مَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَبَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ إِحْدَى وَسِتِّينَ سَنَةً
وَأَشْهُرًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو أَحْمَدَ الْفَرْضِيُّ، عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو
أَحْمَدَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الْفَرْضِيُّ الْمُقْرِئُ
سَمِعَ الْمَحَامِلِيَّ وَيُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ مَجْلِسَ أَبِي بَكْرِ
بْنِ الْأَنْبَارِيِّ، وَكَانَ إِمَامًا ثِقَةً، وَرِعًا، وَقُورًا، كَثِيرَ
الْخَيْرِ، يُقْرِئُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ، وَكَانَ مُعَظَّمًا
جَلِيلًا ; إِذَا قَدِمَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ،
نَهَضَ إِلَيْهِ حَافِيًا، فَتَلَقَّاهُ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، تُوُفِّيَ
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
أَبُو الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ، لَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِالرَّضِيِّ ذِي
الْحَسَبَيْنِ، وَلَقَّبَ أَخَاهُ بِالْمُرْتَضَى ذِي الْمَجْدَيْنَ، وَكَانَ
نَقِيبَ الطَّالِبِيِّينَ بِبَغْدَادَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَكَانَ فَاضِلًا دَيِّنًا،
قَرَأَ الْقُرْآنَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ، وَحَفِظَ طَرَفًا
جَيِّدًا مِنَ الْفِقْهِ وَفُنُونِ الْعِلْمِ. وَكَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا،
سَخِيًّا جَوَّادًا وَرِعًا.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الشَّرِيفُ الرَّضِيُّ فِي كَثْرَةِ شِعْرِهِ
أَشْعَرَ قُرَيْشٍ. فَمِنْ شِعْرِهِ الْمُسْتَجَادِ قَوْلُهُ:
اشْتَرِ الْعِزَّ بِمَا شِئْ تَ فَمَا
الْعِزُّ بِغَالِ
بِالْقِصَارِ الصُّفْرِ إِنْ شِئْ تَ أَوِ السُّمْرِ الطِّوَالِ
لَيْسَ بِالْمَغْبُونِ عَقْلًا مَنْ شَرَى عِزًّا بِمَالِ
إِنَّمَا يُدَّخَرُ الْمَا لِ لِحَاجَاتِ الرِّجَالِ
وَالْفَتَى مَنْ جَعَلَ الْأَمْ وَالَ أَثْمَانَ الْمَعَالِي
وَمِنْ شَعْرِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
يَا طَائِرَ الْبَانِ غِرِّيدًا عَلَى فَنَنٍ مَا هَاجَ نَوْحُكَ لِي يَا طَائِرَ
الْبَانِ
هَلْ أَنْتَ مُبْلِغُ مَنْ هَامَ الْفُؤَادُ بِهِ إِنَّ الطَّلِيقَ يُؤَدِّي
حَاجَةَ الْعَانِي
جِنَايَةً مَا جَنَاهَا غَيْرُ مُقْلَتِهِ يَوْمَ الْوَدَاعِ وَوَاشَوْقِي إِلَى
الْجَانِي
لَوْلَا تَذَكُّرُ أَيَّامِي بِذِي سَلَمٍ وَعِنْدَ رَامَةَ أَوَطَارِي
وَأَوْطَانِي
لَمَّا قَدَحْتُ بِنَارِ الْوَجْدِ فِي كَبِدِي وَلَا بَلَلْتُ بِمَاءِ الدَّمْعِ
أَجْفَانِي
وَقَدْ نُسِبَ إِلَى الرَّضِيِّ قَصِيدَةٌ يَتَرَامَى فِيهَا عَلَى الْحَاكِمِ
الْعُبَيْدِيِّ، وَيَوَدُّ أَنْ لَوْ كَانَ بِبَلَدِهِ وَفِي حَوْزَتِهِ، وَيَا
لَيْتَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ، حَتَّى يَرَى كَيْفَ تَكُونُ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ،
وَلَوْ أَنَّ الْخَلِيفَةَ الْعَبَّاسِيَّ أَجَادَ السِّيَاسَةَ، لَسَيَّرَهُ
إِلَيْهِ لِيَقْضِيَ مُرَادَهُ وَيَعْلَمَ النَّاسُ كَيْفَ حَالُهُ، لَكِنْ حِلْمُ
الْعَبَّاسِيِّينَ غَزِيرٌ. يَقُولُ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ:
أَلْبَسُ الذُّلَّ فِي بِلَادِ الْأَعَادِي وَبِمِصْرَ الْخَلِيفَةُ الْعَلَوِيُّ
مَنْ أَبُوهُ أَبِي وَمَوْلَاهُ
مَوْلَا يَ إِذَا ضَامَنِي الْبَعِيدُ الْقَصِيُّ
لَفَّ عِرْقِي بِعِرْقِهِ سَيِّدُ النَّا سِ جَمِيعًا مُحَمَّدٌ وَعْلَيُّ
إِنَّ خَوْفِي بِذَلِكَ الرَّبْعِ أَمْنٌ وَأُوَامِي بِذَلِكَ الْوِرْدِ رِيُّ
فَلَمَّا سَمِعَ الْخَلِيفَةُ الْقَادِرُ بِأَمْرِ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ انْزَعَجَ،
وَبَعَثَ إِلَى أَبِيهِ الشَّرِيفِ الطَّاهِرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوسَوِيِّ
يُعَاتِبُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِهِ الرَّضِيِّ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَالَ
ذَلِكَ بِمَرَّةٍ، وَالرَّوَافِضُ مِنْ شَأْنِهِمُ التَّقِيَّةُ. فَقَالَ لَهُ
أَبُوهُ: فَإِذَا لَمْ تَكُنْ قُلْتَهَا فَقُلْ أَبْيَاتًا تَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ
الْحَاكِمَ بِمِصْرَ دَعِيٌّ لَا نَسَبَ لَهُ. فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ مِنْ
غَائِلَةِ ذَلِكَ. وَأَصَرَّ عَلَى أَنْ لَا يَقُولَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبُوهُ،
وَتَرَدَّدَتِ الرُّسُلُ مِنَ الْخَلِيفَةِ إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَهُمْ
يُنْكِرُونَ، حَتَّى بَعَثَ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيَّ
وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ إِلَيْهِمَا، فَأَحْلَفَاهُ بِاللَّهِ وَبِالْأَيْمَانِ
الْمُؤَكَّدَةِ أَنَّهُ مَا قَالَهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
تُوُفِّيَ فِي خَامِسِ الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ الْوَزِيرُ وَالْقُضَاةُ
وَالْأَعْيَانُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ، وَدُفِنَ
بِدَارِهِ بِمَسْجِدِ الْأَنْبَارِ وَوَلِيَ أَخُوهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى مَا
كَانَ يَلِيهِ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ مَنَاصِبَ أُخَرَ، وَقَدْ رَثَاهُ أَخُوهُ
رَحِمَهُ اللَّهُ، بِمَرْثَاةٍ حَسَنَةِ الْمَطْلَعِ.
بَادِيسُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ بُلُكِّينَ بْنِ زِيرِي بْنِ مُنَادٍ الْحِمْيَرِيُّ
أَبُو الْمُعِزِّ مُنَادِ بْنِ
بَادِيسَ، نَائِبُ الْحَاكِمِ عَلَى بِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ وَابْنُ نَائِبِهَا، وَلَقَّبَهُ الْحَاكِمُ نَصِيرَ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ ذَا هَيْبَةٍ وَسَطْوَةٍ وَحُرْمَةٍ وَافِرَةٍ، كَانَ إِذَا هَزَّ رُمْحًا كَسَرَهُ. كَانَتْ وَفَاتُهُ بَغْتَةً لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ سَلْخَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الصَّالِحِينَ دَعَا عَلَيْهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ. وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ الْمُعِزُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، احْتَرَقَ مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ
بِكَرْبَلَاءَ وَأَرْوِقَتُهُ، وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ الْقَوْمَةَ أَشْعَلُوا
شَمْعَتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ، فَمَالَتَا فِي اللَّيْلِ عَلَى التَّأْزِيرِ
فَاحْتَرَقَ، وَنَفَذَتِ النَّارُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا
كَانَ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ أَيْضًا احْتَرَقَتْ دَارُ الْقُطْنِ بِبَغْدَادَ
وَأَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ بِبَابِ الْبَصْرَةِ وَاحْتَرَقَ جَامِعُ سَامَرَّا.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ وَرَدَ الْخَبَرُ بِتَشْعِيثِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسُقُوطِ جِدَارٍ بَيْنَ يَدَيْ قَبْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ سَقَطَتِ الْقُبَّةُ الْكَبِيرَةُ
عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ الِاتِّفَاقَاتِ
وَأَعْجَبِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَتِ الشِّيعَةُ الَّذِينَ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ
وَنُهِبَتْ أَمْوَالُهُمْ، وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ لَا يُعْرَفُ.
وَفِيهَا كَانَ امْتِدَادُ دَوْلَةِ الْعَلَوِيِّينَ بِالْأَنْدَلُسِ، وَلِيَهَا
عَلِيُّ بْنُ حَمُّودِ بْنِ أَبِي الْعَيْشِ الْعَلَوِيُّ، فَدَخَلَ قُرْطُبَةَ
فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَتَلَ سُلَيْمَانَ بْنَ الْحَكَمِ
الْأُمَوِيَّ، وَقَتَلَ أَبَاهُ أَيْضًا، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا، وَبَايَعَهُ
النَّاسُ، وَتَلَقَّبَ بِالْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ قُتِلَ فِي
الْحَمَّامِ فِي ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
سَنَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ الْقَاسِمُ بْنُ حَمُّودٍ
وَتَلَقَّبَ بِالْمَأْمُونِ، فَأَقَامَ فِي الْمُلْكِ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ كَانَ
ابْنُ أَخِيهِ يَحْيَى، ثُمَّ إِدْرِيسُ أَخُو يَحْيَى، ثُمَّ مَلَكَ
الْأُمَوِيُّونَ، ثُمَّ أَجَانِبُ، حَتَّى مَلَكَ أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَلِيُّ
بْنُ يُوسُفَ بْنِ تَاشِفِينَ
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَلَكَ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ
بِلَادَ خُوَارِزْمَ بَعْدَ مَلِكِهَا خُوَارِزْمَ شَاهْ مَأْمُونٍ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو شُجَاعٍ أَبَا الْحَسَنِ
عَلِيَّ بْنَ الْفَضْلِ الرَّامَهُرْمُزِيَّ، عِوَضًا عَنْ فَخْرِ الْمُلْكِ،
وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلَعِ الْوِزَارَةِ، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَالطُّرُقَاتِ، وَعَيْثِ
الْأَعْرَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ دُوسْتَ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْبَزَّازُ
أَحَدُ حُفَّاظِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانَ
يُذَاكِرُ بِحَضْرَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ، وَيَتَكَلَّمُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ،
فَيُقَالُ: إِنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ، وَقَدْ
تَكَلَّمَ فِي غَيْرِهِ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ كَبِيرَ شَيْءٍ. قَالَ
الْأَزْهَرِيُّ: رَأَيْتُ كُتُبَهُ كُلَّهَا طَرِيَّةً، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ
أُصُولَهُ الْعُتُقَ غَرِقَتْ. وَقَدْ أَمْلَى الْحَدِيثَ مِنْ حَفِظِهِ،
وَالْمُخَلِّصُ وَابْنُ شَاهِينَ حَيَّانِ مَوْجُودَانِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي
رَمَضَانَ عَنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
الْوَزِيرُ فَخْرُ الْمُلْكِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ خَلَفٍ، أَبُو غَالِبٍ، كَانَ مِنْ أَهْلِ وَاسِطٍ وَكَانَ أَبُوهُ صَيْرَفِيًّا، فَتَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ إِلَى أَنْ وَزَرَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَاقْتَنَى أَمْوَالًا جَزِيلَةً، وَبَنَى دَارًا عَظِيمَةً تُعْرَفُ بِالْفَخْرِيَّةِ، وَكَانَتْ أَوَّلًا لِلْخَلِيفَةِ الْمُتَّقِي لِلَّهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَنَفَقَاتٍ غَزِيرَةً، وَكَانَ كَرِيمًا جَوَّادًا بَذَّالًا، كَثِيرَ الصَّدَقَاتِ، كَسَا فِي يَوْمٍ أَلْفَ فَقِيرٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ فَرَّقَ الْحَلَاوَةَ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَانَ فِيهِ مَيْلٌ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَقَدْ قَتَلَهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْأَهْوَازِ، وَأَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِ شَيْئًا كَثِيرًا ; مِنْ ذَلِكَ أَزْيَدُ مِنْ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، خَارِجًا عَنِ الْأَمْلَاكِ وَالْأَثَاثِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانَ عُمُرُهُ يَوْمَ قُتِلَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَأَشْهُرًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَهُ بَعْضُ غِلْمَانِهِ، فَاسْتَعْدَتِ امْرَأَةُ الرَّجُلِ عَلَيْهِ إِلَى الْوَزِيرِ، وَرَفَعَتْ إِلَيْهِ قِصَصًا، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: أَرَأَيْتَ الْقِصَصَ الَّتِي رَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، قَدْ رَفَعْتُهَا إِلَى اللَّهِ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ التَّوْقِيعَ عَلَيْهَا. فَلَمَّا مُسِكَ الْوَزِيرُ، قَالَ: قَدْ وَاللَّهِ خَرَجَ تَوْقِيعُ الْمَرْأَةِ. فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ
بِبَغْدَادَ، فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِيهَا مَلَكَ أَبُو الْمُظَفَّرِ أَرْسَلَانُ خَانَ بِلَادَ مَا وَرَاءَ
النَّهْرِ وَغَيْرَهَا. وَتَلَقَّبَ بِشَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ
وَفَاةِ أَخِيهِ طُغَانَ خَانَ، وَقَدْ كَانَ طُغَانُ خَانَ هَذَا دَيِّنًا
فَاضِلًا، يُحِبُّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَقَدْ غَزَا التُّرْكَ مَرَّةً،
فَقَتَلَ مِنْهُمْ مِائَتَيْ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، وَأَسَرَ مِنْهُمْ مِائَةَ أَلْفٍ،
وَغَنِمَ مِنْ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَوَانِي الصِّينِ شَيْئًا لَمْ
يُعْهَدُ لِأَحَدٍ مِثْلُهُ، فَلَمَّا مَاتَ ظَهَرَتْ مُلُوكُ التُّرْكِ فِي
الْبِلَادِ الشَّرْقِيَّةِ.
وَفِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا وَلِيَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ
مُهَذَّبِ الدَّوْلَةِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ بِلَادَ الْبَطَائِحِ
بَعْدَ أَبِيهِ، فَقَاتَلَهُ ابْنُ عَمَّتِهِ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا، وَضَرَبَهُ
حَتَّى قَتَلَهُ، ثُمَّ لَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ آلَتْ
بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ صَاحِبِ بَغْدَادَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ضَعُفَ أَمْرُ
الدَّيْلَمِ بِبَغْدَادَ، وَطَمِعَ فِيهِمُ الْعَامَّةُ، فَنَزَلُوا إِلَى وَاسِطٍ
فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُهَا مَعَ التُّرْكِ أَيْضًا.
وَفِيهَا وَلِيَ نُورُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْأَغَرِّ دُبَيْسُ بْنُ أَبِي
الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ.
وَفِيهَا قَدِمَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَضُرِبَ الطَّبْلُ
أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، وَلَمْ تَجْرِ بِذَلِكَ عَادَةٌ، وَعَقَدَ عَقْدَهُ عَلَى
بِنْتِ قِرْوَاشٍ، عَلَى صَدَاقٍ مَبْلَغُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ، وَعَيْثِ
الْأَعْرَابِ، وَضَعْفِ الدَّوْلَةِ.
وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ ":
أَخْبَرَنَا سَعْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْبَزَّازُ، أَنْبَأَ أَبُو بَكْرٍ
الطُّرَيْثِيثِيُّ، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ،
قَالَ: وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ اسْتَتَابَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فُقَهَاءَ الْمُعْتَزِلَةِ الْحَنَفِيَّةَ، فَأَظْهَرُوا
الرُّجُوعَ، وَتَبَرَّءُوا مِنَ الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وَالْمَقَالَاتِ
الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَتَى
خَالَفُوهُ حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ مَا يَتَّعِظُ بِهِ
أَمْثَالُهُمْ، وَامْتَثَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ وَأَمِينُ الْمِلَّةِ أَبُو
الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا مِنْ
خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، فِي قَتْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ
وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيةِ وَالْمُشَبِّهَةِ،
وَصَلَبَهُمْ
وَحَبَسَهُمْ وَنَفَاهُمْ، وَأَمَرَ
بِلَعْنِهِمْ عَلَى مَنَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْعَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ
أَهْلِ الْبِدَعِ، وَطَرْدِهِمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي
الْإِسْلَامِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَاجِبُ الْكَبِيرُ شَبَاشَى أَبُو طَاهِرٍ
مَوْلَى شَرَفِ الدَّوْلَةِ، وَلَقَّبَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ بِالسَّعِيدِ،
وَكَانَ كَثِيرَ الصَّدَقَةِ وَالْأَوْقَافِ عَلَى وُجُوهِ الْقُرُبَاتِ، فَمِنْ
ذَلِكَ أَنَّهُ وَقَفَ دَبَاهَا عَلَى الْمَارَسْتَانِ، وَكَانَتْ تُغِلُّ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْخَرَاجِ، وَبَنَى قَنْطَرَةَ
الْخَنْدَقِ وَالْيَاسِرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا دُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، أَوْصَى أَنْ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ فَخَالَفُوهُ، فَعَقَدُوا
عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةً فَسَقَطَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِنَحْوٍ مَنْ سَبْعِينَ
سَنَةً، وَاجْتَمَعَ نِسْوَةٌ عِنْدَ قَبْرِهِ يَنُحْنَ وَيَبْكِينَ، فَلَمَّا
رَجَعْنَ رَأَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنَّ - كَانَتْ هِيَ الْمُقَدَّمَةَ فِيهِنَّ - فِي
الْمَنَامِ كَأَنَّ تُرْكِيًّا خَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ قَبْرِهِ وَمَعَهُ دَبُّوسٌ،
فَحَمَلَ عَلَيْهَا وَزَجَرَهَا، فَإِذَا هُوَ الْحَاجِبُ السَّعِيدُ،
فَانْتَبَهَتْ مَذْعُورَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ قُرِئَ بِدَارِ
الْخِلَافَةِ فِي الْمَوْكِبِ كِتَابٌ فِي مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَفِيهِ
أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ.
وَفِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ فَاضَ مَاءُ
الْبَحْرِ الْمَالِحِ وَوَافَى الْأُبُلَّةَ، وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ بَعْدَ
يَوْمَيْنِ.
وَفِيهَا غَزَا مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ الْهِنْدِ، وَتَوَاقَعَ هُوَ
وَمَلِكُ مُلُوكِ الْهِنْدِ، فَاقْتَتَلَ النَّاسُ قِتَالًا عَظِيمًا، ثُمَّ
انْجَلَتْ عَنْ هَزِيمَةِ الْهِنْدِ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ أَمْوَالًا
عَظِيمَةً مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِائَتَيْ فِيلٍ،
وَاقْتَصُّوا آثَارَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ، وَهَدَمُوا مَعَاقِلَ كَثِيرَةً
جِدًّا، ثُمَّ عَادَ إِلَى غَزْنَةَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ ذَا السَّعَادَتَيْنِ أَبَا غَالِبٍ
الْحَسَنَ بْنَ مَنْصُورٍ، وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ ; لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَعَيْثِ الْأَعْرَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
رَجَاءُ بْنُ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدٍ،
أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَنْصِنَاوِيُّ
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى مِصْرَ، يُقَالُ لَهَا: أَنْصِنَا. قَدِمَ
بَغْدَادَ فَحَدَّثَ بِهَا، وَسَمِعَ مِنْهُ الْحُفَّاظُ، وَكَانَ ثِقَةً،
فَقِيهًا مَالِكِيًّا، عَدْلًا مَقْبُولًا عِنْدَ الْحُكَّامِ، مَرْضِيًّا،
فَرْضِيًّا. ثُمَّ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ
جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَلَّانَ، أَبُو أَحْمَدَ قَاضِي
الْأَهْوَازِ، كَانَ ذَا يُسْرَةٍ كَثِيرَةٍ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ، مِنْهَا
كِتَابٌ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَمَعَ
فِيهِ أَلْفَ مُعْجِزَةٍ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ، تُوَفِّي
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ، أَبُو الْحَسَنِ، مُهَذِّبُ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ بِلَادِ الْبَطِيحَةِ، كَانَتْ لَهُ مَكَارِمُ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ
النَّاسُ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ فِي الشَّدَائِدِ، فَيُؤْوِيهِمْ وَيُحْسِنُ
إِلَيْهِمْ، وَمِنْ أَكْبَرِ مَنَاقِبِهِ فِي ذَلِكَ إِحْسَانُهُ إِلَى أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ حِينَ اسْتَجَارَ بِهِ، وَنَزَلَ عِنْدَهُ
بِالْبَطَائِحِ فَارًّا مِنَ الطَّائِعِ لِلَّهِ فَآوَاهُ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِ،
وَكَانَ فِي خِدْمَتِهِ حَتَّى وَلِيَ إِمْرَةَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَتْ لَهُ
بِهَا عِنْدَهُ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَقَدْ وَلِيَ الْبَطَائِحَ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَشُهُورًا، وَتُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ عَنْ ثِنْتَيْنِ
وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ سَبَبَ
مَوْتِهِ أَنَّهُ افْتَصَدَ فَانْتَفَخَ زِرَاعُهُ حَتَّى مَاتَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
عَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بِشْرِ بْنِ
مَرْوَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ
الْمِصْرِيُّ الْحَافِظُ، كَانَ عَالِمًا بِالْحَدِيثِ وَفُنُونِهِ، وَلَهُ فِيهِ
الْمُصَنَّفَاتُ الْكَثِيرَةُ الشَّهِيرَةُ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيُّ الْحَافِظُ: مَا رَأَتْ عَيْنَايَ
مِثْلَهُ فِي مَعْنَاهُ. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَا رَأَيْتُ بِمِصْرَ مِثْلَ
شَابٍّ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الْغَنِيِّ، كَأَنَّهُ شُعْلَةُ نَارٍ. وَجَعَلَ
يُفَخِّمُ أَمْرَهُ وَيَرْفَعُ ذِكْرَهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ هَذَا كِتَابًا فِيهِ أَوْهَامُ
الْحَاكِمِ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ جَعَلَ يَقْرَؤُهُ عَلَى
النَّاسِ، وَيَعْتَرِفُ لِعَبْدِ الْغَنِيِّ بِالْفَضْلِ، وَيَشْكُرُهُ عَلَى
ذَلِكَ، وَيَرْجِعُ إِلَى مَا أَصَابَ فِيهِ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ، رَحِمَهُمَا
اللَّهُ. وُلِدَ الْحَافِظُ عَبْدُ الْغَنِيِّ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ فِي
صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَيُكَنَّى بِأَبِي
الْفَضْلِ
كَانَ أَبُوهُ قَدْ
جَعَلَهُ وَلِيَّ عَهْدِهِ مِنْ
بَعْدِهِ، وَضُرِبَتِ السِّكَّةُ بِاسْمِهِ، وَخَطَبَ لَهُ الْخُطَبَاءُ عَلَى
الْمَنَابِرِ، وَلُقِّبَ بِالْغَالِبِ بِاللَّهِ، فَلَمْ يَقْدِرْ ذَلِكَ.
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، أَبُو الْفَتْحِ
الْبَزَّازُ الطَّرَسُوسِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْبَصْرِيِّ، سَمِعَ الْكَثِيرَ عَنِ الْمَشَايِخِ، وَسَمِعَ
مِنْهُ الصُّورِيُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ حِينَ أَقَامَ بِهِ، وَكَانَ ثِقَةً
مَأْمُونًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَحِمَنَا أَجْمَعِينَ بِمَنِّهِ
وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عَشْرٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ،
يَذْكُرُ فِيهِ مَا افْتَتَحَهُ مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ فِي السَّنَةِ
الْخَالِيَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ دَخَلَ مَدِينَةً، وَجَدَ بِهَا أَلْفَ قَصْرٍ
مُشَيَّدٍ، وَأَلْفَ بَيْتٍ لِلْأَصْنَامِ، وَمَبْلَغُ مَا فِي الصَّنَمِ مِنَ
الذَّهَبِ يُقَارِبُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، وَمَبْلَغُ الْأَصْنَامِ الْفِضَّةِ
زِيَادَةٌ عَلَى أَلْفِ صَنَمٍ، وَعِنْدَهُمْ صَنَمٌ مُعْظَّمٌ يُؤَرِّخُونَ
مُدَّتُهُ بِجَهَالَتِهِمْ بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ عَامٍ، وَقَدْ عَمَّ
الْمُجَاهِدُونَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ بِالْإِحْرَاقِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا
إِلَّا الرُّسُومُ، وَبَلَغَ عَدَدُ الْهَالِكِينَ مِنَ الْهِنْدِ خَمْسِينَ
أَلْفًا، وَأَسْلَمَ مِنْهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَأُفْرِدَ خُمْسُ
الرَّقِيقِ فَبَلَغَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَاسْتُعْرِضَ مِنَ الْأَفْيَالِ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَخَمْسُونَ فِيلًا، وَحُصِّلَ مِنَ الْأَمْوَالِ
عِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ جَلَسَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ وَقُرِئَ عَهْدُ الْمَلِكِ
أَبِي الْفَوَارِسِ، وَلُقِّبَ قِوَامَ الدَّوْلَةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ بِخِلَعٍ
حُمِلَتْ إِلَيْهِ بِوِلَايَةِ كَرْمَانَ وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْعِرَاقِ ; لِفَسَادِ الْأَعْرَابِ فِي الطُّرُقَاتِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْأُصَيْفِرُ الْمُنْتَفِقِيُّ الَّذِي كَانَ يَخْفِرُ الْحَاجَّ.
أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ
مَرْدَوَيْهِ بْنِ فُورَكَ، أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ الْأَصْبَهَانِيُّ
تُوَفِّي فِي رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الضَّرِيرُ الْمُقْرِئُ الْمُفَسِّرُ، كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ
وَأَحْفَظِهِمْ لِلتَّفْسِيرِ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ.
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِ قَالَ: كَانَ لَنَا شَيْخٌ نَقْرَأُ
عَلَيْهِ، فَمَاتَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَرَآهُ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لَهُ: مَا
فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ: غَفَرَ لِي. قَالَ: فَمَا كَانَ حَالُكَ مَعَ
مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ ؟ قَالَ: لَمَّا أَجْلَسَانِي وَسَأَلَانِي أَلْهَمَنِي
اللَّهُ تَعَالَى أَنْ قُلْتُ: بِحَقِّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دَعَانِي. فَقَالَ
أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: قَدْ أَقْسَمَ عَلَيْنَا بِعَظِيمٍ، فَدَعْهُ.
فَتَرَكَانِي وَذَهَبَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عُدِمَ الْحَاكِمُ الْعُبَيْدِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
كَانَ لَيْلَةُ الثُّلَاثَاءِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ فُقِدَ
الْحَاكِمُ بْنُ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ الْفَاطِمِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ،
فَاسْتَبْشَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
كَانَ جَبَّارًا عَنِيدًا، وَشَيْطَانًا مَرِيدًا، وَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ
صِفَاتِهِ الْقَبِيحَةِ، وَسِيرَتِهِ الْمَلْعُونَةِ:
كَانَ قَبَّحَهُ اللَّهُ كَثِيرَ التَّلَوُّنِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ،
جَائِرًا فِي كَيْفِيَّةِ بُلُوغِهِ مَا يَأْمَلُهُ مِنْ ضَمِيرِهِ الْمَلْعُونِ ;
لِأَنَّهُ كَانَ يَرُومُ أَنْ يَدَّعِيَ الْأُلُوهِيَّةَ كَمَا ادَّعَاهَا فِرْعَوْنُ
فِي زَمَانِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَانَ قَدْ أَمَرَ الرَّعِيَّةَ إِذَا ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ
أَنَّ يَقُومَ النَّاسُ عَلَى أَقْدَامِهِمْ صُفُوفًا ; إِعْظَامًا لِذِكْرِهِ
وَاحْتِرَامًا لِاسْمِهِ، فَكَانَ يُفْعَلُ هَذَا فِي سَائِرِ مَمَالِكِهِ حَتَّى
فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَكَانَ أَهْلُ مِصْرَ عَلَى الْخُصُوصِ إِذَا
قَامُوا خَرُّوا سُجُودًا، حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْجُدُ بِسُجُودِهِمْ مَنْ فِي
الْأَسْوَاقِ مِنَ الرَّعَاعِ وَغَيْرِهِمْ.
وَأَمَرَ فِي وَقْتٍ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ
بِالدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ كُرْهًا، ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْعَوْدِ
إِلَى أَدْيَانِهِمْ، وَخَرَّبَ الْكَنَائِسَ، ثُمَّ عَمَّرَهَا، وَخَرَّبَ
قُمَامَةَ، ثُمَّ أَعَادَهَا، وَابْتَنَى الْمَدَارِسَ وَجَعَلَ فِيهَا
الْفُقَهَاءَ وَالْمَشَايِخَ، ثُمَّ قَتَلَهُمْ وَخَرَّبَهَا.
وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِإِغْلَاقِ الْأَسْوَاقِ نَهَارًا، وَفَتْحِهَا لَيْلًا،
فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا، حَتَّى اجْتَازَ مَرَّةً بِشَيْخٍ
يَعْمَلُ النِّجَارَةَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: أَلَمْ
نَنْهَكُمْ عَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، أَمَا كَانَ النَّاسُ يَسْهَرُونَ
لَمَّا كَانُوا يَتَعَيَّشُونَ بِالنَّهَارِ، فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ السَّهَرِ،
فَتَبَسَّمَ وَتَرَكَهُ. وَأَعَادَ النَّاسَ إِلَى أَمْرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَكُلُّ
هَذَا تَغْيِيرٌ لِلرُّسُومِ، وَاخْتِبَارٌ لِطَاعَةِ الْعَامَّةِ، لِيَرْقَى فِي
ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ أَطَمُّ مِنْ ذَلِكَ، لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ الْحِسْبَةَ بِنَفْسِهِ، يَدُورُ فِي الْأَسْوَاقِ عَلَى
حِمَارٍ لَهُ، وَكَانَ لَا يَرْكَبُ إِلَّا حِمَارًا، فَمَنْ وَجَدَهُ قَدْ غَشَّ
فِي مَعِيشَتِهِ أَمَرَ عَبْدًا أَسْوَدَ مَعَهُ، يُقَالُ لَهُ: مَسْعُودٌ، أَنْ
يَفْعَلَ بِهِ الْفَاحِشَةَ الْعُظْمَى جِهَارًا، وَهَذَا أَمْرٌ مُنْكَرٌ
مَلْعُونٌ، لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ.
وَكَانَ قَدْ مَنَعَ النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ مَنَازِلِهِنَّ، وَقَطَعَ
الْأَعْنَابَ حَتَّى لَا يَتَّخِذَ النَّاسُ خَمْرًا، وَمَنَعَهُمْ مِنْ طَبْخِ
الْمُلُوخِيَّةٍ، وَأَشْيَاءَ مِنَ الرَّعُونَاتِ الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ وَلَا
تَنْحَصِرُ.
وَكَانَتِ الْعَامَّةُ مُوتُورِينَ مِنْهُ يُبْغِضُونَهُ كَثِيرًا، وَيَكْتُبُونَ
لَهُ الْأَوْرَاقَ الَّتِي فِيهَا الشَّتِيمَةُ الْبَلِيغَةُ لَهُ وَلِأَسْلَافِهِ
وَحَرِيمِهِ فِي صُورَةِ قِصَصٍ، فَإِذَا قَرَأَهَا ازْدَادَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ،
حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ عَمِلُوا صُورَةَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَقٍ بِخُفَّيْهَا
وَإِزَارِهَا، وَفِي يَدِهَا قِصَّةٌ فِيهَا مِنَ الشَّتْمِ وَاللَّعْنِ
وَالْمُخَالَفَةِ لَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ، فَلَمَّا رَآهَا ظَنَّهَا امْرَأَةً،
فَذَهَبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، وَأَخَذَ الْقِصَّةَ مِنْ يَدِهَا، فَقَرَأَهَا
فَرَأَى مَا فِيهَا، فَأَغْضَبَهُ ذَلِكَ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ،
فَلَمَّا تَحَقَّقَهَا مِنْ وَرَقٍ
ازْدَادَ أَيْضًا غَضَبًا عَلَى
غَضَبِهِ، ثُمَّ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ أَمَرَ الْعَبِيدَ مِنَ
السُّودَانِ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى مِصْرَ فَيُحَرِّقُوهَا وَيَنْهَبُوا مَا فِيهَا
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْحَرِيمِ، فَذَهَبَتِ الْعَبِيدُ فَامْتَثَلُوا مَا
أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَاتَلَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ قِتَالًا عَظِيمًا ثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ، وَالنَّارُ تَعْمَلُ فِي الدُورِ وَالْحَرِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ،
يَخْرُجُ هُوَ بِنَفْسِهِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - فَيَقِفُ مِنْ بَعِيدٍ وَيَبْكِي،
وَيَقُولُ: مَنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ الْعُبَيْدَ بِهَذَا ؟ ثُمَّ اجْتَمَعَ النَّاسُ
فِي الْجَوَامِعِ، وَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، وَجَأَرُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَاسْتَغَاثُوا بِهِ، فَرَقَّ لَهُمُ التُّرْكُ وَالْمَشَارِقَةُ،
وَانْحَازُوا إِلَيْهِمْ، فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ عَنْ حَرِيمِهِمْ وَدُورِهِمْ،
وَتَفَاقَمَ الْحَالُ جِدًّا، ثُمَّ رَكِبَ الْحَاكِمُ - لَعَنَهُ اللَّهُ -
يَفْصِلُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَكَفَّ الْعَبِيدَ عَنْهُمْ، وَقَدْ كَانَ
يُظْهِرُ التَّنَصُّلَ مِنَ الْقِصَّةِ، وَأَنَّ الْعَبِيدَ ارْتَكَبُوا ذَلِكَ
مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَإِذْنِهِ، وَكَانَ يُنْفِذُ لَهُمُ السِّلَاحَ
وَيَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَمَا
انْجَلَى الْحَالُ حَتَّى أُحْرِقَ مِنْ مِصْرَ نَحْوٌ مَنْ ثُلُثِهَا، وَنُهِبَ
قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِهَا، وَسُبِيَتْ حَرِيمُ خَلْقٍ كَثِيرٍ، فَفُعِلَ بِهِنَّ
الْفَوَاحِشُ وَالْمُنْكَرَاتُ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُنَّ مَنْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا
خَوْفًا مِنَ الْعَارِ وَالْفَضِيحَةِ، وَاشْتَرَى الرِّجَالُ مِنْهُمْ مَنْ
سُبِيَ لَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالْحَرِيمِ مِنْ أَيْدِي الْعَبِيدِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ثُمَّ زَادَ ظُلْمُ الْحَاكِمِ، وَعَنَّ لَهُ أَنْ
يَدَّعِيَ الرُّبُوبِيَّةَ، فَصَارَ قَوْمٌ مِنَ الْجُهَّالِ إِذَا رَأَوْهُ
يَقُولُونَ: يَا وَاحِدُ يَا أَحَدُ، يَا مُحْيِي يَا مُمِيتُ.
صِفَةُ مَقْتَلِهِ، لَعَنَهُ اللَّهُ
كَانَ قَدْ تَعَدَّى شَرُّهُ إِلَى النَّاسِ حَتَّى إِلَى أُخْتِهِ، يَتَّهِمُهَا
بِالْفَاحِشَةِ، وَيُسْمِعُهَا
أَغْلَظَ الْكَلَامِ، فَتَبَرَّمَتْ مِنْهُ، وَعَمِلَتْ عَلَى قَتْلِهِ، فَرَاسَلَتْ فِيهِ أَكْبَرَ الْأُمَرَاءِ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ دَوَّاسٍ، فَتَوَافَقَتْ هِيَ وَهُوَ عَلَى قَتْلِهِ، وَتَوَاطَآ عَلَى ذَلِكَ، فَجَهَّزَ مِنْ عِنْدِهِ عَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ مِنْ عَبِيدِهِ شَهْمَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُمَا: إِذَا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَكُونَا بِجَبَلِ الْمُقَطَّمِ، فَفِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ يَكُونُ الْحَاكِمُ هُنَاكَ فِي اللَّيْلِ لِيَنْظُرَ فِي النُّجُومِ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا رِكَابِيٌّ وَصَبِيٌّ، فَاقْتُلَاهُ وَاقْتُلَاهُمَا مَعَهُ. وَاتَّفَقَ الْحَالُ عَلَى ذَلِكَ وَتَقَرَّرَ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ قَالَ الْحَاكِمُ لِأُمِّهِ: عَلَيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَطْعٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ نَجَوْتُ مِنْهُ عَمَّرْتُ نَحْوًا مِنْ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَمَعَ هَذَا فَانْقُلِي حَوَاصِلِي إِلَيْكِ، فَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكِ مِنْ أُخْتِي، فَنَقَلَ حَوَاصِلَهُ إِلَى أُمِّهِ، وَكَانَ لَهُ فِي صَنَادِيقَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ وَجَوَاهِرُ، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا مَوْلَانَا، إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَارْحَمْنِي وَلَا تَرْكَبْ فِي لَيْلَتِكَ هَذِهِ إِلَى مَوْضِعٍ وَكَانَ يُحِبُّهَا، فَقَالَ: أَفْعَلُ. وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ الْقَصْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَدَارَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقَصْرِ، فَنَامَ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَالَ: إِنْ لَمْ أَرْكَبِ اللَّيْلَةَ فَاضَتْ نَفْسِي. فَرَكِبَ فَرَسًا وَصَحِبَهُ صَبِيٌّ، وَصَعِدَ الْجَبَلَ الْمُقَطَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ ذَانِكَ الْعَبْدَانِ، فَأَنْزَلَاهُ عَنْ مَرْكُوبِهِ، وَقَطَعَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَبَقَرَا جَوْفَهُ، وَحَمَلَاهُ فَأَتَيَا بِهِ مَوْلَاهُمَا ابْنَ دَوَّاسٍ، فَحَمَلَهُ إِلَى أُخْتِهِ، فَدَفَنَتْهُ فِي مَجْلِسِ دَارِهَا، وَاسْتَدْعَتِ الْأُمَرَاءَ وَالْأَكَابِرَ وَالْوَزِيرَ، وَقَدْ أَطْلَعَتْهُ عَلَى الْحِيلَةِ، فَبَايَعَهُمْ لِوَلَدِ الْحَاكِمِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيٍّ، وَلُقِّبَ بِالظَّاهِرِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ. وَكَانَ بِدِمَشْقَ، فَاسْتَدْعَتْ بِهِ وَجَعَلَتْ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّ الْحَاكِمَ قَالَ لِي: إِنَّهُ يَغِيبُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَعُودُ. فَاطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَجَعَلَتْ تُرْسِلُ رِكَابِيِّينَ يَصْعَدُونَ الْجَبَلَ وَيَجِيئُونَ وَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُ بِالْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ. وَيَقُولُ الَّذِينَ بَعْدَهُمْ: تَرَكْنَاهُ فِي
مَوْضِعِ كَذَا. حَتَّى اطْمَأَنَّ النَّاسُ، وَقَدِمَ ابْنُ أَخِيهَا وَقَدِ اسْتَصْحَبَ مَعَهُ مِنْ تِنِّيسَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ وَأَلْفَيْ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَحِينَ وَصَلَ أَلْبَسَتْهُ تَاجَ الْمُعِزِّ جَدِّ أَبِيهِ، وَحُلَّةً عَظِيمَةً، وَأَجْلَسَتْهُ عَلَى السَّرِيرِ، وَبَايَعَهُ الْأُمَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ، وَأَطْلَقَ لَهُمُ الْأَمْوَالَ الْجَزِيلَةَ، وَخَلَعَتْ عَلَى ابْنِ دَوَّاسٍ خِلْعَةً سَنِيَّةً هَائِلَةً، وَعَمِلَتْ عَزَاءَ أَخِيهَا الْحَاكِمِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَى ابْنِ دَوَّاسٍ طَائِفَةً مِنَ الْجُنْدِ لِيَكُونُوا بَيْنَ يَدَيْهِ بِسُيُوفِهِمْ وُقُوفًا فِي خِدْمَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَتْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَنْ يَقُولُوا لَهُ: أَنْتَ قَاتِلُ مَوْلَانَا، ثُمَّ يَهْبُرُونَهُ بِسُيُوفِهِمْ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَقَتَلَتْ كُلَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى سِرِّهَا فِي قَتْلِ أَخِيهَا، فَعَظُمَتْ هَيْبَتُهَا، وَقَوِيَتْ حُرْمَتُهَا، وَثَبَتَتْ دَوْلَتُهَا. وَقَدْ كَانَ عُمُرُ الْحَاكِمِ حِينَ قُتِلَ سَبْعًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، كَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا تَوَلَّى الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ
السَّمَنَانِيُّ الْحِسْبَةَ وَالْمَوَارِيثَ بِبَغْدَادَ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ
بِالسَّوَادِ.
وَفِيهَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْمَلِكِ الْكَبِيرِ يَمِينِ
الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ: أَنْتَ أَكْبَرُ مُلُوكِ الْأَرْضِ،
وَفِي كُلِّ سَنَةٍ تَفْتَحُ طَائِفَةً مِنْ بِلَادِ الْكُفْرِ، وَهَذِهِ طَرِيقُ
الْحَجِّ قَدْ تَعَطَّلَتْ مِنْ مُدَّةِ سِنِينَ، وَفَتْحُكَ لَهَا أَوْجَبُ مِنْ
غَيْرِهَا. فَتَقَدَّمَ إِلَى قَاضِي الْقُضَاةِ بِعَمَلِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ النَّاصِحِيِّ
أَنْ يَكُونَ أَمِيرَ الْحَجِّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَبَعَثَ مَعَهُ
بِثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِلْأَعْرَابِ، غَيْرَ مَا جَهَّزَ مِنَ
الصَّدَقَاتِ إِلَى الْحَرَمَيْنِ، فَسَارَ النَّاسُ صُحْبَتَهُ، فَلَمَّا كَانُوا
بِفَيْدَ اعْتَرَضَهُمُ الْأَعْرَابُ، فَصَالَحَهُمُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ
النَّاصِحِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِينَارٍ فَامْتَنَعُوا، وَصَمَّمَ كَبِيرُهُمْ،
وَهُوَ جَمَّازُ بْنُ عَدِيٍّ، عَلَى أَخْذِ الْحَجِيجِ، وَرَكِبَ فَرَسَهُ،
وَجَالَ جَوْلَةً وَاسْتَنْهَضَ مَنْ مَعَهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْعَرَبِ،
فَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ غُلَامٌ مِنْ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ
فَوَصَلَ إِلَى قَلْبِهِ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَانْهَزَمَتِ الْأَعْرَابُ،
وَسَلَكَ الْحَجِيجُ الطَّرِيقَ، فَحَجُّوا وَرَجَعُوا سَالِمِينَ آمِنِينَ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَفْصٍ، أَبُو سَعْدٍ الْمَالِينِيُّ
الصُّوفِيُّ
وَمَالِينُ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى هَرَاةَ كَانَ مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُكْثِرِينَ
الرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ، وَكَتَبَ كَثِيرًا،
وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا صَالِحًا، مَاتَ بِمِصْرَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ رَامِينَ
الْقَاضِي، أَبُو مُحَمَّدٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ
نَزَلَ بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا عَنِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
مِنْ كِبَارِ الشَّافِعِيَّةِ، فَاضِلًا صَالِحًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَبُو غَالِبٍ
الْوَزِيرُ الْمُلَقَّبُ ذَا السَّعَادَتَيْنِ، وُلِدَ بِسِيرَافَ سَنَةَ
ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى
وَزَرَ بِبَغْدَادَ، ثُمَّ قُتِلَ وَصُودِرَ ابْنُهُ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ
دِينَارٍ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْغَزَّالُ، سَمِعَ النَّجَّادَ وَالْخُلْدِيَّ وَابْنَ
السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ شَيْخًا
ثِقَةً صَالِحًا كَثِيرَ
الْبُكَاءِ عِنْدَ الذِّكْرِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، أَبُو بَكْرٍ الْعَنْبَرِيُّ الشَّاعِرُ
كَانَ أَدِيبًا ظَرِيفًا، حَسَنَ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى الْزَمَا نِ وَأَهْلِهِ نَظَرًا كَفَانِي فَعَرَفْتُهُ
وَعَرَفْتُهُمْ
وَعَرَفْتُ عِزِّيَ مِنْ هَوَانِي فَلِذَاكَ أَطْرَحُ الصَّدِي
قَ فَلَا أَرَاهُ وَلَا يَرَانِي وَزَهِدْتُ فِيمَا فِي يَدَيْ
هِ وَدُونَهُ نَيْلُ الْأَمَانِي فَتَعَجَّبُوا لِمُغَالِبٍ
وَهَبَ الْأَقَاصِيَ لِلْأَدَانِي وَانْسَلَّ مِنْ بَيْنِ الزِّحَا
مِ فَمَا لَهُ فِي الْكَوْنِ ثَانِي
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مُتَصَوِّفًا، ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُمْ،
وَذَمَّهُمْ بِقَصَائِدَ ذَكَرْتُهَا فِي " تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ ".
تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثَانِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رِزْقِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْبَزَّازُ، الْمَعْرُوفُ
بِابْنِ رَزْقَوَيْهِ
قَالَ الْخَطِيبُ: هُوَ أَوَّلُ شَيْخٍ كَتَبْتُ عَنْهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ دَرَسَ الْقُرْآنَ، وَدَرَسَ
الْفِقْهَ
عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ
ثِقَةً صَدُوقًا، كَثِيرَ السَّمَاعِ وَالْكِتَابَةِ، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ،
جَمِيلَ الْمَذْهَبِ، مُدِيمًا لِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ
الْبِدَعِ، وَمَكَثَ دَهْرًا عَلَى الْحَدِيثِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا أَحَبُّ
الدُّنْيَا إِلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتِي
عَلَيْكُمُ الْحَدِيثَ. وَقَدْ بَعَثَ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ إِلَى الْعُلَمَاءِ
بِذَهَبٍ، فَقَبِلُوا كُلُّهُمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ
شَيْئًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَقْبَرَةِ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى النَّيْسَابُورِيُّ
رَوَى عَنِ الْأَصَمِّ وَغَيْرِهِ، وَعَنْهُ مَشَايِخُ الْبَغَادِدَةِ،
كَالْأَزْهَرِيِّ وَالْعُشَارِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَرَوَى عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ
وَغَيْرُهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ،
فَصَنَّفَ لَهُمْ تَفْسِيرًا وَسُنَنًا وَتَارِيخًا، وَجَمَعَ شُيُوخًا
وَتَرَاجِمَ وَأَبْوَابًا، لَهُ بِنَيْسَابُورَ دَارٌ مَعْرُوفَةٌ، وَفِيهَا
صُوفِيَّةٌ، وَبِهَا قَبْرُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّاسِ فِي تَضْعِيفِهِ فِي
الرِّوَايَةِ، فَحَكَى عَنِ الْخَطِيبِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْقَطَّانِ
أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ بِثِقَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ مِنَ الْأَصَمِّ
كَثِيرًا، فَلَمَّا مَاتَ الْحَاكِمُ رَوَى عَنْهُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَكَانَ
يَضَعُ لِلصُّوفِيَّةِ الْأَحَادِيثَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي ثَالِثِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو عَلِيٍّ، الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ
الدَّقَّاقُ النَّيْسَابُورِيُّ
كَانَ يَعِظُ النَّاسَ وَيَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَحْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَمِنْ
كَلَامِهِ: مَنْ تَوَاضَعَ لِأَحَدٍ لِأَجْلِ دُنْيَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ ;
لِأَنَّهُ خَضَعَ لَهُ بِلِسَانِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَلَوْ خَضَعَ لَهُ بِقَلْبِهِ
ذَهَبَ دِينُهُ كُلُّهُ.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ اذْكُرُونِي وَأَنْتُمْ
أَحْيَاءٌ أَذْكُرْكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْتَ التُّرَابِ.
وَقَالَ: الْبَلَاءُ الْأَكْبَرُ أَنْ تُرِيدَ وَلَا تُرَادُ، وَتَدْنُوَ
فَتُرَدَّ إِلَى الْإِبْعَادِ.
وَأَنْشَدَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى
عَلَى يُوسُفَ [ يُوسُفَ: 84 ].
جُنِنَّا بِلَيْلَى وَهِيَ جُنَّتْ بِغَيْرِنَا وَأُخْرَى بِنَا مَجْنُونَةٌ لَا
نُرِيدُهَا
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حُفَّتِ الْجَنَّةُ
بِالْمَكَارِهِ. إِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ لَا وُصُولَ إِلَيْهِ إِلَّا
بِتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ لَمْ يَزُلْ ؟ !
صَرِيعُ الدِّلَاءِ الشَّاعِرُ، أَبُو الْحَسَنِ، عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ
الْفَقِيهُ الْبَغْدَادِيُّ،
الشَّاعِرُ الْمَاجِنُ، الْمَعْرُوفُ بِصَرِيعِ الدِّلَاءِ، قَتِيلُ الْغَوَاشِي
ذِي الرَّقَاعَتَيْنِ، لَهُ قَصِيدَةٌ مَقْصُورَةٌ فِي الْهَزْلِ، عَارَضَ بِهَا
قَصِيدَةَ أَبِي بَكْرِ بْنِ دُرَيْدٍ، يَقُولُ فِيهَا:
وَأَلْفُ حِمْلٍ مِنْ مَتَاعِ تُسْتَرٍ أَنْفَعُ لِلْمِسْكِينِ مَنْ لَقَطِ
النَّوَى
مَنْ طَبَخَ الدِّيكَ وَلَا يَذْبَحُهُ طَارَ مِنَ الْقِدْرِ إِلَى حَيْثُ
انْتَهَى
مَنْ دَخَلَتْ فِي عَيْنِهِ مِسَلَّةٌ فَسَلْهُ مِنْ سَاعَتِهِ كَيْفَ الْعَمَى
وَالذَّقَنُ شَعْرٌ فِي الْوُجُوهِ طَالِعٌ كَذَلِكَ الْعِقْصَةُ مِنْ خَلْفِ
الْقَفَا
مَنْ أَكَلَ الْكِرْشَ وَلَا يَغْسِلُهُ سَالَ عَلَى لِحْيَتِهِ شِبْهُ الْخَرَا
إِلَى أَنْ خَتْمَهَا بِالْبَيْتِ الَّذِي حُسِدَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ وَأَخْطَاهُ الْغِنَى فَذَاكَ وَالْكَلْبُ عَلَى حَدٍّ
سَوَا
قَدِمَ مِصْرَ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَامْتَدَحَ
فِيهَا خَلِيفَتَهَا الظَّاهِرَ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ بْنَ الْحَاكِمِ،
وَاتَّفَقَتْ وَفَاتُهُ بِهَا فِي رَجَبِ هَذِهِ السَّنَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
وَفِيهَا جَرَتْ كَائِنَةٌ غَرِيبَةٌ، وَمُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ أَنَّ
رَجُلًا مِنَ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَاكِمِ اتَّفَقَ مَعَ جَمَاعَةٍ
مِنَ الْحُجَّاجِ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى أَمْرِ سَوْءٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا
كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ طَافَ هَذَا
الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ جَاءَ
لِيُقَبِّلَهُ، فَضَرَبَهُ بِدَبُّوسٍ كَانَ مَعَهُ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ
مُتَوَالِيَاتٍ، وَقَالَ: إِلَى مَتَى يُعْبَدُ هَذَا الْحَجَرَ ؟ وَلَا مُحَمَّدٌ
وَلَا عَلَيٌّ يَمْنَعُنِي مِمَّا أَفْعَلُهُ، فَإِنِّي أَهْدِمُ الْيَوْمَ هَذَا
الْبَيْتَ، وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ، فَاتَّقَاهُ أَكْثَرُ الْحَاضِرِينَ،
وَتَأَخَّرُوا عَنْهُ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا طِوَالًا جَسِيمًا،
أَحْمَرَ اللَّوْنِ، أَشْقَرَ الشَّعْرِ، وَعَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ
مِنَ الْفُرْسَانِ وُقُوفٌ لِيَمْنَعُوهُ مِمَّنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ، فَتَقَدَّمَ
إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ مَعَهُ خِنْجَرٌ، فَوَجَأَهُ بِهَا،
وَتَكَاثَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَقَتَلُوهُ وَقَطَّعُوهُ قِطَعًا وَحَرَّقُوهُ،
وَتَتَبَّعُوا أَصْحَابَهُ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ، وَنَهَبَتْ أَهْلُ
مَكَّةَ رَكْبَ الْمِصْرِيِّينَ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى غَيْرِهِمْ أَيْضًا،
وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَ الْحَالُ
بَعْدَ أَنْ تُتُبِّعَ أُولَئِكَ النَّفَرُ الَّذِينَ تَمَالَئُوا عَلَى
الْإِلْحَادِ فِي أَشْرَفِ الْبِلَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الْحَجَرِ
ثَلَاثُ فِلَقٍ مِثْلُ الْأَظْفَارِ، وَبَدَا مَا تَحْتَهَا أَسْمَرَ يَضْرِبُ
إِلَى صُفْرَةٍ، مُحَبَّبًا مِثْلَ الْخَشْخَاشِ، فَأَخَذَ
بَنُو شَيْبَةَ تِلْكَ الْفِلَقَ
فَعَجَنُوهَا بِالْمِسْكِ وَاللَّكِّ، وَحَشَوْا بِهَا تِلْكَ الشُّقُوقَ الَّتِي
بَدَتْ، فَاسْتَمْسَكَ الْحَجْرُ وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ،
وَهُوَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَ الْمَارَسْتَانُ الَّذِي بَنَاهُ الْوَزِيرُ
مُؤَيِّدُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ الرُّخَجِيُّ وَزِيرُ شَرَفِ
الْمُلْكِ بِوَاسِطٍ، وَرَتَّبَ لَهُ الْخُزَّانَ وَالْأَشْرِبَةَ
وَالْعَقَاقِيرَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنَعِمَ الْوَكِيلُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ الْبَوَّابِ الْكَاتِبُ، عَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ، أَبُو الْحَسَنِ بْنُ
الْبَوَّابِ
صَاحِبُ الْخَطِّ الْمَنْسُوبِ، صَحِبَ أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ سَمْعُونَ
الْوَاعِظَ، وَكَانَ يَقُصُّ بِجَامِعِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ أَثْنَى عَلَى ابْنِ
الْبَوَّابِ غَيْرُ وَاحِدٍ فِي دِينِهِ، وَأَمَّا خَطُّهُ وَطَرِيقَتُهُ
فَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهِ، وَخَطُّهُ أَوْضَحُ تَعْرِيبًا مَنْ
خَطِّ أَبِي عَلِيِّ بْنِ مُقْلَةَ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ أَكْتَبُ مِنْهُ،
وَعَلَى طَرِيقَتِهِ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ إِلَّا
الْقَلِيلَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: تُوُفِّيَ يَوْمَ السَّبْتِ ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ، وَقَدْ رَثَاهُ
بَعْضُهُمْ بِأَبْيَاتٍ مِنْهَا:
فَلِلْقُلُوبِ الَّتِي أَبْهَجْتَهَا حَزَنٌ وَلِلْعُيُونِ الَّتِي أَقْرَرْتَهَا
سَهَرُ
فَمَا لِعَيْشٍ وَقَدْ وَدَّعْتَهُ
أَرَجٌ
وَمَا لِلَيْلٍ وَقَدْ فَارَقْتَهُ سَحَرُ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ السِّتْرِيِّ. لِأَنَّ أَبَاهُ
كَانَ مُلَازِمًا لِسِتْرِ الْبَابِ، وَيُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْبَوَّابِ وَكَانَ
قَدْ أَخَذَ الْخَطَّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْبَزَّارِ، وَقَدْ سَمِعَ ابْنُ أَسَدٍ هَذَا عَلَى
النَّجَّادِ وَغَيْرِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ،
وَأَمَّا ابْنُ الْبَوَّابِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَقَدْ رَثَاهُ بَعْضُهُمْ فَقَالَ:
اسْتَشْعَرَ الْكُتَّابُ فَقْدَكَ سَالِفًا وَقَضَتْ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْأَيَّامُ
فَلِذَاكَ سُوِّدَتِ الدَّوِيُّ كَآَبَةً أَسَفًا عَلَيْكَ وَشُقَّتِ الْأَقْلَامُ
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَقِيلَ:
إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيَّةِ
مِنْ قُرَيْشٍ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، أَخَذَهَا مِنْ بِلَادِ
الْحِيرَةِ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: أَسْلَمُ بْنُ سِدْرَةَ. وَسُئِلَ عَمَّنِ
اقْتَبَسَهَا ؟ فَقَالَ: مِنْ وَاضِعِهَا ; رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: مُرَامِرُ بْنُ
مُرَّةَ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ. فَأَصْلُ الْكِتَابَةِ فِي
الْعَرَبِ مِنَ الْأَنْبَارِ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: وَقَدْ كَانَ
لِحِمْيَرَ كِتَابَةٌ يُسَمُّونَهَا الْمُسْنَدَ، وَهِيَ حُرُوفٌ مُتَّصِلَةٌ
غَيْرُ مُنْفَصِلَةٍ، وَكَانُوا يَمْنَعُونَ الْعَامَّةَ مِنْ تَعَلُّمِهَا،
وَجَمِيعُ كِتَابَاتِ النَّاسِ تَنْتَهِي إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ صِنْفًا ; وَهِيَ
الْعَرَبِيَّةُ، وَالْحِمْيَرِيَّةُ، وَالْيُونَانِيَّةُ، وَالْفَارِسِيَّةُ،
وَالسُّرْيَانِيَّةُ، وَالْعِبْرَانِيَّةُ، وَالرُّومِيَّةُ، وَالْقِبْطِيَّةُ،
وَالْبَرْبَرِيَّةُ، وَالْهِنْدِيَّةُ، وَالْأَنْدَلُسِيَّةُ، وَالصِّينِيَّةُ.
وَقَدِ انْدَرَسَ كَثِيرٌ مِنْهَا، فَقَلَّ مَنْ يَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ سُلَيْمَانَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالسُّكَّرِيِّ، الشَّاعِرُ، وَكَانَ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ،
وَيَعْرِفُ الْقِرَاءَاتِ، وَصَحِبَ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ،
وَأَكْثَرُ شَعْرِهِ فِي مَدِيحِ الصَّحَابَةِ وَذَمِّ الرَّافِضَةِ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِالْقُرْبِ مِنْ قَبْرِ
مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَقَدْ أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ هَذِهِ
الْأَبْيَاتُ الَّتِي عَمِلَهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ:
نَفْسُ يَا نَفْسُ كَمْ تَمَادَيْنَ فِي الْغَيِّ وَتَأْتِينَ فِي الْفِعَالِ
الْمَعِيبِ
رَاقِبِي اللَّهَ وَاحْذَرِي مَوْقِفَ الْعَرْ ضِ وَخَافِي يَوْمَ الْحِسَابِ
الْعَصِيبِ
لَا تَغُرَّنَّكِ السَّلَامَةُ فِي الْعَيْ شِ فَإِنَّ السَّلِيمَ رَهْنُ
الْخُطُوبِ
كُلُّ حَيٍّ فَلِلْمَنُونِ وَلَا يَدْ فَعُ كَأْسَ الْمَنُونِ كَيْدُ الْأَرِيبِ
وَاعْلَمِي أَنْ لِلْمَنِيَّةِ وَقْتًا سَوْفَ يَأْتِي عَجْلَانَ غَيْرَ هَيُوبِ
إِنَّ حُبَّ الصَّدِيقِ فِي مَوْقِفِ الْحَشْ رِ أَمَانٌ لِلْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو جَعْفَرٍ،
الْبَيِّعُ
وَيُعْرَفُ بِالْعَتِيقِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَأَقَامَ بِطَرَسُوسَ مُدَّةً، وَسَمِعَ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَحَدَّثَ بِشَيْءٍ
يَسِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
النُّعْمَانِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُعَلِّمِ
شَيْخُ الْإِمَامِيَّةِ الرَّافِضَةِ، وَالْمُصَنِّفُ لَهُمْ، وَالْمُحَامِي عَنْ
حَوْزَتِهِمْ، كَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، لِمَيْلِ
كَثِيرٍ مِنْهُمْ إِلَى التَّشَيُّعِ، وَكَانَ مَجْلِسُهُ يَحْضُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَلَامِيذِهِ
الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَقَدْ رَثَاهُ بِقَصِيدَةٍ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، مِنْهَا قَوْلُهُ:
مَنْ لِفَضْلٍ أَخْرَجْتَ مِنْهُ حُسَامَا وَمَعَانٍ فَضَضْتَ عَنْهَا خِتَامَا
مَنْ يُثِيرُ الْعُقُولَ مِنْ بَعْدِ مَا كُنَّ هُمُودًا وَيَفْتَحُ الْأَفْهَامَا
مَنْ يُعِيرُ الصَّدِيقَ رَأْيًا إِذَا مَا سَلَّهُ فِي الْخُطُوبِ كَانَ حُسَامًا
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَدِمَ الْمَلِكُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ إِلَى بَغْدَادَ فَخَرَجَ
الْخَلِيفَةُ فِي الطَّيَّارِ لِتَلَقِّيهِ، وَصَحِبَتْهُ الْأُمَرَاءُ
وَالْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ، فَلَمَّا
وَاجَهَهُمُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ
مَرَّاتٍ وَالْجَيْشُ وَاقِفٌ بِرُمَّتِهِ، وَالْعَامَّةُ فِي الْجَانِبَيْنِ
وَالْخَلِيفَةُ يَبْعَثُ الرُّسُلَ إِلَيْهِ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَكَانَ
يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ
إِلَى الْخَلِيفَةِ، يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ الْهِنْدِ أَيْضًا،
وَأَنَّهُ فَتَحَ بِلَادًا، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْهُمْ، وَأَنَّهُ صَالَحَهُ
بَعْضُ مُلُوكِهِمْ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِهَدَايَا سَنِيَّةٍ، فِيهَا فُيُولٌ
عَدِيدَةٌ، وَمِنْهَا طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْقُمْرِيِّ، إِذَا وُضِعَ عِنْدَ الْخِوَانِ
وَفِيهِ سُمٌّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وَجَرَى مِنْهُمَا مَاءٌ، وَتَحَجَّرَ،
وَيُحَكُّ وَيُؤْخَذُ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ، فَيُطْلَى بِهِ الْجِرَاحَاتُ ذَوَاتُ
الْأَفْوَاهِ الْوَاسِعَةِ فَيَلْحُمُهَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَحَجَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَكِنْ رَجَعُوا عَلَى طَرِيقِ
الشَّامِ لِاحْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ
الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلَانَ، أَبُو مُحَمَّدٍ الرَّامَهُرْمُزِيُّ
وَزِيرُ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، وَهُوَ الَّذِي بَنَى سُورَ الْحَائِرِ عِنْدَ
مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، قُتِلَ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْكَشْفُلِيُّ الطَّبَرِيُّ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، تَفَقَّهَ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الدَّارَكِيِّ،
وَكَانَ فَهْمًا فَاضِلًا صَالِحًا زَاهِدًا، وَهُوَ الَّذِي دَرَّسَ بَعْدَ
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ فِي مَسْجِدِهِ، مَسْجِدِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ الطَّلَبَةُ
عِنْدَهُ مُكَرَّمِينَ، اشْتَكَى بَعْضُهُمْ إِلَيْهِ حَاجَةً، وَأَنَّهُ قَدْ
تَأَخَرَّتْ عَنْهُ نَفَقَتُهُ الَّتِي تَرِدُ إِلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ، فَأَخَذَهُ
بِيَدِهِ، وَذَهَبَ إِلَى بَعْضِ التُّجَّارِ بِقَطِيعَةِ الرَّبِيعِ،
فَاسْتَقْرَضَ لَهُ مِنْهُ خَمْسِينَ دِينَارًا، فَقَالَ التَّاجِرُ: حَتَّى
تَأْكُلَ شَيْئًا. وَمَدَّ سِمَاطًا، فَأَكَلُوا، ثُمَّ قَالَ: يَا جَارِيَةُ
هَاتِي الْمَالَ. فَأَحْضَرَتْ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، فَوَزَنَ مِنْهُ خَمْسِينَ
دِينَارًا، وَدَفَعَهَا إِلَى الشَّيْخِ، فَلَمَّا قَامَا إِذَا بِوَجْهِ ذَلِكَ
الْفَقِيهِ قَدْ تَغَيَّرَ. فَقَالَ لَهُ الْكَشْفُلِيُّ: مَا لَكَ ؟ فَقَالَ: يَا
سَيِّدِي، قَدْ سَكَنَ قَلْبِي حُبُّ هَذِهِ الْجَارِيَةِ. فَرَجَعَ بِهِ إِلَى
التَّاجِرِ، فَقَالَ: قَدْ وَقَعْنَا فِي فِتْنَةٍ أُخْرَى. قَالَ: وَمَا هِيَ ؟ فَقَالَ:
إِنَّ الْفَقِيهَ قَدْ هَوَى الْجَارِيَةَ. فَأَمَرَ التَّاجِرُ أَنْ تَخْرُجَ،
فَسَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ:
رُبَّمَا يَكُونُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِهَا مِنْهُ مِثْلُ الَّذِي قَدْ وَقَعَ
فِي قَلْبِهِ مِنْهَا. فَلَمَّا كَانَ عَنْ قَرِيبٍ قَدِمَتْ عَلَى الْفَقِيهِ
النَّفَقَةُ مِنْ أَبِيهِ سِتُّمِائَةِ دِينَارٍ، فَوَفَّى التَّاجِرَ مَا كَانَ
لَهُ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الْجَارِيَةِ وَالْقَرْضِ، وَذَلِكَ بِسِفَارَةِ
الشَّيْخِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ حَرْبٍ.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَهْضَمٍ، أَبُو الْحَسَنِ الصُّوفِيُّ
الْمَكِّيُّ
صَاحِبُ " بَهْجَةِ الْأَسْرَارِ "، كَانَ شَيْخَ الصُّوفِيَّةِ
بِمَكَّةَ، وَبِهَا تُوُفِّيَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ كَذَّابًا، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ الَّذِي وَضَعَ حَدِيثَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ.
الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، أَبُو عُمَرَ الْهَاشِمِيُّ
الْبَصْرِيُّ
قَاضِي الْبَصْرَةِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا، وَهُوَ رَاوِي
سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيِّ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ التِّسْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ،
أَبُو الْفَرَجِ الْقَاضِي الشَّافِعِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ سُمَيْكَةَ، رَوَى عَنِ النَّجَّادِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ
ثِقَةً، تُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ
حَرْبٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، أَبُو
جَعْفَرٍ النَّسَفِيُّ، عَالِمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، وَلَهُ طَرِيقَةٌ
فِي الْخِلَافِ، وَكَانَ فَقِيرًا مُتَزَهِّدًا، بَاتَ لَيْلَةً قَلِقًا لِمَا
عِنْدَهُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ، فَعَرَضَ لَهُ فِكْرٌ فِي فَرْعٍ مِنَ
الْفُرُوعِ كَانَ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، فَانْفَتَحَ لَهُ، فَقَامَ يَرْقُصُ
وَيَقُولُ: أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ ؟ فَسَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ
عَنْ خَبَرِهِ، فَأَعْلَمَهَا بِمَا حَصَلَ لَهُ، فَتَعَجَّبَتْ مِنْ شَأْنِهِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
هِلَالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سَعْدَانَ، أَبُو الْفَتْحِ
الْحَفَّارُ
سَمِعَ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّارَ وَالنَّجَّادَ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَابْنَ
الصَّوَّافِ، وَكَانَ ثِقَةً. تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنِ
اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَلْزَمَ الْوَزِيرُ جَمَاعَةً مِنَ الْأَتْرَاكِ وَالْمُوَلَّدِينَ
وَالشَّرِيفَ الْمُرْتَضَى وَنِظَامَ الْحَضْرَةِ أَبَا الْحَسَنِ الزَّيْنَبِيَّ
وَقَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا الْحَسَنِ بْنَ أَبِي الشَّوَارِبِ وَالشُّهُودَ،
بِالْحُضُورِ لِتَجْدِيدِ الْبَيْعَةِ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ الْخَلِيفَةَ تَوَهَّمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَيْعَةُ لِنِيَّةٍ
فَاسِدَةٍ مِنْ أَجْلِهِ، فَبَعَثَ إِلَى الْقَاضِي وَالرُّؤَسَاءِ يَنْهَاهُمْ
عَنِ الْحُضُورِ، فَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَمُشَرِّفِ
الدَّوْلَةِ، ثُمَّ اصْطَلَحَا وَتَصَافَيَا، وَجُدِّدَتِ الْبَيْعَةُ لِكُلٍّ
مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ.
وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ رَكْبِ خُرَاسَانَ أَحَدٌ، وَاتَّفَقَ
أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ مِنْ جِهَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ شَهِدَ
الْمَوْسِمِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ صَاحِبُ مِصْرَ بِخِلَعٍ
عَظِيمَةٍ لِيَحْمِلَهَا لِلْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ، فَلَمَّا
رَجَعَ بِهَا إِلَى أُسْتَاذِهِ الْمَلِكِ مَحْمُودٍ أَرْسَلَ بِهَا إِلَى
بَغْدَادَ فَحُرِقَتْ بِالنَّارِ عَلَى بَابِ النُّوْبَى لِلْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ
بِاللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَزَاهُ خَيْرًا عَنْ
قَصْدِهِ وَسِيرَتِهِ الْحَسَنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ خَالِدِ بْنِ الرُّفَيْلِ، أَبُو
الْفَرَجِ الْمُعَدَّلُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُسْلِمَةِ، وُلِدَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ أَبَاهُ وَأَحْمَدَ بْنَ كَامِلٍ وَالنَّجَّادَ
وَالْخُطَبِيَّ وَدَعْلَجَ بْنَ أَحْمَدَ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً، يَسْكُنُ
الْجَانِبَ الشَّرْقِيَّ مِنْ بَغْدَادَ وَيُمْلِي فِي أَوَّلِ كُلِّ سَنَةٍ
مَجْلِسًا فِي الْمُحَرَّمِ، وَكَانَ عَاقِلًا فَاضِلًا، كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ،
دَارُهُ مَأْلَفٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ بِأَبِي بَكْرٍ
الرَّازِيِّ، وَكَانَ يَصُومُ الدَّهْرَ، وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعًا،
وَيُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ فِي تَهَجُّدِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبَانٍ الضَّبِّيُّ، أَبُو
الْحَسَنِ الْمَحَامِلِيُّ
نِسْبَةً إِلَى بَيْعِ الْمَحَامِلِ، تَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ،
وَبَرَعَ فِي الْفِقْهِ، حَتَّى كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ يَقُولُ: هُوَ
أَحْفَظُ لِلْفِقْهِ مِنِّي. وَلَهُ الْمُصَنَّفَاتُ الْمَشْهُورَةُ مِنْهَا
" اللُّبَابُ " وَ " الْأَوْسَطِ " وَ " الْمُقْنِعُ
"، وَلَهُ فِي الْخِلَافِ، وَعَلَّقَ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
تَعْلِيقَةً كَبِيرَةً. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ.
وُلِدَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ لِتِسْعٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ
الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَهُوَ شَابٌّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
تُوُفِّيَ بِشِيرَازَ، عَنْ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَخَمْسَةِ أَشْهُرٍ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْقَاسِمِ
الْخَفَّافُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ النَّقِيبِ
كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَحِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ ابْنِ الْمُعَلِّمِ
جَلَسَ لِلتَّهْنِئَةِ، وَقَالَ: مَا أُبَالِي أَيَّ وَقْتٍ مِتُّ بَعْدَ أَنْ
شَاهَدْتُ مَوْتَ ابْنِ الْمُعَلِّمِ وَمَكَثَ دَهْرًا طَوِيلًا يُصَلِّي
الْفَجْرَ بِوُضُوءِ الْعَشَاءِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ مَوْلِدِهِ، فَقَالَ: فِي سَنَةِ خَمْسٍ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَذْكُرُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْمُقْتَدِرَ وَالْقَاهِرَ
وَالرَّاضِيَ وَالْمُتَّقِيَ وَالْمُسْتَكْفِيَ وَالْمُطِيعَ وَالطَّائِعَ
وَالْقَادِرَ وَالْغَالِبَ بِاللَّهِ. خُطِبَ لَهُ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي سَلْخِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ مِائَةٍ
وَعَشْرِ سِنِينَ.
عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ تَعْوِيذٍ، أَبُو حَفْصٍ
الدَّلَّالُ. قَالَ: سَمِعْتُ الشِّبْلِيَّ يُنْشِدُ قَوْلَهُ:
وَقَدْ كَانَ شَيْءٌ يُسَمَّى
السُّرُورَ قَدِيمًا سَمِعْنَا بِهِ مَا فَعَلْ خَلِيلَيَّ إِنْ دَامَ هَمُّ
النُّفُوسِ
قَلِيلًا عَلَى مَا نَرَاهُ قَتَلْ يُؤَمِّلُ دُنْيَا لِتَبْقَى لَهُ
فَمَاتَ الْمُؤَمِّلُ قَبْلَ الْأَمَلْ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْسَاسِيُّ الْعَلَوِيُّ
نَائِبُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فِي إِمْرَةِ الْحَجِّ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي
سِنِينَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَهُ فَصَاحَةٌ وَشِعْرٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ مِنْ سُلَالَةِ
زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتَّ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَوِيَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَنَهَبُوا الدُّورَ جَهْرَةً،
وَاسْتَهَانُوا بِأَمْرِ السُّلْطَانِ، وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا
تُوُفِّيَ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ بْنُ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ صَاحِبُ بَغْدَادَ
وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَثُرَتِ الشُّرُورُ بِبَغْدَادَ، وَنُهِبَتِ
الْخَزَائِنُ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى تَوْلِيَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَبِي
الطَّاهِرِ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَهُوَ عَلَى الْبَصْرَةِ وَخَلَعَ
عَلَى شَرَفِ الْمُلْكِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ مَاكُولَا وَزِيرِهِ، وَلُقِّبَ عَلَمَ
الدِّينِ، سَعْدَ الدَّوْلَةِ، أَمِينَ الْمِلَّةِ، شَرَفَ الْمُلْكِ، وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ بِالْأَلْقَابِ الْكَثِيرَةِ، ثُمَّ طَلَبَ مِنَ
الْخَلِيفَةِ أَنْ يُبَايِعَ لِأَبِي كَالِيجَارَ إِذْ كَانَ وَلِيَّ عَهْدِ
أَبِيهِ سُلْطَانِ الدَّوْلَةِ، الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ بَهَاءُ الدَّوْلَةِ
عَلَيْهِمْ، فَتَوَقَّفَ الْجَوَابُ، ثُمَّ وَافَقَهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا مِنْ
ذَلِكَ، وَأُقِيمَتِ الْخُطْبَةُ لِلْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
سَادِسَ عَشَرَ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ تَفَاقَمَ أَمْرُ
الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَكَبَسُوا الدُّورَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَضَرَبُوا
أَهْلَهَا كَمَا يُضْرَبُ الْمُصَادَرُونَ، وَيَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ فَلَا
يُغَاثُ، وَاشْتَدَّ الْحَالُ، وَهَرَبَتِ الشُّرَطُ مِنْ بَغْدَادَ وَلَمْ تُغْنِ
الْأَتْرَاكُ شَيْئًا، وَعَمِلَتِ الشَّرَايِجُ عَلَى أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَلَمْ
يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَأُحْرِقَتْ دَارُ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى فَانْتَقَلَ
مِنْهَا، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جَدًّا، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِرَاقِ
وَخُرَاسَانَ، فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
سَابُورُ بْنُ أَرْدَشِيرَ
وَزَرَ لِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي نَصْرِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ، وَوَزَرَ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا، وَكَانَ كَاتِبًا سَدِيدًا
عَفِيفًا عَنِ الْأَمْوَالِ، كَثِيرَ الْخَيْرِ، سَلِيمَ الْبَاطِنِ، وَكَانَ
إِذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ لَا يَشْغَلُهُ شَئٌ عَنِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَقَفَ
دَارًا لِلْعِلْمِ فِي سِنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَجَعَلِ
فِيهَا كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَوَقَّفَ عَلَيْهَا غَلَّةً كَثِيرَةً،
فَبَقِيَتْ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ أُحْرِقَتْ عِنْدَ مَجِيءِ الْمَلِكِ
طُغْرُلْبَكَ فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَكَانَتْ مَحَلَّتُهَا
بَيْنَ السُّورَيْنِ، وَقَدْ كَانَ جَيِّدَ الْمُعَاشَرَةِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ
يَعْزِلُ عُمَّالَهُ سَرِيعًا، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ
التِّسْعِينَ.
عُثْمَانُ النَّيْسَابُورِيُّ الْخَرْكُوشِيُّ الْوَاعِظُ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: صَنَّفَ كِتَابًا فِي الْوَعْظِ مِنْ أَبْرَدِ
الْأَشْيَاءِ، وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ، وَكَلِمَاتٌ مَرْذُولَةٌ
إِلَّا أَنَّهُ كَانَ خَيِّرًا صَالِحًا، وَكَانَتْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ
الْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ، وَكَانَ الْمَلِكُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِذَا
رَآهُ قَامَ لَهُ، وَكَانَتْ مَحَلَّتُهُ حِمَى يَحْتَمِي بِهَا مِنَ
الظَّلَمَةِ، وَقَدْ وَقَعَ فِي
بَلْدَتِهِ نَيْسَابُورَ مَوْتٌ، وَكَانَ يُغَسِّلُ الْمَوْتَى مُحْتَسِبًا،
فَغَسَّلَ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ مَيِّتٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحَانِ، أَبُو مَنْصُورٍ
الْوَزِيرُ لِمُشَرِّفِ الدَّوْلَةِ وَلِبَهَاءِ الدَّوْلَةِ أَيْضًا، كَانَ
وَزِيرَ صِدْقٍ، جَيِّدَ الْمُبَاشَرَةِ، حَسَنَ الصَّلَاةِ، مُحَافِظًا عَلَى
أَوْقَاتِهَا، وَكَانَ مُحْسِنًا إِلَى الشُّعَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، تُوُفِّيَ
بِبَغْدَادَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ سَنَةً.
الْمَلِكُ مُشَرِّفُ الدَّوْلَةِ، أَبُو عَلِيِّ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، أَبِي
نَصْرِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيِّ
صَاحِبُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ. أَصَابَهُ مَرَضٌ حَادٌّ
فَتُوُفِّيَ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ عَنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ
سَنَةً وَثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا.
الْتِّهَامِيُّ، عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ التِّهَامِيُّ أَبُو الْحَسَنِ
لَهُ دِيوَانٌ مَشْهُورٌ، وَلَهُ مَرْثَاةٌ فِي وَلَدِهِ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ
صَغِيرًا أَوَّلُهَا:
حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِي مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ
قَرَارِ
وَمِنْهَا:
إِنِّي لَأَرْحَمُ حَاسِدِيَّ لِحَرِّ مَا ضَمَّتْ صُدُورُهُمُ مِنَ الْأَوْغَارِ
نَظَرُوا صَنِيعَ اللَّهِ بِي فَعُيُونُهُمْ فِي جَنَّةٍ وَقُلُوبُهُمْ فِي نَارِ
وَمِنْهَا فِي ذَمِّ الدُّنْيَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مَلِيحٌ مُخْتَارٌ:
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَارِ
وَالْأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ
نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ
هَارِ
وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي وَلَدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ:
جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبَّهُ شَتَّانَ بَيْنَ جِوَارِهِ وَجِوَارِي
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ بَعْضَهُمْ رَآهُ فِي النَّوْمِ فِي
هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَ: بِمَ نِلْتَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: بِهَذَا الْبَيْتِ.
تُوُفِّيَ بِحَبْسِ خِزَانَةِ الْبُنُودِ مِنَالْقَاهِرَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْعِشْرِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ
الْأَسْفَهْسِلَارِيَّةِ وَبَيْنَ الْعَيَّارِينَ، وَرَكِبَتْ لَهُمُ الْأَتْرَاكُ
بِالدَّبَادِبِ، كَمَا يُفْعَلُ فِي الْحَرْبِ، وَأُحْرِقَتْ أَبْوَابٌ كَثِيرَةٌ
مِنَ الدُّورِ الَّتِي احْتَمَى فِيهَا الْعَيَّارُونَ، وَأُحْرِقَ مِنَ الْكَرْخِ
جَانِبٌ كَبِيرٌ، وَنُهِبَ أَهْلُهُ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى غَيْرِهِ
أَيْضًا، وَكَانَتْ فِتْنَةً هَائِلَةً شَنِيعَةً، ثُمَّ خَمَدَتْ فِي الْيَوْمِ
الثَّانِي، وَقُرِّرَ عَلَى أَهْلِ الْكَرْخِ مِائَةُ أَلْفِ دِينَارٍ مُصَادَرَةً
; لِإِثَارَتِهِمُ الْفِتَنَ وَالشُّرُورَ.
وَفِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ شَهِدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ
عَلِيِّ الصَّيْمَرِيُّ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ
بَعْدَمَا كَانَ اسْتَتَابَهُ عَمَّا ذُكِرَ عَنْهُ مِنَ الِاعْتِزَالِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا انْقَضَّ كَوْكَبٌ سُمِعَ لَهُ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ
الرَّعْدِ، وَوَقَعَ فِي سَلْخِ شَوَّالٍ بَرَدٌ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ،
وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَجَمَدَ الْمَاءُ
طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، حَتَّى حَافَّاتِ دِجْلَةَ وَالْأَنْهَارِ الْكِبَارِ،
وَقَاسَى النَّاسُ شِدَّةً عَظِيمَةً، وَتَأَخَّرَ الْمَطَرُ وَزِيَادَةُ
دِجْلَةَ، وَقَلَّتِ الزِّرَاعَةُ، وَامْتَنَعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ
التَّصَرُّفِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ
مِنَ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِفَسَادِ الْبِلَادِ
وَالطُّرُقَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي
الشَّوَارِبِ، أَبُو الْحَسَنِ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ قَاضِي قُضَاةِ
بَغْدَادَ بَعْدَ ابْنِ الْأَكْفَانِيِّ بِثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَ
عَفِيفًا نَزِهًا، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي عُمَرَ الزَّاهِدِ
وَعَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُحَدِّثْ. قَالَهُ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ.
وَحَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيِّ
أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ هَذَا آخِرُ مَنْ وَلِيَ الْحُكْمَ بِبَغْدَادَ مِنْ
سُلَالَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي الشَّوَارِبِ، وَقَدْ
وَلِيَ الْحُكْمَ مِنْ سُلَالَتِهِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ
وُلُّوا قَضَاءَ قُضَاةِ بَغْدَادَ. قَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ
أَبِي الْحَسَنِ هَذَا ; جَلَالَةً وَنَزَاهَةً وَصِيَانَةً وَشَرَفًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ كَانَ لَهُ صَدِيقًا وَصَاحِبًا،
وَأَنَّ رَجُلًا مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَوْصَى لَهُ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ،
فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ، فَأَبَى الْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهَا،
فَجَهَدَ عَلَيْهِ كُلَّ الْجَهْدِ، فَلَمْ يَفْعَلْ، وَقَالَ: أَسْأَلُكَ
بِاللَّهِ لَا تَذْكُرْ هَذَا لِأَحَدٍ مَا دُمْتُ
حَيًّا. فَفَعَلَ، فَلَمْ يُخْبِرْ
عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ. وَكَانَ ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ فَقِيرًا
إِلَيْهَا وَإِلَى مَا هُوَ دُونَهَا، فَلَمْ يَقْبَلْهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ تُوُفِّيَ فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
جَعْفَرُ بْنُ بَايٍ، أَبُو مُسْلِمٍ الْجِيلِيُّ
سَمِعَ ابْنَ بَطَّةَ وَدَرَسَ فِقْهَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي
حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا فَاضِلًا، تُوَفِّيَ فِي
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدَوَيْهِ، أَبُو حَازِمٍ الْهُذَلِيُّ
النَّيْسَابُورِيُّ
سَمِعَ ابْنَ نُجَيْدٍ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّ وَخَلْقًا، وَسَمِعَ مِنْهُ
الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، وَكَانَ النَّاسُ يَسْمَعُونَ بِإِفَادَتِهِ
وَانْتِخَابِهِ، تُوُفِّيَ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْهَا.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ
الْمَعْرُوفُ بِالْحَمَّامِيِّ
سَمِعَ النَّجَّادَ وَالْخُلْدِيَّ وَابْنَ السَّمَّاكِ وَغَيْرَهُمْ، وَكَانَ
صَدُوقًا فَاضِلًا، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَتَفَرَّدَ بِأَسَانِيدِ الْقِرَاءَاتِ
وَعُلُوِّهَا، تُوُفِّيَ فِي شَعْبَانَ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ
وَثَمَانِينَ سَنَةً.
صَاعِدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى الرَّبَعِيُّ الْبَغْدَادِيُّ اللُّغَوِيُّ
صَاحِبُ كِتَابِ " الْفُصُوصِ " فِي اللُّغَةِ عَلَى طَرِيقَةِ
الْقَالِي فِي " الْأَمَالِي " صَنَّفَهُ لِلْمَنْصُورِ بْنِ أَبِي
عَامِرٍ، فَأَجَازَهُ عَلَيْهِ خَمْسَةَ آلَافِ دِينَارٍ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ:
إِنَّهُ كَذَّابٌ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَنْقُلُهُ، فَأَمَرَ بِإِلْقَاءِ الْكِتَابِ
فِي النَّهْرِ. فَقَالَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
قَدْ غَاصَ فِي الْمَاءِ كِتَابُ الْفُصُوصْ وَهَكَذَا كُلُّ ثَقِيلٍ يَغُوصْ
فَلَمَّا بَلَغَ صَاعِدًا هَذَا الْبَيْتُ أَنْشَدَ:
عَادَ إِلَى عُنْصُرِهِ إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ الْبُحُورِ الْفُصُوصْ
قُلْتُ: كَأَنَّهُ سَمَّى هَذَا الْكِتَابَ بِهَذَا الِاسْمِ لِيُشَاكِلَ بِهِ
" الصِّحَاحَ " لِلْجَوْهَرِيِّ، لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ فَصَاحَتِهِ
وَبَلَاغَتِهِ وَعِلْمِهِ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ فِيمَا يَرْوِيهِ وَيَنْقُلُهُ،
فَلِهَذَا رَفَضَ النَّاسُ كِتَابَهُ، وَلَمْ يَشْتَهِرْ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ كَانَ
ظَرِيفًا مَاجِنًا سَرِيعَ الْجَوَابِ، سَأَلَهُ رَجُلٌ أَعْمَى عَلَى سَبِيلِ
التَّهَكُّمِ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ، فَقَالَ لَهُ: مَا الْجَرَنْفُلُ ؟ فَأَطْرَقَ
سَاعَةً، وَعَرِفَ أَنَّهُ افْتَعَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ
إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي يَأْتِي نِسَاءَ الْعُمْيَانِ، وَلَا يَتَعَدَّاهُنَّ
إِلَى غَيْرِهِنَّ. فَاسْتَحْيَى ذَلِكَ الْأَعْمَى، وَضَحِكَ الْحَاضِرُونَ.
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْقَفَّالُ الْمَرْوَزِيُّ هُوَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَفَّالُ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ الْكِبَارِ، عِلْمًا وَرُشْدًا وَحِفْظًا وَتَصْنِيفًا وَوَرَعًا، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الطَّرِيقَةُ الْخُرَاسَانِيَّةُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: وَأَخَذَ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ ; لِأَنَّ سِنَّ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ; فَإِنَّ الْقَفَّالَ هَذَا تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِسِجِسْتَانَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وُلِدَ سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ بَعْدَ وَفَاةِ الْقَفَّالِ بِسَنَتَيْنِ. وَمَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ كَمَا سَيَأْتِي. وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ: الْقَفَّالُ ; لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا يَعْمَلُ الْأَقْفَالَ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ إِلَّا وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بَعْدَ ذَلِكَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقَعَ بَرَدٌ أَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الزُّرُوعِ
وَالثِّمَارِ، وَقَتَلَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنَ الْغَنَمِ وَالْوُحُوشِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي كُلِّ بَرَدَةٍ
رِطْلَانِ وَأَكْثَرُ، وَفِي وَاسِطٍ بَلَغَتِ الْبَرَدَةُ أَرْطَالًا، وَفِي
بَغْدَادَ بِقَدْرِ الْبَيْضِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ سَأَلَتِ الْأَسْفَهْسِلَارِيَّةُ وَالْغِلْمَانُ
الْخَلِيفَةَ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهُمْ أَبَا كَالِيجَارَ ; لِتَهَاوُنِهِ
بِأَمْرِهِمْ، وَفَسَادِهِ وَفَسَادِ الْأُمُورِ فِي أَيَّامِهِ، وَيُوَلِّيَ
جَلَالَ الدَّوْلَةِ الَّذِي كَانُوا قَدْ عَدَلُوا عَنْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ،
فَمَاطَلَهُمُ الْخَلِيفَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَتَبَ إِلَى أَبِي كَالِيجَارَ أَنْ
يَتَدَارَكَ أَمْرَهُ، وَأَنْ يُسْرِعَ الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ قَبْلَ أَنْ
يَفُوتَ الْأَمْرُ، وَأَلَحَّ أُولَئِكَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فِي تَوْلِيَةِ
جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَقَامُوا لَهُ الْخُطْبَةَ بِبَغْدَادَ، وَتَفَاقَمَ
الْحَالُ، وَفَسَدَ النِّظَامُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ أَنَّهُ دَخَلَ بِلَادَ الْهِنْدِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ كَسَرَ
الصَّنَمَ الْأَعْظَمَ الَّذِي لَهُمُ الْمُسَمَّى بِسُومَنَاتَ، وَقَدْ كَانُوا
يَفِدُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَيُنْفِقُونَ عِنْدَهُ مِنَ
الْأَمْوَالِ شَيْئًا كَثِيرًا جِدًّا، وَكَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَوْقَافِ
عَشَرَةُ آلَافِ قَرْيَةٍ مَشْهُورَةٍ وَقَدِ امْتَلَأَتْ خَزَائِنُهُ أَمْوَالًا،
وَعِنْدَهُ أَلْفُ رَجُلٍ
يَخْدِمُونَهُ، وَثَلَاثُمِائَةٍ يَحْلِقُونَ حَجِيجِهِ، وَثَلَاثُمِائَةٍ
وَخَمْسُونَ يُغَنُّونَ وَيَرْقُصُونَ عَلَى بَابِ الصَّنَمِ، وَقَدْ كَانَ
الْعَبْدُ - يَعْنِي الْمَلِكَ مَحْمُودَ بْنَ سُبُكْتِكِينَ - يَتَمَنَّى قَلْعَ
هَذَا الصَّنَمِ، وَكَانَ يَعُوقُهُ عَنْهُ طُولُ الْمَفَاوِزِ وَكَثْرَةُ
الْمَوَانِعِ، ثُمَّ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَجَشَّمَ بِجَيْشِهِ تِلْكَ
الْأَهْوَالَ إِلَيْهِ فِي ثَلَاثِينَ أَلْفًا مِمَّنِ اخْتَارَهُمْ سِوَى
الْمُطَّوِّعَةِ، فَسَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى بَلَدِ
هَذَا الْوَثَنِ، فَمَلَكْنَاهُ وَقَتَلْنَا مِنْ أَهْلِهِ خَمْسِينَ أَلْفًا،
وَقَلَعْنَا هَذَا الْوَثَنَ وَأَوْقَدْنَا تَحْتَهُ النَّارَ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ الْهُنُودَ بَذَلُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً
لِلْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ لِيَتْرُكَ لَهُمْ هَذَا الصَّنَمَ
الْأَعْظَمَ، فَأَشَارَ مَنْ أَشَارَ مِنَ الْأُمَرَاءِ بِقَبُولِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ
الْجَزِيلَةِ، فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَخِيرَ اللَّهَ تَعَالَى. فَلَمَّا أَصْبَحَ
قَالَ: إِنِّي فَكَّرْتُ فِي الْأَمْرِ فَرَأَيْتُ إِذَا نُودِيتُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: أَيْنَ مَحْمُودٌ الَّذِي كَسَرَ الصَّنَمَ ؟ أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَ مَحْمُودٌ الَّذِي تَرَكَ الصَّنَمَ ؟ ثُمَّ
عَزَمَ فَكَسَرَهُ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مِنَ الذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ
وَالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا يُنَيِّفُ عَلَى مَا بَذَلُوهُ بِأَضْعَافٍ
مُضَاعَفَةٍ، مَعَ مَا ادَّخَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ
فِي الْآخِرَةِ وَالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ فِي الْأُولَى، فَرَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ ثَالِثِ رَمَضَانَ دَخَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ إِلَى
بَغْدَادَ فَتَلَقَّاهُ الْخَلِيفَةُ فِي دِجْلَةَ فِي الطَّيَّارِ، وَمَعَهُ
الْأَكَابِرُ وَالْأَعْيَانُ، فَلَمَّا وَاجَهَ جَلَالَ الدَّوْلَةِ قَبَّلَ
الْأَرْضَ دَفَعَاتٍ، ثُمَّ سَارَ إِلَى دَارِ الْمُلْكِ، وَعَادَ الْخَلِيفَةُ
إِلَى دَارِهِ، وَأَمَرَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ الطَّبْلُ فِي
أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الثَّلَاثِ، كَمَا كَانَ الْأَمْرُ فِي زَمَنِ عَضُدِ
الدَّوْلَةِ وَصَمْصَامِهَا وَشَرَفِهَا وَبَهَائِهَا، وَكَانَ الْخَلِيفَةُ
يُضْرَبُ لَهُ الطَّبْلُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَأَرَادَ جَلَالُ
الدَّوْلَةِ ذَلِكَ، فَقِيلَ: لَا يَحْسُنُ مُسَاوَاةُ الْخَلِيفَةِ. ثُمَّ
صَمَّمَ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِيهَا
وَقَعَ بَرَدٌ شَدِيدٌ حَتَّى جَمَدَ الْخَلُّ وَالنَّبِيذُ وَأَبْوَالُ
الدَّوَابِّ وَالْمِيَاهُ الْكِبَارُ وَحَافَّاتُ دِجْلَةَ.
وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ
الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّاهِدُ
خَطَبَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَلَمْ يَكُنْ يَخْطُبُ إِلَّا بِخُطْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ جُمُعَةِ، فَإِذَا
سَمِعَهَا النَّاسُ مِنْهُ ضَجُّوا بِالْبُكَاءِ، وَخَشَعُوا لِصَوْتِهِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْوَزِيرُ
الْمَغْرِبِيُّ
وُلِدَ بِمِصْرَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهَرَبَ
مِنْهَا حِينَ قَتَلَ صَاحِبُهَا أَبَاهُ وَعَمَّهُ، وَقَصَدَ مَكَّةَ ثُمَّ
الشَّامَ وَوَزَرَ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ، وَقَدْ وَزَرَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ
بَعْدَ الرُّخَّجِيِّ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ الْحَسَنَ، وَقَدْ تَذَاكَرَ
هُوَ وَبَعْضُ الصَّالِحِينَ، فَأَنْشَدَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ شِعْرًا:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا غَنِيًّا فَلَا تَكُنْ عَلَى حَالَةٍ إِلَّا رَضِيتَ
بِدُونِهَا
فَاعْتَزَلَ الْمَنَاصِبَ
وَالسُّلْطَانَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: تَرَكْتَ الْمَنَاصِبَ فِي
عُنْفُوَانِ شَبَابِكَ. فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
كُنْتُ فِي سَفْرَةِ الْبِطَالَةِ وَالْجَهْ لِ زَمَانًا فَحَانَ مِنِّي
الْقُدُومُ
تُبْتُ مِنْ كُلِّ مَأْثَمٍ فَعَسَى يُمْ حِي بِهَذَا الْحَدِيثِ ذَاكَ الْقَدِيمُ
بَعْدَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَقَدْ مَا طَلْتُ إِلَّا أَنَّ الْغَرِيمَ كَرِيمُ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَيَّافَارِقِينَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، عَنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِمَشْهَدِ عَلِيٍّ،
بِحِيلَةٍ احْتَالَهَا قَبْلَ وَفَاتِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْخَفَّافِ
رَوَى عَنِ الْقَطِيعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِ اتَّهَمُوهُ بِوَضْعِ الْأَسَانِيدِ
وَالْأَحَادِيثِ. قَالَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ.
أَبُو الْقَاسِمِ اللَّكَائِيُّ، هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مَنْصُورٍ
الرَّازِيُّ
وَهُوَ طَبَرِيُّ الْأَصْلِ أَحَدُ تَلَامِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَكَانَ يَفْهَمُ وَيَحْفَظُ، وَعُنِيَ بِالْحَدِيثِ،
فَصَنَّفَ فِيهِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَلَكِنْ عَاجَلَتْهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ
أَنْ تَنْتَشِرَ أَكْثَرُ كُتُبِهِ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي السُّنَّةِ وَشَرْحِهَا،
وَذَكَرَ طَرِيقَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي ذَلِكَ، وَقَعَ لَنَا سَمَاعُهُ
عَلَى الْحَجَّارِ، عَالِيًا عَنْهُ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ بِالدِّينَوَرِ فِي
رَمَضَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَرَآهُ
بَعْضُهُمْ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ ؟ قَالَ:
غَفَرَ لِي. قَالَ: بِمَاذَا ؟ قَالَ: بِالسُّنَّةِ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرِ بِاللَّهِ
تُوُفِّيَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ الثَّانِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَصُلِّيَ
عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَمَشَى النَّاسُ فِي جِنَازَتِهِ، وَحَزِنَ عَلَيْهِ
أَبُوهُ حُزْنًا شَدِيدًا، وَقُطِعَ الطَّبْلُ أَيَّامًا.
ابْنُ طَبَاطَبَا الشَّرِيفُ
كَانَ شَاعِرًا مُجِيدًا، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ.
الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْرَانَ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ، رُكْنُ الدِّينِ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ،
الْمُتَكَلِّمُ الْأُصُولِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ فِي الْأَصْلَيْنِ ; مِنْهَا
" جَامِعُ الْجِلَى " فِي خَمْسِ مُجَلَّدَاتٍ، وَتَعْلِيقَةٌ نَافِعَةٌ
فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ
مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ وَدَعْلَجٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَخَذَ عَنْهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَالْحَاكِمُ
النَّيْسَابُورِيُّ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِنَيْسَابُورَ، ثُمَّ نُقِلَ إِلَى بَلَدِهِ فَدُفِنَ فِي
مَشْهَدِهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ أَبُو
الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ
الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، صَاحِبُ الْمُصَنَّفِ الْمُخْتَصَرِ الَّذِي يُحْفَظُ، كَانَ إِمَامًا بَارِعًا عَالِمًا، دَيِّنًا مُنَاظِرًا، وَكَانَ هُوَ الَّذِي تَوَلَّى مُنَاظَرَةَ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَكَانَ يُطْرِيهِ، وَيَقُولُ: هُوَ أَعْلَمُ وَأَنْظَرُ مِنَ الشَّافِعِيِّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْأَحَدِ الْخَامِسِ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْخُوَارِزْمِيِّ الْحَنَفِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَنَهَبُوا دَارَ
وَزِيرِهِ، وَجَرَتْ أُمُورٌ طَوِيلَةٌ آلَ الْحَالُ فِيهَا إِلَى أَنَّهُمُ
اتَّفَقُوا عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْبَلَدِ، فَهُيِّئَ لَهُ زَبْزَبٌ رَثٌّ،
فَخَرَجَ وَفِي يَدِهِ طَبَرٌ نَهَارًا، فَجَعَلُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ،
وَلَا يُفَكِّرُونَ فِيهِ، فَلَمَّا عَزَمَ فِي الرُّكُوبِ فِي ذَلِكَ الزَّبْزَبِ
الرَّثِّ رَثَوْا لَهُ وَرَقُّوا عَلَيْهِ، فَجَاءُوا إِلَيْهِ، وَقَبَّلُوا
الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَانْصَلَحَتْ قَضِيَّتُهُ بَعْدَ فَسَادِهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قَلَّ الرُّطَبُ جِدًّا بِسَبَبِ هَلَاكِ النَّخْلِ فِي
السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ بِالْبَرَدِ، فَبِيعَ الرَّطْبُ كُلُّ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ
بِدِينَارٍ جَلَالِيٍّ، وَوَقَعَ بَرَدٌ شَدِيدٌ أَيْضًا فَأَهْلَكَ شَيْئًا
كَثِيرًا مِنَ النَّخْلِ أَيْضًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، إِلَّا أَنَّ قَوْمًا مِنْ خُرَاسَانَ
رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ مِنْ مَدِينَةِ مُكْرَانَ فَانْتَهَوْا إِلَى جَدَّةَ
فَحَجُّوا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَحِمَهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
حَمْزَةُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو
الْخَطَّابِ الْمُنَجِّمُ حَظِيَ عِنْدَ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ وَعَلَّمَهُ
النُّجُومَ، وَكَانَ لَهُ ذَا وَجَاهَةٍ عِنْدَهُ، حَتَّى أَنَّ الْوُزَرَاءَ
كَانُوا يُكَارِمُونَهُ وَيُرَاسِلُونَهُ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ إِلَيْهِ فِي
أُمُورِهِمْ، ثُمَّ حَارَ أَمْرُهُ حَتَّى مَاتَ - يَوْمَ مَاتَ بِالْكَرْخِ مِنْ
سَامَرَّا - غَرِيبًا فَقِيرًا مَفْلُوجًا، قَدْ ذَهَبَ مَالُهُ وَجَاهُهُ.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَخْلَدٍ، أَبُو الْحَسَنِ
التَّاجِرُ، سَمِعَ الْكَثِيرَ عَلَى الْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَتَفَرَّدَ
بِعُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، فَخَافَ مِنَ الْمُصَادَرَةِ
بِبَغْدَادَ، فَانْتَقَلَ إِلَى مِصْرَ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً، ثُمَّ عَادَ
إِلَى بَغْدَادَ فَاتَّفَقَ مُصَادَرَةُ أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، فَقُسِّطَ عَلَيْهِ
مَا أَفْقَرَهُ، وَمَاتَ حِينَ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ كَفَنٌ، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
مُبَارَكٌ الْأَنْمَاطِيُّ
كَانَ ذَا مَالٍ جَزِيلٍ، خَلَّفَ يَوْمَ تُوُفِّيَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا سِوَى ابْنَةٍ وَاحِدَةٍ بِبَغْدَادَ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمِصْرَ.
أَبُو الْفَوَارِسِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
كَانَ ظَالِمًا، وَكَانَ إِذَا سَكِرَ يَضْرِبُ الرَّجُلَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ
وَزِيرِهِ مِائَتَيْ مِقْرَعَةٍ، بَعْدَ أَنْ يُحَلِّفَهُ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ
لَا يَتَأَوَّهُ، وَلَا يُخْبِرُ بِذَلِكَ أَحَدًا. فَيُقَالُ: إِنَّ حَوَاشِيَهُ
سَمُّوهُ. فَلَمَّا مَاتَ نَادُوا
بِشِعَارِ ابْنِ أَخِيهِ أَبِي
كَالِيجَارَ.
أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَاشَاذَ
وَزِيرُ أَبِي كَالِيجَارَ، لَقَّبَهُ مُعِزَّ الدِّينِ فَلَكَ الدَّوْلَةِ،
سَيِّدَ الْأُمَّةِ، وَزِيرَ الْوُزَرَاءِ، عِمَادَ الْمُلْكِ، ثُمَّ سُلِّمَ
إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ فَاعْتَقَلَهُ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُتَكَلِّمُ
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. هَكَذَا رَأَيْتُ ابْنَ الْجَوْزِيِّ تَرْجَمَهُ
مُخْتَصَرًا.
ابْنُ غَلْبُونَ الشَّاعِرُ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُحْسِنِ بْنُ مُحَمَّدِ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غَالِبِ بْنِ غَلْبُونَ الشَّامِيُّ ثُمَّ الصُّورِيُّ
الشَّاعِرُ الْمُطَبِّقُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ مَلِيحٌ بَلِيغٌ، كَانَ قَدْ
نَظَمَ قَصِيدَةً بَلِيغَةً فِي بَعْضِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ أَنْشَدَهَا لِرَئِيسٍ
آخَرَ يُقَالُ لَهُ: ذُو الْمَنْقَبَتَيْنِ. وَزَادَ فِيهَا بَيْتًا وَاحِدًا
يَقُولُ فِيهِ:
وَلَكَ الْمَنَاقِبُ كَلُّهَا فَلِمَ اقْتَصَرْتَ عَلَى اثْنَتَيْنِ
فَأَجَازَهُ جَائِزَةً سَنِيَّةً، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ فِيكَ،
فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْبَيْتَ وَحْدَهُ بِقَصِيدَةٍ.
وَلَهُ أَيْضًا فِي بَخِيلٍ نَزَلَ
عِنْدَهُ:
وَأَخٍ مَسَّهُ نُزُولِي بِقَرْحٍ مِثْلَ مَا مَسَّنِي مِنَ الْجُوعِ قَرْحُ
بِتُّ ضَيْفًا لَهُ كَمَا حَكَمَ الدَّهْ رُ وَفِي حُكْمِهِ عَلَى الْحُرِّ قُبْحُ
فَابْتَدَانِي يَقُولُ وَهْوَ مِنَ ال سُّكْرِ بِالْهَمِّ طَافِحٌ لَيْسَ يَصْحُو
لِمْ تَغَرَّبْتَ قَلْتُ قَالَ رَسُولُ ال لَّهِ وَالْقَوْلُ مِنْهُ نُصْحٌ
وَنُجْحُ
سَافَرُوا تَغْنَمُوا " فَقَالَ وَقَدْ قَا لَ تَمَامَ الْحَدِيثِ "
صُومُوا تَصِحُّوَا
"
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ عِشْرِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا سَقَطَ بِنَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ مَطَرٌ شَدِيدٌ مَعَهُ بَرَدٌ كِبَارٌ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: حُزِرَتِ الْبَرَدَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهُ بِمِائَةٍ
وَخَمْسِينَ رِطْلًا، وَغَاصَتْ فِي الْأَرْضِ نَحْوًا مِنْ ذِرَاعٍ.
وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ يَمِينِ الدَّوْلَةِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ أَنَّهُ
أَحَلَّ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الرَّيِّ مِنَ الْبَاطِنِيَّةِ وَالرَّوَافِضِ
قَتْلًا ذَرِيعًا، وَصَلْبًا شَنِيعًا، وَأَنَّهُ انْتَهَبَ أَمْوَالَ رَئِيسِهِمْ
رُسْتُمَ بْنِ عَلِيٍّ الدَّيْلِمِيِّ، فَحَصَّلَ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَ فِي حِبَالَتِهِ نَحْوٌ مَنْ خَمْسِينَ امْرَأَةً حُرَّةً،
وَقَدْ وَلَدْنَ لَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَلَدًا مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى،
وَكَانُوا يَرَوْنَ إِبَاحَةَ ذَلِكَ.
وَفِي رَجَبٍ مِنْهَا انْقَضَتْ كَوَاكِبُ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الصَّوْتِ
قَوِيَّةُ الضَّوْءِ.
وَفِي شَعْبَانَ كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ، وَضَعُفَتْ رِجَالُ الْمَعُونَةِ عَنْ
مُقَاوَمَةِ الْعَيَّارِينَ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ عَشَرَ مِنْهُ غَارَ مَاءُ دِجْلَةَ حَتَّى
لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ، وَوَقَفَتِ الْأَرْحَاءُ، وَتَعَذَّرَ الطَّحْنُ.
وَفِي هَذَا الْيَوْمِ جُمِعَ
الْقُضَاةُ وَالْعُلَمَاءُ فِي دَارِ الْخِلَافَةِ، وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ
جَمَعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ فِيهِ مَوَاعِظُ
وَتَفَاصِيلُ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ
مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي الْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ جُمِعُوا أَيْضًا، وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ
آخَرُ جَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ أَيْضًا فِيهِ أَخْبَارٌ وَمَوَاعِظُ، وَالرَّدُّ
عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَتَفْسِيقُ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَصِفَةُ
مَا وَقَعَ بَيْنَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ
الْكَتَّانِيِّ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ، ثُمَّ خَتَمَ الْقَوْلَ بِالْوَعْظِ
وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَخَذَ خُطُوطَ
الْحَاضِرِينَ بِالْمُوَافَقَةِ لِمَا سَمِعُوهُ.
وَفِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ غُرَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ جُمِعُوا أَيْضًا كُلُّهُمْ،
وَقُرِئَ عَلَيْهِمْ كِتَابٌ آخَرُ طَوِيلٌ يَتَضَمَّنُ بَيَانَ السُّنَّةِ،
وَالرَّدَّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَمُنَاظَرَةَ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالْكَتَّانِيِّ،
وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَفَضْلَ
الصَّحَابَةِ، وَذِكْرَ فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا، وَلَمْ يَفْرَغُوا مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ الْعَتَمَةِ، وَأُخِذَتْ
خُطُوطُهُمْ بِمُوَافَقَةِ مَا سَمِعُوهُ، وَعُزِلَ خُطَبَاءُ الشِّيعَةِ،
وَوَلِيَ خُطَبَاءُ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَجَرَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَسْجِدِ بَرَاثَا، وَضَرَبُوا الْخَطِيبَ
السُّنِّيَّ بِالْآجُرِّ حَتَّى كَسَرُوا أَنْفَهُ وَخَلَعُوا كَتِفَهُ،
فَانْتَصَرَ لَهُ الْخَلِيفَةُ وَأَهَانَ الشِّيعَةَ وَأَذَلَّهُمْ، حَتَّى
جَاءُوا يَعْتَذِرُونَ مِمَّا صَنَعُوا، وَأَنَّهُ مَا تَعَاطَاهُ إِلَّا
سُفَهَاؤُهُمْ وَسَقَطُهُمْ.
وَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مِنَ الْحَجِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْهُبَيْشِ،
أَبُو عَلِيٍّ الزَّاهِدُ
أَحَدُ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ وَأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، دَخَلَ عَلَيْهِ
بَعْضُ الْوُزَرَاءِ فَقَبَّلَ يَدَهُ، فَعُوتِبَ الْوَزِيرُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ:
كَيْفَ لَا أُقَبِّلُ يَدًا مَا امْتَدَّتْ إِلَّا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ؟!
عَلِيُّ بْنُ عِيسَى بْنِ الْفَرَجِ بْنِ صَالِحٍ، أَبُو الْحَسَنِ الرَّبَعِيُّ
النَّحْوِيُّ
أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ أَوَّلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ السِّيرَافِيِّ، ثُمَّ عَنْ
أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَلَازَمَهُ عِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى كَانَ يَقُولُ:
قُولُوا لَهُ: لَوْ سَارَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا
أَنْحَى مِنْهُ. وَكَانَ يَوْمًا يَمْشِي عَلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ إِذْ نَظَرَ
إِلَى الشَّرِيفَيْنِ الرَّضِيِّ وَالْمُرْتَضَى فِي سَفِينَةٍ، وَمَعَهُمَا
عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ، فَقَالَ لَهُمَا: مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ
عُثْمَانَ مَعَكُمَا، وَعَلِيٌّ بَعِيدٌ مِنْكُمَا يَمْشِي عَلَى شَاطِئِ
دِجْلَةَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثِنْتَيْنِ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ الدَّيْرِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
لَمْ يَتْبَعْ جِنَازَتَهُ سِوَى ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ.
أَسَدُ الدَّوْلَةِ، أَبُو عَلِيٍّ صَالِحُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ إِدْرِيسَ
الْكِلَابِيُّ
أَوَّلُ مُلُوكِ بَنِي مِرْدَاسٍ بِحَلَبَ، انْتَزَعَهَا مِنْ يَدَيْ نَائِبِهَا
الظَّاهِرِ بْنِ الْحَاكِمِ الْعُبَيْدِيِّ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعَ
عَشْرَةَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ جَاءَهُ جَيْشٌ كَثِيفٌ مِنْ مِصْرَ،
فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ أَسَدُ الدَّوْلَةِ هَذَا فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ،
وَقَامَ حَفِيدُهُ نَصْرٌ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
لَمَّا كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ تُوُفِّيَ الْمَلِكُ
الْعَادِلُ، الْكَبِيرُ الْمُثَاغِرُ، الْمُرَابِطُ الْمُؤَيَّدُ، الْمَنْصُورُ
الْمُجَاهِدُ، يَمِينُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ
سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ بِلَادِ غَزْنَةَ وَتِلْكَ الْمَمَالِكِ الْكِبَارِ،
وَفَاتِحُ أَكْثَرِ بِلَادِ الْهِنْدِ قَهْرًا، وَكَاسِرُ بُدُودِهِمْ
وَأَوْثَانِهِمْ كَسْرًا، وَقَاهِرُ هُنُودِهِمْ وَسُلْطَانِهِمُ الْأَعْظَمِ
قَهْرًا، وَقَدْ تَمَرَّضَ نَحْوًا مِنْ سَنَتَيْنِ لَمْ يَضْطَجِعْ فِيهِمَا
عَلَى فِرَاشٍ وَلَا تَوَسَّدَ وِسَادًا، بَلْ كَانَ يَنَامُ قَاعِدًا حَتَّى
مَاتَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِشَهَامَتِهِ وَصَرَامَتِهِ وَقُوَّةِ عَزْمِهِ، وَلَهُ
مِنَ الْعُمُرِ سِتُّونَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ
مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ حَتَّى غَافَصَهُ
أَخُوهُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودٍ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى مَمَالِكِ أَبِيهِ، مَعَ
مَا كَانَ إِلَيْهِ مِمَّا يَلِيَهُ وَفَتَحَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ مِنْ بِلَادِ
الْكُفَّارِ ; مِنَ الرَّسَاتِيقِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، فَاسْتَقَرَّتْ لَهُ
الْمَمَالِكُ شَرْقًا وَغَرْبًا فِي تِلْكَ النَّوَاحِي فِي أَوَاخِرِ هَذَا
الْعَامِ، وَجَاءَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَمِنْ كُلِّ مَلِكٍ
هُمَامٍ، بِالتَّحِيَّةِ وَالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ، وَسَتَأْتِي تَرْجَمَةُ
الْمَلِكِ مَحْمُودٍ فِي الْوَفِيَّاتِ.
وَفِيهَا اسْتَحْوَذَتِ السَّرِيَّةُ الَّتِي كَانَ بَعَثَهَا الْمَلِكُ مَحْمُودٌ
إِلَى بِلَادِ الْهِنْدِ عَلَى
أَكْبَرِ مَدَائِنِهِمْ وَهِيَ
الْمُسَمَّاةُ نَرْسَى، دَخَلُوهَا فِي نَحْوِ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ، مَا
بَيْنَ فَارِسٍ وَرَاجِلٍ، فَنَهَبُوا سُوقَ الْعِطْرِ وَالْجَوَاهِرِ بِهَا
نَهَارًا كَامِلًا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُحَوِّلُوا مَا فِيهِ مِنْ
أَنْوَاعِ الطِّيبِ وَالْمِسْكِ وَالْجَوَاهِرِ وَاللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ،
وَمَعَ هَذَا لَمْ يَدْرِ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
لِاتِّسَاعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي غَايَةِ الْكِبَرِ، طُولُهَا
مَسِيرَةُ مَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الْهِنْدِ، وَعَرْضُهَا كَذَلِكَ، وَأُخِذَ
مِنَ الْأَمْوَالِ وَالتُّحَفِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، حَتَّى قِيلَ:
إِنَّهُمُ اقْتَسَمُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ بِالْكَيْلِ. وَلَمْ يَصِلْ جَيْشٌ
مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ، لَا قَبْلَ هَذِهِ
السَّنَةِ وَلَا بَعْدَهَا.
وَفِيهَا عَمِلَتِ الرَّافِضَةُ بِدْعَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ، وَحَادِثَتَهُمُ
الصَّلْعَاءَ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ، مِنْ تَعْلِيقِ الْمُسُوحِ، وَتَغْلِيقِ
الْأَسْوَاقِ، وَالنَّوْحِ وَالْبُكَاءِ، فِي الْأَزِقَّةِ وَالْأَرْجَاءِ،
فَأَقْبَلَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي الْحَدِيدِ، وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا
شَدِيدًا، فَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ، وَجَرَتْ فِتَنٌ
كَبِيرَةٌ، وَشُرُورٌ مُسْتَطِيرَةٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَرِضَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ
وَعَهِدَ بِوِلَايَةِ الْعَهْدِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى وَلَدِهِ أَبِي جَعْفَرٍ
الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ
وَالْكُبَرَاءِ، وَخُطِبَ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ، وَضُرِبَ اسْمُهُ
عَلَى السِّكَّةِ الْمُتَعَامَلِ بِهَا فِي الْبَادِي وَالْحَاضِرِ.
وَفِيهَا أَقْبَلَ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ
أَلْفِ مُقَاتِلٍ، فَسَارَ حَتَّى
بَلَغَ بِلَادَ حَلَبَ وَعَلَيْهَا
شِبْلُ الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى
مَسِيرَةِ يَوْمٍ مِنْهَا، وَمِنْ عَزْمِ مَلِكِ الرُّومِ - قَبَّحَهُ اللَّهُ -
أَنْ يَسْتَحْوِذَ عَلَى بِلَادِ الشَّامِ بِكَمَالِهَا، وَأَنْ يَسْتَرِدَّهَا
إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي أَيْدِيهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا
قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَقَيْصَرُ هُوَ مَنْ مَلَكَ الشَّامَ مَعَ بِلَادِ الرُّومِ،
فَلَا سَبِيلَ لِمَلِكِ الرُّومِ إِلَى هَذَا الرَّوْمِ الَّذِي أَرَادَهُ هَذَا
الْمَذْمُومُ، فَلَمَّا نَزَلَ بِجَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ حَلَبَ كَمَا ذَكَرْنَا،
أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَطَشًا شَدِيدًا، وَخَالَفَ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ ;
وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ الدُّمُسْتُقُ، فَعَامَلَ طَائِفَةً مِنَ الْجَيْشِ
عَلَى قَتْلِهِ لِيَسْتَقِلَّ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ، فَفَهِمَ ذَلِكَ مَلِكُ
الرُّومِ، فَكَرَّ مِنْ فَوْرِهِ رَاجِعًا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ
وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [ الْأَحْزَابِ: 25 ] وَلَمَّا كَرُّوا
رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، اتَّبَعَهُمُ الْأَعْرَابُ يَنْهَبُونَهُمْ لَيْلًا
وَنَهَارًا وَصَبَاحًا وَمَسَاءً، وَهَلَكَ أَكْثَرُ الرُّومِ جُوعًا وَعَطَشًا، وَنَهْبَهُمُ
الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا مَلَكَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ وَاسِطًا وَاسْتَنَابَ وَلَدَهُ عَلَيْهَا،
وَبَعَثَ وَزِيرَهُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ مَاكُولَا إِلَى الْبَطَائِحِ
وَالْبَصْرَةِ، فَفَتَحَ الْبَطَائِحَ وَسَارَ فِي الْمَاءِ إِلَى الْبَصْرَةِ
وَعَلَيْهَا نَائِبٌ لِأَبِي كَالِيجَارَ، فَهَزَمَهُمُ الْبَصْرِيُّونَ، فَسَارَ
إِلَيْهِمْ جَلَالُ الدَّوْلَةِ بِنَفْسِهِ، فَدَخَلَهَا فِي شَعْبَانِ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُقَّتِ الْبَشَائِرُ فَرَحًا بِبَغْدَادَ ; فَرَحًا بِنَصْرِهِ.
وَفِيهَا جَاءَ سَيْلٌ عَظِيمٌ بِغَزْنَةَ، فَأَهْلَكَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الزُّرُوعِ وَالْأَشْجَارِ.
وَفِي رَمَضَانَ مِنْهَا تَصَدَّقَ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ
بِأَلْفِ أَلْفِ
دِرْهَمٍ وَأَجْرَى أَرْزَاقًا
لِلْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِبِلَادِهِ، عَلَى عَادَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ،
وَفَتَحَ بُلْدَانًا كَثِيرَةً، وَاتَّسَعَتْ مَمَالِكُهُ جِدًّا، وَعَظُمَ
شَأْنُهُ وَقَوِيَتْ أَرْكَانُهُ، وَكَثُرَتْ جُنُودُهُ وَأَعْوَانُهُ.
وَفِيهَا دَخَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَكْرَادِ إِلَى بَغْدَادَ يَسْرِقُونَ
خَيْلَ الْأَتْرَاكِ لَيْلًا، فَتَحَصَّنَ النَّاسُ مِنْهُمْ، وَحَصَّنُوا
خُيُولَهُمْ حَتَّى خَيْلَ السُّلْطَانِ.
وَفِيهَا سَقَطَ جِسْرٌ بِبَغْدَادَ، وَهُوَ الَّذِي عِنْدَ الزَّيَّاتِينَ عَلَى
نَهْرِ عِيسَى.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ الْأَتْرَاكِ النَّازِلِينَ بِبَابِ
الْبَصْرَةِ وَبَيْنَ الْهَاشِمِيِّينَ، فَرَفَعُوا الْمَصَاحِفَ، وَرَمَتْهُمُ
الْأَتْرَاكُ بِالنُّشَّابِ، وَجَرَتْ خَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ اصْطَلَحَتِ
الْحَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ بِبَغْدَادَ، وَأُخِذَتِ الدُّورُ جَهْرَةً،
وَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ وَلُصُوصُ الْأَكْرَادِ.
وَفِيهَا تَعَطَّلَ الْحَجُّ أَيْضًا مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ
لِفَسَادِ الْبِلَادِ، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ سِوَى سَرِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ ; رَكِبُوا مِنْ جِمَالِ الْبَادِيَةِ مَعَ الْأَعْرَابِ مُخَاطَرَةً،
فَفَازُوا بِالْحَجِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْحَسَنِ الْوَاعِظُ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الرَّانِ
صَاحِبُ كَرَامَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ،
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ فَسَكَنَ دِمَشْقَ وَكَانَ يَعِظُ النَّاسَ
بِالزِّيَادَةِ الْقِبَلِيَّةِ حَيْثُ كَانَ يَجْلِسُ الْقُصَّاصُ. قَالَ ذَاكَ
الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ. قَالَ: وَصَنَّفَ كُتُبًا فِي الْوَعْظِ، وَحَكَى
حِكَايَاتٍ كَثِيرَةً، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ السَّمَرْقَنْدِيِّ
يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا طَاهِرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي صَقْرٍ
يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّانِ الْوَاعِظَ
يُنْشِدُ أَبْيَاتًا:
أَنَا مَا أَصْنَعُ بِاللَّذَّ اتِ شُغْلِي بِالذُّنُوبِ إِنَّمَا الْعِيدُ لِمَنْ
فَا
زَ بِوَصْلٍ مِنْ حَبِيبِ أَصْبَحَ النَّاسُ عَلَى رَوْ
حٍ وَرَيْحَانٍ وَطِيبِ ثُمَّ أَصْبَحْتُ عَلَى نَوْ
حٍ وَحُزْنٍ وَنَحِيبَ فَرِحُوا حِينَ أَهَلُّوا
شَهْرَهُمْ بَعْدَ الْمَغِيبِ وَهِلَالِي مُتَوَارٍ
مِنْ وَرَا حُجْبِ الْغُيُوبِ فَلِهَذَا يَا خَلِيلِي
قُلْتُ لِلذَّاتِ غِيبِي وَجَعَلْتُ الْهَمَّ وَالْحُزْ
نَ مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبِي يَا حَيَاتِي وَمَمَاتِي
وَشَقَائِي وَطَبِيبِي جُدْ لِصَبٍّ يَتَلَظَّى
مِنْكَ بِالرَّحْبِ الرَّحِيبِ
ثُمَّ أَرَّخَ وَفَاتَهُ لِعَشْرٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَدُفِنَ بِمَسْجِدِ الْقِدَمِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَالِعُ
الشَّاعِرُ، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ حَسَنٌ مَلِيحٌ، عَمَّرَ طَوِيلًا، وَوَفَاتُهُ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِنٍّ عَالِيَةٍ.
الْمَلِكُ الْكَبِيرُ الْعَادِلُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، أَبُو الْقَاسِمِ،
الْمُلَقَّبُ بِيَمِينِ الدَّوْلَةِ وَأَمِينِ الْمِلَّةِ
صَاحِبُ بِلَادِ غَزْنَةَ وَمَا وَالَاهَا، وَجَيْشُهُ يُقَالُ لَهُمْ:
السَّامَانِيَّةُ. وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ تَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ، وَتُوَفِّي سَنَةَ
سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَتَمَلَّكَ بَعْدَهُ وَلَدُهُ هَذَا،
فَسَارَ فِيهِمْ وَفِي سَائِرِ الرَّعَايَا سِيرَةً عَادِلَةً، وَقَامَ
بِأَعْبَاءِ الْإِسْلَامِ قِيَامًا تَامًّا، وَفَتَحَ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً فِي
بِلَادِ الْهِنْدِ وَغَيْرِهَا وَعَظُمَ شَأْنُهُ فِي الْعَالَمِينَ، وَاتَّسَعَتْ
مَمْلَكَتُهُ وَامْتَدَّتْ رَعَايَاهُ وَطَالَتْ أَيَّامُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَكَانَ يَخْطُبُ فِي سَائِرِ مَمَالِكِهِ لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ
الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَكَانَتْ رُسُلُ الْفَاطِمِيِّينَ مِنَ الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ تَفِدُ إِلَيْهِ بِالْكُتُبِ وَالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ،
فَيُحْرِقُ بِهِمْ، وَيُقَطِّعُ كُتُبَهُمْ، وَيُخَرِّقُ حِلَلَهُمْ. وَقَدِ اتَّفَقَ
لَهُ فِي بِلَادِ الْهِنْدِ فُتُوحَاتٌ لَمْ تَتَّفِقْ لِغَيْرِهِ مِنَ
الْمُلُوكِ، لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَغَنِمَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً لَا
تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ كَثْرَةً، مِنَ الذَّهَبِ وَاللَّآلِئِ وَالسَّبْيِ،
وَكَسَّرَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ وَأَبْدَادِهِمْ
وَأَوْثَانِهِمْ شَيْئًا كَثِيرًا
جِدًّا، بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ
مُفَصَّلًا فِيمَا سَلَفَ مُفَرَّقًا فِي السِّنِينَ، كَانَ فِي جُمْلَةِ مَا
كَسَرَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ بُدٌّ عَظِيمٌ لِلْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ: سُومَنَاتُ.
بَلَغَ مَا تَحَصَّلَ مِنْهُ مِنَ الذَّهَبِ عِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَكَسَرَ مَلِكَ الْهِنْدِ الْكَبِيرَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: جِيبَالُ. وَقَهَرَ
مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: إِيلَكُ خَانَ. وَأَبَادَ مُلْكَ
السَّامَانِيَّةِ، وَقَدْ مَلَكُوا بِخُرَاسَانَ مِائَةَ سَنَةٍ بِلَادَ
سَمَرْقَنْدَ وَمَا حَوْلَهَا، ثُمَّ هَلَكُوا، وَبَنَى عَلَى جَيْحُونَ جِسْرًا
غَرِمَ عَلَيْهِ أَلْفَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَتَّفِقْ
لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُلُوكِ، وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ أَرْبَعُمِائَةِ فِيلٍ
تُقَاتِلُ، وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ هَائِلَةٌ وَمَرْتَبَةٌ طَائِلَةٌ، وَجَرَتْ لَهُ
فُصُولٌ ذِكْرُ تَفْصِيلِهَا يَطُولُ.
وَكَانَ فِي غَايَةِ الدِّيَانَةِ وَالصِّيَانَةِ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ
وَالْمُحَدِّثِينَ، وَيُكْرِمُهُمْ، وَيُجَالِسُهُمْ، وَيُحْسِنُ إِلَيْهِمْ،
وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ، ثُمَّ صَارَ شَافِعِيًّا عَلَى يَدَيْ أَبِي
بَكْرٍ الْقَفَّالِ الصَّغِيرِ، عَلَى مَا ذَكَرَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ
وَغَيْرُهُ، وَكَانَ كَرَّامِيًّا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ
مَنْ يُجَالِسُهُ مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْهَيْضَمِ، وَتَنَاظَرَ هُوَ وَأَبُو
بَكْرِ بْنُ فُورَكَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ فِي
مَسْأَلَةِ الْعَرْشِ مُنَاظَرَةً طَوِيلَةً، ذَكَرَهَا ابْنُ الْهَيْضَمِ فِي
مُصَنَّفٍ لَهُ، فَمَالَ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ إِلَى قَوْلِ
ابْنِ الْهَيْضَمِ، وَنَقَمَ عَلَى ابْنِ فُورَكَ كَلَامَهُ، وَأَمَرَ بِطَرْدِهِ
وَإِخْرَاجِهِ ; لِمُوَافَقَتِهِ لِرَأْيِ الْجَهْمِيَّةِ.
وَكَانَتْ مَعْدِلَتُهُ جَيِّدَةً ; اشْتَكَى إِلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّ ابْنَ أُخْتِ
الْمَلِكِ يَهْجِمُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيُخْرِجُهُ
مِنَ الْبَيْتِ وَيَخْتَلِي بِامْرَأَتِهِ، وَقَدْ حَارَ فِي أَمْرِهِ، وَكُلَّمَا
اشْتَكَاهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى إِقَامَةِ
الْحَدِّ عَلَيْهِ ; يَهَابُونَ الْمَلِكَ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَيْحَكَ !
مَتَى جَاءَكَ فَائْتِنِي فَأَعْلِمْنِي، وَلَا تَسْمَعْنَ مِنْ أَحَدٍ مَنَعَكَ
مِنَ الْوُصُولِ إِلَيَّ، وَلَوْ كَانَ فِي اللَّيْلِ. وَتَقَدَّمَ إِلَى
الْحَجَبَةِ
أَنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُهُ أَحَدٌ
مَتَى جَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ مَسْرُورًا، فَمَا
كَانَ إِلَّا لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ حَتَّى هَجَمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّابُّ
فَأَخْرَجَهُ وَاخْتَلَى بِأَهْلِهِ، فَذَهَبَ بَاكِيًا إِلَى دَارِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ
لَهُ: إِنَّ الْمَلِكَ نَائِمٌ. فَقَالَ: قَدْ تَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِمَا
سَمِعْتُمْ، فَأَنْبَهُوا الْمَلِكَ، فَخَرَجَ مَعَهُ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ،
وَجَاءَ مَنْزِلَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَنَظَرَ إِلَى الْغُلَامِ وَهُوَ نَائِمٌ
مَعَ الْمَرْأَةِ فِي فِرَاشِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَهُمَا شَمْعَةٌ تَقِدُ،
فَتَقَدَّمَ الْمَلِكُ فَأَطْفَأَ الضَّوْءَ، ثُمَّ جَاءَ فَاحْتَزَّ رَأْسَ
الْغُلَامِ، وَقَالَ لِلرَّجُلِ: وَيْحَكَ ! أَلْحَقَنِي بِشَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ،
فَسَقَاهُ، ثُمَّ انْطَلَقَ لِيَذْهَبَ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: سَأَلْتُكَ
بِاللَّهِ لِمَ أَطْفَأْتَ الشَّمْعَةَ ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ ! إِنَّهُ ابْنُ
أُخْتِي، وَكَرِهْتُ أَنْ أُشَاهِدَهُ حَالَ الذَّبْحِ. قَالَ: وَلِمَ طَلَبْتَ
الْمَاءَ سَرِيعًا ؟ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ آلَيْتُ مُنْذُ أَخْبَرْتَنِي أَنْ
لَا أَطْعَمَ طَعَامًا وَلَا أَشْرَبَ شَرَابًا حَتَّى أَقُومَ بِحَقِّكَ،
فَكُنْتُ عَطْشَانَ هَذِهِ الْأَيَّامَ، حَتَّى كَانَ مَا رَأَيْتُ. فَدَعَا لَهُ،
وَانْصَرَفَ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَكَانَ مَرَضُهُ سُوءَ مِزَاجٍ اعْتَرَاهُ وَانْطِلَاقَ الْبَطْنِ سَنَتَيْنِ،
فَكَانَ فِيهِمَا لَا يَضْطَجِعُ عَلَى فِرَاشٍ، وَلَا يَتَّكِئُ عَلَى شَيْءٍ
لِقُوَّةِ بَأْسِهِ، بَلْ كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَى مَخَادَّ تُوضَعُ لَهُ،
وَيَحْضُرُ مَجْلِسَ مُلْكِهِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى عَادَتِهِ،
حَتَّى مَاتَ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ
رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، مَلَكَ
مِنْهَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَخَلَّفَ مِنَ الْأَمْوَالِ شَيْئًا
كَثِيرًا، مِنْ ذَلِكَ سَبْعُونَ رَطْلًا مِنْ جَوْهَرٍ، سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ صَارَ الْمُلْكُ
إِلَى ابْنِهِ الْآخَرِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودٍ، فَأَشْبَهَ أَبَاهُ، وَقَدْ
صَنَّفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مُجَلَّدًا فِي سِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ
وَفُتُوحَاتِهِ وَمَمَالِكِهِ، فَأَفَادَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ وَفَاةُ الْقَادِرِ بِاللَّهِ وَخِلَافَةُ ابْنِهِ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ،
وَقَوِيَتْ عَلَيْهِمُ السُّنَّةُ، وَقَتَلُوا خَلْقًا مِنْهُمْ، وَنَهَبُوا
الْكَرْخَ وَدَارَ الشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ دُورَ
الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى مُعَاوَنَةِ أَهْلِ الْكَرْخِ مِنَ
الرَّوَافِضِ، وَتَعَدَّى النَّهْبُ إِلَى دُورٍ كَثِيرَةٍ وَانْتَشَرَتِ
الْفِتْنَةُ جِدًّا، ثُمَّ سَكَنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الْعَمَلَاتُ وَانْتَشَرَتِ الْمِحْنَةُ بِأَمْرِ
الْعَيَّارِينَ فِي أَرْجَاءِ الْبَلَدِ، وَتَجَاسَرُوا عَلَى أُمُورٍ كَثِيرَةٍ،
وَنَهَبُوا دُورًا وَأَمَاكِنَ سِرًّا وَجَهْرًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
خِلَافَةُ الْقَائِمِ بِاللَّهِ
أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ، بُويِعَ لَهُ
بِالْخِلَافَةِ لَمَّا تُوَفِّيَ أَبُوهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ
أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ بْنِ الْمُعْتَضِدِ بْنِ الْأَمِيرِ أَبِي أَحْمَدَ الْمُوَفَّقِ بْنِ الْمُتَوَكِّلِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ بْنِ الرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ بْنِ الْمَنْصُورِ، فِي لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَلَمْ يُعَمَّرْ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ هَذَا الْعُمُرَ وَلَا بَعْدَهُ، مِنْ ذَلِكَ فِي الْخِلَافَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَهَذَا أَيْضًا شَيْءٌ لَمْ يَسْبِقْهُ أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ اسْمُهَا تَمَنِّي، مَوْلَاةُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ الْمُقْتَدِرِ، وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُحِبًّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالصَّلَاحِ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٌ كَانَتْ تُقْرَأُ عَلَى النَّاسِ، وَكَانَ أَبْيَضَ، حَسَنَ الْجِسْمِ، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ عَرِيضَهَا يَخْضِبُهَا، وَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ، مُحِبًّا لِلسُّنَّةِ وَأَهْلِهَا، يَبْغَضُ الْبِدْعَةَ وَالْقَائِمَيْنِ بِهَا، وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّوْمَ، وَيَبَرُّ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَقْطَاعِهِ، يَبْعَثُ مِنْهُ إِلَى الْمُجَاوِرِينَ بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ الرُّصَافَةِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِهِ فِي زِيِّ الْعَامَّةِ، فَيَزُورُ قُبُورَ الصَّالِحِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا صَالِحًا مَنْ سِيرَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ وِلَايَتِهِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَجَلَسُوا فِي عَزَائِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِعِظَمِ الْمُصِيبَةِ بِهِ، وَلِتَوْطِيدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدِهِ الْقَائِمِ بِاللَّهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَادِرِ، وَأُمُّهُ قَطْرُ النَّدَى أَرْمَنِيَّةٌ، أَدْرَكَتْ خِلَافَتَهُ. وَكَانَ مَوْلِدُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ إِحْدَى وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَكَانَتْ بَيْعَتُهُ بِحَضْرَةِ الْقُضَاةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْكُبَرَاءِ وَالْأَعْيَانِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى وَأَنْشَدَهُ أَبْيَاتًا:
فَإِمَّا مَضَى جَبَلٌ وَانْقَضَى
فَمِنْكَ لَنَا جَبَلٌ قَدْ رَسَا وَإِمَّا فُجِعْنَا بِبَدْرِ التَّمَامِ
فَقَدْ بَقِيَتْ مِنْهُ شَمْسُ الضُّحَى لَنَا حَزَنٌ فِي مَحَلِّ السُّرُورِ
فَكَمْ ضَحِكٌ فِي خِلَالِ الْبُكَا فَيَا صَارِمًا أَغْمَدَتْهُ يَدٌ
لَنَا بَعْدَكَ الصَّارِمُ الْمُنْتَضَى وَلَمَّا حَضَرْنَاكَ عَقْدَ الْبِيَاعِ
عَرَفْنَا بِهَدْيِكَ طُرْقَ الْهُدَى فَقَابَلْتَنَا بِوَقَارِ الْمَشِيبِ
كَمَالًا وَسِنُّكَ سِنُّ الْفَتَى
طَالَبَتْهُ الْأَتْرَاكُ بِرَسْمِ الْبَيْعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَ الْخَلِيفَةِ
شَيْءٌ ; لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَتْرُكْ مَالًا، فَكَادَتِ الْفِتْنَةُ تَقَعُ
بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَتَّى دَفَعَ عَنْهُ الْمَلِكُ جَلَالُ
الدَّوْلَةِ مَالًا جَزِيلًا، نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ دِينَارٍ،
وَاسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا طَالِبٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَيُّوبَ، وَاسْتَقْضَى
ابْنَ مَاكُولَا.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ سِوَى شِرْذِمَةٍ خَرَجُوا مِنَ
الْكُوفَةِ مَعَ الْعَرَبِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْكُبَرَاءِ غَيْرِ
الْخَلِيفَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو عَلِيِّ بْنُ مَاكُولَا
الْوَزِيرُ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى
الْبَطِيحَةِ فَفَتَحَهَا، وَرَامَ أَخْذَ الْبَصْرَةِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ،
وَقَاتَلُوهُ دُونَهَا فَأَسَرُوهُ، فَسَأَلَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْمَلِكِ
أَبِي كَالِيجَارَ، فَعَفَا عَنْهُ وَأَطْلَقَهُ، فَلَمَّا صَارَ إِلَى
الْأَهْوَازِ تَعَامَلَ عَلَيْهِ غُلَامٌ لَهُ وَجَارِيَةٌ، فَقَتَلَاهُ فِي ذِي
الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
نَصْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ هَارُونَ بْنِ مَالِكِ بْنِ طَوْقٍ
صَاحِبُ الرَّحْبَةِ، التَّغْلِبِيُّ الْبَغْدَادِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ
الْمَالِكِيَّةِ وَمُصَنِّفِيهِمْ، لَهُ كِتَابُ " التَّلْقِينِ "
يَحْفَظُهُ الطَّلَبَةُ، وَلَهُ غَيْرُهُ فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، وَقَدْ
أَقَامَ بِبَغْدَادَ دَهْرًا، وَوَلِيَ قَضَاءَ بَادَرَايَا وَبَاكُسَايَا، ثُمَّ
خَرَجَ مِنْ بَغْدَادَ لِضِيقِ حَالِهِ، فَدَخَلَ مِصْرَ، فَأَكْرَمَهُ
الْمَغَارِبَةُ، وَأَعْطَوْهُ ذَهَبًا كَثِيرًا، فَتَمَوَّلَ جَدًّا، فَأَنْشَأَ
يَقُولُ مُتَشَوِّقًا إِلَى بَغْدَادَ:
سَلَامٌ عَلَى بَغْدَادَ فِي كُلِّ مَوْقِفٍ وَحُقَّ لَهَا مِنِّي السَّلَامُ
مُضَاعَفُ فَوَاللَّهِ مَا فَارَقْتُهَا عَنْ قِلًى لَهَا
وَإِنِّي بِشَطَّيْ جَانِبَيْهَا لَعَارِفُ وَلَكِنَّهَا ضَاقَتْ عَلَيَّ
بِأَسْرِهَا
وَلَمْ تَكُنِ الْأَرْزَاقُ فِيهَا تُسَاعِفُ فَكَانَتْ كَخِلٍّ كُنْتُ أَهْوَى
دُنُوَّهُ
وَأَخْلَاقُهُ تَنْأَى بِهِ وَتُخَالِفُ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: سَمِعَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنِ
ابْنِ السَّمَّاكِ وَكَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ ثِقَةً، وَلَمْ تَرَ
الْمَالِكِيَّةُ أَحَدًا أَفْقَهَ مِنْهُ.
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفِيَاتِ " عَنْهُ:
وَعِنْدَمَا وَصَلَ إِلَى الدِّيَارِ
الْمِصْرِيَّةِ، وَحَصَلَ لَهُ شَيْءٌ
مِنَ الْمَالِ، وَحَسُنَ حَالُهُ، مَرِضَ مِنْ أَكْلَةٍ اشْتَهَاهَا، فَذُكِرَ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَقَلَّبُ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
عِنْدَمَا عِشْنَا مِتْنَا. قَالَ: وَلَهُ أَشْعَارٌ رَائِقَةٌ طَرِيفَةٌ، فَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَنَائِمَةٍ قَبَّلْتُهَا. فَتَنَبَّهَتْ فَقَالَتْ تَعَالَوْا وَاطْلُبُوا
اللِّصَّ بِالْحَدِّ
فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي فَدَيْتُكِ غَاصِبٌ وَمَا حَكَمُوا فِي غَاصِبٍ بِسِوَى
الرَّدِّ
خُذِيهَا وَكُفِّي عَنْ أَثِيمٍ ظُلَامَةً وَإِنْ أَنْتِ لَمْ تَرْضِي فَأَلْفًا
عَلَى الْعَدِّ
فَقَالَتْ قِصَاصٌ يَشْهَدُ الْعَقْلُ أَنَّهُ عَلَى كَبِدِ الْجَانِي أَلَذُّ
مِنَ الشَّهْدِ
فَبَاتَتْ يَمِينِي وَهْيَ هِمْيَانُ خِصْرِهَا وَبَاتَتْ يَسَارِي وَهْيَ
وَاسِطَةُ الْعِقْدِ
فَقَالَتْ أَلَمْ أُخْبَرْ بِأَنَّكَ زَاهِدٌ فَقُلْتُ بَلَى مَا زِلْتُ أَزْهَدُ
فِي الزُّهْدِ
وَمِمَّا أَنْشَدَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ:
بَغْدَادُ دَارٌ لِأَهْلِ الْمَالِ طَيِّبَةٌ وَلِلْمَفَالِيسِ دَارُ الضَّنْكِ
وَالضِّيقِ
ظَلَلْتُ حَيْرَانَ أَمْشِي فِي أَزِقَّتِهَا كَأَنَّنِي مُصْحَفٌ فِي بَيْتِ
زِنْدِيقِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي سَادِسِ الْمُحَرَّمِ اسْتَسْقَى أَهْلُ بَغْدَادَ لِتَأَخُّرِ الْمَطَرِ عَنْ
أَوَانِهِ، فَلَمْ يُسْقَوْا، وَكَثُرَ الْمَوْتُ فِي النَّاسِ.
وَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ عَمِلَتِ الرَّوَافِضُ الْبِدْعَةَ
الشَّنْعَاءَ، وَكَثُرَ النَّوْحُ وَالْبُكَاءُ، وَامْتَلَأَتْ بِذَلِكَ
الطُّرُقَاتُ وَالْأَسْوَاقُ وَالْأَرْجَاءُ.
وَفِي صَفَرٍ أُمِرَ النَّاسُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ لِقُحُوطِ
الْأَمْطَارِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ بِاتِّسَاعِهَا مِائَةُ
إِنْسَانٍ فِي الْجَوَامِعِ كُلِّهَا.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجَيْشِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، فَاتَّفَقَ
الْحَالُ عَلَى خُرُوجِهِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَرَدَّ كَثِيرًا مِنْ جَوَارِيهِ
إِلَى أُسْتَاذِهِنَّ قَبْلَهُ، وَاسْتَبْقَى بَعْضَهُنَّ مَعَهُ، وَخَرَجَ مِنْ
بَغْدَادَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ سَادِسِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَكَتَبَ
الْغِلْمَانُ الْأَسْفَهْسِلَارِيَّةُ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ ;
لِيُقْدِمَ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا قَدِمَ تَمَهَّدَتِ الْبِلَادُ، وَلَمْ يَبْقَ
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ وَالْإِلْحَادِ، وَنَهَبُوا دَارَ جَلَالِ
الدَّوْلَةِ وَغَيْرَهَا، وَتَأَخَّرَ مَجِيءُ أَبِي كَالِيجَارَ، وَذَلِكَ أَنَّ
وَزِيرَهُ الْعَادِلَ بْنَ مَافَنَّةَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْقُدُومِ إِلَى
بَغْدَادَ
فَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ،
وَتَفَاقَمَ الْحَالُ بِهِمْ، وَفَسَدَ الْبَلَدُ، وَافْتَقَرَ جَلَالُ
الدَّوْلَةِ بِحَيْثُ إِنَّهُ احْتَاجَ إِلَى أَنْ بَاعَ بَعْضَ ثِيَابِهِ فِي
الْأَسْوَاقِ، وَجَعَلَ أَبُو كَالِيجَارَ يَتَوَهَّمُ مِنَ الْأَتْرَاكِ، وَيَطْلُبُ
مِنْهُمْ رَهَائِنَ، فَلَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ، وَطَالَ الْفَصْلُ، فَرَجَعُوا
إِلَى مُكَاتَبَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، وَشَرَعُوا
فِي الِاعْتِذَارِ إِلَيْهِ، وَخَطَبُوا لَهُ فِي الْبَلَدِ عَلَى عَادَتِهِ،
ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَى بَغْدَادَ، وَأَرْسَلَ
الْخَلِيفَةُ الرُّسُلَ إِلَى الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، وَمِمَّنْ بَعَثَ
إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ، يُسَلِّمُ عَلَيْهِ،
وَيَسْتَوْحِشُ مِنْهُ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحَمَّلَ أَمْرًا عَظِيمًا،
فَسَأَلَ أَنْ يُلَقَّبَ بِالسُّلْطَانِ الْمُعَظَّمِ مَالِكِ الْأُمَمِ، فَقَالَ
الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا لَا يُمْكِنُ ; لِأَنَّ السُّلْطَانَ الْمُعَظَّمَ
الْخَلِيفَةُ، وَكَذَلِكَ مَالِكُ الْأُمَمِ. ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى تَلْقِيبِهِ
بِمَلِكِ الدَّوْلَةِ، فَأَرْسَلَ مَعَ الْمَاوَرْدِيِّ تُحَفًا عَظِيمَةً ;
مِنْهَا أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ سَابُورِيَّةٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الدَّرَاهِمِ
آلَافٌ، وَتُحَفٌ وَأَلْطَافٌ. وَاجْتَمَعَ الْجُنْدُ عَلَى طَلَبِ أَرْزَاقِهِمْ
مِنَ الْخَلِيفَةِ، فَتَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَرَامُوا أَنْ يَقْطَعُوا خُطْبَتَهُ،
فَلَمْ تُصَلَّ الْجُمُعَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ، ثُمَّ خُطِبَ لَهُ مِنَ
الْجُمُعَةِ الْقَابِلَةِ، وَتَخَبَّطَ الْبَلَدُ جِدًّا وَكَثُرَ الْعَيَّارُونَ.
ثُمَّ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ حَلَفَ الْخَلِيفَةُ لِجَلَالِ
الدَّوْلَةِ بِخُلُوصِ النِّيَّةِ وَصَفَائِهَا، وَأَنَّهُ عَلَى مَا يُحِبُّ مِنَ
الصِّدْقِ وَصَلَاحِ النِّيَّةِ وَالسَّرِيرَةِ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُمَا
بِسَبَبِ لَعِبِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَشُرْبِهِ النَّبِيذَ وَتَهَتُّكِهِ بِهِ،
ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَاصْطَلَحَا عَلَى فَسَادٍ.
وَفِي رَجَبٍ غَلَتِ الْأَسْعَارُ جِدًّا بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنْ أَرَاضِي
الْعِرَاقِ، وَلَمْ يَحُجَّ
أَحَدٌ مِنْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ مُوتَانٌ عَظِيمٌ بِبِلَادِ الْهِنْدِ وَغَزْنَةَ
وَخُرَاسَانَ وَجُرْجَانَ وَالرَّيِّ وَأَصْبَهَانَ، خَرَجَ مِنْهَا فِي أَدْنَى
مُدَّةٍ أَرْبَعُونَ أَلْفَ جِنَازَةٍ، وَفِي نَوَاحِي الْجَبَلِ وَالْمَوْصِلِ
وَبَغْدَادَ طَرَفٌ قَوِيٌّ مِنْ ذَلِكَ بِالْجُدَرِيِّ، بِحَيْثُ لَمَّ تَخْلُ
دَارٌ مِنْ مُصَابٍ بِهِ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي حَزِيرَانَ وَتَمُّوزَ وَآبَ
وَأَيْلُولَ وَتِشْرِينَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَكَانَ فِي الصَّيْفِ أَكْثَرَ
مِنْهُ فِي الْخَرِيفِ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ
". وَقَدْ رَأَى رَجُلٌ فِي مَنَامِهِ مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ مُنَادِيًا يُنَادِي بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ: يَا أَهْلَ أَصْبَهَانَ
سَكَتَ، نَطَقَ، سَكَتَ، نَطَقَ. فَانْتَبَهَ الرَّجُلُ مَذْعُورًا، فَلَمْ يَدْرِ
أَحَدٌ تَأْوِيلَهَا، حَتَّى قِيلَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ لَبِيبٍ، فَقَالَ: احْذَرُوا
يَا أَهْلَ أَصْبَهَانَ فَإِنِّي قَرَأْتُ فِي شِعْرِ أَبِي الْعَتَاهِيَةِ
قَوْلَهُ:
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمُ ثُمَّ أَبْكَاهُمُ دَمًا حِينَ نَطَقْ
فَمَا كَانَ غَيْرَ قَلِيلٍ حَتَّى جَاءَ الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا كَثِيرًا، حَتَّى قَتَلَ النَّاسَ فِي
الْجَوَامِعِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ظَفَرَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ بِالْخَادِمِ
صَنْدَلٍ، فَقَتَلَهُ، وَكَانَ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَى مَمْلَكَتِهِ، وَلَمْ
يَبْقَ مَعَهُ سِوَى الِاسْمِ، فَاسْتَرَاحَ مِنْهُ.
وَفِيهَا مَاتَ مَلِكُ التُّرْكِ الْكَبِيرُ صَاحِبُ بِلَادِ مَا وَرَاءَ
النَّهْرِ وَاسْمُهُ قَدْرَخَانُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
رَوْحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ،
أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِّيُّ
قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ جَمَاعَةً، وَقِدَمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَكَتَبْتُ
عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا فَهِمَا أَدِيبًا، يَتَفَقَّهُ عَلَى مَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَوَلِيِ قَضَاءَ أَصْبَهَانَ. قَالَ: وَبَلَغَنِي أَنَّهُ مَاتَ
بِالْكَرْخِ سَنَةَ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُعَيْمٍ، أَبُو
الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالنُّعَيْمِيِّ، الْحَافِظُ الشَّاعِرُ الْمُّتَكَلِّمُ الْفَقِيهُ
الشَّافِعِيُّ. قَالَ الْبَرْقَانِيُّ: هُوَ كَامِلٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَوْلَا
بَأْوٌ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ عَلَى جَمَاعَةٍ.
وَمِنْ شَعْرِهِ قَوْلُهُ:
إِذَا أَظْمَأَتْكَ أَكُفُّ اللِّئَامِ كَفَتْكَ الْقَنَاعَةُ شِبْعًا وَرِيَّا
فَكُنْ رَجُلًا رِجْلُهُ فِي الثَّرَى
وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا أَبِيًّا لِنَائِلِ ذِي ثَرْوَةٍ
تَرَاهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ أَبِيَّا فَإِنَّ إِرَاقَةَ مَاءِ الْحَيَا
ةِ دُونَ إِرَاقَةِ مَاءِ الْمُحَيَّا
مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ مُوسَى، أَبُو بَكْرٍ الصَّبَّاغُ
حَدَّثَ عَنِ النَّجَّادِ وَأَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَقَدْ
حَكَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَنَّهُ تَزَوَّجَ تِسْعَمِائَةِ امْرَأَةٍ،
وَذَكَرَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ عَنْ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
عَلِيُّ بْنُ هِلَالٍ
الْكَاتِبُ الْمَشْهُورُ، ذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقِيلَ: فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ. كَمَا قَدَّمْنَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا تَفَاقَمَ الْحَالُ بِأَمْرِ الْعَيَّارِينَ، وَتَزَايَدَ أَمْرُهُمْ
وَأَخْذُهُمُ الْعَمَلَاتِ، وَقَوِيَ أَمْرُ مُقَدِّمِهِمِ الْبُرْجُمِيِّ،
وَقَتَلَ صَاحِبَ الشُّرْطَةِ غِيلَةً، وَتَوَاتَرَتِ النُّهُبَاتُ فِي اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ، وَاحْتَفَظَ النَّاسُ بِدُورِهِمْ وَحَرَسُوهَا حَتَّى دَارَ
الْخَلِيفَةِ وَسُورَ الْبَلَدِ، وَعَظُمَ الْخَطْبُ بِهِمْ جِدًّا، وَكَانَ مِنْ
شَأْنِ هَذَا الْبُرْجُمِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤْذِي امْرَأَةً، وَلَا يَأْخُذُ
مِمَّا عَلَيْهَا شَيْئًا، وَهَذِهِ مُرُوءَةٌ فِي الظُّلْمِ، فَيُقَالُ لَهُ
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ
وَفِيهَا أَخَذَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْبَصْرَةَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَلَدَهُ
الْعَزِيزَ، فَأَقَامَ بِهَا الْخُطْبَةَ لِأَبِيهِ، وَقُطِعَتْ مِنْهَا خُطْبَةُ
أَبِي كَالِيجَارَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا، ثُمَّ اسْتُرْجِعَتْ
مِنْ يَدِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَأَخْرَجَ مِنْهَا وَلَدَهُ، وَرَجَعَتِ
الْخُطْبَةُ لِأَبِي كَالِيجَارَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ ثَارَتِ الْأَتْرَاكُ بِالْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ ;
لِتَأَخُّرِ أَرْزَاقِهِمْ، وَأَخْرَجُوهُ مِنْ دَارِهِ، وَرَسَمُوا عَلَيْهِ فِي
مَسْجِدِهِ، وَأُخْرِجَتْ حَرِيمُهُ، فَذَهَبَ
فِي اللَّيْلِ إِلَى دَارِ الشَّرِيفِ
الْمُرْتَضَى فَنَزَلَ بِهَا، ثُمَّ اصْطَلَحَتِ الْأَتْرَاكُ عَلَيْهِ،
وَحَلَفُوا لَهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ،
وَكَثُرَتِ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَاسْتَطَالُوا عَلَى النَّاسِ لَيْلًا وَنَهَارًا
وَسِرًّا وَجِهَارًا، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ
هَذِهِ السَّنَةَ ; لِفَسَادِ الْبِلَادِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ
الْوَاعِظُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ جَعْفَرًا الْخُلْدِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ يَعِظُ
بِجَامِعِ الْمَنْصُورِ وَجَامِعِ الْمَهْدِيِّ، وَيَتَكَلَّمُ عَلَى طَرِيقَةِ
التَّصَوُّفِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِيهِ وَنَسَبَ إِلَيْهِ
الْكَذِبَ. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً،
وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا السُّلْطَانُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ بِلَادَ
الْهِنْدِ، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، فَكَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّهُ
حَاصَرَ قَلْعَةً حَصِينَةً، فَخَرَجَتْ مِنَ السُّورِ عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ
سَاحِرَةٌ، وَأَخَذَتْ مِكْنَسَةً فَبَلَّتْهَا وَرَشَّتْهَا عَلَى نَاحِيَةِ جَيْشِ
الْمُسْلِمِينَ، فَمَرِضَ السُّلْطَانُ مَسْعُودٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَرَضًا
شَدِيدًا، فَارْتَحَلَ عَنْ تِلْكَ الْقَلْعَةِ، فَلَمَّا اسْتَقَلَّ ذَاهِبًا
عَنْهَا عُوفِيَ عَافِيَةً كَامِلَةً، وَرَجَعَ إِلَى غَزْنَةَ سَالِمًا.
وَفِيهَا تَوَلَّى الْبَسَاسِيرِيُّ حِمَايَةَ الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ مِنْ
بَغْدَادَ لَمَّا تَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ، وَكَثُرَ سِرُّهُمْ
وَفَسَادُهُمْ.
وَفِيهَا وَلِيَ سِنَانُ بْنُ سَيْفِ الدَّوْلَةِ غَرِيبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
مَقْنٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَقَصَدَ عَمَّهُ قِرْوَاشًا، فَأَقَرَّهُ
وَسَاعَدَهُ عَلَى اسْتِقَامَةِ أُمُورِهِ.
وَفِيهَا هَلَكَ مَلِكُ الرُّومِ أَرْمَانُوسُ، فَمَلَكَهُمْ مِنْ بَعْدِهِ رَجُلٌ
لَيْسَ مِنْ بَيْتِ مُلْكِهِمْ، قَدْ كَانَ صَيْرَفِيًّا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ،
إِلَّا أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ الْمَلِكِ قُسْطَنْطِينَ
بَانِي الْمَدِينَةِ الَّتِي لَهُمْ.
وَفِيهَا كَثُرَتِ الزَّلَازِلُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ، فَهَدَمَتْ شَيْئًا
كَثِيرًا، وَمَاتَ تَحْتَ الرَّدْمِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَانْهَدَمَ مِنَ الرَّمْلَةِ
ثُلُثُهَا، وَتَقَطَّعَ جَامِعُهَا تَقْطِيعًا، وَخَرَجَ أَهْلُهَا مِنْهَا،
فَأَقَامُوا ظَاهِرَهَا ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ سَكَنَ الْحَالُ فَعَادُوا
إِلَيْهَا، وَسَقَطَ بَعْضُ حَائِطِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَوَقَعَ مِنْ مِحْرَابِ
دَاوُدَ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ، وَمِنْ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ قِطْعَةٌ، وَسَلَّمَتِ
الْحُجْرَةُ، وَسَقَطَتْ مَنَارَةُ عَسْقَلَانَ وَرَأْسُ مَنَارَةِ غَزَّةَ
وَسَقَطَ نِصْفُ بُنْيَانِ نَابُلُسَ وَخُسِفَ بِقَرْيَةٍ بِإِزَائِهَا
وَبِأَهْلِهَا وَبَقَرِهَا وَغَنَمِهَا، وَسَاخَتْ فِي الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ
قُرًى كَثِيرَةٌ هُنَالِكَ. ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
وَكَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلَادِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَعَصَفَتْ رِيحٌ سَوْدَاءُ
بِنَصِيبِينَ، فَأَلْقَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَشْجَارِ كَالتُّوتِ
وَالْجَوْزِ وَالْعُنَّابِ، وَاقْتَلَعَتْ قَصْرًا مُشَيَّدًا بِحِجَارَةٍ
وَآجُرٍّ وَكِلْسٍ، ثُمَّ سَقَطَ مَطَرٌ مَعَهُ بَرَدٌ أَمْثَالُ الْأَكُفِّ
وَالزُّنُودِ وَالْأَصَابِعِ، وَجَزَرَ الْبَحْرُ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ
ثَلَاثَةَ فَرَاسِخَ، فَذَهَبَ النَّاسُ خَلْفَ السَّمَكِ، فَرَجَعَ الْمَاءُ
عَلَيْهِمْ، فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْمَوْتُ بِالْخَوَانِيقِ، حَتَّى كَانَ يُغْلَقُ الْبَابُ عَلَى
مَنْ فِي الدَّارِ، كُلُّهُمْ قَدْ مَاتَ، وَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ بِبَغْدَادَ،
فَمَاتَ مِنْ أَهْلِهَا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ
سَبْعُونَ أَلْفًا.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ، حَتَّى بَيْنَ
الْعَيَّارِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، وَمَنَعَ ابْنَا الْأَصْبِهَانِيِّ - وَهُمَا
مُقَدَّمَا عَيَّارِي أَهْلِ السُّنَّةِ - أَهْلَ الْكَرْخِ مِنْ وُرُودِ مَاءِ
دِجْلَةَ، فَضَاقَ عَلَيْهِمُ النِّطَاقُ. وَقُتِلَ ابْنُ الْبُرْجُمِيِّ
وَأَخُوهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ غَالِبٍ الْحَافِظُ، أَبُو بَكْرٍ
الْمَعْرُوفُ بِالْبَرْقَانِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْبِلَادِ، وَجَمَعَ
كُتُبًا كَثِيرَةً جِدًّا، وَكَانَ عَالِمًا بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ
وَالْفِقْهِ وَالنَّحْوِ، وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ فِي الْحَدِيثِ حَسَنَةٌ نَافِعَةٌ.
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: إِذَا مَاتَ الْبَرْقَانِيُّ ذَهَبَ هَذَا الشَّأْنُ، وَمَا
رَأَيْتُ أَتْقَنَ مِنْهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَا رَأَيْتُ أَعْبَدَ مِنْهُ فِي
أَهْلِ الْحَدِيثِ. تُوُفِّيَ يَوْمَ الْخَمِيسِ مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ، وَصَلَّى
عَلَيْهِ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى الْهَاشِمِيُّ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ
الْجَامِعِ بِبَغْدَادَ، وَقَدْ أَوْرَدَ لَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ
شَعْرِهِ قَوْلَهُ:
أُعَلِّلُ نَفْسِي بِكَتْبِ الْحَدِيثِ وَأَحْمِلُ فِيهِ لَهَا الْمَوْعِدَا
وَأَشْغَلُ نَفْسِي بِتَصْنِيفِهِ
وَتَخْرِيجِهِ دَائِمًا سَرْمَدَا فَطَوْرًا أُصَنِّفُهُ فِي الشُّيُو
خِ وَطَوْرًا أُصَنِّفُهُ مُسْنَدَا وَأَقْفُو الْبُخَارِيَّ فِيمَا نَحَا
هُ وَصَنَّفَهُ جَاهِدًا مُجْهَدَا وَمُسْلِمَ إِذْ كَانَ زَيْنَ الْأَنَامِ
بِتَصْنِيفِهِ مُسْلِمًا مُرْشِدَا وَمَا لِيَ فِيهِ سِوَى أَنَّنِي
أَرَاهُ هَوًى صَادَفَ الْمَقْصِدَا وَأَرْجُو الثَّوَابَ بِكَتْبِ الصَّلَا
ةِ عَلَى السَّيِّدِ الْمُصْطَفَى أَحَمَدَا وَأَسْأَلُ رَبِّي إِلَهَ الْعِبَا
دِ جَرْيًا عَلَى مَا بِهِ عَوَّدَا
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ، أَبُو الْعَبَّاسِ
الْأَبِيوَرْدِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، مِنْ تَلَامِيذِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ، كَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ
لَلْفُتْيَا، وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي قَطِيعَةِ الرَّبِيعِ، وَوَلِيَ الْحُكْمَ
بِبَغْدَادَ نِيَابَةً عَنِ ابْنِ الْأَكْفَانِيِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ،
وَكَانَ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، جَمِيلَ الطَّرِيقَةِ، فَصِيحَ اللِّسَانِ،
صَبُورًا عَلَى الْفَقْرِ، كَاتِمًا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ الْجَيِّدَ،
وَكَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [
الْبَقَرَةِ: 273 ]. تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ
بَابِ حَرْبٍ.
أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ، الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى،
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ
أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ، وَتِلْمِيذُ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ أَيْضًا، وَلَمْ
يَكُنْ فِي أَصْحَابِهِ مِثْلُهُ،
دَرَّسَ وَأَفْتَى وَحَكَمَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ دَيِّنًا وَرِعًا. تُوُفِّيَ فِي
جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ، أَبُو
الْفَرَجِ التَّمِيمِيُّ
الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الْوَاعِظُ، سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ أَثَرًا مُسَلْسَلًا
عَنْ عَلِيٍّ: الْحَنَّانُ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ،
وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ. تُوُفِّيَ فِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَدُفِنَ فِي مَقْبَرَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
غَرِيبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَقْنٍ سَيْفُ الدَّوْلَةِ، أَبُو سِنَانٍ
كَانَ قَدْ ضَرَبَ السِّكَّةَ بِاسْمِهِ، وَكَانَ مَلِكًا مُتَمَكِّنًا فِي
الدَّوْلَةِ، وَخَلَّفَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَامَ ابْنُهُ سِنَانٌ
بَعْدَهُ، وَتَقَوَّى بِعَمِّهِ قِرْوَاشٍ، وَاسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ بِهِ،
تُوُفِّيَ بِكَرْخِ سَابُورَ عَنْ سَبْعِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ كَثُرَ تَرَدُّدُ الْأَعْرَابِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ إِلَى
حَوَاشِي بَغْدَادَ وَمَا حَوْلَهَا، بِحَيْثُ كَانُوا يَسْتَلِبُونَ مَا عَلَى
النِّسَاءِ، وَمَنْ أَسَرُوهُ أَخَذُوا مَا مَعَهُ وَطَالَبُوهُ بِفِدَاءِ
نَفْسِهِ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ بِبَغْدَادَ، وَكَثُرَتْ
شُرُورُهُمْ وَإِفْسَادُهُمْ.
وَفِي مُسْتَهَلِّ صَفَرٍ زَادَتْ دِجْلَةُ بِحَيْثُ ارْتَفَعَ الْمَاءُ عَلَى
الضَّيَاعِ ذِرَاعَيْنِ، وَسَقَطَ مِنَ الْبَصْرَةِ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ نَحْوٌ مَنْ أَلْفَيْ دَارٍ.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا وَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ بِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ فَتْحًا عَظِيمًا فِي الْهِنْدِ، وَقَتَلَ
مِنْهُمْ خَمْسِينَ أَلْفًا، وَأَسَرَ تِسْعِينَ أَلْفًا، وَغَنِمَ شَيْئًا
كَثِيرًا. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ أَهْلِ بَغْدَادَ وَالْعَيَّارِينَ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ
كَثِيرٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى
الرَّاقِعِ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ
فِي هَذَا الْعَامِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاعِرُ
أَحَدُ مَنْ هَلَكَ بِالْعِشْقِ، رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
الْمُنْتَظَمِ " بِسَنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْحُمَيْدِيِّ بِسَنَدِهِ: أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ كُلَيْبٍ هَذَا الْمِسْكِينَ
الْعَثَرِيَّ تَعَشَّقَ شَابًّا يُقَالُ لَهُ: أَسْلَمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ،
مِنْ بَنِي خَالِدٍ، وَكَانَ فِيهِمْ وِزَارَةٌ وَحِجَابَةٌ، فَأَنْشَدَ فِيهِ
أَشْعَارًا تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَا، وَكَانَ أَسْلَمُ هَذَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ
فِي مَجَالِسِ الْمَشَايِخِ، فَاسْتَحْيَا مِنَ النَّاسِ وَانْقَطَعَ فِي دَارِهِ،
فَلَا يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، فَازْدَادَ غَرَامُ ابْنِ كُلَيْبٍ بِهِ
حَتَّى مَرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا شَدِيدًا، عَادَهُ النَّاسُ مِنْهُ، وَكَانَ
فِي جُمْلَةِ مَنْ عَادَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَرَضِهِ
فَقَالَ: أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دَائِي وَدَوَائِي، لَوْ زَارَنِي أَسْلَمُ،
وَنَظَرَ إِلَيَّ نَظْرَةً، وَنَظَرْتُهُ نَظْرَةً وَاحِدَةً بَرِئْتُ، وَإِلَّا
فَأَنَا هَالِكٌ. فَرَأَى ذَلِكَ الشَّيْخُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ لَوْ دَخَلَ
عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يَزُورَهُ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً مُخْتَفِيًا، وَلَمْ
يَزَلْ بِهِ حَتَّى انْطَلَقَا إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَا دَرْبَهُ تَغَيَّرَ
الْغُلَامُ وَاسْتَحْيَا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ جِدًّا،
وَرَجَعَ، فَحَرَصَ بِهِ الرَّجُلُ
كُلَّ الْحِرْصِ لِيُدْخِلَهُ عَلَيْهِ، فَأَبَى وَانْصَرَفَ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ
عَلَى ابْنِ كُلَيْبٍ، فَذَكَرَ لَهُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ، وَقَدْ كَانَ
غُلَامُهُ دَخَلَ إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ بِقُدُومِ أَسْلَمَ عَلَيْهِ، فَفَرِحَ
جِدًّا، فَلَمَّا تَحَقَّقَ رُجُوعَهُ اخْتَلَطَ كَلَامُهُ وَاضْطَرَبَ فِي
نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: اسْمَعْ يَا أَبَا عَبْدَ اللَّهِ
مِنِّي وَاحْفَظْ عَنِّي. ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
أَسْلَمُ يَا رَاحَةَ الْعَلِيلِ رَفْقًا عَلَى الْهَائِمِ النَّحِيلِ وَصْلُكَ
أَشْهَى إِلَى فُؤَادِي
مِنْ رَحْمَةِ الْخَالِقِ الْجَلِيلِ
فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: اتَّقِ اللَّهَ، مَا هَذِهِ الْعَظِيمَةُ ؟! فَقَالَ:
قَدْ كَانَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ، فَمَا تَوَسَّطَ الدَّرْبَ حَتَّى
سَمِعَ الصُّرَاخَ عَلَيْهِ، وَقَدْ فَارَقَ الدُّنْيَا.
وَهَذِهِ زَلَّةٌ شَنْعَاءُ، وَعَظِيمَةٌ صَلْعَاءُ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيَاءُ،
وَلَوْلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةَ ذَكَرُوهَا مَا ذَكَرْتُهَا، وَلَكِنَّ
فِيهَا عِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَتَنْبِيهٌ لِذَوِي الْعُقُولِ أَنْ
يَسْأَلُوا اللَّهَ رَحْمَتَهُ وَلُطْفَهُ بِهِمْ أَنْ يُثَبِّتَهُمْ عَلَى
الْخَيْرِ وَالْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ الْمَمَاتِ، إِنَّهُ كَرِيمٌ
جَوَّادٌ.
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: وَأَنْشَدَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ،
قَالَ: أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ لِأَحْمَدَ
بْنِ كُلَيْبٍ، وَقَدْ أَهْدَى إِلَى أَسْلَمَ كِتَابَ
" الْفَصِيحِ " لِثَعْلَبَ:
هَذَا كِتَابُ الُفَصِيحِ بَكُلِّ لَفْظٍ مَلِيحِ
وَهَبْتُهُ لَكَ طَوْعًا كَمَا وَهَبْتُكَ رُوحِي
الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
شَاذَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ الْبَزَّازُ
أَحَدُ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ، سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا،
جَاءَهُ يَوْمًا شَابٌّ غَرِيبٌ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لِي: اذْهَبْ إِلَى
أَبِي عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ فَسَلْ عَلَيْهِ، وَأُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ.
ثُمَّ انْصَرَفَ الشَّابُّ، فَبَكَى الشَّيْخُ، وَقَالَ: مَا أَعْلَمُ لِي عَمَلًا
أَسْتَحِقُّ بِهِ هَذَا غَيْرَ صَبْرِي عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ، وَصَلَاتِي
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا ذُكِرَ. ثُمَّ
تُوُفِّيَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا، فِي
مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ
الدَّيْرِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَوْرَةَ، أَبُو
عُمَرَ الْوَاعِظُ، الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْفَلْوِ
سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ يَعِظُ،
وَلَهُ بَلَاغَةٌ، وَفِيهِ كَرَمٌ، وَكَانَ ثِقَةً يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ،
وَمِنْ شَعْرِهِ:
دَخَلْتُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي دَارِ عِزِّهِ بِفَقْرٍ وَلَمْ أُجْلِبْ بَخِيلٍ
وَلَا رَجْلِ
وَقُلْتُ انْظُرُوا مَا بَيْنَ فَقْرِي وَمُلْكِكُمْ بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ
الْوِلَايَةِ وَالْعَزْلِ
تُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، وَدُفِنَ بِمَقْبَرَةِ بَابِ
حَرْبٍ إِلَى جَانِبِ ابْنِ السَّمَّاكِ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي الْمُحَرَّمِ تَكَامَلَتْ عِمَارَةُ قَنْطَرَةِ عِيسَى الَّتِي كَانَتْ قَدْ
سَقَطَتْ، وَكَانَ الَّذِي يَلِي مُشَارَفَةَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا الشَّيْخُ
أَبُو الْحَسَنِ الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ.
وَفِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ تَفَاقَمَ أَمْرُ الْعَيَّارِينَ، وَكَبَسُوا الدُّورَ،
وَتَزَايَدَ شَرُّهُمْ وَعَمَلَاتُهُمْ.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ صَاحِبُ مِصْرَ الظَّاهِرُ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ أَبُو
الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحَاكِمِ بْنِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً وَأَشْهَرٌ،
وَكَانَتْ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ،
وَكَانَتْ سِيرَتُهُ جَيِّدَةً، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ وَلَدُهُ
الْمُسْتَنْصِرُ، وَعُمُرُهُ سَبْعُ سِنِينَ، وَاسْمُهُ مَعَدٌّ، وَكُنْيَتُهُ
أَبُو تَمِيمٍ، وَتَكَفَّلَ
بِأَعْبَاءِ الْمَمْلَكَةِ بَيْنَ
يَدَيْهِ الْأَفْضَلُ أَمِيرُ الْجُيُوشِ، وَاسْمُهُ بَدْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
الْجَمَالِيُّ، وَكَانَ الظَّاهِرُ الْمَذْكُورُ قَدِ اسْتَوْزَرَ الصَّاحِبَ
أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ أَحْمَدَ الْجَرْجَرَائِيَّ - وَكَانَ مَقْطُوعَ
الْيَدَيْنِ مِنَ الْمِرْفِقَيْنِ - فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَاسْتَمَرَّ
فِي الْوِزَارَةِ مُدَّةَ وِلَايَةِ الظَّاهِرِ، ثُمَّ لِوَلَدِهِ
الْمُسْتَنْصِرِ، حَتَّى تُوُفِّيَ الْوَزِيرُ الْجَرْجَرَائِيُّ الْمَذْكُورُ فِي
سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَكَانَ قَدْ سَلَكَ فِي وِزَارَتِهِ الْعِفَّةَ
الْعَظِيمَةَ، وَكَانَ الَّذِي يُعَلِّمُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْقُضَاعِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " الشِّهَابِ "، وَكَانَتْ عَلَامَتَهُ
عَنْهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ شُكْرًا لِنِعْمَتِهِ. وَكَانَ الَّذِي قَطَعَ يَدَيْهِ
مِنَ الْمِرْفِقَيْنِ الْحَاكِمُ ; لِخِيَانَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ فِي سَنَةِ
أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ سَنَةَ
تِسْعٍ، فَلَمَّا فُقِدَ الْحَاكِمُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - فِي السَّابِعِ
وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ، ثُمَّ تَمَلَّكَ مِنْ
بَعْدِهِ وَلَدُهُ الظَّاهِرُ الْمَذْكُورُ، تَنَقَّلَتْ بِالْجَرْجَرَائِيِّ
الْمَذْكُورِ الْأَحْوَالُ حَتَّى اسْتَوْزَرَ سَنَةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ كَمَا
ذَكَرْنَا.
وَقَدْ هَجَاهُ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ:
يَا أَحْمَقًا اسْمَعْ وَقُلْ وَدَعِ الرَّقَاعَةَ وَالتَّحَامُقْ أَأَقَمْتَ
نَفْسَكَ فِي الثِّقَا
تِ وَهَبْكَ فِيمَا قُلْتَ صَادِقْ فَمِنَ الْأَمَانَةِ وَالتُّقَى
قُطِعَتْ يَدَاكَ مِنَ الْمَرَافِقْ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعَالِبِيُّ
وَيُقَالُ: الثَّعْلَبِيُّ - وَهُوَ لَقَبٌ
أَيْضًا وَلَيْسَ بِنِسْبَةٍ - النَّيْسَابُورِيُّ الْمُفَسِّرُ الْمَشْهُورُ، لَهُ " التَّفْسِيرُ الْكَبِيرُ "، وَلَهُ كِتَابُ " الْعَرَائِسِ " فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْحَدِيثِ، وَاسِعَ السَّمَاعِ ; وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنَ الْغَرَائِبِ شَيْءٌ كَثِيرٌ. ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَارِسِيُّ فِي " تَارِيخِ نَيْسَابُورَ " وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: هُوَ صَحِيحُ النَّقْلِ مَوْثُوقٌ بِهِ. تُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تُوُفِّيَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا، وَرُئِيَتْ لَهُ مَنَامَاتٌ صَالِحَةٌ، وَقَالَ السَّمْعَانِيُّ: وَنَيْسَابُورُ كَانَتْ مَقْصَبَةً، فَأَمَرَ سَابُورُ الثَّانِي بِبِنَائِهَا مَدِينَةً، وَ " نَيْ " هُوَ الْقَصَبُ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى أَبِي تَمَامٍ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَلِيٍّ الزَّيْنَبِيِّ، وَقَلَّدَهُ مَا كَانَ إِلَى أَبِيهِ مِنْ نِقَابَةِ
الْعَبَّاسِيِّينَ وَالصَّلَاةِ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَ الْجُنْدِ وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ،
وَقَطَعُوا خُطْبَتَةُ وَخُطْبَةَ الْمَلِكِ أَبِي كَالِيجَارَ، ثُمَّ أَعَادُوا
الْخُطْبَةَ لَهُمَا وَصَلَحَتْ حَالُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَحَلَفَ الْخَلِيفَةُ
لَهُ وَعَزَلَ وَزِيرَهُ ابْنَ مَاكُولَا وَاسْتَوْزَرَ أَبَا الْمَعَالِي بْنَ
عَبْدِ الرَّحِيمِ. وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ قَدْ جَمَعَ خَلْقًا كَثِيرًا
مَعَهُ، مِنْهُمُ الْبَسَاسِيرِيُّ، وَدُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ،
وَقِرْوَاشُ بْنُ مُقَلَّدٍ الْعُقَيْلِيُّ، وَنَازَلَ بَغْدَادَ مِنْ جَانِبِهَا
الْغَرْبِيِّ حَتَّى أَخَذَهَا قَهْرَا، وَاصْطَلَحَ هُوَ وَأَبُو كَالِيجَارَ
عَلَى يَدَيْ أَقَضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيِّ، وَتَزَوَّجَ أَبُو مَنْصُورِ
بْنُ أَبِي كَالِيجَارَ بِابْنَةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ عَلَى صَدَاقِ خَمْسِينَ
أَلْفَ دِينَارٍ، وَاتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمَا، وَحَسُنَ حَالُ الدَّوْلَةِ.
وَفِيهَا نَزَلَ مَطَرٌ بِبِلَادِ فَمِ الصُّلْحِ وَمَعَهُ سَمَكٌ، وَزْنُ
السَّمَكَةِ رَطْلٌ وَرَطْلَانِ.
وَفِيهَا بَعَثَ صَاحِبُ مِصْرَ
بِمَالٍ لِيُنْفَقَ عَلَى نَهْرٍ بِالْكُوفَةِ إِنْ أَذِنَ الْخَلِيفَةُ
الْعَبَّاسِيُّ فِي ذَلِكَ، فَجَمَعَ الْقَائِمُ بِاللَّهِ الْفُقَهَاءَ،
وَسَأَلَهُمُ عَنْ هَذَا الْمَالِ، فَأَفْتَوْا بِأَنَّ هَذَا الْمَالَ فَيْءٌ
لِلْمُسْلِمِينَ، يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِمْ، فَأَذِنَ فِي صَرْفِهِ فِي
مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِيهَا ثَارَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَفَتَحُوا السِّجْنَ بِالْجَانِبِ
الشَّرْقِيِّ، وَأَخَذُوا مِنْهُ رِجَالًا، وَقَتَلُوا مِنْ رِجَالَةِ الشُّرَطِ
سَبْعَةَ عَشْرَ رَجُلًا، وَانْتَشَرَتِ الْفِتَنُ وَالشُّرُورُ فِي الْبَلَدِ
جِدًّا.
وَفِيهَا وَلِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سَلَامَةَ إِمَارَةَ
تِهَامَةَ بَعْدَ أَبِيهِ، وَفِيهَا وَلِيَ عُمَانَ الْقَاسِمُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَمٍ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ أَيْضًا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ; لِفَسَادِ الْبِلَادِ وَاخْتِلَافِ
الْكَلِمَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْقُدُورِيُّ الْحَنَفِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
جَعْفَرٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيُّ
قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْحَوْشَبِيِّ، وَلَمْ
يُحَدِّثْ إِلَّا بِشَيْءٍ يَسِيرٍ،
كَتَبْتُ عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا، وَكَانَ مِمَّنْ أَنْجَبَ فِي الْفِقْهِ ;
لِذَكَائِهِ، وَانْتَهَتْ إِلَيْهِ فِي الْعِرَاقِ رِيَاسَةُ أَصْحَابِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَارْتَفَعَ جَاهُهُ. وَكَانَ بَرَّزَ فِي الْقِرَاءَاتِ. تُوُفِّيَ
يَوْمَ الْأَحَدِ الْخَامِسِ مِنْ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ
وَسِتِّينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِدَارِهِ فِي دَرْبِ خَلَفٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ شِهَابِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو عَلِيٍّ
الْعُكْبَرِيُّ، الْفَقِيهُ الْحَنْبَلِيُّ الشَّاعِرُ
وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرِ
بْنِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا، كَمَا قَالَ الْبَرْقَانِيُّ،
وَكَانَ يَسْتَرْزِقُ مِنَ الْوِرَاقَةِ - وَهُوَ النَّسْخُ - يُقَالُ: إِنَّهُ
كَانَ يَكْتُبُ دِيوَانَ الْمُتَنَبِّي فِي ثَلَاثِ لَيَالٍ، فَيَبِيعُهُ
بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ أَخَذَ السُّلْطَانُ مِنْ تَرِكَتِهِ
أَلْفَ دِينَارٍ سِوَى الْأَمْلَاكِ، وَكَانَ قَدْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ فِي
نَفَقَةِ الْحَنَابِلَةِ، فَلَمْ يُصْرَفْ ذَلِكَ.
لُطْفُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى، أَبُو الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ
وَلِيَ الْقَضَاءَ
وَالْخَطَابَةَ بِدَرْزِيجَانَ،
وَكَانَ ذَا لِسَانٍ، وَقَدْ أَضَرَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَكَانَ يَرْوِي
حِكَايَاتٍ وَأَنَاشِيدَ مِنْ حَفْظِهِ، وَتُوُفِّيَ فِي صَفَرٍ مِنْهَا.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عِيسَى بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدِ
بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ، أَبُو عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ
الْقَاضِي، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَابِلَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، أَبُو
الْحَسَنِ الْأَهْوَازِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيِّ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ وَخَرَّجَ لَهُ أَبُو
الْحَسَنِ النُّعَيْمِيُّ أَجْزَاءَ مِنْ حَدِيثِهِ، فَسَمِعَ مِنْهُ
الْبَرْقَانِيُّ، إِلَّا أَنَّهُ بَانَ كَذِبُهُ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ
يُسَمِّيهِ جِرَابَ الْكَذِبِ. أَقَامَ بِبَغْدَادَ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى الْأَهْوَازِ، فَمَاتَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
مِهْيَارُ الدَّيْلَمِيُّ الشَّاعِرُ،
مِهْيَارُ بْنُ مَرْزَوَيْهِ، أَبُو الْحَسَنِ
الْكَاتِبُ الْفَارِسِيُّ، وَيُقَالُ لَهُ: الدَّيْلَمِيُّ. كَانَ مَجُوسِيًّا
فَأَسْلَمَ، إِلَّا أَنَّهُ سَلَكَ سَبِيلَ الرَّافِضَةِ، فَكَانَ يُنَظِّمُ
الشِّعْرَ الْقَوِيَّ الْفَحْلَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ مِنْ سَبِّ
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ
بُرْهَانَ: يَا مِهْيَارُ، انْتَقَلْتَ مِنْ زَاوِيَةٍ فِي النَّارِ إِلَى
زَاوِيَةٍ أُخْرَى ; كُنْتَ مَجُوسِيًّا، فَأَسْلَمْتَ، فَصِرْتَ تَسُبُّ
الصَّحَابَةَ. وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِدَرْبِ رَبَاحٍ مِنَ الْكَرْخٍ، وَلَهُ
دِيوَانُ شِعْرٍ كَبِيرٌ مَشْهُورٌ، فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
أَسْتَنْجِدُ الصَّبْرَ فِيكُمْ وَهْوَ مَغْلُوبُ وَأَسْأَلُ النَّوْمَ عَنْكُمْ
وَهْوَ مَسْلُوبُ وَأَبْتَغِي عِنْدَكُمْ قَلْبًا سَمَحْتُ بِهِ
وَكَيْفَ يُرْجِعُ شَيْءٌ وَهْوَ مَوْهُوبُ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ مَا مِقْدَارُ
وَصْلِكُمُ
حَتَّى هَجَرْتُمْ وَبَعْضُ الْهَجْرِ تَأْدِيبُ
وَلِمِهْيَارَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَجَارَتَنَا بِالْغَوْرِ وَالرَّكْبُ مُتَّهَمُ أَيَعْلَمُ خَالٍ كَيْفَ بَاتَ
الْمُتَيَّمُ
رَحَلْتُمْ وَعُمْرُ اللَّيْلِ فِينَا وَفِيكُمُ سَوَاءٌ وَلَكِنْ سَاهِرُونَ
وَنُوَّمُ
بِنَا أَنْتُمْ مِنْ ظَاعِنِينَ وَخَلَّفُوا قُلُوبًا أَبَتْ أَنْ تَعْرِفَ
الصَّبْرَ عَنْهُمُ
وَلَمَّا جَلَا التَّوْدِيعُ عَمَّا حَذِرْتُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا نَظْرَةٌ
تَتَغَنَّمُ
بَكَيْتُ عَلَى الْوَادِي فَحَرَّمْتُ مَاءَهُ وَكَيْفَ يَحِلُّ الْمَاءُ
أَكْثَرُهُ دَمُ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَمَّا
كَانَ شِعْرُهُ كُلُّهُ جَيِّدًا اقْتَصَرْتُ مِنْهُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ.
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، أَبُو الْحُسَيْنِ الْمَعْرُوفُ بِالْحَاجِبِ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ وَالتَّدَيُّنِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ،
فَمِنْهُ قَوْلُهُ:
يَا لَيْلَةً سَلَكَ الْزَمَا نُ بِطِيبِهَا فِي كُلِّ مَسْلَكْ
إِذْ أَرْتَعِي رَوْضَ الْمَسَرَّ ةِ مُدْرِكًا مَا لَيْسَ يُدْرَكْ
وَالْبَدْرُ قَدْ فَضَحَ الظَّلَا مَ فَسِتْرُهُ فِيهِ مُهَتَّكْ
وَكَأَنَّمَا زُهْرُ النُّجُو مِ بِلَمْعِهَا شُعَلٌ تُحَرَّكْ
وَالْغَيْمُ أَحْيَانًا يَلُو حُ كَأَنَّهُ ثَوْبٌ مُمَسَّكْ
وَكَأَنَّ تَجْعِيدَ الرِّيَا حِ لِدِجْلَةٍ ثَوْبٌ مُفَرَّكْ
وَكَأَنَّ نَشْرَ الْمِسْكِ يَنْ فَحُ فِي النَّسِيمِ إِذَا تَحَرَّكْ
وَكَأَنَّمَا الْمَنْثُورُ مُصْ فَرَّ الذُّرَا ذَهَبٌ مُشَبَّكْ
وَالنُّورُ يَبْسِمُ فِي الرِّيَا ضِ فَإِنْ نَظَرْتَ إِلَيْهِ سَرَّكْ
شَارَطْتُ نَفْسِي أَنْ أَقُو مَ بِحَقِّهَا وَالشَّرْطُ أَمْلَكْ
حَتَّى تَوَلَّى اللَّيْلُ مُنْ هَزِمًا وَجَاءَ الصُّبْحُ يَضْحَكْ
وَاهِ الْفَتَى لَوْ أَنَّهُ فِي ظِلِّ
طِيبِ الْعَيْشِ يُتْرَكْ
وَالدَّهْرُ يَحْسُبُ عُمْرَهُ فَإِذَا أَتَاهُ الشَّيْبُ فَذْلَكْ
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا، الطَّبِيبُ الْفَيْلَسُوفُ، الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ سِينَا
الشَّيْخُ الرَّئِيسُ، الَّذِي كَانَ نَادِرَةً فِي زَمَانِهِ، كَانَ أَبُوهُ مِنْ
أَهْلِ بَلْخَ وَانْتَقَلَ إِلَى بُخَارَى، وَاشْتَغَلَ بِهَا ابْنُ سِينَا
فَقَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَتْقَنَ عُلُومَهُ وَهُوَ ابْنُ عَشْرٍ، وَأَتْقَنَ
الْحِسَابَ وَالْجَبْرَ وَالْمُقَابَلَةَ وَ " إِقْلِيدِسَ " وَ "
الْمَجَسْطِيَّ "، ثُمَّ اشْتَغَلَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النَّاتِلِيِّ
الْحَكِيمِ، فَبَرَعَ فِيهِ، وَفَاقَ أَهْلَ زَمَانِهِ، وَتَرَدَّدَ النَّاسُ
إِلَيْهِ، وَاشْتَغَلُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ
عَالَجَ بَعْضَ الْمُلُوكِ السَّامَانِيَّةِ، وَهُوَ الْأَمِيرُ نُوحُ بْنُ
نَصْرٍ، فَأَعْطَاهُ جَائِزَةً سَنِيَّةً، وَحَكَّمَهُ فِي خِزَانَةِ كُتُبِهِ،
فَرَأَى فِيهَا مِنَ الْعَجَائِبِ، فَيُقَالُ: إِنَّهُ عَزَا بَعْضَ تِلْكَ
الْكُتُبِ إِلَى نَفْسِهِ. وَلَهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالطَّبِيعِيَّاتِ كُتُبٌ
كَثِيرَةٌ.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: لَهُ نَحْوٌ
مِنْ مِائَةِ مُصَنَّفٍ ; صِغَارٍ وَكِبَارٍ، مِنْهَا " الْقَانُونُ "
وَ " الشِّفَاءُ " وَ " النَّجَاةُ " وَ " الْإِشَارَاتُ
" وَ " سلَامَانُ وَإِبْسَالُ " وَ " حَيُّ بْنُ يَقْظَانَ
" وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ: وَكَانَ مِنْ فَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِ. ثُمَّ
أَوْرَدَ لَهُ مِنَ الْأَشْعَارِ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ الْمَحَلِّ الْأَرْفَعِ وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ
وَتَمَنُّعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ كُلِّ مُقْلَةِ عَارِفٍ وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ فَلَمْ
تَتَبَرْقَعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرْبَّمَا كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ
تَفُجُّعِ
وَهِيَ طَوِيلَةٌ. وَقَوْلُهُ أَيْضًا:
اجْعَلْ غِذَاءَكَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً وَاحْذَرْ طَعَامًا قَبْلَ هَضْمِ طَعَامِ
وَاحْفَظْ مَنِيَّكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهُ مَاءُ الْحَيَاةِ يُرَاقُ فِي
الْأَرْحَامِ
وَذَكَرَ أَنَّهُ مَاتَ بِالْقُولَنْجِ فِي هَمَذَانَ، وَقِيلَ: بِأَصْبَهَانَ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، عَنْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. قُلْتُ: وَقَدْ
لَخَّصَ الْغَزَّالِيُّ كَلَامَهُ فِي " مَقَاصِدِ الْفَلَاسِفَةِ "،
ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ فِي " تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ " فِي عِشْرِينَ
مَسْأَلَةً، كَفَّرَهُ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ مِنْهُنَّ ; وَهِيَ قَوْلُهُ
بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَعَدَمِ الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا
يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَبَدَّعَهُ فِي الْبَوَاقِي، وَيُقَالُ: إِنَّهُ تَابَ
عِنْدَ الْمَوْتِ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا بُدُوُّ مُلْكِ السَّلَاجِقَةِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى رُكْنُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَالِبٍ طُغْرُلْبَكُ مُحَمَّدُ
بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ عَلَى نَيْسَابُورَ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِ
مُلْكِهَا، وَبَعَثَ أَخَاهُ دَاوُدَ إِلَى سَائِرِ بِلَادِ خُرَاسَانَ،
فَمَلَكَهَا وَانْتَزَعَهَا مِنْ نُوَّابِ الْمَلِكِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ
بْنِ سُبُكْتِكِينَ.
وَفِيهَا قَتْلُ جَيْشِ الْمِصْرِيِّينَ لِصَاحِبِ حَلَبَ وَهُوَ شِبْلُ
الدَّوْلَةِ نَصْرُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى حَلَبَ
وَأَعْمَالِهَا.
وَفِيهَا سَأَلَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ الْخَلِيفَةَ أَنْ يُلَقَّبَ بِمُلْكِ
الدَّوْلَةِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَمَنُّعٍ.
وَفِيهَا اسْتَدْعَى الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ الْقُضَاةَ
وَالْفُقَهَاءَ، وَأَحْضَرَ جَاثَلِيقَ النَّصَارَى وَرَأَسَ جَالُوتِ الْيَهُودِ،
وَأُلْزِمُوا بِالْغِيَارِ.
وَفِي رَمَضَانَ لُقِّبَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ شَاهِنْشَاهِ الْأَعْظَمَ مَلِكَ
الْمُلُوكِ بِأَمْرِ الْخَلِيفَةِ، وَخُطِبَ بِذَلِكَ عَلَى الْمَنَابِرِ،
فَنَفَرَتِ الْعَامَّةُ مِنْ ذَلِكَ، وَرَمَوُا الْخُطَبَاءَ بِالْآجُرِّ،
وَوَقَعَتْ فِتْنَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَاسْتُفْتِيَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ،
فَأَفْتَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الصَّيْمَرِيُّ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَصْدُ وَالنِّيَّةُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا [ الْبَقَرَةِ: 247 ] وَقَالَ: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [ الْكَهْفِ: 79 ] وَإِذَا كَانَ فِي الْأَرْضِ مُلُوكٌ جَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ ; لِتَفَاضُلِهِمْ فِي الْقُوَّةِ وَالْإِمْكَانِ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ التَّكَبُّرَ وَلَا الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِينَ. وَكَتَبَ الْقَاضِيأَبُو الطِّيبِ الطَّبَرِيُّ: إِنَّ إِطْلَاقَ مَلِكِ الْمُلُوكِ جَائِزٌ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مَلِكَ مُلُوكِ الْأَرْضِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُقَالَ: كَافِي الْكُفَاةِ وَقَاضِي الْقُضَاةِ، جَازَ مَلِكُ الْمُلُوكِ. وَإِذَا كَانَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُلُوكُ الْأَرْضِ زَالَتِ الشُّبْهَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: اللَّهُمَّ أَصْلِحِ الْمَلِكَ، فَيُصْرَفُ الْكَلَامُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَكَتَبَ التَّمِيمِيُّ الْحَنْبَلِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ " الْحَاوِي الْكَبِيرِ " فَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَالشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي " أَدَبِ الْمُفْتِي " أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصَرَّ عَلَى الْمَنْعِ، مَعَ صُحْبَتِهِ لِلْمَلِكِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ، وَكَثْرَةِ تَرْدَادِهِ إِلَيْهِ، وَوَجَاهَتِهِ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الْحُضُورِ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى اسْتَدْعَاهُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، دَخَلَ وَهُوَ وَجِلٌ خَائِفٌ أَنْ يُوقِعَ بِهِ مَكْرُوهًا، فَلَمَّا وَاجَهَهُ قَالَ لَهُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا مَنَعَكَ مِنْ مُوَافَقَةِ الَّذِينَ جَوَّزُوا ذَلِكَ، مَعَ صُحْبَتِكَ إِيَّايَ وَوَجَاهَتِكَ عِنْدِي، دِينُكَ وَاتِّبَاعُكَ الْحَقَّ، وَلَوْ حَابَيْتَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَحَابَيْتَنِي، وَقَدْ زَادَكَ ذَلِكَ
عِنْدِي مَحَبَّةً وَمَكَانَةً.
قُلْتُ: وَالَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيُّ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ
ذَلِكَ هُوَ السُّنَّةُ الَّتِي وَرَدَتْ بِهَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ مِنْ
غَيْرِ وَجْهٍ ; قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مَسْنَدِهِ
": حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ
الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَخْنَعُ اسْمٍ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ. قَالَ أَحْمَدُ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرٍو
الشَّيْبَانِيَّ عَنْ " أَخْنَعِ اسْمٍ " قَالَ: أَوْضَعُ. وَقَدْ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: أَغْيَظُ
رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٌ تَسَمَّى بِمَلِكِ
الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْإِمَامُ
أَحْمَدُ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ خِلَاسٍ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ نَبِيُّهُ، وَاشْتَدَّ
غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ تَسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إِلَّا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الثَّعَالِبِيُّ صَاحِبُ " يَتِيمَةِ الدَّهْرِ " أَبُو مَنْصُورٍ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ الثَّعَالِبِيُّ
النَّيْسَابُورِيُّ
كَانَ إِمَامًا فِي اللُّغَةِ وَالْأَخْبَارِ وَأَيَّامِ النَّاسِ، بَارِعًا
مُفِيدًا، لَهُ التَّصَانِيفُ الْكِبَارُ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَالْبَلَاغَةِ
وَالْفَصَاحَةِ، وَأَكْبَرُ كُتُبِهِ " يَتِيمَةُ الدَّهْرِ فِي مَحَاسِنِ
أَهْلِ الْعَصْرِ "، وَفِيهَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ:
أَبْيَاتُ أَشْعَارِ الْيَتِيمَهْ أَبْكَارُ أَفْكَارٍ قَدِيمَهْ مَاتُوا
وَعَاشَتْ بَعْدَهُمْ
فَلِذَاكَ سُمِّيَتِ الْيَتِيمَهْ
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الثَّعَالِبِيَّ ; لِأَنَّهُ كَانَ فَرَّاءً يَخِيطُ جُلُودَ
الثَّعَالِبِ، وَلَهُ أَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ مَلِيحَةٌ. وُلِدَ سَنَةَ خَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَمَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْبَغْدَادِيُّ، الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ
أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَكَانَ مَاهِرًا فِي فُنُونٍ
كَثِيرَةٍ، مِنْهَا عِلْمُ الْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ، وَكَانَ ذَا مَالٍ
وَثَرْوَةٍ، أَنْفَقَهُ كُلُّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، وَصَنَّفَ فِي
الْعُلُومِ، وَدَرَّسَ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ عِلَمًا، وَكَانَ اشْتِغَالُهُ عَلَى
الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ نَاصِرٌ
الْمَرْوَزِيُّ وَغَيْرُهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
فِيهَا الْتَقَى الْمَلِكُ مَسْعُودُ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ
وَالْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ السَّلْجُوقِيُّ وَمَعَهُ أَخُوهُ دَاوُدُ فِي
شَعْبَانَ، فَهَزَمَهُمَا مَسْعُودٌ، وَقَتَلَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا خَلْقًا
كَثِيرًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَطَبَ شَبِيبُ بْنُ وَثَّابٍ لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ
اللَّهِ بِحَرَّانَ وَالرَّقَّةِ وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْمُسْتَنْصِرِ
الْعُبَيْدِيِّ.
وَفِيهَا خُوطِبَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ جَلَالِ الدَّوْلَةِ بِالْمَلِكِ
الْعَزِيزِ، وَهُوَ مُقِيمٌ بِوَاسِطٍ، وَهَذَا الْعَزِيزُ هُوَ الَّذِي كَانَ
آخِرُ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْ بَنِي بُوَيْهِ بِبَغْدَادَ، لَمَّا طَغَوْا وَبَغَوْا
وَتَمَرَّدُوا وَتَسَمَّوْا بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ، وَهُوَ اسْمٌ يُبْغِضُهُ
اللَّهُ، فَسَلَبَهُمُ اللَّهُ مَا كَانَ أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ
الْمُلْكَ إِلَى غَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمِ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [
الرَّعْدِ: 11 ].
وَفِيهَا خَلَعَ الْخَلِيفَةُ عَلَى قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَاكُولَا خِلْعَةَ تَشْرِيفٍ.
وَفِيهَا وَقَعَ ثَلْجٌ عَظِيمٌ
بِبَغْدَادَ مِقْدَارَ شِبْرٍ عَلَى الْأَسْطِحَةِ حَتَّى جَرَفَهُ النَّاسُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مَلَكَ بَنُو سَلْجُوقَ
بِلَادَ خُرَاسَانَ وَالْجَبَلَ، وَتَقَسَّمُوا الْأَطْرَافَ، وَهُوَ أَوَّلُ
مُلْكِ السَّلْجُوقِيَّةِ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ،
وَلَا مِنَ الشَّامِ وَمِصْرَ إِلَّا الْقَلِيلُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ، أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُوسَى بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو نُعَيْمٍ
الْأَصْبَهَانِيُّ
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ ذُو التَّصَانِيفِ الْمُفِيدَةِ الْكَثِيرَةِ الشَّهِيرَةِ،
مِنْ ذَلِكَ " حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ " فِي مُجَلَّدَاتٍ كَثِيرَةٍ،
دَلَّتْ عَلَى اتِّسَاعِ رِوَايَتِهِ، وَكَثْرَةِ مَشَايِخِهِ، وَقُوَّةِ
اطِّلَاعِهِ عَلَى مَخَارِجِ الْأَحَادِيثِ، وَتَشَعُّبِ طُرُقِهَا، وَلَهُ "
مُعْجَمُ الصَّحَابَةِ " وَهُوَ عِنْدِي بِخَطِّهِ، وَلَهُ " صِفَةُ
الْجَنَّةِ " وَ " دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ "، وَكِتَابٌ فِي
الطِّبِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفِيدَةِ.
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: كَانَ أَبُو
نُعَيْمٍ يَخْلِطُ الْمَسْمُوعَ لَهُ بِالْمَجَازِ، وَلَا يُوَضِّحُ أَحَدَهُمَا
مِنَ الْآخَرِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ
النَّخْشَبِيُّ: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو نُعَيْمٍ " مُسْنَدَ الْحَارِثِ بْنِ
أَبِي أُسَامَةَ " مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ خَلَّادٍ بِتَمَامِهِ، فَحَدَّثَ
بِهِ كُلِّهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: سَمِعَ الْكَثِيرَ،
وَصَنَّفَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ يَمِيلُ إِلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ مَيْلًا
كَثِيرًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنَ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا،
عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ وُلِدَ فِيمَا
ذَكَرَهُ الْقَاضِي بْنُ خَلِّكَانَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، قَالَ: وَلَهُ " تَارِيخُ أَصْبَهَانَ ". وَذَكَرَ
أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ وَالِدِهِ أَنَّ مِهْرَانَ أَسْلَمَ، وَأَنَّ
وَلَاءَهُمْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ. وَذَكَرَ أَنَّ مَعْنَى أَصْبَهَانَ - وَأَصْلُهُ
بِالْفَارِسِيَّةِ سَبَاهَانُ - أَيْ مَجْمَعُ الْعَسَاكِرِ، وَأَنَّ إِسْكَنْدَرَ
بَنَاهَا، قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ.
الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَبُو عَلِيٍّ الرُّخَّجِيُّ
وَزَرَ لِشَرَفِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ سَنَتَيْنِ
ثُمَّ عُزِلَ، وَكَانَ عَظِيمَ الْجَاهِ فِي زَمَانِ عُطْلَتِهِ، وَهُوَ الَّذِي
بَنَى الْمَارَسْتَانَ بِوَاسِطٍ، وَرَتَّبَ فِيهِ الْأَشْرِبَةَ وَالْأَطِبَّاءَ
وَالْأَدْوِيَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَوَقَفَ عَلَيْهِ
كِفَايَتَهُ، جَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ
وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ حَفْصٍ، أَبُو الْفُتُوحِ الْعَلَوِيُّ، أَمِيرُ مَكَّةَ.
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمُؤَدَّبُ
وَهُوَ أَخُو أَبِي مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ، سَمِعَ " صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ
" مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكُشْمَيْهَنِيِّ، وَسَمِعَ غَيْرَهُ.
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
بِشْرَانَ بْنِ مِهْرَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ
سَمِعَ النَّجَّادَ وَدَعْلَجَ بْنَ أَحْمَدَ وَالْآجُرِّيَّ وَغَيْرَهُمْ،
وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا، وَكَانَ يَشْهَدُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، فَتَرَكَ ذَلِكَ
رَغْبَةً عَنْهُ، وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ
جَاوَزَ التِّسْعِينَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ فِي جَامِعِ الرُّصَافَةَ، وَكَانَ
الْجَمْعُ حَافِلًا، وَدُفِنَ إِلَى جَانِبِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، وَكَانَ
أَوْصَى بِذَلِكَ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ خَلَفِ بْنِ الْفَرَّاءِ، أَبُو خَازِمٍ
أَخُو الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، الْحَنْبَلِيُّ، سَمِعَ الدَّارَقُطْنِيَّ وَابْنَ
شَاهِينَ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَأَيْتُ لَهُ أُصُولًا
سَمَاعُهُ فِيهَا، ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ خَلَطَ فِي الْحَدِيثِ بِمِصْرَ،
وَاشْتَرَى مِنَ الْوَرَّاقِينَ صُحُفًا فَرَوَى مِنْهَا، وَكَانَ يَذْهَبُ إِلَى
الِاعْتِزَالِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِتِنِّيسَ مِنْ بِلَادِ مِصْرَ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَبُو
بَكْرٍ الدِّينَوَرِيُّ
الزَّاهِدُ، كَانَ خَشِنَ الْعَيْشِ، وَكَانَ ابْنُ الْقَزْوِينِيِّ يُثْنِي
عَلَيْهِ، وَكَانَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ صَاحِبُ بَغْدَادَ يَزُورُهُ، وَقَدْ
سَأَلَهُ مَرَّةً أَنْ يُطْلِقَ لِلنَّاسِ مَكْسَ الْمِلْحِ، وَكَانَ فِي
السَّنَةِ أَلْفَيْ دِينَارٍ، فَتَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ
اجْتَمَعَ أَهْلُ الْبَلَدِ لِجِنَازَتِهِ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّاتٍ، وَدُفِنَ
بِبَابِ حَرْبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الْفَضْلُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَبُو الرِّضَا، وَيُعْرَفُ بِابْنِ الظَّرِيفِ
وَكَانَ شَاعِرًا ظَرِيفًا، وَمِنْ شِعْرِهِ الْفَائِقِ وَنَظْمِهِ الرَّائِقِ
قَوْلُهُ:
يَا قَالَةَ الشِّعْرِ قَدْ نَصَحْتُ لَكُمْ وَلَسْتُ أُدْهَى إِلَّا مِنَ
النُّصْحِ قَدْ ذَهَبَ الدَّهْرُ بِالْكِرَامِ وَفِي
ذَاكَ أُمُورٌ طَوِيلَةُ الشَّرْحِ وَتَطْلُبُونَ النَّوَالَ مِنْ رَجُلٍ
قَدْ طُبِعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الشُّحِّ وَأَنْتُمُ تَمْدَحُونَ بِالْحُسْنِ وَال
ظَّرْفِ وُجُوهًا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ مِنْ أَجْلِ ذَا تُحْرَمُونَ رِزْقَكُمْ
لِأَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ فِي الْمَدْحِ صُونُوا الْقَوَافِيَ فَمَا أَرَى أَحَدًا
يَغْتَرُّ فِيهِ الرَّجَاءُ بِالنُّجْحِ فَإِنْ شَكَكْتُمْ فِيمَا أَقُولُ لَكُمْ
فَكَذِّبُونِي بِوَاحِدٍ سَمْحِ
هِبَةُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ مَاكُولَا
وَزَرَ لِجَلَالِ الدَّوْلَةِ مِرَارًا، وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ، عَارِفًا
بِالشِّعْرِ وَالْأَخْبَارِ، خُنِقَ بِهِيتَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ، عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عِيسَى
الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ، أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ عَلِمَ الْخِلَافَ، وَأَبْرَزَهُ
إِلَى الْوُجُودِ. قَالَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ قَالَ: وَكَانَ يُضْرَبُ بِهِ
الْمِثْلُ، وَالدَّبُّوسِيُّ: نِسْبَةٌ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ بُخَارَى.
قَالَ: وَلَهُ كِتَابُ " الْأَسْرَارِ " وَ " تَقْوِيمِ
الْأَدِلَّةِ ". وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَانِيفِ وَالتَّعَالِيقِ. قَالَ:
وَرُوِيَ أَنَّهُ نَاظَرَ الْفُقَهَاءَ، فَبَقِيَ بَعْضُهُمْ كُلَّمَا أَلْزَمَهُ
أَبُو زَيْدٍ إِلْزَامًا تَبَسَّمَ أَوْ ضَحِكَ، فَأَنْشَدَ أَبُو زَيْدٍ:
مَا لِي إِذَا أَلْزَمْتُهُ حُجَّةً قَابَلَنِي بِالضِّحْكِ وَالْقَهْقَهَهْ
إِنْ كَانَ ضِحْكُ الْمَرْءِ مِنْ فِقْهِهِ فَالدُّبُّ فِي الصَّحَرَاءِ مَا
أَفْقَهَهْ
الْحَوْفِيُّ صَاحِبُ " إِعْرَابِ الْقُرْآنِ "، أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يُوسُفَ الْحَوْفِيُّ النَّحْوِيُّ
لَهُ كِتَابٌ فِي النَّحْوِ كَبِيرٌ وَ " إِعْرَابُ الْقُرْآنِ " فِي
عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، وَلَهُ " تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ " أَيْضًا، وَكَانَ
إِمَامًا فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالنَّحْوِ وَالْأَدَبِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ
كَثِيرَةٌ انْتَفَعَ النَّاسُ بِهَا، قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَالْحَوْفِيُّ:
نِسْبَةٌ إِلَى نَاحِيَةٍ بِمِصْرَ، يُقَالُ لَهَا: الشَّرْقِيَّةُ، وَقَصَبَتُهَا
مَدِينَةُ بُلْبَيْسَ فَجَمِيعُ رِيفِهَا يُسَمَّوْنَ الْحَوْفَ، وَاحِدُهُمْ
حَوْفِيٌّ، وَهُوَ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: شَبْرَا اللَّنْجَةِ مِنْ
أَعْمَالِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا
بِمَنِّهِ وَرَحْمَتِهِ، آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ حَمَلَتِ الْجِسْرَ وَمَنْ
عَلَيْهِ، فَأَلْقَتْهُمْ بِأَسْفَلِ الْبَلَدِ وَسَلِمُوا.
وَفِيهَا وَقَعَ بَيْنَ الْجُنْدِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ جَلَالَ الدَّوْلَةِ شَغَبٌ،
وَقُتِلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَجَرَتْ شُرُورٌ طَوِيلَةٌ
وَفَسَادٌ عَرِيضٌ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ عَلَى الرَّاقِعِ، وَنَهَبَتِ
الْأَتْرَاكُ دُورَ النَّاسِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَلِكِ عِنْدَهُمْ حُرْمَةٌ وَلَا
كَلِمَةٌ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جِدًّا.
وَفِيهَا بَعَثَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ وَزِيرَهُ الْعَادِلَ بْنَ
مَافَنَّةَ إِلَى الْبَصْرَةِ فَمَلَكَّهَا لَهُ. وَفِيهَا زَارَ الْمَلِكُ أَبُو
طَاهِرٍ مَشْهَدَ عَلِيٍّ وَمَشْهَدَ الْحُسَيْنِ، وَمَشَى حَافِيًا فِي بَعْضِ
تِلْكَ الزِّيَارَاتِ، وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الضَّرِيرُ الْحِيرِيُّ،
مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ كَانَ مِنْ
أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ الْأَذْكِيَاءِ، وَالثِّقَاتِ الْأُمَنَاءِ، قَدِمَ
بَغْدَادَ حَاجًّا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، فَقَرَأَ
عَلَيْهِ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ جَمِيعَ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ "
فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ
الْكُشْمَيْهَنِيِّ، عَنِ الْفِرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
بُشْرَى الْفَاتِنِيُّ
وَهُوَ بُشْرَى بْنُ مَسِيسَ، مِنْ سَبْيِ الرُّومِ، أَهْدَاهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ
بَنِي حَمْدَانَ لِفَاتِنَ غُلَامِ الْمُطِيعِ، فَأَدَّبَهُ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَرَوَى عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: كَانَ
صَدُوقًا صَالِحًا دَيِّنًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مَرْوَانَ، أَبُو
الْعَلَاءِ الْوَاسِطِيُّ
وَأَصْلُهُ مِنْ فَمِ الصُّلْحِ سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ الْقِرَاءَاتِ
وَرَوَاهَا، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي رِوَايَتِهِ فِي الْقِرَاءَاتِ وَالْحَدِيثِ،
فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا عَظُمَ شَأْنُ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَارْتَفَعَ شَأْنُ مَلِكِهِمْ
طُغْرُلْبَكَ مُحَمَّدٍ وَأَخِيهِ جَغْرِيبَكَ دَاوُدَ، وَهُمَا ابْنَا
مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ دُقَاقَ، وَقَدْ كَانَ جَدُّهُمْ دُقَاقُ هَذَا
مِنْ مَشَايِخِ التُّرْكِ الْقُدَمَاءِ الَّذِينَ لَهُمُ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ
وَالْمَكَانَةُ عِنْدَ مَلِكِهِمُ الْأَعْظَمِ، وَنَشَأَ وَلَدُهُ سَلْجُوقُ
نَجِيبًا شَهْمًا، فَقَدَّمَهُ الْمَلِكُ وَلَقَّبَهُ سُبَاشَى، فَأَطَاعَتْهُ
الْجُيُوشُ، وَانْقَادَتْ لَهُ النَّاسُ بِحَيْثُ تَخَوَّفَ مِنْهُ الْمَلِكُ،
وَأَرَادَ قَتْلَهُ، فَهَرَبَ مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَسْلَمَ
فَازْدَادَ عِزًّا وَعُلُوًّا، ثُمَّ تُوُفِّيَ عَنْ مِائَةٍ وَسَبْعِ سِنِينَ،
وَخَلَّفَ أَرْسَلَانَ وَمِيكَائِيلَ وَمُوسَى، فَأَمَّا مِيكَائِيلُ فَإِنَّهُ
اعْتَنَى بِقِتَالِ الْكُفَّارِ مِنَ الْأَتْرَاكِ، حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا،
وَخَلَّفَ وَلَدَيْهِ طُغْرُلْبَكَ مُحَمَّدًا، وَجَغْرِيبَكَ دَاوُدَ، فَعَظُمَ
شَأْنُهُمَا فِي بَنِي عَمِّهِمَا، وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا التُّرْكُ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ تُرْكُ الْإِيمَانِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمُ الْيَوْمَ:
تَرْكُمَانُ. وَهُمُ السَّلَاجِقَةُ بَنُو سَلْجُوقَ جَدِّهِمْ هَذَا، فَفَتَحُوا
بِلَادَ خُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا بَعْدَ مَوْتِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ، فَقَدْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنْهُمُ الْمَلِكُ مَحْمُودٌ بَعْضَ التَّخَوُّفِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ وَقَامَ وَلَدُهُ مَسْعُودٌ مِنْ بَعْدِهِ قَاتَلَهُمْ وَقَاتَلُوهُ مِرَارًا، فَيَهْزِمُونَهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاقِفِ، وَاسْتُكْمِلَ لَهُمْ مُلْكُ خُرَاسَانَ بِأَسَرِهَا، ثُمَّ قَصَدَهُمْ مَسْعُودٌ فِي جُنُودٍ يَضِيقُ بِهِمُ الْفَضَاءُ فَكَسَرُوهُ فِيهَا، وَكَبَسَهُ مَرَّةً دَاوُدُ، فَانْهَزَمَ مِنْهُ مَسْعُودٌ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَى حَوَاصِلِهِ وَخِيَامِهِ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وَفَرَّقَ الْغَنَائِمَ، وَمَكَثَ جَيْشُهُ عَلَى خُيُولِهِمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لَا يَنْزِلُونَ عَنْهَا ; خَوْفًا مِنْ دُهْمَةِ الْعَدُوِّ، وَبِمِثْلِ هَذَا الِاحْتِرَاسِ تَمَّ لَهُمْ مَا رَامُوهُ، وَكَمَلَ جَمِيعُ مَا أَمَّلُوهُ، ثُمَّ كَانَ مِنْ سَعَادَتِهِمْ أَنَّ الْمَلِكَ مَسْعُودًا تَوَجَّهَ نَحْوَ بِلَادِ الْهِنْدِ لِيُشَتِّيَ بِهَا، وَتَرَكَ مَعَ وَلَدِهِ مَوْدُودٍ جَيْشًا كَثِيفًا بِسَبَبِ قِتَالِ السَّلَاجِقَةِ، فَلَمَّا عَبَرَ الْجِسْرَ الَّذِي عَلَى سَيَحْوُنَ نَهَبَتْ جُنُودُهُ حَوَاصِلَهُ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، وَخَلَعُوا مَسْعُودًا، فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ مَسْعُودٌ، فَقَاتَلَهُمْ، فَهَزَمُوهُ وَأَسَرُوهُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّكَ عَلَى سُوءِ صَنِيعِكَ إِلَيَّ، وَلَكِنِ اخْتَرْ لِنَفْسِكَ أَيَّ بَلَدٍ تَكُونُ فِيهِ أَنْتَ وَعِيَالُكَ. فَاخْتَارَ قَلْعَةً كُبْرَى فَكَانَ بِهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ مُحَمَّدًا جَعَلَ لِوَلَدِهِ أَحْمَدَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، وَبَايَعَ الْجَيْشُ لَهُ، وَقَدْ كَانَ فِي أَحْمَدَ هَوَجٌ وَقِلَّةُ عَقْلٍ، فَاتَّفَقَ هُوَ وَعَمُّهُمْ يُوسُفُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ عَلَى قَتْلِ مَسْعُودٍ لِيَصْفُوَ لَهُمُ الْأَمْرُ، وَيَتِمَّ لَهُمُ الْمُلْكُ، فَسَارَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْ أَبِيهِ فَقَتَلَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَبُوهُ غَاظَهُ ذَلِكَ وَعَتَبَ عَلَى ابْنِهِ عَتْبًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ إِلَى ابْنِ أَخِيهِ يَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، وَيُقْسِمُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ حَتَّى كَانَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: رَزَقَ اللَّهُ وَلَدَكَ الْمَعْتُوهَ عَقْلًا يَعِيشُ بِهِ، فَقَدِ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا، وَأَقْدَمَ عَلَى إِرَاقَةِ دَمِ مَلِكٍ مِثْلِ وَالِدِي، لَقَّبَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِسَيِّدِ الْمُلُوكِ وَالسَّلَاطِينِ، وَسَتَعْلَمُونَ أَيَّ حَتْفٍ تَوَرَّطْتُمْ وَأَيَّ شَرِّ تَأَبَّطْتُمْ: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبِ يَنْقَلِبُونَ
[ الشُّعَرَاءِ: 227 ]. ثُمَّ سَارَ
إِلَيْهِمْ فِي جُنُودٍ عَظِيمَةٍ، فَقَاتَلَهُمْ، فَقَهَرَهُمْ وَأَسَرَهُمْ،
فَقَتَلَ عَمَّهُ مُحَمَّدًا وَابْنَهُ أَحْمَدَ وَبَنِي عَمِّهِ كُلَّهُمْ،
إِلَّا عَبْدَ الرَّحِيمِ وَخَلْقًا مِنْ رُءُوسِ أُمَرَائِهِمْ، وَابْتَنَى
قَرْيَةً هُنَالِكَ وَسَمَّاهَا فَتْحَا بَادَا، ثُمَّ سَارَ إِلَى غَزْنَةَ
فَدَخَلَهَا فِي شَعْبَانَ، فَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَسَلَكَ سِيرَةَ جَدِّهِ
مَحْمُودٍ، فَأَطَاعَهُ النَّاسُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْأَطْرَافِ
بِالِانْقِيَادِ وَالِاتِّبَاعِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَهُ بِيَدِهِ،
وَكَانَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ سَعَادَةِ السَّلَاجِقَةِ.
وَفِيهَا خَالَفَ أَوْلَادُ حَمَّادٍ عَلَى الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ صَاحِبِ
إِفْرِيقِيَّةَ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ فَحَاصَرَهُمْ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ،
وَوَقَعَ بِإِفْرِيقِيَّةَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ غَلَاءٌ شَدِيدٌ بِسَبَبِ
تَأَخُّرِ الْأَمْطَارِ عَنْهُمْ.
وَوَقَعَ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ مِنْ
أَهْلِ الْكَرْخِ وَأَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ فَقُتِلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ. وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ وَضَوَاحِيهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ، أَبُو يَعْلَى
الْبَصْرِيُّ الصُّوفِيُّ
أَذْهَبَ عُمُرَهُ فِي الْأَسْفَارِ وَالتَّغْرِيبِ، وَقَدِمَ بَغْدَادَ فِي
سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فَحَدَّثَ بِهَا عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي
الْحَدِيدِ الدِّمَشْقِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ جُمَيْعٍ الْغَسَّانِيِّ،
وَكَانَ ثِقَةً صَدُوقًا أَدِيبًا حَسَنَ الشِّعْرِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ طُغْرُلْبَكُ جُرْجَانَ وَطَبَرِسْتَانَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى
نَيْسَابُورَ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا.
وَفِيهَا وَلِيَ ظَهِيرُ الدَّوْلَةِ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ
أَبِي جَعْفَرِ بْنِ كَاكَوَيْهِ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، فَوَقَعَ الْخُلْفُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَيْهِ ; أَبِي كَالِيجَارَ وَكُرْشَاسِفَ.
وَفِيهَا دَخَلَ أَبُو كَالِيجَارَ هَمَذَانَ وَدَفَعَ الْغُزَّ عَنْهَا.
وَفِيهَا شَغَبَتِ الْأَتْرَاكُ بِبَغْدَادَ بِسَبَبِ تَأَخُّرِ الْعَطَاءِ
عَنْهُمْ. وَسَقَطَتْ قَنْطَرَةُ بَنِي زُرَيْقٍ عَلَى نَهْرِ عِيسَى، وَكَذَا
الْقَنْطَرَةُ الْعَتِيقَةُ الَّتِي تُقَارِبُهَا.
وَفِيهَا دَخَلَ بَغْدَادَ رَجُلٌ مِنَ الْبَلْغَرِ يُرِيدُ الْحَجَّ، وَذَكَرَ
أَنَّهُ مِنْ كِبَارِهِمْ، فَأُنْزِلَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ
الْأَرْزَاقُ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ مُوَلَّدُونَ مِنَ التُّرْكِ وَالصَّقَالِبَةِ، وَأَنَّهُمْ
فِي أَقْصَى بِلَادِ التُّرْكِ، وَأَنَّ النَّهَارَ يَقْصُرُ عِنْدَهُمْ حَتَّى
يَكُونَ سِتَّ سَاعَاتٍ،
وَكَذَا اللَّيْلُ، وَعِنْدَهُمْ
عُيُونٌ وَزُرُوعٌ وَثِمَارٌ عَلَى الْمَطَرِ وَالسَّقْيِ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ
قُرِئَ الِاعْتِقَادُ الْقَادِرِيُّ الَّذِي كَانَ جَمَعَهُ الْخَلِيفَةُ
الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُخِذَتْ خُطُوطُ الْعُلَمَاءِ
وَالزُّهَّادِ بِأَنَّهُ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ خَالَفَهُ فَقَدْ
فَسَقَ وَكَفَرَ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ كَتَبَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْقَزْوِينِيُّ، ثُمَّ كَتَبَ بَعْدَهُ الْعُلَمَاءُ، وَقَدْ
سَرَدَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ
" بِتَمَامِهِ، وَفِيهِ جُمْلَةٌ جَيِّدَةٌ مِنِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَهْرَامُ بْنُ مَافَنَّةَ، أَبُو مَنْصُورٍ الْوَزِيرُ لِأَبِي كَالِيجَارَ
كَانَ عَفِيفًا نَزِهَا صِيِّنَا، عَادِلًا فِي سِيرَتِهِ، وَقَدْ وَقَفَ
خِزَانَةَ كُتُبٍ فِي مَدِينَةِ فِيرُوزَابَاذَ، تَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ آلَافِ
مُجَلَّدٍ، مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافِ وَرَقَةٍ بِخَطِّ أَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي
عَبْدِ اللَّهِ ابْنَىْ مُقْلَةَ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ
الْمَعْرُوفُ بِالْجَهْرَمِيِّ، قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: هُوَ أَحَدُ
الشُّعَرَاءِ الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ وَسَمِعْنَا مِنْهُمْ، وَكَانَ يُجِيدُ
الْقَوْلَ وَمِنْ شِعْرِهِ:
يَا وَيْحَ قَلْبِي مِنْ تَقَلُّبِهِ
أَبَدًا يَحِنُّ إِلَى مُعَذِّبِهِ قَالُوا كَتَمْتَ هَوَاهُ عَنْ جَلَدٍ
لَوْ أَنَّ لِي جَلَدًا لَبُحْتُ بِهِ بِأَبِي حَبِيبٍ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ
عَنِّي وَيُكْثِرُ مِنْ تَعَتُّبِهِ حَسْبِي رِضَاهُ مِنَ الْحَيَاةِ وَيَا
قَلَقِي وَمَوْتِي مِنْ تَغَضُّبِهِ
مَسْعُودٌ الْمَلِكُ بْنُ الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ الْمَلِكِ سُبُكْتِكِينَ
صَاحِبُ بِلَادِ غَزْنَةَ وَابْنُ صَاحِبِهَا، قَتَلَهُ ابْنُ عَمِّهِ أَحْمَدَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، فَانْتَقَمَ لَهُ ابْنُهُ مَوْدُودُ بْنُ
مَسْعُودٍ، فَقَتَلَ عَمَّهُ وَابْنَ عَمِّهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ مِنْ أَجْلِ
أَبِيهِ، وَاسْتَتَبَّ لَهُ الْأَمْرُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُنَازِعٍ مِنْ
قَوْمِهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
بِنْتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِيِّ لِلَّهِ
تَأَخَّرَتْ مُدَّتُهَا حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهَا فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَتِسْعِينَ سَنَةً بِالْحَرِيمِ الطَّاهِرِيِّ،
وَدُفِنَتْ بِالرُّصَافَةِ، رَحِمَهَا اللَّهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ،
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا أَمَرَ الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرٍ بِجِبَايَةِ أَمْوَالِ
الْجَوَالَى، وَمَنَعَ أَصْحَابَ الْخَلِيفَةِ مِنْ قَبْضِهَا، فَانْزَعَجَ
الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَعَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ وَأَرْسَلَ
لِلْفُقَهَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْأَعْيَانِ فِي التَّأَهُّبِ لِلْخُرُوجِ
صُحْبَتَهُ، وَارْتَجَّتْ بَغْدَادُ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِمَدِينَةِ تِبْرِيزَ هَدَمَتْ
قَلْعَتَهَا وَسُورَهَا وَأَسْوَاقَهَا وَدُورَهَا، حَتَّى مِنْ دَارِ
الْإِمَارَةِ عَامَّةَ قُصُورِهَا، وَمَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ خَمْسُونَ أَلْفًا،
وَلَبِسَ أَهْلُهَا الْمُسُوحَ لِشِدَّةِ مُصَابِهِمْ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ عَلَى أَكْثَرِ الْبِلَادِ
الشَّرْقِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَدِينَةُ خُوَارِزْمَ وَدِهِسْتَانُ وَطَبَسُ
وَالرَّيُّ وَبِلَادُ الْجَبَلِ وَكَرْمَانُ وَأَعْمَالُهَا وَقَزْوِينُ. وَخُطِبَ
لَهُ فِي تِلْكَ النَّوَاحِي كُلِّهَا، وَعَظُمَ شَأْنُهُ جِدًّا، وَاتَّسَعَ صِيتُهُ.
وَفِيهَا مَلَكَ سَمَّاكُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ حَلَبَ أَخَذَهَا مِنَ
الْفَاطِمِيِّينَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الْمِصْرِيُّونَ مَنْ حَارَبَهُ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ وَلَا فِيمَا قَبْلَهَا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ عَبَدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ
الْفَقِيهُ الْمَالِكِيُّ
سَمِعَ الْكَثِيرَ، وَرَحَلَ إِلَى الْأَقَالِيمِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ
تَزَوَّجَ فِي الْعَرَبِ، وَأَقَامَ بِالسَّرَوَاتِ، وَكَانَ يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ،
وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، وَيَسْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ،
وَأَخَذَ عَنْهُ الْمَغَارِبَةُ مَذْهَبَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ
الْأَشْعَرِيِّ عَنِ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيِّ، وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّهُ
أَخَذَ مَذْهَبَ مَالِكٍ عَنِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَقَدْ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا
ضَابِطًا، تُوُفِّيَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو الْفَتْحِ
الشَّيْبَانِيُّ الْعَطَّارُ
وَيُعْرَفُ بِقُطَيْطٍ، سَافَرَ الْكَثِيرَ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ،
وَسَمِعَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ شَيْخًا ظَرِيفًا، يَسْلُكُ طَرِيقَ التَّصَوُّفِ،
وَكَانَ يَقُولُ: لَمَّا وُلِدْتُ سُمِّيتُ قُطَيْطًا عَلَى أَسْمَاءِ
الْبَادِيَةِ، ثُمَّ سَمَّانِي بَعْضُ أَهْلِي مُحَمَّدًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا رُدَّتِ الْجَوَالَى إِلَى نُوَّابِ الْخَلِيفَةِ. وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابٌ
مِنْ جَلَالِ الْمُلْكِ طُغْرُلْبَكَ إِلَى جَلَالِ الدَّوْلَةِ يَأْمُرُهُ
بِالْإِحْسَانِ إِلَى الرَّعَايَا وَالْوَصَاةِ بِهِمْ.
ذِكْرُ مُلْكِ أَبِي كَالِيجَارَ بَغْدَادَ، بَعْدَ وَفَاةِ أَخِيهِ جَلَالِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ
وَفِيهَا تُوُفِّيَ جَلَالُ الدَّوْلَةِ أَبُو طَاهِرٍ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ،
فَمَلَكَ بَغْدَادَ بَعْدَهُ أَخُوهُ سُلْطَانُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَالِيجَارَ
بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا عَنْ مُمَالَأَةِ أُمَرَائِهَا،
وَأَخْرَجُوا الْمَلِكَ الْعَزِيزَ أَبَا مَنْصُورِ بْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ،
فَتَنَقَّلَ فِي الْبِلَادِ، وَتَشَرَّدَ مِنْ مَمْلَكَتِهِ إِلَى غَيْرِهَا
حَتَّى تُوفِيَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ، وَحُمِلَ فَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْمَلِكُ مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودٍ عَسْكَرًا كَثِيفًا إِلَى
خُرَاسَانَ فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مِيكَائِيلَ
بْنِ سَلْجُوقَ فِي عَسْكَرٍ آخَرَ، فَاقْتَتَلَا قِتَالًا عَظِيمًا.
وَفِيهَا فِي صَفَرٍ مِنْهَا أَسْلَمَ
مِنَ التَّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا يَطْرُقُونَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مِنْ
عَشْرَةِ آلَافِ خَرْكَاهُ، وَضَحَّوْا فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى بِعِشْرِينَ
أَلْفَ رَأْسٍ مِنْ غَنَمٍ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَلَمْ يُسْلِمْ مِنَ
الْخَطَا وَالتَّتَرِ أَحَدٌ، وَهُمْ بِنَوَاحِي الصِّينِ.
وَفِيهَا نَفَى مَلِكُ الرُّومِ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ كُلَّ غَرِيبٍ لَهُ
دُونَ الْعِشْرِينَ سَنَةً فِيهَا.
وَفِيهَا خَطَبَ الْمُعِزُّ أَبُو تَمِيمِ بْنُ بَادِيسَ صَاحِبُ إِفْرِيقِيَّةَ
بِبِلَادِهِ لِلْخَلِيفَةِ الْعَبَّاسِيِّ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْفَاطِمِيِّينَ،
وَأَحْرَقَ أَعْلَامَهُمْ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ
الْخِلَعَ وَاللِّوَاءَ وَالْمَنْشُورَ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ وَثَنَاءٌ
عَلَيْهِ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ أَقَضَى الْقُضَاةِ
أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ الْمَاوَرْدِيَّ قَبْلَ
وَفَاةِ جَلَالِ الدَّوْلَةِ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ جَلَالِ الدَّوْلَةِ وَأَبِي كَالِيجَارَ، فَسَارَ إِلَيْهِ،
فَالْتَقَاهُ بَجُرْجَانَ، فَتَلَقَّاهُ الْمَلِكُ عَلَى أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ
إِكْرَامًا لِمَنْ أَرْسَلَهُ، وَأَقَامَ عِنْدَهُ إِلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ.
فَلَمَّا قَدِمَ أَخْبَرَهُ بِطَاعَتِهِ وَإِكْرَامِهِ لَهُ وَاحْتِرَامِهِ مِنْ
أَجْلِ الْخَلِيفَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
بْنِ أَبِي دُلَفٍ الْعِجْلِيُّ
أَبُو سَعْدٍ، أَحَدُ الرَّحَّالِينَ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ إِلَى الْبِلَادِ
الْمُتَبَايِنَةِ، ثُمَّ أَقَامَ بِبَغْدَادَ مُدَّةً وَحَدَّثَ بِهَا، وَرَوَى
عَنْهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَ: كَانَ صَدُوقًا، ثُمَّ انْتَقَلَ فِي
آخِرِ عُمُرِهِ إِلَى مَكَّةَ
فَسَكَنَهَا حَتَّى مَاتَ بِهَا فِي شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْفَرَجِ
بْنِ الْأَزْهَرِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْأَزْهَرِيُّ
الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الشَّهِيرُ، وَيُعْرَفُ بِابْنِ السَّوَادِيِّ، سَمِعَ
مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ وَخَلْقٍ يَطُولُ ذِكْرُهُمْ، وَكَانَ ثِقَةً
صَدُوقًا دَيِّنًا، صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ حَسَنَ السِّيرَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ
لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
ثَمَانِينَ سَنَةً وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ.
الْمَلِكُ جَلَالُ الدَّوْلَةِ، أَبُو طَاهِرِ بْنُ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ بْنِ رُكْنِ الدَّوْلَةِ بْنِ بُوَيْهِ الدَّيْلَمِيُّ
صَاحِبُ بَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، كَانَ فِيهِ مَحَبَّةً عَظِيمَةً
لِلْعِبَادِ وَيَزُورُهُمْ، وَيَلْتَمِسُ الدُّعَاءَ مِنْهُمْ، وَقَدْ نُكِبَ
مَرَّاتٍ عَدِيدَةً، وَخَالَفَهُ الْأَتْرَاكُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ
دَارِهِ وَمِنْ بَغْدَادَ بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرَ مَا طَرِيقٍ، ثُمَّ يَعُودُ
إِلَيْهِمْ وَيَرْضَوْنَ عَنْهُ حَتَّى اعْتَرَاهُ وَجَعٌ فِي كَبِدِهِ، هَذِهِ
السَّنَةَ، فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الْخَامِسِ مِنْ
شَعْبَانِ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ إِحْدَى وَخَمْسُونَ سَنَةً
وَأَشْهُرٌ، وَوَلِيَ بَغْدَادَ مِنْ ذَلِكَ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَحَدَ
عَشَرَ شَهْرًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ بَغْدَادَ وَأَمَرَ بِضَرْبِ الطَّبْلِ
فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَمْ تَكُنِ الْمُلُوكُ قَبْلَهُ
تَفْعَلُهُ، إِنَّمَا كَانَ يُضْرَبُ لِعَضُدِ الدَّوْلَةِ ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ،
وَمَا كَانَ يُضْرَبُ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسِ إِلَّا لِلْخَلِيفَةِ، وَكَانَ
دُخُولُهُ فِي رَمَضَانَ، وَقَدْ فَرَّقَ عَلَى الْجُنْدِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً،
وَبَعَثَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِينَارٍ، وَخَلَعَ عَلَى
مُقَدِّمِي الْجُيُوشِ، وَهُمُ الْبَسَاسِيرِيُّ، وَالنَّشَاوَوْرِيُّ،
وَالْهُمَامُ أَبُو اللِّقَاءِ، وَلَقَبَّهُ الْخَلِيفَةُ مُحْيِيَ الدَّوْلَةِ،
وَخُطِبَ لَهُ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ بِأَمْرِ مُلُوكِهَا، وَخُطِبَ لَهُ
بِهَمَذَانَ وَلَمْ يَبْقَ لِنُوَّابِ طُغْرُلْبَكَ فِيهَا أَمْرٌ.
وَفِيهَا اسْتَوْزَرَ طُغْرُلْبَكُ أَبَا الْقَاسِمِ عَلِيَّ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
الْجُوَيْنِيَّ، وَهُوَ أَوَّلُ وَزِيرٍ وَزَرَ لَهُ.
وَفِيهَا وَزَرَ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ لِصَاحِبِ مِصْرَ، وَكَانَ
يَهُودِيًّا، فَأَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَرْجَرَائِيِّ.
وَفِيهَا تَوَلَّى نِقَابَةَ الْعَلَوِيِّينَ الشَّرِيفُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ
عَدْنَانَ بْنِ الشَّرِيفِ الرَّضِيُّ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ عَمِّهِ
الْمُرْتَضَى أَبِي الْقَاسِمِ عَلِيٍّ. وَسَتَأْتِي تَرْجَمَتُهُ.
وَفِيهَا وَلِيَ الْقَضَاءَ أَبُو
الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ ; قَضَاءَ الْكَرْخِ، مُضَافًا إِلَى مَا كَانَ
يَتَوَلَّاهُ مِنَ الْقَضَاءِ بِبَابِ الطَّاقِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْقَاضِي
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيِّ.
وَفِيهَا نَظَرَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ فِي
كِتَابَةِ دِيوَانِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ.
وَلَمْ يَحُجَّ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الصَّيْمَرِيُّ
نِسْبَةً إِلَى نَهْرٍ بِالْبَصْرَةِ، يُقَالُ لَهُ: الصَّيْمَرُ، عَلَيْهِ
عِدَّةُ قُرَى. أَحَدُ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ، وَلِيَ قَضَاءَ الْمَدَائِنِ،
ثُمَّ قَضَاءَ رَبْعِ الْكَرْخِ، وَحَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْمُفِيدِ، وَابْنِ
شَاهِينَ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ صَدُوقًا، وَافِرَ الْعَقْلِ، جَمِيلَ
الْمُعَاشَرَةِ، حَسَنَ الْعِبَارَةِ، عَارِفًا بِحُقُوقِ الْعُلَمَاءِ. تُوُفِّيَ
فِي شَوَّالٍ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْحُسَيْنِ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُشْتَرِي، الْأَهْوَازِيُّ، كَانَ عَلَى قَضَاءِ
الْأَهْوَازِ وَنَوَاحِيهَا، شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ، كَانَ لَهُ مَنْزِلَةٌ
كَبِيرَةٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ صَدُوقًا، كَثِيرَ الْمَالِ، حَسَنَ
السِّيرَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ،
الشَّرِيفُ الْمُوسَوِيُّ
الْمُلَقَّبُ بِالْمُرْتَضَى ذِي الْمَجْدَيْنِ - كَانَ أَكْبَرَ مِنْ أَخِيهِ
الرَّضِيِّ، ذِي الْحَسَبَيْنِ - نَقِيبُ الطَّالِبِيِّينَ، وَكَانَ جَيِّدَ
الشِّعْرِ، عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِيَّةِ وَالِاعْتِزَالِ، يُنَاظَرُ عَلَى
ذَلِكَ، وَكَانَ يُنَاظَرُ عِنْدَهُ فِي كُلِّ الْمَذَاهِبِ، وَلَهُ تَصَانِيفُ
فِي التَّشَيُّعِ ; أُصُولًا وَفُرُوعًا.
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَرْجَمَتِهِ أَشْيَاءَ مِنْ تَفَرُّدَاتِهِ
فِي التَّشَيُّعِ، فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ السُّجُودُ إِلَّا عَلَى
الْأَرْضِ أَوْ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِهَا. وَأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ إِنَّمَا
يُجْزِئُ فِي الْغَائِطِ لَا فِي الْبَوْلِ. وَأَنَّ الْكِتَابِيَّاتِ حَرَامٌ،
وَذَبَائِحَ أَهْلِ الْكِتَابِ حَرَامٌ، وَكَذَا مَا وَلُوهُ هُمْ وَسَائِرُ
الْكُفَّارِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ. وَأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إِلَّا بِحَضْرَةِ
شَاهِدَيْنِ، وَالْمُعَلَّقَ مِنْهُ لَا يَقَعُ وَإِنْ وُجِدَ شَرْطُهُ. وَمَنْ
نَامَ عَنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ حَتَّى انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَجَبَ قَضَاؤُهَا،
وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصْبِحَ صَائِمًا كَفَّارَةً لِمَا وَقَعَ مِنْهُ. وَمِنْ
ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا جَزَّتْ شَعْرَهَا يَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ
قَتْلِ الْخَطَأِ. وَمَنْ شَقَّ ثَوْبَهُ فِي مُصِيبَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ
كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَهَا زَوْجٌ لَا يَعْلَمُهُ
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ. وَأَنَّ قَطْعَ
السَّارِقِ مِنْ أُصُولِ الْأَصَابِعِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: نَقَلْتُهَا
مِنْ خَطِّ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عُقَيْلٍ. قَالَ: وَهَذِهِ مَذَاهِبٌ عَجِيبَةٌ
تَخْرُقُ الْإِجْمَاعَ، وَأَعْجَبُ مِنْهَا ذَمُّ الصَّحَابَةَ، رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ. ثُمَّ سَرَدَ مِنْ كَلَامِهِ شَيْئًا قَبِيحًا فِي تَكْفِيرِ عُمَرَ
وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَبَّحَهُ
وَأَمْثَالَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ تَابَ، فَقَدْ
رَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ، قَالَ:
أَنْبَأَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ الطُّيُورِيِّ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ بُرْهَانَ يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلَى الشَّرِيفِ
الْمُرْتَضَى أَبِي الْقَاسِمِ الْعَلَوِيِّ فِي مَرَضِهِ، وَإِذَا قَدْ حَوَّلَ
وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَلِيَا
فَعَدَلَا، وَاسْتَرْحَمَا فَرَحِمَا، أَفَأَنَا أَقُولُ: ارْتَدَّا بَعْدَ مَا
أَسْلَمَا ؟! قَالَ: فَقُمْتُ فَمَا بَلَغْتُ عَتَبَةَ الْبَابِ حَتَّى سَمِعْتُ
الزَّعْقَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى
وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ وَأَوْرَدَ شَيْئًا مِنْ
أَشْعَارِهِ الرَّائِقَةِ. قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ هُوَ الَّذِي وَضَعَ كِتَابَ
" نَهْجِ الْبَلَاغَةِ ".
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أَبُو
مَنْصُورٍ الرُّويَانِيُّ
صَاحِبُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ. قَالَ الْخَطِيبُ: سَكَنَ
بَغْدَادَ وَحَدَّثَ بِهَا، وَكَتَبْنَا عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا يَسْكُنُ
قَطِيعَةَ الرَّبِيعِ. وَمَاتَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ، مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
الطَّيِّبِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ الْمُتَكَلِّمُ
شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْمُنْتَصِرُ لَهُمْ، وَالْحَامِي عَنْ ذِمَارِهِمْ
بِالتَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ الْقَاضِي
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ، وَدُفِنَ فِي الشُّونِيزِيَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ، رَوَاهُ عَنْهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي " تَارِيخِهِ ": حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الطَّيِّبِ، قُرِئَ عَلَى هِلَالِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَخِي هِلَالٍ الرَّأْيُ بِالْبَصْرَةِ وَأَنَا أَسْمَعُ، قِيلَ لَهُ: حَدَّثَكُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ وَأَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ الْجُمَحِيُّ وَالْغَلَّابِيُّ وَالْمَازِنِيُّ وَالزُّرَيْقِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رَبْعِيٍّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ وَالْغَلَابِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَازِنِيُّ اسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ، وَالزُّرَيْقِيُّ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ الْبَصْرِيُّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا بَعَثَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ السَّلْجُوقِيُّ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ
يَنَّالَ إِلَى بِلَادِ الْجَبَلِ، فَمَلَكَهَا وَأَخْرَجَ مِنْهَا صَاحِبَهَا
كَرْشَاسِفَ بْنَ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ، فَالْتَحَقَ بِالْأَكْرَادِ، ثُمَّ سَارَ
إِبْرَاهِيمُ يَنَّالُ إِلَى الدِّينَوَرِ فَمَلَكَهَا، وَأَخْرَجَ مِنْهَا
صَاحَبَهَا وَهُوَ أَبُو الشَّوْكِ، فَسَارَ إِلَى حُلْوَانَ فَتَبِعَهُ
إِبْرَاهِيمُ، فَمَلَكَهَا قَهْرًا، وَأَحْرَقَ دَارَهُ، وَغَنِمَ أَمْوَالَهُ،
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَجَهَّزَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ صَاحِبُ بَغْدَادَ
لِقِتَالِ السَّلَاجِقَةِ الَّذِينَ غَزَوْا أَنْصَارَهُ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ
ذَلِكَ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْآفَةَ اعْتَرَتْ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ الْخَيْلَ، فَمَاتَ لَهُ فِيهَا نَحْوٌ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ
فَرَسٍ، بِحَيْثُ جَافَتْ بَغْدَادَ مِنْ نَتَنِ الْخَيْلِ.
وَفِيهَا وَقَعَ بِبَغْدَادَ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، ثُمَّ اتَّفَقَ
الْفَرِيقَانِ عَلَى نَهْبِ دُورِ الْيَهُودِ، وَإِحْرَاقِ الْكَنِيسَةِ
الْعَتِيقَةِ الَّتِي لَهُمْ، وَاتَّفَقَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ مَوْتُ رَجُلٍ مِنْ
أَكَابِرِ النَّصَارَى بِوَاسِطٍ، فَجَلَسَ أَهْلُهُ لِعَزَائِهِ عَلَى بَابِ
مَسْجِدٍ هُنَاكَ، وَأَخْرَجُوا جِنَازَتَهُ جَهْرَةً، وَمَعَهَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْأَتْرَاكِ يَحْرُسُونَهَا، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِمُ الْعَامَّةُ، فَأَخَذُوا
الْمَيِّتَ مِنْهُمْ، وَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْ أَكْفَانِهِ فَأَحْرَقُوهُ،
وَرَمَوْهُ فِي دِجْلَةَ، وَمَضَوْا إِلَى الدَّيْرِ فَنَهَبُوهُ، وَعَجَزَ
الْأَتْرَاكُ عَنْ دَفْعِهِمْ. وَلَمْ يَحُجَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي هَذَا
الْعَامِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
فَارِسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَنَانٍ
صَاحِبُ الدِّينَوَرِ وَحُلْوَانَ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْأَوَانِ.
خَدِيجَةُ بِنْتُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظَةُ
وَتُعْرَفُ بِبِنْتِ الْبَقَّالِ، وَتُكَنَّى أُمَّ سَلَمَةَ، قَالَ الْخَطِيبُ:
كَتَبْتُ عَنْهَا، وَكَانَتْ فَقِيرَةً صَالِحَةً فَاضِلَةً.
أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْمَنَازِيُّ
الشَّاعِرُ الْكَاتِبُ، وَزِيرُ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ الْكُرْدِيِّ، صَاحِبُ
مَيَّافَارِقِينَ وَدِيَارِ بَكْرٍ، كَانَ فَاضِلًا بَارِعًا لَطِيفًا، تَرَدَّدَ
فِي التَّرَسُّلِ إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَحَصَّلَ كُتُبًا
كَثِيرَةً أَوْقَفَهَا عَلَى جَامِعَيْ آمِدَ وَمَيَّافَارِقِينَ، وَدَخَلَ
يَوْمًا عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي مُعْتَزِلُ
النَّاسِ، وَهُمْ يُؤْذُونَنِي. فَقَالَ: وَلِمَ وَقَدْ تَرَكَتْ لَهُمُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ؟! وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ قَلِيلُ النَّظِيرِ عَزِيزُ
الْوُجُودِ، حَرَصَ عَلَيْهِ الْقَاضِي الْفَاضِلُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَمِنْ شِعْرِهِ فِي وَادِي بُزَاعَا
قَوْلُهُ:
وَقَانَا لَفْحَةَ الرَّمْضَاءِ وَادٍ وَقَاهُ مُضَاعَفُ النَّبْتِ الْعَمِيمِ
نَزَلْنَا دَوْحَهُ فَحَنَا عَلَيْنَا
حُنُوَّ الْمُرْضِعَاتِ عَلَى الْفَطِيمِ وَأَرْشَفَنَا عَلَى ظَمَأٍ زُلَالًا
أَلَذَّ مِنَ الْمُدَامَةِ لِلنَّدِيمِ
يُرَاعِي الشَّمْسَ أَنَّى قَابَلَتْهُ
فَيَحْجُبُهَا وَيَأْذَنُ لِلنَّسِيمِ تَرُوعُ حَصَاهُ حَالِيَةَ الْعَذَارَى
فَتَلْمَسُ جَانِبَ الْعِقْدِ النَّظِيمِ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ بَدِيعَةٌ فِي بَابِهَا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْمُوتَانُ كَثِيرٌ فِي الدَّوَابِّ جِدًّا
حَتَّى جَافَتْ بَغْدَادَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَرُبَّمَا أَحْضَرَ بَعْضُ
النَّاسِ الْأَطِبَّاءَ إِلَى دَوَابِّهِمْ فَيَسْقُونَهَا مَاءَ الشَّعِيرِ
وَيُطَبِّبُونَهَا.
وَفِيهَا حَاصَرَ السُّلْطَانُ ابْنُ طُغْرُلْبَكَ أَصْبَهَانَ فَصَالَحَهُ
أَهْلُهَا عَلَى مَالٍ يَحْمِلُونَهُ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُخْطَبَ لَهُ بِهَا،
فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ.
وَفِيهَا مَلَكَ مُهَلْهِلٌ قَرْمَيْسِينَ وَالدِّينَوَرَ.
وَفِيهَا تَأَمَّرَ عَلَى بَنِي خَفَاجَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: رَجَبُ بْنُ أَبِي
مَنِيعِ بْنِ ثُمَالٍ. بَعْدَ وَفَاةِ بَدْرَانَ بْنِ سُلْطَانَ بْنِ ثُمَالٍ،
وَهَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ هُمْ أَكْثَرُ مَنْ يَصُدُّ الْحَجِيجَ عَنِ الْبَيْتِ
الْحَرَامِ، فَلَا جَزَاهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وَقَبَّحَهُمْ يَوْمَ يقومُ
الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ[سُورَةُ غَافِرٍ:52].
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ
ابْنِ حَيَّوَيْهِ
الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ إِمَامُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ،
وَهُوَ وَالِدُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَبِي الْمَعَالِي عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
أَبِي مُحَمَّدٍ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهَا: سِنْبِسُ. وَجُوَيْنُ
مِنْ نَوَاحِي نَيْسَابُورَ سَمِعَ الْحَدِيثِ مِنْ بِلَادٍ شَتَّى عَلَى
جَمَاعَةٍ، وَقَرَأَ الْأَدَبَ عَلَى أَبِيهِ، وَتَفَقَّهَ بِأَبِي الطَّيِّبِ
سَهْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصُّعْلُوكِيِّ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَرْوَ إِلَى أَبِي
بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْقَفَّالِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى نَيْسَابُورَ
وَعَقَدَ مَجْلِسَ الْمُنَاظَرَةِ، وَكَانَ مَهِيبًا لَا يَجْرِي بَيْنَ يَدَيْهِ
إِلَّا الْجِدُّ، وَصَنَّفَ التَّصَانِيفَ الْكَثِيرَةَ فِي أَنْوَاعٍ مِنَ
الْعُلُومِ، وَكَانَ وَرِعًا زَاهِدًا شَدِيدَ الِاحْتِيَاطِ، رُبَّمَا أَخْرَجَ
الزَّكَاةَ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي " طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ "
وَمَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ فِي مَدْحِهِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْهَا. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ صَنَّفَ "
التَّفْسِيرَ الْكَبِيرَ " الْمُشْتَمِلَ عَلَى أَنْوَاعٍ الْعُلُومِ وَلَهُ
فِي الْفِقْهِ " التَّبْصِرَةُ " وَ " التَّذْكِرَةُ " وَ
" مُخْتَصَرُ الْمُخْتَصَرِ " وَ " الْفَرْقُ وَالْجَمْعُ "
وَ " السِّلْسِلَةُ " وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ
وَالْأُصُولِ وَالْأَدَبِ وَالْعَرَبِيَّةِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ
السَّنَةِ - وَقِيلَ: سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ، قَالَهُ السَّمْعَانِيُّ فِي
" الْأَنْسَابِ " - وَهُوَ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا اصْطَلَحَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ السَّلْجُوقِيُّ وَأَبُو كَالِيجَارَ
صَاحِبُ بَغْدَادَ وَتَزَوَّجَ طُغْرُلْبَكُ بِابْنَةِ أَبِي كَالِيجَارَ،
وَتَزَوَّجَ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ كَالِيجَارَ بِابْنَةِ الْمَلِكِ دَاوُدَ أَخِي
طُغْرُلْبَكَ.
وَفِيهَا أَسَرَتِ الْأَكْرَادُ سُرْخَابَ أَخَا أَبِي الشَّوْكِ، وَأَحْضَرُوهُ
بَيْنَ يَدَيْ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، فَأَمَرَ بِقَلْعِ إِحْدَى عَيْنَيْهِ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى أَبُو كَالِيجَارَ عَلَى بِلَادِ الْبَطِيحَةِ، وَنَجَا
صَاحِبُهَا أَبُو نَصْرٍ بِنَفْسِهِ.
وَفِيهَا ظَهَرَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْأَصْفَرُ التَّغْلِبِيُّ، وَادَّعَى
أَنَّهُ مِنَ الْمَذْكُورِينَ فِي الْكُتُبِ، فَاسْتَغْوَى خَلْقًا مِنَ النَّاسِ،
وَقَصَدَ بِلَادَ الرُّومِ، فَغَنِمَ مِنْهَا أَمْوَالًا، فَقَوِيَ بِهَا،
وَعَظُمَ أَمْرُهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ أُسِرَ وَحُمِلَ إِلَى نَصْرِ الدَّوْلَةِ
بْنِ مَرْوَانَ صَاحِبِ دِيَارِ بَكْرٍ فَاعْتَقَلَهُ، وَسَدَّ عَلَيْهِ بَابَ
السِّجْنِ.
وَفِيهَا كَانَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَبَغْدَادَ فَمَاتَ
خَلْقٌ كَثِيرٌ، حَتَّى خَلَتِ الْأَسْوَاقُ، وَغَلَتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي
يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْمَرْضَى، وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنَ الْمَوْصِلِ بِأَنَّهُ لَا
يُصَلِّي الْجُمُعَةَ مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا نَحْوُ أَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَنَّ
أَهْلَ الذِّمَّةِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا نَحْوُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ
نَفْسًا.
وَفِيهَا وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ
أَيْضًا، وَجَرَتْ فِتْنَةٌ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّوَافِضِ بِبَغْدَادَ، قُتِلَ
فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ رَكْبِ الْعِرَاقِ فِي هَذَا
الْعَامِ. فَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْفَضْلِ
الْقَاضِي الْهَاشِمِيُّ الرَّشِيدِيُّ
مِنْ وَلَدِ الرَّشِيدِ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِسِجِسْتَانَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ
مِنَ الْغِطْرِيفِيِّ وَغَيْرِهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَأَنْشَدَنِي لِنَفْسِهِ:
قَالُوا اقْتَصِدْ فِي الْجُودِ إِنَّكَ مُنْصِفٌ عَدْلٌ وَذُو الْإِنْصَافِ
لَيْسَ يَجُورَ فَأَجَبْتُهُمْ إِنِّي سُلَالَةُ مَعْشَرٍ
لَهُمْ لِوَاءٌ فِي النَّدَى مَنْشُورُ تَاللَّهِ إِنِّي شَائِدٌ مَا قَدْ بَنَى
جَدِّي الرَّشِيدُ وَقَبْلَهُ الْمَنْصُورُ
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الشَّاعِرُ الْمَعْرُوفُ بِالْمُطَرَّزِ، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ
الْخَطِيبُ قَوْلُهُ:
يَا عَبْدُ كَمْ لَكَ مِنْ ذَنْبٍ وَمَعْصِيَةٍ إِنْ كُنْتَ نَاسِيَهَا فَاللَّهُ
أَحْصَاهَا
لَا بُدَّ يَا عَبْدُ مِنْ يَوْمٍ تَقُومُ لَهُ وَوَقْفَةٍ لَكَ يُدْمِي الْقَلْبَ
ذِكْرَاهَا
إِذَا عَرَضْتُ عَلَى قَلْبِي تَذَكُّرَهَا وَسَاءَ ظَنِّي فَقُلْتُ اسْتَغْفِرِ
اللَّهَ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، أَبُو سَعْدٍ
الْوَزِيرُ
وَزَرَ لِلْمَلِكِ أَبِي طَاهِرٍ سِتَّ
مَرَّاتٍ، ثُمَّ كَانَ مَوْتُهُ بِجَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ،
عَنْ سِتٍّ وَخَمْسِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظُ
الشِّيرَازِيُّ
قَالَ الْخَطِيبُ: قَدِمَ بَغْدَادَ وَأَظْهَرَ الزُّهْدَ وَالتَّقَشُّفَ
وَالْوَرَعَ وَعُزُوفَ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا، فَافْتَتَنَ النَّاسُ بِهِ،
وَكَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، ثُمَّ إِنَّهُ قَبْلَ مَا كَانَ
يَعْرِضُ عَلَيْهِ فَيَأْبَى قَبُولَهُ، فَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُ، وَلَبِسَ
الثِّيَابَ النَّاعِمَةَ، وَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ، وَكَثُرَتْ أَتْبَاعُهُ،
وَأَظْهَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الْغَزْوَ، فَاتَّبَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَبَرَزَ
ظَاهِرَ الْبَلَدِ نَاحِيَةً مِنْهَا، وَكَانَ يُضْرَبُ لَهُ الطَّبْلُ فِي
أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَسَارَ إِلَى نَاحِيَةِ بِلَادِ أَذْرَبِيجَانَ فَالْتَفَّ
عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَضَاهَى أَمِيرَ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ هُنَالِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ حَدَّثَ بِبَغْدَادَ، وَكَتَبْتُ عَنْهُ أَحَادِيثَ
يَسِيرَةً، وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى
ضَعْفِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَأَنْشَدَنِي هُوَ لِبَعْضِهِمْ:
إِذَا مَا أَطَعْتَ النَّفْسَ فِي كُلِّ لَذَّةٍ نُسِبَتْ إِلَى غَيْرِ الْحِجَا
وَالتَّكَرُّمِ
إِذَا مَا أَجَبْتَ النَّفْسَ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ دَعَتْكَ إِلَى الْأَمْرِ
الْقَبِيحِ الْمُحَرَّمِ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بُرْهَانَ، أَبُو الْحَسَنِ
الْغَزَّالُ
سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُظَفَّرِ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ صَدُوقًا، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
إِبْرَاهِيمَ، أَبُو الْخَطَّابِ الْجَبَلِيُّ
الشَّاعِرُ، فَمِنْ شِعْرِهِ قَوْلُهُ:
مَا حَكَمَ الْحُبُّ فَهْوَ مُمْتَثَلُ وَمَا جَنَاهُ الْحَبِيبُ مُحْتَمَلُ
يَهْوَى وَيَشْكُو الضَّنَى وَكُلُّ هَوًى لَا يُنْحِلُ الْجِسْمَ فَهْوَ
مُنْتَحَلُ
وَقَدْ سَافَرَ إِلَى الشَّامِ فَاجْتَازَ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، فَامْتَدَحَ
أَبَا الْعَلَاءِ بْنَ سُلَيْمَانَ بِأَبْيَاتٍ، فَأَجَابَهُ عَنْهَا. وَقَدْ
كَانَ حَسَنَ الْعَيْنَيْنِ حِينَ سَافَرَ، فَمَا عَادَ إِلَّا وَهُوَ أَعْمَى.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَيُقَالُ:
إِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الرَّفْضِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ، الْحُسَيْنُ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدٍ
شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَانِهِ، أَخَذَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ،
وَشَرَحَ " الْفُرُوعَ " لِابْنِ الْحَدَّادِ، وَقَدْ شَرَحَهَا قَبْلَهُ
شَيْخُهُ، وَبَعْدَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَشَرَحَ أَبُو
عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ كِتَابَ " التَّلْخِيصِ " لِابْنِ الْقَاصِّ
شَرْحًا كَبِيرًا، وَلَهُ كِتَابُ " الْمَجْمُوعِ " وَأَخَذَ مِنْهُ
الْغَزَّالِيُّ فِي " الْوَسِيطِ ". قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهُوَ
أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ طَرِيقَتَيِ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْهَا مَرِضَ الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ صَاحِبُ
بَغْدَادَ وَهُوَ فِي بَرِّيَّةٍ، فَفُصِدَ فِي يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتِ، وَحُمِلَ
فِي مَحَفَّةٍ، مَاتَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ، وَانْتَهَبَتِ الْغِلْمَانُ
الْخَزَائِنَ، وَأَحْرَقَ الْجَوَارِي الْخِيَامَ، سِوَى الْخَيْمَةِ الَّتِي هُوَ
فِيهَا وَالْخَرْكَاهِ الَّتِي كَانَ بِهَا، وَوَلِيَ بَعْدَهُ ابْنُهُ أَبُو
نَصْرٍ، وَسَمَّوْهُ الْمَلِكَ الرَّحِيمَ، وَدَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ فِي
يَوْمٍ مَشْهُودٍ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ سَبْعَ خِلَعٍ، وَسَوَّرَهُ
وَطَوَّقَهُ، وَجَعَلَ عَلَى رَأْسِهِ التَّاجَ وَالْعِمَامَةَ السَّوْدَاءَ
الرُّصَافِيَّةَ، وَوَصَّاهُ الْخَلِيفَةُ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ، وَجَاءَ
النَّاسُ لِتَهْنِئَتِهِ.
وَفِيهَا دَارَ السُّورُ عَلَى شِيرَازَ وَكَانَ دَوْرُهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ
ذِرَاعٍ، وَارْتِفَاعُهُ ثَمَانِيَةَ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ سِتَّةَ أَذْرُعٍ،
وَفِيهِ أَحَدَ عَشَرَ بَابًا.
وَفِيهَا غَزَا إِبْرَاهِيمُ يَنَّالَ بِلَادَ الرُّومِ، فَغَنِمَ مِائَةَ أَلْفِ
رَأْسٍ، وَأَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْعٍ، وَقِيلَ: تِسْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْعٍ.
وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ إِلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا، وَحَمَلَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمَغَانِمِ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ
عَجَلَةٍ.
وَفِيهَا خُطِبَ لِذَخِيرَةِ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ
الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ عَلَى الْمَنَابِرِ بِوِلَايَةِ
الْعَهْدِ بَعْدَ أَبِيهِ، وَحُيِّيَ بِذَلِكَ.
وَفِيهَا اقْتَتَلَ الرَّوَافِضُ
وَالسُّنَّةُ، وَجَرَتْ بِبَغْدَادَ فِتَنٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. وَلَمْ يَحُجَّ
أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذَا الْعَامِ أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
السَّيِّدُ الْكَبِيرُ الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى بْنِ الْمُقْتَدِرِ بِاللَّهِ، أَبُو
مُحَمَّدٍ الْعَبَّاسِيُّ
وُلِدَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
مِنْ مُؤَدِّبِهِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ الْيَشْكُرِيِّ، وَأَبِي الْأَزْهَرِ
عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْكَاتِبِ، وَكَانَ فَاضِلًا
دَيِّنًا حَافِظًا لِأَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ، عَالِمًا بِأَيَّامِ النَّاسِ،
صَالِحًا، أَعْرَضَ عَنْ وِلَايَةِ الْخِلَافَةِ عَنْ قُدْرَةٍ، وَآثَرَ بِهَا
الْقَادِرَ بِاللَّهِ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سَبْعٍ
وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ بِبَابِ حَرْبٍ بِغَيْرِ تَابُوتٍ،
فَدُفِنَ قَرِيبًا مِنْ قَبْرِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَكَانَ يَوْمُ
جِنَازَتِهِ مَشْهُودًا ; مَشَى الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ وَالْبَسَاسِيرِيُّ
إِلَى الْمَقْبَرَةِ، وَجَلَسَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ
الْمُسْلِمَةِ لِلْعَزَاءِ مِنَ الْغَدِ.
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ
الْوَاعِظُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ شَاهِينَ
سَمِعَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ مَاسِيٍّ وَأَبِي بَحْرٍ
الْبَرْبَهَارِيِّ وَابْنِ الْمُظَفَّرِ. قَالَ الْخَطِيبُ: كَتَبْتُ عَنْهُ،
وَكَانَ صَدُوقًا. وَكَانَ مَوْلِدُهُ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ،
وَتُوُفِّيَ فِي رَبِيعٍ الْآخَرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِبَابِ حَرْبٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَابِ، أَبُو الْقَاسِمِ،
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي عُثْمَانَ الدَّقَّاقُ
قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ الْقَطِيعِيَّ وَغَيْرَهُ، وَكَانَ شَيْخًا صَالِحًا،
صَدُوقًا دَيِّنًا، حَسَنَ الْمَذْهَبِ.
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ فَسَانْجِسَ الْوَزِيرُ، أَبُو
الْفَرَجِ الْمُلَقَّبُ بِذِي السَّعَادَاتِ
وَزَرَ لِأَبِي كَالِيجَارَ بِفَارِسَ وَبَغْدَادَ، وَكَانَ ذَا مُرُوءَةٍ
غَزِيرَةٍ، مَلِيحَ الشِّعْرِ وَالتَّرَسُّلِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ كُتِبَ
إِلَيْهِ فِي رَجُلٍ مَاتَ عَنْ وَلَدٍ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ، وَلَهُ مِنَ
الْمَالِ مَا يُقَارِبُ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ، فَإِنْ رَأَى الْوَزِيرُ أَنْ
يَقْتَرِضَ مِنَ الْعَيْنِ إِلَى حِينِ بُلُوغِ الطِّفْلِ، فَكَتَبَ عَلَى ظَهْرِ
الْوَرَقَةِ: الْمُتَوَفَّى رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالطِّفْلُ جَبَرَهُ اللَّهُ،
وَالْمَالُ ثَمَّرَهُ اللَّهُ، وَالسَّاعِي لَعَنَهُ اللَّهُ، وَلَا حَاجَةَ لَنَا
إِلَى مَالِ الْأَيْتَامِ. اعْتُقِلَ، ثُمَّ قُتِلَ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ عَنْ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ غَيْلَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ غَيْلَانَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ غِيلَانَ، أَبُو طَالِبٍ الْبَزَّارُ
رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ، وَهُوَ آخِرُ مَنْ حَدَّثَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الشَّافِعِيِّ، كَانَ صَدُوقًا
دَيِّنًا صَالِحًا، قَوِيَّ النَّفْسِ عَلَى كِبَرِ السِّنِّ، كَانَ يَمْلِكُ
أَلْفَ دِينَارٍ، فَكَانَ يَصُبُّهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي حِجْرِهِ فَيُقَبِّلُهَا،
ثُمَّ يَرُدُّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، وَقَدْ خَرَّجَ لَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
الْأَجْزَاءَ الْغَيْلَانِيَّاتِ، وَهِيَ سَمَاعُنَا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ
الِاثْنَيْنِ سَادِسِ شَوَّالٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ
سَنَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ بَلَغَ مِائَةً وَخَمْسَ سِنِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَلِكُ أَبُو كَالِيجَارَ، وَاسْمُهُ الْمَرْزُبَانُ بْنُ سُلْطَانِ
الدَّوْلَةِ بْنِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَأَشْهُرٍ،
وَقَدْ وَلِيَ الْعِرَاقَ نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَنُهِبَتْ لَهُ
قَلْعَةٌ كَانَ فِيهَا مَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَقَامَ
بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ ابْنُهُ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ أَبُو نَصْرٍ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ تُقُدِّمَ إِلَى أَهْلِ الْكَرْخِ أَنْ لَا يَعْمَلُوا
بِدَعَةَ النَّوْحِ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ بَابِ الْبَصْرَةِ مَا
يَزِيدُ عَلَى الْحَدِّ ; مِنَ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ.
وَفِيهَا بَنَى أَهْلُ الْكَرْخِ سُورًا عَلَيْهِ، وَبَنَى أَهْلُ السُّنَّةِ
سُورًا عَلَى سُوقِ الْقَلَّائِينَ، وَنَقَضَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ
أَبْنِيَتَهُ، وَحَمَلُوا الْآجُرَّ إِلَى مَوَاضِعَ بِالطُّبُولِ
وَالْمَزَامِيرِ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ مُفَاخَرَاتٌ فِي ذَلِكَ وَسُخْفٌ لَا
تَنْحَصِرُ وَلَا تَنْضَبِطُ، ثُمَّ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ فِتَنٌ يَطُولُ
ذِكْرُهَا، وَأَحْرَقُوا دُورًا كَثِيرَةً جِدًّا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا
إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَفِيهَا وَقَعَتْ وَحْشَةٌ بَيْنَ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ
يَنَّالَ، فَأَمَرَ طُغْرُلْبَكُ بِضَرْبِهِ وَسَمْلِ إِحْدَى عَيْنَيْهِ وَقَطْعِ
شَفَتَيْهِ، فَسَارَ إِبْرَاهِيمُ، فَجَمَعَ جُمُوعًا كَثِيرَةً، فَاقْتَتَلَ هُوَ
وَأَخُوهُ، فَهَزَمَهُ طُغْرُلْبَكُ ثُمَّ أَسَرَهُ مِنْ قَلْعَةٍ قَدْ تَحَصَّنَ
بِهَا، بَعْدَ مُحَاصَرَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، فَاسْتَنْزَلَهُ مَقْهُورًا،
فَأَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَقَامَ عِنْدَ أَخِيهِ مُكَرَّمًا.
وَكَتَبَ مَلِكُ الرُّومِ إِلَى طُغْرُلْبَكَ فِي فِدَاءِ بَعْضِ مُلُوكِهِمْ
مِمَّنْ كَانَ أَسَرَهُ إِبْرَاهِيمُ يَنَّالَ، وَيَبْذُلُ لَهُ فِيهِ قِطْعَةً
كَثِيرَةً مِنَ الْمَالِ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ
اشْتَرَطَهُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ مَلِكُ الرُّومِ هَدَايَا كَثِيرَةً وَتُحَفًا
غَزِيرَةً، وَأَمَرَ بِعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ،
وَأُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ وَالْجُمُعَةُ، وَخُطِبَ فِيهِ لِلْمَلِكِ
طُغْرُلْبَكَ فَبَلَغَ هَذَا الْأَمْرُ
الْعَجِيبُ سَائِرَ الْمُلُوكِ، فَعَظَّمُوا الْمَلِكَ طُغْرُلْبَكَ تَعْظِيمًا
زَائِدًا، وَخَطَبَ لَهُ نَصْرُ الدَّوْلَةِ بْنُ مَرْوَانَ بِالْجَزِيرَةِ.
وَفِيهَا وَلِيَ مَسْعُودُ بْنُ مَوْدُودِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ الْمُلْكَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ، وَكَانَ صَغِيرًا، فَمَكَثَ
أَيَّامًا، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ إِلَى عَمِّهِ عَلِيِّ بْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ
نَازَعَهُ عَمُّهُ عَبْدُ الرَّشِيدِ بْنُ مَحْمُودٍ، فَاسْتَقَرَّ الْمُلْكُ
بِيَدِهِ وَانْعَزَلَ عَلِيُّ بْنُ مَسْعُودٍ، وَهَذَا أَمْرٌ غَرِيبٌ جِدًّا،
فَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْمِصْرِيُّونَ مَدِينَةَ حَلَبَ وَأَجْلَوْا عَنْهَا صَاحِبَهَا
ثُمَالَ بْنَ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ.
وَفِيهَا كَانَ بَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَبَيْنَ بَنِي عُقَيْلٍ حَرْبٌ.
وَفِيهَا مَلَكَ الْبَسَاسِيرِيُّ الْأَنْبَارَ مِنْ يَدِ قِرْوَاشٍ، فَأَصْلَحَ
أُمُورَهَا.
وَفِي شَعْبَانَ مِنْهَا سَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى طَرِيقِ خُرَاسَانَ وَقَصَدَ
نَاحِيَةَ الدَّزْدَارِ وَمَلَكَهَا، وَغَنِمَ مَالًا كَثِيرًا كَانَ فِيهَا،
وَكَانَ سُعْدَى بْنُ أَبِي الشَّوْكِ قَدْ حَصَّنَهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي ذِي الْحِجَّةِ ارْتَفَعَتْ سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ
لَيْلًا، فَزَادَتْ عَلَى ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظَهَرَ فِي جَوَانِبِ السَّمَاءِ
كَالنَّارِ الْمُضْرَمَةِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَخَافُوا وَأَخَذُوا
فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، فَانْكَشَفَ فِي بَاقِي اللَّيْلِ بَعْدَ سَاعَةٍ.
وَكَانَتْ قَدْ هَبَّتْ رِيحٌ
شَدِيدَةٌ جِدًّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ
الْأَشْجَارِ، وَهَدَمَتْ رَوَاشِنَ كَثِيرَةً مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ وَدَارِ
الْمَمْلَكَةِ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ أَبُو الْحَسَنِ
الْمَعْرُوفُ بِالْعَتِيقِيِّ، نِسْبَةً إِلَى جَدٍّ لَهُ كَانَ يُسَمَّى
عَتِيقًا، سَمِعَ مِنِ ابْنِ شَاهِينَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ صَدُوقًا. تُوُفِّيَ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَبُو الْقَاسِمِ الْعَلَوِيُّ
وَيُعْرَفُ بِابْنِ الشَّبِيهِ. قَالَ الْخَطِيبُ: سَمِعَ مِنِ ابْنِ مُظَفَّرٍ
وَكَتَبَ عَنْهُ، وَكَانَ صَدُوقًا دَيِّنًا، حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، يُوَرِّقُ
بِالْأُجْرَةِ وَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَتَصَدَّقُ. تُوُفِّيَ فِي رَجَبٍ مِنْهَا
وَقَدْ جَاوَزَ الثَّمَانِينَ.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ أَقَضَى الْقُضَاةِ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيِّ
يُكَنَّى أَبَا الْفَائِزِ،
شَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا فِي
سَنَةِ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ، فَأَجَازَ شَهَادَتَهُ احْتِرَامًا لِأَبِيهِ،
تُوُفِّيَ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مُحَمَّدٍ الصُّورِيُّ الْحَافِظُ
طَلَبَ الْحَدِيثَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا كَبُرَ وَأَسَنَّ، فَرَحَلَ فِي طَلَبِ
الْحَدِيثِ إِلَى الْآفَاقِ، وَكَتَبَ الْكَثِيرَ، وَصَنَّفَ وَاسْتَفَادَ عَلَى
الْحَافِظِ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْمِصْرِيِّ، وَكَتَبَ عَنْهُ
شَيْخُهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ شَيْئًا فِي تَصَانِيفِهِ، وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ
أَهْلِ الْحَدِيثِ هِمَّةً فِي الطَّلَبِ وَهُوَ شَابٌّ، ثُمَّ كَانَ مَنْ أَقْوَى
النَّاسِ عَزِيمَةً عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَانَ يَسْرُدُ الصَّوْمَ كُلَّ
يَوْمٍ إِلَّا يَوْمَيِ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَكَانَ مَعَ
ذَلِكَ حَسَنَ الْخُلُقِ جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ، وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى
عَيْنَيْهِ، فَكَانَ يَكْتُبُ بِالْأُخْرَى الْمُجَلَّدَ فِي جُزْءٍ. قَالَ أَبُو
الْحَسَنِ بْنِ الطُّيُورِيِّ: يُقَالُ: إِنَّ عَامَّةَ كُتُبِ الْخَطِيبِ سِوَى
" التَّارِيخِ " مُسْتَفَادَةٌ مِنْ كُتُبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الصُّورِيِّ. كَانَ قَدْ مَاتَ الصُّورِيُّ وَتَرَكَ كُتُبَهُ اثْنَيْ عَشَرَ
عِدْلًا عِنْدَ أَخِيهِ، فَلَمَّا صَارَ الْخَطِيبُ إِلَى الشَّامِ أَعْطَى
أَخَاهُ شَيْئًا، وَأَخَذَ بَعْضَ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَحَوَّلَهَا فِي كُتُبِهِ.
وَمِنْ شَعْرِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصُّورِيِّ:
تَوَلَّى الشَّبَابُ بِرَيَعَانِهِ وَجَاءَ الْمَشِيبُ بِأَحْزَانِهِ فَقَلْبِي
لِفُقْدَانِ ذَا مُؤْلَمٌ
كَئِيبٌ بِهَذَا وَوِجْدَانِهِ
وَإِنْ كَانَ مَا جَارَ فِي سَيْرِهِ
. وَلَا جَاءَ فِي غَيْرِ إِبَّانِهِ وَلَكِنْ أَتَى مُؤْذِنًا بِالرَّحِيلِ
فَوَيْلِي مِنْ قُرْبِ إِيذَانِهِ وَلَوْلَا ذُنُوبٌ تَحَمَّلْتُهَا
لَمَا رَاعَنِي حَالَ إِتْيَانِهِ وَلَكِنَّ ظَهْرِي ثَقِيلٌ بِمَا
جَنَاهُ شَبَابِي بِطُغْيَانِهِ فَمَنْ كَانَ يَبْكِي شَبَابًا مَضَى
وَيَنْدُبُ طَيِّبَ أَزْمَانِهِ فَلَيْسَ بُكَائِي وَمَا قَدْ تَرَوْ
نَ مِنِّي لِوَحْشَةِ فُقْدَانِهِ وَلَكِنْ لِمَا كَانَ قَدْ جَرَّهُ
عَلَيَّ بِوَثْبَاتِ شَيْطَانِهِ فَوَيْلِي وَعَوْلِي إِنْ لَمْ يَجُدْ
عَلَيَّ مَلِيكِي بِرِضْوَانِهِ وَلَمْ يَتَغَمَّدْ ذُنُوبِي وَمَا
جَنَيْتُ بِوَاسِعِ غُفْرَانِهِ وَيَجْعَلْ مَصِيرِي إِلَى جَنَّةٍ
يَحِلُّ بِهَا أَهْلَ قُرْبَانِهِ وَإِنْ كُنْتُ مَا لِي مِنْ قُرْبَةٍ
سِوَى حُسْنِ ظَنِّي بِإِحْسَانِهِ وَأَنِّي مُقِرٌّ بِتَوْحِيدِهِ
عَلِيمٌ بِعِزَّةِ سُلْطَانِهِ أُخَالِفُ فِي ذَاكَ أَهْلَ الْجُحُودِ
وَأَهْلَ الْفُسُوقِ وَعُدْوَانِهِ وَأَرْجُو بِهِ الْفَوْزَ فِي مَنْزِلٍ
مُقِرٍّ لِأَعْيُنِ سُكَّانِهِ وَلَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَحُودِ
وَمَنْ قَدْ أَقَرَّ بِإِيمَانِهِ فَهَذَا يُنَجِّيهِ إِيمَانُهُ
وَهَذَا يَبُوءُ بِخُسْرَانِهِ
وَهَذَا يُنَعَّمُ فِي جَنَّةٍ
وَذَلِكَ فِي قَعْرِ نِيرَانِهِ
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
قُلْ لِمَنْ عَانَدَ الْحَدِيثَ وَأَضْحَى عَائِبًا أَهْلَهُ وَمَنْ يَدَّعِيهِ
أَبِعِلْمٍ تَقُولُ هَذَا أَبِنْ لِي أَمْ بِجَهْلٍ فَالْجَهْلُ خُلْقُ السَّفِيهِ
أَيُعَابُ الَّذِينَ هُمْ حَفِظُوا الدِّي نَ مِنَ التُّرَّهَاتِ وَالتَّمْوِيهِ
وَإِلَى قَوْلِهِمْ وَمَا قَدْ رَوَوْهُ رَاجِعٌ كُلُّ عَالِمٍ وَفَقِيهِ
وَكَانَ سَبَبُ وَفَاتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ افْتَصَدَ، فَوَرِمَتْ يَدُهُ
; لِأَنَّهُ - عَلَى مَا ذُكِرَ - كَانَتْ رِيشَةُ الْحَاجِمِ مَسْمُومَةً
لِغَيْرِهِ، فَغَلِطَ، فَفَصَدَهُ بِهَا، فَكَانَتْ فِيهَا مَنِيَّتُهُ بِإِذْنِ
اللَّهِ وَقَدَرِهِ، فَحُمِلَ إِلَى الْمَارَسْتَانِ، فَمَاتَ بِهِ فِي يَوْمِ
الْأَرْبِعَاءِ سَلْخِ جُمَادَى الْآخِرَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَدُفِنَ
بِمَقْبَرَةِ جَامِعِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى السِّتِّينَ سَنَةً،
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ،
آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا فَتَحَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ أَصْبَهَانَ بَعْدَ حِصَارِ سَنَةٍ،
فَنَقَلَ إِلَيْهَا حَوَاصِلَهُ مِنَ الرَّيِّ وَجَعَلَهَا دَارَ إِقَامَتِهِ،
وَخَرَّبَ قِطْعَةً مِنْ سُورِهَا، وَقَالَ: إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى السُّورِ
مَنْ تَضْعُفُ قُوَّتُهُ، وَإِنَّمَا حِصْنِي عَسَاكِرِي وَسَيْفِي. وَقَدْ كَانَ
فِيهَا أَبُو مَنْصُورٍ قَرَامِرْزُ بْنُ عَلَاءِ الدَّوْلَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ
كَاكَوَيْهِ، فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا وَأَقْطَعَهُ بَعْضَ بِلَادِهَا.
وَفِيهَا سَارَ الْمَلِكُ الرَّحِيمُ إِلَى الْأَهْوَازِ، وَأَطَاعَهُ عَسْكَرُ
فَارِسَ وَمَلَكَ عَسْكَرَ مُكْرَمٍ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَتِ الْخَوَارِجُ عَلَى عُمَانَ أَخْرَبُوا دَارَ الْإِمَارَةِ
فِيهَا، وَأَسَرُوا أَبَا الْمُظَفَّرِ بْنَ أَبِي كَالِيجَارَ.
وَفِيهَا دَخَلَتِ الْعَرَبُ بِإِذْنِ الْمُسْتَنْصِرِ الْفَاطِمِيِّ بِلَادَ
إِفْرِيقِيَّةَ، وَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ حُرُوبٌ
طَوِيلَةٌ، وَعَاثُوا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا عِدَّةَ سِنِينَ.
وَفِيهَا اصْطَلَحَ الرَّوَافِضُ وَالسُّنَّةُ بِبَغْدَادَ، وَذَهَبُوا كُلُّهُمْ
لِزِيَارَةِ مَشْهَدِ عَلَيٍّ
وَمَشْهَدِ الْحُسَيْنِ، وَتَرَضَّوْا
فِي الْكَرْخِ عَنِ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ، وَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا
عَجِيبٌ جِدًّا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّقِيَّةِ.
وَرَخُصَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ جَدًّا. وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِرَاقِ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ، أَبُو الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْقَزْوِينِيِّ، وُلِدَ فِي مُسْتَهَلِّ الْمُحَرَّمِ فِي سَنَةِ
سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي تُوَفِّيَ فِيهَا أَبُو
بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ، وَسَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ شَاذَانَ وَأَبَا حَفْصِ بْنَ
الزَّيَّاتِ وَابْنَ حَيَّوَيْهِ، وَكَانَ وَافِرَ الْعَقْلِ، مِنْ كِبَارِ
عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، لَهُ كَرَامَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَكَانَ يُقْرِئُ
الْقُرْآنَ وَيَرْوِي الْحَدِيثَ، وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا لِلصَّلَاةِ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَغُلِّقَتْ بَغْدَادُ
يَوْمَئِذٍ، وَحَضَرَ النَّاسُ جِنَازَتَهُ وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، رَحِمَهُ
اللَّهُ.
عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ الثَّمَانِينِيُّ
النَّحْوِيُّ الضَّرِيرُ، شَارِحُ " اللَّمْعِ " كَانَ فِي غَايَةِ
الْعِلْمِ بِالنَّحْوِ، وَكَانَ يَأْتَجِرُ عَلَيْهِ. وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ
أَنَّهُ اشْتَغَلَ عَلَى ابْنِ جِنِّيٍّ وَشَرَحَ كَلَامَهُ، وَكَانَ مَاهِرًا فِي
صَنَاعَةِ النَّحْوِ، قَالَ: وهَذِهِ النِّسْبَةُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ نَوَاحِي
جَزِيرَةِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْجَبَلِ الْجُودِيِّ، يُقَالُ لَهَا: ثَمَانِينَ،
بِاسْمِ الثَّمَانِينَ
الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ فِي السَّفِينَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قِرْوَاشُ بْنُ مُقَلَّدٍ، أَبُو الْمَنِيعِ
صَاحِبُ الْمَوْصِلِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمَا، كَانَ مِنَ الْجَبَّارِينَ،
وَقَدْ كَاتَبَهُ الْحَاكِمُ صَاحِبُ مِصْرَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ،
فَاسْتَمَالَهُ إِلَيْهِ، فَخَطَبَ لَهُ بِبِلَادِهِ، ثُمَّ تَرَكَهُ، وَاعْتَذَرَ
إِلَى الْقَادِرِ فَعَذَرَهُ. وَقَدْ جَمَعَ هَذَا الْجَبَّارُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ
فِي النِّكَاحِ، فَلَامَتْهُ الْعَرَبُ، فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ نَعْمَلُهُ
مِمَّا هُوَ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ ؟! وَقَدْ نُكِبَ فِي أَيَّامِ الْمُعِزِّ
الْفَاطِمِيِّ، وَنُهِبَتْ حَوَاصِلُهُ، وَحِينَ تُوُفِّيَ قَامَ بِالْأَمْرِ
بَعْدَهُ ابْنُ أَخِيهِ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ بْنِ مُقَلَّدٍ.
مَوْدُودُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ
صَاحِبُ غَزْنَةَ، تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ بِالْأَمْرِ مِنْ
بَعْدِهِ عَمُّهُ عَبْدُ الرَّشِيدِ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي صَفَرٍ مِنْهَا وَقَعَ الْحَرْبُ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالسُّنَّةِ، فَقُتِلَ
مِنَ الْفَرِيقَيْنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّوَافِضَ نَصَبُوا
أَبْرَاجًا، وَكَتَبُوا عَلَيْهَا بِالذَّهَبِ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ خَيْرُ
الْبَشَرِ، فَمَنْ رَضِيَ فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ أَبَى فَقَدْ كَفَرَ.
فَأَنْكَرَتِ السُّنَّةُ اقْتِرَانَ عَلَيٍّ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا، فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ
الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ إِلَى رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقُتِلَ رَجُلٌ هَاشِمِيٌّ،
فَدُفِنَ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَرَجَعَ السُّنَّةُ مِنْ دَفْنِهِ،
فَنَهَبُوا مَشْهَدَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَأَحْرَقُوهُ، وَأَحْرَقُوا ضَرِيحَ
مُوسَى وَمُحَمَّدٍ الْجَوَادِ، وَقُبُورَ مُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ مَنْ هُنَاكَ
مِنَ الْوُزَرَاءِ، وَأُحْرِقَ قَبْرُ جَعْفَرِ بْنِ الْمَنْصُورِ، وَمُحَمَّدٍ
الْأَمِينِ، وَأُمِّهِ زُبَيْدَةَ، وَقُبُورٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَانْتَشَرَتِ
الْفِتْنَةُ وَتَجَاوَزَتِ الْحَدَّ، وَقَدْ قَابَلَهُمْ أُولَئِكَ أَيْضًا
بِمَفَاسِدَ كَثِيرَةٍ، فَأَحْرَقُوا مَحَالَّ كَثِيرَةً، وَبَعْثَرُوا قُبُورًا
قَدِيمَةً، وَأَحْرَقُوا مَنْ فِيهَا مِنَ الصَّالِحِينَ، حَتَّى هَمُّوا بِقَبْرِ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ، فَمَنَعَهُمُ النَّقِيبُ، وَخَافَ مِنْ غَائِلَةِ ذَلِكَ،
وَتَسَلَّطَ عَلَى الرَّافِضَةِ عَيَّارٌ يُقَالُ لَهُ: الطَّقَيطِقِيُّ، وَكَانَ
يَتَتَبَّعُ رُءُوسَهُمْ وَكِبَارَهُمْ فَيَقْتُلُهُمْ جِهَارًا غِيلَةً،
وَعَظُمَتِ الْمِحْنَةُ بِسَبَبِهِ جِدًّا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ
وَكَانَ فِي غَايَةِ الشَّجَاعَةِ وَالْبَأْسِ وَالْمَكْرِ، وَلَمَّا بَلَغَ
ذَلِكَ دُبَيْسَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَكَانَ رَافِضِيًّا،
قَطَعَ خُطْبَةَ الْخَلِيفَةِ
الْقَائِمِ بِاللَّهِ، ثُمَّ رُوسِلَ فَأَعَادَهَا.
وَفِي رَمَضَانَ جَاءَتِ الْهَدَايَا مِنَ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ شُكْرًا لَهُ عَلَى إِنْعَامِهِ إِلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ
بِمَا كَانَ بَعَثَهُ لَهُ مِنَ الْخِلَعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَرْسَلَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِلَى الْحَاشِيَةِ بِخَمْسَةِ
آلَافٍ، وَإِلَى رَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ بِأَلْفَيْ دِينَارٍ، وَقَدْ كَانَ
طُغْرُلْبَكُ حِينَ عَمَّرَ الرَّيَّ وَخَرَّبَ فِيهَا أَمَاكِنَ لِيُصْلِحَهَا
وَجَدَ فِيهَا دَفَائِنَ كَثِيرَةً مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوْهَرِ، فَعَظُمَ
شَأْنُهُ بِذَلِكَ، وَقَوِيَ مُلْكُهُ بِسَبَبِهِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، أَبُو الْحَسَنِ الشَّاعِرُ
الْبَصْرَوِيُّ
نِسْبَةً إِلَى قَرْيَةٍ دُونَ عُكْبَرَا يُقَالُ لَهَا: بُصْرَى، بِاسْمِ
الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ أُمُّ حَوْرَانَ، وَقَدْ سَكَنَ بَغْدَادَ وَكَانَ
مُتَكَلِّمًا مَطْبُوعًا، لَهُ نَوَادِرُ، وَمِنْ شِعْرِهِ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ
الْخَطِيبُ:
تَرَى الدُّنْيَا وَزَهْرَتَهَا فَتَصْبُو وَمَا يَخْلُو مِنَ الشَّهَوَاتِ قَلْبُ
فُضُولُ الْعَيْشِ أَكْثَرُهَا هُمُومٌ
وَأَكْثَرُ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ فَلَا يَغْرُرْكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ
وَعَيْشٌ لَيِّنُ الْأَعْطَافِ رَطْبُ إِذَا مَا بُلْغَةٌ جَاءَتْكَ عَفْوًا
فَخُذْهَا فَالْغِنَى مَرْعَى وَشُرْبُ إِذَا اتَّفَقَ الْقَلِيلُ وَفِيهِ سِلْمٌ
فَلَا تُرِدِ الْكَثِيرَ وَفِيهِ حَرْبُ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كُتِبَتْ مَحَاضِرُ بِذِكْرِ الْخُلَفَاءِ الْمِصْرِيِّينَ، وَأَنَّهُمْ
أَدْعِيَاءُ لَا نَسَبَ لَهُمْ صَحِيحًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَتَبَ فِيهَا الْقُضَاةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْأَشْرَافُ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلَازِلُ عَظِيمَةٌ بِنُوَاحِي أَرَّجَانَ وَالْأَهْوَازِ
وَتِلْكَ الْبِلَادِ، تَهَدَّمَ بِسَبَبِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْعُمْرَانِ
وَالدُّورِ وَشُرُفَاتِ الْقُصُورِ، وَحَكَى بَعْضُ مَنْ يُعْتَمَدُ قَوْلُهُ
أَنَّهُ انْفَرَجَ إِيوَانُهُ وَهُوَ يُشَاهِدُ ذَلِكَ، حَتَّى رَأَى السَّمَاءَ
مِنْهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى حَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْهَا تَجَدَّدَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الرَّوَافِضِ
وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَحْرَقُوا أَمَاكِنَ كَثِيرَةً، وَقُتِلَ مِنَ
الْفَرِيقَيْنِ خَلَائِقُ، وَكَتَبُوا عَلَى مَسَاجِدِهِمْ: مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ
خَيْرُ الْبَشَرِ. وَأَذَّنُوا بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَاسْتَمَرَّتِ
الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَتَسَلَّطَ الطَّقَيطِقِيُّ الْعَيَّارُ عَلَى
الرَّوَافِضِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَقِرَّ لَهُمْ مَعَهُ قَرَارٌ، وَهَذَا مِنْ
جُمْلَةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ وَهْبِ
بْنِ شُبَيْلِ بْنِ فَرْوَةَ
بْنِ وَاقِدٍ، أَبُو عَلِيٍّ
التَّمِيمِيُّ
الْوَاعِظُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمُذْهِبِ، وُلِدَ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ
وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ " مُسْنَدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " مِنْ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ
مَاسِيٍّ وَابْنِ شَاهِينَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَخَلْقٍ، وَكَانَ دَيِّنًا
خَيِّرًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطِيبُ أَنَّهُ كَانَ صَحِيحَ السَّمَاعِ لِ "
مُسْنَدِ أَحْمَدَ " مِنَ الْقَطِيعِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ أَلْحَقَ اسْمَهُ
فِي أَجْزَاءٍ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَلَيْسَ هَذَا بِقَدْحٍ ; لِأَنَّهُ
إِذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُهُ جَازَ أَنْ يُلْحِقَ اسْمَهُ الَّذِي غَفَلَ عَنْهُ
الْكَاتِبُ، وَالْعَجَبُ أَنْ يُجَازَ قَوْلُ الشَّيْخِ: أَخْبَرَنِي فُلَانٌ،
وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ إِلْحَاقُهُ اسْمَهُ فِيمَا تَحَقَّقَ سَمَاعُهُ لَهُ.
وَقَدْ عَابَ عَلَيْهِ الْخَطِيبُ أَشْيَاءَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا.
عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمَعْرُوفُ
بَالشَّبَّاشِ
الْبَغْدَادِيُّ، وَقَدْ أَقَامَ بِالْبَصْرَةِ فَاسْتَحْوَذَ هُوَ وَعَمُّهُ
عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا، وَعَمِلَ أَشْيَاءَ مِنَ الْحِيَلِ يُوهِمُ بِهَا
أَنَّهُ مِنْ ذَوِي الْأَحْوَالِ وَالْمُكَاشَفَاتِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَاذِبٌ
فَاجِرٌ، قَبَّحَهُ اللَّهُ وَقَبَّحَ عَمَّهُ، وَقَدْ كَانَ مَعَ هَذَا
رَافِضِيًّا خَبِيثًا قِرْمِطِيًّا، لَا كَثَّرَ اللَّهُ مِنْ أَمْثَالِهِ فِي
الْعَالَمِينَ. كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذَا الْعَامِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالشُّكْرُ عَلَى الْإِنْعَامِ.
الْقَاضِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ
السِّمْنَانِيُّ
الْقَاضِي
أَحَدُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى طَرِيقَةِ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ
الْأَشْعَرِيِّ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ،
كَانَ عَالِمًا فَاضِلًا سَخِيًّا، تَوَلَّى الْقَضَاءَ بِالْمَوْصِلِ، وَكَانَ
لَهُ فِي دَارِهِ مَجْلِسٌ لِلْمُنَاظَرَةِ، وَتُوُفِّيَ بَعْدَ مَا كُفَّ
بَصَرُهُ بِالْمَوْصِلِ، وَهُوَ قَاضِيهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ، وَقَدْ بَلَغَ خَمْسًا وَثَمَانِينَ سَنَةً.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا تَجَدَّدَ الشَّرُّ وَالْقِتَالُ وَالْحَرِيقُ بَيْنَ الرَّوَافِضِ
وَالسُّنَّةِ، وَقَوِيَ، وَتَفَاقَمَ الْحَالُ.
وَوَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ الْغُزَّ عَلَى قَصْدِ الْعِرَاقِ.
وَفِيهَا نُقِلَ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ
الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ بِكَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْأُمُورِ
الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمَلِكُ، فَأَمَرَ بِلَعْنِهِ، وَصَرَّحَ أَهْلُ
نَيْسَابُورَ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، فَضَجَّ أَبُو الْقَاسِمِ
الْقُشَيْرِيُّ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ، وَصَنَّفَ رِسَالَةً سَمَّاهَا
" شِكَايَةَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْمِحْنَةِ "،
وَاسْتَدْعَى السُّلْطَانُ جَمَاعَةً مِنْ رُءُوسِ الْأَشَاعِرَةِ، مِنْهُمُ
الْقُشَيْرِيُّ، فَسَأَلَهُمْ عَمَّا أُنْهِي إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَأَنْكَرُوا
أَنْ يَكُونَ الْأَشْعَرِيُّ قَالَ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَحْنُ إِنَّمَا لَعَنَّا
مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ. وَجَرَتْ فِتَنٌ طَوِيلَةٌ.
وَفِيهَا اسْتَوْلَى فُولَاسْتُونُ أَبُو مَنْصُورِ بْنُ الْمَلِكِ أَبِي
كَالِيجَارَ عَلَى شِيرَازَ وَخَرَجَ مِنْهَا أَخُوهُ أَبُو سَعْدٍ.
وَفِي شَوَّالٍ سَارَ الْبَسَاسِيرِيُّ
إِلَى أَكْرَادٍ وَأَعْرَابٍ أَفْسَدُوا بِالْبَوَازِيجِ، فَهَزَمَهُمْ، وَأَخَذَ
أَمْوَالَهُمْ. وَلَمْ يَحُجَّ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ رَوْحٍ، أَبُو الْحُسَيْنِ النَّهْرَوَانِيُّ، كَانَ
يَنْظُرُ فِي الْعِيَارِ بِدَارِ الضَّرْبِ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ. قَالَ: كُنْتُ
يَوْمًا عَلَى شَطِّ النَّهْرَوَانِ فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَتَغَنَّى فِي سَفِينَةٍ
مُنْحَدِرَةٍ:
وَمَا طَلَبُوا سِوَى قَتْلِي فَهَانَ عَلَيَّ مَا طَلَبُوا
فَاسْتَوْقَفْتُهُ وَقُلْتُ: أَضِفْ إِلَيْهِ أَيْضًا:
عَلَى قَتْلِي الْأَحِبَّةُ بَالتَّمَ ادِي فِي الْجَفَا غَلَبُوا
وَبِالْهُجْرَانِ طِيبُ النَّوْ مِ مِنْ عَيْنَيَّ قَدْ سَلَبُوا
وَمَا طَلَبُوا سِوَى قَتْلِي فَهَانَ عَلَيَّ مَا طَلَبُوا
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَنْجَوَيْهِ،
أَبُو سَعْدٍ الرَّازِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالسَّمَّانِ، شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ، سَمِعَ الْحَدِيثَ
الْكَثِيرَ، وَكَتَبَ عَنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ شَيْخٍ، وَكَانَ عَالِمًا بَارِعًا
فَاضِلًا مَعَ اعْتِزَالِهِ، وَمِنْ كَلَامِهِ: مَنْ لَمْ يَكْتُبِ الْحَدِيثَ
لَمْ يَتَغَرْغَرْ بِحَلَاوَةِ الْإِسْلَامِ. وَكَانَ حَنَفِيَّ الْمَذْهَبِ،
عَالِمًا بِالْخِلَافِ وَالْفَرَائِضِ
وَالْحِسَابِ وَأَسْمَاءِ الرِّجَالِ،
وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " تَارِيخِهِ " فَأَطْنَبَ فِي
شُكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ.
عُمَرُ بْنُ الشَّيْخِ أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَطِيَّةَ، سَمِعَ أَبَاهُ وَابْنَ شَاهِينَ، وَكَانَ صَدُوقًا، يُكَنَّى بِأَبِي
حَفْصٍ.
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْفَرَجِ بْنِ الْأَزْهَرِ، أَبُو
طَالِبٍ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّوَادِيِّ، وَهُوَ أَخُو أَبِي الْقَاسِمِ
الْأَزْهَرِيِّ، تُوُفِّيَ عَنْ نَيِّفٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً.
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي تَمَّامٍ، أَبُو تَمَّامٍ الزَّيْنَبِيُّ
نَقِيبُ النُّقَبَاءِ، قَامَ ابْنُهُ مَكَانَهُ فِي النِّقَابَةِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ بِلَادَ الرُّومِ بَعْدَ أَخْذِهِ بِلَادِ
أَذْرَبِيجَانَ فَغَنِمَ مِنْ بِلَادِ الرُّومِ وَسَبَى، وَعَمِلَ أَشْيَاءَ
حَسَنَةً، ثُمَّ عَادَ سَالِمًا إِلَى أَذْرَبِيجَانَ فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً.
وَفِيهَا أَخَذَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ الْأَنْبَارَ وَخَطَبَ بِهَا
وَبِالْمَوْصِلِ لِلسُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ وَأَخْرَجَ مِنْهَا نُوَّابَ
الْبَسَاسِيرِيِّ.
وَفِيهَا دَخَلَ أَبُو الْحَارِثِ الْمُظَفَّرُ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى بَغْدَادَ
مَعَ بَنِي خَفَاجَةَ مُنْصَرَفَهُ مِنَ الْوَقْعَةِ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ آثَارُ
النَّفْرَةِ لِلْخِلَافَةِ، فَرَاسَلَهُ الْخَلِيفَةُ لِتَطِيبَ نَفْسُهُ،
وَخَرَجَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَى الْأَنْبَارِ فَأَخَذَهَا، وَكَانَ مَعَهُ
دُبَيْسُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مَزْيَدٍ، وَخَرَّبَ أَمَاكِنَ، وَحَرَّقَ غَيْرَهَا،
ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِي الدُّخُولِ إِلَى بَيْتِ النُّوبَةِ لِيَخْلَعَ عَلَيْهِ،
فَجَاءَ إِلَى أَنْ حَاذَى بَيْتَ النُّوبَةِ فَخَدَمَ وَانْصَرَفَ وَلَمْ
يَعْبُرْ، فَقَوِيَتِ الْوَحْشَةُ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ دَاوُدَ، أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ
السَّلَمَاسِيُّ، سَمِعَ ابْنَ
شَاهِينَ وَابْنَ حَيَّوَيْهِ وَالدَّارَقُطْنِيَّ، وَكَانَ ثِقَةً أَمِينًا،
مَشْهُورًا بِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ، وَفِعْلِ الْخَيْرِ، وَافْتِقَادِ
الْفُقَرَاءِ وَكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ قَدْ أُرِيدَ عَلَى الشَّهَادَةِ،
فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ. فِي كُلِّ شَهْرٍ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ نَفَقَةً لِأَهْلِهِ.
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْأَصْبَهَانِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِابْنِ اللَّبَّانِ، أَحَدُ تَلَامِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَلِيَ قَضَاءَ إِيذَجَ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ
التَّرَاوِيحَ، ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَهُمْ إِلَى الْفَجْرِ، فَرُبَّمَا انْقَضَى
الشَّهْرُ عَنْهُ، وَلَمْ يَضْطَجِعْ إِلَى الْأَرْضِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا مَلَكَ طُغْرُلْبَكَ بَغْدَادَ وَهُوَ أَوَّلُ مُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ
لِبِلَادِ الْعِرَاقِ وَآخَرُ مُلْكِ بَنِي بُوَيْهِ.
وَفِيهَا تَأَكَّدَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَبَيْنَ الْخَلِيفَةِ،
وَاشْتَكَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْهُ، وَأَطْلَقَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ عِبَارَتَهُ
فِيهِ، وَذَكَرَ قَبِيحَ أَفْعَالِهِ، وَأَنَّهُ كَاتَبَ الْمِصْرِيِّينَ
بِالطَّاعَةِ، وَخَلَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْعَةِ الْعَبَّاسِيِّينَ،
وَقَالَ الْخَلِيفَةُ: وَلَيْسَ إِلَّا إِهْلَاكُهُ.
وَفِيهَا غَلَتِ الْأَسْعَارُ بِنُوَاحِي الْأَهْوَازِ، حَتَّى بِيعَ الْكُرُّ فِي
مَدِينَةِ شِيرَازَ بِأَلْفِ دِينَارٍ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّافِضَةِ عَلَى
الْعَادَةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا مُسْتَمِرًّا، وَلَا تَمَكَّنَ
الدَّوْلَةُ أَنْ يَحْجِزُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ.
وَفِيهَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَكَانَ
جَانِبُ الْحَنَابِلَةِ قَوِيًّا بِحَيْثُ إِنَّهُ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ
مِنَ الْأَشَاعِرَةِ شُهُودَ الْجَمَاعَاتِ. قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
فِي " الْمُنْتَظَمِ ".
قَالَ الْخَطِيبُ: كَانَ أَرْسَلَانُ التُّرْكِيُّ الْمَعْرُوفُ
بِالْبَسَاسِيرِيِّ قَدْ عَظُمَ أَمْرُهُ وَاسْتَفْحَلَ ; لِعَدَمِ أَقْرَانِهِ
مِنْ مُتَقَدِّمِي الْأَتْرَاكِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ وَطَارَ اسْمُهُ
وَتَهَيَّبَتْهُ أُمَرَاءُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى كَثِيرٍ
مِنَ الْمَنَابِرِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْأَهْوَازِ وَنَوَاحِيهَا، وَلَمْ يَكُنِ
الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، ثُمَّ صَحَّ
عِنْدَ الْخَلِيفَةِ سُوءُ عَقِيدَتِهِ، وَشَهِدَ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ
الْأَتْرَاكِ عَرَّفَهُمْ وَهُوَ بِوَاسِطٍ عَزْمَهُ عَلَى نَهْبِ دَارِ
الْخِلَافَةِ وَالْقَبْضِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، فَكَاتَبَ الْخَلِيفَةُ أَبَا
طَالِبٍ مُحَمَّدَ بْنَ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ الْمُلَقَّبَ طُغْرُلْبَكَ
يَسْتَنْهِضُهُ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَانْفَضَّ أَكْثَرُ مَنْ
كَانَ مَعَ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَعَادُوا إِلَى بَغْدَادَ سَرِيعًا، ثُمَّ أَجْمَعَ
رَأْيُهُمْ عَلَى قَصْدِ دَارِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَهِيَ فِي الْجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ فَأَحْرَقُوهَا، وَهَدَمُوا أَبْنِيَتَهَا.
وَوَصَلَ طُغْرُلْبَكُ إِلَى بَغْدَادَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ سَبْعٍ
وَأَرْبَعِينَ، وَقَدْ تَلَقَّاهُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ الْأُمَرَاءُ
وَالْوُزَرَاءُ وَالْحُجَّابُ، وَدَخَلَ بَغْدَادَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ
جِدًّا، وَخُطِبَ لَهُ بِهَا، ثُمَّ بَعْدَهُ لِلْمَلِكِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ
قُطِعَتْ خُطْبَةُ الْمَلِكِ الرَّحِيمِ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَرُفِعَ
إِلَى الْقَلْعَةِ مُعْتَقَلًا، وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ بَنِي بُوَيْهِ، وَكَانَتْ
مُدَّةُ وِلَايَتِهِ لِبَغْدَادَ سِتَّ سِنِينَ وَعَشَرَةَ أَيَّامٍ،
وَطُغْرُلْبَكُ أَوَّلُ مُلُوكِ السَّلْجُوقِيَّةِ، وَنَزَلَ طُغْرُلْبَكُ دَارَ
الْمَمْلَكَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عِمَارَتِهَا، وَنَزَلَ أَصْحَابُهُ دُورَ
الْأَتْرَاكِ، وَكَانَ مَعَهُ ثَمَانِيَةُ أَفْيِلَةٍ، وَوَقَعَتِ الْفِتْنَةُ
بَيْنَ الْأَتْرَاكِ وَالْعَامَّةِ، وَنُهِبَ الْجَانِبُ الشَّرْقِيُّ
بِكَمَالِهِ، وَجَرَتْ خُطُوبٌ
وَخَبْطَةٌ عَظِيمَةٌ. وَأَمَّا الْبَسَاسِيرِيُّ فَإِنَّهُ فَرَّ مِنَ
الْخَلِيفَةِ إِلَى نَاحِيَةِ بِلَادِ الرَّحْبَةِ، وَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِ مِصْرَ
بِأَنَّهُ عَلَى إِقَامَةِ الدَّعْوَةِ لَهُ بِالْعِرَاقِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ
بِوِلَايَةِ الرَّحْبَةِ وَنِيَابَتِهِ بِهَا ; لِيَكُونَ عَلَى أُهْبَةِ
التَّمَكُّنِ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُحَاوِلُهُ، قَبَّحَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ عَاشِرِ ذِي الْقَعْدَةِ قُلِّدَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّامَغَانِيُّ قَضَاءَ الْقُضَاةِ، وَخُلِعَ عَلَيْهِ
بِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
مَاكُولَا، ثُمَّ خُلِعَ عَلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ بَعْدَ دُخُولِهِ بَغْدَادَ
بِيَوْمٍ، وَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ تُوُفِّيَ ذَخِيرَةُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ
بْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَهُوَ وَلِيُّ عَهْدِ
أَبِيهِ، فَعَظُمَتِ الرَّزِيَّةُ بِهِ، وَجَلَسَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ
لِلْعَزَاءِ، وَجَاءَ النَّاسُ، وَقَدْ أُمِرُوا بِتَخْرِيقِ ثِيَابِهِمْ وَنَشْرِ
عَمَائِمِهِمْ وَالتَّحَفِّي، وَقُطِعَتِ الدَّبَادِبُ أَيَّامَ الْعَزَاءِ
بِدَارِ الْخِلَافَةِ وَدَارِ الْمُلْكِ حُزْنًا عَلَى وَلِيِّ عَهْدِ
الْخِلَافَةِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَوْلَى أَبُو كَامِلٍ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ
الصُّلَيْحِيُّ الْهَمْدَانِيُّ عَلَى أَكْثَرِ أَعْمَالِ الْيَمَنِ، وَخَطَبَ
فِيهَا لِلْفَاطِمِيِّينَ، وَقَطَعَ خُطْبَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ.
وَفِيهَا كَثُرَ فَسَادُ الْغُزِّ وَنَهْبُهُمْ، فَثَاوَرَهُمُ الْعَوَامُّ
وَاقْتَتَلُوا، وَنَهَبُوا الْعَامَّةَ حَتَّى أُبِيعَ الثَّوْرَ بِخَمْسَةِ
قَرَارِيطَ، وَالْحِمَارُ بِقِيرَاطَيْنِ إِلَى خَمْسَةِ قَرَارِيطَ.
وَفِيهَا اشْتَدَّ الْغَلَاءُ
بِمَكَّةَ، وَعُدِمَتِ الْأَقْوَاتُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَرَادًا
مِلْءَ الْأَرْضِ، فَتَعَوَّضُوا بِهِ عَنِ الطَّعَامِ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ عَلَّكَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
دُلَفَ بْنِ أَبِي دُلَفَ الْعِجْلِيُّ
قَاضِي الْقُضَاةِ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مَاكُولَا
الشَّافِعِيُّ، أَصْلُهُ مِنْ أَهْلِ جَرْبَاذَقَانَ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ
بِالْبَصْرَةِ، ثُمَّ وَلَّاهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ قَضَاءَ الْقُضَاةِ
بِبَغْدَادَ سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، وَأَقَرَّهُ ابْنُهُ الْقَائِمُ
بِأَمْرِ اللَّهِ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً،
مِنْهَا فِي الْقَضَاءِ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَكَانَ صِيِّنَا دَيِّنًا،
لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ هَدِيَّةً وَلَا مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ يُذْكَرُ
أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ،
فَمِنْهُ:
تَصَابَى بُرْهَةً مِنْ بَعْدِ شَيْبٍ فَمَا أَغْنَى مَعَ الشَّيْبِ التَّصَابِي
وَسَوَّدَ عَارِضَيْهِ بِلَوْنِ خَضْبٍ
فَلَمْ يَنْفَعْهُ تَسْوِيدُ الْخِضَابِ وَأَبْدَى لِلْأَحِبَّةِ كُلَّ لُطْفٍ
فَمَا زَادُوا سِوَى فَرْطِ اجْتِنَابِ سَلَامُ اللَّهِ عَوْدًا بَعْدَ بِدْءٍ
عَلَى أَيَّامِ رَيَعَانِ الشَّبَابِ
تَوَلَّى غَيْرَ مَذْمُومٍ وَأَبْقَى
بِقَلْبِي حَسْرَةً تَحْتَ الْحِجَابِ
عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْفَهْمِ،
أَبُو الْقَاسِمِ التَّنُوخِيُّ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَتَنُوخُ اسْمٌ لِعِدَّةِ قَبَائِلَ اجْتَمَعُوا
بِالْبَحْرَيْنِ، وَتَحَالَفُوا عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّآزُرِ، فَسُمُّوا
تَنُوخًا.
وُلِدَ بِالْبَصْرَةِ سَنَةَ خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ سَنَةَ سَبْعِينَ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ الْحُكَّامِ فِي
حَدَاثَتِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِالْمَدَائِنِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ صَدُوقًا
مُحْتَاطًا، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ عُقِدَ عَقْدُ
الْخَلِيفَةِ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ أَخِي السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ وَقِيلَ:
ابْنَةُ أَخِيهِ دَاوُدَ، وَاسْمُهَا خَدِيجَةُ، الْمُلَقَّبَةُ أَرْسَلَانَ
خَاتُونَ، عَلَى صَدَاقِ مِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَحَضَرَ هَذَا الْعَقْدَ
عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ وَزِيرُ طُغْرُلْبَكَ، وَنَقِيبُ
الْعَلَوِيِّينَ، وَنَقِيبُ الْهَاشِمِيِّينَ، وَقَاضِي الْقُضَاةِ
الدَّامَغَانِيُّ، وَأَقْضَى الْقُضَاةِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَرَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ
ابْنُ الْمُسْلِمَةِ وَهُوَ الَّذِي خَطَبَ الْخُطْبَةَ، وَقَبِلَ الْخَلِيفَةُ
الْعَقْدَ، فَلَمَّا كَانَ شَعْبَانُ ذَهَبَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ إِلَى الْمَلِكِ
طُغْرُلْبَكَ وَقَالَ: يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا [ النِّسَاءِ: 58 ]. وَقَدْ أَذِنَ فِي نَقْلِ الْوَدِيعَةِ
الْكَرِيمَةِ إِلَى دَارِهِ الْعَزِيزَةِ. فَقَالَ: السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ.
فَذَهَبَتْ أُّمُّ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ لِاسْتِدْعَاءِ
الْعَرُوسِ، فَجَاءَتْ مَعَهَا، وَفِي خِدْمَتِهَا الْوَزِيرُ عَمِيدُ الْمُلْكِ
وَالْحَشَمُ، فَدَخَلُوا دَارَهُ، وَشَافَهَ الْخَلِيفَةَ ابْنُ عَمِّهَا يَسْأَلُ
مُعَامَلَتَهَا بِاللُّطْفِ وَالْإِحْسَانِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَبَّلَتِ
الْأَرْضُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِرَارًا، فَأَدْنَاهَا إِلَيْهِ، وَأَجْلَسَهَا إِلَى
جَانِبِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهَا خِلْعَةً سَنِيَّةً وَتَاجًا مِنْ جَوْهَرٍ،
وَأَعْطَاهَا مِنَ
الْغَدِ مِائَةَ ثَوْبٍ دِيبَاجًا،
وَقَصَبَاتٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَطَاسَةَ ذَهَبٍ قَدْ نَبَتَ فِيهَا الْجَوْهَرُ
وَالْيَاقُوتُ وَالْفَيْرُوزَجُ، وَأَقْطَعَهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ عَمَلِ
الْفُرَاتِ اثْنَيْ عَشْرَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ أَمَرَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ بِبِنَاءِ دَارِ
الْمُلْكِ الْعَضُدِيَّةِ، فَخَرِبَتْ مَحَالٌّ كَثِيرَةٌ فِي عِمَارَتِهَا،
وَنَهَبَتِ الْعَامَّةُ أَخْشَابًا كَثِيرَةً بِسَبَبِهَا مِنْ دُورِ الْأَتْرَاكِ
وَالْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَبَاعُوهُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَخَوْفٌ وَنَهْبٌ كَثِيرٌ
بِبَغْدَادَ، ثُمَّ عَقِبَ ذَلِكَ فَنَاءٌ عَظِيمٌ بِحَيْثُ دُفِنَ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ بِغَيْرِ غَسْلٍ وَلَا تَكْفِينٍ، وَغَلَتِ الْأَشْرِبَةُ وَمَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمَرْضَى كَثِيرًا، وَاغْبَرَّ الْجَوُّ، وَفَسَدَ
الْهَوَاءُ، وَكَثُرَ الذُّبَابُ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "
مُنْتَظَمِهِ ": وَعَمَّ هَذَا الْوَبَاءُ وَالْغَلَاءُ مَكَّةَ وَالْحِجَازَ
وَدِيَارَ بَكْرٍ وَالْمَوْصِلَ وَبِلَادَ الرُّومِ وَخُرَاسَانَ وَالْجِبَالَ
وَالدُّنْيَا كُلَّهَا. هَذَا لَفَظُهُ فِي " الْمُنْتَظَمِ ". قَالَ:
وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ مِصْرَ أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ اللُّصُوصِ نَقَبُوا بَعْضَ
الدُّورِ، فَوُجِدُوا عِنْدَ الصَّبَاحِ مَوْتَى ; أَحَدُهُمْ عَلَى بَابِ
النَّقْبِ، وَالثَّانِي عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثِّيَابِ
الْمُكَوَّرَةِ.
وَفِيهَا أَمَرَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ بِأَنْ تُنْصَبُ أَعْلَامٌ سُودٌ فِي
الْكَرْخِ، فَانْزَعَجَ أَهْلُهُ لِذَلِكَ، وَكَانَ كَثِيرَ الْأَذِيَّةِ
لِلرَّافِضَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُدَافِعُ عَنْهُمْ عَمِيدُ الْمُلْكِ
الْكُنْدُرِيُّ وَزِيرُ طُغْرُلْبَكَ.
وَفِيهَا هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، وَارْتَفَعَتْ سَحَابَةٌ تُرَابِيَّةٌ، فَأَظْلَمَتِ
الدُّنْيَا، وَاحْتَاجَ النَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ إِلَى السُّرُجِ فِي
النَّهَارِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " الْمُنْتَظَمِ " وَفِيهَا فِي الْعَشْرِ
الثَّانِي مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ ظَهَرَ وَقْتَ السَّحَرِ نَجْمٌ لَهُ
ذُؤَابَةٌ طُولُهَا فِي رَأْيِ الْعَيْنِ نَحْوٌ مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ، وَفِي
عَرْضِ نَحْوِ الذِّرَاعِ، وَلَبِثَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ إِلَى النِّصْفِ مِنْ
رَجَبٍ ثُمَّ اضْمَحَلَّ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُ طَلَعَ مِثْلُ هَذَا
بِمِصْرَ فَمُلِكَتْ. وَكَذَلِكَ بَغْدَادُ لَمَّا طَلَعَ فِيهَا هَذَا مُلِكَتْ
وَخُطِبَ بِهَا لِلْمِصْرِيِّينَ.
وَفِيهَا أُلْزِمَ الرَّوَافِضُ بِتَرْكِ الْأَذَانِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ
الْعَمَلِ، وَأُمِرُوا أَنْ يُنَادِيَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الصُّبْحِ بَعْدَ
الْحَيْعَلَتَيْنِ: الصَّلَاةُ خَيْرُ مِنَ النَّوْمِ، مَرَّتَيْنِ، وَأُزِيلَ مَا
كَانَ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِهِمْ وَمَشَاهِدِهِمْ وَأَبْوَابِهِمْ مِنْ
كِتَابَةِ: مُحَمَّدٌ وَعْلِيٌّ خَيْرُ الْبَشَرِ. وَدَخَلَ الْمُنْشِدُونَ مِنْ
بَابِ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكَرْخِ، فَأَنْشَدُوا بِفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ فِي
مَدَائِحَ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّوْءَ الْأَوَّلَ اضْمَحَلَّ ; كَانَتْ
بَنُو بُوَيْهِ تُقَوِّيهِمْ وَتَنْصُرُهُمْ، فَزَالُوا وَبَادُوا، وَأَذْهَبَ
اللَّهُ دَوْلَتَهُمْ، وَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ آخَرِينَ مِنَ الْأَتْرَاكِ
السَّلْجُوقِيَّةِ يُحِبُّونَ السُّنَّةَ وَيُوَالُونَ أَهْلَهَا، وَيَعْتَرِفُونَ
بِرِفْعَةِ قَدْرِهَا، وَيَرْفَعُونَ مَحَلَّهَا، وَاللَّهُ الْمَحْمُودُ أَبَدًا
عَلَى طُولِ الْمَدَى.
وَأَمَرَ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ وَزِيرَ الْخِلَافَةِ لِلْوَالِي بِقَتْلِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْجَلَّابِ شَيْخِ الْبَزَّازِينَ بِبَابِ الطَّاقِ ; لِمَا
كَانَ يَتَظَاهَرُ بِهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي الرَّفْضِ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ عَلَى
بَابِ دُكَّانِهِ، وَهَرَبَ أَبُو جَعْفَرٍ الطُّوسِيُّ وَنُهِبَتْ دَارُهُ،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا جَاءَ الْبَسَاسِيرِيُّ -
قَبَّحَهُ اللَّهُ - إِلَى الْمَوْصِلِ وَمَعَهُ نُورُ الدَّوْلَةِ دُبَيْسُ، فِي
جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَاقْتَتَلَ مَعَ صَاحِبِهَا قُرَيْشٍ وَنَصَرَهُ قُتُلْمِشُ
ابْنُ عَمِّ طُغْرُلْبَكَ وَهُوَ جَدُّ مُلُوكِ الرُّومِ، فَهَزَمَهُمَا
الْبَسَاسِيرِيُّ، وَأَخَذَ الْبَلَدَ قَهْرًا، فَخَطَبَ بِهَا لِلْمِصْرِيِّينَ
الْفَاطِمِيِّينَ، وَأَخْرَجَ كَاتِبَهُ مِنَ السِّجْنِ - وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ
الْإِسْلَامَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ، فَقُتِلَ
- وَكَذَلِكَ خُطِبَ لِلْمِصْرِيِّينَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِالْكُوفَةِ
وَوَاسِطٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْبِلَادِ، وَعَزَمَ طُغْرُلْبَكُ الْمَلِكُ عَلَى
الْمَسِيرِ إِلَى الْمَوْصِلِ لِمُنَاجَزَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَنَهَاهُ
الْخَلِيفَةُ عَنِ الْخُرُوجِ، ذَلِكَ لِضِيقِ الْحَالِ وَغَلَاءِ الْأَسْعَارِ،
فَلَمْ يَقْبَلْ، فَخَرَجَ بِجَيْشِهِ قَاصِدًا الْمَوْصِلَ فِي جَحْفَلٍ
عَظِيمَةٍ، وَمَعَهُ الْفِيَلَةُ وَالْمَنْجَنِيقَاتُ، وَكَانَ جَيْشُهُ
لِكَثْرَتِهِمْ يَنْهَبُونَ الْقُرَى، وَرُبَّمَا سَطَوْا عَلَى بَعْضِ
الْحَرِيمِ، فَكَتَبَ الْخَلِيفَةُ إِلَى السُّلْطَانِ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ،
فَبَعَثَ يَعْتَذِرُ بِكَثْرَةِ مَنْ مَعَهُ، وَاتَّفَقَ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،
فَأَعْرَضُ عَنْهُ، وَقَالَ لَهُ: يُحَكِّمُكَ اللَّهُ فِي الْبِلَادِ، ثُمَّ لَا
تَرْفُقُ بِخَلْقِهِ وَلَا تَخَافُ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟!
فَاسْتَيْقَظَ مَذْعُورًا، وَأَمَرَ وَزِيرَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْجَيْشِ
بِالْعَدْلِ، وَأَنْ لَا يَظْلِمَ أَحَدٌ أَحَدًا. وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنَ
الْمَوْصِلِ فَتَحَ دُونَهَا بِلَادًا، ثُمَّ فَتَحَهَا وَسَلَّمَهَا إِلَى
أَخِيهِ دَاوُدَ، ثُمَّ سَارَ مِنْهَا إِلَى بِلَادِ بَكْرٍ، فَفَتَحَ أَمَاكِنَ
كَثِيرَةً هُنَالِكَ.
وَفِيهَا ظَهَرَتْ دَوْلَةُ الْمُلَثَّمِينَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَأَظْهَرُوا
إِعْزَازَ الدِّينِ وَكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ
بِالْمَغْرِبِ، مِنْهَا سِجِلْمَاسَةُ وَأَعْمَالُهَا وَالسُّوسُ، وَقَتَلُوا
خَلْقًا كَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا، وَأَوَّلُ مُلُوكِ الْمُلَثَّمِينَ رَجُلٌ
يُقَالُ لَهُ: أَبُو بَكْرِ بْنُ عُمَرَ. وَقَدْ أَقَامَ بِسِجِلْمَاسَةُ إِلَى
أَنْ تُوَفِّيَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَوَلِيَ
بُعْدَهُ أَبُو نَصْرٍ يُوسُفُ بْنُ
تَاشِفِينَ وَتَلَقَّبَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَوِيَ أَمْرُهُ، وَعَلَا
قَدْرُهُ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ.
وَفِيهَا أُلْزِمَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِلُبْسِ الْغِيَارَ بِبَغْدَادَ عَنْ أَمْرِ
السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ، بَيَّضَ اللَّهُ وَجْهَهُ.
وَفِيهَا وُلِدَ لِذَخِيرَةِ الدِّينِ - بَعْدَ مَوْتِهِ، مِنْ جَارِيَةٍ لَهُ -
وَلَدٌ ذَكَرٌ، وَهُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ
اللَّهِ.
وَفِيهَا كَانَ الْغَلَاءُ وَالْفَنَاءُ مُسْتَمِرَّيْنِ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا
مِنَ الْبِلَادِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ سَلْكٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمُؤَدَّبُ
الْمَعْرُوفُ بِالْفَالِيِّ، صَاحِبُ " الْأَمَالِي "، وَفَالَةُ
قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ إِيذَجَ، أَقَامَ بِالْبَصْرَةِ مُدَّةً، وَسَمِعَ بِهَا
مِنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدِمَ
بَغْدَادَ فَاسْتَوْطَنَهَا، وَكَانَ ثِقَةً فِي نَفْسِهِ، كَثِيرَ الْفَضَائِلِ.
وَمِنْ شِعْرِهِ:
لَمَّا تَبَدَّلَتِ الْمَجَالِسُ
أَوْجُهًا غَيْرَ الَّذِينَ عَهِدْتُ مِنْ عُلَمَائِهَا
وَرَأَيْتُهَا مَحْفُوفَةً بِسِوَى الْأُولَى كَانُوا وُلَاةَ صُدُورِهَا
وَفَنَائِهَا
أَنْشَدْتُ بَيْتًا سَائِرًا مُتَقَدِّمًا وَالْعَيْنُ قَدْ شَرِقَتْ بِجَارِي
مَائِهَا
أَمَّا الْخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَرَى نِسَاءَ الْحَيِّ غَيْرَ نِسَائِهَا
وَمِنْ شَعْرِهِ أَيْضًا قَوْلُهُ:
تَصَدَّرَ لِلتَّدْرِيسِ كُلُّ مُهَوَّسٍ بَلِيدٍ تَسَمَّى بِالْفَقِيهِ
الْمُدَرِّسِ
فَحَقٌّ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَمَثَّلُوا بِبَيْتٍ قَدِيمٍ شَاعَ فِي كُلِّ
مَجْلِسِ
لَقَدْ هُزِلَتْ حَتَّى بَدَا مِنْ هُزَالِهَا كُلَاهَا وَحَتَّى سَامَهَا كُلُّ
مُفْلِسِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاغُ
الْفَقِيهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَاحِبِ " الشَّامِلِ "،
ذَاكَ مُتَأَخِّرٌ، وَهَذَا كَانَ مِنْ تَلَامِذَةِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَكَانَتْ لَهُ حَلْقَةٌ لِلْفَتْوَى بِجَامِعِ
الْمَدِينَةِ وَشَهِدَ عِنْدَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الدَّامَغَانِيِّ الْحَنَفِيِّ فَقَبِلَهُ، وَقَدْ سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنِ ابْنِ
شَاهِينَ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ ثِقَةً جَلِيلَ الْمِقْدَارِ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
هِلَالُ بْنُ الْمُحْسِنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هِلَالٍ
أَبُو الْخَيْرِ الْكَاتِبُ الصَّابِئُ، صَاحِبُ " التَّارِيخِ "،
وَجَدُّهُ أَبُو إِسْحَاقَ الصَّابِئُ صَاحِبُ الرَّسَائِلِ، وَأَبُوهُ كَانَ
صَابِئِيًا أَيْضًا، وَأَسْلَمَ هِلَالٌ هَذَا مُتَأَخِّرًا، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَقَدْ كَانَ سَمِعَ فِي حَالِ كَفْرِهِ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَشَايِخِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُ الْأَدَبَ، فَلَمَّا أَسْلَمْ نَفَعَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ سَبَبَ إِسْلَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي " مُنْتَظَمِهِ " بِسَنَدِهِ مُطَوَّلًا: أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ مِرَارًا يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَأْمُرُهُ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ رَجُلٌ عَاقِلٌ، فَلِمَ تَدَعُ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ. وَأَرَاهُ آيَاتٍ فِي الْمَنَامِ شَاهَدَهَا فِي الْيَقَظَةِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِنَّ امْرَأَتَكَ حَامِلٌ بِذَكَرٍ، فَسَمِّهِ مُحَمَّدًا، فَوَلَدَتْ ذَكَرًا، فَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا، وَكَنَّاهُ أَبَا الْحَسَنِ. وَفِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ سَرَدَهَا ابْنُ الْجَوْزِيِّ مُطَوَّلَةً، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وَكَانَ صَدُوقًا. تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَلَهُ تِسْعُونَ سَنَةً، فِي الْإِسْلَامِ نَيِّفٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً، تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِيهَا كَانَ الْغَلَاءُ وَالْفَنَاءُ مُسْتَمِرَّيْنِ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ بِحَيْثُ خَلَتْ أَكْثَرُ الدُّورِ وَسُدَّتْ عَلَى أَهْلِهَا أَبْوَابُهَا بِمَا فِيهَا، وَأَهْلُهَا فِيهَا مَوْتَى، وَصَارَ الْمَارُّ فِي الطَّرِيقِ لَا يَلْقَى إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ، وَأَكَلَ النَّاسُ الْجِيَفَ وَالْمِيَاتَ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ، وَوُجِدَ مَعَ امْرَأَةٍ فَخْذُ كَلْبٍ قَدِ اخْضَرَّ وَأَرْوَحَ، وَشَوَى رَجُلٌ صَبِيَّةً فِي الْأَتُونِ وَأَكَلَهَا فَقُتِلَ، وَسَقَطَ طَائِرٌ مَيِّتٌ مِنْ سَطْحٍ، فَاحْتَوَشَهُ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ، فَاقْتَسَمُوهُ وَأَكَلُوهُ. وَوَرَدَ كِتَابٌ مِنْ بُخَارَى أَنَّهُ مَاتَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ مُعَامَلَتِهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَأُحْصِيَ مَنْ مَاتَ فِي هَذَا الْوَبَاءِ إِلَى أَنْ كُتِبَ هَذَا الْكِتَابُ - يَعْنِي الْوَارِدَ مِنْ بُخَارَى - بِأَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةِ أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفَ إِنْسَانٍ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، فَلَا يَرَوْنَ إِلَّا أَسْوَاقًا فَارِغَةً وَطُرُقَاتٍ خَالِيَةً، وَأَبْوَابًا مُغْلَقَةً، حَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. قَالَ: وَجَاءَ الْخَبَرُ مِنْ أَذْرَبِيجَانَ وَتِلْكَ الْبِلَادِ بِالْوَبَاءِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ إِلَّا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ: وَوَقَعَ وَبَاءٌ بِالْأَهْوَازِ وَأَعْمَالِهَا وَبِوَاسِطٍ
وَالنِّيلِ وَالْكُوفَةِ وَطَبَّقَ
الْأَرْضَ، وَكَانَ أَكْثَرَ سَبَبِ ذَلِكَ الْجُوعُ، حَتَّى كَانَ الْفُقَرَاءُ
يَشْوُونَ الْكِلَابَ، وَيَنْبُشُونَ الْقُبُورَ، وَيَشْوُونَ الْمَوْتَى
وَيَأْكُلُونَهُمْ، وَلَيْسَ لِلنَّاسِ شُغْلٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا
غَسْلُ الْأَمْوَاتِ وَتَجْهِيزُهُمْ وَدَفْنُهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ تُحْفَرُ
الْحُفَيْرَةُ، فَيُدْفَنُ فِيهَا الْعِشْرُونَ وَالثَّلَاثُونَ، وَكَانَ
الْإِنْسَانُ يَكُونُ قَاعِدًا فَيَنْشَقُّ قَلْبُهُ عَنْ دَمِ الْمُهْجَةِ،
فَيَخْرُجُ إِلَى الْفَمِ مِنْهُ قَطْرَةٌ، فَيَمُوتُ الْإِنْسَانُ مِنْ وَقْتِهِ،
وَتَابَ النَّاسُ، وَتَصَدَّقُوا بِأَكْثَرِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَرَاقُوا
الْخُمُورَ وَكَسَرُوا الْمَعَازِفَ وَتَصَالَحُوا، وَلَزِمُوا الْمَسَاجِدَ
لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَقَلَّ دَارٌ يَكُونُ فِيهَا خَمْرٌ إِلَّا مَاتَ
أَهْلُهَا كُلُّهُمْ.
وَدُخِلَ عَلَى مَرِيضٍ لَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فِي النَّزْعِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ
إِلَى مَكَانٍ فَوَجَدُوا فِيهِ خَابِيَةً مِنْ خَمْرٍ، فَأَرَاقُوهَا فَمَاتَ
مِنْ فَوْرِهِ بِسُهُولَةٍ.
وَمَاتَ رَجُلٌ بِمَسْجِدٍ، فَوُجِدَ مَعَهُ خَمْسُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمْ
يَقْبَلْهَا أَحَدٌ، فَتُرِكَتْ فِي الْمَسْجِدِ تِسْعَةَ أَيَّامٍ لَا يُرِيدُهَا
أَحَدٌ، فَدَخَلَ أَرْبَعَةٌ فَأَخَذُوهَا، فَمَاتُوا عَلَيْهَا.
وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ يَشْتَغِلُ
عَلَيْهِ سَبْعُمِائَةِ مُتَفَقِّهٍ، فَمَاتَ وَمَاتُوا كُلُّهُمْ إِلَّا اثْنَىْ
عَشَرَ نَفَرًا مِنْهُمْ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَمَّا اصْطَلَحَ دُبَيْسُ بْنُ عَلِيٍّ مَعَ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ رَجَعَ
إِلَى بِلَادِهِ، فَوَجَدَهَا خَرَابًا لِقِلَّةِ أَهْلِهَا، فَأَرْسَلَ رَسُولًا
مِنْهُ إِلَى بَعْضِ النَّوَاحِي، فَتَلَقَّاهُ طَائِفَةٌ، فَقَتَلُوهُ
وَأَكَلُوهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي
يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ احْتَرَقَتْ
قَطِيعَةُ عِيسَى، وَسُوقُ الطَّعَامِ، وَالْكَنِيسُ، وَأَصْحَابُ السَّقْطِ،
وَبَابُ الشَّعِيرِ، وَسُوقُ الْعَطَّارِينَ، وَسُوقُ الْعَرُوسِ، وَالْأَنْمَاطِ،
وَالْخَشَّابِينَ، وَالْجَزَّارِينَ، وَالتَّمَّارِينَ، وَالْقَطِيعَةِ، وَسُوقُ
مُحَوَّلٍ، وَنَهْرُ الدَّجَاجِ، وَسُوَيْقَةُ غَالِبٍ وَالصَّفَّارِينَ
وَالصَّبَّاغِينَ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَهَذِهِ مُصِيبَةٌ أُخْرَى
مَا بِالنَّاسِ مِنَ الْغَلَاءِ وَالْفَنَاءِ.
وَفِيهَا كَثُرَ الْعَيَّارُونَ بِبَغْدَادَ، وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ جِهَارًا،
وَكَبَسُوا الدُّورَ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَكُبِسَتْ دَارُ أَبِي جَعْفَرٍ
الطُّوسِيِّ مُتَكَلِّمِ الشِّيعَةِ، وَأُحْرِقَتْ كُتُبُهُ وَمَنَابِرُهُ
وَدَفَاتِرُهُ الَّتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا فِي بِدْعَتِهِ، وَيَدْعُو إِلَيْهَا
أَهْلَ نِحْلَتِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَفِيهَا دَخَلَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ بَغْدَادَ عَائِدًا إِلَيْهَا مِنَ
الْمَوْصِلِ وَقَدْ تَسَلَّمَهَا وَاسْتَعَادَهَا مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ
وَسَلَّمَهَا إِلَى أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، فَأَحْسَنَ فِيهِمُ
السِّيرَةَ، وَحَسُنَتْ مِنْهُ الْعَلَانِيَةُ وَالسَّرِيرَةُ، فَلِلَّهِ
الْحَمْدُ، فَتَلَقَّاهُ الْأُمَرَاءُ وَالْوُزَرَاءُ إِلَى أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ،
وَأَحْضَرَ لَهُ رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ خِلْعَةً مِنَ الْخَلِيفَةِ فَرَجِيَّةً
مُجَوْهَرَةً فَلَبِسَهَا،
وَقَبَّلَ الْأَرْضَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ، وَقَدْ رَكِبَ إِلَيْهَا فَرَسًا مِنْ مَرَاكِبِ الْخَلِيفَةِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ إِذَا هُوَ عَلَى سَرِيرٍ طُولُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَعَلَى كَتِفَيْهِ الْبُرْدَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَبِيَدِهِ الْقَضِيبُ، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، ثُمَّ أُجْلِسَ عَلَى سَرِيرٍ دُونَ سَرِيرِ الْخَلِيفَةِ، ثُمَّ قَالَ الْخَلِيفَةُ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ: قُلْ لَهُ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حَامِدٌ لِسَعْيِكَ، شَاكِرٌ لِفِعْلِكَ، آنِسٌ بِقُرْبِكَ، وَقَدْ وَلَّاكَ جَمِيعَ مَا وَلَّاهُ اللَّهُ مِنْ بِلَادِهِ، فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا وَلَّاكَ، وَاجْتَهِدْ فِي عِمَارَةِ الْبِلَادِ، وَإِصْلَاحِ الْعِبَادِ، وَنَشْرِ الْعَدْلِ، وَكَفِّ الظُّلْمِ. فَفَسَّرَ لَهُ عَمِيدُ الدَّوْلَةِ مَا قَالَهُ، فَقَامَ وَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَقَالَ: أَنَا خَادِمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَبْدُهُ، وَمُتَصَرِّفٌ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَمُتَشَرِّفٌ بِمَا أَهَّلَنِي لَهُ، وَاسْتَخْدَمَنِي فِيهِ، وَمِنَ اللَّهِ أَسْتَمِدُّ الْمَعُونَةَ وَالتَّوْفِيقَ. ثُمَّ أَذِنَ الْخَلِيفَةُ فِي أَنْ يَنْهَضَ لِلُبْسِ الْخِلْعَةَ، فَقَامَ إِلَى بَيْتٍ فِي ذَلِكَ الْبَهْوِ، فَأُفِيضَ عَلَيْهِ سَبْعُ خِلَعٍ وَتَاجٌ، ثُمَّ عَادَ فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ بَعْدَ مَا قَبَّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ، وَرَامَ تَقْبِيلَ الْأَرْضِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ التَّاجِ، فَأَخْرَجَ الْخَلِيفَةُ سَيْفًا فَقَلَّدَهُ إِيَّاهُ وَخَاطَبَهُ بِمَلِكِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، وَأُحْضِرَتْ ثَلَاثَةُ أَلْوِيَةٍ، فَعَقَدَ مِنْهَا الْخَلِيفَةُ بِيَدِهِ لِوَاءً يُقَالُ لَهُ: لِوَاءُ الْحَمْدِ، وَأُحْضِرَ الْعَهْدُ فَسُلِّمَ إِلَى الْمَلِكِ، وَأَوْصَاهُ الْخَلِيفَةُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقِيَامِ بِالْحَقِّ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وَقُرِئَ بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، ثُمَّ نَهَضَ فَقَبَّلَ يَدَ الْخَلِيفَةِ، وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنَيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ فِي أُبَّهَةٍ عَظِيمَةٍ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْحِجَابُ وَالْجَيْشُ بِكَمَالِهِ، وَجَاءَ النَّاسُ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالتَّهْنِئَةِ، وَأَرْسَلَ إِلَى الْخَلِيفَةِ بِتُحَفٍ عَظِيمَةٍ ; مِنْهَا خَمْسُونَ أَلْفَ دِينَارٍ، وَخَمْسُونَ غُلَامًا أَتْرَاكًا بِمَرَاكِبِهِمْ
وَسِلَاحِهِمْ وَمَنَاطِقِهِمْ،
وَخَمْسُمِائَةِ ثَوْبٍ أَنْوَاعًا، وَأَعْطَى رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ خَمْسَةَ
آلَافِ دِينَارٍ، وَخَمْسِينَ قِطْعَةَ قُمَاشٍ.
وَفِيهَا قَبَضَ صَاحِبُ مِصْرَ عَلَى وَزِيرِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَازُورِيِّ، وَأَخَذَ خَطَّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَأُحِيطَ عَلَى ثَمَانِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا
الْوَزِيرُ فَقِيهًا حَنَفِيًّا، يُحْسِنُ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ
الْحَرَمَيْنِ، وَقَدْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ يُثْنِي
عَلَيْهِ وَيَمْدَحُهُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ
بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ بْنَ الْمُطَهِّرِ بْنِ زِيَادِ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَنْوَرَ بْنِ أَسْحَمَ بْنِ
أَرْقَمَ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
بَرِيحِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ تَيْمِ اللَّهِ بْنِ أَسَدِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ
بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ، أَبُو الْعَلَاءِ
الْمَعَرِّيُّ التَّنُوخِيُّ الشَّاعِرُ
الْمَشْهُورُ بِالزَّنْدَقَةِ، اللُّغَوِيُّ، صَاحِبُ الدَّوَاوِينِ
وَالْمُصَنَّفَاتِ فِي الشِّعْرِ وَاللُّغَةِ، وُلِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عِنْدَ
غُرُوبِ الشَّمْسِ لِثَلَاثٍ بَقِينَ
مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَصَابَهُ
جُدَرِيٌّ وَلَهُ أَرْبَعٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ، فَذَهَبَ بَصَرُهُ، وَقَالَ
الشِّعْرَ وَلَهُ إِحْدَى عَشْرَةَ أَوْ ثِنْتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَدَخَلَ
بَغْدَادَ سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَأَقَامَ بِهَا سَنَةً
وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا طَرِيدًا مُنْهَزِمًا ; لِأَنَّهُ
قَالَ شِعْرًا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ دِينِهِ وَعِلْمِهِ وَعَقْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
تَنَاقُضٌ مَا لَنَا إِلَّا السُّكُوتُ لَهُ وَأَنْ نَعُوذَ بِمَوْلَانَا مِنَ
النَّارِ يَدٌ بِخَمْسِ مِئِينَ عَسْجَدٍ فُدِيَتْ
مَا بَالَهَا قُطِعَتْ فِي رُبْعِ دِينَارِ
يَقُولُ: الْيَدُ دِيَتُهَا خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، فَمَا لَكُمْ تَقْطَعُونَهَا
إِذَا سَرَقَتْ رُبْعَ دِينَارٍ. وَهَذَا مِنْ قِلَّةِ عَقْلِهِ، وَعَمَى
بَصِيرَتِهِ ; وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا جُنِيَ عَلَيْهَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ
دِيَتُهَا كَثِيرَةً ; لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنِ الْعُدْوَانِ، وَأَمَّا إِذَا
جَنَتْ بِالسَّرِقَةِ فَيُنَاسِبُ أَنْ تَقِلَّ قِيمَتُهَا ; لِيُنْزَجَرَ عَنْ
أَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَتُصَانَ أَمْوَالُ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ:
كَانَتْ ثَمِينَةً لَمَّا كَانَتْ أَمِينَةً، فَلَمَّا خَانَتْ هَانَتْ. وَلَمَّا
عَزَمَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَخْذِهِ بِهَذَا الْكَلَامِ هَرَبَ وَرَجَعَ إِلَى
بَلَدِهِ، وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، فَكَانَ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ.
وَكَانَ يَوْمًا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ ; وَكَانَ الْخَلِيفَةُ يَكْرَهُ
الْمُتَنَبِّي، وَيَضَعُ مِنْهُ، وَكَانَ أَبُو الْعَلَاءِ يُحِبُّ الْمُتَنَبِّي
وَيَرْفَعُ مِنْ قَدْرِهِ وَيَمْدَحُهُ، فَجَرَى ذِكْرُ الْمُتَنَبِّي فِي ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ، فَذَمَّهُ الْخَلِيفَةُ، فَقَالَ أَبُو الْعَلَاءِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ
لِلْمُتَنَبِّي إِلَّا قَصِيدَتُهُ الَّتِي أَوَّلُهَا.
لَكِ يَا مَنَازِلُ فِي الْقُلُوبِ
مَنَازِلُ
لَكَفَاهُ ذَلِكَ. فَغَضِبَ الْخَلِيفَةُ، وَأَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ بِرِجْلِهِ
عَلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: أَخْرِجُوا عَنِّي هَذَا الْكَلْبَ. وَقَالَ
الْخَلِيفَةُ: أَتَدْرُونَ مَا أَرَادَ هَذَا الْكَلْبُ مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ،
وَذِكْرِهِ لَهَا ؟ أَرَادَ قَوْلَ الْمُتَنَبِّي فِيهَا:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ فَهْيَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنِّي كَامِلُ
وَإِلَّا فَالْمُتَنَبِّي لَهُ قَصَائِدُ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ، وَإِنَّمَا
أَرَادَ هَذَا. وَهَذَا مِنْ فَرْطِ ذَكَاءِ الْخَلِيفَةِ، حَيْثُ تَنَبَّهَ
لِهَذَا.
وَقَدْ كَانَ الْمَعَرِّيُّ أَيْضًا مِنَ الْأَذْكِيَاءِ، وَمَكَثَ الْمَعَرِّيُّ
خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمُرِهِ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا وَلَا لَبَنًا
وَلَا بَيْضًا وَلَا شَيْئًا مِنْ حَيَوَانٍ، عَلَى طَرِيقَةِ الْبَرَاهِمَةِ مِنَ
الْفَلَاسِفَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّ رَاهِبًا اجْتَمَعَ بِهِ فِي بَعْضِ
الصَّوَامِعِ ; آوَاهُ اللَّيْلُ إِلَيْهِ، فَشَكَّكَهُ فِي دِينِهِ. وَكَانَ
يَتَقَوَّتُ بِالنَّبَاتِ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ يَأْكُلُ الْعَدَسَ وَيَتَحَلَّى
بِالدِّبْسِ وَبِالتِّينِ، وَلَا يَأْكُلُ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ، وَيَقُولُ: أَكْلُ الْأَعْمَى
عَوْرَةٌ. وَكَانَ فِي غَايَةِ الذَّكَاءِ الْمُفْرِطِ عَلَى مَا ذُكِرَ. وَأَمَّا
مَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَكْذُوبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ
أَنَّهُ وُضِعَ تَحْتَ سَرِيرِهِ دِرْهَمٌ، فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ
السَّمَاءُ قَدِ انْخَفَضَتْ مِقْدَارَ دِرْهَمٍ أَوِ ارْتَفَعَتِ الْأَرْضُ
مِثْلَ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَهُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ
يَذْكُرُونَ أَنَّهُ مَرَّ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ بِمَكَانٍ فَطَأْطَأَ
رَأْسَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ،
فَقَالَ: أَمَا هَاهُنَا شَجَرَةٌ ! فَلَمْ يُوجَدْ، ثُمَّ نَظَرُوا فَإِذَا
أَصْلُ شَجَرَةٍ كَانَتْ هُنَاكَ قَدِيمًا قَدِ اجْتَازَ بِهَا مَرَّةً،
فَأَمَرَهُ مَنْ كَانَ مَعَهُ بِمُطَأْطَأَةِ رَأْسِهِ هُنَاكَ فَاسْتَحْضَرَهُ
فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحُّ وَهُوَ كَذِبٌ. وَكَذَلِكَ
مَا شَاكَلَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَلَكِنْ كَانَ ذَكِيًّا، وَلَمْ
يَكُنْ زَكِيًّا.
وَلَهُ مُصَنَّفَاتٌ كَثِيرَةٌ أَكْثَرُهَا فِي الشِّعْرِ، وَفِي بَعْضِ
أَشْعَارِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى زَنْدَقَةٍ وَانْحِلَالٍ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْتَذِرُ
عَنْهُ وَيَقُولُ: كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُسْلِمًا، وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ
بِلِسَانِهِ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمَا الَّذِي كَانَ يُلْجِئُهُ أَنْ يَقُولَ
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا يُكَفِّرُهُ بِهِ النَّاسُ ؟ قَالَ: وَالْمُنَافِقُونَ
مَعَ قِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ أَجْوَدُ سِيَاسَةً مِنْهُ ;
حَافَظُوا عَلَى قَبَائِحِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا أَظْهَرَ الْكُفْرَ
الَّذِي تَسَلَّطَ بِهِ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ
بَاطِنَهُ كَظَاهِرِهِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي
الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْفُصُولَ وَالْغَايَاتِ فِي
مُعَارَضَةِ السُّورِ وَالْآيَاتِ "، عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ فِي آخِرِ
كَلِمَاتِهِ، وَهُوَ فِي نِهَايَةِ الرَّكَاكَةِ وَالْبُرُودَةِ، فَسُبْحَانَ مَنْ
أَعْمَى بَصَرَهُ وَبَصِيرَتَهُ. قَالَ: وَقَدْ نَظَرْتُ فِي كِتَابِهِ
الْمُسَمَّى " لُزُومَ مَا لَا يَلْزَمُ ". ثُمَّ أَوْرَدَ ابْنُ
الْجَوْزِيِّ مِنْ أَشْعَارِهِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِهْتَارِهِ أَشْيَاءَ
كَثِيرَةً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا كَانَ لَا يَحْظَى بِرِزْقِكَ
عَاقِلٌ وَتَرْزُقُ مَجْنُونًا وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا
فَلَا ذَنْبَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ رَأَى مِنْكَ مَا لَا يَشْتَهِي
فَتَزَنْدَقَا
وَقَوْلُهُ:
وَهَيْهَاتَ الْبَرِيَّةَ فِي ضَلَالٍ وَقَدْ نَظَرَ اللَّبِيبُ لِمَا اعْتَرَاهَا
تَقَدَّمَ صَاحِبُ التَّوْرَاةِ مُوسَى وَأَوْقَعَ فِي الْخَسَارِ مَنِ
افْتَرَاهَا
فَقَالَ رِجَالُهُ وَحْيٌ أَتَاهُ وَقَالَ النَّاظِرُونَ بَلِ افْتَرَاهَا
وَمَا حَجِّي إِلَى أَحْجَارِ بَيْتٍ كُئُوسِ الْخَمْرِ تُشْرَبُ فِي ذَرَاهَا
إِذَا رَجَعَ الْحَلِيمُ إِلَى حِجَاهُ تَهَاوَنَ بِالْمَذَاهِبِ وَازْدَرَاهَا
وَقَوْلُهُ:
هَفَتِ الْحَنِيفَةُ وَالنَّصَارَى مَا اهْتَدَتْ وَيَهُودُ حَارَتْ وَالْمَجُوسُ
مُضَلَّلَهْ
اثْنَانِ أَهْلُ الْأَرْضِ ذُو عَقْلٍ بِلَا دِينٍ وَآخَرُ دَيِّنٌ لَا عَقْلَ
لَهْ
وَقَوْلُهُ:
فَلَا تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ حَقًّا وَلَكِنْ قَوْلُ زُورٍ سَطَّرُوهُ
فَكَانَ النَّاسُ فِي عَيْشٍ رَغِيدٍ
فَجَاءُوا بِالْمُحَالِ فَكَدَّرُوهُ
وَقُلْتُ أَنَا فِي مُعَارَضَةِ هَذَا:
فَلَا تَحْسَبْ مَقَالَ الرُّسْلِ كِذْبًا وَلَكِنْ قَوْلُ حَقٍّ بَلَّغُوهُ
وَكَانَ النَّاسُ فِي جَهْلٍ عَظِيمٍ فَجَاءُوا بِالْبَيَانِ فَأَذْهَبُوهُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
إِنَّ الشَّرَائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا إِحَنًا وَأَوْرَثَتْنَا أَفَانِينَ
الْعَدَاوَاتِ
وَهَلْ أُبِيحُ نِسَاءُ الرُّومِ عَنْ عُرُضٍ لِلْعُرْبِ إِلَّا بِأَحْكَامِ
النُّبُوَّاتِ
وَقَوْلُهُ:
وَمَا حَمْدِي لِآدَمَ أَوْ بَنِيهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ كُلَّهُمُ خَسِيسُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أَفِيقُوا أَفِيقُوا يَا غُوَاةُ فَإِنَّمَا دِيَانَاتُكُمْ مَكْرٌ مِنَ
الْقُدَمَاءِ
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْضًا:
صَرْفُ الزَّمَانِ مُفَرِّقُ
الْإِلْفَيْنِ فَاحْكُمْ إِلَهِي بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنِي
أَنْهَيْتَ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ تَعَمُّدًا وَبَعَثْتَ أَنْتَ لِقَبْضِهَا
مَلَكَيْنِ
وَزَعَمْتَ أَنَّ لَهَا مَعَادًا ثَانِيًا مَا كَانَ أَغْنَاهَا عَنِ الْحَالَيْنِ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
ضَحِكْنَا وَكَانَ الضِّحْكُ مِنَّا سَفَاهَةً وَحُقَّ لِسُكَّانِ الْبَسِيطَةِ
أَنْ يَبْكُوا
تُحَطِّمُنَا الْأَيَّامُ حَتَّى كَأَنَّنَا زُجَاجٌ وَلَكِنْ لَا يَعُودُ لَهُ
سَبْكُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
أُمُورٌ تَسْتَخِفُّ بِهَا حُلُومٌ وَمَا يَدْرِي الْفَتَى لِمَنِ الثُّبُورُ
كِتَابُ مُحَمَّدٍ وَكِتَابُ مُوسَى وَإِنْجِيلُ ابْنِ مَرْيَمَ وَالزَّبُورُ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
قَالَتْ مُعَاشِرُ لَمْ يَبْعَثْ إِلَهُكُمُ إِلَى الْبَرِيَّةِ عِيسَاهَا وَلَا
مُوسَا
وَإِنَّمَا جَعَلُوا الرَّحْمَنَ مَأْكَلَةً وَصَيَّرُوا دِينَهُمْ فِي النَّاسِ
نَامُوسًا
وَذُكِرَ لَهُ أَشْيَاءُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ مِنْ هَذِهِ تَدُلُّ
عَلَى كُفْرِهِ وَانْحِلَالِهِ وَزَنْدَقَتِهِ وَضَلَالِهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ
أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ:
هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ
مَعْنَاهُ أَنَّ أَبَاهُ بِتَزَوُّجِهِ لِأُمِّهِ أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ،
حَتَّى صَارَ بِسَبَبِ ذَلِكَ إِلَى
مَا إِلَيْهِ صَارَ، وَهُوَ لَمْ
يَجْنِ عَلَى أَحَدٍ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ،
قَبَّحَهُ اللَّهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ أَقْلَعَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ
وَتَابَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ قَالَ قَصِيدَةً يَعْتَذِرُ فِيهَا مِنْ هَذَا كُلِّهِ،
وَيَتَنَصَّلُ مِنْهُ، وَهِيَ الْقَصِيدَةُ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ
الْأَلْيَلِ
وَيَرَى مَنَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا وَالْمْخُّ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ
النُّحَّلِ
امْنُنْ عَلَيَّ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا مَا كَانَ مِنِّي فِي الزَّمَانِ
الْأَوَّلِ
وَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، عَنْ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً إِلَّا أَرْبَعَةَ
عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ رَثَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَلَامِذَتِهِ،
وَأُنْشِدَتْ عِنْدَ قَبْرِهِ ثَمَانُونَ مَرْثَاةً، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ فِي
مَرْثَاتِهِ:
إِنْ كُنْتَ لَمْ تُرِقِ الدِّمَاءَ زَهَاَدَةً فَلَقَدْ أَرَقْتَ الْيَوْمَ مِنْ
جَفْنِي دَمَا
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَهَؤُلَاءِ إِمَّا جُهَّالٌ بِأَمْرِهِ، وَإِمَّا
ضُلَّالٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَطَرِيقَتِهِ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُهُمْ فِي النَّوْمِ
رَجُلًا ضَرِيرًا عَلَى عَاتِقَيْهِ حَيَّتَانِ مُدَلَّيَتَانِ إِلَى صَدْرِهِ
رَافِعَتَانِ رُءُوسَهُمَا، وَهُمَا يَنْهَشَانِ مِنْ لَحْمِهِ، وَهُوَ
يَسْتَغِيثُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ: هَذَا الْمَعَرِّيُّ الْمُلْحِدُ. وَقَدْ
ذَكَرَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ فِي " الْوَفَيَاتِ " فَرَفَعَ فِي نَسَبِهِ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ مِنَ التَّصَانِيفِ كُتُبًا كَثِيرَةً،
وَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَ عَلَى الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ بَعْدَ
الْمِائَةِ مِنْ كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ " الْأَيْكِ وَالْغُصُونِ ".
وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِ "
الْهَمْزِ وَالرِّدْفِ "، وَأَنَّهُ أَخَذَ الْعَرَبِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ،
وَاشْتَغَلَ بِحَلَبَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ
النَّحْوِيِّ، وَأَخَذَ عَنْهُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْمُحْسِنِ
التَّنُوخِيُّ، وَالْخَطِيبُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ
التِّبْرِيزِيُّ، وَذَكَرَ أَنَّهُ مَكَثَ خَمْسًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً لَا
يَأْكُلُ اللَّحْمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ، وَأَنَّهُ أَوْصَى أَنْ
يَكْتُبَ عَلَى قَبْرِهِ:
هَذَا جَنَاهُ أَبِي عَلَيَّ وَمَا جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: وَهَذَا أَيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِاعْتِقَادِ الْحُكَمَاءِ،
فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِيجَادُ الْوَلَدِ وَإِخْرَاجُهُ إِلَى هَذَا الْوُجُودِ
جِنَايَةٌ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ يَتَعَرَّضُ لِلْحَوَادِثِ وَالْآفَاتِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنِ اعْتِقَادِ
الْحُكَمَاءِ إِلَى آخِرِ وَقْتٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُقْلِعْ عَنْ ذَلِكَ كَمَا
ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنِهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّ عَيْنَهُ الْيُمْنَى كَانَتْ نَاتِئَةً،
وَعَلَيْهَا بَيَاضٌ، وَالْيُسْرَى غَائِرَةٌ، وَكَانَ نَحِيفًا، ثُمَّ أَوْرَدَ
مِنْ أَشْعَارِهِ الْجَيِّدَةِ أَبْيَاتًا، فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
لَا تَطْلُبَنَّ بَآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً قَلَمُ الْبَلِيغِ بِغَيْرِ جَدٍّ مَغْزَلُ
سَكَنَ السِّمَاكَانَ السَّمَاءَ كِلَاهُمَا هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ
الْأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ الصَّابُونِيُّ، إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ
إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَامِرِ بْنِ عَابِدٍ النَّيْسَابُورِيُّ
الْحَافِظُ الْوَاعِظُ الْمُفَسِّرُ، قَدِمَ دِمَشْقَ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى
الْحَجِّ، فَسَمِعَ بِهَا وَذَكَّرَ النَّاسَ، وَقَدْ تَرْجَمَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ
تَرْجَمَةً عَظِيمَةً، وَأَوْرَدَ لَهُ أَشْيَاءَ حَسَنَةً مِنْ أَقْوَالِهِ وَشِعْرِهِ،
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
إِذَا لَمْ أُصِبْ أَمْوَالَكُمْ وَنَوَالَكُمْ وَلَمْ آمُلِ الْمَعْرُوفَ
مِنْكُمْ وَلَا الْبِرَّا
وَكُنْتُمْ عَبِيدًا لِلَّذِي أَنَا عَبْدُهُ فَمِنْ أَجْلِ مَاذَا أُتْعِبُ
الْبَدَنَ الْحُرَّا
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ
أَتَرَدَّدُ وَأَنَا بِمَكَّةَ فِي الْمَذَاهِبِ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: عَلَيْكَ بِاعْتِقَادِ أَبِي
عُثْمَانَ الصَّابُونِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسِينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا كَانَتْ فِتْنَةُ الْخَبِيثِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَهُوَ أَرْسَلَانُ
التُّرْكِيُّ - قَبَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ
يَنَّالَ أَخَا الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ تَرَكَ الْمَوْصِلَ الَّذِي كَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَهُ
أَخُوهُ عَلَيْهَا، وَعَدَلَ إِلَى نَاحِيَةِ بِلَادِ الْجَبَلِ، فَاسْتَدْعَاهُ
أَخُوهُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَأَصْلَحَ أَمْرَهُ، وَلَكِنْ فِي غُبُونِ ذَلِكَ
رَكِبَ الْبَسَاسِيرِيُّ وَمَعَهُ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ أَمِيرُ الْعَرَبِ
إِلَى الْمَوْصِلِ فَأَخَذَهَا، وَأَخْرَبَ قَلْعَتَهَا، فَسَارَ الْمَلِكُ
طُغْرُلْبَكُ سَرِيعًا مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الْمَوْصِلِ فَاسْتَرَدَّهَا،
وَهَرَبَ مِنْهُ الْبَسَاسِيرِيُّ وَقُرَيْشٌ ; خَوْفًا مِنْهُ فَتَبِعَهُمَا
إِلَى نَصِيبِينَ وَفَارَقَهُ أَخُوهُ إِبْرَاهِيمُ وَعَصَى عَلَيْهِ، وَهَرَبَ
إِلَى هَمَذَانَ وَذَلِكَ بِإِشَارَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ عَلَيْهِ فَسَارَ
الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ وَرَاءَ أَخِيهِ، وَتَرَكَ عَسَاكِرَهُ وَرَاءَهُ،
فَتَفَرَّقُوا، وَقَلَّ مَنْ لَحِقَهُ مِنْهُمْ، وَرَجَعَتْ زَوْجَتُهُ
الْخَاتُونُ وَوَزِيرُهُ الْكُنْدُرِيُّ إِلَى بَغْدَادَ، ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ
بِأَنَّ أَخَاهُ قَدِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ طُغْرُلْبَكَ مَحْصُورٌ
بِهَمَذَانَ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَاضْطَرَبَتْ بَغْدَادُ، وَأَرْجَفَ
النَّاسُ بِأَنَّ الْبَسَاسِيرِيَّ عَازِمٌ عَلَى قَصْدِ بَغْدَادَ، وَأَنَّهُ
قَدِ اقْتَرَبَ مِنَ الْأَنْبَارِ فَقَوِيَ عَزْمُ الْكُنْدُرِيِّ الْوَزِيرِ
عَلَى الْمُقَامِ بِبَغْدَادَ، فَأَرَادَتْ الْخَاتُونُ أَنْ تَقْبِضَ عَلَيْهِ،
فَتَحَوَّلَ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَنُهِبَتْ دَارُهُ، وَقُطِعَ
الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، وَرَكِبَتْ الْخَاتُونُ فِي جُمْهُورِ
الْجَيْشِ، وَذَهَبَتْ إِلَى
هَمَذَانَ لِتَنْصُرَ زَوْجَهَا
وَسَارَ الْكُنْدُرِيُّ وَمَعَهُ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ تُومَانَ وَأُمُّهُ
الْخَاتُونُ الْمَذْكُورَةُ، وَمَعَهَا بَقِيَّةُ الْجَيْشِ إِلَى بِلَادِ
الْأَهْوَازِ، وَبَقِيَتْ بَغْدَادُ لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ،
فَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى التَّرَحُّلِ عَنْ بَغْدَادَ إِلَى غَيْرِهَا،
وَلَيْتَهُ فَعَلَ، ثُمَّ أَحَبَّ دَارَهُ وَالْمُقَامَ مَعَ أَهْلِهِ، فَمَكَثَ فِيهَا
اغْتِرَارًا وَدَعَةً، وَلَمَّا خَلَا الْبَلَدُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ قِيلَ
لِلنَّاسِ: مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ فَلْيَذْهَبْ حَيْثُ شَاءَ. فَانْزَعَجَ
النَّاسُ، وَبَكَى الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ، وَعَبَرَ كَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ إِلَى الْجَانِبِ الْغَرْبِيِّ، وَبَلَغَتِ الْمِعْبَرَةُ دِينَارًا
وَدِينَارَيْنِ لِعَدَمِ الْجِسْرِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَطَارَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى دَارِ
الْخَلِيفَةِ نَحْوُ عَشْرِ بُومَاتٍ مُجْتَمِعَاتٍ يَصِحْنَ صِيَاحًا مُزْعِجًا،
وَقِيلَ لِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ: مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنَّ الْخَلِيفَةَ
يَرْتَحِلُ مِنْ بَغْدَادَ لِعَدَمِ الْمُقَاتِلَةِ بِهَا، فَلَمْ يَقْبَلْ.
وَشَرَعُوا فِي اسْتِخْدَامِ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَوَامِّ، وَدُفِعَ إِلَيْهِمُ
السِّلَاحُ مِنْ دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ الثَّامِنِ
مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، دَخَلَ الْبَسَاسِيرِيُّ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَعَهُ الرَّايَاتُ الْبِيضُ الْمِصْرِيَّةُ، وَعَلَى رَأْسِهِ
أَعْلَامٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا: الْإِمَامُ الْمُسْتَنْصِرُ بِاللَّهِ أَبُو
تَمِيمٍ مَعَدٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَلَقَّاهُ أَهْلُ الْكَرْخِ
فَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَسَأَلُوهُ أَنْ يَجْتَازَ عِنْدَهُمْ، فَدَخَلَ
الْكَرْخَ، وَخَرَجَ إِلَى مَشْرَعَةِ الرَّوَايَا، فَخَيَّمَ بِهَا، وَالنَّاسُ
إِذْ ذَاكَ فِي ضُرٍّ وَمَجَاعَةٍ شَدِيدَةٍ، وَنَزَلَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ
فِي نَحْوٍ مِنْ مِائَتَيْ فَارِسٍ عَلَى مَشْرَعَةِ بَابِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ
الْبَسَاسِيرِيُّ قَدْ جَمَعَ الْعَيَّارِينَ وَأَطْمَعَهُمْ فِي نَهْبِ دَارِ
الْخِلَافَةِ، وَنَهَبَ أَهْلُ الْكَرْخِ دُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِبَابِ
الْبَصْرَةِ وَنُهِبَتْ دَارُ قَاضِي
الْقُضَاةِ الدَّامَغَانِيِّ، وَهَلَكَ أَكْثَرُ السِّجِلَّاتِ وَالْكُتُبِ
الْحُكْمِيَّةِ وَأُبِيعَتْ لِلْعَطَّارِينَ، وَنُهِبَتْ دُورُ الْمُتَعَلِّقِينَ
بِالْخَلِيفَةِ، وَأَعَادَتِ الرَّوَافِضُ الْأَذَانَ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ
الْعَمَلِ، وَأُذِّنَ بِهِ فِي سَائِرِ جَوَامِعِ بَغْدَادَ فِي الْجُمُعَاتِ
وَالْجَمَاعَاتِ، وَخُطِبَ بِبَغْدَادَ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْعُبَيْدِيِّ الَّذِي
يُقَالُ لَهُ: الْفَاطِمِيُّ، عَلَى مَنَابِرِ بَغْدَادَ وَضُرِبَتْ لَهُ
السِّكَّةُ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَحُوصِرَتْ دَارُ الْخِلَافَةِ،
فَحَاجَفَ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ الْمُلَقَّبُ بِرَئِيسِ
الرُّؤَسَاءِ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْتَخْدِمِينَ دُونَهَا، فَلَمْ يَفِدْ
ذَلِكَ شَيْئًا، فَرَكِبَ الْخَلِيفَةُ بِالسَّوَادِ وَالْبُرْدَةِ عَلَى
كَتِفِهِ، وَعَلَى رَأْسِهِ اللِّوَاءُ، وَبِيَدِهِ سَيْفٌ مُصَلَّتٌ، وَحَوْلَهُ
زُمْرَةٌ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ، وَالْجَوَارِي حَاسِرَاتٍ عَنْ وُجُوهِهِنَّ،
نَاشِرَاتٍ شُعُورَهُنَّ، مَعَهُنَّ الْمَصَاحِفُ عَلَى رُءُوسِ الرِّمَاحِ،
وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْخَدَمُ بِالسُّيُوفِ الْمُسَلَّلَةِ، ثُمَّ إِنَّ
الْخَلِيفَةَ أَخَذَ ذِمَامًا مِنْ أَمِيرِ الْعَرَبِ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ
لِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَزِيرِهِ ابْنِ الْمُسْلِمَةِ فَأَمَّنَهُ عَلَى ذَلِكَ
كُلِّهِ، وَأَنْزَلَهُ فِي خَيْمَةٍ، فَلَامَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ عَلَى ذَلِكَ،
وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مِنْ
أَنَّكَ لَا تَسْتَبِدُّ بِرَأْيِ دُونِي وَلَا أَنَا دُونَكَ، وَمَهْمَا
مَلَكْنَا فَبَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَاسْتَحْضَرَ الْبَسَاسِيرِيُّ أَبَا الْقَاسِمِ
بْنَ مُسْلِمَةَ فَوَبَّخَهُ تَوْبِيخًا، وَلَامَهُ لَوْمًا شَدِيدًا، ثُمَّ
ضَرَبَهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَاعْتَقَلَهُ مُهَانًا عِنْدَهُ، وَنَهَبَتِ
الْعَامَّةُ دَارَ الْخِلَافَةِ، فَلَا يُحْصَى مَا أَخَذُوا مِنْهَا مِنَ
الْجَوَاهِرِ وَالنَّفَائِسِ وَالدِّيبَاجِ وَالْأَثَاثِ وَالثِّيَابِ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا لَا يُوصَفُ.
ثُمَّ اتَّفَقَ رَأْيُ الْبَسَاسِيرِيِّ وَقُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ عَلَى
تَسْيِيرِ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَغْدَادَ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى أَمِيرِ حَدِيثَةِ
عَانَةَ - وَهُوَ مُهَارِشُ بْنُ مُجَلِّي الْبَدَوِيُّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمِّ
قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، وَكَانَ رَجُلًا
صَالِحًا - فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ
الْخَلِيفَةَ دَخَلَ عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَغْدَادَ فَلَمْ
يَفِدْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَسَيَّرَهُ مَعَ أَصْحَابِهِمَا فِي هَوْدَجٍ إِلَى
حَدِيثَةِ عَانَةَ، فَكَانَ عِنْدَ مُهَارِشٍ أَمِيرِهَا حَوْلًا كَامِلًا،
وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا كُنْتُ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ قُمْتُ
لَيْلَةً إِلَى الصَّلَاةِ، فَوَجَدْتُ فِي قَلْبِي حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ،
ثُمَّ دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا سَنَحَ لِي، ثُمَّ قُلْتُ: اللَّهُمَّ
أَعِدْنِي إِلَى وَطَنِي، وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَهْلِي وَوَلَدِي،
وَيَسِّرِ اجْتِمَاعَنَا، وَأَعِدْ رَوْضَ الْأُنْسِ زَاهِرًا، وَرَبْعَ الْقُرْبِ
عَامِرًا، فَقَدْ قَلَّ الْعَزَاءُ، وَبَرِحَ الْخَفَاءُ، قَالَ: فَسَمِعْتُ
قَائِلًا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ يَقُولُ: نَعَمْ نَعَمْ. فَقُلْتُ: هَذَا
رَجُلٌ يُخَاطِبُ آخَرُ، ثُمَّ أَخَذْتُ فِي السُّؤَالِ وَالِابْتِهَالِ،
فَسَمِعْتُ ذَلِكَ الصَّائِحَ يَقُولُ: إِلَى الْحَوْلِ، إِلَى الْحَوْلِ.
فَعَلِمْتُ أَنَّهُ هَاتِفٌ أَنْطَقَهُ اللَّهُ بِمَا جَرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ،
وَكَانَ كَذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ دَارِهِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ، وَرَجَعَ إِلَيْهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ،
وَقَدْ قَالَ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي مَقَامِهِ
بِالْحَدِيثَةِ شِعْرًا يَذْكُرُ فِيهِ حَالَهُ، فَمِنْهُ:
خَابَتْ ظُنُونِي فِيمَنْ كُنْتُ آمُلُهُ وَلَمْ يَجُلْ ذِكْرُ مَنْ وَالَيْتُ فِي
خَلَدِي تَعَلَّمُوا مِنْ صُرُوفِ الدَّهْرِ كُلُّهُمُ
فَمَا أَرَى أَحَدًا يَحْنُو عَلَى أَحَدِ
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ:
مَا لِي مِنَ الْأَيَّامِ إِلَّا مَوْعِدٌ فَمَتَى أَرَى ظُفْرًا بِذَاكَ
الْمَوْعِدِ
يَوْمِي يَمُرُّ وَكُلَّمَا قَضَّيْتُهُ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِالْحَدِيثِ إِلَى
غَدِ
أَحْيَا بِنَفْسٍ تَسْتَرِيحُ إَلَى الْمُنَى وَعَلَى مَطَامِعِهَا تَرُوحُ
وَتَغْتَدِي
وَأُمًّا الْبَسَاسِيرِيُّ وَمَا
اعْتَمَدَهُ فِي بَغْدَادَ فَإِنَّهُ رَكِبَ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى، وَأَلْبَسَ
الْخُطَبَاءَ وَالْمُؤْمِنِينَ الْبَيَاضَ، وَعَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابِهِ
كَذَلِكَ، وَعَلَى رَأْسِهِ الْأَلْوِيَةُ الْمُسْتَنْصِرِيَّةُ وَالْمَطَارِدُ
الْمِصْرِيَّةُ، وَخَطَبَ لِلْمُسْتَنْصِرِ الْفَاطِمِيِّ صَاحِبِ مِصْرَ،
وَالرَّوَافِضُ فِي غَايَةِ السُّرُورِ، وَالْأَذَانُ فِي سَائِرِ بِلَادِ
الْعِرَاقِ بِحَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ، وَانْتَقَمَ الْبَسَاسِيرِيُّ مِنْ
أَعْيَانِ أَهْلِ بَغْدَادَ انْتِقَامًا عَظِيمًا، وَغَرَّقَ خَلْقًا مِمَّنْ
كَانَ يُعَادِيهِ، وَبَسَطَ عَلَى آخَرِينَ الْأَرْزَاقَ وَالْعَطَايَا.
وَمَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
أُحْضِرَ إِلَى بَيْنِ يَدَيْهِ الْوَزِيرُ أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ الْمُسْلِمَةِ
الْمُلَقَّبُ بِرَئِيسِ الرُّؤَسَاءِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، وَطُرْطُورٌ مِنْ
لِبْدٍ أَحْمَرَ، وَفِي رَقَبَتِهِ مِخْنَقَةٌ مِنْ جُلُودٍ كَالتَّعَاوِيذِ،
فَأُرْكِبَ جَمَلًا وَطِيفَ بِهِ فِي الْبَلَدِ، وَخَلْفَهُ مَنْ يَصْفَعُهُ
بِقِطْعَةٍ مِنْ جِلْدٍ، وَحِينَ اجْتَازَ بِالْكَرْخِ نَثَرُوا عَلَيْهِ
خُلْقَانَ الْمُدَاسَاتِ، وَبَصَقُوا فِي وَجْهِهِ، وَلَعَنُوهُ وَسَبُّوهُ،
وَأُوقِفَ بِإِزَاءِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَتْلُو قَوْلَهُ
تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ
وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ
تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ قَدِيرٌ [ آلِ عِمْرَانَ:
26 ] ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّطْوَافِ بِهِ فِي مَحَالِّ الْبَلَدِ،
وَأُعِيدَ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، فَأُلْبِسَ جِلْدَ ثَوْرٍ بِقَرْنَيْهِ، وَعُلِّقَ
بِكَلُّوبٍ فِي شِدْقَيْهِ، وَرُفِعَ إِلَى الْخَشَبَةِ حَيًّا، فَجَعَلَ
يَضْطَرِبُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، فَمَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ آخِرُ
كَلَامِهِ أَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانِي سَعِيدًا
وَأَمَاتَنِي شَهِيدًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ وَقَعَ بَرَدٌ بِأَرْضِ الْعِرَاقِ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ
الْغَلَّاتِ، وَقُتِلَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ، وَزَادَتْ دِجْلَةُ زِيَادَةً
عَظِيمَةً، وَزُلْزِلَتْ بَغْدَادُ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ الْفِتْنَةِ بِشَهْرٍ
زِلْزَالًا شَدِيدًا، فَتَهَدَّمَتْ
دُورٌ كَثِيرَةٌ، وَوَرَدَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهَا اتَّصَلَتْ مِنْ بَغْدَادَ
إِلَى هَمَذَانَ وَوَاسِطٍ وَعَانَةَ وَتِكْرِيتَ، وَذُكِرَ أَنَّ الطَّوَاحِينَ
وَقَفَتْ مِنْ شِدَّةِ الزَّلَازِلِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَثُرَ النَّهْبُ بِبَغْدَادَ حَتَّى كَانَتِ الْعَمَائِمُ
تُخْطَفُ عَنِ الرُّءُوسِ، حَتَّى إِنَّ الشَّيْخَ أَبَا نَصْرِ بْنَ الصَّبَّاغِ
خُطِفَتْ عِمَامَتُهُ وَطَيْلَسَانُهُ، وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ.
وَفِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ مِنْ
هَمَذَانَ فَقَاتَلَ أَخَاهُ، وَانْتَصَرَ عَلَيْهِ، فَفَرِحَ النَّاسُ، وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ فَتَبَاشَرَ النَّاسُ بِذَلِكَ، وَكَثُرَ سُرُورُهُمْ
وَفَرَحُهُمْ، وَلَمْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ،
وَاسْتَنْجَدَ طُغْرُلْبَكُ بِأَوْلَادِ أَخِيهِ دَاوُدَ - وَكَانَ قَدْ مَاتَ -
وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ عَلَى أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ، فَغَلَبُوهُ
وَأَسَرُوهُ وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ، وَاجْتَمَعُوا
عَلَى عَمِّهِمْ طُغْرُلْبَكَ فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ الْعِرَاقِ، فَكَانَ مِنْ
أَمْرِهِمْ مَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْوَنِّيُّ الْفَرَضِيُّ
وَهُوَ شَيْخُ الْخَبْرِيِّ، وَكَانَ شَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ، قُتِلَ بِبَغْدَادَ
فِي فِتْنَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَدُفِنِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
دَاوُدُ أَخُو طُغْرُلْبَكَ
الْأَكْبَرُ
كَانَ مُقِيمًا بِبَلْخَ بِإِزَاءِ أَوْلَادِ مَحْمُودِ بْنِ سُبُكْتِكِينَ،
تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَامَ أَوْلَادُهُ مَقَامَهُ.
طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرِ بْنِ عُمَرَ، أَبُو الطَّيِّبِ
الطَّبَرِيُّ الْفَقِيهُ
شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، وُلِدَ بِآمُلَ طَبَرِسْتَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ بِجُرْجَانَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ
الْغِطْرِيفِيِّ، وَبِنَيْسَابُورَ مِنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَاسَرْجِسِيِّ،
وَعَلَيْهِ دَرَسَ الْفِقْهَ، وَتَفَقَّهَ أَيْضًا عَلَى أَبِي عَلِيٍّ
الزَّجَّاجِيِّ وَأَبِي الْقَاسِمِ بْنِ كَجٍّ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِبَغْدَادَ عَلَى
الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَشَرَحَ " الْمُخْتَصَرَ
" وَ " فُرُوعَ ابْنِ الْحَدَّادِ "، وَصَنَّفَ فِي الْأُصُولِ
وَالْجَدَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ النَّافِعَةِ، وَسَمِعَ
بِبَغْدَادَ مِنَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَغَيْرِهِ، وَوَلِيَ الْقَضَاءَ بِرَبْعِ
الْكَرْخِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيِّ، وَكَانَ ثِقَةً
دَيِّنًا وَرِعًا، عَالِمًا بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، وَلَهُ
الْمُصَنَّفَاتُ الْبَاهِرَةُ فِي ذَلِكَ، سَلِيمَ الصَّدْرِ، مُوَاظِبًا عَلَى
تَعْلِيمِ الْعِلْمِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَقَدْ ذَكَرْتُ تَرْجَمَتَهُ فِي "
الطَّبَقَاتِ " بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
وَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ عَنْهُ - وَكَانَ شَيْخَهُ،
وَقَدْ أَجْلَسَهُ بَعْدَهُ فِي الْحَلْقَةِ - أَنَّهُ أَسْلَمَ خُفًّا لَهُ
عِنْدَ خَفَّافٍ ; لِيُصْلِحَهُ لَهُ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَكَانَ كُلَّمَا
مَرَّ عَلَيْهِ أَخَذَهُ فَغَمَسَهُ فِي الْمَاءِ، وَقَالَ: السَّاعَةَ
السَّاعَةَ، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: إِنَّمَا
أَسْلَمْتُهُ لَكَ لِتُصْلِحَهُ،
وَلَمْ أُسْلِمْهُ لِتُعَلِّمَهُ السِّبَاحَةَ.
وَحَكَى ابْنُ خَلِّكَانَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَلِأَخِيهِ عِمَامَةٌ وَقَمِيصٌ
إِذَا لَبِسَهُمَا هَذَا جَلَسَ الْآخَرُ فِي الْبَيْتِ، وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ
الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ:
قَوْمٌ إِذَا غَسَلُوا ثِيَابَ جَمَالِهِمْ لَبِسُوا الْبُيُوتَ إِلَى فَرَاغِ
الْغَاسِلِ
وَكَانَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعُمُرِ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ، وَهُوَ صَحِيحُ
الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالْأَعْضَاءِ، يُفْتِي وَيَشْتَغِلُ إِلَى أَنْ مَاتَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ، أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ
الْبَصْرِيُّ
شَيْخُ الشَّافِعِيِّينَ، صَاحِبُ التَّصَانِيفِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأُصُولِ
وَالْفُرُوعِ وَالتَّفْسِيرِ وَ " الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ " وَ
" أَدَبِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ " قَالَ: بَسَطْتُ الْفِقْهَ فِي
أَرْبَعَةِ آلَافِ وَرَقَةٍ - يَعْنِي " الْحَاوِيَ الْكَبِيرَ " -
وَاخْتَصَرْتُهُ فِي أَرْبَعِينَ وَرَقَةً - يَعْنِي " الْإِقْنَاعَ " -
وَقَدْ وَلِيَ الْحُكْمَ فِي بِلَادٍ كَثِيرَةٍ، وَكَانَ حَلِيمًا وَقُورًا
أَدِيبًا، لَمْ يَرَ أَصْحَابُهُ ذِرَاعَهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ مِنْ شِدَّةِ
تَحَرُّزِهِ وَأَدَبِهِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ تَرْجَمَتَهُ فِي "
الطَّبَقَاتِ ". وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ سِتٍّ
وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَدُفِنَ بِبَابِ حَرْبٍ.
وَقَدْ أَنْشَدَ لَهُ ابْنُ خَلِّكَانَ
أَشْعَارًا مِنْهَا قَوْلُهُ:
جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ
جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ
رَئِيسُ الرُّؤَسَاءِ، أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الْمُسْلِمَةِ، عَلِيُّ بْنُ
الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ
أَبُو الْقَاسِمِ وَزِيرُ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ كَانَ أَوَّلًا قَدْ سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي أَحْمَدَ الْفَرَضِيِّ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ كَانَ أَحَدَ
الْمُعَدِّلِينَ، ثُمَّ اسْتَكْتَبَهُ الْخَلِيفَةُ الْقَائِمُ بِأَمْرِ اللَّهِ
وَاسْتَوْزَرَهُ، وَلَقَّبَهُ رَئِيسَ الرُّؤَسَاءِ، شَرَفَ الْوُزَرَاءَ، جَمَالَ
الْوَرَى. كَانَ مُتَضَلِّعًا بِعُلُومٍ كَثِيرَةٍ مَعَ سَدَادِ رَأْيٍ وَوُفُورِ
عَقْلٍ، وَقَدْ مَكَثَ فِي الْوِزَارَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَشَهْرًا،
ثُمَّ قَتَلَهُ الْبَسَاسِيرِيُّ بَعْدَمَا شَهَّرَهُ، ثُمَّ صَلَبَهُ مُعَلَّقًا
بِشِدْقَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ ثِنْتَانِ
وَخَمْسُونَ سَنَةً وَخَمْسَةُ أَشْهُرٍ.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شِيطَا
الْمَسْنِدُ لِلْحَدِيثِ، وَكَانَ ثِقَةً، بَصِيرًا بِالْعَرَبِيَّةِ وَوُجُوهِ
الْقِرَاءَاتِ وَمَذَاهِبِ الْقُرَّاءِ، بَلَغَ الثَّمَانِينَ، وَلَهُ كِتَابٌ فِي
التَّجْوِيدِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
مَنْصُورُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَبُو
الْفَوَارِسِ الْأَسَدِيُّ
صَاحِبُ الْجَزِيرَةِ كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَاجْتَمَعَتِ
الْعَشِيرَةُ عَلَى إِقَامَةِ وَلَدِهِ صَدَقَةَ مِنْ بَعْدِهِ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
اسْتَهَلَّتْ وَبَغْدَادُ فِي قَبْضَةِ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَيَخْطُبُ فِيهَا
لِلْمُسْتَنْصِرِ الْفَاطِمِيِّ، وَالْقَائِمُ قَاعِدٌ بِحَدِيثَةِ عَانَةَ، ثُمَّ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ ثَانِي عَشَرَ صَفَرٍ أَحْضَرَ الْبَسَاسِيرِيُّ
قَاضِيَ الْقُضَاةِ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيَّ وَجَمَاعَةً مِنَ
الْوُجُوهِ وَالْأَعْيَانِ مِنَ الْعَلَوِيِّينَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْبَيْعَةَ
لِلْمُسْتَنْصِرِ الْفَاطِمِيِّ، ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْخِلَافَةِ وَهَؤُلَاءِ
الْمَذْكُورُونَ مَعَهُ، وَأَمَرَ بِنَقْضِ تَاجِ دَارِ الْخِلَافَةِ، فَنُقِضَتْ
بَعْضُ الشَّرَارِيفِ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْقُبْحَ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنَ
الْمَصْلَحَةِ، فَتَرَكَهُ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى زِيَارَةِ الْمَشْهِدِ
بِالْكُوفَةِ، وَعَزَمَ عَلَى حَفْرِ نَهْرٍ يُسَاقُ إِلَى الْحَائِرِ لِوَفَاءِ
نَذْرٍ كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تُنْقَلَ جُثَّةُ ابْنِ مُسْلِمَةَ إِلَى
مَا يُقَارِبُ الْحَرِيمَ الطَّاهِرِيَّ، وَأَنْ تُنْصَبَ عَلَى دِجْلَةَ،
وَكَتَبَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْخَلِيفَةِ - وَكَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً قَدْ
بَلَغَتِ التِّسْعِينَ، وَهِيَ مُخْتَفِيَةٌ فِي مَكَانٍ - إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ
تَشْكُو إِلَيْهِ الْحَاجَةَ وَالْفَقْرَ وَضِيقِ الْحَالِ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَنَقَلَهَا
إِلَى الْحَرِيمِ، وَأَخْدَمَهَا جَارِيَتَيْنِ، وَرَتَّبَ لَهَا كُلَّ يَوْمٍ
اثْنَيْ عَشَرَ رِطْلًا مِنْ خُبْزٍ، وَأَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ لَحْمًا، وَلَا يَفِي
هَذَا قِيرَاطًا مِمَّا فَعَلَهُ بِوَلَدِهَا وَبِأَهْلِ السُّنَّةِ.
فَصْلٌ
وَلَمَّا تَخَلَّصَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ مِنْ حَصْرِهِ بِهَمَذَانَ،
وَقَاتَلَ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَسَرَهُ وَقَتَلَهُ، وَتَمَكَّنَ مِنْ
أَمْرِهِ، وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَاسْتَقَرَّ حَالُهُ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي
تِلْكَ الْبِلَادِ مُنَازِعٌ، كَتَبَ إِلَى قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، مِنَ
الْأَعْرَابِ، يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُعَادَ الْخَلِيفَةُ إِلَى دَارِهِ، عَلَى مَا
كَانَ عَلَيْهِ، وَتَوَعَّدَهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ بَأْسًا شَدِيدًا، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ قُرَيْشٌ يَتَلَطَّفُ بِهِ، وَيُسَالِمُهُ، وَيَقُولُ: أَنَا مَعَكَ
عَلَى الْبَسَاسِيرِيِّ بِكُلِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، حَتَّى يُمَكِّنَ اللَّهُ
مِنْهُ، وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ أَتَسَرَّعَ فِي أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ عَلَى
الْخَلِيفَةِ مَفْسَدَةٌ، أَوْ يَبْدُرَ إِلَيْهِ أَحَدٌ بِأَذِيَّةٍ، وَلَكِنِّي
سَأَعْمَلُ لِمَا أَمَرْتَنِي بِكُلِّ مَا يُمْكِنُنِي. وَأَمَرَ بِرَدِّ
امْرَأَةِ الْخَلِيفَةِ الْخَاتُونِ الْمُعَظَّمَةِ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ إِلَى
دَارِهَا وَقَرَارِهَا. ثُمَّ إِنَّهُ رَاسَلَ الْبَسَاسِيرِيَّ، وَأَشَارَ
إِلَيْهِ بِعَوْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِهِ، وَخَوْفِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَلِكِ
طُغْرُلْبَكَ، وَقَالَ لَهُ فِيمَا قَالَ: إِنَّكَ دَعَوْتَنَا إِلَى طَاعَةِ
الْمُسْتَنْصِرِ صَاحِبِ مِصْرَ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِتُّمِائَةِ فَرْسَخٍ،
وَلَمْ يَأْتِنَا مِنْ جِهَتِةِ رَسُولٌ وَلَا أَحَدٌ، وَلَمْ يُفَكِّرْ فِي شَيْءٍ
مِمَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِ، وَهَذَا الْمَلِكُ مِنْ وَرَائِنَا بِالْمِرْصَادِ.
وَجَاءَ كِتَابٌ مِنَ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ عُنْوَانُهُ: إِلَى الْأَمِيرِ
الْجَلِيلِ عَلَمِ الدِّينِ أَبِي الْمَعَالِي قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ مَوْلَى
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ شَاهِنْشَاهَ الْمُعْظَّمِ مَلِكِ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ طُغْرُلْبَكَ أَبِي طَالِبٍ مُحَمَّدِ بْنِ مِيكَائِيلَ بْنِ
سَلْجُوقَ. وَعَلَى رَأْسِ الْكِتَابِ الْعَلَامَةُ السُّلْطَانِيَّةُ بِخَطِّ
السُّلْطَانِ: حَسْبِي اللَّهُ. وَكَانَ فِي الْكِتَابِ: وَالْآنَ قَدْ سَرَتْ
بِنَا الْمَقَادِيرُ إِلَى قِتَالِ
كُلِّ عَدُوٍّ لِلدِّينِ وَالْمُلْكِ، وَلَمْ يَبْقَ لَنَا وَعَلَيْنَا فِي الْمُهِمَّاتِ إِلَّا خِدْمَةُ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا الْإِمَامِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِطْلَاعُ أُبَّهَةِ إِمَامَتِهِ عَلَى سَرِيرِ عِزِّهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَلْزَمُنَا ذَلِكَ، وَلَا فُسْحَةَ فِي التَّضْجِيعِ فِيهِ سَاعَةً مِنَ الزَّمَانِ، وَقَدْ أَقْبَلْنَا بِخُيُولِ الْمَشْرِقِ إِلَى هَذَا الْمُهِمِّ الْعَظِيمِ، وَنُرِيدُ مِنَ الْأَمِيرِ الْجَلِيلِ عَلَمِ الدِّينِ إِتْمَامَ السَّعْيِ النَّجِيحِ الَّذِي وُفِّقَ لَهُ وَتَفَرَّدَ بِهِ، وَهُوَ أَنْ يُتِمَّ وَفَاءَهُ مِنْ أَمَانَتِهِ وَخِدْمَتِهِ فِي بَابِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْبَلَ بِهِ مُكَرَّمًا إِلَى وَكْرِ عِزِّهِ، وَمَثْوَى إِمَامَتِهِ، وَمَوْقِفِ خِلَافَتِهِ مِنْ مَدِينَةِ السَّلَامِ، وَيَنْتَدِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَوَلِّيًا أَمْرَهُ، وَمُنْفِذًا حُكْمَهُ، وَشَاهِرًا سَيْفَهُ وَقَلَمَهُ، وَذَلِكَ الْمُرَادُ، وَهُوَ خَلِيفَتُنَا فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَنُوَلِّيهِ الْعِرَاقَ بِأُسَرِهَا وَنُصَفِّي لَهُ مَشَارِعَ بَرِّهَا وَبَحْرِهَا، لَا يَطَأُ حَافِرُ خَيْلٍ مِنْ خُيُولِ الْعَجَمِ شِبْرًا مِنْ أَرَاضِي تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ إِلَّا بِالْتِمَاسِهِ لِمُعَاوَنَتِهِ وَمُظَاهَرَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يُحَافِظَ عَلَى شَخْصِهِ الْعَالِي بِتَحْوِيلِهِ مِنَ الْقَلْعَةِ إِلَى حِلَّتِهِ أَوْ فِي الْقَلْعَةِ إِلَى حِينِ لِحَاقِنَا بِخِدْمَتِهِ، فَنَتَكَفَّلُ بِإِعَادَتِهِ، وَيَكُونُ الْأَمِيرُ الْجَلِيلُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَلْتَقِيَ بِنَا أَوْ يُقِيمَ حَيْثُ شَاءَ فَنُوَلِّيهِ الْعِرَاقَ كُلَّهَا، وَنَسْتَخْلِفُهُ فِي الْخِدْمَةِ الْإِمَامِيَّةِ، وَنَصْرِفُ أَعِنَّتَنَا إِلَى الْمَمَالِكِ الشَّرْقِيَّةِ، فَهِمَمُنَا لَا تَقْتَضِي إِلَّا هَذَا الْغَرَضَ الْمُفْتَرَضَ، وَلَا تَسْفُ إِلَى مَمْلَكَةٍ مِنْ تِلْكَ الْمَمَالِكِ بَلِ الْهِمَّةُ دِينِيَّةٌ، وَهُوَ - أَدَامَ اللَّهُ تَمْكِينَهُ - يَتَيَقَّنُ مَا ذَكَرْنَا، وَيَعْلَمُ أَنَّ تَوَجُّهَنَا إِثْرَ هَذَا الْكِتَابِ لِهَذَا الْغَرَضِ الْمَعْلُومِ وَلَا غَرَضَ سِوَاهُ، فَلَا يُشْعِرَنَّ قُلُوبَ عَشَائِرِهِ رَهْبَتَهُ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ
إِخْوَانُنَا وَفِي ذِمَّتِنَا
وَعَهْدِنَا، وَعَلَيْنَا بِهِ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ مَا دَامُوا
مُوَافِقِينَ لِلْأَمِيرِ الْأَجَلِّ فِي مَوَالِينَا وَمَنِ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ
سَائِرِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْأَكْرَادِ، فَإِنَّهُمْ مُقِرُّونَ وَفِي
جُمْلَتِهِ دَاخِلُونَ فِي عَهْدِنَا وَذِمَّتِنَا وَعَهْدِهِ وَذِمَّتِهِ،
وَلِكُلِّ مُجْتَرِمٍ فِي الْعِرَاقِ عَفْوُنَا وَأَمْنُنَا مِمَّا بَدَرَ مِنْهُ
إِلَّا الْبَسَاسِيرِيَّ، فَإِنَّهُ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا أَمَانَ مِنَّا، وَهُوَ
مَوْكُولٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَتَسَاوِيلِهِ ; فَقَدِ ارْتَكَبَ فِي دِينِ
اللَّهِ عَظِيمًا، وَهُوَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَأْخُوذٌ حَيْثُ وُجِدَ وَمُعَذَّبٌ
عَلَى مَا عَمِلَ، فَقَدْ سَعَى فِي دِمَاءِ خَلْقٍ كَثِيرٍ بِسُوءِ دَخِيلَتِهِ،
وَدَلَّتْ أَفْعَالُهُ عَلَى سُوءِ عَقِيدَتِهِ. وَكَتَبَ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ
إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
وَبَعَثَ بِهَذَا الْكِتَابِ مَعَ رَسُولَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبَعَثَ
مَعَهُمَا بِتُحَفٍ عَظِيمَةٍ لِلْخَلِيفَةِ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَخْدِمَا
الْخَلِيفَةَ نِيَابَةً عَنْهُ، جَزَاهُ اللَّهُ عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا.
وَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ، اسْتَعْلَمَ أَخْبَارَ
الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ مِنَ الرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِذَا مَعَهُ جُنُودٌ
عَظِيمَةٌ، فَخَافَ مِنْ ذَلِكَ خَوْفًا شَدِيدًا، وَبَعَثَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ
فَأَمَرَ بِحَفْرِ أَمَاكِنَ لِلْمَاءِ وَتَجْهِيزِ عُلُوفَاتٍ كَثِيرَةٍ إِلَى
هُنَاكَ.
وَنَفَّذَ الْكِتَابَ وَالْأَخْبَارَ إِلَى الْبَسَاسِيرِيِّ، فَانْزَعَجَ
لِذَلِكَ الْبَسَاسِيرِيُّ - قَبَّحَهُ اللَّهُ - وَخَارَتْ قُوَّتُهُ وَضَعُفَ
أَمْرُهُ، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ، فَنَقَلَهُمْ عَنْ بَغْدَادَ وَأَرْصَدَ لَهُ
إِقَامَاتٍ عَظِيمَةً بِوَاسِطٍ وَجَعَلَهَا دَارَ مَقَرَّتِهِ، وَوَافَقَ عَلَى
عَوْدِ الْخَلِيفَةِ إِلَى بَغْدَادَ وَلَكِنِ اشْتَرَطَ شُرُوطًا كَثِيرَةً
لِتُذْهِبَ خَجَلَهُ.
وَلَمَّا انْتَقَلَ أَهْلُ الْبَسَاسِيرِيِّ مِنْ بَغْدَادَ وَصَحِبَتْهُمْ أَهْلُ
الْكَرْخِ وَالرَّوَافِضِ - قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - وَانْحَدَرُوا فِي
دِجْلَةَ إِلَى وَاسِطٍ كَانَ خُرُوجُهُمْ عَنْ بَغْدَادَ فِي سَادِسِ ذِي
الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَفِي مِثْلِهِ مِنَ الْعَامِ الْمَاضِي
دَخَلُوا بَغْدَادَ وَعِنْدَ ذَلِكَ ثَارَ الْهَاشِمِيُّونَ وَأَهْلُ السُّنَّةِ
مِنْ بَابِ
الْبَصْرَةِ إِلَى الْكَرْخِ،
فَنَهَبُوا وَأَحْرَقُوا مِنْهُ مَحَالَّ كَثِيرَةً جِدًّا، وَاحْتَرَقَ مِنْ
جُمْلَةِ ذَلِكَ دَارُ الْعِلْمِ الَّتِي كَانَ وَقَّفَهَا الْوَزِيرُ أَرْدَشِيرُ
مِنْ مُدَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَفِيهَا مِنَ الْكُتُبَ شَيْءٌ كَثِيرٌ، وَكَانَ
فِي جُمْلَةِ مَا احْتَرَقَ دَرْبُ الزَّعْفَرَانِ وَفِيهِ أَلْفٌ وَمِائَتَا
دَارٍ، لِكُلِّ دَارٍ مِنْهَا قِيمَةٌ جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَتَرَحَّلَ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرَانَ إِلَى أَرْضِ الْمَوْصِلِ وَبَعَثَ إِلَى
حَدِيثِ عَانَةَ يَقُولُ لِأَمِيرِهَا مُهَارِشِ بْنِ مُجَلِّي الَّذِي سُلِّمَ
إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ: الْمَصْلَحَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الْخَلِيفَةَ تُحَوِّلُهُ
إِلَيَّ حَتَّى نَسْتَأْمِنَ لِأَنْفُسِنَا بِسَبَبِهِ، وَلَا تُسَلِّمْهُ حَتَّى
تَسْتَأْمِنَ لَنَا، وَتَأْخُذَ أَمَانًا فِي يَدِكَ دُونَ يَدِي، فَامْتَنَعَ
عَلَيْهِ مُهَارِشٌ، وَقَالَ: قَدْ غَرَّنِي الْبَسَاسِيرِيُّ وَوَعَدَنِي
بِأَشْيَاءَ لَمْ أَرَهَا، وَلَسْتُ بِمُرْسِلِهِ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَلَهُ فِي
عُنُقِي أَيْمَانٌ كَثِيرَةٌ لَا أَغْدِرُهَا.
وَكَانَ مُهَارِشٌ رَجُلًا صَالِحًا ثِقَةً أَمِينًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ
لِلْخَلِيفَةِ: مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَنْ نَسِيرَ إِلَى بَلَدِ بَدْرِ بْنِ
مُهَلْهَلٍ، وَنَنْظُرُ مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ فَإِنْ
ظَهَرَ دَخَلْنَا بَغْدَادَ وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى نَظَرْنَا لِأَنْفُسِنَا،
فَإِنَّا نَخْشَى مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ أَنْ يَأْتِيَنَا فَيَحْضُرَنَا. فَقَالَ
لَهُ الْخَلِيفَةُ: افْعَلْ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ. فَسَارَا فِي الْحَادِي
عَشَرَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى أَنْ حَصَلَا بِقَلْعَةِ تَلِّ عُكْبَرَا
فَلَقِيَتْهُ رُسُلُ السُّلْطَانِ طُغْرُلْبَكَ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ الَّتِي
كَانَ أَنْفَذَهَا إِلَيْهِ، وَهُوَ مُتَشَوِّقٌ كَثِيرًا.
وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِأَنَّ السُّلْطَانَ طُغْرُلْبَكَ قَدْ دَخَلَ بَغْدَادَ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا، غَيْرَ أَنَّ الْجَيْشَ نَهَبُوا الْبَلَدَ سِوَى
دَارِ الْخَلِيفَةِ، وَصُودِرَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ التُّجَّارِ، وَأُخِذَتْ
مِنْهُمْ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَشَرَعُوا فِي عِمَارَةِ دَارِ الْمُلْكِ،
وَأَرْسَلَ السُّلْطَانُ إِلَى الْخَلِيفَةِ مَرَاكِبَ كَثِيرَةً مِنْ أَنْوَاعِ
الْخُيُولِ وَغَيْرِهَا، وَسُرَادِقَ
عَظِيمَةً، وَمَلَابِسَ سَنِيَّةً
وَمَا يَلِيقُ بِالْخَلِيفَةِ فِي السَّفَرِ، أَرْسَلَ ذَلِكَ مَعَ الْوَزِيرِ
عَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ، وَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَيْهِ أَرْسَلُوا
بِتِلْكَ الْآلَاتِ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ:
اضْرِبُوا السُّرَادِقَ، وَلِيَلْبَسَ الْخَلِيفَةُ مَا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ
نَجِيءُ نَحْنُ فَنَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِ، فَلَا يَأْذَنُ لَنَا إِلَّا بَعْدَ
سَاعَةٍ طَوِيلَةٍ. فَلَمَّا دَخَلَ الْوَزِيرُ وَمَنْ مَعَهُ قَبَّلُوا الْأَرْضَ
وَأَخْبَرُوهُ بِسُرُورِ السُّلْطَانِ بِمَا حَصَلَ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى
بَغْدَادَ وَاشْتِيَاقِهِ إِلَيْهِ جِدًّا، وَأَخْبَرُوا مُهَارِشًا بِشُكْرِ
السُّلْطَانِ لَهُ وَنِيَّتِهِ لَهُ بِمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِهِ مِنَ
الْإِكْرَامِ.
وَكَتَبَ عَمِيدُ الْمُلْكِ كِتَابًا إِلَى السُّلْطَانِ يُعْلِمُهُ بِصِفَةِ مَا
جَرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَأَحَبَّ أَنْ يَأْخُذَ خَطَّ الْخَلِيفَةِ فِي
أَعَلَا الْكِتَابِ ; لِيَكُونَ أَقَرَّهُ لِعَيْنِ السُّلْطَانِ، فَلَمْ يَكُنْ
عِنْدَ الْخَلِيفَةِ دَوَاةٌ، وَأَحْضَرَ الْوَزِيرُ دَوَاتَهُ وَمَعَهَا سَيْفٌ،
وَقَالَ: هَذِهِ خِدْمَةُ السَّيْفِ وَالْقَلَمِ، فَأَعْجَبَ الْخَلِيفَةَ ذَلِكَ.
وَتَرْحَّلُوا مِنْ مَنْزِلِهِمْ ذَلِكَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَلَمَّا وَصَلُوا
إِلَى النَّهْرَوَانِ خَرَجَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكَ مِنْ بَغْدَادَ
لِتَلَقِّيهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى السُّرَادِقِ قَبَّلَ الْأَرْضَ بَيْنَ
يَدَيِ الْخَلِيفَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَأَخَذَ الْخَلِيفَةُ مِخَدَّةً،
فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَهَا الْمَلِكُ فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ جَلَسَ
عَلَيْهَا، كَمَا أَشَارَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدَّمَ إِلَى الْخَلِيفَةِ
الْحَبْلَ الْيَاقُوتَ الْأَحْمَرَ الَّذِي كَانَ لِبَنِي بُوَيْهِ، فَوَضَعَهُ
بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ، وَأَخْرَجَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حَبَّةً مِنْ لُؤْلُؤٍ
كِبَارٍ، وَقَالَ: أَرْسَلَانُ خَاتُونَ - يَعْنِي زَوْجَةَ الْخَلِيفَةِ -
تَخْدُمُ وَتَسْأَلُ أَنْ تُسَبِّحَ بِهَذِهِ السُّبْحَةِ، وَجَعَلَ يَعْتَذِرُ
مِنْ تَأَخُّرِهِ عَنِ الْحَضْرَةِ بِسَبَبِ عِصْيَانِ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ،
فَقَتَلْتُهُ، وَاتَّفَقَ مَوْتُ أَخِي الْأَكْبَرِ دَاوُدَ، فَاشْتَغَلْتُ
بِتَرْتِيبِ أَوْلَادِهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَكُنْتُ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَصْمُدَ
إِلَى الْحَدِيثَةِ ; لِأَصُونَ الْمُهْجَةَ الشَّرِيفَةَ، وَلَكِنْ لَمَّا
بَلَغَنِي، بِحَمْدِ اللَّهِ، أَمْرُ مَوْلَايَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ
الْخَلِيفَةِ، فَرِحْتُ بِذَلِكَ وَأَنَا شَاكِرٌ لِمُهَارِشٍ بِمَا كَانَ مِنْهُ
مِنْ خِدْمَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، أَمْضِي
وَرَاءَ هَذَا الْكَلْبِ - الْبَسَاسِيرِيِّ - وَأَقْتَنِصُهُ، وَأَعُودُ إِلَى
الشَّامِ وَأَفْعَلُ بِصَاحِبِ مِصْرَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَازَى بِهِ مِنْ
سُوءِ الْمُقَابَلَةِ بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ الْبَسَاسِيرِيِّ هَاهُنَا. فَدَعَا
لَهُ الْخَلِيفَةُ، وَشَكَرَهُ عَلَى ذَلِكَ كُلُّ ذَلِكَ يُتَرْجِمُهُ عَمِيدُ
الْمُلْكِ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ.
وَأَعْطَى الْخَلِيفَةُ لِلْمَلِكِ سَيْفًا كَانَ مَعَهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْ
أُمُورِ الْخِلَافَةِ سِوَاهُ، وَاسْتَأْذَنَ الْمَلِكُ لِبَقِيَّةِ الْجَيْشِ
أَنْ يَخْدِمُوا الْخَلِيفَةَ فَرُفِعَتِ الْأَسْتَارُ عَنْ جَوَانِبِ
الْخَرْكَاهْ، فَلَمَّا شَاهَدَ الْأَتْرَاكُ الْخَلِيفَةَ، قَبَّلُوا الْأَرْضَ.
ثُمَّ دَخَلَ بَغْدَادَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْقَعْدَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمًا مَشْهُودًا، الْجَيْشُ كُلُّهُ مَعَهُ،
وَالْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ آخِذٌ
بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَابِ الْحُجْرَةِ، وَلَمَّا وَصَلَ
الْخَلِيفَةُ إِلَى دَارِ مَمْلَكَتِهِ وَمَقَرِّ خِلَافَتِهِ، اسْتَأْذَنَهُ
السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ فِي الْخُرُوجِ وَرَاءَ الْبَسَاسِيرِيِّ، فَأَذِنَ
لَهُ، وَكَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا أَكْفِيكَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَأَطْلَقَ الْمَلِكُ
لِمُهَارِشٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَلَمْ يَرْضَ.
وَشَرَعَ السُّلْطَانُ فِي تَرْتِيبِ الْجُيُوشِ لِلْمَسِيرِ وَرَاءَ
الْبَسَاسِيرِيِّ، فَأَرْسَلَ جَيْشًا مِنْ نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ لِيَمْنَعُوهُ
مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ وَخَرَجَ هُوَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ
الشَّهْرِ فِي بَقِيَّةِ الْجَيْشِ، وَأَمَّا الْبَسَاسِيرِيُّ، فَإِنَّهُ مُقِيمٌ
بِوَاسِطٍ فِي جَمْعِ غَلَّاتٍ وَتُمُورٍ يُهَيِّئُهَا لِقِتَالِ أَهْلِ بَغْدَادَ
وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْغُزِّ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْمَلِكَ طُغْرُلْبَكَ وَمَنْ
مَعَهُ لَيْسُوا بِشَيْءٍ يُخَافُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ إِهْلَاكِهِ عَلَى يَدَيِ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ جَزَاهُ اللَّهُ
عَنِ الْإِسْلَامِ خَيْرًا، آمِينَ.
صِفَةُ أَخْذِ الْبَسَاسِيرِيِّ
قَبَّحَهُ اللَّهُ
لَمَّا سَارَ السُّلْطَانُ نَحْوَهُ وَصَلَتْ إِلَيْهِ السَّرِيَّةُ الْأَوْلَى
فَلَقُوهُ بِأَرْضِ وَاسِطٍ وَمَعَهُ ابْنُ مَزْيَدٍ، فَاقْتَتَلُوا هُنَالِكَ،
وَانْهَزَمَ أَصْحَابُهُ، وَنَجَا الْبَسَاسِيرِيُّ بِنَفْسِهِ عَلَى فَرَسٍ،
فَتَبِعَهُ بَعْضُ الْغِلْمَانِ، فَرَمَى فَرَسَهُ بِنُشَّابَةٍ، فَأَلْقَتْهُ
إِلَى الْأَرْضِ، فَجَاءَ الْغُلَامُ، فَضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَلَمْ
يَعْرِفْهُ، وَأَسَرَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، يُقَالُ لَهُ كُمُشْتِكْتِينُ، وَحَزَّ
رَأْسَهُ، وَحَمَلَهُ إِلَى السُّلْطَانِ، وَأَخَذَتِ الْأَتْرَاكُ مِنْ جَيْشِ
الْبَسَاسِيرِيِّ مِنَ الْأَمْوَالِ مَا عَجَزُوا عَنْ حَمْلِهِ.
وَلَمَّا وَصَلَ الرَّأْسُ إِلَى السُّلْطَانِ أَمَرَ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى
بَغْدَادَ وَأَنْ يُرْفَعَ عَلَى قَنَاةٍ، وَأَنْ يُطَافَ بِهِ فِي الْمَحَالِّ
وَالدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ وَالنَّفَّاطُونَ مَعَهُ، وَأَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ
وَالنِّسَاءُ لِلْفُرْجَةِ عَلَيْهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ نُصِبَ عَلَى
الطَّيَّارِ تُجَاهَ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَقَدْ كَانَ مَعَ الْبَسَاسِيرِيِّ خَلْقٌ مِنَ الْبَغَادِدَةٍ، خَرَجُوا مَعَهُ
ظَانِّينَ أَنَّهُ سَيَعُودُ إِلَيْهَا مَحَبَّةً فِيهِ، فَهَلَكُوا، وَنُهِبَتْ
أَمْوَالُهُمْ كُلُّهَا، وَلَمْ يَنْجُ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَّا الْقَلِيلُ،
وَفَرَّ ابْنُ مَزْيَدٍ فِي نَاسٍ قَلِيلٍ إِلَى الْبَطِيحَةِ، وَفِيمَنْ مَعَهُ
أَوْلَادُ الْبَسَاسِيرِيِّ وَأُمُّهُمْ، وَقَدْ سَلَبَتْهُمُ الْأَعْرَابُ،
فَلَمْ يَتْرُكُوا لَهُمْ شَيْئًا، فَوَرَدُوا الْبَطِيحَةَ مَسْلُوبِينَ
مَحْرُوبِينَ، ثُمَّ اسْتُؤْمِنَ لِابْنِ مَزْيَدٍ مِنَ السُّلْطَانِ، وَدَخَلَ
مَعَهُ بَغْدَادَ، وَقَدْ نَهَبَتِ الْعَسَاكِرُ السُّلْطَانِيَّةُ مَا بَيْنَ
وَاسِطٍ وَالْبَصْرَةِ وَالْأَهْوَازِ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْجَيْشِ
وَانْتِشَارِهِ وَكَثَافَتِهِ.
وَأُمَّا الْخَلِيفَةُ فَإِنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى دَارِ الْخِلَافَةِ جَعَلَ
لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنَامَ
عَلَى وِطَاءٍ، وَلَا يَأْتِيَهُ
أَحَدٌ بِطَعَامِهِ إِذَا كَانَ صَائِمًا، وَلَا يَخْدِمُهُ فِي وُضُوئِهِ
وَغُسْلِهِ، بَلْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ،، وَعَاهَدَ اللَّهَ
أَنْ لَا يُؤْذِيَ أَحَدًا مِمَّنْ آذَاهُ، وَأَنْ يَصْفَحَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ،
وَكَانَ يَقُولُ: مَا عَاقَبْتُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ
تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
وَفِيهَا تَوَلَّى الْمَلِكُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بْنُ دَاوُدَ جَغْرِيبَكَ بْنِ
مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بِلَادَ خُرَاسَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ
بِتَقْرِيرِ عَمِّهِ طُغْرُلْبَكَ وَكَانَ لَهُ مِنَ الْإِخْوَةِ ثَلَاثَةٌ:
سُلَيْمَانُ وَقَارُوتُبَكُ وَيَاقُوتِيٌّ، فَتَزَوَّجَ طُغْرُلْبَكَ بِأُمِّ
سُلَيْمَانَ هَذَا، وَأَوْصَى لَهُ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ.
وَكَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِمَكَّةَ رُخْصٌ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهِ، بِيعَ
الْبُرُّ وَالتَّمْرُ كُلُّ مِائَتَيْ رِطْلٍ بِدِينَارٍ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَرْسَلَانُ أَبُو الْحَارِسِ الْبَسَاسِيرِيُّ التُّرْكِيُّ
كَانَ مِنْ مَمَالِيكِ بَهَاءِ الدَّوْلَةِ بْنِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ، وَكَانَ
أَوَّلًا مَمْلُوكًا لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ بَسَا، فَنُسِبَ إِلَيْهِ،
فَقِيلَ
لَهُ: الْبَسَاسِيرِيُّ، وَتَلَقَّبَ
بِالْمُظَفَّرِ، ثُمَّ كَانَ مُقَدَّمًا كَبِيرًا عِنْدَ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَهُ، وَخُطِبَ لَهُ عَلَى مَنَابِرِ
الْعِرَاقِ كُلِّهَا، ثُمَّ طَغَى وَبَغَى، وَتَمَرَّدَ وَعَتَا، وَخَرَجَ عَلَى
الْخَلِيفَةِ، بَلْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَا إِلَى خِلَافَةِ
الْفَاطِمِيِّينَ، فَتَمَّ لَهُ مَا رَامَهُ مِنَ الْأَمَلِ الْفَاسِدِ،
وَاسْتُدْرِجَ، ثُمَّ كَانَ أَخْذُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا،
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَكَانَ دُخُولُهُ بِأَهْلِهِ إِلَى بَغْدَادَ فِي سَادِسِ ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ
سَنَةِ خَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ خُرُوجُهُمْ فِي سَادِسِ ذِي
الْقَعْدَةِ أَيْضًا مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَخَمْسِينَ بَعْدَ سَنَةٍ هِلَالِيَّةٍ
كَامِلَةٍ، ثُمَّ كَانَ خُرُوجُ الْخَلِيفَةِ مِنْ بَغْدَادَ فِي يَوْمِ
الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ كَانُونَ الْأَوَّلِ، وَاتَّفَقَ قَتْلُ
الْبَسَاسِيرِيِّ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ كَانُونَ
الْأَوَّلِ بَعْدَ سَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ، وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ
السَّنَةِ.
الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ، أَبُو عَلِيٍّ الشَّرْمَقَانِيُّ
الْمُؤَدِّبُ الْمُقْرِئُ الْحَافِظُ لِلْقِرَاءَاتِ وَاخْتِلَافِهَا، كَانَ
ضَيِّقَ الْحَالِ، فَرَآهُ شَيْخُهُ ابْنُ الْعَلَّافِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ
يَأْخُذُ أَوْرَاقَ الْخَسِّ مِنْ دِجْلَةَ فَيَأْكُلُهُ، فَأَعْلَمَ ابْنَ
الْمُسْلِمَةِ فَأَمَرَ غُلَامَهُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى الْخِزَانَةِ الَّتِي
بِمَسْجِدِهِ، فَيَتَّخِذَ لَهَا مِفْتَاحًا غَيْرَ مِفْتَاحِهِ، ثُمَّ كَانَ
يَضَعُ فِيهَا كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنْ خُبْزِ السَّمِيدِ
وَدَجَاجَةً وَحَلَاوَةَ سُكَّرٍ، فَظَنَّ أَبُو عَلِيٍّ الشَّرْمَقَانِيُّ
أَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ، وَأَنَّ هَذَا
الطَّعَامَ مِنَ الْجَنَّةِ، فَكَتَمَهُ زَمَانًا، وَجَعَلَ يُنْشِدُ:
مَنْ أَطْلَعُوهُ عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ لَمْ يَأْمَنُوهُ عَلَى الْأَسْرَارِ
مَا عَاشَا
فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ذَاكَرَهُ ابْنُ الْعَلَّافِ فِي أَمْرِهِ،
وَقَالَ: أَرَاكَ قَدْ سَمِنْتَ، فَمَا هَذَا الْأَمْرُ وَأَنْتَ رَجُلٌ فَقِيرٌ ؟
فَجَعَلَ يُلَوِّحُ وَلَا يُصَرِّحُ، وَيُكَنِّي وَلَا يُفْصِحُ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ
أَنَّهُ يَجِدُ كُلَّ يَوْمٍ فِي خِزَانَتِهِ مِنْ طَعَامِ الْجَنَّةِ مَا
يَكْفِيهِ. فَقَالَ لَهُ: ادْعُ لِابْنِ الْمُسْلِمَةِ، فَإِنَّهُ الَّذِي
يَفْعَلُ مَعَكَ ذَلِكَ، وَشَرَحَ لَهُ صُورَةَ الْحَالِ، فَانْكَسَرَ وَلَمْ
يُعْجِبْهُ ذَلِكَ.
عَلِيُّ بْنُ مَحْمُودِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاخُرَّةَ، أَبُو الْحَسَنِ
الزَّوْزَنِيُّ
شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ رِبَاطُ الزَّوْزَنِيِّ، وَقَدْ كَانَ
بُنِيَ لِأَبِي الْحَسَنِ الْحُصَرِيِّ شَيْخِهِ، وَقَدْ صَحِبَ أَبَا عَبْدِ
الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ، وَقَالَ: صَحِبْتُ أَلْفَ شَيْخٍ، وَأَحْفَظُ عَنْ
كُلِّ شَيْخٍ حِكَايَةً. تُوُفِّيَ فِي رَمَضَانَ عَنْ خَمْسٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْفَتْحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو طَالِبٍ
الْحَرْبِيُّ
الْمَعْرُوفُ بِالْعُشَارِيِّ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ ; لِطُولِ جَسَدِهِ،
وَقَدْ سَمِعَ الدَّارَقُطْنِيَّ وَغَيْرَهُ،
وَكَانَ ثِقَةً دَيِّنًا صَالِحًا.
تُوُفِّيَ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ نَيَّفَ عَلَى
الثَّمَانِينَ.
الْوَنِّيُّ الْفَرَضِيُّ، الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْوَنِّيُّ
نِسْبَةٌ إِلَى وَنَّ قَرْيَةٍ مِنْ أَعْمَالِ قُهُسْتَانَ، الْفَرَضِيُّ شَيْخُ
الْخَبْرِيِّ، وَهُوَ أَبُو حَكِيمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كَانَ
الْوَنِّيُّ إِمَامًا فِي الْحِسَابِ وَالْفَرَائِضِ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ،
وَتُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بِبَغْدَادَ شَهِيدًا فِي فِتْنَةِ
الْبَسَاسِيرِيِّ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ صَفَرٍ دَخَلَ السُّلْطَانُ
بَغْدَادَ مَرْجِعَهُ مِنْ وَاسِطٍ بَعْدَ قَتْلِ الْبَسَاسِيرِيِّ، وَفِي يَوْمِ
الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ جَلَسَ الْخَلِيفَةُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ،
وَحَضَرَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ وَمَدَّ سِمَاطًا عَظِيمًا بَيْنَ يَدَيْهِ،
فَأَكَلَ الْأُمَرَاءُ مِنْهُ وَالْعَامَّةُ، ثُمَّ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ ثَانِي
رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عَمِلَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ فِي دَارِهِ سِمَاطًا عَظِيمًا
أَيْضًا.
وَفِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ تَاسِعِ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَدَ الْأَمِيرُ
عُدَّةُ الدِّينِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ذَخِيرَةِ الدِّينِ ابْنِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِ، وَجَدَّتُهُ وَعَمَّتُهُ، وَلَهُ مِنَ
الْعُمُرِ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُ سِنِينَ صُحْبَةَ أَبِي الْغَنَائِمِ بْنِ
الْمَحْلَبَانِ، فَتَلَقَّاهُ النَّاسُ إِجْلَالًا لِجَدِّهِ، وَقَدْ وَلِيَ
الْخِلَافَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُقْتَدِي بِأَمْرِ اللَّهِ
وَفِي رَجَبٍ وَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ هِلَالٍ الْعَتَّابِيُّ
دَارَ كُتُبٍ بِشَارِعِ ابْنِ أَبِي عَوْفٍ مِنْ غَرْبِيِّ مَدِينَةِ السَّلَامِ،
وَنَقَلَ إِلَيْهَا أَلْفَ كِتَابٍ عِوَضًا عَنْ دَارِ
أَرْدَشِيرَ الَّتِي أُحْرِقَتْ
بِالْكَرْخِ.
وَفِي شَعْبَانَ مَلَكَ مَحْمُودُ بْنُ نَصْرٍ حَلَبَ وَقَلْعَتَهَا،
فَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ.
وَمَلَكَ عَطِيَّةُ بْنُ صَالِحِ بْنِ مِرْدَاسٍ الرَّحْبَةَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ
يُنْزَعُ مِنْ أَيْدِي الْفَاطِمِيِّينَ.
وَفِيهَا عَادَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ إِلَى الْجَبَلِ، وَعَقَدَ بَغْدَادَ عَلَى
الْعَمِيدِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ فِي السَّنَةِ، وَلِسَنَتَيْنِ بَعْدَهَا
بِثَلَاثِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، فَشَرَعَ الْعَمِيدُ فِي عِمَارَةِ الْكَرْخِ
وَأَسْوَاقِهِ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، غَيْرَ أَنَّ
جَمَاعَةً اجْتَمَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ وَرَكِبُوا مَعَ طَائِفَةٍ مِنَ
الْخَفَرِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
بَايُّ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ بَايٍّ أَبُو مَنْصُورٍ الْجِيلِيُّ
مِنْ تَلَامِذَةِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَلِيَ الْقَضَاءَ بِبَابِ
الطَّاقِ وَبِحَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ جَمَاعَةٍ،
قَالَ الْخَطِيبُ: وَكَتَبْنَا عَنْهُ، وَكَانَ ثِقَةً، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى.
الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
الْفَضْلِ، أَبُو مُحَمَّدٍ النَّسَوِيُّ الْوَالِي
سَمِعَ الْحَدِيثَ، وَكَانَ ذَكِيًّا فِي صَنْعَةِ الْوِلَايَةِ، وَمَعْرِفَةِ
الْمُتَّهَمِ مِنْ بَيْنِ الْغُرَمَاءِ بِلَطِيفٍ مِنَ الصُّنْعِ، كَمَا نُقِلَ
عَنْهُ أَنَّهُ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْ جَمَاعَةٍ اتُّهِمُوا بِسَرِقَةٍ، فَأَتَى
بِكُوزِ لِيَشْرَبَ مِنْهُ، فَرَمَى بِهِ فَانْزَعَجَ الْوَاقِفُونَ إِلَّا
وَاحِدًا، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقَرَّرَ، وَقَالَ: السَّارِقُ يَكُونُ جَرِيئًا
قَوِيًّا. فَوَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ.
وَقَدْ قَتَلَ مَرَّةً وَاحِدًا ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَادُّعِيَ عَلَيْهِ
عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، فَحُكِمَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ، ثُمَّ فَادَى
عَنْ نَفْسِهِ بِمَالٍ جَزِيلٍ حَتَّى خَلَصَ مِنَ الْقَتْلِ.
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرُوسٍ
أَبُو الْفَضْلِ الْبَزَّارُ، انْتَهَتْ إِلَيْهِ رِيَاسَةُ الْفُقَهَاءِ
الْمَالِكِيِّينَ بِبَغْدَادَ، وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ الْمُجَوِّدِينَ وَأَهْلِ
الْحَدِيثِ الْمُسْنِدِينَ، مَعَ ابْنِ حَبَابَةَ وَالْمُخَلِّصِ وَابْنِ
شَاهِينَ، وَقَدْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الدَّامَغَانِيُّ،
فَكَانَ أَحَدَ الْمُعَدَّلِينَ.
قَطْرُ النَّدَى
وَيُقَالُ: بَدْرُ الدُّجَى، وَيُقَالُ: عَلَمُ. أُمُّ الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ
بِأَمْرِ اللَّهِ،
كَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةً، قَدْ بَلَغَتِ التِّسْعِينَ سَنَةً، وَكَانَتْ أَرْمَنِيَّةً، وَهِيَ الَّتِي احْتَاجَتْ فِي زَمَانِ الْبَسَاسِيرِيِّ وَأَلْجَأَتْهَا الْحَاجَةُ حَتَّى كَتَبَتْ إِلَيْهِ رُقْعَةً تَشْكُو فَقْرَهَا وَحَاجَتَهَا، فَأَجْرَى عَلَيْهَا رِزْقًا وَأَخْدَمَهَا جَارِيَتَيْنِ، وَهَذَا كَانَ مِنْ أَحْسَنِ مَا صَنَعَ، ثُمَّ لَمْ تَمُتْ حَتَّى أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهَا بِوَلَدِهَا وَرُجُوعِهِ إِلَيْهَا، وَاسْتَمَرَّ أَمْرُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، فَحَضَرَ وَلَدُهَا الْخَلِيفَةُ جِنَازَتَهَا، وَكَانَتْ حَافِلَةً جِدًّا، رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، آمِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا خَطَبَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ ابْنَةَ الْخَلِيفَةِ، فَانْزَعَجَ
الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ
بِمِثْلِهِ. ثُمَّ طَلَبَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً كَهَيْئَةِ الْمُبْعِدِ لَهُ،
وَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي تُوُفِّيَتْ مِنَ الْإِقْطَاعَاتِ
بِأَرْضِ وَاسِطٍ وَصَدَاقٌ ثَلَاثُمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَأَنْ يُقِيمَ
الْمَلِكُ بِبَغْدَادَ لَا يَتَرَحَّلُ مِنْهَا، وَلَا يَحِيدُ عَنْهَا يَوْمًا أَبَدًا،
فَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِمِائَةِ
أَلْفِ دِينَارٍ مَعَ ابْنَةِ أَخِيهِ دَاوُدَ، زَوْجَةِ الْخَلِيفَةِ أَرْسَلَانَ
خَاتُونَ، وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ آلَاتِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنِّثَارِ
وَالْجَوَارِي وَالْكُرَاعِ، وَمِنَ الْجَوَاهِرِ أَلْفَانِ وَمِائَتَا قِطْعَةٍ،
مِنْ ذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ قِطْعَةً مِنْ جَوْهَرٍ، وَزْنُ كُلِّ
وَاحِدَةٍ مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مَثَاقِيلَ إِلَى الْمِثْقَالِ، وَأَشْيَاءُ
كَثِيرَةٌ. فَتَمَنَّعَ الْخَلِيفَةُ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشُّرُوطِ، فَغَضِبَ
عَمِيدُ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيُّ الْوَزِيرُ لِمَخْدُومِهِ السُّلْطَانِ،
وَجَرَتْ شُرُورٌ طَوِيلَةٌ اقْتَضَتْ أَنْ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ كِتَابًا
يَأْمُرُ فِيهِ بِانْتِزَاعِ ابْنَةِ أَخِيهِ السَّيِّدَةِأَرْسَلَانَ خَاتُونَ، وَنَقْلِهَا
مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ إِلَى دَارِ الْمُلْكِ، حَتَّى تَنْفَصِلَ هَذِهِ
الْقَضِيَّةُ، وَعَزَمَ الْمَلِكُ عَلَى النُّقْلَةِ مِنْ بَغْدَادَ وَأَصْلَحَ
الطَّيَّارَ فَانْزَعَجَ النَّاسُ لِذَلِكَ، وَجَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ إِلَى
رَئِيسِ شِحْنَةِ بَغْدَادَ بِرْشَقَ يَأْمُرُهُ بِعَدَمِ الْمُرَاقَبَةِ،
وَكَثْرَةِ الْعَسْفِ فِي مُقَابَلَةِ رَدِّ أَصْحَابِنَا بِالْحِرْمَانِ،
وَيَعْزِمُ عَلَى نُقْلَةِ الْخَاتُونِ إِلَى دَارِ
الْمَمْلَكَةِ، وَيُرْسِلُ مَنْ
يَحْمِلُهَا إِلَى الْبَلْدَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ غَضَبًا عَلَى
الْخَلِيفَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَمَضَانَ رَأَى إِنْسَانٌ مِنَ الزَّمْنَى
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَهُوَ
قَائِمٌ، وَمَعَهُ ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ فَجَاءَهُ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَقَالَ
لَهُ: أَلَا تَقُومُ ؟ فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنَا رَجُلٌ مُقْعَدٌ، فَأَخَذَ
بِيَدِهِ وَقَالَ: قُمْ، فَقَامَ وَانْتَبَهَ، فَإِذَا هُوَ قَدْ بَرِأَ
وَأَصْبَحَ يَمْشِي فِي حَوَائِجِهِ.
وَفِي رَبِيعٍ الْآخَرِ اسْتَوْزَرَ الْخَلِيفَةُ أَبَا الْفَتْحِ مَنْصُورَ بْنَ
أَحْمَدَ بْنِ دَارَسَتِ الْأَهْوَازِيَّ، وَخَلَعَ عَلَيْهِ، وَجَلَسَ فِي
مَجْلِسِ الْوِزَارَةِ.
وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْهُ كُسِفَتِ الشَّمْسُ
كُسُوفًا عَظِيمًا ; جَمِيعُ الْقُرْصِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَ سَاعَاتٍ، حَتَّى
بَدَتِ النُّجُومُ وَآوَتِ الطُّيُورُ إِلَى أَوْكَارِهَا وَتَرَكَتِ
الطَّيَرَانَ، وَكُلُّ ذَلِكَ لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ.
وَفِيهَا وَلِيَ أَبُو تَمِيمِ بْنُ مُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ بِلَادَ إِفْرِيقِيَّةَ
بَعْدَ وَفَاةِ أَبِيهِ صَاحِبِهَا.
وَفِيهَا وَلِيَ نَصْرُ بْنُ نَصْرِ الدَّوْلَةِ أَحْمَدَ بْنِ مَرْوَانَ
الْكُرْدِيُّ دِيَارَ بَكْرٍ بَعْدَ أَبِيهِ أَيْضًا.
وَفِيهَا وَلِيَ شَرَفُ الدَّوْلَةِ بْنُ قُرَيْشِ بْنِ بَدْرَانَ بِلَادَ
الْمَوْصِلِ وَنَصِيبِينَ بَعْدَ أَبِيهِ.
وَفِيهَا خُلِعَ عَلَى طَرَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيِّ الْمُلَقَّبِ
بِالْكَامِلِ وَوَلِيَ نِقَابَةَ الْعَبَّاسِيِّينَ. وَخُلِعَ عَلَى أُسَامَةَ
بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ وَقُلِّدَ نِقَابَةَ الطَّالِبِيِّينَ
وَلُقِّبَ الْمُرْتَضَى.
وَفِيهَا ضَمِنَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلَّانَ الْيَهُودِيُّ
ضَيَاعَ الْخَلِيفَةِ مِنْ صَرْصَرَ إِلَى
أَوَانَا، كُلُّ سَنَةٍ بِسِتَّةٍ
وَثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ أَلْفَ كُرٍّ مِنْ غَلَّةٍ.
وَلَمْ يَحُجَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ، أَبُو نَصْرٍ الْكُرْدِيُّ
صَاحِبُ بِلَادِ بَكْرٍ وَمَيَّافَارِقِينَ، لَقَّبَهُ الْقَادِرُ بِاللَّهِ
نَصْرَ الدَّوْلَةِ، مَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً،
وَتَنَعَّمَ تَنَعُّمًا لَمْ يَقَعْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَلَا
أَدْرَكَهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ عِنْدَهُ خَمْسُمِائَةِ
سُرِّيَّةٍ سِوَى مَنْ يَخْدِمُهُنَّ، وَعِنْدَهُ خَمْسُمِائَةِ خَادِمٍ، وَعِنْدَهُ
مِنَ الْمُغَنِّيَاتِ شَيْءٌ كَثِيرٌ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَاهَا خَمْسَةُ
آلَافِ دِينَارٍ وَأَكْثَرُ، وَكَانَ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِهِ مِنَ الْآلَاتِ
وَالْأَوَانِي مَا يُسَاوِي مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، وَتَزَوَّجَ بِعِدَّةٍ
مِنْ بَنَاتِ الْمُلُوكِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمُهَادَنَةِ لِلْمُلُوكِ، إِذَا
قَصَدَهُ عَدُوٌّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِمِقْدَارِ مَا يَغْرَمُهُ عَلَى حَرْبِهِ
وَيُصَالِحُهُ بِذَلِكَ، فَيَرْجِعُ عَنْهُ.
وَقَدْ أَرْسَلَ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ بِهَدِيَّةٍ عَظِيمَةٍ حِينَ مَلَكَ
الْعِرَاقَ، مِنْ ذَلِكَ جَبَلٌ مِنْ يَاقُوتٍ كَانَ لِبَنِي بُوَيْهِ، اشْتَرَاهُ
بِمِقْدَارٍ عَظِيمٍ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ عَيْنًا،
وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَوَزَرَ لَهُ أَبُو الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيُّ مَرَّتَيْنِ،
وَوَزَرَ لَهُ أَيْضًا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جُهَيْرٍ،
فَخْرُ الْمُلْكِ، وَكَانَتْ بِلَادُهُ مِنْ آمَنِ الْبِلَادِ، وَأَطْيَبِهَا
وَأَكْثَرِهَا عَدْلًا. وَقَدْ بَلَغَهُ أَنَّ الطُّيُورَ تَنْجِعُ فِي الشِّتَاءِ
فِي الْجِبَالِ إِلَى
الْقُرَى، فَيَصْطَادُهَا النَّاسُ،
فَأَمَرَ بِفَتْحِ الْأَهْرَاءِ وَإِلْقَاءِ مَا يَكْفِيهَا مِنَ الْغَلَّاتِ فِي
مُدَّةِ الشِّتَاءِ، فَكَانَتْ تَكُونُ فِي ضِيَافَتِهِ طُولَ عُمُرِهِ. وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدْ قَارَبَ الثَّمَانِينَ أَوْ جَاوَزَهَا.
قَالَ ابْنُ خَلِّكَانَ: قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ فِي " تَارِيخِهِ ":
إِنَّهُ لَمْ يُصَادِرْ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِهِ سِوَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ
تَفُتْهُ صَلَاةٌ مَعَ كَثْرَةِ مُبَاشَرَتِهِ لِلَّذَّاتِ، وَكَانَتْ لَهُ
ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَظِيَّةً، يَبِيتُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ لَيْلَةً
مِنَ السَّنَةِ، وَخَلَّفَ أَوْلَادًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ
الْحَالِ إِلَى أَنْ تُوَفِّيَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْ
هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا وَرَدَتِ الْكُتُبُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ يَشْكُو
قِلَّةَ إِنْصَافِ الْخَلِيفَةِ وَعَدَمِ مُوَافَاتِهِ لَهُ بِمَا أَسْدَاهُ
إِلَيْهِ مِنَ الْخَدَمِ وَالنِّعَمِ إِلَى مُلُوكِ الْأَطْرَافِ، وَقَاضِي
الْقُضَاةِ الدَّامَغَانِيِّ، فَلَمَّا رَأَى الْخَلِيفَةُ ذَلِكَ، وَأَنَّ
الْمَلِكَ قَدْ أَرْسَلَ إِلَى نُوَّابِهِ بِالِاحْتِيَاطِ عَلَى أَمْلَاكِ
الْخَلِيفَةِ - وَقَدِ انْزَعَجَ لِذَلِكَ - كَتَبَ إِلَى الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ
يُجِيبُهُ إِلَى مَا سَأَلَ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْمَلِكِ فَرِحَ فَرَحًا
شَدِيدًا، وَأَرْسَلَ إِلَى نُوَّابِهِ أَنْ يُطْلِقُوا الْأَمْلَاكَ
الْخَلِيفِيَّةَ. فَلَمَّا انْتَهَتِ الرِّكَابِيَّةُ بِذَلِكَ إِلَى بَغْدَادَ
دَقَّتِ الْبَشَائِرُ بِدَارِ الْخِلَافَةِ، وَطِيفَ بِالرِّكَابِيَّةِ وَبَيْنَ
أَيْدِيهِمُ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِإِجَابَةِ
الْخَلِيفَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ، فَوَكَلَ الْخَلِيفَةُ فِي
الْعَقْدِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ وَكَالَةً، ثُمَّ وَقَعَ الْعَقْدُ بِمَدِينَةِ
تِبْرِيزَ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ وَعَمِلَ سِمَاطًا عَظِيمًا،
فَلَمَّا جِيءَ بِالْوَكَالَةِ قَامَ لَهَا الْمَلِكُ، وَقَبَّلَ الْأَرْضَ عِنْدَ
رُؤْيَتِهَا، ثُمَّ أَوْجَبَ الْعَقْدَ عَلَى صَدَاقِ أَرْبَعِمِائَةِ أَلْفِ
دِينَارٍ، وَكَثُرَ دُعَاءُ النَّاسِ لِلْخَلِيفَةِ، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ
الْخَمِيسِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ بَعَثَ
ابْنَةَ أَخِيهِ الْخَاتُونَ أَرْسَلَانَ خَاتُونَ زَوْجَةَ الْخَلِيفَةِ فِي
شَوَّالٍ بِتُحَفٍ عَظِيمَةٍ، وَذَهَبٍ كَثِيرٍ، وَجَوَاهِرَ عَدِيدَةٍ ثَمِينَةٍ،
وَهَدَايَا عَظِيمَةٍ لِأُمِّ الْعَرُوسِ وَأَهْلِهَا كُلِّهِمْ، وَقَالَ
الْمَلِكُ جَهْرَةً لِلنَّاسِ: أَنَا عَبْدٌ قِنٌّ لِلْخَلِيفَةِ مَا بَقِيتُ، لَا
أَمْلِكُ شَيْئًا سِوَى مَا عَلَيَّ مِنَ الثِّيَابِ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ
وَزِيرَهُ، وَاسْتَوْزَرَ أَبَا نَصْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جُهَيْرٍ،
اسْتَقْدَمَهُ مِنْ مَيَّافَارِقِينَ.
وَفِيهَا عَمَّ الرُّخْصُ جَمِيعَ الْأَرْضِ حَتَّى أُبِيعَ بِالْبَصْرَةِ كُلُّ
أَلْفِ رِطْلِ تَمْرٍ بِثَمَانِ قَرَارِيطَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ثُمَالُ بْنُ صَالِحٍ مُعِزُّ الدَّوْلَةِ
صَاحِبُ حَلَبَ كَانَ كَرِيمًا حَلِيمًا وَقُورًا ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ
الْفَرَّاشَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ لِيَغْسِلَ يَدَهُ فَصَدَمَتْ بَلْبَلَةُ
الْإِبْرِيقِ ثَنِيَّتَهُ، فَسَقَطَتْ فِي الطَّسْتِ، فَعَفَا عَنْهُ.
الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ
وُلِدَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَسَمِعَ
الْحَدِيثَ عَلَى جَمَاعَةٍ، وَتَفَرَّدَ بِمَشَايِخَ كَثِيرَةٍ. مِنْهُمْ أَبُو
بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ حَدَّثَ عَنْهُ، تُوُفِّيَ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، أَبُو عَلِيٍّ الدَّبَّاغُ
قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحْيِيَنِي عَلَى الْإِسْلَامِ. فَقَالَ: وَعَلَى
السُّنَّةِ، وَعَلَى السُّنَّةِ، وَعَلَى السُّنَّةِ.
سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَبُو الْمَحَاسِنِ الْجُرْجَانِيُّ
كَانَ رَئِيسًا قَدِيمًا، وُجِّهَ رَسُولًا إِلَى الْمَلِكِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ فِي حُدُودِ سَنَةِ عَشْرٍ، وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ
الْعُلَمَاءِ، تَخَرَّجَ بِهِ جَمَاعَةٌ، وَرَوَى الْحَدِيثَ عَنْ جَمَاعَةٍ،
وَعُقِدَ لَهُ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ بِبُلْدَانٍ كَثِيرَةٍ، وَقُتِلَ ظُلْمًا
بِإِسْتَرَابَاذَ فِي رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِيَّانَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا دَخَلَ السُّلْطَانُ طُغْرُلْبَكُ بَغْدَادَ وَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى
تَلَقِّيهِ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَ وَزِيرَهُ أَبَا نَصْرٍ عِوَضًا
عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الْجَيْشِ أَذِيَّةٌ لِلنَّاسِ فِي الطَّرِيقِ، وَتَعَرُّضٌ
لِلْحُرَمِ حَتَّى إِنَّهُمْ هَجَمُوا عَلَى النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ،
فَخَلَّصَهُنَّ مِنْهُمُ الْعَامَّةُ بَعْدَ جَهْدٍ جَهِيدٍ.
دُخُولُ الْمَلِكِ طُغْرُلْبَكَ عَلَى بِنْتِ الْخَلِيفَةِ
لَمَّا اسْتَقَرَّ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ بِبَغْدَادَ، أَرْسَلَ وَزِيرَهُ
عَمِيدَ الْمُلْكِ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُطَالِبُهُ بِنَقْلِ السَّيِّدَةِ مِنَ
الدَّارِ الْعَزِيزَةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ، فَتَمَنَّعَ
الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: إِنَّكُمْ إِنَّمَا سَأَلْتُمْ أَنْ يَعْقِدَ
الْعَقْدَ فَقَطْ لِحُصُولِ التَّشْرِيفِ، وَالْتَزَمْتُمْ لَنَا بِعَدَمِ
الْمُطَالَبَةِ بِهَا، فَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلِيفَةِ وَالْمَلِكِ،
وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ زِيَادَةً عَلَى النَّقْدِ مِائَةَ أَلْفِ دِينَارٍ
وَمِائَةً وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَتُحَفًا أُخَرَ، وَأَشْيَاءَ لَطِيفَةً،
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الِاثْنَيْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ صَفَرِ هَذِهِ
السَّنَةِ زُفَّتِ السَّيِّدَةُ ابْنَةُ الْخَلِيفَةِ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ،
فَضُرِبَتْ لَهَا السُّرَادِقَاتُ مِنْ دِجْلَةَ إِلَى دَارِ الْمَمْلَكَةِ،
وَضُرِبَتِ الدَّبَادِبُ وَالْبُوقَاتُ عِنْدَ دُخُولِهَا دَارَ الْمَمْلَكَةِ،
وَكَانَتْ سَاعَةً عَظِيمَةً، فَأُجْلِسَتْ
عَلَى سَرِيرٍ مُكَلَّلٍ بِالذَّهَبِ، وَعَلَى وَجْهِهَا بُرْقُعٌ، وَدَخَلَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ فَوَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهَا، فَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَلَمْ تَقُمْ لَهُ وَلَمْ تَرَهُ، وَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى انْصَرَفَ إِلَى صَحْنِ الدَّارِ، وَالْحُجَّابُ وَالْأَتْرَاكُ يَرْقُصُونَ هُنَاكَ فَرَحًا وَسُرُورًا، وَبَعَثَ لَهَا مَعَ الْخَاتُونِ أَرْسَلَانَ ابْنَةِ أَخِيهِ زَوْجَةِ الْخَلِيفَةِ عِقْدَيْنِ فَاخِرَيْنِ وَقِطْعَةَ يَاقُوتٍ حَمْرَاءَ كَبِيرَةً هَائِلَةً، وَدَخَلَ مِنَ الْغَدِ فَقَبَّلَ الْأَرْضَ، وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مُكَلَّلٍ بِالْفِضَّةِ بِإِزَائِهَا سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجَ وَأَرْسَلَ لَهَا جَوَاهِرَ نَفِيسَةً كَثِيرَةً مُثَمَّنَةً، وَفَرَجِيَّةَ نَسِيجٍ مُكَلَّلَةً بِاللُّؤْلُؤِ، وَمَا زَالَ كَذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ يَدْخُلُ، وَيُقَبِّلُ الْأَرْضَ، وَيَجْلِسُ عَلَى سَرِيرٍ بِإِزَائِهَا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَبْعَثُ بِالتُّحَفِ وَالْهَدَايَا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِلَيْهَا شَيْءٌ مِقْدَارَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَيَمُدُّ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ سِمَاطًا عَظِيمًا، وَخَلَعَ يَوْمَ السَّابِعِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَرَاءِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ سَفَرٌ وَاعْتَرَاهُ مَرَضٌ، فَاسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ بِالِانْصِرَافِ بِالسَّيِّدَةِ مَعَهُ إِلَى تِلْكَ الْبِلَادِ مُدَّةً قَرِيبَةً، ثُمَّ يَعُودُ بِهَا، فَأَذِنَ لَهُ الْخَلِيفَةُ بَعْدَ تَمَنُّعٍ شَدِيدٍ وَحُزْنٍ عَظِيمٍ، فَخَرَجَ بِهَا مَعَهُ، وَلَيْسَ مَعَهَا مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ سِوَى ثَلَاثِ نِسْوَةٍ، بِرَسْمِ خِدْمَتِهَا، وَتَأَلَّمَتْ وَالِدَتُهَا لِفَقْدِهَا أَلَمًا عَظِيمًا جِدًّا لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَخَرَجَ السُّلْطَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ مُدْنِفٌ مَأْيُوسٌ مِنْهُ مُثْقَلٌ لَا تُرْجَى مِنْهُ الْعَافِيَةُ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْأَحَدِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ جَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّ الْمَلِكَ طُغْرُلْبَكَ تُوُفِّيَ فِي ثَامِنِ الشَّهْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَارَتِ الْعَيَّارُونَ بِهَمَذَانَ، فَقَتَلُوا الْعَمِيدَ وَالشِّحْنَةَ وَسَبْعَمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ، وَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ عَلَى الْقَتْلَى نَهَارًا حَتَّى انْسَلَخَ الشَّهْرُ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَقَبَّحَهُمْ، وَأُخِذَتِ الْبَيْعَةُ بَعْدَهُ لِوَلَدِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ، وَكَانَ طُغْرُلْبَكُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ وَأَوْصَى إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ
قَدْ تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ بَعْدَ
أَبِيهِ، وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ وَأُنْفِقَتْ فِي الْأُمَرَاءِ
وَالْأَتْرَاكِ الْأَمْوَالُ وَالْخِلَعُ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ خَوْفٌ.
إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَخِي سُلَيْمَانَ، وَهُوَ الْمَلِكُ عَضُدِ الدَّوْلَةِ
أَلْبُ أَرْسَلَانَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ، فَإِنَّ الْجَيْشَ كَانُوا يَمِيلُونَ
إِلَيْهِ وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ، وَقَدْ خَطَبَ لَهُ أَهْلُ الْجَبَلِ، وَمَعَهُ
نِظَامُ الْمُلْكِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْحَاقَ
وَزِيرُهُ، وَلَمَّا رَأَى الْكُنْدُرِيُّ قُوَّةَ أَمْرِهِ خَطَبَ لَهُ
بِالرَّيِّ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ.
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ عَاقِلًا حَلِيمًا، كَثِيرَ الِاحْتِمَالِ،
شَدِيدَ الْكِتْمَانِ لِلسِّرِّ، مُحَافِظًا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَعَلَى صَوْمِ
الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، مُوَاظِبًا عَلَى لُبْسِ الْبَيَاضِ، وَكَانَ عُمُرُهُ
يَوْمَ مَاتَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا، وَكَانَ مُدَّةُ
مُلْكِهِ بِحَضْرَةِ الْقَائِمِ سَبْعَ سِنِينَ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا،
وَاثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَمَّا مَاتَ اضْطَرَبَتِ الْأَحْوَالُ وَانْتَقَضَتْ
بَعْدَهُ جِدًّا، وَعَاثَتِ الْأَعْرَابُ فِي سَوَادِ بَغْدَادَ وَأَرْضِ الْعِرَاقِ
يَنْهَبُونَ الْأَمْوَالَ وَيُشَلِّحُونَ الرِّجَالَ. وَتَعَذَّرَتِ الزِّرَاعَةُ
إِلَّا عَلَى الْمُخَاطَرَةِ، فَانْزَعَجَ لِذَلِكَ النَّاسُ.
وَفِيهَا كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ بِوَاسِطٍ وَأَرْضِ الشَّامِ فَهُدِمَتْ
قِطْعَةٌ مِنْ سُورِ طَرَابُلُسَ.
وَفِيهَا وَقَعَ مُوتَانٌ بِالْجُدَرِيِّ وَالْفَجْأَةِ، وَوَقَعَ بِمِصْرَ
وَبَاءٌ شَدِيدٌ، كَانَ يَخْرُجُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ جِنَازَةٍ. وَفِيهَا
مَلَكَ الصُّلَيْحِيُّ صَاحِبُ الْيَمَنِ مَكَّةَ وَجَلَبَ الْأَقْوَاتَ
إِلَيْهَا، وَأَحْسَنَ إِلَى أَهْلِهَا.
وَفِي أَوَائِلِ هَذِهِ طَلَبَتِ
السِّتُّ أَرْسَلَانُ خَاتُونَ زَوْجَةُ الْخَلِيفَةِ النُّقْلَةَ مِنْ عِنْدِهِ
إِلَى عِنْدِ عَمِّهَا، وَذَلِكَ لَمَّا هَجَرَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَبَارَتْ
عِنْدَهُ، فَبَعَثَهَا الْخَلِيفَةُ مَعَ الْوَزِيرِ الْكُنْدُرِيِّ، فَلَمَّا
وَصَلَتْ إِلَى عَمِّهَا كَانَ مَرِيضًا مُدْنِفًا مُثْقَلًا، فَأَرْسَلَ إِلَى
الْخَلِيفَةِ يَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي تَهَاوُنِهِ بِهَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ
الْخَلِيفَةُ يَقُولُ ارْتِجَالًا:
ذَهَبَتْ شِرَّتِي وَوَلَّى الْغَرَامُ وَارْتِجَاعُ الشَّبَابِ مَا لَا يُرَامُ
أَذْهَبَتْ مِنِّي اللَّيَالِي جَدِيدًا
وَاللَّيَالِي يُضْعِفْنَ وَالْأَيَّامُ فَعَلَى مَا عَهِدْتُهُ مِنْ شَبَابِي
وَعَلَى الْغَانِيَاتِ مِنِّي السَّلَامُ
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْمَشَاهِيرِ:
زُهَيْرُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ خِدَامٍ، أَبُو نَصْرٍ الْخِدَامِيُّ
وَرَدَ بَغْدَادَ وَتَفَقَّهَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
الْإِسْفَرَايِينِيِّ، وَسَمِعَ بِالْبَصْرَةِ " سُنَنَ أَبِي دَاوُدَ "
عَلَى الْقَاضِي أَبِي عُمَرَ، وَحَدَّثَ بِالْكَثِيرِ، وَكَانَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ
فِي الْفَتَاوَى وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِسَرَخْسَ فِي
هَذِهِ السَّنَةِ.
سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ
صَاحِبُ آمِدَ وَيُقَالُ: إِنَّهُ سُمَّ، فَانْتَقَمَ صَاحِبُ مَيَّافَارِقِينَ
مِمَّنْ سَمَّهُ، فَقَطَّعَهُ قِطَعًا.
الْمَلِكُ الْكَبِيرُ أَبُو طَالِبٍ
مُحَمَّدُ بْنُ مِيكَائِيلَ بْنِ سَلْجُوقَ بْنِ دُقَاقٍ الْمُلَقَّبُ
طُغْرُلْبَكَ
كَانَ أَوَّلُ مُلُوكِ السَّلَاجِقَةِ، وَكَانَ خَيِّرًا مُصَلِّيًا، مُحَافِظًا
عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا، يُدِيمُ صِيَامَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ،
حَلِيمًا عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ، كَتُومًا لِلْأَسْرَارِ، سَعِيدًا فِي
حَرَكَاتِهِ وَتَقَلُّبَاتِهِ، مَلَكَ فِي أَيَّامِ مَسْعُودِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ
سُبُكْتِكِينَ عَامَّةَ بِلَادِ خُرَاسَانَ وَاسْتَنَابَ أَخَاهُ دَاوُدَ
وَأَخَاهُ لِأُمِّهِ إِبْرَاهِيمَ يَنَّالَ وَأَوْلَادَ إِخْوَتِهِ عَلَى كَثِيرٍ
مِنَ الْبِلَادِ، ثُمَّ اسْتَدْعَاهُ الْخَلِيفَةُ لِمُلْكِ الْعِرَاقِ حِينَ
فَسَدَ الْحَالُ بِبَغْدَادَ مِنَ الْبَسَاسِيرِيِّ وَضَعُفَ الْمَلِكُ
الرَّحِيمُ، فَقَدِمَهَا وَجَلَسَ لَهُ الْخَلِيفَةُ وَخَلَعَ عَلَيْهِ سَبْعَ
خِلَعٍ، وَلَقَّبَهُ بِمَلِكِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِقِتَالِ
أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ الْبَسَاسِيرِيِّ مَا ذَكَرْنَاهُ
فِي سَنَةِ خَمْسِينَ وَالَّتِي تَلِيهَا، ثُمَّ ظَفِرَ بِأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ
فَقَتَلَهُ، ثُمَّ عَادَ إِلَى بَغْدَادَ فَاسْتَعَادَهَا وَأَعَادَ الْخَلِيفَةَ
مِنْ حَدِيثَةِ عَانَةَ إِلَى دَارِ خِلَافَتِهِ وَمَقَرِّ سَعَادَتِهِ، ثُمَّ
سَعَى فِي التَّزْوِيجِ بِبِنْتِ الْخَلِيفَةِ فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ تَمَنُّعٍ
مِنَ الْخَلِيفَةِ، وَدَخَلَ بِهَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَفَرِحَ فَرَحًا
شَدِيدًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِهَا، فَإِنَّهُ عَرَضَ
لَهُ مَرَضٌ مُتْلِفٌ وَاسْتَمَرَّ بِهِ حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي ثَامِنِ
رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ مِنَ الْعُمُرِ سَبْعُونَ سَنَةً،
وَكَانَ لَهُ فِي الْمُلْكِ مُدَّةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، مِنْهَا فِي مَمْلَكَةِ
الْعِرَاقِ ثَمَانُ سِنِينَ إِلَّا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِيهَا قَبَضَ السُّلْطَانُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ عَلَى وَزِيرِ عَمِّهِ عَمِيدِ
الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ، وَسَجَنَهُ فِي بَعْضِ الْقِلَاعِ سَنَةً، ثُمَّ
أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ، وَاعْتَمَدَ فِي الْوِزَارَةِ عَلَى نِظَامِ
الْمُلْكِ وَكَانَ وَزِيرَ صِدْقٍ، يُكْرِمُ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَرَاءَ،
وَلَمَّا عَصَى الْمَلِكُ شِهَابُ الدَّوْلَةِ قُتُلْمِشُ، وَخَرَجَ عَنِ
الطَّاعَةِ، وَطَمِعَ فِي أَخْذِ الْمُلْكِ مِنْ أَلْبِ أَرْسَلَانَ، وَكَانَ مِنْ
بَنِي عَمِّ طُغْرُلْبَكَ، فَجَمَعَ وَحَشَدَ وَاحْتَفَلَ لَهُ أَلْبُ
أَرْسَلَانَ، فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، لَا تَخَفْ ; فَإِنِّي
قَدِ اسْتَخْدَمْتُ لَكَ جُنْدًا لَيْلِيًّا يَدْعُونَ لَكَ وَيَنْصُرُونَكَ
بِالتَّوَجُّهِ فِي صَلَوَاتِهِمْ وَخَلَوَاتِهِمْ، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ
وَالصُّلَحَاءُ. فَطَابَتْ نَفْسُهُ بِذَلِكَ، فَحِينَ الْتَقَى مَعَ قُتُلْمِشَ
لَمْ يَنْتَظِرْهُ أَنْ كَسَرَهُ، وَقَتَلَ خَلْقًا مِنْ جُنُودِهِ، وَقُتِلَ
قُتُلْمِشُ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى أَلْبِ
أَرْسَلَانَ.
وَفِيهَا أَرْسَلَ وَلَدَهُ مَلِكْشَاهْ وَوَزِيرَهُ نِظَامَ الْمُلْكِ هَذَا فِي
جُنُودٍ عَظِيمَةٍ إِلَى بِلَادِ الْكُرَجِ، فَفَتَحُوا حُصُونًا كَثِيرَةً
وَغَنِمُوا أَمْوَالًا جَزِيلَةً جِدًّا، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِنَصْرِهِمْ،
وَكَتَبَ كِتَابَ وَلَدِهِ عَلَى ابْنَةِ الْخَانِ الْأَعْظَمِ صَاحِبِ مَا
وَرَاءَ النَّهْرِ وَزَوَّجَ وَلَدَهُ الْآخَرَ بِابْنَةِ صَاحِبِ غَزْنَةَ
وَاجْتَمَعَ شَمْلُ الْبَيْتَيْنِ السَّلْجُوقِيِّ وَالْمَحْمُودِيِّ.
وَفِيهَا أَذِنَ أَلْبُ أَرْسَلَانَ لِلسَّيِّدَةِ ابْنَةِ الْخَلِيفَةِ فِي
الرُّجُوعِ إِلَى بَغْدَادَ وَأَرْسَلَ
مَعَهَا بَعْضَ الْقُضَاةِ
وَالْأُمَرَاءِ، فَدَخَلَتْ بَغْدَادَ فِي تَجَمُّلٍ عَظِيمٍ، وَخَرَجَ النَّاسُ
لِلنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَدَخَلَتْ لَيْلًا فِي أُبَّهَةٍ، فَفَرِحَ الْخَلِيفَةُ
وَأَهْلُهَا بِذَلِكَ، وَأَمَرَ الْخَلِيفَةُ بِالدُّعَاءِ لِلْمَلِكِ أَلْبَ
أَرْسَلَانَ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي الْخُطَبِ، فَقِيلَ فِي الدُّعَاءِ:
اللَّهُمَّ وَأَصْلِحِ السُّلْطَانَ الْمُعَظَّمَ عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَتَاجَ
الْمِلَّةِ أَلْبَ أَرْسَلَانَ أَبَا شُجَاعٍ مُحَمَّدَ بْنَ دَاوُدَ. وَجَلَسَ
الْخَلِيفَةُ لِلنَّاسِ جُلُوسًا عَامًّا وَبَايَعَهُمْ لِلْمَلِكِ أَلْبَ
أَرْسَلَانَ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ بِالْخِلَعِ وَالتَّقْلِيدِ مَعَ الشَّرِيفِ
نَقِيبِ الْعَبَّاسِيِّينَ طِرَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّيْنَبِيِّ، وَأَبِي
مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ، وَمُوَفَّقٍ الْخَادِمِ، وَلَقَّبَ الْوَزِيرَ نِظَامَ
الْمُلْكِ قَوَامَ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ رَضِيَّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،
وَإِنَّمَا كَانَ يُقَالُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ: خَوَاجَا بَزْرَكَ. وَأَرْسَلَ
الْمَلِكُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ بِالْهَدَايَا وَالتُّحَفِ النَّفِيسَةِ
الْمُفْتَخَرَةِ، وَاسْتَقَرَّ أَمْرُهُ عَلَى بَغْدَادَ وَجَمِيعَ بِلَادِ
الْعِرَاقِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ شَاعَ بِبَغْدَادَ أَنَّ
قَوْمًا مِنَ الْأَكْرَادِ خَرَجُوا يَتَصَيَّدُونَ، فَرَأَوْا فِي الْبَرِّيَّةِ
خِيَامًا سُودًا، سَمِعُوا فِيهَا لَطْمًا شَدِيدًا، وَعَوِيلًا كَثِيرًا،
وَقَائِلًا يَقُولُ: قَدْ مَاتَ سَيِّدُوكُ مَلِكُ الْجِنِّ، وَأَيُّ بَلَدٍ لَمْ
يُلْطَمْ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقُمْ لَهُ مَأْتَمٌ فِيهِ قُلِعَ أَصْلُهُ
وَأُهْلِكَ أَهْلُهُ. قَالَ: فَخَرَجَ النِّسَاءُ الْعَوَاهِرُ مِنْ حَرِيمِ
بَغْدَادَ إِلَى الْمَقَابِرِ يَلْطِمْنَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَيَخْرِقْنَ
ثِيَابَهُنَّ، وَيَنْشُرْنَ شُعُورَهُنَّ، وَخَرَجَ رِجَالٌ مِنَ السَّفْسَافِ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَفُعِلَ هَذَا فِي وَاسِطٍ وَخُوزِسْتَانَ وَغَيْرِهَا مِنَ
الْبِلَادِ. قَالَ: وَكَانَ هَذَا فَنًّا مِنَ الْحُمْقِ لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُهُ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي
يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَانِي عَشَرَ شَعْبَانَ هَجَمَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ
الصَّمَدِ عَلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ الْمُدَرِّسِ لِلْمُعْتَزِلَةِ
فَسَبُّوهُ وَشَتَمُوهُ ; لِامْتِنَاعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْجَامِعِ
وَتَدْرِيسِهِ لِهَذَا الْمَذْهَبِ، وَأَهَانُوهُ وَجَرُّوهُ، وَلُعِنَتِ
الْمُعْتَزِلَةُ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، وَجَلَسَ أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي
عِمَامَةَ، فَلَعَنَ الْمُعْتَزِلَةَ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي شَوَّالٍ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّ السُّلْطَانَ غَزَا بَلَدًا عَظِيمًا،
فِيهِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ دَارٍ، وَأَلْفُ بِيعَةٍ وَدَيْرٍ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ
خَلْقًا كَثِيرًا، وَأَسَرَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ إِنْسَانٍ.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ حَدَثَ بِالنَّاسِ وَبَاءٌ عَظِيمٌ بِبَغْدَادَ وَغَيْرِهَا
مِنْ بِلَادِ الْعِرَاقِ، وَغَلَتِ الْأَسْعَارُ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا،
وَعُدِمَ الشِّيرْخُشْكَ وَقَلَّ التَّمْرُهِنْدِيٍّ، وَزَادَ الْحَرُّ فِي
تَشَارِينَ، وَفَسَدَ الْهَوَاءُ.
وَفِي هَذَا الشَّهْرِ خُلِعَ عَلَى أَبِي الْغَنَائِمِ الْمَعْمَرِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَلَوِيِّ فِي بَيْتِ النُّوبَةِ بِنِقَابَةِ
الطَّالِبِيِّينَ، وَالْحَجِّ وَالْمَظَالِمِ، وَلُقِّبَ بِالطَّاهِرِ ذِي
الْمَنَاقِبِ، وَقُرِئَ تَقْلِيدُهُ فِي الْمَوْكِبِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَهْلُ الْعِرَاقِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ
وَالْمِنَّةُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ
هُوَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ الْعَلَّامَةُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمِ بْنِ غَالِبِ بْنِ صَالِحِ بْنِ خَلَفِ بْنِ مَعْدَانَ
بْنِ سُفْيَانَ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى
يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ
بْنِ حَرْبٍ الْأُمَوِيُّ، أَصْلُ جَدِّهِ يَزِيدُ هَذَا فَارِسِيٌّ، أَسْلَمَ
وَخَلَّفَ الْمَذْكُورَ، أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ بِلَادَ الْمَغْرِبِ،
وَكَانَتْ بَلَدُهُمْ قُرْطُبَةُ فَوُلِدَ ابْنُ حَزْمٍ هَذَا بِهَا فِي سَلْخِ
رَمَضَانَ، مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَقَرَأَ
الْقُرْآنَ، وَاشْتَغَلَ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، فَبَرَزَ فِيهَا، وَفَاقَ
أَهْلَ زَمَانِهِ، وَصَنَّفَ الْكُتُبَ الْمُفِيدَةَ الْمَشْهُورَةَ، يُقَالُ: إِنَّهُ
جَمَعَ أَرْبَعَمِائَةِ مُجَلَّدَةٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَمَانِينَ
أَلْفَ وَرَقَةٍ.
وَكَانَ أَدِيبًا طَبِيبًا شَاعِرًا فَصِيحًا، لَهُ فِي الطِّبِّ وَالْمَنْطِقِ
الْيَدُ الْعُلْيَا، وَكَانَ مِنْ بَيْتِ وِزَارَةٍ وَرِيَاسَةٍ وَوَجَاهَةٍ وَمَالٍ
وَثَرْوَةٍ، وَكَانَ مُصَاحِبًا لِلشَّيْخِ أَبِي عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْبَرِّ
النَّمِرِيِّ، وَكَانَ مُنَاوِئًا لِلشَّيْخِ أَبِي الْوَلِيدِ سُلَيْمَانَ بْنِ
خَلَفٍ الْبَاجِيِّ، وَقَدْ جَرَتْ بَيْنَهُمَا مُنَاظَرَاتٌ يَطُولُ شَرْحُهَا.
وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ كَثِيرَ الْوَقِيعَةِ فِي الْعُلَمَاءِ
بِلِسَانِهِ وَقَلَمِهِ أَيْضًا، فَأَوْرَثَهُ ذَلِكَ حِقْدًا فِي قُلُوبِ أَهْلِ
زَمَانِهِ، وَمَا زَالُوا بِهِ حَتَّى بَغَّضُوهُ إِلَى مُلُوكِهِمْ، فَطَرَدُوهُ
عَنْ بِلَادِهِ، حَتَّى كَانَتْ وَفَاتُهُ فِي قَرْيَةٍ لَهُ فِي ثَانِي شَعْبَانَ
مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ وَقَدْ جَاوَزَ السَّبْعِينَ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرِيًّا فِي الْفُرُوعِ، لَا
يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ، لَا الْجَلِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا
الَّذِي وَضَعَهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ خَطَأً كَبِيرًا فِي
نَظَرِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَكَانَ مَعَ هَذَا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَأْوِيلًا فِي
بَابِ الْأُصُولِ ; لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ تَضَلَّعَ أَوَّلًا مِنْ عِلْمِ
الْمَنْطِقِ، أَخَذَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَذْحِجِيِّ
الْكِنَانِيِّ الْقُرْطُبِيِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ مَاكُولَا وَابْنُ خَلِّكَانَ،
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
بُرْهَانَ، أَبُو الْقَاسِمِ النَّحْوِيُّ
كَانَ شَرِسَ الْأَخْلَاقِ جِدًّا، لَمْ يَلْبَسْ سَرَاوِيلَ قَطُّ، وَلَا غَطَّى
رَأْسَهُ، وَلَمْ يَقْبَلْ عَطَاءً لِأَحَدٍ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ
يُقَبِّلُ الْمُرْدَ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ. قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَكَانَ يَخْتَارُ
مَذْهَبَ مُرْجِئَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَيَنْفِي خُلُودَ الْكُفَّارِ، وَيَقُولُ:
دَوَامُ الْعِقَابِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّشَفِّي لَا وَجْهَ
لَهُ مَعَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَيَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ
تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [ النِّسَاءِ: 169 ] أِيْ أَبَدًا مِنَ
الْآبَادِ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ كَانَ ابْنُ بُرْهَانَ يَقْدَحُ فِي
أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَيُخَالِفُ اعْتِقَادُهُ اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِينَ ;
لِأَنَّهُ قَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ فِي عَدَمِ خُلُودِ الْكُفَّارِ فِي
النَّارِ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ كَلَامُهُ. تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ وَقَدْ
نَيَّفَ عَلَى الثَّمَانِينَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
فِيهَا سَارَ جَمَاعَةٌ لِلْحَجِّ بِخِفَارَةٍ فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْمَسِيرُ
فَعَدَلُوا إِلَى الْكُوفَةِ وَرَجَعُوا، وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا شُرِعَ فِي
بِنَاءِ الْمَدْرَسَةِ النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَنُقِضَ لِأَجْلِهَا دَوْرٌ
كَثِيرَةٌ مِنْ مَشْرِعَةِ الزَّوَايَا وَبَابِ الْبَصْرَةِ وَفِيهَا كَانَتْ
حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ بَيْنَ تَمِيمِ بْنِ الْمُعِزِّ بْنِ بَادِيسَ وَأَوْلَادِ
حَمَّادٍ وَالْعَرَبِ وَالْمَغَارِبَةِ بِصِنْهَاجَةَ وَزَنَاتَةَ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ مِنْ بَغْدَادَ النَّقِيبُ أَبُو الْغَنَائِمِ.
وَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ عَمِيدِ الْمُلْكِ الْكُنْدُرِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ
مَنْصُورِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَبُو نَصْرٍ وَزِيرُ طُغْرُلْبَكَ وَقَدْ كَانَ
مَسْجُونًا لَهُ سَنَةً تَامَّةً، وَلَمَّا قُتِلَ حُمِلَ فَدُفِنَ عِنْدَ أَبِيهِ
بِقَرْيَةِ كُنْدُرَ مِنْ عَمَلِ طُرَيْثِيثَ وَلَيْسَتْ بِكُنْدُرَ
الَّتِي بِالْقُرْبِ مِنْ قَزْوِينَ
وَاسْتَحْوَذَ السُّلْطَانُ عَلَى أَمْوَالِهِ وَحَوَاصِلِهِ، وَقَدْ كَانَ ذَكِيًّا
فَصِيحًا شَاعِرًا لَدَيْهِ فَضَائِلُ جَمَّةٌ حَاضِرَ الْجَوَابِ سَرِيعَهُ.
وَلَمَّا أَرْسَلَهُ طُغْرُلْبَكُ إِلَى الْخَلِيفَةِ يَخْطُبُ إِلَيْهِ ابْنَتَهُ
وَامْتَنَعَ الْخَلِيفَةُ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، أَنْشَدَ
مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ الْمُتَنَبِّي:
مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ
فَتَمَّمَهُ الْوَزِيرُ:
تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لَا تَشْتَهِي السُّفُنُ
فَسَكَتَ الْخَلِيفَةُ وَأَطْرَقَ.
وَكَانَ عُمْرُ الْكُنْدُرِيِّ حِينَ قُتِلَ نَيِّفًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَمِنْ
شِعْرِهِ الْجَيِّدِ قَوْلُهُ:
إِنْ كَانَ فِي النَّاسِ ضِيقٌ عَنْ مُنَافَسَتِي فَالْمَوْتُ قَدْ وَسَّعَ
الدُّنْيَا عَلَى النَّاسِ
مَضَيْتُ وَالشَّامِتُ الْمَغْبُونُ يَتْبَعُنِي كُلٌّ لِكَأْسِ الْمَنَايَا
شَارِبٌ حَاسِي
وَقَدْ كَانَ الْمَلِكُ طُغْرُلْبَكُ بَعَثَهُ مَرَّةً يَخْطُبُ لَهُ امْرَأَةَ
خُوَارَزْمَ شَاهْ فَتَزَوَّجَهَا هُوَ فَخَصَاهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ،
فَدُفِنَ ذَكَرُهُ بِخُوَارَزْمَ وَسُفِحَ دَمُهُ حِينَ قُتِلَ بِمَرْوِ الرُّوذِ،
وَدُفِنَ جَسَدُهُ بِكُنْدُرَ، وَحُمِلَ رَأْسُهُ فَدُفِنَ بِنَيْسَابُورَ
وَنُقِلَ قَحْفُ رَأْسِهِ إِلَى كَرْمَانَ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ.
فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَغْلَقَ أَهْلُ الْكَرْخِ دَكَاكِينَهُمْ وَأَحْضَرُوا
نِسَاءً فَنُحْنَ عَلَى الْحُسَيْنِ كَمَا جَرَتْ بِهِ سَالِفُ عَادَاتِ بِدَعِهِمُ
الْمُتَقَدِّمَةِ، فَحِينَ وَقَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَتْهُ الْعَامَّةُ، وَطَلَبَ
الْخَلِيفَةُ أَبَا الْغَنَائِمِ نَقِيبَ الطَّالِبِيِّينَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ، فَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ حِينَ عَلِمَ
بِهِ أَزَالَهُ وَتَرَدَّدَ أَهْلُ الْكَرْخِ إِلَى الدِّيوَانِ يَعْتَذِرُونَ
مِنْ ذَلِكَ، وَيَتَنَصَّلُونَ مِنْهُ وَخَرَجَ التَّوْقِيعُ بِكُفْرِ مَنْ
يَسُبُّ الصَّحَابَةَ وَيُظْهِرُ الْبِدَعَ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وُلِدَ بِبَابِ الْأَزْجِ
صَبِيَّةٌ لَهَا رَأْسَانِ وَوَجْهَانِ وَرَقَبَتَانِ وَأَرْبَعُ أَيْدِي عَلَى
بَدَنٍ كَامِلٍ ثُمَّ مَاتَتْ. قَالَ: وَفِي جُمَادَى الْآخِرَةِ كَانَتْ
زَلْزَلَةٌ بِخُرَاسَانَ لَبِثَتْ أَيَّامًا تَصَدَّعَتْ مِنْهَا الْجِبَالُ
وَأَهْلَكَتْ جَمَاعَةً وَخَسَفَتْ بِعِدَّةِ قُرًى وَخَرَجَ النَّاسُ إِلَى
الصَّحْرَاءِ وَأَقَامُوا هُنَالِكَ، وَوَقَعَ حَرِيقٌ بِنَهْرِ مُعَلَّى مِنْ
بَغْدَادَ فَأَحْرَقَ مِائَةَ دُكَّانٍ وَثَلَاثَةَ دُورٍ وَذَهَبَ لِلنَّاسِ
شَيْءٌ كَثِيرٌ وَنَهَبَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَفِي شَعْبَانَ وَقَعَ قِتَالٌ بِدِمَشْقَ فَضَرَبُوا
دَارًا كَانَتْ مُجَاوِرَةً مِنَ الْجَامِعِ بِالنَّارِ فَاحْتَرَقَ جَامِعُ
دِمَشْقَ كَذَا قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ; وَالْمَشْهُورُ أَنَّ حَرِيقَ جَامِعِ
دِمَشْقَ إِنَّمَا كَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ بَعْدِ ثَلَاثِ
سِنِينَ. وَأَنَّ غِلْمَانَ الْفَاطِمِيِّينَ اقْتَتَلُوا مَعَ غِلْمَانِ
الْعَبَّاسِيِّينَ فَأُلْقِيَتْ نَارٌ بِدَارِ الْإِمَارَةِ - وَهِيَ الْخَضْرَاءُ
- فَاحْتَرَقَتْ وَتَعَدَّى حَرِيقُهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى الْجَامِعِ
فَسَقَطَتْ سُقُوفُهُ وَزَخْرَفَتُهُ وَرُخَامُهُ وَبَقِيَ كَأَنَّهُ خَرَابَةٌ
وَبَادَتِ الْخَضْرَاءُ فَصَارَتْ كَوْمًا مِنْ تُرَابٍ، بَعْدَمَا كَانَتْ فِي
غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ وَطَيِّبِ الْغِنَاءِ وَحُسْنِ الْبِنَاءِ
فَهِيَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا لَا يَسْكُنُهَا - لِرَدَاءَةِ مَكَانِهَا - إِلَّا
سِفْلَةُ النَّاسِ وَسُقَّاطُهُمْ بَعْدَمَا كَانَتْ دَارَ الْمُلْكِ
وَالْإِمَارَةِ مُنْذُ أَسَّسَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَأَمَّا الْجَامِعُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ
الْأَرْضِ بِنَاءٌ أَحْسَنُ مِنْهُ، إِلَى أَنِ احْتَرَقَ فَبَقِيَ خَرَابًا
مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ شَرَعَ الْمُلُوكُ فِي تَجْدِيدِهِ وَتَرْمِيمِهِ حَتَّى
بُلِّطَ فِي زَمَنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ، وَلَمْ يَزَلْ فِي تَحْسِينِ
مَعَالِمِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا فَتَمَاثَلَ حَالُهُ بَعْضَ التَّمَاثُلِ،
وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ كَلَا شَيْءٍ، وَلَا زَالَ
التَّحْسِينُ فِيهِ إِلَى أَيَّامِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ النَّاصِرِيِّ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ
وَمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا بِيَسِيرٍ.
وَفِيهَا رَخُصَتِ الْأَسْعَارُ بِبَغْدَادَ رُخَصًا بَيِّنًا. وَنَقَصَتْ
دِجْلَةُ نَقْصًا ظَاهِرًا. وَفِيهَا أَخَذَ الْمَلِكُ أَلْبُ أَرْسَلَانَ
الْعَهْدَ بِالْمُلْكِ مِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ مَلِكْشَاهْ وَمَشَى بَيْنَ
يَدَيْهِ بِالْغَاشِيَةِ، وَالْأُمَرَاءُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَمَاشَوْنَ
بِالْخِلَعِ، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ نُورُ الْهُدَى أَبُو طَالِبٍ
الْحُسَيْنُ بْنُ نِظَامِ الْحَضْرَتَيْنِ
الزَّيْنَبِيُّ وَجَاوَرَ بِمَكَّةَ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْحَافِظُ الْكَبِيرُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْبَيْهَقِيُّ، أَحَدُ الْحُفَّاظِ الْكِبَارِ لَهُ
التَّصَانِيفُ الَّتِي سَارَتْ بِهَا الرُّكْبَانُ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ
وَالْأَقْطَارِ، وُلِدَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَ
وَاحِدَ زَمَانِهِ فِي الْإِتْقَانِ وَالْحِفْظِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصْنِيفِ،
كَانَ فَقِيهًا مُحَدِّثًا أُصُولِيًّا أَخَذَ الْعِلْمَ عَنِ الْحَاكِمِ أَبِي
عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيِّ، وَسَمِعَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْئًا كَثِيرًا،
وَجَمَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً نَافِعَةً جِدًّا لَمْ يُسْبَقْ إِلَى مِثْلِهَا
وَلَا يُدْرَكُ فِيهَا ; مِنْ ذَلِكَ كِتَابُ " السُّنَنِ الْكَبِيرِ "،
" وَنُصُوصِ الشَّافِعِيِّ " كُلٌّ فِي عَشْرِ مُجَلَّدَاتٍ، "
وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ "، " وَالْمَدْخَلِ "، " وَالْآدَابِ
"، " وَشُعَبِ الْإِيمَانِ "، " وَالْخِلَافِيَّاتِ "،
" وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ "، " وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ "
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ الْمُفِيدَةِ
الَّتِي لَا تُسَامَى وَلَا تُدَانَى، وَكَانَ زَاهِدًا مُتَقَلِّلًا مِنَ
الدُّنْيَا، كَثِيرَ الْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِنَيْسَابُورَ وَنُقِلَ تَابُوتُهُ إِلَى بَيْهَقَ فِي
جُمَادَى الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
الْحَسَنُ بْنُ غَالِبِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ صُعْلُوكٍ،
أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْمُبَارَكِ الْمُقْرِئِ صَحِبَ
ابْنَ سَمْعُونَ وَأَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى
حُرُوفٍ أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ،
وَجُرِّبَ عَلَيْهِ الْكَذِبُ ; إِمَّا عَمْدًا وَإِمَّا خَطَأً وَاتُّهِمَ فِي
رِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَزْوِينِيُّ مِمَّنْ يُنْكِرُ
عَلَيْهِ. وَكُتِبَ عَلَيْهِ مَحْضَرٌ وَأُلْزِمَ بِعَدَمِ الْإِقْرَاءِ
بِالْحُرُوفِ الْمُنْكَرَةِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّمَرْقَنْدِيِّ: كَانَ
كَذَّابًا. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَنِ اثْنَتَيْنِ
وَثَمَانِينَ سَنَةً وَدُفِنَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ قَالَ ابْنُ
خَلِّكَانَ: أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي الْفَتْحِ نَاصِرِ بْنِ مُحَمَّدٍ
الْعُمَرِيِّ الْمَرْوَزِيِّ ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَاشْتُهِرَ بِهِ
وَرَحَلَ فِي طَلَبِهِ.
الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْحَنْبَلِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ
مُحَمَّدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَّاءِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى
شَيْخُ الْحَنَابِلَةِ وَمُمَهِّدُ مَذْهَبِهِمْ فِي الْفُرُوعِ، وُلِدَ فِي
مُحَرَّمٍ سَنَةَ ثَمَانِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَسَمِعَ الْحَدِيثَ الْكَثِيرَ
وَحَدَّثَ عَنِ ابْنِ حُبَابَةَ. قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ مِنْ سَادَاتِ
الثِّقَاتِ وَشَهِدَ عِنْدَ ابْنِ مَاكُولَا وَابْنِ الدَّامَغَانِيِّ
فَقَبِلَاهُ، وَتَوَلَّى النَّظَرَ فِي الْحُكْمِ بِحَرِيمِ دَارِ الْخِلَافَةِ،
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْفِقْهِ لَهُ التَّصَانِيفُ الْحِسَانِ الْكَثِيرَةُ فِي
مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَدَرَّسَ وَأَفْتَى سِنِينَ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ الْمَذْهَبُ
وَانْتَشَرَتْ تَصَانِيفُهُ وَأَصْحَابُهُ، وَجَمَعَ الْإِمَامَةَ وَالْفِقْهَ
وَالصِّدْقَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ وَالتَّعَبُّدَ وَالتَّقَشُّفَ وَالْخُشُوعَ
وَحُسْنَ السَّمْتِ، وَالصَّمْتَ عَمَّا لَا يَعْنِي.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي الْعِشْرِينَ
مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً
وَاجْتَمَعَ فِي جِنَازَتِهِ الْقُضَاةُ وَالْأَعْيَانُ مِنَ الْفُقَهَاءِ
وَالشُّهُودِ، وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا فَأَفْطَرَ بَعْضُ مَنِ اتَّبَعَ
جِنَازَتَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَتَرَكَ مِنَ الْبَنِينَ عُبَيْدَ اللَّهِ أَبَا
الْقَاسِمِ وَأَبَا الْحُسَيْنِ وَأَبَا حَازِمٍ، وَرَآهُ بَعْضُهُمْ فِي
الْمَنَامِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: رَحِمَنِي وَغَفَرَ لِي
وَأَكْرَمَنِي وَرَفَعَ مَنْزِلَتِي وَجَعَلَ يَعُدُّ ذَلِكَ بِأِصْبَعِهِ.
فَقَالَ: بِالْعِلْمِ؟ فَقَالَ: بَلْ بِالصِّدْقِ. رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
ابْنُ سِيدَهْ اللُّغَوِيُّ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ
الْمُرْسِيُّ كَانَ إِمَامًا حَافِظًا لِلُّغَةِ، وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ،
أَخَذَ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ ضَرِيرًا
أَيْضًا، ثُمَّ اشْتَغَلَ عَلَى أَبِي الْعَلَاءِ صَاعِدٍ الْبَغْدَادِيِّ وَلَهُ
" الْمُحْكَمُ " فِي مُجَلَّدَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَلَهُ " شَرْحُ الْحَمَاسَةِ
" فِي سِتِّ مُجَلَّدَاتٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي
عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيِّ كِتَابَ الْغَرِيبِ لِأَبِي عُبَيْدٍ سَرْدًا مِنْ
حِفْظِهِ، وَالشَّيْخُ يُقَابِلُ نُسْخَتَهُ بِمَا يَقْرَأُ فَسَمِعَ النَّاسُ
بِقِرَاءَتِهِ مِنْ حِفْظِهِ وَتَعَجَّبُوا لِذَلِكَ.
وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَلَهُ
سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ
وَخَمْسِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فِيهَا بَنَى أَبُو سَعِيدٍ الْمُسْتَوْفِي
الْمُلَقَّبُ بِشَرَفِ الْمُلْكِ، مَشْهَدَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ
النُّعْمَانِ بِبَغْدَادَ، وَعَقَدَ عَلَيْهِ قُبَّةً، وَعَمِلَ بِإِزَائِهِ
مَدْرَسَةً، وَأَنْزَلَهَا الْمُدَرِّسَ وَالْفُقَهَاءَ، فَدَخَلَ أَبُو جَعْفَرٍ
ابْنُ الْبَيَاضِيِّ زَائِرًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَأَنْشَدَ ارْتِجَالًا:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْعِلْمَ كَانَ مُضَيَّعًا فَجَمَّعَهُ هَذَا الْمُغَيَّبُ فِي
اللَّحْدِ كَذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَرْضُ مَيْتَةً
فَأَنْشَرَهَا جُودُ الْعَمِيْدِ أَبِي السَّعْدِ
وَفِي شَعْبَانَ هَبَّتْ رِيحٌ حَارَّةٌ فَمَاتَ بِسَبَبِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ
وَدَوَابٌّ بِبَغْدَادَ، وَأَتْلَفَتْ شَجَرًا كَثِيرًا مِنَ اللَّيْمُونِ
وَالْأُتْرُجِّ.
وَفِيهَا احْتَرَقَ قَبْرُ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ
الْقِيِّمَ طُبِخَ لَهُ مَاءُ الشَّعِيرِ لِمَرَضِهِ فَتَعَدَّتِ النَّارُ إِلَى
الْأَخْشَابِ فَاحْتَرَقَ الْمَشْهَدُ بِكَمَالِهِ.
وَفِيهَا وَقَعَ غَلَاءٌ وَفَنَاءٌ بِدِمَشْقَ وَحَلَبَ وَحَرَّانَ وَخُرَاسَانَ
بِكَمَالِهَا وَوَقَعَ الْفَنَاءُ فِي الدَّوَابِّ ; كَانَتْ تَنْتَفِخُ
رُءُوسُهَا وَأَعْيُنُهَا حَتَّى كَانَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ حُمُرَ الْوَحْشِ
بِالْأَيْدِي وَلَكِنْ يَأْنَفُونَ مِنْ أَكْلِهَا.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ: وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ عَاشِرِ ذِي
الْقَعْدَةِ جَمَعَ الْعَمِيدُ أَبُو سَعْدٍ الْقَاضِي النَّاسَ لِيَحْضُرُوا
الدَّرْسَ بِالنِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ، وَعَيَّنَ
لِتَدْرِيسِهَا وَمَشْيَخَتِهَا
الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ، فَلَمَّا تَكَامَلَ اجْتِمَاعُ
النَّاسِ، وَجَاءَ أَبُو إِسْحَاقَ لِيُدَرِّسَ، لَقِيَهُ فَقِيهٌ شَابٌّ،
فَقَالَ: يَا سَيِّدِي تَذْهَبُ تُدَرِّسُ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ؟ فَامْتَنَعَ
مِنَ الْحُضُورِ وَرَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَأُقِيمَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرِ بْنُ
الصَّبَّاغِ فَدَرَّسَ، فَلَمَّا بَلَغَ نِظَامَ الْمُلْكِ ذَلِكَ تَغَيَّظَ عَلَى
الْعَمِيدِ وَأَرْسَلَ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَرَدَّهُ إِلَى
التَّدْرِيسِ بِالنِّظَامِيَّةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
وَكَانَ لَا يُصَلِّي فِيهَا مَكْتُوبَةً، بَلْ يَخْرُجُ إِلَى بَعْضِ
الْمَسَاجِدِ فَيُؤَدِّي الْمَكْتُوبَةَ ; لِمَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِهَا فِي بَعْضِ
أَرْضِهَا غَصْبٌ، وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ تَدْرِيسِ ابْنِ الصَّبَّاغِ عِشْرِينَ
يَوْمًا، ثُمَّ عَادَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ إِلَيْهَا.
وَفِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ الصُّلَيْحِيُّ أَمِيرُ
الْيَمَنِ وَصَاحِبُ مَكَّةَ قَتَلَهُ بَعْضُ أُمَرَاءِ الْيَمَنِ وَخُطِبَ
لِلْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ الْعَبَّاسِيِّ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو الْغَنَائِمِ النَّقِيبُ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَبُو عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ،
وَيُقَالُ لَهُ الْعِرَاقِيُّ لِظَرْفِهِ وَطُولِ مُقَامِهِ بِهَا، سَمِعَ
الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي طَاهِرٍ الْمُخَلِّصِ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ
الْبَافِيِّ ثُمَّ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَوَلِيَ قَضَاءَ
بَلْدَةِ طُوسَ وَكَانَ مِنَ الْفُقَهَاءِ الْفُضَلَاءِ الْمُبَرَّزِينَ، رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فِي جُمَادَى الْأُولَى كَانَتْ زَلْزَلَةٌ بِأَرْضِ
فِلَسْطِينَ أَهْلَكَتْ بَلَدَ الرَّمْلَةِ وَرَمَتْ شُرَّافَتَيْنِ مِنْ مَسْجِدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَحِقَتْ وَادِيَ
الصَّفْرَاءِ وَخَيْبَرَ وَانْشَقَّتِ الْأَرْضُ عَنْ كُنُوزٍ مِنَ الْمَالِ،
وَبَلَغَ حِسُّهَا إِلَى الرَّحْبَةِ وَالْكُوفَةِ وَجَاءَ كِتَابُ بَعْضِ
التُّجَّارِ فِي هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ يَقُولُ: إِنَّهَا خَسَفَتْ الرَّمْلَةَ
جَمِيعًا حَتَّى لَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا دَارَانِ فَقَطْ، وَهَلَكَ مِنْهَا
خَمْسَ عَشْرَةَ أَلْفَ نَسَمَةٍ وَانْشَقَّتِ الصَّخْرَةُ الَّتِي بِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَادَتْ فَالْتَأَمَتْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَارَ
الْبَحْرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَسَاخَ فِي الْأَرْضِ وَظَهَرَ فِي مَكَانِ الْمَاءِ
أَشْيَاءُ مِنْ جَوَاهِرَ وَغَيْرِهَا وَدَخَلَ النَّاسُ فِي أَرْضِهِ يَلْتَقِطُونَ
فَرَجَعَ عَلَيْهِمْ فَأَهْلَكَ خَلْقًا كَثِيرًا مِنْهُمْ.
وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ قُرِئَ الِاعْتِقَادُ
الْقَادِرِيُّ الَّذِي فِيهِ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ،
وَالْإِنْكَارُ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمٍ اللَّيْثِيُّ
الْبُخَارِيُّ الْمُحَدِّثُ كِتَابَ التَّوْحِيدِ لِابْنِ خُزَيْمَةَ عَلَى
الْجَمَاعَةِ الْحَاضِرِينَ. وَذُكِرَ
بِمَحْضَرٍ مِنَ الْوَزِيرِ ابْنِ
جَهِيرٍ وَجَمَاعَةِ الْأَعْيَانِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ،
وَاعْتَرَفُوا بِالْمُوَافَقَةِ ثُمَّ قُرِئَ " الِاعْتِقَادُ الْقَادِرِيُّ
" عَلَى الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ ابْنِ الْمُهْتَدِي بِاللَّهِ بِبَابِ
الْبَصْرَةِ وَذَلِكَ لِسَمَاعِهِ لَهُ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْقَادِرِ بِاللَّهِ
مُصَنِّفُهُ.
وَفِيهَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَهُ أَبَا نَصْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ
بْنِ جَهِيرٍ الْمُلَقَّبَ فَخْرَ الدَّوْلَةِ وَبَعَثَ إِلَيْهِ يُعَاتِبُهُ فِي
أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ فَاعْتَذَرَ مِنْهَا، وَأَخَذَ فِي التَّرَفُّقِ
وَالتَّذَلُّلِ فَأُجِيبَ بِأَنْ يَرْحَلَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، فَاخْتَارَ
حِلَّةَ ابْنِ مَزْيَدٍ، فَبَاعَ أَصْحَابُهُ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ
وَطَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ، وَأَخَذَ أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ، وَجَاءَ لِيَرْكَبَ
فِي سُمَيْرِيَّةٍ لِيَنْحَدِرَ مِنْهَا إِلَى الْحِلَّةِ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ
يَتَبَاكَوْنَ لِبُكَائِهِ، فَلَمَّا اجْتَازَ بِدَارِ الْخِلَافَةِ قَبَّلَ
الْأَرْضَ دَفَعَاتٍ وَالْخَلِيفَةُ فِي الشُّبَّاكِ وَالْوَزِيرُ يَقُولُ: يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ارْحَمْ شَيْبَتِي وَغُرْبَتِي وَأَوْلَادِي. فَأُعِيدَ
إِلَى الْوَزَارَةِ بِشَفَاعَةِ دُبَيْسِ بْنِ مَزْيَدٍ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ،
وَامْتَدَحَهُ الشُّعَرَاءُ، وَفَرِحَ النَّاسُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْوَزَارَةِ،
وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ أَبُو مَنْصُورٍ، الْمُلَقَّبُ
بِالشَّيْخِ الْأَجَلِّ كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فِي الْقِيَامِ بِالْمَعْرُوفِ،
وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَاصْطِنَاعِ الْأَيَادِي عِنْدَ
أَهْلِهَا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، مَعَ شِدَّةِ الْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ
الْبِدَعِ وَلَعْنِهِمْ،
وَافْتِقَادِ الْمَسْتُورِينَ
بِالْبِرِّ، وَالصَّدَقَةِ عَلَى الْمَحَاوِيجِ وَإِخْفَاءِ ذَلِكَ جَهْدَهُ
وَطَاقَتَهُ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ لَهُ: أَنَّهُ كَانَ يَبَرُّ إِنْسَانًا
فِي كُلِّ سَنَةٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، يَكْتُبُ لَهُ بِهَا عَلَى رَجُلٍ يُقَالُ
لَهُ: ابْنُ رِضْوَانَ فَلَمَّا تُوُفِّيَ الشَّيْخُ جَاءَ الرَّجُلُ إِلَى ابْنِ
رِضْوَانَ فَقَالَ ادْفَعْ إِلَيَّ مَا كَانَ يَصْرِفُ لِي الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ
ابْنُ رِضْوَانَ: إِنَّ الَّذِي كَانَ يَكْتُبُ لَكَ عَلَيَّ قَدْ مَاتَ، وَلَا
أَقْدِرُ أَنْ أَصْرِفَ لَكَ شَيْئًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ إِلَى قَبْرِ الشَّيْخِ
الْأَجَلِّ فَقَرَأَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ
الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِكَاغِدٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَأَخَذَهَا وَجَاءَ
بِهَا إِلَى ابْنِ رِضْوَانَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ رِضْوَانَ:
هَذِهِ يَا أَخِي سَقَطَتْ مِنِّي الْيَوْمَ عِنْدَ قَبْرِهِ فَخُذْهَا وَلَكَ
عَلَيَّ مِثْلُهَا فِي كُلِّ عَامٍ.
كَانَتْ وَفَاتُهُ الْمُنْتَصَفَ مِنْ مُحَرَّمٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ عَنْ
خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ يَوْمُ مَوْتِهِ يَوْمًا مَشْهُودًا حَضَرَهُ
خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
فَرَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ.
أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ
فَقِيهُ الشِّيعَةِ وَدُفِنَ فِي مَشْهَدِ عَلِيٍّ وَكَانَ مُجَاوِرًا بِهِ حِينَ
احْتَرَقَتْ دَارُهُ - بِالْكَرْخِ - وَكُتُبُهُ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ
إِلَى مُحَرَّمِ هَذِهِ السَّنَةِ فَتُوُفِّيَ وَدُفِنَ هُنَاكَ.
خَدِيجَةُ بِنْتُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاعِظَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالشَّاهْجَانِيَّةِ، وُلِدَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَكَانَتْ قَدْ صَحِبَتْ ابْنَ سَمْعُونَ، وَرَوَتْ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ شَاهِينَ، وَدُفِنَتْ إِلَى جَانِبِ ابْنِ سَمْعُونَ
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ إِحْدَى وَسِتِّينَ
وَأَرْبَعِمِائَةٍ
فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ حَرِيقُ
جَامِعِ دِمَشْقَ وَكَانَ سَبَبَهُ أَنَّ غِلْمَانَ الْفَاطِمِيِّينَ
وَالْعَبَّاسِيِّينَ اخْتَصَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَأُلْقِيَتْ نَارٌ بِدَارِ
الْمُلْكِ - وَهِيَ الْخَضْرَاءُ الْمُتَاخِمَةُ لِلْجَامِعِ مِنْ جِهَةِ
الْقِبْلَةِ - فَاحْتَرَقَتْ، وَسَرَى حَرِيقُهَا إِلَى الْجَامِعِ فَسَقَطَتْ
سُقُوفُهُ وَتَنَاثَرَتْ فُصُوصُهُ الْمُذَهَّبَةُ الَّتِي عَلَى جُدْرَانِهِ،
وَتَقَلَّعَتِ الْفُسَيْفِسَاءُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَرْضِهِ وَعَلَى
جُدْرَانِهِ، وَتَغَيَّرَتْ مَعَالِمُهُ وَمَحَاسِنُةُ وَتَبَدَّلَتْ بَهْجَتُهُ
بِضِدِّهَا، وَقَدْ كَانَتْ سُقُوفُهُ مُذَهَّبَةً مُبَطَّنَةً كُلُّهَا
وَالْجَمَلُونَاتُ مِنْ فَوْقِهَا، وَجُدْرَانُهُ بِالْفُصُوصِ الْمُذَهَّبَةِ
الْمُلَوَّنَةِ، مُصَوَّرٌ فِيهَا جَمِيعُ بِلَادِ الدُّنْيَا ; الْكَعْبَةُ
وَمَكَّةُ فِي الْمِحْرَابِ، وَالْبِلَادُ كُلُّهَا شَرْقًا وَغَرْبًا، كُلٌّ فِي
مَكَانِهِ اللَّائِقِ بِهِ وَمُصَوَّرٌ فِيهِ كُلُّ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ وَغَيْرِ
مُثْمِرَةٍ مُشَكَّلٌ مُصَوَّرٌ فِي بُلْدَانِهِ وَأَوْطَانِهِ، وَالسُّتُورُ
مُرْخَاةٌ عَلَى أَبْوَابِهِ النَّافِذَةِ إِلَى الصَّحْنِ وَعَلَى أُصُولِ
الْحِيطَانِ إِلَى مِقْدَارِ الثُّلُثِ مِنْهَا وَبَاقِي الْجُدْرَانِ
بِالْفُصُوصِ الْمُلَوَّنَةِ، وَأَرْضُهُ كُلُّهَا بِالْفُصُوصِ ; الرُّخَامِ وَالْفُسَيْفِسَاءِ
وَلَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا بِنَاءٌ أَحْسَنُ مِنْهُ، لَا قُصُورُ الْمُلُوكِ
وَلَا دُورُ الْخِلَافَةِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ هَذَا
الْحَرِيقُ فِيهِ تَبَدَّلَ الْحَالُ الْكَامِلُ بِضِدِّهِ، وَصَارَتْ أَرْضُهُ
طِينًا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَغُبَارًا فِي زَمَنِ الصَّيْفِ، مَحْفُورَةً
مَهْجُورَةً، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ
حَتَّى بُلِّطَ أَرْضُهُ فِي زَمَنِ الْعَادِلِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَيُّوبَ،
بَعْدَ السِّتِّمِائَةِ سَنَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ جَمِيعُ مَا سَقَطَ
مِنْهُ مِنَ الرُّخَامِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَخْشَابِ مُودَعًا فِي الْمَشَاهِدِ
الْأَرْبَعَةِ، شَرْقِيَّةً وَغَرْبِيَّةً، حَتَّى فَرَّغَهَا مِنْ ذَلِكَ
الْقَاضِي كَمَالُ الدِّينِ الشَّهْرُزُورِيُّ، فِي زَمَنِ الْمَلِكِ الْعَادِلِ
نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زَنْكِي حِينَ وَلَّاهُ نَظَرَهُ مَعَ الْقَضَاءِ
وَنَظَرَ الْأَوْقَافِ كُلِّهَا، وَنَظَرَ دَارِ الضَّرْبِ وَغَيْرَ ذَلِكَ،
وَلَمْ تَزَلِ الْمُلُوكُ تُجَدِّدُ فِي مَحَاسِنِهِ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا،
فَتَقَارَبَ حَالُهُ فِي زَمَنِ الْأَمِيرِ سَيْفِ الدِّينِ تَنْكِزَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ النَّاصِرِيِّ نَائِبِ الشَّامِ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ
أَرَّخَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمُنْتَظَمِ هَذَا
الْحَرِيقَ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ وَتَبِعَهُ ابْنُ السَّاعِي فِي
تَارِيخِهِ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ
السَّاعِي أَيْضًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَشَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الذَّهَبِيُّ مُؤَرِّخُ الْإِسْلَامِ فِي تَارِيخِهِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهَا نَقَمَتِ الْحَنَابِلَةُ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْوَفَا بْنِ عَقِيلٍ
وَهُوَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ بِتَرَدُّدِهِ إِلَى أَبِي عَلِيِّ بْنِ الْوَلِيدِ
الْمُتَكَلِّمِ الْمُعْتَزِلِيِّ وَاتَّهَمُوهُ بِالِاعْتِزَالِ، وَلَا شَكَّ
أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَتَرَدَّدُ إِلَيْهِ إِلَّا لِيُحِيطَ عِلْمًا بِمَذْهَبِهِ،
وَلَكِنْ سَرَقَهُ الْهَوَى وَصَارَتْ فِيهِ نَزْعَةٌ مِنْهُ، وَجَرَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ فِتْنَةٌ طَوِيلَةٌ وَتَأَذَّى بِسَبَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ،
وَمَا سَكَنَتِ الْفِتْنَةُ إِلَى سَنَةِ خَمْسٍ وَسِتِّينَ ثُمَّ اصْطَلَحُوا فِيمَا
بَيْنَهُمْ بَعْدَ اخْتِصَامٍ كَثِيرٍ.
وَفِيهَا زَادَتْ دِجْلَةُ عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا حَتَّى دَخَلَتْ
مَشْهَدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَشْهَدَ النُّذُورِ. وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ
بِأَنَّ الْأَفْشِينَ دَخَلَ بِلَادَ الرُّومِ حَتَّى
انْتَهَى إِلَى عَمُّورِيَةَ فَقَتَلَ
خَلْقًا وَغَنِمَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً. وَفِيهَا كَانَ رُخْصٌ عَظِيمٌ فِي
الْكُوفَةِ حَتَّى بِيعَ السَّمَكُ كُلُّ أَرْبَعِينَ رِطْلًا بِحَبَّةٍ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو الْغَنَائِمِ الْعَلَوِيُّ.
وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ:
الْفُورَانِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ
بْنِ فُورَانَ الْفُورَانِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ
مُصَنِّفُ " الْإِبَانَةِ "، الَّتِي فِيهَا مِنَ النُّقُولِ
الْغَرِيبَةِ، وَالْأَقْوَالِ وَالْأَوْجُهِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهَا،
كَانَ بَصِيرًا بِالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَخَذَ الْفِقْهَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
الْقَفَّالِ وَحَضَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عِنْدَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَلَمْ
يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَصَارَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ فَهُوَ يُخَطِّئُهُ كَثِيرًا
فِي " النِّهَايَةِ ". قَالَ الْقَاضِي ابْنُ خَلِّكَانَ: فَمَتَى قَالَ
فِي " النِّهَايَةِ " وَقَالَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ: كَذَا وَغَلِطَ
فِي ذَلِكَ. وَشَرَعَ فِي الْوُقُوعِ فِيهِ فَمُرَادُهُ أَبُو الْقَاسِمِ
الْفُورَانِيُّ. وَكَانَتْ وَفَاتُهُ فِي رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ
بِمَرْوٍ، عَنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً وَقَدْ كَتَبَ تِلْمِيذُهُ أَبُو
سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَأْمُونِ الْمَعَرِّيُّ -
الْمُدَرِّسُ بِالنِّظَامِيَّةِ بَعْدَ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَقَبْلَ ابْنِ
الصَّبَّاغِ وَبَعْدَهُ أَيْضًا - كِتَابًا عَلَى " الْإِبَانَةِ "،
فَسَمَّاهُ " تَتِمَّةَ الْإِبَانَةِ " انْتَهَى فِيهِ إِلَى كِتَابِ
الْحُدُودِ، وَمَاتَ قَبْلَ إِتْمَامِهِ فَتَمَّمَهُ أَسْعَدُ الْعِجْلِيُّ
وَغَيْرُهُ فَلَمْ يَلْحَقُوا شَأْوَهُ، وَسَمَّوهُ: " تَتِمَّةَ
التَّتِمَّةِ " رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ اثْنَتَيْنِ
وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فَمِنَ الْحَوَادِثِ فِيهَا: أَنَّهُ كَانَ عَلَى
ثَلَاثِ سَاعَاتٍ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ الْحَادِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى
الْأُولَى وَهُوَ الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ آذَارَ كَانَتْ زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ
بِالرَّمْلَةِ وَأَعْمَالِهَا فَذَهَبَ أَكْثَرُهَا وَانْهَدَمَ سُورُهَا، وَعَمَّ
ذَلِكَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَتِنِّيسَ وَانْخَسَفَتْ أَيْلَةُ وَانْجَفَلَ
الْبَحْرُ حَتَّى انْكَشَفَتْ أَرْضُهُ وَمَشَى نَاسٌ فِيهِ ثُمَّ عَادَ،
وَتَغَيَّرَتْ إِحْدَى زَوَايَا جَامِعِ مِصْرَ، وَتَبِعَتْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ
فِي سَاعَتِهَا زَلْزَلَتَانِ أُخْرَيَانِ.
وَفِيهَا تَوَجَّهُ مَلِكُ الرُّومِ مِنْ قُسْطَنْطِينِيَّةَ إِلَى الشَّامِ فِي
ثَلَاثِمِائَةِ أَلْفٍ فَنَزَلَ عَلَى مَنْبِجَ، وَأَحْرَقَ الْقُرَى مَا بَيْنَ
مَنْبِجَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ، وَقَتَلَ رِجَالَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ،
وَفَزِعَ الْمُسْلِمُونَ بِحَلَبَ وَغَيْرِهَا مِنْهُ فَزَعًا عَظِيمًا، فَأَقَامَ
سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ رَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ مَا
مَعَهُمْ مِنَ الْمِيرَةِ وَهَلَاكِ أَكْثَرِ جَيْشِهِ بِالْجُوعِ وَلِلَّهِ
الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا ضَاقَتْ يَدُ أَمِيرِ مَكَّةَ فَأَخَذَ الذَّهَبَ مِنْ أَسْتَارِ
الْكَعْبَةِ وَالْمِيزَابِ وَبَابِ الْكَعْبَةِ، فَضَرَبَ ذَلِكَ دَرَاهِمَ
وَدَنَانِيرَ وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَاحِبُ الْمَدِينَةِ بِالْقَنَادِيلِ
الَّتِي فِي
الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى سَاكِنِهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ كَانَ غَلَاءٌ شَدِيدٌ وَقَحْطٌ عَظِيمٌ بِدِيَارِ مِصْرَ،
بِحَيْثُ أَنَّهُمْ أَكَلُوا الْجِيَفَ وَالْمَيْتَاتِ وَالْكِلَابِ، فَكَانَ
يُبَاعُ الْكَلْبُ بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ، وَمَاتَتِ الْفِيَلَةُ فَأُكِلَتْ،
وَأُفْنِيَتِ الدَّوَابُّ فَلَمْ يَبْقَ لِصَاحِبِ مِصْرَ سِوَى ثَلَاثَةِ
أَفْرَاسٍ ; بَعْدَ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنْهَا، وَنَزَلَ الْوَزِيرُ يَوْمًا
عَنْ بَغْلَتِهِ فَغَفَلَ الْغُلَامُ عَنْهَا لِضَعْفِهِ مِنَ الْجُوعِ،
فَأَخَذَهَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ فَذَبَحُوهَا وَأَكَلُوهَا، فَأُخِذُوا فَصُلِبُوا
فَأَصْبَحُوا، فَإِذَا عِظَامُهُمْ بَادِيَةٌ ; قَدْ أَكَلَ النَّاسُ لُحُومَهُمْ.
وَظُهِرَ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُ الصِّبْيَانَ وَالنِّسَاءَ وَيَدْفِنُ رُءُوسَهُمْ
وَأَطْرَافَهُمْ وَيَبِيعُ لُحُومَهُمْ فَقُتِلَ. وَكَانَتِ الْأَعْرَابُ
يَقْدَمُونَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُونَهُ فِي ظَاهِرِ الْبَلَدِ، لَا يَتَجَاسَرُونَ
يَدْخُلُونَ ; لِئَلَّا يُخْطَفَ وَيُنْهَبَ مِنْهُمْ، وَكَانَ لَا يَجْسُرُ
أَحَدٌ أَنْ يَدْفِنَ مَيِّتَهُ نَهَارًا، وَإِنَّمَا يَدْفِنُهُ لَيْلًا خُفْيَةً
; لِئَلَّا يُنْبَشَ فَيُؤْكَلَ. وَاحْتَاجَ صَاحِبُ مِصْرَ حَتَّى بَاعَ أَشْيَاءَ
مِنْ نَفَائِسِ مَا عِنْدَهُ ; مِنْ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ أَلْفَ دِرْعٍ
وَعِشْرُونَ أَلْفَ سَيْفٍ مُحَلًّى، وَثَمَانُونَ أَلْفَ قِطْعَةِ بِلَّوْرَ
كِبَارٌ، وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ قِطْعَةٍ مِنَ الدِّيبَاجِ الْقَدِيمِ،
وَبِيعَتْ ثِيَابُ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَسَجْفُ الْمُهُودِ بِأَرْخَصِ
الْأَثْمَانِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْلَاكُ وَغَيْرُهَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ هَذِهِ
النَّفَائِسِ الْخَلِيفِيَّةِ مِمَّا نُهِبَ مِنْ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ
الْبَسَاسِيرِيِّ.
وَفِيهَا وَرَدَتِ الْخَدَمُ وَالتُّحَفُ وَالْهَدَايَا مِنَ الْمَلِكِ أَلْبِ
أَرْسَلَانَ إِلَى الْخَلِيفَةِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ اللَّهِ. وَفِيهَا ضُرِبَ
اسْمُ وَلِيِّ الْعَهْدِ عَلَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَسُمِّيَ
الْأَمِيرِيَّ، وَمُنِعَ التَّعَامُلُ بِغَيْرِهَا.
وَفِيهَا وَرَدَ كِتَابُ صَاحِبِ مَكَّةَ إِلَى الْمَلِكِ أَلْبِ أَرْسَلَانَ
وَهُوَ بِخُرَاسَانَ يُخْبِرُهُ
التالي ج29.وج30.بمشيئة الله الواحد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق